محمد-العربي
01-25-2014, 01:27 PM
تكملة لموضوع (أكثرهم للحق كارهون, تفكيك الخطاب الديني (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?55845-%C3%DF%CB%D1%E5%E3-%E1%E1%CD%DE%F6%F8-%DF%C7%D1%E5%E6%E4-(%CA%DD%DF%ED%DF-%C7%E1%CE%D8%C7%C8-%C7%E1%CF%ED%E4%ED))).
للحقِّ كارهون!
(أبو لهب أنموذجاً)
محمد العربي
أبو لهب, عبد العزى بن عبد المطلب, هو عم النبي محمد. وَردَ ذكره في القرآن في سورة المسد: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)". وامرأته هي: أم جميل, أروى بنت حرب بن أمية.
ما الذي تقوله لنا الرواية الإسلامية عن موقف أبي لهب من الإسلام؟ رفض أبو لهب الإسلام, بل وحاربه باللسان والسنان, ولكن الرواية الإسلامية تضيف شيئاً عجيباً, فهي تقول لنا: أنَّ أبا لهب كان يعلم أنَّ الإسلام هو الدين الحق, وأنَّ محمداً بن عبد الله, ابن أخيه, نبي مرسل من عند الله, وأنَّ من لا يؤمن بالإسلام؛ فمصيره جهنم خالداً فيها إلى أبد الآبدين؛ ومع ذلك فقد أصرَّ على كفره! عجيب أمر أبي لهب هذا! إنه يعرف أنَّ هناكَ يوم حساب, وجنة ونار, وأنَّ محمداً مرسلٌ من عند الله, وأنَّ الإسلام هو الصراط المستقيم, وأنَّ من لا يؤمن بالإسلام, فمصيره جهنم خالداً فيها عذاباً سرمدياً؛ ومع ذلك فهو يصرُّ على الذهاب إلى النار برجليه!
ألم يكن أبو لهب بالغاً راشداً عاقلاً؟ إذا كان كذلك أقول: من هو العاقل الذي يدرك أنَّ مصيره النار خالداً فيها إلى ما لا نهاية؛ ومع ذلك يصرُّ على الذهاب إلى النار برجليه؟! من المستحيل أن يلقي الإنسان, العاقل, بنفسه إلى التهلكة, لا أحدَ يلقي بنفسه إلى التهلكة إلا إذا كان: فاقداً للعقل, أو جاهلاً, أو بالخطأ, أو مكرهاً.
وحالة أبي لهب لا تخرج عما يلي (في حالة أنَّ الإسلام هو الحق):
(1) إما أن يكونَ فاقداً للعقل, وفقدان العقل لا يعني الجنون فقط؛ بل قد يشمل ذلك بعض الأمراض النفسية.
(2) أو جاهلاً, لا يعلم أنَّ الإسلام هو الحق.
(3) أو مكرهاً, ضد الإسلام ظاهراً ومعه باطناً.
(4) أو في طور البحث, ولا تثريب عليه في ذلك, فمن حقه, وحقي, وحقنا جميعاً, أن نبحث ونستفسر, لنتأكد, وإن متنا أثناء البحث, فلا ذنب علينا.
(5) وإما أن يكونَ غير مقتنعٍ بحجج النبي محمد, وهذا يتعارض مع مقولة أنَّ الإسلام هو الحق.
وإذا حذفنا (1) و(3) و(4), على اعتبار أنَّ المصادر الإسلامية تقول لنا: أنَّ أبا لهبٍ كانَ عاقلاً, وسيداً في قومه, ولم يكن يبحث عن وفي الإسلام؛ بقي لدينا (2) و(5). الرواية الإسلامية لا تتبنى (2) ولا (5), بل تتبنى الرأي الغريب: كانَ أبو لهب يعرف أنَّ الإسلام هو الحق, ولكنه أصرَّ على كفره, وألقى بنفسه إلى التهلكة؛ وهذا كما قلنا قبل قليل: مستحيل!
مزيد من التفصيل حول الحالة رقم (5): إذا كانت حجج النبي محمد (حجج القرآن) مقنعة, فلا بدَّ أن يؤمن أبو لهب, بل وكل شخص يطلع على هذه الحجج, من المستحيل, عقلاً, أن لا يتبع الإنسان الحق إلا في الحالات التي فصلناها سابقاً, وعليه: فإذا كان أبو لهب غير مقتنعٍ بما يقوله محمد, فهذا يعني ببساطة شديدة: أنَّ ما يقوله محمد غير مقنعٍ بالنسبة لأبي لهب. لو كان ما يقوله محمد مقنعاً, لآمن أبو لهب, ما دام عاقلاً, من المستحيل أن يكون كلام محمد مقنعاً ثُّمَ لا يقتنع أبو لهب, أو غير أبي لهب, خصوصاً أنَّ ما يترتب على هذا الاقتناع, أو اللااقتناع, يتجاوز نطاق الحياة الفانية: إنه خلود أبدي؛ إما في النعيم, وإما في الجحيم! وهذه هي الحقيقة التي يرفضُ المسلمونَ أن يعترفوا بها, أو على الأقل أن يتحاوروا حولها: حقيقة أنَّ الإسلام قد يُقنع البعض, وقد لا يقنع البعض الآخر؛ أي أنَّ الأدلة والحجج التي يقدمها الإسلام مقنعة بصورة نسبية, وهذا يعني أن لا ذنبَ على من لم يؤمن؛ فلم تكن الأدلة بالنسبة له مقنعة؛ أي لا ذنب على أبي لهبٍ, أو غيره من الكفَّار, بل إننا لو تأملنا جيداً فسنصل إلى نتيجة واضحة: إنَّ أدلة وحجج الإسلام غير مقنعة! فالأصل أن تعلو هذه الأدلة والحجج على مفهوم النسبية, فهل من العدل أن نحاسب الإنسان على نسبية فهمه؟!
لا أحدَ يكره الحق, ولا أحد يلقي بنفسه إلى التهلكة, محالٌ أن يفعل الإنسانُ ذلكَ, خصوصاً أنَّ هذا الحق غير مرتبطٍ بهذه الحياة الفانية, وأنَّ هذه التهلكة, تهلكةٌ عظمى, إنها: خلودٌ أبديٌّ في النار.
لنقم بهذا الاختبار النفسي: ضع نفسك, عزيزي القارئ, مكان أبي لهب, إنَّ لديكَ أولاداً, وأموالاً, وسلطاناً, ولكنكَ تدركُ أنَّ محمداً على حق, وأنَّ من لا يؤمنُ بالإسلام, فمصيره جهنم خالداً فيها إلى أبد الآبدين, وإنكَ مخيَّرٌ بين قول: لا, أو نعم, فماذا ستقول؟
ولكنَّ تفسيرَ المسلمين الشائع لآيات سورة المسد, وسبب نزولها, وقصة أبي لهب كما في كتب السيرة - كل ذلكَ لا يقيم أيَّ وزنٍ للأسئلة أعلاه, فلم يكن أبو لهب مخيَّراً بين الإسلام والكفر, فالمسلمونَ يعتبرونَ أنَّ هناكَ "إعجازاً غيبياً" في سورة المسد, فقد نزلت السورة وأبو لهب على قيد الحياة, وقد توفي بعد نزولها بعشر سنوات, وهذا يعني أنه قد كانَ بإمكانه أن يُسلمَ, فيعارضَ بذلك القرآن, ولكنه لم يسلم, وهذه هي المعجزة من وجهة نظرهم.
وهكذا فإنَّ هذه "المعجزة" تثيرُ إشكاليةً خطيرةً جداً, فهي تعني ببساطة شديدة: أنَّ أبا لهبٍ كانَ مُجبراً, أو مسيَّراً, أو مقدَّراً له أن يكفر!
والخروجُ من هذه الإشكالية ليسَ صعباً على المسلمين, فهم يردون, بما معناه, كالتالي: إنَّ الله, سبحانه وتعالى, لا يظلمُ أحداً. وهذا يعني, حسب فلسفتهم, أنَّ هناك جوانب مخفية في الموضوع, قد نحيط بها يوم الحساب؛ أما الآن فليسَ لنا إلا السمع والطاعة, فالعقل البشري محدود, ولنا في قصة النبي موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف عبرة.
إنَّ قصة أبي لهب مقبولة إيمانياً, ومرفوضة عقلياً, وفي الحقيقة إنَّ فكرة القدر التي يتبعها حساب وعقاب, مرفوضة عقلياً. ولكن إذا نظرنا إلى الخلاف بينَ محمدٍ وأبي لهب من زاوية دنيوية؛ فسيبدو كل شيء مفهوماً, أما إذا نظرنا إلى الخلاف من زاوية دينية, أخروية؛ فلن يتضح شيء, وطبعاً يرفضُ المسلمونَ النظرة الأولى, وقد يقبلونها, كما فعل بعضهم, بشرط تأسيسها على النظرة الثانية, ولقدُ ناقشتُ النظرة الثانية بما فيه الكفاية, وبينتُ أنَّ ما يقوله المسلمونَ من أنَّ أبا لهبٍ كانَ يعلمُ أنَّ الإسلامَ هو الحق ولكنه أصرَّ على كفره؛ مرفوض عقلاً.
أما عن النظرة الأولى؛ فالحديث حولها يطول, وقد يخرجنا الحديث عنها عن المسار العام للفكرة التي أريدُ إيصالها, وربما أناقشها في موضوع مستقل لاحقاً, ولحينها أكتفي بهذه الإضاءة التي تصلح كمقدمة للموضوع: ما الذي ستفعله, كخطوة أولى, إذا أردتَ أن تحكم بالعدل بينَ خصمين؟ أعتقدُ أنَّ الجوابَ بسيطٌ جداً: العدلُ يقتضي أن تسمع لكليهما. لنطبق هذا الكلام على موضوعنا الحالي: نحنُ نستطيعُ أن نسمع لمحمد, ولكننا لا نستطيعُ أن نسمع لأبي لهب؛ فصوتُ محمدٍ مسموع: في القرآن, والأحاديث, وكتب السيرة, وحناجر المسلمين الذين يهبون للدفاع عنه عند كل شاردة وواردة, الذين يرددون منذ أكثر من 1400 سنة: تبت يدا أبي لهب.. أما صوت أبي لهب فغير مسموع؛ فلا يوجد بين أيدينا رواية أبي لهبٍ حول الخلاف بينه وبين محمد, كل ما بأيدينا رواية محمد وأنصاره, وكل ما قيلَ على لسان أبي لهب رواه المسلمون! وهكذا فإنَّ المسلمينَ في عصرنا لم يحكموا على أبي لهب بالعدل؛ فهم لم يسمعوا روايته, وفي هذا مفارقة عجيبة: فالعدلُ لا يتحقق في الإسلام؛ إلا بالاستماع إلى كلا الطرفين, وما دام أحد الطرفين غائباً؛ فلن يتحقق العدل, إذاً فالمسلمونَ الذينَ لم يعاصروا محمداً وأبا لهب, منذُ نهاية الخلافة الراشدة تقريباً حتى وقتنا الحاضر؛ يخالفون الإسلام!
وطبعاً لن يعدمَ المسلمونَ إجابة! ولكن أيُّ إجابة؟ إنها الإجابة الإيمانية: فالله, سبحانه وتعالى, قال لنا في القرآن الكريم أنَّ أبا لهب كان كافراً, وعدواً للحق؛ فعلينا السمعُ والطاعة!
وهكذا فحتى النظرة الأولى يُجابُ عنها بإجابةٍ إيمانية؛ وبهذا يفقدُ الحوارُ قيمته. وما دامَ كل شيءٍ في النهاية سيرتد إلى الإيمان=التسليم=عدم التفكير؛ فسيستوي الخطابُ الإسلامي مع الخطابِ المسيحي مع الخطاب اليهودي.. وتصبحُ المفاضلة بين الأديان, والمذاهب, نوعاً من العبث, فكيفَ نحكمُ بين أهل الأديان والمذاهب فيما اختلفوا فيه وهم يرفضون خطاب العقل؟!
الخلاصة: لا أحدَ يكره الحق, ولا أحد يلقي بنفسه إلى التهلكة, محالٌ أن يفعل الإنسانُ ذلكَ, خصوصاً أنَّ هذا الحق غير مرتبطٍ بهذه الحياة الفانية, وأنَّ هذه التهلكة, تهلكةٌ عظمى, إنها: خلودٌ أبديٌّ في النار. وهكذا فإنَّ قصة أبي لهب, مرفوضة عقلياً, ولكنها مقبولة إيمانياً, وطبعاً ما يقالُ عن أبي لهب يقال عن امرأته؛ بل عن كل "كافر".
للحقِّ كارهون!
(أبو لهب أنموذجاً)
محمد العربي
أبو لهب, عبد العزى بن عبد المطلب, هو عم النبي محمد. وَردَ ذكره في القرآن في سورة المسد: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)". وامرأته هي: أم جميل, أروى بنت حرب بن أمية.
ما الذي تقوله لنا الرواية الإسلامية عن موقف أبي لهب من الإسلام؟ رفض أبو لهب الإسلام, بل وحاربه باللسان والسنان, ولكن الرواية الإسلامية تضيف شيئاً عجيباً, فهي تقول لنا: أنَّ أبا لهب كان يعلم أنَّ الإسلام هو الدين الحق, وأنَّ محمداً بن عبد الله, ابن أخيه, نبي مرسل من عند الله, وأنَّ من لا يؤمن بالإسلام؛ فمصيره جهنم خالداً فيها إلى أبد الآبدين؛ ومع ذلك فقد أصرَّ على كفره! عجيب أمر أبي لهب هذا! إنه يعرف أنَّ هناكَ يوم حساب, وجنة ونار, وأنَّ محمداً مرسلٌ من عند الله, وأنَّ الإسلام هو الصراط المستقيم, وأنَّ من لا يؤمن بالإسلام, فمصيره جهنم خالداً فيها عذاباً سرمدياً؛ ومع ذلك فهو يصرُّ على الذهاب إلى النار برجليه!
ألم يكن أبو لهب بالغاً راشداً عاقلاً؟ إذا كان كذلك أقول: من هو العاقل الذي يدرك أنَّ مصيره النار خالداً فيها إلى ما لا نهاية؛ ومع ذلك يصرُّ على الذهاب إلى النار برجليه؟! من المستحيل أن يلقي الإنسان, العاقل, بنفسه إلى التهلكة, لا أحدَ يلقي بنفسه إلى التهلكة إلا إذا كان: فاقداً للعقل, أو جاهلاً, أو بالخطأ, أو مكرهاً.
وحالة أبي لهب لا تخرج عما يلي (في حالة أنَّ الإسلام هو الحق):
(1) إما أن يكونَ فاقداً للعقل, وفقدان العقل لا يعني الجنون فقط؛ بل قد يشمل ذلك بعض الأمراض النفسية.
(2) أو جاهلاً, لا يعلم أنَّ الإسلام هو الحق.
(3) أو مكرهاً, ضد الإسلام ظاهراً ومعه باطناً.
(4) أو في طور البحث, ولا تثريب عليه في ذلك, فمن حقه, وحقي, وحقنا جميعاً, أن نبحث ونستفسر, لنتأكد, وإن متنا أثناء البحث, فلا ذنب علينا.
(5) وإما أن يكونَ غير مقتنعٍ بحجج النبي محمد, وهذا يتعارض مع مقولة أنَّ الإسلام هو الحق.
وإذا حذفنا (1) و(3) و(4), على اعتبار أنَّ المصادر الإسلامية تقول لنا: أنَّ أبا لهبٍ كانَ عاقلاً, وسيداً في قومه, ولم يكن يبحث عن وفي الإسلام؛ بقي لدينا (2) و(5). الرواية الإسلامية لا تتبنى (2) ولا (5), بل تتبنى الرأي الغريب: كانَ أبو لهب يعرف أنَّ الإسلام هو الحق, ولكنه أصرَّ على كفره, وألقى بنفسه إلى التهلكة؛ وهذا كما قلنا قبل قليل: مستحيل!
مزيد من التفصيل حول الحالة رقم (5): إذا كانت حجج النبي محمد (حجج القرآن) مقنعة, فلا بدَّ أن يؤمن أبو لهب, بل وكل شخص يطلع على هذه الحجج, من المستحيل, عقلاً, أن لا يتبع الإنسان الحق إلا في الحالات التي فصلناها سابقاً, وعليه: فإذا كان أبو لهب غير مقتنعٍ بما يقوله محمد, فهذا يعني ببساطة شديدة: أنَّ ما يقوله محمد غير مقنعٍ بالنسبة لأبي لهب. لو كان ما يقوله محمد مقنعاً, لآمن أبو لهب, ما دام عاقلاً, من المستحيل أن يكون كلام محمد مقنعاً ثُّمَ لا يقتنع أبو لهب, أو غير أبي لهب, خصوصاً أنَّ ما يترتب على هذا الاقتناع, أو اللااقتناع, يتجاوز نطاق الحياة الفانية: إنه خلود أبدي؛ إما في النعيم, وإما في الجحيم! وهذه هي الحقيقة التي يرفضُ المسلمونَ أن يعترفوا بها, أو على الأقل أن يتحاوروا حولها: حقيقة أنَّ الإسلام قد يُقنع البعض, وقد لا يقنع البعض الآخر؛ أي أنَّ الأدلة والحجج التي يقدمها الإسلام مقنعة بصورة نسبية, وهذا يعني أن لا ذنبَ على من لم يؤمن؛ فلم تكن الأدلة بالنسبة له مقنعة؛ أي لا ذنب على أبي لهبٍ, أو غيره من الكفَّار, بل إننا لو تأملنا جيداً فسنصل إلى نتيجة واضحة: إنَّ أدلة وحجج الإسلام غير مقنعة! فالأصل أن تعلو هذه الأدلة والحجج على مفهوم النسبية, فهل من العدل أن نحاسب الإنسان على نسبية فهمه؟!
لا أحدَ يكره الحق, ولا أحد يلقي بنفسه إلى التهلكة, محالٌ أن يفعل الإنسانُ ذلكَ, خصوصاً أنَّ هذا الحق غير مرتبطٍ بهذه الحياة الفانية, وأنَّ هذه التهلكة, تهلكةٌ عظمى, إنها: خلودٌ أبديٌّ في النار.
لنقم بهذا الاختبار النفسي: ضع نفسك, عزيزي القارئ, مكان أبي لهب, إنَّ لديكَ أولاداً, وأموالاً, وسلطاناً, ولكنكَ تدركُ أنَّ محمداً على حق, وأنَّ من لا يؤمنُ بالإسلام, فمصيره جهنم خالداً فيها إلى أبد الآبدين, وإنكَ مخيَّرٌ بين قول: لا, أو نعم, فماذا ستقول؟
ولكنَّ تفسيرَ المسلمين الشائع لآيات سورة المسد, وسبب نزولها, وقصة أبي لهب كما في كتب السيرة - كل ذلكَ لا يقيم أيَّ وزنٍ للأسئلة أعلاه, فلم يكن أبو لهب مخيَّراً بين الإسلام والكفر, فالمسلمونَ يعتبرونَ أنَّ هناكَ "إعجازاً غيبياً" في سورة المسد, فقد نزلت السورة وأبو لهب على قيد الحياة, وقد توفي بعد نزولها بعشر سنوات, وهذا يعني أنه قد كانَ بإمكانه أن يُسلمَ, فيعارضَ بذلك القرآن, ولكنه لم يسلم, وهذه هي المعجزة من وجهة نظرهم.
وهكذا فإنَّ هذه "المعجزة" تثيرُ إشكاليةً خطيرةً جداً, فهي تعني ببساطة شديدة: أنَّ أبا لهبٍ كانَ مُجبراً, أو مسيَّراً, أو مقدَّراً له أن يكفر!
والخروجُ من هذه الإشكالية ليسَ صعباً على المسلمين, فهم يردون, بما معناه, كالتالي: إنَّ الله, سبحانه وتعالى, لا يظلمُ أحداً. وهذا يعني, حسب فلسفتهم, أنَّ هناك جوانب مخفية في الموضوع, قد نحيط بها يوم الحساب؛ أما الآن فليسَ لنا إلا السمع والطاعة, فالعقل البشري محدود, ولنا في قصة النبي موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف عبرة.
إنَّ قصة أبي لهب مقبولة إيمانياً, ومرفوضة عقلياً, وفي الحقيقة إنَّ فكرة القدر التي يتبعها حساب وعقاب, مرفوضة عقلياً. ولكن إذا نظرنا إلى الخلاف بينَ محمدٍ وأبي لهب من زاوية دنيوية؛ فسيبدو كل شيء مفهوماً, أما إذا نظرنا إلى الخلاف من زاوية دينية, أخروية؛ فلن يتضح شيء, وطبعاً يرفضُ المسلمونَ النظرة الأولى, وقد يقبلونها, كما فعل بعضهم, بشرط تأسيسها على النظرة الثانية, ولقدُ ناقشتُ النظرة الثانية بما فيه الكفاية, وبينتُ أنَّ ما يقوله المسلمونَ من أنَّ أبا لهبٍ كانَ يعلمُ أنَّ الإسلامَ هو الحق ولكنه أصرَّ على كفره؛ مرفوض عقلاً.
أما عن النظرة الأولى؛ فالحديث حولها يطول, وقد يخرجنا الحديث عنها عن المسار العام للفكرة التي أريدُ إيصالها, وربما أناقشها في موضوع مستقل لاحقاً, ولحينها أكتفي بهذه الإضاءة التي تصلح كمقدمة للموضوع: ما الذي ستفعله, كخطوة أولى, إذا أردتَ أن تحكم بالعدل بينَ خصمين؟ أعتقدُ أنَّ الجوابَ بسيطٌ جداً: العدلُ يقتضي أن تسمع لكليهما. لنطبق هذا الكلام على موضوعنا الحالي: نحنُ نستطيعُ أن نسمع لمحمد, ولكننا لا نستطيعُ أن نسمع لأبي لهب؛ فصوتُ محمدٍ مسموع: في القرآن, والأحاديث, وكتب السيرة, وحناجر المسلمين الذين يهبون للدفاع عنه عند كل شاردة وواردة, الذين يرددون منذ أكثر من 1400 سنة: تبت يدا أبي لهب.. أما صوت أبي لهب فغير مسموع؛ فلا يوجد بين أيدينا رواية أبي لهبٍ حول الخلاف بينه وبين محمد, كل ما بأيدينا رواية محمد وأنصاره, وكل ما قيلَ على لسان أبي لهب رواه المسلمون! وهكذا فإنَّ المسلمينَ في عصرنا لم يحكموا على أبي لهب بالعدل؛ فهم لم يسمعوا روايته, وفي هذا مفارقة عجيبة: فالعدلُ لا يتحقق في الإسلام؛ إلا بالاستماع إلى كلا الطرفين, وما دام أحد الطرفين غائباً؛ فلن يتحقق العدل, إذاً فالمسلمونَ الذينَ لم يعاصروا محمداً وأبا لهب, منذُ نهاية الخلافة الراشدة تقريباً حتى وقتنا الحاضر؛ يخالفون الإسلام!
وطبعاً لن يعدمَ المسلمونَ إجابة! ولكن أيُّ إجابة؟ إنها الإجابة الإيمانية: فالله, سبحانه وتعالى, قال لنا في القرآن الكريم أنَّ أبا لهب كان كافراً, وعدواً للحق؛ فعلينا السمعُ والطاعة!
وهكذا فحتى النظرة الأولى يُجابُ عنها بإجابةٍ إيمانية؛ وبهذا يفقدُ الحوارُ قيمته. وما دامَ كل شيءٍ في النهاية سيرتد إلى الإيمان=التسليم=عدم التفكير؛ فسيستوي الخطابُ الإسلامي مع الخطابِ المسيحي مع الخطاب اليهودي.. وتصبحُ المفاضلة بين الأديان, والمذاهب, نوعاً من العبث, فكيفَ نحكمُ بين أهل الأديان والمذاهب فيما اختلفوا فيه وهم يرفضون خطاب العقل؟!
الخلاصة: لا أحدَ يكره الحق, ولا أحد يلقي بنفسه إلى التهلكة, محالٌ أن يفعل الإنسانُ ذلكَ, خصوصاً أنَّ هذا الحق غير مرتبطٍ بهذه الحياة الفانية, وأنَّ هذه التهلكة, تهلكةٌ عظمى, إنها: خلودٌ أبديٌّ في النار. وهكذا فإنَّ قصة أبي لهب, مرفوضة عقلياً, ولكنها مقبولة إيمانياً, وطبعاً ما يقالُ عن أبي لهب يقال عن امرأته؛ بل عن كل "كافر".