المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موقف العلم من وجود الله



hameed gaber
02-25-2014, 12:58 PM
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
يسعدنى ان أقدم لكم هذا الموضوع والذى هو يعتبر تلخيص لكتاب موقف العقل لمصطفى صبرى للرد على الملاحدة من اتخاذ العلم سبيلا لأنكار وجود الله
وصاحب الموضوع هو الدكتور منشاوى عبد الرحمن اسماعيل د . الفلسفة الاسلامية فى كلية دار العلوم جامعة القاهرة من كتابه فى تاريخ الفكر الفلسفى

- وجود الله بين العقل والعلم
مشروعية اثبات ووجود الله تعالى :

ان شرف العلم بشرف موضوعه كما يقول العلماء , و من ثم كانت الفلسفة الأولى هي البحث وجود الله , و سوف يظل البحث في وجود الله مطلبا للفلسفة مع صعوبته .... لا سيما التدليل عليه ببراهين العقل النظرية , مما حدا بالبعض كالفلاسفة الوضعيين من أتباع ((جماعة فيينا))(1), أن يطالبوا بحذف مسائل الالهيات من موضوعات الفلسفة , غير أن استبعاد الالهيات القضاء على الميتافيزيقا ؛ ولذا كان تمسك الفلسفة في كل العصور بهذا المبحث ؛ لأنه أشرف موضوعاتها , و مع عجز العقل البشرى في هذا المجال فانه لا يملك الا ان يتفلسف , و أن يفكر في كل شيء , و لقد سلك البشر عدة طرق في مجال معرفة وجود الله تعالى و الاستدلال عليه منها : طريق القلب و طريق العقل , وطريق التأمل ..

ويكاد الاسلام أن يتفرد من بين سائر الأديان بالحث على التفكير , حتى تنهض عقائد أبنائه على البراهين القويمة و الأدلة الصحيحة , ومن هنا كان رفضه تقليد الآباء و الأجداد والاعتقاد دون دليل اتباع الظنون و تعطيل العقول , بدعوى أن البحث في الالهيات أمر يفوق طاقتها و قدراتها فهذا و ان اخذت به بعض الديانات و الفلسفات , فان النسق الفكري و العقيدي في الاسلام يأبى تعطيل العقل البشرى و يرفض مصادرته ؛ لأن العقل مصدر رئيسي في الايمان مع وجود فارق واضح – وهو موضوع الاعتبار – بين ما لا يصل العقل الى
كهنه , لكنه يعرفه بأثره , وما يحكم العقل باستحالته , فالأول يقر العقل وجوده . و الثاني مطروح من نظره ساقط من حسبانه (2).

هذا و سيظل وجود الله أسمى ما في الكون , بل الأكوان مجموعة , وهو المحور الذى حوله يدور فكر البشر منذ أغوار الزمن السحيق , و اذا كانت الميتافيزيقا من مطالب العقل البشرى وتمثل الفلسفة العالية , فان مبحث وجود الله يأتي في العين من هذه الفلسفة , و على هذا المبحث يرتكز الفكر المؤمن.

و حينما تتعدد العلائق و المواقف بين الله عز وجل و من في كونه , فان مصطفى صبري يبرز لنا واحدة من تلك العلائق , وهذه المواقف ويجليها لأهميتها و حضورها في الوعى و الوجدان , و يقتلها بحثا تحت عنوان : ((موقف العقل من الدين )), وكلمة الدين يعنى أصلا وجود الله ؛ لأن وجود الله هو أساس الدين (3).

و العقل السليم هو الذى يميز في الانسان سبيل هدايته الالهية و سعادته الأبدية , ولذا فانه اول نصير للدين , لأى اثبات وجود الله , و أن الدين الحق لفي طليعة المعقولات و مما يقوى عرا الوثاقة بين الدين و العقل , أن العقل هو مدار التكليف بالأحكام الشرعية لدى علمائنا نحن المسلمين كما يشير اليه قوله تعالى : {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴿١٠﴾}(4). والتعقل الراشد لا يجتمع في شخص مع الضلالة التي توصله الى نار جهنم ؛لأن عقله يجعله من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...}(5). من هنا كان اهتمام شيخ الاسلام مصطفى صبري (6)بالمباحث الميتافيزيقية – وعلى رأسها : وجود الله – رغم المستخفين بها من فلاسفة الغرب الذين أخرجوها من العلم بحصره في التجارب الحسية , ومن تابعهم في ذلك مثل الدكتور ((محد حسين هيكل)) في مقدمة كتابه ((حياة محمد)) , و الأستاذ محمد فريد وجدى في مقالاته بمجلة الأزهر: نور الاسلام سابقا00

ولما كانت حقيقة أي موجود تدرك بالإشارة اليه مادام مرئيا دون الحاجة الى اقامة الدليل عليه – فان مصطفى صبري يقرر أن وجود الله عز وجل كالمثائل الهندسية في قيامها على مبدأ التناقض , و انكاره مثل انكار مسألة قطعية هندسية ؛ لأنها تبنى على مبدأ السببية قبل التناقض , فليس من قبيل العبث أن يقرر ((ديكارت )) أن وجود الله يقنى أكثر يقينية الدعاوى الهندسية (7). ويؤيده واحد من علماء الطبيعة فيما ذهب اليه ((وجود الله تعالى أمر بديهي من الوجهة الفلسفية من الوجهة الفلسفية , و الاستدلال بالأشياء على وجود الله , كما في الأثبات الهندسي , لا يرمى الى اثبات البديهيات ولكنه يبدأ بها .., فالاستدلال على وجود الله يقوم على أساس المطابقة بين ما نتوقعه – اذا كان هناك اله – و الواقع الذى نشاهده ... فالإنسان المفكر لابد أن يصل ويسلم بوجود اله منظم لهذا الكون , وعندئذ تصير فكرة الالوهية احدى بديهيات الحياة بل الحقيقة العظمى التي تظهر في هذا الكون ...))(8).

فلابد في الموجودات من وجود موجد واجب الوجود نوقن به ,دون أن نراه مستدلين عليه بالموجودات الممكنة ,والتي لا يتسنى لها الوجود لولا وجوده الواجب وليس في الموجودات كلها ما يثبت وجوده من طريق وجوبه الا الله ؛لأن كل ما سواه لا ضرورة لوجوده ولا استحالة لعدمه (( وليس أحمق ولا أضل من نفاته أو الشاكين في وجوده))؛ لأن النفي والشك وان جازا في حق الممكنات لكونها غير ضرورية , فانهما في حق الله يؤديان الى تناقض محال لوجوب وجوده تعالى(9).

وهناك اتجاه يرى أن البحث في وجود الله و محاولات اثباته و الاستدلال عليه انما هو بدعة و يستشهد أحد المفكرين المعاصرين على ذلك بنص لابن حزم يقول فيه : ((لا نستطيع ان نبرهن على وجود الله بالكلام , ولكننا نؤمن بالله ؛ لأن هناك كلاما لم يستطع الانسان أن يخلقه ))ثم يعلق عيه بقوله (( وهنا يكمن مفاح كل تأمل في الله ))(10).

وباحث معاصر يصنف مسألة وجود الله ضمن النتائج السيئة لتطبيقات المنهج الوثني – اليوناني القديم والغربي الحديث – في العالم الإسلامي, ويقرر أن هذه ليست من المنهج الإسلامي الصادق, فالكتب, والرسل نزهت وجود الله عن الاحتياج الى برهان, والدين الإسلامي بل الأديان جميعها ما جاءت لأثبات وجود الله , بل لتوحيده , وأما الآيات القرآنية الكثيرة التي يظنها البعض خاصة بإثبات وجود الله ((فليست من ذلك في قليل ولا كثير , انها تبين عظمة الله وجلاله وكبريائه وهيمنته الكاملة على العالم)), ثم يرصد الباحث لهذا النهج الوثني – نهج اثبات وجود الله في نظره – مساوئ يسجل منها :

اولا – أن هذا الاتجاه اتاح الانحراف الكامل بإنكار وجود الله كلية أمام الكثيرين.
ثانيا – أنه أدى الى ضعف الايمان لمجرد وضع مسألة وجود الله موضع البحث؛ لأن ذلك يعنى أن وجود الله موضع شك وريبة عند أصحاب هذه البدعة – بدعة اثبات وجد الله – التي شاعت حتى في الأوساط المستغرقة في الدين , ووثنية النتائج ربيبة لوثنية المنهج(11).

والذى يبدو لي أن هذا الاتجاه لا يخلص لأصحابه جملة , فان التحفظ قائم على تقرير العجز عن البرهنة على وجود الله , وعلى وضع هذه المسألة في صورة نتاج شرعي للمنهج الوثني وتطبيقاته في بلاد الاسلام, والواقع يقرر – ان سلمت لي هذه الملاحظة – أن الوجود الإلهي كان ومازال موضع شك الكثيرين حتى أبناء الديانات السماوية ومنها الاسلام , ولا تجدى معهم هذه الأفكار المثالية التي تتبنى التأمل أو الوقوف أمام العظمة والجلال , بل ان فكرة عدم اخضاع مقام الالوهية للبرهنة و الاستدلال على وجود الله , انما فكرة وافدة من الفلسفة الوجودية , حيث يحاول الفلاسفة الوجوديين – جاهدين – البرهنة على أن وجودهم و وجود الاله (( أبعد مما يكون عن المضمار البرهاني من جميع الموجودات الأخرى )), وذلك كما يرى الفيلسوف الوجودي الدنماركي ((كير كجورد))من أن العقيدة مطلقة والايمان بها قاطع, فلا ينبغي التنقيب والبحث عن وجود الله , ويشاركه في ذلك أمثال ((جبرييل مارسييل)) و ((لويس لافيل)) من فلاسفة الوجودية المؤمنين بوجود الله , فاذا كان من الاهانة لديهم لإله جحوده , فانه من الإهانة الأشد و الأقسى ((أن يحاول الانسان اثبات وجود الاله وهو تحت سمعه وبصره )), واذا كانت هذه الفكرة الوجودية في عدم البرهنة على وجود الله, اعتمادا على التسليم بوجوده واكتفاء باعتقاد ذلك – تضرب بجذورها في أعماق الديانة المسيحية التي عجزت عن اقناع الذهن المتعطش عملا بالقاعدة المسيحية ((اغمض عينيك واتبعني)), فإنها ايضا تمتد بجذورها الى أعماق الحياة الصوفية. حيث الشبه الكبير بين أقوال فلاسفة الوجودية وبعض أقطاب التصوف أمثال ((ابن عطاء السكندري))(12).

هذا فضلا عن أن آيات كثيرة في كتاب الله , وان لم تقرر صراحة الاستدلال على وجود الله جل وعلا , فانه لا يختلف اثنان حول التسليم بان مضمونها انما هو اثبات هذا الوجود الإلهي , فان التأمل في الخلق يستدل به على الخالق , ورؤية الصنعة تثبت الصانع والتدبر في الملكوت يفضى الى الاعتراف بصاحبه , ووجود النظام يؤدى الى وجود المنظم, بل ان القرآن الكريم كانت تشغله قضية اثبات وجود الله الى حد بعيد جدا, وان تفاوت هذا الاهتمام من حين لآخر قياسا على اعتنائه بقضية التوحيد, فالله سبحانه وتعالى حينما يقدم هذا التساؤل الإنكاري و التعجبي معا: {..أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..}(13), فان الشك هنا ينصب على قضية الألوهية لا التوحيد , والقرآن الكريم في ردوده المختلفة على الدهريين, ينصب هذه الردود أدلة لإثبات وجود الله في مقابل انكارهم له سبحانه , والقرآن الكريم يخاطب الأحياء بلة الحياة , ويخاطب العقل بلغة العقل, حيث يظهر ذلك في تكرار برهان الحياة, و برهان النسل في اثبات وجود الخالق الكريم))(14).

وفى سبيل الاجابة على سؤال فحواه :هل الاستدلال القرآني في قضية الألوهية استدلال على الوجود أم على التوحيد؟.. يجيب أحد العلماء المعاصرين بأن القرآن الكريم في خلال حديثه الواضح عن التوحيد تتشعب الدلائل لتسحق كل تفكير قد يعرض عن استغناء العالم عن ربه وقيامه بنفسه, فالأسلوب القرآني وهو يشرح حقيقة التوحيد يمحو آثار الالحاد, وينفى شبهات الملحدين, وبذلك تتعانق أدلة الوجود الأعلى وأدلة التوحيد المطلق في نسق فذ, فالمنهج القرآني هو جمع في سياق واحد بين دلائل الوجود الأعلى وأدلة الوجود المطلقة, وليس القرآن كتابا فنيا يفرد فصلا لتلك القضية وفصلا للقضية الأخرى, بل يبنى العلائق بالله على نحو يربط الناس بخالقهم ويشتمل على دلائل الوجود الأعلى في ثنايا توحيد الله وتمجيده ((فالله أعظم و أعز من أن يكون اثبات وجوده أمر يفرد له عنوان, وكأنه موضوع يفتقر الى البرهان))(15)

غير أنه اذا كان دافع هؤلاء المعارضين للاستدلال على وجود الله واثباته هو التخلص من تلك المعركة الجدلية التي نشبت بين علماء الكلام المسلمين وبين فلاسفة الغرب أيضا بمختلف أنواعهم: مؤمنين و ملحدين , والتي استخدمت فيها عبارات واستدلالات لا تليق بذات الله, وأصبح مبحث وجود الله و كأنه مسألة عقلية بحتة, للعقل فيها مطلق الحرية دون قيود أو ضوابط , للحفاظ على قداسة ذات الله تعالى , وذلك بتأثير المنهج الإغريقي القديم في الالهيات بخاصة على كثير من علماء الكلام المسلمين والفلاسفة- اذا كان هذا هو دافع المعارضين, فإنني أنضوى تحت لوائهم, لكن أن يتعاضد العقل والنقل في مسيرة مباركة للتعرف على الحق سبحانه وتعالى والاستدلال على وجوده في أدب وعلى استحياء ,فهذا ما ننشده ونؤيده؛ لأنه دعوة القرآن الكريم في مجمله..

وشيخ الاسلام مصطفى صبري في هذه القضية الكبرى لم يكن مجرد ظل حائل او امتدادا لاهيا للمدارس الكلامية أو الفلسفية والتي اتفقت كلمة الجميع فيها تقريبا على أن الايمان بوجود الله لا يكون الا باستخدام العقل و الاعتماد عليه))(16), بل كان الشيخ في أيامه يجابه تيارا عنيدا وافدا على بلاد الاسلام, خيم واناخ, وطاب له الوقت ولذ المقام, وقد انبرى شيخ الاسلام يناقش الملحدين الحساب في مسألة الدين والعقل والعلم, فهم ينكرون سند عقلي أو علمي لوجود الله, أو ينكرون الأخير ويغمطون الأول حقه, فيدعون عدم كفاية الدليل العقلي على اثبات وجود الله, لعدم تدعيم التجربة العلمية له, ليصلوا من ذلك الى زعم وادعاء أن العلم يجرد العقل المحض من ثقته
به, وكان على الشيخ أن يحارب الالحاد بسلاح العلم, والبصيرة في عدة جبهات:

موقف العقل من الله, وموقف العلم من الله, وموقف التجربة من الله ,ثم موقف العلم من العقل(17).

والشيخ في الديار المصرية التي ارتضاها وطنا ثانيا له – ينافح أسس الزيغ والانحراف في العالم الإسلامي عامة و لدى المتعلم الإسلامي بخاصة, والتي يراها ماثلة في ضلال متأصل:
في الأذهان أولا بانتشار المذهب التجريبي وبناء العلم عليه.
وثانيا في عدم رؤية التناقض في مذهب الالحاد المبنى على تجويز استغناء العالم عن موجده.
وأخيرا الشك القائم في بطلان تسلسل العلل.

والرجل في جهاده يحدوه أمل أخضر وعزم أكبر في استئصال جذور المذهب الفلسفي الذى يأبى الا ان يحتكم في كل مطلب الى التجربة العلمية دون الأدلة العقلية المنطقية وكسب التفوق لهذه الأدلة الأخيرة وسلامتها من الانتقاض بعد استجماع شرائطها, وقد استطاع الشيخ في مبحث وجود الله أن يثبت:

- أن العقل حليف وفى للدين..
- وأن العلم- أي علم صحيح – يوائم العقل ولا يخالفه أو يفارقه..
- وأن هذا العلم الملازم للعقل عليه أن يقف بجانب الدين حليف العقل..
- وأن الدين يستغنى عن التجربة غالبا, لاعتماده على ما هو أفضل وأقوى وهو الدليل العقلي المستجمع شرائطه..

ونستطيع أن نشير الى بعض هذا الجنى, لما قدم الشيخ في ميدان اثبات وجود الله تعالى فقد رام اثبات وجوده سبحانه , واثبات وحدانيته, وفك التلازم بين اثبات وجود الله ووحدانية من جهة, ورؤيته عز وجل من جهة أخرى(18).
(1) جماعة فيينا Vienna Circle: رابطة فكرية تحلقت حول ((موريس شليك)) أستاذ الفلسفة بجامعة فيينا في الثلاثينات, وضمت فلاسفة وعلماء رياضيين من أمثال ((كارناب)) و ((فايجل)) و ((فتجنشتاين)), وقد صاغ كارناب ميثاق الجماعة عن عام 1929 باسم (( الفهم العلمي للعالم )) ونشر في نفس العالم – بالاشتراك مع نيوراث وهان من أعضائها, ونادت الجماعة بالفلسفة التجريبية المنطقية التي تتلخص في وضع أسس مضمونة للعلوم وبناء وحدتها والبرهنة على أن جميع قضايا الميتافيزيقا لا معنى لها, و أخذت شكل الحركة المتمردة على الأديان لتركيز هجومها على الميتافيزيقا, وقد لاحقتها الحكومة النمساوية؛ لأنها كانت تحت تجمع يهودي خالصا يثير الشك , وقد اغتيل زعيمها بيد طالب من تلاميذه.
(2) انظر: براهين وجود الله ..د. عبد المنعم الحفنى من ص 3- 8.
(3) موقف العقل.. للشيخ مصطفى صبري :ص 3/1,4,67,272/2.
(4) الملك:10.
(5) الزمر: من الآية 18.
(6) شيخ الاسلام مصطفى صبري : http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=65777
راجع حياة الشيخ وجهاده, وفكره تفصيلا في:
1- موقف مصطفى صبري من القضايا الكلامية و الفلسفية في العصر الحديث, رسالة دكتوراه للمؤلف.. مخطوط بدار العلوم
2- من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر.. للمؤلف بالاشتراك من ص 95 – 144 .
(7) موقف العقل:456/2..
(8) ((جورج هربرت بلونت)) أستاذ الفيزياء التطبيقية وكبير المهندسين بقسم البحوث الهندسية بجامعة كاليفورنيا
(9) انظر موقف العقل: ص 3/2..
(10) رجاء جارودى في كتابه ((الاسلام دين المستقبل))..ترجمة عبد المجيد بارودى ص 113.
(11) انظر: المنهج الوثني في العالم الإسلامي ..دكتور محفوظ عزام: من ص 30-35..
(12) انظر الوجودية بين اليأس والعدم ..دكتور طلعت غنام – ص 86,87, 95..
(13) ابراهيم: من الآية 10..
(14) انظر كتاب ((الله)) للأستاذ العقاد: ص 35-37 , 233-243
(15) الشيخ محمد الغزالي في كتابه ((مائة سؤال عن الاسلام))..ص204- 210/1.
(16) انظر مقدمة الدكتور محمود قاسم على كتاب ((مناهج الأدلة في عقائد الملة)) لابن رشد , ص 11 وما بعدها.
(17) انظر موقف العقل..ص66و67/2..
(18) نفس المرجع : ص 323,324,342/2..

hameed gaber
02-25-2014, 01:00 PM
موقف العقل من وجود الله تعالى:
يرصد مصطفى صبري في تاريخ الأديان الكثيرين ممن لا يقدرون الدين حق قدره في الشرق و الغرب , ويقرر تفاوتهم على درجات في عدائهم وباطلهم ثم يصنف منهم فريقين:

الفريق الأول : يزعم أفراده ويتوهمون أن قواعد الدين – أي دين كان – لا تأتلف مع العقل والعلم, وأنها مبنية على التسليم بما ورد في الكتب المقدسة من غير فحص عقلي في أصولها أو تمحيص علمي لأسسها..

والفريق الثاني: يعترف جنوده بأن قواعد الدين لا تتلاءم مع العقل , ولكنها في الوقت نفسه تصطدم مع العلم وتخالفه ولا تتوائم معه, ثم يحددون مرادهم من هذا العلم بأنه العلم الحديث المبنى على التجربة والمشاهدة , وقد يعبرون عنه بالعلم المثبت ولا يعترفون بعلم الفلسفة في الغرب أو علم الكلام الإسلامي ضمن العلوم المثبتة مهما كانت قواعده مبنية على أدلة عقلية قطعية؛ لافتتانهم بالتجربة كأداة وحيدة للعلم فلا يقيمون لأدلة العقل وزنا وان كانت قطعية مفيدة لليقين , وأعداء الدين في الغرب يثيرون العداء بين الدين و العقل, وذلك بتحقير السند العقلي للدين؛ لتجرده عن التجربة والمشاهدة, وهؤلاء الملاحدة يحصرون اليقين العلمي في المحسوسات والمجربات للحط من شأن العقل , يتوسلون بذلك الى ((تنزيل قيمة الاستدلال بوجود الكائنات على وجود الله بحجة أنه استدلال عقلي)), وهكذا يمضى تاريخهم الفكري الفلسفي بما يرونه من مناوأة العقل للدين – بين (( محاربة العقل محاباة للدين ومتابعة العقل رغبة في الحصول على اليقين))..

ويتوجه الشيخ بجل نقاشه الى دحض مزاعم الفريق الثاني, القائلين باتفاق الدين مع القل واختلافه مع العلم لسببين:
1- خفاء عدائهم حيث تأخذ أفكارهم شكل الحق..
2- ومن ثم شدة خطرهم على المتعلمين العصريين..
أما مزاعم الفريق الأول القائلين مناوأة الدين للعقل والعلم معا فهؤلاء لا خطر لباطلهم لوضوح عدائهم للدين حيث يفضحهم ذلك جهلهم..

منشأ العداء بين العقل والدين:

ان العقلية المغالطة الخالطة بين العقلية الغربية والعقلية الاسلامية , انما هي عقلية ضالة مقلدة في موقف الدين والعقل والعلم بعضها من بعض.

فهناك البعض ممن تدفعهم الغيرة الدينية الى الكتابية في مؤازرة الدين وتقوية عاطفته في الأمة – يحتاجون الى المقارنة بين العقل والعاطفة الدينية وتأييد الأخيرة بالفضيلة في مقابل العقل, وكأنهم يرون خدمة الدين متوقفة على الحط من شأن العقل واضعاف قوته, وتحقير قيمته باعتباره خصما للدين, ولا يتم لهم ذلك الا بوضع الفضيلة في موضع تبدو فيه قريبة من الدين بعيدة من العقل متحدة مع العاطفة , وهذا كله ((ظلمات و أوهام بعضها فوق بعض, وهى مسفرة عن التباس أنصار الدين عليهم بأعدائه, والتباس أنصار الفضيلة عليهم بأعدائها))..
وهذا الالتباس المضر بالدين أكثر من غيره منشؤه أمران:
1- تطبيق مقاييس المسيحية على الاسلام..
2- وتقليد الغرب بغباء في كل ناحية .. وهذا الداء الدفين كان المقدمة لضعف الشرق الحديث وضلاله , والبداية لنشأه العداء بين العقل والدين , في ربوعه.
والظاهرة المحزنة حقا أن هذا البعض ممن تأخذهم الغيرة الدينية فيحاولون نصرة دينهم, عندما يرون أنصار الديانة في الغرب يسعون لإضعاف منزلة العقل بإزاء العاطفة الدينية يصنعون مثل صنيعهم دون تفكير في سبب لجوء أهل الدين في الغرب الى ذلك وهو ((أن دينهم أقام بينهم وبين العقل حاجزا من عقيدة التثليث)), ودون تفكير أيضا في أن العقل محتفظ بقيمته لا تنزل أبدا , وأن الاسلام في غنى عن طلب المحال بإضعاف العقل لتقوية نفسه..

وهكذا فان عداء المسيحية الحاضرة للعقل , واتصال متعلمي الشرق الحديث بثقافة الغرب المسيحي أكثر من اتصالهم بثقافة الاسلام والتفكير المنطقي , قد ألبس عليهم الأمر من وجهين:
الأول – ظنهم عدم ائتلاف العقل مع الدين ,والتعزي عنه بدوران الدين مع الفضيلة وان افترق مع العقل..
الثاني – مجافاة العقل للفضيلة الناجمة عن الامر السابق..
وكلا النقصين : نقص الدين بمجافاته للعقل, ونقص العقل بمجافاته للفضيلة , قد استقر في أفكار المتعلمين المسلمين , على الرغم من عدم استناد ذلك الى أي أساس من الصحة وانتقلت العدوة منهم للعناصر الدينية المسلمة النازعة للتجديد من غير تحفظ واقتفاء أثر المتفرنجين , وأس هذا الابتلاء هو التقليد الأعمى للغرب المسيحي والغرب اللاديني .

هذا في حين الاسلام ليس في حاجة الى ايقاع التفرقة بين الدين و العقل ثم بين العقل والفضيلة , بل الثلاثة في الاسلام ((متحالفة لا يختلف بعضها مع بعض )),فوجود الله وهو أساس الدين مبنى في الاسلام على برهان العقل ,كما لا توجد فضيلة لا يحبذها العقل, ولا يأمر بها, الا أن تكون فضيلة زائفة , والعقل هو المرجع والحكم في تلك الأمور ..
ومن أسباب تقليد المصريين للغرب المسيحي في تطبيق مقاييس المسيحية على الاسلام كما يذكر مصطفى صبري ان المتعلم المصري لا يعنى بالفهم والتفكير عنايته بحشو ذاكرته بالمعلومات, وربما كان ذلك من تأثير المناهج في المدارس المصرية التي تدفع الطلاب الى هذا الحشو لاجتياز الامتحانات , ((وقد شهد العلماء الأجانب ممن سبقت لهم صلة بمدارس مصر على هذه الحالة في التلميذ المصري)).

أما السبب الثاني : فهو أن المدارس تدرس فيها الكتب المترجمة من مؤلفات الغربيين ترجمة حرفية أو معنوية دون فحص لما فيها بالنقد والنظر , كما صرح بذلك الأستاذ ((فرح أنطون)) وهو يناظر الشيخ محمد عبده في الأديان , ((من أنها مبنية على التسليم بما ورد في الكتب المقدسة من غير فحص أصولها))(1)..

فالمصريون سلكوا في العالم مسلكا عزاه البعض الى أهل الدين القدماء في الغرب, فكل ما يعلمه المثقف الجديد من دينه ودنياه مبنى على التسليم بما ورد في كتب هؤلاء الغربيين من غير فحص في أصوله..

وملاحدة الغرب يستخرجون من العقل عدوا للدين غير مغلوب ؛ لأن التناقض بينهما هي سبب الحادهم – أما المتدينون منهم فانهم يأسفون لضعف العقل , وعدم كفايته دليلا يقوم على الدين, ((فالدين منبوذ العقل عند ملاحدة الغرب , والعقل منبوذ الدين ومبغوض عند المتدينين منهم))..

أما في الاسلام فالدين والعقل متساندان, لكن جيل المتتلمذين على الغرب , في غفلة من هذا, وفلسفة الغرب , التي يقرئها المصريون يرون فيها هذه الحرب السجال بين العقل والدين صعودا ونزولا دون تنبيه من ناقليها على اختصاص هذه الحرب بدين تلك البلاد صاحبة هذه الفلسفات وهو المسيحية التي لا تلتئم مع العقل.
أما عن موقف ملاحدة الشرق من نظرة الاسلام والمسيحية الى العقل , فانهم فريقان:
الفريق الاول : يجهل الفرق فيما بين الاسلام والمسيحية , ويتمسك بالعقل عند الازدراء بالإسلام , تماما مثل موقف ملاحدة الغرب من دينهم..
والفريق الثاني: يعرف الفرق بينهما , ويدرك تماما أن الاسلام وحده هو الذى يتفق مع العقل دون المسيحية التي تصادمه, ومن ثم فانهم يستخدمون العلم التجريبي سلاحا يقاومون به كل الأديان , ومنها الاسلام في حربهم الظاهرة أو الخفية ضدها ويستهينون بالعقل والمنطق اللذين نستمد منهما تأييدا لأصول الدين الإسلامي.

ومما يعجب له أن الفريق الأخير من ملاحدة الشرق يستفيد كثيرا من مساعي أنصار الدين المسيحي للحط من شأن العقل دفاعا عن الدين, فيسلكون هم نفس الطريق , ولكن توسلا لاعتناقهم الالحاد وتبريرا له, وليس للدفاع عن اسلامهم كما يدافع النصارى عن نصرانيتهم..

وهؤلاء الملاحدة لا يألون جهدا في تقليد الغرب اللادينى, والغرب المسيحي على السواء في مؤلفاتهم التي تجل عن الحصر , والتي يقف أمامها القارئ الشرقي مشتت البال . لما فيها من أفكار ينقلها ((سماسرة الغرب منا الى الشرق, كما وجدوها في محلها))(2)دون نقد لفلاسفة الغرب المنقول لهم وعنهم, مهما ابتعدوا في آرائهم ومفاهيمهم, الا من تعرض منهم لنقد الغرب, وذلك لسببين:
1- أن الشرقيين الجدد – تلامذة الغرب – المذعنين, تنازلوا مع اذعانهم هذا عن استغلالهم الفكري , تنازلهم عن استقلالهم السياسي , مع سعيهم لاسترداد الأخير دون الأول , ولعل السبب في ((عدم نجاحهم في استرداد ما تعودوا السعي له , عدم سعيهم فيما لم يتعودوا له السعي)).
2- والسبب الأخر : أن أساتذتهم من فلاسفة الغرب يكثر فيهم, لاسيما في مشاهيرهم, من قضوا أولا على العقل والمنطق , فلم يتركوا لمقلديهم من تلامذة الشرق شيئا من عقل أو منطق ينقذونهم به.

ويسجل الشيخ مصطفى صبري الفضل لأهله في هذه العاصفة العاتية من الغرب على الشرق, فيذكر بالثناء والاعجاب ما رآه من الأستاذ العقاد في كتابه ((الله)) من استقلال الرأي , وينقل عنه كلمات يرى أنها ((في غاية النفاسة تقوم مقام بعض الكفارة تخبطات الكتاب المصريين مغترفين عن مناهل الغرب العلمية بالتقليد المحض)), ثم يقارن بين قوة السلف مع فلسفة اليونان المنقولة اليهم ترجمة, وضعف الخلف مع فلسفة الغرب, فيقرر أنه لم يكن هناك سماسرة من الناقلين الناقلين للفلسفة اليونانية, يروجون الغث والثمين في ذلك الوقت من بضائع اليونان, كما لم تكن هناك عقول مستعارة , ولذا فقد أخذ المسلمون حينئذ ما ينفعهم وردوا ما يضرهم على أصحابه , ((وحاججناهم فحججناهم)) فلو قارنا ما فعله السلف من علماء الاسلام عند عرض الفلسفات اليونانية, وكان زخارفها وجدتها المغربة, ولكن كان للآخرين استقلال عقولهم – لو قارنا ما فعله السلف مع الفلسفة اليونانية بما فعل الخلف مع فلسفة الغرب لوجدنا الفرق هائلا بين قوة السلف و ضعف الخلف.., فلم يكن فضل الأولين على الآخرين في أخذ ما يستحق الأخذ وطرح سواه ونبذه ومكافحته فحسب , بل (( في تمليك ما أخذوه لأنفسهم بأن مزجوه بما عندهم , وكونوا منه علما مستقلا أسموه ((علم الكلام)) وأقاموه مقام فلسفة الاسلام, فهذا العلم الذى هو ملك خاص لنا والمستعد للزود عن الدين تجاه كل فلسفة مضادة له – محصول اتصال السلف من علماء الاسلام بفلسفة اليونان))(3). فهل للخلف من المسلمين بعد اتصالهم بفلسفة الغرب كسب للإسلام يستحق أن يسمى علما مدونا يستطيع مصارعة نفس تلك الفلسفة , كما استطاع السلف مصارعة الفلسفة اليونانية في ((علم الكلام))..؟!

انه لا يوجد حتى ولا شعبة واحدة من ((العلم المدون)) أو مسألة واحدة من المسائل العلمية تكون سلاحا في أيدينا ندافع به عن ديننا عند الحاجة, أو نصل الى حقيقة من الحقائق العالية.., دع السلاح المكسوب من فلسفة الغرب لمصلحتنا, ففيها سهام تصيبنا في مقاتلنا من العقائد الدينية , وقد تركها ناقلوها تفعل فعلها الهدام في قلوب الناس)).
(1) موقف العقل : ص 90,91/2..
(2) موقف العقل : ص 112/2..
(3) موقف العقل : ص 113/2.. وهذا رأى شيخ الاسلام في علم الكلام, وله بصدده حديث يضيق عنه المقام.

hameed gaber
02-25-2014, 01:02 PM
الاثبات العقلي لوجود الله بين الاسلام والمسيحية:

من الخير لعلماء الغرب المسحيين الابتعاد بدينهم عن العقل الذى لا يطمئن لغير الحجة المنطقية , والتي لا يجدها في المسيحية المحرفة بخلاف دين الاسلام الذى يتطلب أساسا عقليا متينا وحجة منطقية قوية مما حدا بعلماء الاسلام المتكلمين أن يقيموا أصول الدين على الأدلة العقلية ..

وقضية الألوهية أظهر القضايا التي تبرز فيها مناوأة المسيحية للعقل, ونستدل لذلك بنص لأشهر فيلسوف إنجليزي في القرن التاسع عشر (( هيربرت سبنسر)) يقول فيه:

((... أما الدين فخير له أن يترك هذا العقل العنيد الذى لا يطمئن لغير الحجة المنطقية – خير له أن يترك هذا العقل وأن يناشد العقيدة من الانسان ؛ لأن من طبعها ألا تلزم بالحجة العقلية قل للعلم أن يكف عن اثبات الله أو انكاره فليس اللاهوت ميدانه الذى يصول فيه ويجول , وقل للدين أن يكف عن مناشدة العقل, لأنه لا يستقيم مع نهجه في التفكير . والدين والعلم وجهان متصافحان لكل منهما حلبة ومجال)) (1).

وهكذا يجعل ((سبنسر)) قضية الألوهية قضية وجدانية بحتة بعيدة عن نطاق العقل , وخارجة عن حدود العلم .. أما الاسلام فانه يتقدم بالحل الإسلامي العقلي لمشكلة الألوهية, فيقرر الاعتراف بوجود واحد موجود بذاته من الأزل الى الأبد غير محتاج الى موجد , مع عدم الاعتراف بوجود ما سواه الا محتاجا الى الموجد , وهذا الحل الإسلامي الوسطى , لابد للعقل من قبوله, بل يضطر الى قبوله لأن الاسلام يعترف بوجود هذا الموجود الواحد اعترافا ضروريا في أعلى و أقصى درجات الاعتراف فيسميه ((واجب الوجود)) ثم لا يتطرق الى شيء من حقيقة هذا الوجود للواحد الواجب أو ذاته غير وجوب وجوده, واتصافه بجميع صفات الكمال وتنزهه عن شوائب النقص , ولا يعترف بما سواه من الموجودات الا على انه ممكن الوجود, وما شاعت الاستهانة بالعقل ودليله المنطقي بين مثقفي العصر في مصر – مع علو منزلته في الاسلام – الا لكون منابع اتصالاتهم بعلوم الغرب )) مشوبة ومعلومة بالعقلية المسيحية أكثر من العقلية الخالصة المتوجهة الى معرفة الحق ))(2).

وهذا العداء بين المسيحية والأدلة العقلية في قضية الألوهية قد حدا بالبعض من فلاسفة الغرب الذين لا يريدون مناوأة الدين, ويحاولون انقاذه من غلبة العقل – الى اختراع نوع من اليقين و الايمان أقاموه على الارادة لا العقل, وهذا اليقين الإرادي دفع بشراح فلسفة ((ديكارت)) الى محاولة التأليف بين منهج الشك لديه وايمانه القوى المعروف عنه.

وهذا الايمان أو الاعتقاد الإرادي الذى يكون فيه صاحبه مؤنا بإرادته ضد عقله – تقبله المسيحة وتحتضنه لاحتياجها اليه في التغلب على العقل الذى لا يتفق معها, والانتصار عليه., وهو جدير بان يسمى بالأيمان العنادي.

ولكن الاسلام يرفض هذا الايمان الإرادي؛ لأنه يحترم العقل لدرجة يجعله معها مناط التكليف الشرعي, ولأن عقيدة المؤمن لا تقبل منه الا اذا تخلص من الشك والارتياب: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا... }(3).ويأخذ مصطفى صبري على بعض المصريين قبولهم مثل هذا الايمان (4).

كما يأخذ على الفيلسوف ((ديكارت))(5) المشاركة في هذا لكونه نصرانيا قبل أن يكون فيلسوفا, ولذا قال: ((ولما كانت الحقائق الايمانية بطبيعتها غير مفهومة, فقد وجبا، تكون بعيدة عن متناول العقول, كما وجب أن تكون بعيدة عن الشك (6).

والارادة في الاسلام تنضم للعقل في الايمان , فموقف ذلك المعتقد بإرادته ضد عقله الذى يأمره بالشك أو الانكار جدير بألا يقبله الاسلام وعلماؤه, وجدير أيضا بأن يسمى بالموقف العنادي, لاسيما اذا كان الحق مع العقل الشاك, بل المنكر وليس المعتقد, ((مثل المسيحي الذى يتمرد على عقله ليؤمن بالإله المثلث... فلابد من انضمام الارادة للعقل مع الاسلام, حيث لا يكتفى فيه بمجرد التصور والتصديق العقليين بدون الاذعان والقبول.

غير أن الاجتماع في العقيدة الاسلامية انما يكون بين العقل والارادة المتفقة معه, ويرى ((ديكارت)) أنه مادام مؤمنا بالله ايمانا اراديا قويا,((يعنى ماسك نفسه بالعافية)) فان باستطاعته بالعقل الذى وهبه الله اياه أن يثير مسألة وجود الله كما يستطيع أن يشك في وجوده , دون أن يحصل عنده شك في عقيدته.

و من ثم فان فلسفة ((ديكارت)) تابي ثنائية العقل و الايمان, كما صرح بذلك ((بول زائه))الفيلسوف الفرنسي في كتابه ((المطالب والمذاهب)) في تاريخ الفلسفة من أن فلاسفة القرون الوسطى النصرانية, لما وجدوا الفلسفة اليونانية المنقولة اليهم قد تغلبت عليها الحسبانية (7) اضطروا الى ضم الاعتقاد الإرادي ركنا لنظرية اليقين لسد العجز عن الوصول اليه وبقائه في مرحلة الشك , غير ان هذه باءت بالفشل لاعترافها بثنائية العقل و الايمان المتضمنة هزيمة العقل أمام اليقين, ولما جاء ((ديكارت)) ألغى هذه الثنائية بين العقل والايمان, وأعاد الى العقل حقوقه وكرامته , حيث بنى اليقين على العقل..

ويشير مصطفى صبري بإزاء ذلك الانتصار لفلسفة (( ديكارت )) الى وجود خطأ في فهم فلسفة الشك الديكارتي المنقولة الى الثقافة المصرية , ويقرر أن شك ديكارت لم يكن وسيلة لمعرفة الحقيقة معرفة أدق وأكبر يقينا كما ذكر الدكتور عثمان أمين, بل كان شكه)(اعراضا عن العقل وجنوحا على رغمه الى قسر الارادة )) وليس في هذا معرفة الحقيقة في أي شكل من أشكالها؛ لأم المعرفة تستند الى العقل لا الارادة.

ويدفع الشيخ ماينقض رأيه هذا في الشك الديكارتي من القول السابق لديكارت الذى يقول فيه ((ولما كانت الحقائق الايمانية بطبيعتها غير مفهومة , فقد وجب أن تكون بعيدة عن متناول العقول ووجب أن تكون بعيدة عن الشك)) , فيرى أن هذا القول ليس من الفلسفة في شيء, وأن هذا القول قد صدر من ((ديكارت)) المسيحي المتأثر بالعقلية المسيحية المعتلة بعلة اهانه العقل والدعاية ضده , وليس بصادر عن ديكارت الفيلسوف الذى ألغى الثنائية بين الايمان والعقل انتصارا للقل واسترداداَ لكرامته.

والشيخ على اظهار العقلية النصرانية المعتلة في عدائها للعقل , ويبرز كثيرا من تأثيرها الضار , والذى يتمثل في تأثر الفيلسوف الألماني ((هيجل))(8) بمسيحتيه في هدم قانون التناقض الهام, لارتكاز دليلين من أدلة اثبات وجود الله عليه هما:
دليل التسلسل , ودليل الرجحان دون مرجح.., فان ((هيجل)) مع أنه من كبار فلاسفة مدرسة ((كانط))(9) الذى يعترف هو والفيلسوف ((هيوم))(10) , بالقطعية الضرورية للقضايا الرياضية – الا أنه أجاز الشك في كون (2×2=4), وأنكر استحالة اجتماع النقيضين, ويرى أن قانون التناقض الذى يقول به المنطق الشكلي القديم , والذى يقرر أن الشيء يستحيل أن يكون أو لا يكون في آن واحد, يجب عليه الآن أ، يزول؛ لأن الحقيقة العليا لديه تنسجم فيها المتناقضات, فكل شيء يكون موجودا وغير موجود في آن واحد؛ لأن الفكر يجتاز لديه ثلاث مراحل:
1- يبدأ بذاتية مجردة أي بإدراكه ذاته المفردة..
2- ثم ينتقل الى مجال يصادف فيه ما يناقضه ويعارضه..
3- ثم يخطو بعد ذلك الى الوحدة التي تضمه وتضم معه أضداده التي مر بها في مرحلته الثانية, وهذه الحركة الثلاثية لديه ليست قاصرة على الفكر , بل انها تتناول العالم بأسره, فالمنطق لديه أو الحقيقة أو بعبارة أوضح ((الله)) لدى هيجل يسلك هذه المراحل الثلاث:

اثبات الحقيقة لنفسها ثم تباينها ثانيا, ثم انسجامها مع غيرها مما يناقضها ثالثا(11).

ولعل السبب الذى دفع الرجل الى هذه الفلسفة المتجنية, التي تقصم ظهر العقل برفع الحاجز بين المحال و الممكن, وجعل الكل ممكنا – كونه مسيحيا قائلا بالتثليث والتوحيد وتحيزه لاتحاد الواحد مع لثلاثة , وهذا صحيح الى حد كبير جدا ؛ لأنه يفهم من قول صريح لهيجل في هذا الشأن حيث يثول: (( ... وأخيرا جاءت المسيحية, وهى تلك الديانة التي هبط بها الوحى, والتي تناقض عبادة الطبيعة , وعبادة الانسانية كليهما:هى اتحاد الواحد والكثير, هي تناسق الجمال والجلال والقوة, وهى التوفيق بين الضرورة والحرية , وقد بلغت المسيحية أسمى فكرة عن الله ؛ لأنها تتصور الاله قد خرج من نفسه. ثم تجسد في النسان, ثم عاد الى نفسه مرة أخرى, ان في المسيحة ذلك السر العجيب , الذى يلائم بين النهائي واللانهائي بين الانسان وخالقه, ولقد تم ذلك التوفيق بين الضدين في شخص المسيح؛ لأنه انسان الهى))(12).
وعلى أثر فسدت فلسفة الغرب وزال منها قانون التناقض الذى قال به المنطق الشكلي القديم وتجلى هذا الفساد في :
1- انهيار كل ما يتمسك به العقل البشرى للتوصل بما يعلمه الى ما لا يعلمه..
2- انهيار المعلوم علما ضروريا لا يحتمل النقيض لدى الانسان..

والطامة الكبرى التي تنجم عن النقض الهيجلى لهذا القانون, الذى لو زال وجاز التناقض بزواله, ولم يبق في الدنيا محال.. كما توهم هيجل غاية التوهم- أنه لن يثبت وجود الله؛ لأن كافة العلوم الحديثة كما – يزعمون – حتى الرياضيات الدقيقة أصبحت علوم نسبية تقنع برجحان كفة الاحتمال دون أن تطلب حقيقة مطلقة وانحصرت الفلسفة العليا في القول ((بأن الحقيقة غلطة ناجحة الغلط حقيقة فاشلة)), حيث أدرك العلم استحالة التناقض وارتفع المحال والواجب , وكان كل شيء ممكنا, لكنت النتيجة السابقة : عدم ثبوت وجود الله..

هذا ولو نظرنا الى قضية الألوهية في الاسلام , فإننا نجدها تهدم فلسفة ((هيجل)) و أتباعه من فلاسفة الغرب, فمن المسلم به أ، مقام العق في الاسلام تابع لمقام الدين عكس المسيحية, فمقام العقل محفوظ عندنا حفظا لمقام الدين بخلاف دين الغرب وعقله المتضادين..

فمسألة وجود الله التي لا تقبل الشك بطابعها المعروف بين علماء الاسلام – وهو مسألة اثبات الواجب – تقتضى أن يكون الله واجب الوجود, أما ما لا يبلغ وجوده مرتبة الوجوب فلن يكون هو الله , وهذه القضية المسلمة تخرق أبحاث العلوم الحديثة المصدقة لفلسفة هيجل الجنونية النافية للحقيقة المطلقة تخرقها خرقا, وتكون مثلا أعلى من القضايا الضرورية النافية, التي انفتح لها السبيل الى الضرورة ؛ بفضل قضيتنا الالهية , وانفرجت المسافة بين الحال و الممكن.
__________________
(1) قصة الفلسفة الحديثة : د. زكى نجيب محمود , و أحمد أمين ص 313,314/2, وانظر موقف العقل :ص 121,122/2..
(2) موقف العقل : ص 102/2..
(3) الحجرات: من الآية 15.
(4) يشير شيخ الاسلام هنا الى الشيخ المراغى في موقفه السابق من علاقة الدين بالعقل مع أنه يعتذر له ويعلل قبوله مثل هذا الايمان بغلبة الثقافة المصرية التابعة آنذاك لثقافة الغرب النصرانية وسيطرتها على علماء الأزهر ومنهم الشيخ المراغى .. ويشير أيضا الى الدكتور عثمان أمين الذى تأثر بفلسفة الغرب المسيحي , فقال بجواز أن يكون الانسان معتقدا بإرادته شيئا لا يعتقده ولا يصدقه ولا يعقله, وذلك بالنسبة للعامة المقلدين في عقائدهم, غير الباحثين بأذهانهم عن صحة ما اعتقدوه , أما الايمان العقلي فهو من خصائص الباحثين لديه .
(5) فيلسوف وعالم رياضيات فرنسي (1596 - 1650) مال الى الدراسات الرياضية بعد أن مل الدراسات الفلسفة لعدم عثوره فيها على اليقين الذى كان يطمح اليه, وأعجب بدقة الرياضيات واحكام براهينها, ومن أشهر كتبه ((مقال في المنهج))عام 1736, وكتاب (( مبادئ الفلسفة)) عام 1644, كما اشتهر بالدليل الأنطولوجي ومنهج الشك , وكان ديكارت شديد الثقة بنفسه طموحا يراوده أن يحل محل أرسطو.
(6) موقف العقل : ص 100,101/2..
(7) الحسبانية : فلسفة الشك المتنافي مع اليقين..
(8) الفيلسوف الألماني: (1770-1831) جورج ويليام فريدريك هيجل فيلسوف ألماني. يعتبر هيغل أحد أهم الفلاسفة الألمان حيث يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي., طبعت مؤلفاته بعد وفاته في ثمانية عشر مجلدا, وهو لا يؤمن باله مفارق , لكنه يعتقد أن القوة التي تعمل على تطوير شكل الكون وتشكيل الانسان يمكن أن تتسمى بآخر صورة تتبدى عليها..
(9) الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: (1724 - 1804 ) كان أبواه من أصل اسكتلندي , استمر يدرس الفلسفة ثنتين و اربعين عاما وعاش ثمانين عاما قضاها في مدينة واحدة, فكانت حياته منظمة كالآلة وعمل مدرسا للفلسفة.. ولفلسفته مرحلتان :
ما قبل 1770 وتسمى مرحلة ما قبل النقدية , وما بعد 1770 وتسمى مرحلة النقدية.. فلسفته هي المثالية النقدية أي أنها فلسفة مثالية تقوم على نقد الفلسفة العقلية ومن أشهر كتبه ((نقد العقل النظري))
(10) الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم: ( 1711 – 1776) ولد في أنبره واتجه لدراسة القانون ثم عزف عنه وترك الجامعة لقراءة الفلسفة خارجها, ونال شهرته التي سعى اليها بمقالاته وكتبه في السياسة والتاريخ والاقتصاد, وكان ملحدا عدوه الأول هو الدين بخاصة والميتافيزيقا بعامة, وهو ينكر وجود العقل والذات , ولا يعترف الا بالإدراكات الحسية , كما ينكر المعجزات كمبرر لبناء نسق ديني.., ويسمى الحاده الحادا فلسفيا بمعنى أنه يشك في وجود اله وأن وجوده لا يزيد عن كونه محتملا ؛ لأن زعم وجوده لا يفيد المعرفة في شيء, ومن ثم فانه ينكر البعث بكل ما فيه ويجعله خرافة , ومن أكثر من تأثر به من معاصريه كانط, وتوماس ريد..
(11) قصة الفلسفة الحديثة / 242 – 244/2, وانظر موقف العقل ص 124,125/2.. ولقد نقل شيخ الاسلام عن قصة الفلسفة ما يفهم منه أنه نص لهيجل , بينما الحقيقة أنه توضيح من المؤلفين يمثل رأيهما في هيجل..
(12) قصة الفلسفة الحديثة: ص 254/2, وانظر موقف العقل : ص 128/2..

hameed gaber
02-25-2014, 01:04 PM
الدفاع عن العقل دفاعا عن الدين:

نذر مصطفى صبري نفسه للدفاع عن العقل دفاعا مستميتا ضد المعارضين له من الملاحدة, ومن تبعوهم من الذين يدعون مناوأة الدين للعقل , وهو اذ ينتصر للعقل انما هو في الواقع ينتصر للدين, وهذا الدفاع يرتضيه الشيخ ويكتفى به شرفا له يفاخر به حيث يقول: (( ومن حسن حظنا في موقف المعارضة للملاحدة أن يكون العقل معنا ندافع عنه ويدافع عنا , فلو لم يكن لنا في كسب المطالب الأربعة, ولا سيما المطلب الأول منها ... الا كوننا في موقف الدفاع عن العقل , وخصومنا في موقف الحط من شأنه لكفانا))(1).

فلا صحة أصلا لما رمى به الدين من كون قواعده مبنية على التسليم بما ورد في الكتب المقدسة من غير فحص لأصولها ؛ لأن أصول الدين تتفق مع العقل بدرجة أدت الى اضطراب خصوم العقل والدين, ومغالطاتهم حيث لم توائمهم الجرأة على وضع العقل لا يتفق مع أساسات الدين ؛ ليوهموا الغير كأن العقل معهم في خلافهم مع أهل الدين.

وخصوم الدين عندما أدعوا العداء بين الدين من جانب, والعقل والعلم من جانب آخر, يقيدون مفهوم العلم لديهم بالعلم لديهم بالعم الحديث المثبت لقيامه على التجربة والحس, حتى ان اطلقوه دون تقييد فاعتمادا على وضوح هذا المفهوم وشهرته واستقراره لديهم, والسبب وراء هذا القيد الذى التزموه ,أن العقل لا يساعدهم في مناوأة الدين, وكذلك العلم القديم المبنى على العقل المحض..

فأهل الدين لا يعوزهم الدليل العقلي , ولكن لما قام علماؤهم من المسلمين وغيرهم بإسناد مسألة وجود الله الى براهين عقلية, تشبت معارضوهم بأذيال العلم الحديث المبنى على التجربة الحسية , وأغفلوا العقل, فظهر من ذلك أن الجمع بين العقل والعلم الحديث في مناوأة الدين خبط وخلط واضحان , ويقرر شيخ الاسلام في أسى أنه لا شيء أعجب في الدنيا من الخلاف القائم على الدوام بين الالهيين والملاحدة؛ لأنه توجد مسألة في الدنيا أيضا يقوم فيها العقل بتأييد أحد الطرفين المتنازعين ضد الأخر , أكثر من تأييده لمثبتي وجود الله ضد نفاثه..

وبات واضحا من هذه التدقيقات, أن العقل أول ناصر للدين, وأن الدين لا يختلف مع العقل , وأن وجود الله الذى هو أساس الدين مبنى على برهان العقل(2)..

وجود الله ضرورة عقلية :

اذا كان قد ثبت لدى العلماء بطلان الاحتمالات الثلاثة المتقدمة على مشكلة الوجود:
- بأن يكون العالم واجب الوجود فيستغنى بنفسه عن الخالق..
- أو يستغنى عنه باستناده الى الطبيعة في وجوده ..
- أو يستغنى عنه باستناده في وجوده الى موجود مثله.. تفسير(( 1- ان الكون موجود من غير أي شيء جاء وحده من نفسه 2- ان لكون مخلوق من مخلوق وهكذا .. مثله 3- يكون الكون لازما يكون موجود ازلى ليس له بداية ))

فانه لا يبقى الا الحل الوحيد لمشكلة الوجود والتفسير الصحيح لوجود العلم والجدير بإيضاح فلسفة الكون ايضاحا معقولا لا يتخلله شيء من المحالات الباطلة وهو:
أن تكون جميع الموجودات محتاجة حتما الى موجود ضروري واحد يجب وجوده, ويمكن لما عداه الوجود أو العدم مستندا اليه سبحانه في وجوده..

وعلى هذا فوجود الله عز وجل ضرورة يحتمها العقل, ولا قضية لنا أصلا مع الملاحدة, محددة بوجود موجود اسمه ((الله)), بل قضيتنا معهم هي : حل مشكلة هذا الكون, و لغز الوجود فيه , وتقديم تفسير معقول لفلسفة هذا الكون, وتبرير وجوده, فهذا العالم المشحون بالموجودات الممكنة الوجود في حاجة الى موجد ليس من جنسه يقضى حاجته, ولا يحتاج في وجوده الى شيء , والا بقيت حاجة العالم غير مقضية..
وقضيتنا نحن – المؤمنين بالله – وجود موجود واجب الوجود, ايضاحا وتصحيحا لموقف العالم المشهود في حاجة الى علة للوجود, فان الاله الأزلي القديم غنى بقدمه وأزليته عن التعليل, ولا وجه لمعترض في اعتراضه,, ولا حق لمتطاول على مقام الألوهية ؛ لأننا نحن المؤمنين- الملتزمين بوضع فلسفة معقولة تفسيرا لنشأة هذا الكون – لا يمكننا انكار وجوده بأن نقول:

انه ليس بموجود في غير أذهاننا, أو لا ندرى يقينا هل هو موجود أو غير موجود, كما قال بالأمرين معا بعض فلاسفة الغرب, ولا يمكننا أن نتصور وجود هذا البناء العظيم من غير بان بناه, وصاحب يهيمن عليه, وبإزاء ذلك نحن مضطرون الى القول بنوعين من الوجود:
أحدهما – هذا الكون المشهود المحتاج الى العلة موجدة..
والثاني – ما يصلح أن يكون تلك العلة الموجدة..

فالكون المشهود.. ضرورة شهود وجود ويسمى ممكنا , أي سبب مسلوب الضرورة عن وجوده وعدمه, فيقبلهما على حسب ارادة الموجد.

وموجده.. ضرورة احتياج المشهود الى علة الوجود , ويسمى واجبا لضرورة وجوده واستحالة عدمه ,نؤمن به دون حاجتنا الى رؤيته رؤية مادية أو تعيين شخصه وماهيته, وثبوت وجود الله يعنى : استحالة عدم وجوده , وذلك بكونه واجب الوجود, حتى لا يكون احتمال وجوده مرجحا على احتمال عدمه, فما لا يكون واجب الوجود فهو غير جدير بأن يكون ((الله))... وهذه حقيقة مطلقة ضرورية , يجد العقل نفسه مضطرا الى الاقتناع بها, دون غيرها من المسائل .. ضرورة استناد كل موجود محتاج في وجوده الى موجد غير محتاج؛ وحتى لا يلزم التسلسل الى استناد المحتاج الى المحتاج..

ووجود الله لا يكون دون الواجب , فلا يكفى في ايمان المرء بالله , أن يكون موجودا في ظنه الغالب, دون أيكون واجب الوجود؛ ان لم يكن واجب الوجود لكان من الممكنات حيث لا واسطة بين الواجب والممكن(3), ولو كان ممكنا لكان محتاجا كغير من الممكنات, ولا نتقضت الضرورة التي سلمنا فيها بوجود الله وجودا واجبا مخالفا سائر الكائنات الممكنة قطعا لسلسلة العلل الممكنة المحتاجة الى علة, كما قال أحد العلماء:
الهنا واجب لولاه ما انقطعت آحاد سلسلة حفت بإمكان(4)
وهذ الموجود لا تنساق اليه العقول لتسأل من أوجده ؟!

ووجود الله لا يكون فوق الممكن فحسب ودون الواجب؛ لأن هذا القدر لا يكفى في عقيدة المؤمنين بدرجة يكون بها وجوده راجحا على عدمه, وان لم يكن واجبا ضروريا؛ وذلك لآن رجحان وجود الله على عدمه بمعنى أن في ذاته مرجحا لجانب الوجود يغنيه عن العلة الموجودة , فهذا هو وجوب الوجود بعينه...

أما اذا كان رجحان وجود الله بمعنى احتمال العدم, ولو احتمالا مرجوحا سواء أكان شيء من نفسه أو خارج عنه, فلا يليق به سبحانه ؛ لأن احتمال عدمه, ان كان ناشئ من نفسه , لزم أن يكون الله راجح الوجود من نفسه , وراجح العدم من نفسه أيضا, وهذا تناقض, وان كان احتمال عدمه بسبب خارج عنه, كان هذا السبب مانعا من وجوده..
ورجحان الوجود لله بصفة عامة.. مرتبة ضعيفة لا تتناسب مع المعلول الموجود المقطوع بوجوده واحتياجه الى الايجاد..
واذا كان لا يكتفى في جانب الله عز وجل أن يكون وجوده فوق الممكن ودون الواجب , فانه لا يكون الا واجبا وضروريا لتفادى محالين:

الأول – لزوم الرجحان دون مرجح في وجود العالم الممكن وجوده وعدمه سواء بالنسبة الى ذاته, ولو لم تكن له علة موجدة..
الثاني – لزوم التسلسل في العلل الموجدة , ان كانت للعالم علة موجدة غير واجبة الوجود واذا كان القول بوجود الله ضروريا كان وجوده ((حقيقة مطلقة)), لا يحوم حولها شك, وهذه الحقيقة المطلقة أو الضرورة المطلقة هي أعلى مراتب الضرورة بشرط المحمول**تفسير ميسر**مثل بطلان التناقض و وجود الله ,وامتناع الشريك .

ومن ثم فان مصطفى صبري يرفض قول بعض فلاسفة الغرب في العهد الأخير – عهد افلاس الفلسفة الغربية – مثل ((هيجل)) بأن العلم أدرك باستحالة الحقيقة المطلقة .

فهؤلاء نفاه للحقيقة المطلقة يكتفون بالاحتمال الراجح في كل شيء , وان قالوا بوجود الله, (( فهم يقولون به في غفلة عن تنافى قولهم هذا مع مذهبهم ذاك)) لأن القول بوجود الله حقيقة مطلقة لا يقبل أدنى شبهة في وجوب وجوده, ولا يكفى فيه رجحان وجوده على احتمال عدمه..

وهؤلاء الفحول من فلاسفة الغرب المتأخرين مثل: ((هيجل)) و ((كانط)) مهما قالوا بوجود الله , وأقاموا عليهم أدلتهم , فانهم لا يعترفون بوجوده كضرورة حتمية , وحقيقة مطلقة , ولا تؤدى أدلتهم الى تلك الضرورة , كما هو الحال عندنا – نحن المسلمين – للتناقضين السابقين : الرجحان بدون مرجح والتسلسل؛ لهدم قانون التناقض على أيديهم, وزوال كل ضرورة وحقيقة مطلقة(5)00 ويظل وجود الله لديهم محصورا في دائرة احتمال وجوده راجحا على لاحتمال عدمه, ((ومثله ليس بالله الذى ننشده, بل ولا بالذي ينشده أصحاب العقول المتزنة من فلاسفة الغرب؛ لأن الله تعالى هو المطلق وهو الأكمل))(6).

وهذه الضرورة الحتمية والحقيقة المطلقة, لا تقوم مقام المرجح لوجود الله, فوجوده سبحانه بدون موجد يسلم من محظور الرجحان بدون مرجح الذى لوحظ في فرض وجود العالم من غير علة موجدة , فلم تكن الحاجة الضرورية لوجود الله مرجحة لهذا الوجود أو كافية له عن الحاجة الى مرجح؛ لأن في هذا ايهام بان وجود الله مثل سائر الموجودات, حدث بعد أن لم يكن, فوجود الله غنى الايجاد, لا عن المرجح فقط؛ لوجوده عز وجل منذ الأزل فلا بداية لوجوده , كما أنه لانهاية له..
وحين يبرز الفيلسوف ((سبنسر)) في الساحة, ليطرح تساؤله على لسان طفل فيقول معبرا عن فلسفته: (ومن أوجد الله؟), ومعنى هذا التساؤل: كيف يلزم المحال – الرجحان دون مرجح – اذ لم تكن للعالم علة موجدة هي الله ولا يلزم هذا المحال اذا قلنا ليس لله موجد ؟ فان هذه الشبهة تدفع بوجود الفارق العظيم بين العالم الموجود من غير ضرورة, ووجد الله الذى هو ضرورة حتمية لتفسير وجود العالم, فهذا التساؤل ليس بشيء اطلاقا, فالله لا يوجد لكنه موجود لم يسبق عدم, والسؤال عن الموجد انما يتصور في الوجود بعدم العدم ...
*** تحذير ارجوكم لا احد يدخل عقله في اشياء هو مش قدها ***

ولعل الفيلسوف ((سبنسر)) بهذا التساؤل عمن أوجد الله, قد صعب عليه الاعتراف بوجود موجود واحد, يمتاز عن جميع الموجودات بعدم حاجته الى الموجد لعدم امكان المعرفة بذات الله وحقيقته, ولعل هذا السبب أيضا في الحاد من ألحد من فلاسفة الغرب الذين التبس عليهم العلم بوجود الله مع عدم العلم بحقيقته, فجرهم التوقف في هذا الى التوقف ذاك , في الوقت الذى نجا فيه علماء الاسلام من هذا الالتباس .

هذا فضلا عن أن موجد الموجودات الواجب الوجود , لا يحتاج هو نفسه الى موجد حين احتاجت اليه تلك الموجودات, وهذا الامتياز – (( وجوب الوجود والاستغناء عن الموجد ... لموجد الكائنات دون هذه الكائنات)) – يشق على العقول, لكنا نقول به, لئلا يكون موجد هذه الكائنات من جنس هؤلاء المحتاجين فلا يستكثر على خالق الكائنات وحده هذا الامتياز العظيم, الذى لا يشاركه فيه غيره, بل يتفرد به وحده, وذلك حتى لا يصير الأمر – لو قلنا بعدم امتيازه – الى التسلسل في علل ايجاده, وابطال التسلسل له حديث مرصود يقنع كل مرتاب(7)

فالعاقل مضطر الى الاعتراف بموجد واحد بدون علة كاضطراره الى الاعتراف بعدم وجود ما عداه بدونها , حتى تستند عقيدة المؤمن الى هذين الاعترافين المختلفين ايجابا وسلبا, لا تتم فلسفة الكون بدونهما ولا تستقيم الا بهما..
أما توقف المؤمن دون هذين الاعترافين:

- بتجويز وجود العالم بذاته من دون حاجة الى موجد, مع عدم صلاحيته لذلك كما فعل ((سبنسر)).
- أو بتجويز وجود العالم مستندا الى موجد حادث مثله, مما يلزم عنه التسلسل في العلل الحادثة فهذا أمر محال باطل ؛ لأن كل الاحتمالين مخالف للمبادئ المركوزة في فطرة الذهن البشرى..

وأصحاب الفلسفة ان أمكنهم تنزيل قيمة أي حقيقة يقينية ثابتة الى ما دون الضرورة المطلقة, فلن يمكنهم تنزيل قيمة وجود الله عن درجته العليا؛ لأنه لا يوجد شيء يستحق ضرورة الثبوت استحقاق وجود الله لها, وكأن هذه الضرورة ماهيته , ولا نعرف نحن له ماهية غيرها تعالى متباينة مع الشك فيه؛ لأن وجوده لا يقبل التنزيل عن درجة الوجوب والضرورة الحتمية والحقيقة المطلقة..

ووجود الله هو الحقيقة المطلقة الوحيدة, التي لا تقبل الشك, كما قال ((ديكارت)): ((أن الله مبدأ العلم , كما هو مبدأ الوجود)) وكما قال الشاعر مخاطبا ربه:
((ان الشك هو أكبر أعدائك))(8), بل ان الله تعالى هو أكبر أعداء الشك , وعدوه الوحيد, ولذا تنهار دعوى احتكار اطلاق اسم العلم بمعنى اليقين على القضايا المستندة الى التجربة دون القضايا المستندة الى الأدلة العقلية ؛لأن ذلك احتكار الملاحدة القائلين بأن العلم لا يثبت وجود الله ولا ينفيه, لخروجه عن متناول التجربة وثبت أن العلم بوجود الله في رأس العلوم اليقينية, لعدم قبوله الشك بطابعه الخاص أي وجوب الوجود؛ لقضاء حاجة العالم – بطابعه الممكن الوجود – الى الموجد..

((فمن كان واجب الوجود, قاضيا لحاجة العالم المشهود , مستغنيا بطابعه الممتاز عن مثل تلك الحاجة, فهو الذى يخرق مذهب الشك في كل شيء, ونفى اليقين عن كل شيء, يخرقه بوجوب وجوده اللازم لوجود العالم, وتكون سائر اليقينيات مدينة له))(9).

وربما يطيب لنا أن نتساءل هنا في هذا المقام: ألا ترد شبهة قهر عقلي بإزاء وجود الله نتيجة الاستغراق في الاستدلال العقلي وعندما نستخدم المصطلحات الفلسفية والكلامية: الوجوب, والضرورة والحتم وغيرها , مهما توفر من حسن النوايا ونبل المقاصد من وراء هذا الاستغراق لدى العلماء في القديم والحديث؟..

ألا يكفى أن نعبر عن وجود الله سبحانه وتعالى بالوجود الأزلي , الدائم , الأبدي. كم هو شاق على نفس المؤمن أن يصل البحث في اثبات وجود الله الى هذا الحد من الجدل العقلي المنطقي والذى بلغ فيه علماء الكلام شأوا بعيدا , حتى ولو كانت الحاجة اليه دفع الحاد , أو درء شبهة , فوجوده سبحانه حقيقة فطرية قلبية و عقلية معا ساطعة اليقين, دونها سطوع الشمس أو ما فوقها مما يعلمه الله سبحانه وتعالى...

{...فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...} : وفى كلا الحالتين فالله هو الغنى الحميد لا ينفعه ايمان, ولا يضره كفر {...وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين}, {...وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} , {ومن كفر فلا يحزنك كفره...}(10).

هذا وبعض المفكرين المسلمين يقترب من المنهج القرآني التأملي التدبري حين يجعل من مسألة وجود الله مسألة ((وعى)) قبل كل شيء , فالأنسان لا يخلو من وعى يقيني بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية, ووعى يقيني وادراك للوجود الأعظم وحقيقة الكون الكبرى, والوعى والعقل لا يتناقضان, وان كان الأول أعم من الثاني في الادراك , وأعمق منه وأعرق, وهذا الوعى الكوني المركب في طبيعة الانسان بما في الكون من جمال ونظام وأسرار , وألغاز وغيوب هو مصدر الايمان بالحقيقة الكبرى التي تحيط بكل موجود : ((الله)) عز وجل, واذا رجعنا الى تاريخ الايمان البشرى وجدنا اعتماد الانسان على الوعى الكوني أعظم بكثير من اعتماده على القضايا المنطقية والبراهين العقلية, حتى ان صاحب الوعى والادراك اليقيني لينصت خاشعا الى ذرات الدقيق في حبة القمح تسبح الخالق جل وعلا: سبحان من جعلني غذاء لفلان من الناس دون فلان(11)..!!

هذا ولا يسعني بعد أن أبديت تحفظي على الوسيلة, الا أن أقف بكل رحابة صدر وتقدير و اعجاب الى جانب مصطفى صبري, متفقا معه في الغاية التي من أجلها عقد الحديث عن موقف العقل من وجود الله – وهو يسجلها بقوله: (( قد تبين لنا مما أفضنا الحديث فيه, أن العقل حليف الدين , وأول نصير له , وفيه يجد أساس الدين الذى هو وجود الله حجة وبرهانا, يؤيسان الملاحدة ويندمانهم على قولهم بأن الدين لا يتفق مع العقل, ثم يجعلانهم ينقلبون ضد العقل, ويحاولون الحط من مكانه عند أولى النهى, مدعين أن العقل لا يكون اثباته للشيء اثباته علميا, وانما الاثبات العلمي يستند الى التجربة والمشاهدة)), فيحدثون بذلك نوع من الخصام أو على الأقل مفاضلة بين العقل والعلم , ولكن العقل الذى أكتشف العلوم و أدركها, ولم يدرك العلم بعد ماهية العقل – يعرف الغالب في هذه المفاضلة., وبهذا يجلى لنا شيخ الاسلام شهادة العقل بوجود الله الذى هو أساس الدين مع أول ما شهد بوجوده من المحسوسات, ويكشف بذلك الغطاء عن عيون المشغوفين بالمحسوس والمعرضين عن المعقول(12).
____________________
(1) المطالب الأربعة التي يشير اليها الشيخ هي المواقف التي رصدها للبحث, وهو بالترتيب موقف العقل من الدين, وموقف العلم من الدين, وموقف العلم من العقل , وموقف التجربة من الدين ومحصلة المواقف اثبات وجود الله. انظر موقف العقل.. ص68/2..
(2) موقف العقل: ص 72,73,89,90,/2..
(3) لكل من الموجود والمعدوم درجتان من الوجوب والامكان:
1- الموجود الواجب: الله .. فوجوده ضرورى لذاته..
2- الموجود الممكن: العالم. فلا ضرورة لوجوده في حد ذاته الا بعد ارادة الله وجوده, فيسمى وجوبا بالغير وضرورة شروط المحمول
3- المعدوم الواجب: التناقض , وشريك الباري جلا وعلا..
4- المعدوم الممكن: العنقاء.. فلا ضرورة لعدمها ويشير الشيخ الى وجود درجة واحدة للجميع لدى فحول فلاسفة الغرب المتأخرين قبل ((هيجل )) و ((كانط)) وهى الممكن.. بلا فرق واضح بين الموجود والمعدوم , لاستيلاء الشك على عقولهم , ويقينهم غير ضروري كعدمه..
(4) من المنظومة النونية لخضر بك التركي أستاذ محمد الفاتح العثماني.
(5) ينكر ((هيجل)) قانون التناقض, وينفى وجود الحقيقة المطلقة, والفيلسوف ((كانط)) وان لم ينكر ما أنكر ((هيجل)) صراحة , الا أن مذهبه ينطوي على يتفق مع قول ((هيجل)) في هدم التناقض.
(6) موقف العقل: ص 130,136/2..
(7) انظر ابطال التسلسل تفصيلا في مخطوط: ((موقف مصطفى صبري من القضايا الكلامية والفلسفية في العصر الحديث)) رسالة دكتوراه للمؤلف بدار العلوم.
(8) شاعر الترك الكبير: توفيق فكرت..
(9) موقف العقل..ص117,134,135/2..
(10) الآيات القرآنية بالترتيب: الكهف من الآية 29 – آل عمران: من الآية 97 – لقمان: من الآية 12 – لقمان: من الآية 23..
(11) الأستاذ عباس العقاد في كتابه ((الله)) من ص 212 – 215 ..
(12) انظر: - مشكلة الألوهية .. للدكتور محمد غلاب: من ص 40 – 53 .
- موقف العقل.. لمصطفى صبري: ص 106,303/2.

hameed gaber
02-25-2014, 01:07 PM
موقف العلم من وجود الله

انتهينا من توضيح علاقة لاعقل بوجود الله تعالى الى نتيجة مهمة هي أن العقل يناصر وجود الله ويثبته ولا يتعارض معه, ولا يناوئه أدنى مناوأة , وأن أقوى الأدلة على وجود الله هي الأدلة العقلية؛ لأن وجود الله ووجوب هذا الوجود له ضرورة عقلية حتمية؛ ومن ثم كان فزع الموتورين خصوم الحق من أدلة العقل الناطقة بوجود الله, مشرعة في وجه الالحاد والملحدين, تخترق القلوب التي في الصدور, وقد حاول هؤلاء الملاحدة اثارة الشحناء والبغضاء بين العقل والعلم عن طريق التشكيك في الأدلة العقلية بدعوى أنها لا تفيد يقينا ولا تثبت الشيء اثباتا علميا؛ لأن الاثبات العلمي انما هو قاصر على العلوم التجريبية فحسب, وبما أن مفهوم العلم لديهم قد صار مقصورا على التجربة فقط, أو على الأقل انحصر مفهوم العلوم الصحيحة فيها. فالعلم بهذا المفهوم يبتعد كثيرا عن مسألة وجود الله؛ لأنها مسألة لا تخضع للتجربة – ومن ثم كان ذلك من وراء خوض بعض العلماء غمار البحث عن علاقة العلم بوجود الله استجلاء للحقيقة ووضعا للنقاط على الحروف..

وبصفة اجمالية فانه لما كان العقل لا يناوئ الدين, بل يناصره بإثباته لوجود الله ووجوب وجوده, والعلم بدوره لا يناوئ العقل ولا يسعه أن يناوئه, ولا أن يناوئ ما يؤيده العقل وهو وجود الله , ووجوب وجوده, فان العلم مع اثبات وجود الله؛ لأن العلم لا يفترق عن العقل..
أما على المستوى التفصيلي, فان موقف العلم من وجود الله سبحانه وتعالى, يتوقف في البداية على معرفة نوعين من العلوم التصديقية:
1- علوم يقينية : تعتمد على المعرفة الجازمة المبنية على البداهة, أو المشاهدة أو على معرفة السبب, مثل قولنا: ((الكل أعظم من الجزء)) بداهة, والعلم بهذا المعنى مؤيد للدين؛ لأن وجود الله ووجوب وجوده ثابت بالدلي العقلي القطعي فهو معروف بدليله, والمعرفة بالدليل يقينية جازمة..
2- علوم تدوينيه : وهذا العلم اسم لكل علم مدون مثل الهندسة والطبيعة والفلسفة والمنطق والفقه وأصوله وأصول الدين, والعلم بهذا المعنى – بصفة عامة كل فرع منه مشغول بمسائل موضوعه الخاص به, ويقف على الحياد فيما وراء هذا الموضوع, لا يثبت ولا ينفى ولا يدعى لنفسه حقا أو حكما. ولكن البعض من هذه العلوم مثل المنطق يخرج من الحياد الى التأييد والتصديق لوجود الله؛ لأن دليل اثبات الواجب موافق لقواعده, أما علم ما وراء الطبيعة فعلاقته بوجود الله أشد و أقوى لكزنه من مسائله ومباحثه الخاصة(1).

فالعلم لا يمانع أساس الدين ولا ينكر وجود الله, فبعض العلوم يؤيد مسألة وجود الله والبعض الآخر يحايدها, بعدم دخولها في موضوعه دون انكار أو ممانعة لوجود الله, ولهذا فال واحد من أكبر علماء الغرب المنطقيين:
((ان الالحاد ليس نتيجة للأصول العلمية))كما يقول زميل له: ((ان الالحاد على الأسس العلمية غير قابل للتحمل))(2).

ويقول أحد علماء الطبيعة الكبار : (( اذا فكرت تفكيرا عميقا, فان العلوم سوف تضطرك الى الاعتقاد في وجود الله))(3), بينما يقرر عالم أخر حقيقة ما يقوم به في مجال علم الطبيعة بقوله: ((ان جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه؛ ويدل على قدرته على قدرته وعظمته, وعندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر الكون , ودراستها, حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية , فإننا لانفعل لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار الله أيادي الله وعظمته, ذلك هو الذى لا نستطيع اليه بالوسائل العلمية المادية وحدها, ولكننا نرى آياته في أنفسنا , وفى كل ذرة من ذرات هذا الوجود , وليست العلوم الا دارسة خلق الله وآثار قدرته))(4), فقد انجلى من ذلك أنه لا العلم الطبيعي ولا أي علم ولا أي تجربة تمانع وجود الله وتنفيه, وانما النافون هم الخارجون عن حدود العلم والتجربة, مع تسليمهم بأن العالم تديره قوانين العلم والتجربة, الا أنهم في الوقت يزعمون أن العلم والتجربة يدلان على أن هذه القوانين: ناشئة من طبيعة الأشياء, وغير مفروضة عليه من خارجه, وأن فيها غناء العالم عن احتياجه الى وجود اله.. والعلم والتجربة من هذه الأدلة المزعومة براء..

وازاء تأييد العلم للدين , فان هؤلاء الملاحدة الماديين يعترضون على الالهيين الذين أثبتوا وجود الله بالدليل العقلي , بأن العلم الحديث لا يعول على الاستدلال العقلي ولا يعترف الا بالتجربة والمشاهدة كدليل, وأنزلوا من قيمة الاستدلال العقلي, ليفرقوا بين العقل والعلم..

وهذه المحاولة لزرع العداء بين العقل والعلم يحكم عليها الشيخ مصطفى صبري بقوله: ((والعلم ما لم يكن مشوبا بالجهل, لا يرضى محاولتهم هذه , فلا يدل استخفافهم بالعقل تجاه العلم الا على خفة عقولهم, وقلة علومهم , ولا يرتاب أحد في صدق ما قلناه, الا وفى عقله شيء من تلك الخفة, وفى علمه شيء من تلك القلة))(5).

وفى نصيحة منه لهؤلاء الغافلين أصحاب المحاولة الفاشلة للفصل بين العلم من جهة والعقل والدين من جهة أخرى, يلفت أنظارهم الى ما كان أولى وأجدر بهم من هذه المحاولة, حيث يقول : ان الأمانة العلمية والموضوعية كانت تحتم عليهم:
أولا – أن ينقدوا الدليل العقلي الذى يقوم عليه الدين؛ لبيان ما فيه من خلل عقلي خفى على غيرهم.
ثانيا – البحث عن النقص والخلل في جانب العلم اذا استمر التعارض بين العلم والدين. ثم يأخذ الشيخ في سبر أغوار الأعماق النفسية لهؤلاء الملاحدة الماديين من بعض علماء الطبيعة معللا لإلحادهم وقولهم بأن العالم غير مخلوق لله, بل تكون بنفسه ,أو كونته طبيعة الأشياء فيرى أن التبعية في ذلك ليست راجعة الى العلم الطبيعي أو غيره من علماء, بل الى أنفسهم هم .. ((فالملحدون من علماء الطبيعة ليس الحادهم بصفة أنهم علماء, بسبب أنهم جهلاء مخطئون متخطون حدود علم الطبيعة الى ما ورائها)) في حين أنهم لا يعدون ما وراء الطبيعة علما؛ لعدم خضوعه لتجاربهم ومشاهداتهم.. فالعلم الطبيعي لا يقتضى انكار وجود الله ونزع الصلة بين الكون وخالقه, وليس هذا مجاله وميدانه, بل هو مجال البحث في الكائنات وطبيعتها التي طبعها الله عليها..
وهؤلاء العلماء الطبيعيون أولى بالإيمان بالله من غيرهم من المتخصصين في العلوم الأخرى , اذ ليس بضروري أن يكون علماء الطبيعة ملاحدة والا لما كان هناك الكثيرون من المؤمنين الراسخين في ايمانهم مع تخصصهم في العلوم الطبيعية..
وكان على الطبعيين ألا يجاوزوا حدود المادة الى ما وراءها, وعدم الخوض فيه نفيا أو اثباتا؛ لأنهم يخضعون ما وراء الطبيعة للتجربة التي هي من خصائص علم الطبيعة فقط, ولم يعلموا أيضا أن المنفى لا يجرب, حتى ولو كان المجرب ماديا, فالحكم المنفى لا يبنى على التجربة؛ لأن التجربة أما أن تثبت و اما أن تسكت, وحكمها بالنفي: معناه الصحيح نفى علمها بالمنفى..
والتجربة قاصرة فقط على اكتشاف القوانين دون أن تتجاوز ذلك الى تعيين منشأ لها؛ لأن هذه القوانين من طبيعة الأشياء وليست من خارج عنها, ومن يجاوز حكم التجربة الى هذه الأحكام الاضافية فهو يفترض من عنده , ويتجنى على التجربة وعلى مدلولها, وهذه الاحكام الاضافية استنتاج فاسد, فضلا عن أنها ليست ن اللوازم العقلية للتجربة, كما يدعون ويزعمون, بسبب أنهم لا يفرقون بين أحكام التجربة والاستنتاج العقلي المضاف اليها, وكثيرا ما يقع الماديون في الخلط والالتباس فيستنتجون ويخطئون؛ لأنه ليس من صناعتهم, ويبنون أحكام فاسدة على استنتاجهم الخاطئ فما هم الا ((كحاطب ليل لا يؤمن عليه أن يلتقط مع الحطب العطب)).

بطلان تسلسل الحركات الميكانيكية:

ويمضى الملحدون الماديون في استغلال التجربة الى أقصى حد من سوء الاستخدام لها, وتحريف دلالتها عن طبيعتها الى ما يوافق أهواءهم, مستغلين وصول التدقيقات العلمية التجريبية الجديدة الى القول بان الطبيعة المختلفة كلها ترجع الى أصل واحد وهو الحركة, وحاولوا أن يستخرجوا من هذه المقولة العلمية: كون الحركة أزلية أبدية, حتى يتم استغناء العالم المتحرك أزلا و أبدا عن الاله الخالق..
ولكن ((كارو))(6) الفيلسوف المؤمن بوجود الله يلقمهم الحجر بقوله الذى يرد عليهم به, ويقلب لهم الموازين مقررا أن وحدة القوى الطبيعية الحاصلة من رجوع العالم كله الى الحركة كأصل واحد, أدل على وجود الله, لا على استغناء العالم عن وجوده عز وجل, وذلك حين يسائل ((كارو)) هؤلاء الملاحدة: ((من أين هذه الحركة للمادة العاطلة؟!)) وكون الحركة لا أول لها لا يغنيها عن الاحتياج للمنشأ, فضلا عن ادعاء الحادي غير مسلم به أصلا ..**ليس له أى دليل و هبل في لو حسبتها في دماغك هتقول ازاى مادة ملهاش عقل ولا تسمع ولا ترى ولا تمتلك ارادة تكون موجودة كده لوحدها من غير أي سبب تلاقى نفسك بتنكره على طول اول ما بشوف الناس اللي بتؤمن بالكلام ده بفتكر كفار قريش وعباد الاوثان**

ويرجع مصطفى صبري قول الملحدين باستغناء العالم المتحرك أصلا عن وجود الله الى بدعة القول بالتسلسل وامكانه, مشيرا الى فضل ((أرسطو))هنا قائلا:
((لله در أرسطو حين تنبه الى بطلان التسلسل قبل ثلاثة و عشرين قرنا, وقال بلزوم المحرك الأول الذى لا يتحرك)), **تعليق صغير : كذلك لو اثبتا عدم الحركة للإله فهو عجز للإله فلا تدخل في ذات لأن ليس كمثله شيء **وهذ وقد أدى تغير الأيام وتطور الاكتشافات العلمية التجريبية وغيرها الى تغير مفهوم المادة وعدم ثباته من الثقلة الى العطالة بعد اكتشاف ((الأثير ))(7)وتعريف علماء الطبيعة له أنه شيء يقبل الحركة وينقلها ولا يحدثها, فهو لا وزن له ولا ثقل, وأهم خصائصه أنه عاطل, كما يرى ذلك فيلسوف غربي في احدى مقالاته, التي يؤكد فيها خطأ احتكار اسم العلم لما يثبت بالتجربة, وخطورة الاستهانة بالعلو المبنية على العقل والمنطق(8)..

واذا كانت التجربة ل اتدل على شيء فيما وراء الطبيعة, بل تدل على القوانين فقط ولا تدل عما وراءها من وجود شيء أو عدمه, كما يزعم الملاحدة, فان العقل الذى لا يجب ألا يفارق التجربة حتى لا تفقد دلالاتها, لا يقف عند حد التجربة عاجزا مثلها, بل ذهب الى القول بوجوب وجود محرك لهذا الكون: مادة التجربة التي لا تمانع وجود هذا المحرك الأعظم للكون, كما يؤكد ذلك عالم بيولوجي من خلال تجاربه المعملية بقوله: ((لولا ثقة الانسان أن هناك قوانين يمكن كشفها وتحديدها, لما أضاع الناس أعمارهم بحثا عنها... لابد أن يكون وراء كل ذلك النظام خالق أعلى... وكلما وصل الانسان الى قانون جديد, فان هذا القانون ينادى قائلا: ان الله هو الخالق , وليس الانسان تلا مستكشفا... ان وجود الله في حياتي اليومية حقيقة لا مراء فيها, أقوى من الحقائق العلمية, التي لا يتسرب اليها الشك, فالله لا يشرق في قلوب الباحثين عنه))(9).

ولكن سوء استخدام الملاحدة للعلم التجريبي بإدخالهم فيه ما ليس من اختصاصه, لعدم امتداد يد التجربة الى ساحته, وعدم خضوعه للتجربة, كمسألة نفى الاله الخالق المدبر للكائنات فلا يبحث عنه جل وعلا ((بالتلسكوب)) ولا بأي أداة أو واسطة مادية, كما طلب فرعون من وزيره هامان في حكاية القرآن عنهما.
وهؤلاء الماديون لا هدف لهم من تفسيرهم للحوادث بالحركة الميكانيكية الا التوصل الى استغناء العالم عن ارادة الاله الفاعل بعلمه وارادته, فالعلم يسير في زعمهم بنفسه دون ارادة أو شعور بمشيئة أو قدرة على تغيير أسلوبه فهو كالماكينة المتحركة دون ارادة ولا شعور ولا انحراف عن نظام الحركة.
والجد الأعلى لأتباع الميكانيكية المادية هو ((ديموقريطس ق5 ق.م)) الفيلسوف اليوناني الذى يقول: ((ان علة كل حركة هي الحركة التي تقدمتها, وهكذا الى غير نهاية)) حتى يصل الى انكار وجود الله, ويثبت قدم العالم , وقد غاب أن الحركات المتقدمة انما هي وسائط انتقال الحركة الى ما بعدها, ولابد هناك من محرك أول تنشأ عنه الحركة بالأصالة ثم تنتقل الى الوسائط المتتابعة على الدوام في المستقبل دون الماضي؛ لأن تسلسل العلل في الماضي قد أشبع بطلانا, مع خفائه على بعض المشاهير أمثال الشيخ محمد عبده, والفيلسوف ((كانط))من قبله, كما يرى مصطفى صبري.

وتسلسل العلل هذا ـ هو الحيلة التي تمسك بها ((ديموقريطس)) ولكنه عيب كبير في حقه, وحق من أثنى عليه(10), ومن تبعه من كثرتهم, حيث لم يفهموا أن التسلسل الى غير نهاية في جانب الماضي يسد العلة ويحول حتى دون وجود علة واحدة, فتبقى الحركات الميكانيكية هنا بلا محرك واحد..
ويكون وجود ((الحركات ومحركاتها... ووجود سلسلة غير متناهية مؤلفة من الحركات الميكانيكية المتأخرة المعلولة وعللها المتقدمة ضربا من الخيال الكاذب)).
ويمكن اجمال المذهب ((الديمقراطى)) فيما يلى:
1- القول بقدوم العالم..
2- جواز التسلسل في العلل والحركات الميكانيكية..
3- قدم الحركة في العالم..
4- علة كل حركة في الحركة التي تقدمتها..
5- عدم الاحتياج الى المحرك..

وكان من روافد هذه المادية الميكانيكية الملحدة ((المدرسة اليونانية الأبيقورية))(11), والتي قامت على ميراث فلسفة ((ديموقريطس)) الالحادية مع فارق بينهما ينحصر في أن قوانين ((ديموقريطس)) الطبيعية قديمة أزلية, أما قوانين ((أبيقور))الطبيعية فحادثة, فكأن المدرسة الأبيقورية تنبهت الى أن الأجزاء المفردة الفردة, وعلاقتها الكلية, لو كانت قوانين أزلية لما تشكل العالم أصلا أو لما حدث فيه شيء جديد, فبعد تشكل العالم بتلاقي الأجزاء مصادفة فانه يدار بقوانين ثابتة ضرورية, ويوضح كل شيء ايضاحا ميكانيكيا بتلاقي الأجزاء الفردة من غير حاجة الى تدل ادراك أو علة غائية..
كما أن هناك فارقا بين مادية هذه المدرسة, ومادية المدرسة ((الرواقية))(12),وهو:
أن العالم في نظر المدرسة ((الأبيقورية)) مركب من أجزاء مستقلة لا توجد لها أفعال مشتركة أما المدرسة ((الرواقية)) فهو مركب من أجزاء مرتبطة بعضها مع بعض تدور في جميعها فوة واحدة وسبب واحد وعقل واحد , فتجعل الجميع كلا دائما ممتزجا, وهذا الفرق بين المادتين طبيعي مبنى على الفرق بين انكار الاله لدى الابيقوريين والاعتراف بوجوده لدى الرواقيين..
ومبادئ المدرسة ((الأبيقورية)) تتلخص فيما يلى:
1- القول بالمصادفة في تلاقى أجزاء الفردة في العالم..
2- قدرة هذه الأجزاء على الانحراف بلا سبب عن طريقها المستقيم في نقطة معينة بين الزمان والمكان, فيتشكل العلم عن طريق هذا الانحراف..
3- تأجيل القوانين الثابتة الى ما بعد التلاقي التصادفي..

فهي لا تدرى أن تلك القدرة على الانحراف انمت هي القدرة الارادية لخالق العالم القدرة الارادية للإله القادر المختار, وليس القدرة الطبيعية المنحرفة بلا سبب, والسببية للتلاقي التصادفي لأجزاء العالم الفردة..
أما قبولها للمصادفة في تشكيل أجزاء العالم, فليس من المعقول في شيء أن يتم تشكل العالم على أساس المصادفة العمياء بدلا من الارادة العليمة.. وعلى هذا النهج سارت المادية المعاصرة كمادية ((بوخنز)) وأضرابه دون أن نضيف الى المادية شيئا يقربها من العقل..

وبطلان التسلسل الميكانيكي أوضح ما يكون لدى ((كارو)) في قوله الذى يرد به على الماديين, فهو يأبى التسلسل بل يراه مستغنيا حتى عن الابطال حيث يقول: ((اذا التزم القول في دائرة المعلومات التجريبية, فالقوة التي يعتبرونها اللازم غير المفارق للمادة انما تظهر – في صورة واضحة – دوام حركات حاصلة من سلسلة حركات متقدمة متحولة الى سلسلة حركات متأخرة ولا شيء في الخارج من ذلك سوى خيالات ورواية عما وراء الطبيعة)), أي خيالات الماديين مما يرونه وراء الطبيعة, ثم يشير ((كارو))الى منطقية بطلان سلسلة الحوادث, وحتمية رجوعها الى الله , حيث يقول: (( اذا رجعنا وتوغلنا في الرجوع الى الماضي معاينين ومدققين للحلقات التي يتشكل منها سلسلة الحادثات الميكانيكية نرى دائما فرار أصل هذه الحادثات من أمامنا وانسحابه الى الوراء, فنحن نجد في كل موضع آثار القوة ولا نجد القوة نفسها.

سلسلة الحركات الميكانيكية الممتدة نحو الماضي, والتي في مقدمتها علة لمؤخرتها, باطلة بطلان تسلسل العلل ؛ لأن هذه السلسلة:
1- اما أن تكون معدومة أصلا عن آخرها المتصل بالحاضر المتراجع الى القدم ولا وجود لها الا في الخيال الكاذب..
2- واما أن تنتهى الى محرك من خارج السلسلة أي من خارج العالم المتحرك, ينشئ فيها الحركة الأولى, وهذا المحرك هو الله الذى تنتهى اليه سلسلة الحركات الميكانيكية في هذا الكون..

ولكن أذهان الماديين الميكانيكية بالتضامن مع ذهن جدهم الأعلى ((ديموقريطس)) تعللت بالانتقال من حرجة الى حركة – تقدمتها الى أن تتعب من الانتقال فتكل الأمر الى الخيال وتحيله اليه من دوام هذا الانتقال الى غير بداية الاستغناء عن الله, وبطلان هذا التسلسل الميكانيكي واضح؛ لأن سلسلة الحركات الميكانيكية لابد لها من منشأ, وهى في الوقت نفسه:
- لا يكون منشأ الحركة منها..
- ولا يضمن الاستغناء عن المنشأ تخيل الى امتدادها الى غير نهاية..

ثم يأتي مصطفى صبري بصفوة القوة في تسلسل الحركات الميكانيكية, بعد وضوح بطلانها لدى الفيلسوف ((كارو)) فيقول: ((ان تمسك الملاحدة بأهداب الحركات الميكانيكية في تفسير حادثات العالم, لا ينفعهم في اغنائه عن الاستناد الى الله بل يضرهم؛ لأن الحركة الميكانيكية أحوج ما تكون الى وجود سبب الحركة من الخارج))(13).

وهؤلاء الماديون وهم يرجعون الحوادث الى الحركة الميكانيكية بهدف القول الى باستغناء العالم عن المحرك وهو الله, لم ينتبهوا, أو تجاهلوا أن المادة – والعطالة من صفاتها ومن أخص أوصافها- لا تتحرك من نفسها, أن العقل لا يقبل حركة بدون محرك, وكان السبب في الحادهم , وانكارهم وجود الله:
1- انهم لم يروا المحرك..
2- ولم يصلوا اليه بتجاربهم..
3- ولم تكن عقولهم أطول من تجاربهم- وتلك طبيعتها- فلم تصل بهم اليه فالحدوا واراحوا أنفسهم بقولهم ان العالم يتحرك من نفسه, وكما غاب عنهم أن القول بوجود محرك غير منظور أقرب الى الحق والصواب من القول بالحركة من غير محرك.

كما أنه لا يجدى هؤلاء الملاحدة اعتبارهم الانسان موجودا ميكانيكيا, بإنكار ارادته وشعوره , ولا اعتبار حركته حركة من غير محرك؛ لأن ذلك مما يخالف بداهة العقل , كما يقول علماء الاسلام.

ولما كان العلم وثيق الصلة بالدين وأقوى مؤيد لإثبات وجود الله ووجوب وجوده, كما يقال أحد علماء الطبيعة: ((ان الدين والعلوم الطبيعية يقاتلان معا في معركة مشتركة ضد الشك والجحود والخرافة, ولقد كانت الصيحة الجامعة في هذه الحرب وسوف تكون دائما: الى الله!!))(14).فانه من الأجدى أن نرد على الملاحدة من أقوال علمائهم الغربيين. فننقل عن ((شورول))قوله: ((يقول الملحد: ان الله غير موجود وانما الموجود في العالم المادة غير العاقلة, وقوى لا تنفك مها, وهل هو في قوله هذا يتخذ التجربة مبدآ له., بل اثبات الله منطق أوفق للأصول التجريبية منه في نفيه)), والفيلسوف ((اليورلوج))(15)يقرر امكانية سير الكائنات وفق القوانين الميكانيكية , كما يقول الماديون, وهذا ما يتفق معهم فيه عظماء علماء الطبيعة أمثال ((نيوتن))(16) وغيره, فإرجاع الكائنات بأسرها الى حركات ميكانيكية لا ينافى وجود الله, كما يزعم الملاحدة حين يتمسكون بمبدأ الميكانيكية كأنه عروة الالحاد الوثقى , فالفرق بين الموحدين والملحدين القائلين بالقوانين الميكانيكية, هو قصر الملاحدة الأمر على هذه القوانين وانكار ما وراءها من وضعها ومدبرها وكذلك فان التجربة التي تدل على القوانين لا تدل على عدم وجود الله المدبر لها, فقصر الملاحدة أنفسهم على القوانين وتأثيرها تقصير منهم في فهم مدلول التجربة نفيا واثباتا.

ولقد كان ((نيوتن)) و ((لابلاس)) – مع جلال قدرهما في علوم الطبيعة – موحدين أما ((بوخنز)) الملحد, فكان ملء اهابه أسفا في كتابهن ((القوة والمادة)) على اثنين من أكبر العلماء المفكرين الممتازين لإيمانهما وهما : ((كوتا)) و ((سكى)) , بل ان ((جاسندى))(17) من فلاسفة القرن السابع عشر الفرنسيين, كان ماديا متعصبا , هجم على فلسفة ((أرسطو)), وناقش ((ديكارت)) انتصارا لمذهبه , ولكنه لم يستنتج الالحاد من المذهب المادي كفلاسفة القرن الثامن عشر , بل قال: (( ان الله خلق المادي))..

والعالم الفرنسي ((بول زانه))يرى أن المذهب المادي مذهب تدريب حقيقي؛ لأن ((لوك))و ((هيوم))وسائر التدربين, يعترفون جميعا بعدم الامكان الوصول الى الجوهر, مع أن العلم ليس له أي اجبار أو الزام في شيء يتعلق بما وراء الطبيعة؛ لأن نطاقه لا يجاوز الشئونات, فحديثهم باسم العلم وهم وخداع..

أما ((جوستاف لوبون)) في كتابه ((الأفكار والعقائد)), فانه يؤكد أن العلم لا يستطيع البعد عن الدين, فمهما أفلت العلم من العقيدة فلابد له من العودة اليها, في جميع الأمور التي لم تعرف حق المعرفة, كأسرار الحياة ومنشأ الأنواع..

وأخيرا فإننا نصل الى حديث الخلاصة أو خلاصة الحديث الذى عقد لتوضيح موقف العلم من وجود الله فنقرر: أنه كما سبق اثبات ان العقل حليف الدين وأول نصير له, فان العلم كذلك لا يناوئ وجود الله ولا يعاديه , وانما المناوئون هم بعض المنتسبين الى بعض العلوم((الشائبون العلم بالجهل, المقولوه مالم يقله)), وهؤلاء المناوئون أيضا حكموا دون وجه حق لهم في هذا الحكم: بأن العلم يقطع بعدم وجود الله, وحجتهم عدم خضوع الله لتجارب العلم الطبيعي, لاسيما أصحاب نظرية التطور من أتباع ((داروين)), مع أن مسألة وجود الله ليست من موضوع العلم الطبيعي أصلا؛ لأن القائلين بوجود الله لا يدخلونه في الطبيعة, فلا يلزم اذا كان الله موجودا أن يعلمه العلم الطبيعي, وبخاصة وأن هذا العلم الطبيعي ليس ميزان الحق في العلوم حتى يكون((ما يعلمه وما يعترف به حقا, وما لا يعلمه ولا يعترف به خلاف الحق))وانما ميزان العلوم – كما يرى الشيخ مصطفى صبري – هو المنطق , والحاكم فيه العقل لا التجربة..

وليس العلم الطبيعي أيضا علم الموجود والمعدوم على اطلاقهما حتى يكون الوجود من حق ما يعلمه, لا من حق ما يجهله, وانما هو علم الموجودات الطبيعية بقدر ما يمكنه فيكون له حق الحكن في وجود كل شيء طبيعي بتجاربه المادية أو عدم وجوده, بمعنى أنه لا يعترف بوجوده لعدم اطلاعه عليه في حالته الحاضرة لأنه ينفيه, وانما النافون هم المتعدون لحدود العلم المذكور عازين اليه نفى ما لا يعرفه عن الوجود, مع امكان أن يكون ما لا يعرفه بتجاربه المادية يعرفه علم آخر بوسائل أخرى..

وجملة فان العلم لا يناوئ الدين بل يؤيده تأييد العقل له, والعلم الطبيعي ليس ميزان العلوم, بل هو المنطق القائم على العقل لا التجربة, ووجود الله لا يخضع للتجربة خضوع الماديات لها؛ لأن للعلم الطبيعي حدوده وامكانياته..

تفوق العقل على العلم في مجال الالهيات:

لما كان العقل حليفا للدين وأول ناصر له, والعلم لا يناوئ الدين ولا يعاديه فكان لابد من توضيح موقف العلم من العقل, والسبب وراء ذلك : أن قضية وجود الله قضية عقلية بالدرجة الأولى, وحتى تسلم للعقل قضيته وتخلص له , يجب عدم منازعته فيها, ولما كان ذلك الذى يمتلك حق المنازعة للعقل هو العلم , فلا مفر من ازالة التعارض والعداء بينهما؛ كما يقضى المنطق بذلك, بعد أن ثبت أن العقل في تحالف دائم مع الدين وأن العلم لا يشاد الدين وأنه يبارك التحالف بينه وبين العقل؛ ولذا فان العقل والعلم لا عداء بينهما, بل يتآزران ويتفقان في كل نطاق عمله ومجال تخصصه..

ان العقل والعلم أفضل نعم الله على الانسان وهما جماع الخير والسعادة له, يشكلان سياجا بينه وبين البشر, وهما قوة في يد صاحبهما كالمال والسلاح, ((اللذين قد يكونان أداة للشر, ومع هذا قائل بأن الفقر أنفع من الغنى والعزل خير من التسلح)), واذا كان المال والسلاح قوة عمياء تدفع صاحبهما وتساعده في الخير والشر سواء, فان العقل يكون لصاحبه خير مستشار في قصرهما على الخير دون الشر, والعلم يكون حاثا ومشجعا في الخير, وزاجرا ولائما في الشر..

هذا عن أهمية العقل والعلم للإنسان , اما عن مفهوم العلم فهو في حقيقة معناه: صنعة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض... وقيد عدم احتمال النقيض في المعرفة المكتسبة من العلم, هو عمدة التعريف للعلم, فخلاف هذه المعرفة محال حقا, وهذه المرتبة من المعرفة لا يبلغها العلم بغير الدليل التجريبي, انما يعتمد عليه في ثبوت شيء في نفس الأمر ونفى خلافه, دون أن يكون هذا النفي ضروريا غير ممكن التخلف الى الأبد, لعدم امكان الحكم فيما تتضمنه التجارب المستقبلية, والتي لانهاية لها كما يعترف علماء الغرب بهذه الحقيقة(18).

ويسجل العلماء السبق للعقل على العلم في الاعتراف بوجود الله؛ لأن العقل يدرك مكتشفات العلم الحديث ويسبق العلم في الائتلاف بالدين, بل يحوز قصب السبق في الاخبار عن وجود الموجود الأعظم الذى كون الكون وشحنه بالأسرار..

وهو أول رسول عن الله ((سابق للأنبياء والمرسلين)), ويزيد على العلم في مكتشفاته من تلك الأسرار, فالعلم والعقل – الذى لولاه لم يكن العلم – ليسا بخارجين عن تلك الأسرار المشحونة, ومن وراء هذا السبق سر جعل من اثبات وجود الله مسألة تعتمد على العقل لا على الدليل التجريبي وهو: أن المطلوب بالنسبة لله ليس اثبات وجوده فقط, بل اثبات وجوب وجوده, وهذه الدقيقة أغفلتها فلسفة الغرب, وأوقعت مقلديهم من مفكري المسلمين في حيرة..

واذا كان مصطفى صبري لا يمل ترديد منهجه, وهو أنه ينتصر للعقل انتصارا للدين, في حين أن غيره يهدم العقل دفاعا عن الدين, فانه يسجل على نفسه – دفعا لأى فهم خاطئ – أنه لا يغمط الدليل التجريبي والعلم المعتمد عليه حقهما, محاباة للدليل العقلي الذى ينتصر له, ولكنه وان كان يفضل الأخير على الأول من الأدلة؛ فلأن هذا التفضيل يقوم على أساسين:

الأول – وثائق من شهادات علماء الغرب مؤيدة هذا التفضيل, لاسيما شهادات الفيلسوف ((كارو)) وأقواله التي يؤكد فيها تفضيل الأدلة العقلية على التجريبية, وأن وظيفة علم ((ما وراء الطبيعة)) ألا يأتي بما ينافى علم الطبيعة, كما أن وظيفة علم الطبيعة في المقابل: ألا يدعى ما ينافى العقل وقوانينه, لاسيما قوانين المنطق, وألا يدعى ما ينافى علم ما وراء الطبيعة في مقرراته المثبتة بالبراهين العقلية, اذ لا تنافى بين العلوم, ولا انحصار للعلم في علم الطبيعة, بل يبدأ علم ((ما وراء الطبيعة)) من حيث ينتهى ((علم الطبيعة)), وساحته أرحب و أوسع, وأسلوبه فيها يختلف عن أسلوب علم الطبيعة, وسلاحه في هذه الساحة الرحبة ليس التجربة المثبتة بآلاتها الدقيقة المحدودة, بل العقل الذى لا حد لقدراته, العقل المتربي المتكمل: أي العقل بالفعل والحس الباطني الذى يدرك الأشياء غير المرئية..

أما الفيلسوف ((كانط)) فانه يقرر في كتابه ((اضمحلال مذهب الماديين))أن المنطق يستند الى القوانين العقلية المحضة, وأن القوانين الرياضية ليست موجودة في الطبيعة, وانما هي موجودة في العقل, وأن الذى يحصل به اليقين هو القوانين العقلية, وأن العموم والضرورة صفة المبادئ النظرية الصرفة الفارقة, أما القوانين التجريبية فهي وان كان فيها عموم قياس استقرائي فليس فيها عموم مطلق, وهكذا يبدو ((كانط)) وكأنه يرد على خصوم شيخ الاسلام مع أنه أحدهم, غير أن الذى يعنى شيخ الاسلام دائما هو النتائج باستخلاص الحقائق ولو من أفواه خصومه و أعدائه, الذين هم خصوم الاسلام و أعداؤه في نفس الوقت, فالخلاصة هنا:
أن هذه الآراء وغيرها لكل من ((كارو)) و ((كانط)) والمأخوذة عن نصوص لهما, انما تدل على انحصار المعقول في المحسوس, بل على امتياز العقل على الحس بمميزات عظيمة(19)..

الثاني – أما الأساس الثاني فهو شهادة عقل الشيخ الذى هو نعمة من الله وفضل منه عليه, والذى يثق فيه الشيخ كل الثقة, ويزن به أقوال الغربيين والشرقيين..
وفى مجال المفاضلة بين العقل والعلم يقرر الشيخ : أن قصور التجربة أمام الاستدلال العقلي بالنسبة لوجود الله من وراء ذلك, فليس من حق العلوم الحديثة المبنية على التجارب الحسية الكلام نفيا أو اثباتا في الوجوب والاستحالة؛ لأنهما فوق متناول التجربة , والقول فيهما للعقل فحسب, أما التجربة فهي قاصرة على ادراك وقوع الشيء أو عدم وقوعه, دون أن يصل الوقوع أو عدمه حد الوجوب أو الاستحالة..

وهذه الخصوصية لميدان التجربة طالما رددها الشيخ تنبيها وردعا للمغرمين بالعلوم الحديثة من كتاب مصر ومؤلفيها كالأستاذ((محمد فريد وجدى)) الذى أقام للعلوم التجريبية دولة عالمية(20), حتى عد هؤلاء التجريبيون أفضل ما قاله ((كانط)) وأصدقه في المفاضلة بين العقل و التجربة – مآخذ عليه حينما قر هذا الفيلسوف:
أولا – أن نتائج التجربة ليست حقائق مطلقة..
ثانيا – وأن التجربة ليست الطريق الوحيد للمعرفة..
ثالثا – وأن الدليل العقلي يتفوق على الدليل التجريبي..

فلا يمكن بحال أن تكون التجربة هي الميدان الوحيد, الذى تنحصر عقولنا في حدوده؛ لأنها تدلنا على ما هو واقع دون أن تدلنا على أن هذا الواقع لابد بالضرورة أن يكون هكذا , ولا يكون على صورة أخرى, وهى كذلك لا تمدنا بالحقائق العامة قط, مع أن هذا الضرب من المعرفة هو ما تنزع اليه عقولنا بصفة خاصة..

فالتجربة توقظ العقل أكثر مما تقنعه, والعقل مصدر للعلم الى جانب التجربة, فاذا جاز تصوير الشمس مشرقة من الغرب في صباح مقبل, أو أن النار لا تحرق فلا يمكن يحال تصور أن العالم سيحدث فيه سيحدث فيه ما يجعل الاثنين في اثنين لا تساوى أربعة؛ لأنها حقيقة رياضية عقلية مطلقة ضرورية لازمة الحدوث..

وقصور الباع هذا لدى التجربة يصوره ((بول زانه)) في القضايا الضرورية بقوله: ((ان التوغل في التجربة قصيرة الباع, لا تثبت بها القضايا الضرورية وسبب ذلك: أن المجرب لابد من أن يبقى أمامه ناحية لاتصل اليها تجربته مهما تقدم فيها, فيساوره الشك من تلك الناحية.. فالتجريبي مثل ((هيجل)) لا يوقن بكون اثنين في اثنين يساوى أربعة, محتجا بعدم الالمام بنتائج جميع التجارب في كل زمان ومكان, أما من يؤمن بالدليل العقلي, فانه يستيقن هذه المساواة ويحكم بها بإيجاب عقلي, لا يختلف, ولا يحتاج الى التجربة.. والغرب اللادينى لو أقام لإجابات العقل وزنها الذى تستحقه, لما جنح الى الالحاد , ولو خضع الغرب المسيحي لحكم العقل, لما آمن بالإله المثلث والموحد معا, ولا بالإله المتجسد في المسيح ثم المقتول بقتله!!(21)

ولأن الدليل العقلي ممثلا في القوانين الهندسية والمنطقية أقوى و أفضل من الدليل التجريبي بالرغم من اعتقاد الجهلاء المقلدين عكس ذلك – فان عالمين كبيرين هما: ((أميل سيسه)) و ((هانرى بووانكاريه)) يفضلان القوانين العقلية المنطقية الممثلة في قوانين الهندسة على القوانين التجريبية مع ما للتجربة من دور مهم في تكون الهندسة لكنه من الضلال أن يعد علم الهندسة علم تجريبيا, والا كان علما عقليا, بل ان ((بووانكاريه)) يقرر أن المنطق الصوري هو المنطق الأصلي الذى يمتاز بين العلوم بكون قوانينه ضرورية لا تقبل التغيير مثل القوانين الرياضية, ويعلق شيخ الاسلام بأن مقولة هذا العالم الكبير خير رادع للمستخفين بالمنطق الضروري مثل الدكتور ((هيكل)) و الأستاذ((محمد فريد وجدى))(22).

ومما يشهد للأدلة العقلية بالتفوق على الأدلة التجريبية أن المحسوس القوى يفسد الحس, تماما مثل اضرار الضوء الشديد والصوت الشديد بالسمع والبصر, كما أن الحس لا يدرك المحسوس الضعيف بعد ادراك المحسوس القوى, وهذا بخلاف العقل الذى لا يضره الاشتغال بأقوى المعقولات و الأمور المجردة, بل تقويه ولا تضعفه(23).

ومن أدلى القوة لا استدلال العقلي أيضا: أن المبادئ الأولية مثل مبدأ التناقض والتضاد ومبدأ العلية(24) من مقررات العقل , فهي مبادئ عقلية ذهنية مركوزه في الذهن, وهى تمثل دعائم المعرفة البشرية, ولا شيء من المعلومات عند الانسان فوقها قوة ويقينا, فهي ((أعمدة المعلومات العقلية الضرورية التي يستحيل خلافها, وهى في الذهن فوق كل مناقشة, والاعتراض عليها يعد هذيانا وغرابة تختص بالمجانين)), والتعبير عنها بالمبادئ الأولى , ليس لكونها مثبتة ومتيقنة قبل سائر الحقائق قبلية زمانية؛ بل لكونها قواعد عالية, وتأمينات نهائية لجميع الحقائق..

ولقد ادعى الفيلسوف الإنجليزي ((يوحنا لوك)) أن المبادئ الأولية الذهنية مبنية على التجربة والاختبار ( المذهب الاختباري الخام), وذلك عندما أخذ في التفتيش عن منشأ هذه المبادئ الذهنية الأولية, وبدفع هذا الادعاء بأن المبادئ الأولية تحمل وصفا مضاعفا كالكلية والوجوب, فكيف تكون مشتقة من التجربة التي لا يثبت بها الا الجزئي دون الكلى؟, وهذا وان كان المنطقي الشهير ((جون ستيورات ميل)) الفيلسوف الإنجليزي(25), يزعم أن تداعى التجارب الجزئية وتواليها على هذه المبادئ يكسبها الكلية دون الوجوب , فهي مبنية على التجارب, كما قال ((لوك)) الا أن ((مل)) لا يرى الوجوب والضرورة في أي مسألة تثبت بالتجربة, لاحتياطه لنتائج التجارب التي يحتفظ بها المستقبل, كما أنه لا يمنح القضايا الثابتة بالتجربة رتبة القضايا الدائمة أيضا..

ومذهب التداعى للفيلسوف ((مل)) في تفسير نشأة المبادئ الأولية مردود عليه؛ لأن المبادئ الأولية لو تكونت تدريجيا من تداعى التجارب المحسوسة وتراكمها لزم أن توجد في البهائم أيضا؛ لأنها تشاركنا الاحساس, بل تزيد فيه عنا, ولزم أيضا أن تتناسب قوتها وسلطتها في الانسان مع زيادة العمر وقلته, غير أن الواقع يشهد بأن درجة الاعتقاد بالمبادئ واحدة لدى الشباب والشيب, دون تأثير من التجارب المتراكمة بالزيادة أو النقصان..

ويتولى ((سبنسر)) بنفسه محاولة تعديل المذهب الاختياري الخام لدى ((لوك)) ومذهب تداعى التجارب عند ((مل)) فيقرر أنه لو كان جميع ما يملكه الانسان هو القابلية الانفعالية لكسب الانطباعات, فلماذا لا يقبل حيوان كالفرس مثلا نفس التربية التي يأخذها الانسان؟, فالنفس الناطقة ليست لوحا أملسا ولا محصولا عاديا للتجربة الشخصية والفردية , بل ان قوة تنسيق التجارب الموجودة في النفس سلفا لهى صاحبة الفضل في تعلم الانسان شيئا من هذه التجارب.. وبهذا يؤكد ((سبسنر)) المبادئ اختيارية كما صنع ((لوك)) ولم يزد عليه شيئا سوى طرد الإشكال الى أعماق الماضي, والذى يمتنع لديه للفرد يمتنع للنوع أيضا.., وبطلان هذه المحاولة واضح؛ لأنه لا يمكن تصحيح المذهب الاختباري في أي مرتبة من مراتبه المعدلة؛ لإيمان أصحابه بتولد العقل عن التجارب..

والواقع أن تراكم التجارب وتداعيها , لا يتحصل فيه شيء أبدا؛ لأن الزمان لا يلد نفسه , وانما يأتي بتجارب محتاجة الى التنسيق والتنظيم, الذى يعجز عن ايجاد قابليتها له أبدا والعالم على المذهب التجريبي ليس الا مجموعة حادثات وسلسلة احساسات , لا تناسب بينها ولا تلازم, ومن الوهم الكبير ان تظن أن التجربة في ارتباط مباشر مع الأشياء ونسبتها الصحيحة؛ لأننا لا ندرك بها الا الظواهر والشئون غير المنظمة , وغير المرتبطة بعضها ببعض, ولو فرضنا أن العالم معقول بقوانينه وانسجامه انسجاما كليا ثابتا, فان هذا الفرض لا يأتينا من التجربة؛ لأنه لا يعتد بها في حد ذاتها, ولا هي موجودة بمعناها الأصلي لكونها عبارة عن تراكم حادثات مبهمة لامعنى لها ولا قيمة, قابلة للتعقل والتنظيم بواسطة العقل..

فالذهن لا يتولد عن التجربة, بل وجوده أقدم من وجودها, فغاية أي احساس تتركز فيما يمنحه لها الذهن من تحويلها من مجرد احساسات وجعلها فكرا.. فتأول العقل بالمحسوسات لدى التجريبيين الاختباريين, وتأول المعقولات – كالمبادئ الأولى – بالمحسوسات تكلف ما بعده تكلف, كما أنه من أراد أنواع المصادرة على المطلوب, كما أن الحق يشهد للمبادئ الأولية بأنها وهبية عقلية مركوزه في فطرة الذهن, وترفع مرتبة العقل في الاستدلال فوق التجارب الحسية..

والاهتمام بالمبادئ الأولية والاصرار على استخلاصها للعقل من براثين التجربة ينبعث من أهميتها؛ لاعتماد أدلة اثبات وجود الله عليها, وبخاصة مبدأ العلية ومبدأ التناقض, ولعدم قدرة التجربة على اثبات وجود الله ووجوب وجوده, ومن ثم كان لهذه المبادئ قيمة متعالية في نظر علماء الغرب بعد أن أصبح من الواضح أن (( قيمة المسائل الثابتة بالتجربة ليست كما يطيره مقلدوا الغرب في الشرق فوق السحب, ولا يقيمون معها وزنا للمسائل الثابتة بالأدلة العقلية.. فالحكم المبنى على التجربة والعلم الحاصل منها غايته: أنه حكم متحقق مطابق للواقع غير مرتاب فيه, لا أنه ضروري واجب مستحيل الخلاف؛ لأن ذلك من خصائص الأحكام الثابتة ببداهة العقل أو برهنته عليها)).

فقصارى القول في القضايا المستندة الى التجارب الصحيحة , أنها قضايا واقعية أو قضايا مطلقة عامة, وعلى أعظم تقدير هي قضايا دائمة, لا تجاوز في مضمونها الوقوع ودوامه بحال ما..

أما القضية المستندة الى بداهة العقل أو برهانه, فهي قضية ضرورية مطلقة تتجاوز الدوام الى الوجوب الذى هو فوقه حتى ان ما صنعه((جون ستيورات مل)) من ادخال المبادئ الأولى ضمن المجربات الممتازة بقوة التداعى – قد استوجب من قيمة المبادئ؛ لاعتمادها على التجارب في نظره, فتصور لها احتمال الانحلال في عالم غير عالمنا الأرضي..

وكان على الملاحدة المنكرين وجود الله بسبب شكهم المنبعث من عدم خضوع الوجود الإلهي للتجربة أن يعتبروا بما وصل اليه ((مل)) من هدم اليقين في التجربة, ولو كانت في المبادئ الأولية , كما كان الفيلسوف ((ليبنتز)) يقسم المعرفة الى بديهية, وبرهانية, وحسية, فيقول : (( نحن نعرف وجودنا بالبداهة, ووجود الله بالبرهان, ووجود الأشياء السائرة بالإحساس)), ثم يقرر أن اليقين الحسى لا يأخذ قيمة أولية الا برجوعه الى اليقين العقلي, كما قرر ((ديكارت)) في مذهبه: أن المحسوس يرجع عنده الى المعقول, ولا محسوس غير لديه, وهو نفسه ما ذهب اليه ((هيوم)) من ضرورة اليقين العقلي لعدم نقض البرهان(26).

تلاحم أدلة العقل النظرية مع أدلة العلم التجريبية في الالهيات:

مع هذا الانتصار للعقل على التجربة في مجال الالهيات, فانه لا انفصام بينهما؛ لأن هناك من العلائق والوشائج, ما لا يسمح بقطيعة الرحم هذه, فحاجة كل منهما الى الأخر متبادلة:

فالدليل العقلي يتضمن دليلا تجريبيا أيضا, ويستتبعه, وتتجلى حاجة العقل الى التجربة في مساعدتها له على اكتشاف وتوثيق المعلومات التي لا يصل اليها بنفسه في ساحة الماديات والجزئيات بواسطة الحواس ؛ لأن العلم الطبيعي هو علم المادة, وما يلازمها من متعلقات الحواس, ومن ثم كان احتياج العقل الى التجربة في ضبط الحادثات والواقعات الجزئية أمرا طبيعيا..

أما التجربة فأنها في حاجة الى العقل ليخطط لها ويحدد لها وظائفها بين أسرار الوجوب والاستحالة والامكان, فلو شهدت التجربة فرضا بوقوع شيء ممكن عقلا, فلا يعول على شهادتها , مع ان دائرة الامكان أوسع بكثير مما يتخيله القاصرون, ولكنها خارج نطاق العلم التجريبي الحديث, وانما هي من اختصاص العقل النظري والعلوم المبنية عليه, وبقدر ما تزداد دائرة الامكان اتساعا يشتد نطاق الاستحالة ضيقا أو أضيق منه نطاق الوجوب الخاص بوجود الله..

ومما يغفل عنه هؤلاء القاصرون الماديون: أن حاجة الاحساس والتجربة الحسية الى العقل أشد من حاجته اليهما, فهما يحتاجان دائما الى العقل؛ لأنهما بدونه لا يفيدان شيئا أو يفيدان شيئا باطلا, في حين أن حاجة العق الى الاحساس والتجربة الحسية ليست دائمة, بل قاصرة على ما لا يدركه العقل من الماديات التي لا تدرك الا بواسطة الآلات الجسمانية أما ما يكون عاريا أو عاليا عن المادة فالعقل يدركه دون توسط آلة, بل ربما تكون الآلة شاغلة فينحيها, (( كما يقع للإنسان من تعطيل حواسه عند التأمل في مشكلة))..
وهذا فضلا عن أن الحواس قد تخطئ فلا يصحح لها أغلاطها الا العقل, وع ذلك فهي تصر على أخطائها, كرؤية القمر أكبر من النجوم, وتحرك ساحل البحر لراكبه(27).

دوافع العداء بين العلم والعقل:

اذا كانت العلاقة بين العلم والعقل تقوم على هذا التعاون البناء المثمر بينهما, الى هذا الحد من تبادل العون وطلب المساعدة, ولا يشوب هذه الآصرة تفوق العقل فيما وراء المادة, ومرونة العلم في الماديات – فما سر العداء بينهما وأين يكمن الخلل؟..

في محاولة جادة للتعرف على موطن الداء ومكمنه , تم رصد بعض الأسباب على رأسها:
1 – خطأ مفهوم العلم في العصر الحديث.. حيث قصر مفهوم العلم المثبت على العلوم المبنية على التجارب المادية فقط , فكان ذلك رأس البلية, ومنبع المغالاة والشطط في هذا الزمان؛ حيث أوهم ذلك تنزيل العلوم غير التجريبية عن مرتبة العلوم المثبتة , وان لم يكن في هذه التسمية غرض خادع مخصوص فلعل وجهها أن العلم الطبيعي الذى اعتنى منذ عهد (بيكون) ألا يبنى أحكامه الا على تجارب قطعية, قد لقب بالعلم المثبت, بعد أن لم يكن هو نفسه في أزمته المتقدمة جديرا بهذا الوصف, فعلى هذا التقدير فقط تصح له هذه التسمية لكونها لم يقصد بها التعريض والاستهانة بسائر العلوم التي لم تكن منزلتها في القوة والمتانة دون العلم الطبيعي, بل يوجد فيها ما يفوقه.

غير أن الواقع يشهد بأن قصر العلم على التجربة انما هو بدعة غريبة؛ لأن العلم غير مختص بما يستند الى التجربة الحسية , فهناك علم يعم ما هو أفضل وأقوى منه يستند الى العقل والمنطق, لا الى التجربة, فحصر العلم فيما يثبت بالتجربة الحسية بدعة منكرة, ابتدعها الغرب, وقلده فيها كتاب الشرق الغافلون المضيعون استقلالهم الفكري.. فالعلم بمعناه الأعم يؤيد الدين أما العلم التجريبي فليس من حقه أن يتعدى حدوده فيناوئ الدين, بل حقه الاعتراف بضيق دائرته وقصر باعه عن الخوض فيما وراء الطبيعة..

والغربيون منذ عهد ((بيكون))(28), كانت عنايتهم بالأدلة التجريبية أكثر من عنايتهم بالأدلة العقلية, وجاء الحادهم من تعالى اثبات وجود الله عن متناول التجربة , الى حد لا يكفى فيه مثل ما يقال : وأين الثريا من يد المتناول؟!, بل وفوق ذلك أيضا..

والعلم بهذا المفهوم الغربي الضيق الأفق, كان سببا واضحا في معاداة الدين المسيحي للعقل وهو حتى بهذا المفهوم الضيق الذى يدفعه الى السكوت عن الموضوعات العالية, فانه بمكتشفاته المهمة – في دائرة تخصصه – عن أسرار الكون(( يهمس الى أذن العقل الواعية عن عظمة مكون الكون, ومبدع تلك الأسرار التي اختزنها فيه, ولم يطلع العلم بعد الا على أقل من عشر معشارها))..

والمفهوم الحقيقي للعلم , لا يقف عند حد اختلاف موقفه في نظر علماء الاسلام وموقفه في نظر علماء الغرب, وتلاميذهم من أبناء الاسلام, بل يختلف عن معناه لدى الفريقين, وهو بهذا المفهوم وتلك العقلية التجريبية يخرج الدين من ساحة العلم لخروجه عن متناول التجربة..

2 – العقلية الدنيوية للغربيين... فهي سبب السبب من اهتمام الغرب بالدليل التجريبي والتعويل عليه واهمال الدليل العقلي.. فالغربيون وعلماؤهم دنيويون قبل كل شيء وعمليون, فطلبهم العلم ليس الا لمنفع دنيوي, لا للعلم ذاته مع ادعائهم ذلك, وسيطرة العقلية الدنيوية العملية لدى الغربيين من ورائها أسباب أهمها :

أن التجربة مع كونها أدنى مرتبة من الاستدلال العقلي, كثيرة النفع والانتاج في أمور الدنيا يعمل بها ويعتمد عليها عند استجماع شرائطها, وان لم ترق نتائجها الى الوجوب و الضرورة, فهي تكفى للعمل , وان لم تكف للعلم والمعرفة القطعية الضرورية المستحيلة للخلاف..

ويتضح من ذلك استدلال ((كانط)) على وجود الله, بعد أن رفض أدلة العقل كلها وهاجمها, ثم لجأ الى الدليل الأخلاقي, الذى يرمى الى حماية الأخلاق الدنيوية عن طريق الاقتناع بوجود الله أكثر من أن يرمى الى اثبات وجود الله: أخطر حقيقة علمية لا تدانيها في الخطورة حقيقة ما في الدنيا و الآخرة, والتي هي أهم واجبات الانسان الممتاز بنعمة العقل..

وهذا الفيلسوف يتجاوز كل الحدود ويقلب الأوضاع حينما يحاول الانتصار للدليل التجريبي الذى يكفى للعمل الدنيوي , ولا يكفى للعلم بمنحه درجة الضرورة, وهذا يعنى أنه منح التجربة رتبة الثبوت بالعقل النظري, في الوقت الذى يقطع فيه صلة هذا العقل النظري بمسألة وجود الله, فهو يتقدم الغربيين ويقودهم في هذا الخطأ باحتكار اسم العلم للعلم التجريبي فقط دون غيره..

ويؤكد الفيلسوف ((سبنسر)) هذه العقلية الدنيوية العملية لدى الغربيين, والتي تجعل من الأخلاق وسيلة للمصلحة الدنيوية تماما, كما يتوسلون بالدين والعقيدة لنفس المصلحة, فليست هناك أخلاق بمعناها الحقيقي الثابت , وانما هي تابعة لأهواء الزمان والمكان, يقول ((سبنسر)):
((لابد أن تخضع الأخلاق للإيجاب الطبيعي في تنازع البقاء, فليبق من أخلاقنا ما يقف أمام التجربة القاسية, وليفن منها ما تذره هذه الريح العاصفة.. والأخلاق كأي شيء آخر تعود على الانسان بالخير أو بالشر, بمقدار ما تساير أغراض الحياة, فالخلق السامي هو ذلك الذى يسير مع الحية, ويشاطرها في كل ما ترمى اليه, فلنتقبل من الأخلاق ما يلائم الحياة, ولنرفض منها ما يعترض سبيلها ومجراها أو بعبارة أخرى:
يجب أن تكون الأخلاق بحيث تعاون الفرد في مضطرب الأهواء المختلفة التي تصدر من أعضاء المجتمع, ولما كانت هذه الملائمة بين الفرد والمجتمع, تختلف باختلاف الزمان والمكان, كانت فكرة الخير تختلف عند الشعوب أوسع اختلاف)).

وهكذا لا يتردد ((سبنسر)) وأتباعه لحظة واحدة في اخضاع الأخلاق كأي شيء آخر لقوانين التطور و الانتخاب الطبيعي سيرا على درب ((داروين)) وأنصاره ممن يريدون ابقاء زمام الانسان في يد الطبيعة تختار له من الأخلاق ما تشاء(29).

ثم يدفع (( أوجست كونت)) بقانونه الشهير : الحالات الثلاث للنفس؛ ليؤكد العقلية الدنيوية العملية لدى الغربيين, حيث يدعى أن للروح الانسانية ثلاث حالات أو أطوار:
- الحالة الالهية..
- حالة ما وراء الطبيعة..
- الحالة الاثباتية أو العلمية..

ثم يوضح أن الحالتين : الأولى والثانية عرضيتان زائلتان , والحالة الأخيرة هي الكمالية؛ لأن الانسان في هذه الحالة الأخيرة يتخلى عن مسائل المبدأ والعاد, ويتفرغ لمشاهدة الحادثات وما بينهما من النسب الثابتة, وبهذا يثبت ((سبنسر)) العقلية الدنيوية العملية لدى الغرب وعلمائه, وتأثيرها في رفع العلوم التجريبية الحسية فوق مرتبة العقل..

3 – عدم بناء الغرب عقيدتهم العلمية أو الدينية على اليقين التام.

فبناء العقيدة على يقين تام ضروري : أول واجب الانسان لدى علماء المسلمين, أما هؤلاء الغربيون فانهم لا يبالون بالشك في العقيدة التي ترجع الى العلم, بل لا يمكن عندهم – وبخاصة المتأخرون منهم – الحصول على اليقين التام المطلق وهذا يعنى عندم الاهتمام بالعلم اليقيني, لاسيما في العقيدة الدينية..

ويوضح الفيلسوف الإسباني ((جورج سنتيانا)) هذا الجانب العقائدي لدى الغرب, فيقول :
((ان عقيدة الانسان قد تكون خرافية, ولكن هذه الخرافة نفسها خير , مادامت الحياة تصلح بها, وصلاح الحياة خير من استقامة المنطق, أي أن الخرافة أفضل لنا من القياس المنطقي الصحيح اذا كانت الحياة تصلحها الخرافة, أكثر مما يقومها ذلك القياس))(30)

وهكذا تتفوق الخرافة على اليقين في عقيدة الغرب, مادام النفع الدنيوي قائما ؛ انتصارا للعقلية الدنيوية العملية لديهم , وينهض هذا المنهج النابع من فلسفة ((البرجماتيزم)) في الغرب المسيحي, دليلا على استحالة بناء عقيدتهم الدينية على اليقين التام.

ولما كان السائد في فلسفة الغربيين الأخيرة , تفضيل الأدلة التجريبية على الأدلة العقلية, تحت ضغط العوامل الثلاثة السابقة , لحاجة لا دينية في نفوس ملاحدتهم الماديين, وحاجة دينية في نفوس المؤمنين منهم, قضيت كلتاهما في ابتعاد الفريقين عن العقل – فقد زال اليقين الضروري من وجود الغرب, وتنزلت قيمة العقل الى ما دون ذلك..
ولقد لخص الفيلسوف ((سبنسر)) ضياع اليقين في قوله السالف, موضحا اجتماع ملحدي الغرب ومؤمنيهم على هدم الأدلة العقلية, وحفر هوة عميقة بين العقل والعلم, ((أما الدين فخير له أن يترك هذا العقل الذى لا يطمئن الى غير الحجة المنطقية, وقل للعقل أن يكف عن اثبات وجود الله أو انكاره))

وبعد: فإننا نؤوب من تلك السياحة بين العلم والعقل بتقرير أنهما متعاونان متآزران الى حد بعيد جدا, ولا عداء بينهما, وأن لكل من العلم والعقل أهميته الخاصة به في حياة البشر, وسوف يظل العقل والعلم يتبادلان الحاجة الى بعضهما , مع تفوق العقل في ميدان الميتافيزيقا , ومرونة العلم في الميدان الطبيعي, أما عن أسباب ذلك الخلل وتلك الفجوة بين العقل والعلم قانها تشكل في مجموعها أخطاء تتمثل في سوء الفهم وقصره على الميدان التجريبي وفى النزعة البرجماتية التي ولدت عقلية دنيوية عملية لدى الغرب ورفض اليقين في عقائدهم الدينية والعلمية , وهذا المنهج الخطأ في فكر الغرب وفلسفته أقام فجوة بين العلم والعقل وألصق بالعقل مجموعة من الأحكام الظالمة والجائرة فهو لا يستطيع في نظرهم أن يثبت وجود الله, ولا يوجب له الوجود, وأحكامه أدنى مرتبة من أحكام العلم التجريبي, ونخلص من ذلك الى أن آفة العلم الطبيعي ليست كامنة فيه, بل في الفهم السقيم الذى يتناول به بعض علماء الغرب ومقلدوهم في الشرق..

وجود الله يأبى الخضوع للتجربة:

((لم يدع عالم منصف أن التجربة أيضا تأبى – كالعقل المحض والعلوم المبنية عليه – أن تنحاز الى جانب الدين, والآن نرتقى في البحث ونقول : ان مسالة وجود الله, الذى هو أساس الدين, لا يعوزنا اثباتها بالدليل التجريبي , بعد اثباتها بالدليل العقلي)) فالذي لم يبق مجال للشك فيه أن وجود الله ثابت ثبوتا علميا من غير تحديد لذاته, وأن هذا الثابت هو موضع النقاش مع الملاحدة أدعياء العلم المثبت..

ومع ذلك فان التجارب تنادى بوجود الله سبحانه وتعالى, فما من قانون يكتشفه الانسان بتجاربه, الا وهو ينادى- في نظر العقل والعلم والمنطق – بوجود الله الذى وسع كل شيء علما ووضع ذلك القانون وضعا, الا أن هذه الدلالة القطعية قاصرة على وجود الله فقط؛ لأنها لا ترينا ذاته عز وجل(31).

ووجود الله لا يمكن أن يكون موضوع تجربة, فاذا أمكن اثبات وجود كل شيء بالتجربة فلا يمكن اثبات وجود الله بها؛ لأن مسألة اثبات وجود الله لا تنقاد للتجربة وتأبى النزول بساحتها من ناحيتين.

الأولى – خروجها عن نطاق الماديات.
والثانية – عدم خضوع الذات الالهية للتشخيص كالحوادث, وانما نعرفه سبحانه بوجه كلى أي واجب الوجود, وهو كلى يجب انحصاره في موجود واحد نظرا لدليل التوحيد بعد دليل اثبات الواجب, وعليه فانه يتعذر اثبات وجود الله بالتجربة لأسباب:
1- مسألة اثبات وجود اله, هي مسألة اثبات الوجود الواجب, التي يلزم أن تكون من المسائل الضرورية لثبوت المستحيل خلافها..
2- التجربة لا تثبت الضرورة ولا الوجوب, ومن ثم كانت مسائل العلم الطبيعي وقوانينه المبنية على التجارب غير ضرورية, فلو كان الله ثابتا بالتجربة, كما يتمناه القائلون بدلا من ثبوته بالبرهان العقلي, لما كان موجودا واجب الوجود, مستحيل العدم, بل موجودا عاديا كواحد من الموجودات غير الضرورية في وجودها, وعليه فلا يكون هو ((الله)) حينئذ..
3- وجوب الوجود لله – الذى يتم بالدليل العقلي – سابق على مجرد معرفة وجوده كأقصى حدود التجربة؛ لأن الأخير مترتب على الأول؛ ولأن الله لا يعرف بحقيقته غير أن عجز التجربة وقصورها في مجال الألوهية ليس حجة لنفى وجود الله أو الشك فيه مع وجود طريق آخر غيرها لإثبات وجود الله, وهو البرهان العقلي.

فالعلم منهى عن التورط في البحث عن الحقائق الالهية المستوردة؛ لأن ذلك فوق مقدوره وهذا العلم المنهى عن التورط هو علم الغربيين ومقلديهم منا, والذى هو مقصور على العلم التجريبي, والذى احتكر اسم العلم له بغير وجه حق, وهذا العلم الغربي قد تورط في ادعاءين كاذبين :
أولهما – ادعاؤه بإنكار وجود ما لا تدرك حقيقته؛ لأنه بذلك يدعى معرفة كل شيء ولا يعزب عنه شيء , وهذا منه غرور وجهل بحده..
ثانيهما – ادعاؤه أن كل معقول لا يؤيده محسوس فلا يعتد به ولا يعترف بوجوده, هذا يقرر بعض أنصار العلم التجريبي الطبيعي زيف دعوى الثبات المزعومة له, والتي يقصرونها عليه, وتصدر ادعاءاتهم ومزاعمهم باسم العلم.. فالفيلسوف ((جوستاف لوبون)) يقول بعدم ثبات العلم التجريبي ثباتا دائما, ويهدم أكبر دعوى للماديين في تقولهم بأزلية المادة و أبديتها, حيث اقتنع الفيلسوف بعد تدقيقات عديدة بأن المادة تتفرق وتفنى تدريجيا..

وكان الذى دفع العلماء الى ادعاء الثبوت للعلم التجريبي والقول بأزلية المادة وعدم فنائها, الذى خيم في سماء الفكر الإسلامي دهورا- هو غاية البطء في تدرج المادة نحو الفناء, حيث ان ((الراديوم)) مثلا – هو أسرع الجسوم الى الفناء, يفقد في مليون سنة واحدا في الألف من جوهره(32).**اللي يقول على علمائنا دراويش بعد كده هخروملوا عينيه اللهم صلى على النبي حاجة أول مرة أعرفها بعد ما قرأت الكتاب**

وينادى ((جوستاف لوبون)) ومعه بعض علماء الغرب بالتواضع في مجال العلم الطبيعي وقوانينه و أحكامه ونتائجه ونظرياته فيقول: ((... ان العلم لم يصل بعد الى أسرار الحياة ومنشأ الأنواع, وأن النظريات دائمة التغير...)) ويؤكد ذلك الرياضي الكبير ((هانرى بووانكاريه))(33) بأن النظريات الكبيرة التي كانت قد قبلت في صورة عمومية واكتسبت موافقة المجربين جميعا, ليس لها وجود اليوم, ويقول : (( ان الحقائق العلمية والمنطق العلمي غير قابلين للشك والنقض لدى المشاهد السطحي فقط)), وقد لاحظ بعد التروي أن العلوم تقوم على الافتراضات, وأن نفحة واحدة تكفى لجعل عاليها سافلها..

أما ((شارل ريشه)) فيرى أن العلم قاصر على ادراك الظواهر, أما حقائق الأشياء فلا يدركها, كما يقول عز وجل في كتابه الكريم : {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا...}(34).

وامام الملاحدة المتأخرين الفيلسوف ((بوخنز)) يقرر عدم المعرفة بالمادة بالإضافة الى عدم معرفة القوة , وينتبه الى التناقض في القوانين الطبيعية, حيث يقول عن المادة: انها ليست حقيقة بل كناية عن الضرورات التي تربط الأشياء بعضها ببعض, وهى كناية عن خواص المادة وحركاتها))..

ويقول ((وليم كروس)) : ان النتائج الكاذبة للظواهر الطبيعية بالاختصار نجدها مبنية على قوانين أخرى لا نعلمها , ويؤكد ذلك ((أليورلوج)) فينبه الى ان امكانية القوة البشرية محدودة في المجال العلمي, ونحن لا ندرك كل الموجودات الغارقين فيها من حولنا كما يشير الى ذلك الفيلسوف الحسبانى الشهير ((هيوم)) بقوله : ((أن نعلم حدود قدرتنا ذروة الحكمة البشرية))..

وهكذا يتراجع التجريبيون عن فكرة الثبوت في العلم الطبيعي التجريبي , ويعترفون بعجز الانسان في علمه أمام عظمة علم الله وقدرته(35).
وقبل أن ننهى عن تطبيع العلاقات بين العلم التجريبي ووجود الله عز وجل, نعود فنلخص الأمر كله في بعض التساؤلات الموضوعية:

1- لماذا لا يكون علم الالهيات – لاسيما مسألة اثبات وجود الله – موضع العلم حال كون العالم مملوء بالأدلة التجريبية المسفرة عن وجود الله؟!
2- ولماذا يكون لقب العلم المثبت من امتياز العم الطبيعي التجريبي وده؟!.
3- وهل يجدر بعالم الهى(36), الا يكون علمه بوجود الله من العلوم المثبتة الحقيقية؟!..

وان كان من حقه القول بأن وجود الله اثباتا أو نفيا ليس موضوعا للعلم الطبيعي؛ لأنه سبحانه ليس من الطبيعيات, فليس له أن يقول: انه ليس موضوع العلم الحقيقي المثبت على حقيقة معنى الكلمة؛ لما يوهمه من أن العلم بوجود الله ليس بعلم حقيقي مثبت, كما أن حصر العلم الحقيقي المثبت في العلم الطبيعي ليس حقيقة , بل هو من مزاعم الماديين والطبعيين, فهذه العلوم المادية المبنية على التجارب والتي يسمونها علوما مثبتة, فإخفاقهم في عدم عثور على الاله المنشود, يعود الى أحد الأمرين أو كليهما معا.

ان هؤلاء الملاحدة لما نظروا بعقولهم الضعيفة , وقعوا في بهت وحيرة من عدم رؤية المؤثر, ****على سبيل المثال لما صنعوا المركبات الفضائية وصعدوا الى السماء ورأوا مدى اتساع هذا الكون ولم يجدوا الله مما حير عقولهم من القدرة والاحاطة بهذا الكون الهائل ولم يروا الله هناك وظنوا انهم وحدهم في هذا الكون !! وهذا ما سول لهم شيطانهم.. يبد أن فاتهم أن الأثر العظيم لا يدركون أخره , كيف يوجد من غير موجد؟! ولو ينظر بعين العقل والانصاف لعلموا قدرة الله سبحانه وتعالى

واذا كان الموجد يحتاج في ايجاده الى قدرة وعلم فائقين , فهل يستحق أن يوجد من غير حاجة الى موجد ومن غير حاجة الى علم وقدرة يلزم وجودهما في الموجد؟!.

كلا.. ان الحقيقة تؤكد: كلما عظم الأثر عظم احتياجه الى المؤثر..

وفاتهم أيضا أن وجود الأثر العظيم بنفسه دون حاجة الى موجد محال لا يأتي أبدا؛ لأن الممكنات لا يكون وجودها ولا عدمها ضروريا وتكون قابليتها لهما على السواء من غير رجحان أحد الجانبين على الآخر, الا بمرجح خارج منه - لا يعقل وجودها الا بإيجاد؛ لأنها لو وجدت بنفسها من غير موجد يرجح لها جانب الوجود لزم الرجحان من غير مرجح, وهو محال متضمن للتناقض للتساوي المفروض في الطرفين: الوجود والعدم في الممكن ؛ وذلك لأن الموجود ينقسم الى الممتنع والممكن..
الواجب والممكن.. والمعدوم ينقسم الى الممتنع والممكن..
فالواجب: ما لا يمكن عدمه وهو : الله..
والممتنع: ما لا يمكن وجوده, مثل وجود الشريك لله, واجتماع النقيضين..
والممكن: ما لا ضرورة في وجوده ولا في عدمه, فمنه ما يكون موجودا, ومنه ما يكون معدوما, ومثال الأول. جميع الممكنات والمسمى بالعالم والمفسر بما سوى الله, والثاني مثاله: العنقاء التي لا وجود لها , ولكنها ممكنة لا يمتنع وجودها..

ولما كان العالم موجودا بجميع أجزائه , ولا يمتنع عدمه؛ لعدم كونه واجب الوجود, ولأنه ممكن لا واجب, فهو يحتاج ضرورة الى موجد آخر يتقدمه في الوجود ليستند وجوده الى وجوده , فلو وجد دون موجد لكان رجحانا دون مرجح وهو محال متناقض والمحال لا يكون واقعا مشهودا, فوجود العالم دلالة قطعية على وجود موجود آخر وراءه؛ لأنه يتسنى وجوده بدون هذا الموجود..

فالملاحدة الذين ينكرون وجود موجد آخر وراء العالم المشهود يستند اليه في وجوده, عجزوا عن بيان كيفية وجود العالم بدون موجد, ما دام العالم موجودا ممكن الوجود لا واجبه ولا يمكنهم انكار امكانه و ادعاء وجوبه..

اذا فقد انجلى حتى الآن: أن العالم الذى يحتاج في وجوده الى غيره لا يمكن أن يقضى حاجته هذه من نفسه وداخله, لشمول الامكان الذى هو رمز لحاجة جميع أجزائه فيلزم وجود موجد آخر غير محتاج ليقضى حاجة العلم المحتاج, ويكون هو الموجد له وهو الله الحى القيوم(37).

واذا كان بعض الملاحدة ينكرون وجود الله زاعمين استغناء العالم في وجوده عن وجود الله؛ لأن العالم أوجد نفسه بنفسه , فان هناك بعض الملاحدة من الماديين الذين ذهبوا في تعليل انكارهم وجود الله باستقلال المادة في ايجاد العام..

وللرد على هؤلاء الماديين في بهتناهم, الذى يتسنى لهم به التلازم بين قدم المادة, المدعى منهم لها , واستقلالها بخلق العالم, نقول: ان هؤلاء الماديين الذين تمسكوا بالمادة, وادعوا قدمها مع القوة الملازمة لها, وأن العام المتكون من هذه المادة القديمة هي وقوتها, قد استغنى عن أي موجود آخر غيرها – لا تستقيم لهم هذه الدعاوى الكاذبة حتى على فرض التسليم لهم بقدمها وقوتها؛ لأنه لا يلزم من قدم المادة خروجها من مرتبة الوجود الممكن, الى مرتبة الوجود الواجب غير المحتاج الى موجد, والسبب في ذلك أن المادة لا تفارقها حاجتها الى الصورة(38) التي يتعلق وجودها الفعلي عليها, فلا توجد مادة مجردة عن صورتها ولا العكس فكل منهما محتاج الى الآخر في وجوده, وهذا الاحتياج يتنافى مع وجوب الوجود..

وهذا الاحتياج المتبادل بين المادة والصورة, ليس من قبيل احتياج العلة الى المعلول ,فلا يستقل هذا الاحتياج الضروري بإيجاد العالم ولا يغنى عن وجود الله؛ لأن الاحتياج اذا دخل في نفس أي شيء , فهو يمنع ذلك الشيء من أي يكون واجب الوجود موجودا من نفسه , بل يلزم أن يكون وجوده بإيجاد من غيره, ويسمى ذلك الغير الموجد – في اصطلاح الفلاسفة – علة, والمحتاج الموجود معلولا فالصورة لا يمكن أن تكون العلة الموجدة للمادة ولا العكس أيضا, لأن هذا يلزم عليه أن تكون الصورة أوجدت المادة والمادة أوجدت الصورة في نفس الوقت, وهذا دور باطل ؛ لأنه يؤدى الى أن تكون كل من المادة والصورة أوجدت نفسها, أي تقدمت كل منهما على نفسها فتكون موجودة قبل أن تكون موجدة.. وحتى نعالج فك الاشتباك بين المادة والصورة المتمثل في هذا الاحتياج المتبادل , فانه يلزم تفسير الاحتجاج بينهما بأنه من قبيل احتياج المشروط, لا من قبيل احتياج المعلول الى علته الموجدة, وهذا الاحتياج لا يؤدى الى الدور الباطل لدى علماء الكلام المسلمين..

أما احتياج كل من المادة والصورة الى علة توجدها مرتبطتين ببعضها البعض, فهو من قبيل الحاجة التي لا تقضيها الصورة للمادة ولا العكس, ولا يقضيها الا موجود كامل يحتاجان اليه, بل يحتاج كل شيء اليه, وهو لا يحتاج الى شيء لكونه واجب الوجود, فحاجة المادة والصورة الى الله من قبيل احتياج المعلول الى العلة(39), وقول الملاحدة الذى سبق باستغناء هذا الكون عن صنع صانع: غير معقول؛ لأنه يؤيد الى محال وهو الرجحان من غير مرجح, وحين يأتي الماديون منهم بالمادة لملء هذا الفراغ فان صنيعتهم هذا يلحق بسابقه في عدم المعقولية؛ لأن موقف المادة في العالم ((موقف القابل لا موقف الفاعل)) , فلا يسند اليها أي صنع أو فعل, وهى قبل أن تكون صانعة – محتاجة الى صنيع صانع وايجاد موجد, لكونها من الممكنات الملازمة للاحتياج دون الاستغناء أو الإغناء ومثلها في ذلك الصورة تماما, فضلا عن عدم اتصافها بصفات الصانع الأعظم للكائنات العظيمة, كالعلم والارادة والقدرة والحكمة و الحياة(40).

ولقد عرضت للملاحدة شبهة مؤداها أن العقل يؤيد الالحاد ويناوئ الدين, فهم لا يعترفون الا بما يشاهدون؛ احتراما لعقولهم وقد بحثوا عن الله فلم يجدوه ولم يروه بأعينهم..

ودرء لهذه الشبهة التي تقوم على أساس عقلي لدى الملاحدة, فإننا نتوجه في البداية الى هذه الأساس فنبطله بعدم التلازم بين الأمرين اللذين قام عليهما وهما : عدم رؤية الله , وعدم وجوده فلا يستدل بعدم رؤيته تعالى على عدم وجوده؛ لأن العقل والعلم لا يستطيعان انكار وجود الله لعدم رؤيته, فهما نفسهما لا يريان, وانما يعرفان بآثارهما, وآثار الله تملأ كونه, فلا يسع العقل بداهة الا أن يحكم بموجد هذه الاثار , وفاعل هذه الأفعال , ويحكم على هؤلاء الملاحدة الذين لم يجدوا الله مع وجود فعله, ويقضى عليهم ((بجهلهم البسيط ان قالوا لم نجده)) لتقصيرهم في البحث, حيث بحثوا عنه, بحواسهم, ولم يبحثوا عنه سبحانه وتعالى بعقولهم, أو يقضى عليهم ((بجهلهم المركب, ان قالوا : انه غير موجود))؛ لأنهم لو بحثوا عنه بعقولهم لما تجرؤا على انكار وجوده(41).

ويصف واحد من علماء الطبيعة دليل الملاحدة وبرهانهم على انكار وجود الله, فيقول : (( قد ينكر منكر وجود الله ولكنه لا يستطيع أن يؤيد انكاره الكامل بدليل... والبرهان الذى يتطلبه الملحدون لإثبات وجود الله هو نفس البرهان الذى يطلب كما لو كان الله تعالى شبيها بالإنسان أو شيئا ماديا, أو حتى تمثالا من التماثيل, أو صنما من الأصنام, ولو كان الله مثل هذا الوجود المادي لما وجد هنالك مجال للشك في وجوده))(42).

والمادة التي يستند اليها الملحدون ايجاد العالم.. قابلة وليست فاعلة , والقابل من سماته العطالة وهذه العطالة في المادة على فرض أنها موجدة للعالم تتنافى مع التنظيم والاتقان في ايجاد العالم , ومن نفس القبيل اسناد الكائنات في وجودها الى الطبيعة, والذى لا يعنى سوى تكونها بنفسها من غير مكون, وهو محال لاستلزامه الرجحان من غير مرجح الذى يرجع الى التناقض لدى المتكلمين.

أما القوة الملازمة للمادة والتي تسمى ((بالطاقة)) التي تنقسم في مفهوم العلم الطبيعي الى أنواع(43) – كلها لا تصلح لأن تكون الفاعل الموجد الناظم لهذا الكون ؛ لأنها كلها تندرج في الحركة كما يرى ((بوخنز))(1824 – 1899), وانما هي آثار الفاعل في المادة, فضلا عن كونها عمياء لا علم لها ولا ارادة مثل المادة, فهي نفس الأفعال ونفس النظام الذى يحتاج الى نشدان الفاعل والناظم... يبد أن الملاحدة تلتبس عليهم القوة بهذا المعنى, وهى أنها آثار الفاعل في المادة, فيظنون استغناءها عن مالكها ومدبرها, أو يظنون أن المادة هي صاحب القوة وربها..

والحقيقة: أن المادة محل القوة لا ربها؛ لأن القابل – وهى المادة – لا ينقلب فاعلا, وكون المادة هي اله القوة المسيطر عليها, هذا مجرد وهم وضلال من الماديين؛ لأننا نرى القوة هي صاحبة السلطان على المادة ربها المزعوم؛ لأنها محل لهيمنتها وظهورها , ويقرر ذلك بعض العلماء فيقول: ((وسترى بالفعل أن الذين يحكمون بأن القوة لا سلطان لها على المادة انما يأخذون هذه الفكرة من خيالهم لا من العلم))(44)

وفوق ذلك فان بعض كبار الكتاب يظنون أن القوة الملازمة للمادة هي الله, وذلك بناء على الرأي الجديد الذى شاع في الغرب من أن المادة تنحل الى القوة عند فنائها, بل ان المادة لا وجود لها مذ كانت, وانما هي القوة المتكافئة, وهذا الرأي الذى نسخ القول القديم القائل بأزلية المادة وأبديتها وأنها لا تفنى ولا تستحدث , وأن ما يدبر هذا الكون انما هو تركيب المادة وتحليلها ليس الا , فلا يستحدث شيء من العدم ولا يفنى شيء من الوجود, مع تسليم زمام الايجاد الى الأسباب و الطبيعة انكارا لخالق الكون من العدم, وايمانا باستحالة الفناء والاعدام للموجودات, بتخيل جملة من الأوضاع الاعتبارية سارية ما بين تحليل وتركيب وتفريق وتجميع ناتجة عن حركات الذرات وسيل المصادفات في المادة..

وخلاصة الرد على الملحدين تنحصر في قضيتين:
الأولى – أن العالم المشهود يجب أن يكون من صنع صانع..
والثانية – أن المادة والصورة اللتين ينحل اليهما العالم غير جديرتين بأن تكونا صاحبتي هذا الصنع البديع..

فليس من قبيل العبث أن يقر المؤمنون بوجود الله دون رؤيته استدلالا بوجود العالم على وجوده سبحانه, بل هذا ما يلهمنا به وجود العالم, وهذا مقتضى العقل ومنطقه..
فنحن – المؤمنين بالله – نرى العالم كما يراه الملاحدة الماديون ونعرف المادة والصورة كما يعرفون, وزيادة على مكا يرونه وما يعرفونه نرى الحاجة ملحة أي الحاح في تشكل هذا العالم الى موجود أسمى من كل موجود ينطوي عليه العالم, ونحكم بأن كل ما ينطوي عليه من الموجودات وما بينهما من الانسجام, وما يتبعه من الانتظام صنع ذلك الموجود الأسمى وهو الله.

ويلخص أحد العلماء نظرته الى هذا المذهب والأساس الذى بنى عليه, فيقول: ((اذا نظرنا من قرب الى حجر الزاوية الذى وضعه مذهب الماديين... تبين لنا أنه ليس الا كتلة من الخشب المسوس, وأنك سبرت ضمائر أنصار هذا المذهب وجدتهم لا يعتقدون صحة الحادهم... ومذهبهم ليس الا أظهر بطلانا وأقل اعتمادا على العلم من كثير من الخرافات العلمية))(45).

أما عن تأثير هؤلاء الملحدين في المجتمعات البشرية فيقرره بعض المفكرين حيث يقول: (( ان مدنية أوروبا قد أفسدها عدم الدين, وأن عدم الدين سببه تعاليم الماديين, وأن تعاليم الماديين ضد العقائد خيالات و أوهام, لا تؤيدها حجة ولا يسندها علم , بل العلم برئ منهم ومن تعاليمهم))(46).

ولا شك أن هذا المذهب المادي الملحد مع تباين مشارب أصحابه من ماديين, وماركسيين و وجوديين على ضلال كبير , ولا وجود عندهم لعالم روحي أو يوم آخر كما جاءت الأديان , وليس للكون نهاية ولا حدود فالعالم أبدى ليس له بداية ولن تكون له نهاية , والمادة أزلية خالدة لها خصائص الخالق , فهي الخالقة للكون, والعلم – باعتباره كاشفا عن الصلات بين الظواهر الطبيعية – يطرد في تطوره الاله من الطبيعة, ويدحض خطل المثالية , ويؤيد صحة النظرة المادية الى العالم (47).

بل ان بعض الملاحدة الوجوديين يرى أن (( كل شيء جاء عفوا.. فكل موجود يولد بلا سبب ويحيا عن ضعف , ويموت بالمصادفة)), وعليه فالإنسان حر مطلق من كل قيد, ومن يخالف هذا النظام ويقيد نفسه بالإيمان بالله أو القيم أو تعاليم السماء , فهو من الأوغاد في عقد هؤلاء الأوغاد(48)..

وقد كان وراء هذه المادية وظهورها في أوروبا أسباب جعلتهم يعبدون الطبيعة من دون الله, تلك الظروف القاسية التي أوجدتها النصرانية والكنيسة المضللة؛ حيث استغلها المفسدون بدفع يهودي, فبغضوا الدين الى اوروبا, وكرهوا رجاله وكنيسته وهربوا الى الطبيعة التي لا كنيسة لها ولا التزامات, ثم قام المفتونون بحضارة الغرب من بيننا يغرون أبناء الاسلام بهجره والكفر بربهم ونبذهما كما نبذهما الغرب, بحجة أن النهضة العلمية والمدنية الأوربية سببها الغاء أوروبا للدين ونبذه والتخلي عنه والبعد عن الكنيسة.
ولكن الطبيعة لا تصلح أن تكون خالقا, سواء كانت بمفهومها غير الدقيق: ( الأشياء بذواتها كالجماد والنبات), أو بمفهومها الدقيق: (صفات الأشياء وخصائصها) من برودة وحرارة ورطوبة ويبوسة وغيرها , ولابد لها من خالق عظيم عليم هو الله سبحانه وتعالى الذى خلقها فأحسن صنعها:
{ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88ِ](49).
_________________________
(1) انظر موقف العقل .. ص 275,276/2..
(2) اثنان من أكبر علماء الانجليز الأول ((و.س.ثره وون )) والثاني ((طوماس هانرى هو كسله بى)), موقف العقل :278/2..
(3) لورد كيلفى من علماء الطبيعة المبرزين في العالم.. الله يتجلى في عصر العلم , ص 21
(4) ميرت ستانلى كونجدن.. عالم طبيعي وفيلسوف أمريكي.. المرجع السابق ص 20.
(5) موقف العقل .. ص 275/2..
(6) ((كارو)) من مشاهير أعضاء الأكاديمية الفرنسية ولجنة العلوم, وهذه الأقوال ورددت في كتابه ((مذهب الماديين)) يرد به على أصحاب النظرية الداروينية المادية.
(7) تم تحقيق خرافة الأثير, لراقم هذه السطور, حيث أصبح في الأيام الأخيرة فرضا مشكوكا فيه.
(8) هو الفيلسوف الفرنسي ((كيليوم دفونتيه)) في مقالة له بعنوان: ((حدود علم الحياة))..
(9) العالم البيولوجي, سيسيل هامان.. ص 142 ,143 من كتاب ((الله يتجلى في عصر العلم)).
(10) الفيلسوف الإنجليزي: فرنسيس بيكون(1561 – 1626), منح ديمقريطس مرتبة عليا, وفله على أفلاطون و أرسطو نفوذا في الطبيعة, انظر : أ – موسوعة الفلسفة .. د. عبد الرحمن بدوى: ص 394/1 وما بعدها. ب – الموسوعة الفلسفية المختصرة .. ترجمة فؤاد كامل و آخرين: ص 142 – 149 .
(11) المدرسة الأبيقورية: eqicuvism نسبة الى ((أبيقور)) أثينى عاش من (341 أو 351- 270 ق.م) وهى نوع معتدل وتعميق من مذهب اللذة, وفلسفتها مادية تقوم على أن اللذة هي وحدها الخير الأسمى والألم هو وحدة الشر الأقصى واللذة تطلب لذاتها ولو عن طريق الألم..
(12) المدرسة الرواقيةStoicism.. : نسبة الى رواق بوليجنوس المزدان والمسمى بالرواق المصور بأثينا الذى اتخذه زيتون الكتيومى.. نحو (336 – 264ق.م) مقرا له يجتمع فيه مع تلاميذه فدعة أصحابه بالرواقيين وكانت المدرسة تدعى بالزيتونية , وفلسفتهم أخلاقية عالمية قبل الميلاد, وقد ولد زيتون مؤسسها في كتيوم من أعمال قبرص ويعرف بزيتون الكتيومى لتمييزه من زيتون الايلى الإيطالي نحو (490 – 430 ق.م).. والرواقية تعترف بالله بخلاف الأبيقورية الملحدة.. والاسلاميون يسمون هذه المدرسة : أصحاب المظلة أو أصحاب الاصطوان..
(13) موقف العقل .. 295 – 297/2..
(14) ((ماكس بلانك)) العالم الطبيعي الذى فتح الطريق الى أسرار الذرة..
(15) مدير جامعة برمنجهام في كتابه ((الحياة و المادة))
(16) إسحاق نيوتن: 25 ديسمبر 1642 - 20 مارس 1727.. مؤسس الميكانيكة التقليدية والعالم الإنجليزي صاحب قانون الجاذبية الكلية ومن أشهر كتبه (( المبادئ)) و ((والمبادئ الرياضية الفلسفية الطبيعية)) , ويرى أن هناك انتظاما في الطبيعة يؤلف بين الحوادث ويربط بين العلة والمعلول..
(17) بطرس جاسندى (1592 – 1655)فيلسوف وعالم فرنسي، نوّه بأهمّية البحث التجريبي. من أعلام الرياضيين في عصره. حارب الركون إلى أرسطو وأحيا النظرية الذرّية معارضًا بها المدرسة الدّيكارتية، وحاول أن يوفّق بين الفلسفة الذرية وتعاليم الكنيسة, ويعتبره البعض مؤسسا للمادية الحديثة..
(18) موقف العقل.. ص 107,151/2..
(19) يرجع الى نصوص لكل من ((كارو)) و ((كانط)) و ((فيكتور هوجو)) في ص 94,107,126,127من الجزء الثاني لموقف العقل..
(20) موقف العقل.. ص 94,107,126,127/2..
(21) موقف العقل.. ص 125, 126,129/2..
(22) نفس المصدر: ص 314,315/2,105,121,152/1..
(23) المصدر السابق: ص 338/2..
(24) انظر: غاية المرام في علم الكلام للآمدى..ص 122,123 – الفلسفة أنواعها و ومشكلاتها – هنترميد.. ص419..
- موقف العقل.. ص 326/2 – نظرية المنطق د. محمد الجليند.. ص 101,102..
- الوسيط في المنطق الصوري د. نصار ص 180 وما بعدها – المعجم الفلسفي.. 46,96, 122..
- الموسوعة الفلسفية د. الحفنى.. ص 452..
(25) جون ستيورات مل.. Mill : (1806 – 1873) فيلسوف إنجليزي أبوه الفيلسوف ((جيمس مل)) ولد بلندن ولم يتعلم في المدارس بل تعهده والده بالتعليم , تأثر بالفيلسوف ((بتنام)) فيلسوف النفعية, وانخرط في سلك جماعة الراديكاليين الفلاسفة, والتي كان والده من زعمائها, وهو يعارض المذهب العقلي والذى يعنى به المذهب الحدسي الذى يدعى أن العقل فطر على المعاني والمبادئ .. بالمذهب الحدسي وهو من دعاة المذهب النفعي, فمعيار الحكم لديه على الأفعال بالصواب والخطأ هو بمقدار ما تمنحه هذه الأفعال من لذة وما تحجبه من ألم, وفى كتابه ((المنطق)) يرفض التسليم بالمنطق الصوري لاهتمامه بشروط مطابقة الفكر دون اهتمامه بصدق القضايا وكذبها؛ ويزعم أتباعه وخصومه أنه ملحد؛ لأنه لا ينظر الى الدين الا على ضوء المنفعة.
(26) موقف العقل: ص 330,332/2..
(27) موقف العقل : ص 162, 306, 307, 316, 338/2..
(28) فرنسيس بيكون: إنجليزي متعدد المواهب موسعي, ولد بلندن (1561 – 1626) أبوه السير نيقولا بيكون حامل الخاتم الأكبر للملكة اليزابيث , درس القانون وترقى حتى عينته الملكة مستشارا فوق العادة للتاج ثم بلغ أرقى المناصب القضائية حتى صار الوزير الأول سنة 1618, حاول اصلاح العلوم اعتمادا على الاستقراء دون القياس وقام بتصنيف للعلوم ونقد العقل وتحدث عن أصنامه, وتوسع في المنهج الاستقرائي , ولكنه لم يفهمه الفهم الحديث على أنه منهج ((القانون الطبيعي)) أو تعلق ظاهرة بأخرى, بل فهمه على أنه منهج يبين ((صور)) الكيفيات , فوقف بهذا الفهم بين الفلسفتين: القديمة والجديدة في مرحلة انتقالية بينهما رغم افتراقه في دراسة أفلاطون و أرسطو والمدرسيين.
(29) انظر: - موقف العقل.. ص 110/2..
- قصة الفلسفة الحديثة.. ص 324,325..
- قصة الفلسفة .. ص 488 وما بعدها..
(30) انظر: موقف العقل.. ص 109/2.. – قصة الفلسفة الحديثة.. ص 398/2..
(31) موقف العقل ص 342,344,448/2..
(32) انظر كيفية فناء المادة تفصيلا ونتائجه.. ص 354 – 356/2 من كتاب موقف العقل.. http://scholar.google.com.eg/scholar?q=Principal+component+analysis&hl=ar&as_sdt=0&as_vis=1&oi=scholart&sa=X&ei=MeT4UqGOOcT8ywPbiIDwCA&ved=0CCoQgQMwAA
(33) هنرى بووانكاريه(1854 – 1912) : واحد من فريق من العلماء لهم في نقد المعرفة العلمية باع طويل, ومن كتبه المشهورة في ذلك : ((العلم والفرض))1902, ((قيمة العلم)) 1905, ((العلم والمنهج)) 1909, ((خواطر أخيرة)) 1913 بعد وفاته, وهو يرى أن النظريات العلمية ليس لها قيمة مطلقة بل امكانية التغير وعدم المطابقة للواقع بالنسبة لها..
(34) سورة الروم: من الآية رقم 7..
(35) موقف العقل: ص 123, 354 وما بعدها 413, 450/2..
(36) مثل ((كارو)) الفرنسي الذى نذر نفسه لمحاربة الالحاد الديني..
(37) موقف العقل: من ص 73 – 76/2..
(38) الصورة: ما وجد في الشيء ولم يكن ممكنا أن يكون الشيء به غير ذلك الشيء وليست الصورة هنا بمعنى الشكل والمنظر, بل عبارة عما يكون به الانسان – مثلا – انسانا فالإنسان الذى صار انسان بمادته, كان في الامكان أن يصير بها غير انسان أيضا, ولا يمكن أن يكون الانسان بصورته الانسانية الا انسانا, ويسمى ابن رشد المادة على هذه الصورة بالمادة الأولى أو الماهيات, أو الحقائق الرياضية..
راجع موقف العقل: ص 76/2 – والعالم عند ابن رشد ص 68 – 71 للأستاذ ابراهيم محمد ابراهيم من رسالة ماجستير مخطوط بآداب القاهرة : 1404ه/1984م.
(39) انظر: موقف العقل والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين, لشيخ الاسلام مصطفى صبري , ص 75 – 77/2.
(40) نفس المصدر: ص 77, 78/2.
(41) موقف العقل : ص 78/2.
(42) أندرو كونواى ايفى: عالم فسيولوجي من العلماء الطبيعيين ذوى الشهرة العالمية, بخاصة في أمريكا موطنه. انظر ((الله يتجلى في عصر العلم )) ترجمة دكتور / الدمرداش عبد المجيد سرحان, ص 145.
(43) مثل : الثقلة والجاذبية العامة , والقوة الميكانيكية , والحرارة, والضياء, والكهرباء , والمغناطيسية, والعلاقة الكيماوية, والقوة الماسكة أو تجاذب الذرات, والقوة الذرية.
(44) كاميل فلامريون: من أشهر علماء الفلك في العالم.. انظر محمد فريد وجدى, لأنور الوجدى ص 98, والاسلام في عصر العلم لمحمد فريد وجدى ص 739 وما بعدها.
(45) كاميل فلامريون: الاسلام في عصر العلم لمحمد فريد وجدى ص 743,744, وانظر الرد على الماديين للدكتور محمد عبد المنعم خفاجى من ص 21 – 26.
(46) الاسلام في عصر العلم . محمد فريد وجدى ص 748.
(47) انظر: موقف الاسلام من نظرية ماركس . أحمد العوايشة, ص 123 – 128 والرد على الماديين د . خفاجى, ص 245.
(48) جان بول سارتر الوجودى الملحد. الاسلام والفكر المادى. د أحمد الشاعر, ص 335,336.
(49) انظر موقف الاسلام من نظرية ماركس ص 281 – 284.