مستفيد..
03-21-2014, 07:07 PM
اليقين البرهاني: تعريفه وتبعاته..
تعريف اليقين عند المتكلمين نجده متأثرا بمناهج الشك عند الفلاسفة فقالوا هو: (( العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه سواء كان ذلك العلم ضروريا او إستدلاليا))[1]..وهو (( العلم بحقيقة الشيء بعد النظر والإستدلال)) [2]..ومعناه أن يعتدل المرء التصديق والتكذيب حتى يصل بالإستدلال والبرهان المنطقي المرتب ترتيبا فلسفيا معينا إلى إزالة الشك ومن ثم يصل إلى اليقين..أي أن: اليقين مبني على الشك في المقدمات مهما كانت تلك المقدمات يقينية..وتأسيسا على هذا التعريف وقع التعميم وصار هو المنهج الأوحد في بلوغ اليقين.. يقول الغزالي رحمه الله -في إحدى مراحله الفكرية-: ( (من لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر..ومن لم يبصر بقى في الضلال والعمى)[3] ..وبالتأسيس على هذه التعريفات وقع رد إيمان المقلد دون تفصيل العبارة سواء بالتعصية أو بالتكفير ليخلصوا في النهاية إلى أنه : (( لا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة ))[4] ويروا أنه ((لا بد أن يصل الإنسان إلى معرفة الله أولاً بعقله ثم يصل إلى الإيمان بالرسل))..[5]
تطبيق منهج الشك على منهجهم في الشك: يُبطل قصدهم منه..
أولا حصرهم لمعنى اليقين في ضرورة أسبقية الشك هو في غير محله وإن كنا نعتبره وجها من أوجه اليقين إلا أن فيه تضييق على معنى آخر يحتمله اللفظ سواء لغة أو اصطلاحا وهو القول بأنه: العلم الجازم الذي لا يقبل التشكيك أصلا أو هو الثابت الواضح الذي لا شك فيه..وهذا التعريف يخص ما أجمعت عليه العقول السوية من بديهيات ومسلمات والسعي لإلزام هذا الجمع الغفير إلى تنبني منهج تنتهي فيه المقدمات إلى بديهيات هو فتح لباب المشاكل وتعقيد السهل. إذ أن الشك في ما تختزنه الفطرة من مسلمات يقينية يُعَقِّد الفطرة البشرية في تعاملها مع الحقائق فبعد جهد جهيد سيعود الشخص ليعترف أن الإنسان مزود بداهة أنه يمكنه أن يعرف وأبلغ دليل على هذا هو عدم شعور النفس بالحاجة لإقامة مثل هذا الدليل (إلا أن يكون من باب الإطمئنان وزيادة اليقين)..ذلك أنه: (( من نظر في دليل يفيد العلم وجد نفسه عالمة عند علمه بذلك الدليل كما يجد نفسه سامعة رائية عند الإستماع للصوت والترائي للشمس أو الهلاك أو غير ذلك..والعلم يحصل في النفس كما تحصل سائر الإدراكات بما يجعله الله من الأسباب..والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به )) [6] وهي ذات النتيجة التي خلص إليها الغزالي رحمه الله حين اعترف في آخر مراحله بأن اليقين نور قذفه الله في قلبه ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام..فما الفائدة إذن وما المعنى من أن نطلب الإستدلال على مسألة هي مركوزة في النفوس فـــ:ـ((الإقرار والإعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة )) [7]..
ثانيا منهج المتكلمين هو منهج رد الفعل والتأثر بالخصوم فملازمة الملاحدة والسفسطائيين مع إحسان الظن بهم وبمنهاجهم دفعهم للأخذ بمقدماتهم والتأسيس لليقين على أسسهم النخرة ثم كانت حجتهم أن الناس جميعا يستوون فى المعارف وفى القدرات والمواهب وأن العقل البشرى متحد ومتطابق وهذا غير صحيح إذ عامة الناس لا يمكنهم الدخول في هذا المعترك الفلسفي وترتيب الدليل البرهاني ترتيبًا فلسفيًا.
فهم من جهة قد حادوا عن اليقين القرآني الذي يُبنى فيه يقين الوحي على يقين الفطرة ليصبح الأمر نور على نور بالمصطلح القرآني إلى منهج آخر مختلف تماما يبنى فيه اليقين على الشك والضلال أي نور على ضلال تركا لمنهج القرآن العام..ومن جهة أخرى عملا بمناهج رد الفعل القائلة : ((من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية..فليستحدث لنفسه فطرة أخرى ))[8]..فاستحدثوا منطلقات جديدة مختصة بأولئك الأعيان من الشكاك دون غيرهم وهم ينحصرون في طبقة فكرية معيّنة هي في الغالب تأثرت بمناهج ومدارس الشك سواء منه المطلق أو المنهجي ليسقطوها جبرا على من نقت فطرتهم ولم تدنس وهم السواد من العوام من اللذين حصّلوا تلك العلوم دون تعقيد..إذ أن الشك في أمور بديهية هي حالة عارضة بمثابة الأمراض والأصل فيها اليقين وليس الشك مثل أن الأصل هو الصحة وليس المرض: (( فالأسباب العارضة لغلط الحس الباطن أو الظاهر أو العقل بمنزلة المرض العارض لحركة البدن والنفس..والأصل هو الصحة في الإدراك والحركة )) [9]
ثالثا طبيعي أن يترتب من حشر اليقين في هذه الزاوية الضيقة إما تعصية أو تكفير من لم يتبع طريقهم الفلسفي بدعوى أنه إيمان مقلد لم ينبني على نظر واستدلال (شك)..فجعلوا المُحصّلة أن النظر فى طريق معرفة الله تعالى هو أول الواجبات وقالوا لا يصح إيمان بغير نظر..وهو قول باطل لأمرين أولهما أن قد غاب عنهم أن المقلد لا يُذم بإطلاق كما فعلوا هم وإنما هو: (( لفظ مشترك يطلق بمعنيين: أحدهما قبول قول الغير بغير حجة..والمعنى الثاني للتقليد: أنه الاعتقاد الجازم المطابق لا لموجب..وهذا المعنى الثانى لم يقل أحد من علماء الإسلام إنه لا يكفي في الإيمان إلا أبو هاشم من المعتزلة وقد انفرد بذلك عن طائفته وسائر طوائف الإسلام من أهل السنة وغيرهم وخالف الأدلة ))[10]
ولم يتبينوا الفارق بين التقليد الواعي ونقيضه وهو كالفرق بين جزم العلم وجزم الهوى..فــــ((غاية ما يقول أحدهم: إنهم جزموا بغير دليل وصمموا بغير حجة وإنما معهم التقليد..وهذا القدر يكون في كثير من العامة..لكن جزم العلم غير جزم الهوى..فالجازم بغير علم يجد من نفسه أنه غير عالم بما جزم به والجازم بعلم يجد من نفسه أنه عالم )) [11]
فتناسوا ان الله تعالى كما ذم المقلدين عن هوى في القرآن مدح كذلك المقلدين عن وعي فقال سبحانه (( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )) [12]
ثانيها أن الإنسان لم يولد كما هو في زعمهم ساذجا لا يعرف شركا ولا توحيدا وإنما يولد عَلَى التوحيد الذي أخذ الله سبحانه ميثاقه علينا في الفطرة..كما قال تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ))[13] ولذلك لما يدخل أهل النّار النار يوم القيامة..فيقول سبحانه كما في الحديث الصحيح لبعض أهل النار: (( ابن آدم! لو أن لك ملك الأرض جميعاً أتفتدي به من عذاب النار؟ فَيَقُولُ: نعم يا رب والله لو كَانَ لي ملك الأرض لافتديت به من هذا العذاب الذي أنا فيه، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قد طلب منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك العهد وأنت في صلب أبيك ألا تشرك بي شيئاً ))..
اليقين القرآني وعلاقته باليقين الفلسفي
كمقارنة أولية يمكننا القول أن اليقين القرآني هو ملك العامة والخاصة في حين أن اليقين الفلسفي هو مسلك الخاصة..وذلك أن الإنسان قد يحصل له اليقين بالتسليم والوعي الفطري دون الحاجة إلى الدليل وإنما جعل الدليل من أجل الإطمئنان وتجاوز درجة التصديق إلى درجة أعلى كما في قول ابراهيم عليه السلام (قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)..فالدليل بالنسبة للمسلم في نظر القرآن لا يكون ناشئا عن شك: (( فقيمة الدليل هي في أنه منبه للفطرة والدليل بالنسبة لمسلم لا يكون ناشئا عن شك..المستدل ليس شاكا حتى يصل بالإستدلال إلى إزالة الشك ومن ثم يصل إلى اليقين..ولو كان الأمر كذلك أي لو كان الإستدلال هو الطريق لليقين لما كان الإيمان امرا ميسورا للناس.ومن ثم كان مقصود الإستدلال البرهاني في القرآني زيادة اطمئنان للشخص وتأكيدا ليقينه بالمدلول..هذا بالنسبة للمؤمنين..اما غيره فيكون الإستدلال بالدليل البرهاني من أجل إقامة الحجة عليه..أي ان مقصود القرآن تقوية اليقين بالمعنيين جميعا: نفي الشك الذي يدعيه الخصم وزيادة تسليط اليقين على النفس حتى يكون هو الغالب عليها المتحكم والمتصرف فيها..وعلى ذلك فاليقين الفلسفي -البرهاني- جزء من اليقين القرآني واليقين القرآني أعم منه وكثيرا ما يكون أسبق منه )) [14]
فآيات التدبر والدعوة إلى إعمال العقل في القرآن ليست هي دعوة إلى الشك كمنهج لبلوغ اليقين..إذ أن اليقين الذي يكتسبه المؤمنون من الآيات (( لا يعني بأنهم بغير يقين حتى تأتي هذه الآيات..وأن هذه الآيات لا تنشئ اليقين..إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها ويهيئ القلوب إلى التلقي الواصل الصحيح )) [15] ..ولو كان الدليل هو منشئ الإيمان لوجدناه يدور مع الدليل وجودا أو عدما فالكفار حتى مع قيام الدليل واستيقان نفوسهم للحقيقة إلا أن الدليل الذي من المفترض أن يتصرف في نفوسهم ويوجههم للإيمان لم يحصل..قال سبحانه فيهم (( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين* وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا ))..
وجه آخر يبين لنا مدى قصور الدليل البرهاني ألا وهو عجزه وعدم فعاليته في مسائل الغيب ومتعلقاته وخير دليل عدد الأقدام التي زلت في هذا الباب ممن وصل بهم الحال إلى إنكار نعيم القبر وعذابه أو إنكار النزول والإستواء وغيرها كثير..والشاهد أنه: (( ليس ميدان اليقين القرآني منحصرا في عالم الشهادة حتى يقوم المتيقن بالنظر والتحقق من كل شيء بحسه وعقله وإنما يتجاوزه إلى عالم الغيب..واليقين بعالم الغيب يخضع للزيادة والنقصان والتفاوت..لا من جهة الشك ولكن جهة الإطمئنان وزيادة اليقين..ومن ثم كان إمتحان الإنسان بهذا اليقين الغيبي أبلغ من إمتحانه بما يشاهده في عالم الشهادة..وهنا يكمن سر الإيمان والعبادة والإبتلاء..)) [16]..
ومن هنا يتبين أن قيمة الدليل في القرآن الكريم كامنة في تنبيه وإيقاظ الفطرة الإنسانية..وبهذا يكون اليقين القرآني ذا شقين شق فطري بديهي (لمن نقت فطرته) وشق برهاني استدلالي (لمن فسدت فطرته ولزيادة يقين الأول)..وبهذين الشقين يكون قد خرج عن الإطار الفلسفي الذي يرى أن البرهان اليقيني لابد أن ينشأ عن الدليل البرهاني الذي لا يعترف بالفطرة مصدرا لليقين ومن غير أن يقام على ذلك دليل وهو ما يجمع حوله كل من نقت فطرته وصفت سريرته فأقر عقله بوجود:
(( قوة تقتضي طلب معرفة الحق وإيثاره على ما سواه..وإن ذلك حاصل مركوز فيها من غير تعلم الأبوين ولا غيرهما..بل لو فُرض أن الإنسان تربى وحده..ثم عقل وميز لوجد نفسه مائلة إلى ذلك نافرة عن ضده ))[17]..
والسلام..
[1]/–الرازي-مفاتيح الغيب-ج1-173
[2]/الجرجاني –التعريفات-34-
[3]/ميزان العقل 175
[4]/محمد عبده–الإسلام والنصرنية-45-55-
[5]/-الفكر الثوري في مصر د.عبد العظيم رمضان: 33-34.- (نقلا عن محمد عبده)
[6]/بن تيمية-نقض المنطق-28-29
[7]/بن تيمية مجموع الفتاوى
[8]/الرازي في أساس التقديس نقلا عن أرسطوطاليس
[9]/بن تيمية-نقض المنطق-26-27
[10]/فتاوى السبكى ، تحقيق حسام الدين المقدسى ، دار الجيل بيروت ، 1992، 2/365-
[11]/بن تيمية-نقض المنطق-26-27
[12]/سورة التوبة الآية 100
[13]/الأعراف 172
[14]/د.راجح عبد الحميد الكردي-نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة-
[15]/سيد قطب في ظلال القرآن ج1 ص107
[16]/د.راجح عبد الحميد الكردي-نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة-
[17]/بن القيم-شفاء العليل-304
تعريف اليقين عند المتكلمين نجده متأثرا بمناهج الشك عند الفلاسفة فقالوا هو: (( العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه سواء كان ذلك العلم ضروريا او إستدلاليا))[1]..وهو (( العلم بحقيقة الشيء بعد النظر والإستدلال)) [2]..ومعناه أن يعتدل المرء التصديق والتكذيب حتى يصل بالإستدلال والبرهان المنطقي المرتب ترتيبا فلسفيا معينا إلى إزالة الشك ومن ثم يصل إلى اليقين..أي أن: اليقين مبني على الشك في المقدمات مهما كانت تلك المقدمات يقينية..وتأسيسا على هذا التعريف وقع التعميم وصار هو المنهج الأوحد في بلوغ اليقين.. يقول الغزالي رحمه الله -في إحدى مراحله الفكرية-: ( (من لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر..ومن لم يبصر بقى في الضلال والعمى)[3] ..وبالتأسيس على هذه التعريفات وقع رد إيمان المقلد دون تفصيل العبارة سواء بالتعصية أو بالتكفير ليخلصوا في النهاية إلى أنه : (( لا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة ))[4] ويروا أنه ((لا بد أن يصل الإنسان إلى معرفة الله أولاً بعقله ثم يصل إلى الإيمان بالرسل))..[5]
تطبيق منهج الشك على منهجهم في الشك: يُبطل قصدهم منه..
أولا حصرهم لمعنى اليقين في ضرورة أسبقية الشك هو في غير محله وإن كنا نعتبره وجها من أوجه اليقين إلا أن فيه تضييق على معنى آخر يحتمله اللفظ سواء لغة أو اصطلاحا وهو القول بأنه: العلم الجازم الذي لا يقبل التشكيك أصلا أو هو الثابت الواضح الذي لا شك فيه..وهذا التعريف يخص ما أجمعت عليه العقول السوية من بديهيات ومسلمات والسعي لإلزام هذا الجمع الغفير إلى تنبني منهج تنتهي فيه المقدمات إلى بديهيات هو فتح لباب المشاكل وتعقيد السهل. إذ أن الشك في ما تختزنه الفطرة من مسلمات يقينية يُعَقِّد الفطرة البشرية في تعاملها مع الحقائق فبعد جهد جهيد سيعود الشخص ليعترف أن الإنسان مزود بداهة أنه يمكنه أن يعرف وأبلغ دليل على هذا هو عدم شعور النفس بالحاجة لإقامة مثل هذا الدليل (إلا أن يكون من باب الإطمئنان وزيادة اليقين)..ذلك أنه: (( من نظر في دليل يفيد العلم وجد نفسه عالمة عند علمه بذلك الدليل كما يجد نفسه سامعة رائية عند الإستماع للصوت والترائي للشمس أو الهلاك أو غير ذلك..والعلم يحصل في النفس كما تحصل سائر الإدراكات بما يجعله الله من الأسباب..والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به )) [6] وهي ذات النتيجة التي خلص إليها الغزالي رحمه الله حين اعترف في آخر مراحله بأن اليقين نور قذفه الله في قلبه ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام..فما الفائدة إذن وما المعنى من أن نطلب الإستدلال على مسألة هي مركوزة في النفوس فـــ:ـ((الإقرار والإعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة )) [7]..
ثانيا منهج المتكلمين هو منهج رد الفعل والتأثر بالخصوم فملازمة الملاحدة والسفسطائيين مع إحسان الظن بهم وبمنهاجهم دفعهم للأخذ بمقدماتهم والتأسيس لليقين على أسسهم النخرة ثم كانت حجتهم أن الناس جميعا يستوون فى المعارف وفى القدرات والمواهب وأن العقل البشرى متحد ومتطابق وهذا غير صحيح إذ عامة الناس لا يمكنهم الدخول في هذا المعترك الفلسفي وترتيب الدليل البرهاني ترتيبًا فلسفيًا.
فهم من جهة قد حادوا عن اليقين القرآني الذي يُبنى فيه يقين الوحي على يقين الفطرة ليصبح الأمر نور على نور بالمصطلح القرآني إلى منهج آخر مختلف تماما يبنى فيه اليقين على الشك والضلال أي نور على ضلال تركا لمنهج القرآن العام..ومن جهة أخرى عملا بمناهج رد الفعل القائلة : ((من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية..فليستحدث لنفسه فطرة أخرى ))[8]..فاستحدثوا منطلقات جديدة مختصة بأولئك الأعيان من الشكاك دون غيرهم وهم ينحصرون في طبقة فكرية معيّنة هي في الغالب تأثرت بمناهج ومدارس الشك سواء منه المطلق أو المنهجي ليسقطوها جبرا على من نقت فطرتهم ولم تدنس وهم السواد من العوام من اللذين حصّلوا تلك العلوم دون تعقيد..إذ أن الشك في أمور بديهية هي حالة عارضة بمثابة الأمراض والأصل فيها اليقين وليس الشك مثل أن الأصل هو الصحة وليس المرض: (( فالأسباب العارضة لغلط الحس الباطن أو الظاهر أو العقل بمنزلة المرض العارض لحركة البدن والنفس..والأصل هو الصحة في الإدراك والحركة )) [9]
ثالثا طبيعي أن يترتب من حشر اليقين في هذه الزاوية الضيقة إما تعصية أو تكفير من لم يتبع طريقهم الفلسفي بدعوى أنه إيمان مقلد لم ينبني على نظر واستدلال (شك)..فجعلوا المُحصّلة أن النظر فى طريق معرفة الله تعالى هو أول الواجبات وقالوا لا يصح إيمان بغير نظر..وهو قول باطل لأمرين أولهما أن قد غاب عنهم أن المقلد لا يُذم بإطلاق كما فعلوا هم وإنما هو: (( لفظ مشترك يطلق بمعنيين: أحدهما قبول قول الغير بغير حجة..والمعنى الثاني للتقليد: أنه الاعتقاد الجازم المطابق لا لموجب..وهذا المعنى الثانى لم يقل أحد من علماء الإسلام إنه لا يكفي في الإيمان إلا أبو هاشم من المعتزلة وقد انفرد بذلك عن طائفته وسائر طوائف الإسلام من أهل السنة وغيرهم وخالف الأدلة ))[10]
ولم يتبينوا الفارق بين التقليد الواعي ونقيضه وهو كالفرق بين جزم العلم وجزم الهوى..فــــ((غاية ما يقول أحدهم: إنهم جزموا بغير دليل وصمموا بغير حجة وإنما معهم التقليد..وهذا القدر يكون في كثير من العامة..لكن جزم العلم غير جزم الهوى..فالجازم بغير علم يجد من نفسه أنه غير عالم بما جزم به والجازم بعلم يجد من نفسه أنه عالم )) [11]
فتناسوا ان الله تعالى كما ذم المقلدين عن هوى في القرآن مدح كذلك المقلدين عن وعي فقال سبحانه (( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )) [12]
ثانيها أن الإنسان لم يولد كما هو في زعمهم ساذجا لا يعرف شركا ولا توحيدا وإنما يولد عَلَى التوحيد الذي أخذ الله سبحانه ميثاقه علينا في الفطرة..كما قال تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ))[13] ولذلك لما يدخل أهل النّار النار يوم القيامة..فيقول سبحانه كما في الحديث الصحيح لبعض أهل النار: (( ابن آدم! لو أن لك ملك الأرض جميعاً أتفتدي به من عذاب النار؟ فَيَقُولُ: نعم يا رب والله لو كَانَ لي ملك الأرض لافتديت به من هذا العذاب الذي أنا فيه، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قد طلب منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك العهد وأنت في صلب أبيك ألا تشرك بي شيئاً ))..
اليقين القرآني وعلاقته باليقين الفلسفي
كمقارنة أولية يمكننا القول أن اليقين القرآني هو ملك العامة والخاصة في حين أن اليقين الفلسفي هو مسلك الخاصة..وذلك أن الإنسان قد يحصل له اليقين بالتسليم والوعي الفطري دون الحاجة إلى الدليل وإنما جعل الدليل من أجل الإطمئنان وتجاوز درجة التصديق إلى درجة أعلى كما في قول ابراهيم عليه السلام (قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)..فالدليل بالنسبة للمسلم في نظر القرآن لا يكون ناشئا عن شك: (( فقيمة الدليل هي في أنه منبه للفطرة والدليل بالنسبة لمسلم لا يكون ناشئا عن شك..المستدل ليس شاكا حتى يصل بالإستدلال إلى إزالة الشك ومن ثم يصل إلى اليقين..ولو كان الأمر كذلك أي لو كان الإستدلال هو الطريق لليقين لما كان الإيمان امرا ميسورا للناس.ومن ثم كان مقصود الإستدلال البرهاني في القرآني زيادة اطمئنان للشخص وتأكيدا ليقينه بالمدلول..هذا بالنسبة للمؤمنين..اما غيره فيكون الإستدلال بالدليل البرهاني من أجل إقامة الحجة عليه..أي ان مقصود القرآن تقوية اليقين بالمعنيين جميعا: نفي الشك الذي يدعيه الخصم وزيادة تسليط اليقين على النفس حتى يكون هو الغالب عليها المتحكم والمتصرف فيها..وعلى ذلك فاليقين الفلسفي -البرهاني- جزء من اليقين القرآني واليقين القرآني أعم منه وكثيرا ما يكون أسبق منه )) [14]
فآيات التدبر والدعوة إلى إعمال العقل في القرآن ليست هي دعوة إلى الشك كمنهج لبلوغ اليقين..إذ أن اليقين الذي يكتسبه المؤمنون من الآيات (( لا يعني بأنهم بغير يقين حتى تأتي هذه الآيات..وأن هذه الآيات لا تنشئ اليقين..إنما اليقين هو الذي يدرك دلالتها ويطمئن إلى حقيقتها ويهيئ القلوب إلى التلقي الواصل الصحيح )) [15] ..ولو كان الدليل هو منشئ الإيمان لوجدناه يدور مع الدليل وجودا أو عدما فالكفار حتى مع قيام الدليل واستيقان نفوسهم للحقيقة إلا أن الدليل الذي من المفترض أن يتصرف في نفوسهم ويوجههم للإيمان لم يحصل..قال سبحانه فيهم (( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين* وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا ))..
وجه آخر يبين لنا مدى قصور الدليل البرهاني ألا وهو عجزه وعدم فعاليته في مسائل الغيب ومتعلقاته وخير دليل عدد الأقدام التي زلت في هذا الباب ممن وصل بهم الحال إلى إنكار نعيم القبر وعذابه أو إنكار النزول والإستواء وغيرها كثير..والشاهد أنه: (( ليس ميدان اليقين القرآني منحصرا في عالم الشهادة حتى يقوم المتيقن بالنظر والتحقق من كل شيء بحسه وعقله وإنما يتجاوزه إلى عالم الغيب..واليقين بعالم الغيب يخضع للزيادة والنقصان والتفاوت..لا من جهة الشك ولكن جهة الإطمئنان وزيادة اليقين..ومن ثم كان إمتحان الإنسان بهذا اليقين الغيبي أبلغ من إمتحانه بما يشاهده في عالم الشهادة..وهنا يكمن سر الإيمان والعبادة والإبتلاء..)) [16]..
ومن هنا يتبين أن قيمة الدليل في القرآن الكريم كامنة في تنبيه وإيقاظ الفطرة الإنسانية..وبهذا يكون اليقين القرآني ذا شقين شق فطري بديهي (لمن نقت فطرته) وشق برهاني استدلالي (لمن فسدت فطرته ولزيادة يقين الأول)..وبهذين الشقين يكون قد خرج عن الإطار الفلسفي الذي يرى أن البرهان اليقيني لابد أن ينشأ عن الدليل البرهاني الذي لا يعترف بالفطرة مصدرا لليقين ومن غير أن يقام على ذلك دليل وهو ما يجمع حوله كل من نقت فطرته وصفت سريرته فأقر عقله بوجود:
(( قوة تقتضي طلب معرفة الحق وإيثاره على ما سواه..وإن ذلك حاصل مركوز فيها من غير تعلم الأبوين ولا غيرهما..بل لو فُرض أن الإنسان تربى وحده..ثم عقل وميز لوجد نفسه مائلة إلى ذلك نافرة عن ضده ))[17]..
والسلام..
[1]/–الرازي-مفاتيح الغيب-ج1-173
[2]/الجرجاني –التعريفات-34-
[3]/ميزان العقل 175
[4]/محمد عبده–الإسلام والنصرنية-45-55-
[5]/-الفكر الثوري في مصر د.عبد العظيم رمضان: 33-34.- (نقلا عن محمد عبده)
[6]/بن تيمية-نقض المنطق-28-29
[7]/بن تيمية مجموع الفتاوى
[8]/الرازي في أساس التقديس نقلا عن أرسطوطاليس
[9]/بن تيمية-نقض المنطق-26-27
[10]/فتاوى السبكى ، تحقيق حسام الدين المقدسى ، دار الجيل بيروت ، 1992، 2/365-
[11]/بن تيمية-نقض المنطق-26-27
[12]/سورة التوبة الآية 100
[13]/الأعراف 172
[14]/د.راجح عبد الحميد الكردي-نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة-
[15]/سيد قطب في ظلال القرآن ج1 ص107
[16]/د.راجح عبد الحميد الكردي-نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة-
[17]/بن القيم-شفاء العليل-304