ابن سلامة القادري
02-17-2014, 12:18 PM
تقول الشبهة :
محمد كان خاطئا
تقول الآية : "واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات" سورة محمد 19:47
و عن أبى هريرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنية قبل أن يقرأ فقلت : يا رسول الله بأبى أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول ؟ قال : أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياى بالثلج والماء والبرد "
رواه البخاري ( 1 / 192 ) ومسلم ( 2 / 98 و 99 )
أما عن المسيح :
"لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر"
1 بطرس 22:2
" من منكم يبكّتني على خطية "
يوحنا 8 : 46
" وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية " رسالة يوحنا الرسول الاولى 3 : 5
- أيضا القرآن لم يذكر أى خطية لعيسى –
الجواب على الشبهة من وجوه :
الوجه الأول :
نزيد على ما ذكرتموه بحق نبي الله عيسى ابن مريم عليهما السلام :
في حديث الشفاعة الطويل ، حينما يعتذر كل نبي عن الشفاعة عند ربه ، إجلالا له في هذا المقام ، وهيبة من نفسه أن يكون أهلا لذلك المقام، و بسبب ما رأى أنه ذنب اقترفه :
( فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ .. )
رواه البخاري(4712) ومسلم (194) .
فهذا يحتمل أنه لم يذكر ذنبا ، لأنه لا ذنب له ، كما هو الظاهر
بل جاء في النبي يحيى عليه السلام ما هو أعظم دلالة و خصوصية بذلك و أنه كان مثال الملاك الإنسي بل كان أفضل من الملائكة من حيث عصمته من الخطأ و حتى الهم به مع أن يحيى ليس بمقام عيسى عليهما السلام و فضله :
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ، أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا.
رواه الإمام أحمد و الطبراني و ذكره ابن تيمية بمعناه "في "مجموع الفتاوى" (14/461) . وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند
و الألباني بلفظه في السلسلة الصحيحة.
و في القرآن ما يشهد لذلك :
قال الله تعالى عن عبده ونبيه زكريا عليه السلام : ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) آل عمران / 39 .
فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى (حَصُورًا) إلى أنه المعصوم من الذنوب .
و إلى ذلك ذهب السعدي رحمه الله، قال :
"هذا المبشر به وهو يحيى ، سيد من فضلاء الرسل وكرامهم : و"الحصور" ، قيل : هو الذي لا يولد له ، ولا شهوة له في النساء ، وقيل : هو الذي عصم وحفظ من الذنوب والشهوات الضارة ، وهذا أليق المعنيين" انتهى .
وقال القاضي عياض رحمه الله : "معناه : أنه معصوم من الذنوب ، أي : لا يأتيها ، كأنه حُصر عنها ، وقيل : مانعا نفسه من الشهوات ، وقيل : ليست له شهوة في النساء" انتهى من
"الشفا" (1/88) .
وقد أثنى الله تعالى على يحيى عليه السلام ثناءً حسنا فقال تعالى : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) مريم / 12 – 15 .
فقوله : ( وزكاةً ) قال ابن جرير رحمه الله : "هو الطهارة من الذنوب ، واستعمال بدنه في طاعة الله .... ثم نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) قال : "طهر فلم يعمل بذنب" انتهى من"تفسير الطبري" (18/159) .
إذن نفهم من ذلك أن تفاضل الأنبياء في درجات الكمال على مستويين :
- فمن الأنبياء من كان أعظم صوابا بإتيانه لأعظم الأعمال و القربات التي ترضي الله تعالى و أكملها، و الأفضلية هنا كانت للنبي محمد صلى الله عليه و سلم.
- العصمة من الذنب و الخطأ مطلقا مهما صغرا حتى من حيث الهم بهما و هذه كانت لنبي الله يحيى عليه السلام.
الوجه الثاني :
ذلك أن أنبياء الله عموما كانوا معصومين من كبائر الذنوب و الأخطاء دون صغائرها .. و هذا لأنهم بشر .. و اختص الله تعالى نفسه بالكمال المطلق الواجب له دون سائر الخلق إلا ما كان من اختصاصه تعالى لنبيه يحيى بفضيلة العصمة التامة الكاملة و لم يكن ذلك واجبا في حقه و لذاته و إنما فضلا من الله تعالى.
فأبونا آدم عليه السلام أذنب بأكله من الشجرة و استغفر الله لذنبه فغفر له .. ونوح عليه السلام دعا ربه في ابنه الكافر و استغفر الله لذنبه فغفر له .. وموسى عليه السلام أراد نصرة الذي من شيعته، فوكز خصمه فقضى عليه و استغفر الله لذنبه فغفر له .. وداود عليه السلام تسّرع في الحكم قبل سماع قول الخصم الثاني، فأسرع إلى التوبة فغفر الله له ذنبه .. و يوسف عليه السلام هم بامرأة العزيز و همت به فدعا الله أن يصرف عنه كيدها و كيد النساء فصرفه عنه.
فتلك صغائر اقترفها الأنبياء عليه السلام لكنها تسمى ذنبا على أي حال أوجب استغفارهم له.
و هكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عاتبه ربه في أمور فاستغفر منها، كقول الله تعالى : يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [ التحريم: 1 ] نزلت بسبب تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم العسل على نفسه، أو تحريم مارية القبطية. وعاتبه ربه بسبب عبوسه في وجه الأعمى ابن أم مكتوم، وانشغاله عنه بطواغيت الكفر يدعوهم إلى الله، إنما الإقبال على الأعمى الراغب فيما عند الله هو الذي كان ينبغي أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى.. [ عبس: 1-4 ]. وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر الفدية فأنزل الله تعالى: لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ الأنفال: 68 ].
فهذه الأخطاء البشرية لا تنفي الأفضلية عن النبي صلى الله عليه و سلم، و إنما كان ذلك مثالا من الله و تعليما للمؤمن الذي يذنب و يستغفر لذنبه و إن صغر حتى لا يغتر أحد أو يعجب بنفسه .. و يعلم أن الكمال الواجب المطلق الذي يوجب العبودية لله تعالى وحده و ليس من صفات أحد من خلقه حتى أخص أنبيائه .. و في ذلك أعظم دلالة على كمال التوحيد في الإسلام بينما ألَّه النصارى نبي الله عيسى عليه السلام.
الوجه الثالث :
جاء في الموسوعة العقدية : أن الذنوب لا تنافي الكمال، و مع أنها نقص في ذاتها فهي لا تكون نقيصة بعد ذلك للتائب منها، فإنّ التوبة تغفر الحوبة، ولا تنافي الكمال، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم، بل إنّ العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته من معصيته خيراً منه قبل وقوع المعصية، وذلك لما يكون في قلبه من الندم والخوف والخشية من الله تعالى، ولما يجهد به نفسه من الاستغفار والدعاء، ولما يقوم به من صالح الأعمال، يرجو بذلك أن تمحو الصالحات السيئات، وقد قال بعض السلف: (كان داود عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/45). وقال آخر: (لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إلى الله لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/294). .
وقد ثبت في الصحاح ((أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلته ناقته بأرض فلاة، وعليها طعامه وشرابه، فنام نومة فقام فوجد راحلته فوق رأسه فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) رواه البخاري (6308)، ومسلم (2744). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. .
وفي الكتاب الكريم: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] وقال تعالى مبيناً مثوبة التائبين : إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ... [ الفرقان: 70 ].
وفي يوم القيامة ((يدني الله المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) رواه البخاري (2441)، ومسلم (2768). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار منه، يدلنا على هذا أن القرآن لم يذكر ذنوب الأنبياء إلا مقرونة بالتوبة والاستغفار، فآدم وزوجه عصيا فبادرا إلى التوبة قائلين: ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الأعراف: 23 ] وما كادت ضربة موسى تسقط القبطي قتيلاً حتى سارع طالباً الغفران والرحمة قائلاً: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [ القصص: 16 ]. وداود ما كاد يشعر بخطيئته حتى خرّ راكعاً مستغفراً فَاسْتَغْفَرَ رَبّهُ وَخَرّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص: 24].
فالأنبياء لا يقرون على الذنب، ولا يؤخرون التوبة، فالله عصمهم من ذلك، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها.
محمد كان خاطئا
تقول الآية : "واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات" سورة محمد 19:47
و عن أبى هريرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنية قبل أن يقرأ فقلت : يا رسول الله بأبى أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول ؟ قال : أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من خطاياى بالثلج والماء والبرد "
رواه البخاري ( 1 / 192 ) ومسلم ( 2 / 98 و 99 )
أما عن المسيح :
"لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر"
1 بطرس 22:2
" من منكم يبكّتني على خطية "
يوحنا 8 : 46
" وتعلمون أن ذاك أظهر لكي يرفع خطايانا وليس فيه خطية " رسالة يوحنا الرسول الاولى 3 : 5
- أيضا القرآن لم يذكر أى خطية لعيسى –
الجواب على الشبهة من وجوه :
الوجه الأول :
نزيد على ما ذكرتموه بحق نبي الله عيسى ابن مريم عليهما السلام :
في حديث الشفاعة الطويل ، حينما يعتذر كل نبي عن الشفاعة عند ربه ، إجلالا له في هذا المقام ، وهيبة من نفسه أن يكون أهلا لذلك المقام، و بسبب ما رأى أنه ذنب اقترفه :
( فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ .. )
رواه البخاري(4712) ومسلم (194) .
فهذا يحتمل أنه لم يذكر ذنبا ، لأنه لا ذنب له ، كما هو الظاهر
بل جاء في النبي يحيى عليه السلام ما هو أعظم دلالة و خصوصية بذلك و أنه كان مثال الملاك الإنسي بل كان أفضل من الملائكة من حيث عصمته من الخطأ و حتى الهم به مع أن يحيى ليس بمقام عيسى عليهما السلام و فضله :
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ، أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا.
رواه الإمام أحمد و الطبراني و ذكره ابن تيمية بمعناه "في "مجموع الفتاوى" (14/461) . وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند
و الألباني بلفظه في السلسلة الصحيحة.
و في القرآن ما يشهد لذلك :
قال الله تعالى عن عبده ونبيه زكريا عليه السلام : ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) آل عمران / 39 .
فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى (حَصُورًا) إلى أنه المعصوم من الذنوب .
و إلى ذلك ذهب السعدي رحمه الله، قال :
"هذا المبشر به وهو يحيى ، سيد من فضلاء الرسل وكرامهم : و"الحصور" ، قيل : هو الذي لا يولد له ، ولا شهوة له في النساء ، وقيل : هو الذي عصم وحفظ من الذنوب والشهوات الضارة ، وهذا أليق المعنيين" انتهى .
وقال القاضي عياض رحمه الله : "معناه : أنه معصوم من الذنوب ، أي : لا يأتيها ، كأنه حُصر عنها ، وقيل : مانعا نفسه من الشهوات ، وقيل : ليست له شهوة في النساء" انتهى من
"الشفا" (1/88) .
وقد أثنى الله تعالى على يحيى عليه السلام ثناءً حسنا فقال تعالى : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) مريم / 12 – 15 .
فقوله : ( وزكاةً ) قال ابن جرير رحمه الله : "هو الطهارة من الذنوب ، واستعمال بدنه في طاعة الله .... ثم نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) قال : "طهر فلم يعمل بذنب" انتهى من"تفسير الطبري" (18/159) .
إذن نفهم من ذلك أن تفاضل الأنبياء في درجات الكمال على مستويين :
- فمن الأنبياء من كان أعظم صوابا بإتيانه لأعظم الأعمال و القربات التي ترضي الله تعالى و أكملها، و الأفضلية هنا كانت للنبي محمد صلى الله عليه و سلم.
- العصمة من الذنب و الخطأ مطلقا مهما صغرا حتى من حيث الهم بهما و هذه كانت لنبي الله يحيى عليه السلام.
الوجه الثاني :
ذلك أن أنبياء الله عموما كانوا معصومين من كبائر الذنوب و الأخطاء دون صغائرها .. و هذا لأنهم بشر .. و اختص الله تعالى نفسه بالكمال المطلق الواجب له دون سائر الخلق إلا ما كان من اختصاصه تعالى لنبيه يحيى بفضيلة العصمة التامة الكاملة و لم يكن ذلك واجبا في حقه و لذاته و إنما فضلا من الله تعالى.
فأبونا آدم عليه السلام أذنب بأكله من الشجرة و استغفر الله لذنبه فغفر له .. ونوح عليه السلام دعا ربه في ابنه الكافر و استغفر الله لذنبه فغفر له .. وموسى عليه السلام أراد نصرة الذي من شيعته، فوكز خصمه فقضى عليه و استغفر الله لذنبه فغفر له .. وداود عليه السلام تسّرع في الحكم قبل سماع قول الخصم الثاني، فأسرع إلى التوبة فغفر الله له ذنبه .. و يوسف عليه السلام هم بامرأة العزيز و همت به فدعا الله أن يصرف عنه كيدها و كيد النساء فصرفه عنه.
فتلك صغائر اقترفها الأنبياء عليه السلام لكنها تسمى ذنبا على أي حال أوجب استغفارهم له.
و هكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عاتبه ربه في أمور فاستغفر منها، كقول الله تعالى : يَا أَيُّهَا النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [ التحريم: 1 ] نزلت بسبب تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم العسل على نفسه، أو تحريم مارية القبطية. وعاتبه ربه بسبب عبوسه في وجه الأعمى ابن أم مكتوم، وانشغاله عنه بطواغيت الكفر يدعوهم إلى الله، إنما الإقبال على الأعمى الراغب فيما عند الله هو الذي كان ينبغي أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى.. [ عبس: 1-4 ]. وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر الفدية فأنزل الله تعالى: لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ الأنفال: 68 ].
فهذه الأخطاء البشرية لا تنفي الأفضلية عن النبي صلى الله عليه و سلم، و إنما كان ذلك مثالا من الله و تعليما للمؤمن الذي يذنب و يستغفر لذنبه و إن صغر حتى لا يغتر أحد أو يعجب بنفسه .. و يعلم أن الكمال الواجب المطلق الذي يوجب العبودية لله تعالى وحده و ليس من صفات أحد من خلقه حتى أخص أنبيائه .. و في ذلك أعظم دلالة على كمال التوحيد في الإسلام بينما ألَّه النصارى نبي الله عيسى عليه السلام.
الوجه الثالث :
جاء في الموسوعة العقدية : أن الذنوب لا تنافي الكمال، و مع أنها نقص في ذاتها فهي لا تكون نقيصة بعد ذلك للتائب منها، فإنّ التوبة تغفر الحوبة، ولا تنافي الكمال، ولا يتوجه إلى صاحبها اللوم، بل إنّ العبد في كثير من الأحيان يكون بعد توبته من معصيته خيراً منه قبل وقوع المعصية، وذلك لما يكون في قلبه من الندم والخوف والخشية من الله تعالى، ولما يجهد به نفسه من الاستغفار والدعاء، ولما يقوم به من صالح الأعمال، يرجو بذلك أن تمحو الصالحات السيئات، وقد قال بعض السلف: (كان داود عليه السلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/45). وقال آخر: (لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إلى الله لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/294). .
وقد ثبت في الصحاح ((أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلته ناقته بأرض فلاة، وعليها طعامه وشرابه، فنام نومة فقام فوجد راحلته فوق رأسه فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) رواه البخاري (6308)، ومسلم (2744). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. .
وفي الكتاب الكريم: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] وقال تعالى مبيناً مثوبة التائبين : إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ... [ الفرقان: 70 ].
وفي يوم القيامة ((يدني الله المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) رواه البخاري (2441)، ومسلم (2768). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ومعلوم أنه لم يقع ذنب من نبي إلا وقد سارع إلى التوبة والاستغفار منه، يدلنا على هذا أن القرآن لم يذكر ذنوب الأنبياء إلا مقرونة بالتوبة والاستغفار، فآدم وزوجه عصيا فبادرا إلى التوبة قائلين: ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الأعراف: 23 ] وما كادت ضربة موسى تسقط القبطي قتيلاً حتى سارع طالباً الغفران والرحمة قائلاً: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [ القصص: 16 ]. وداود ما كاد يشعر بخطيئته حتى خرّ راكعاً مستغفراً فَاسْتَغْفَرَ رَبّهُ وَخَرّ رَاكِعاً وَأَنَابَ [ص: 24].
فالأنبياء لا يقرون على الذنب، ولا يؤخرون التوبة، فالله عصمهم من ذلك، وهم بعد التوبة أكمل منهم قبلها.