المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فتح القدير في التحذير من قبول نموذج "الانفجار الكبير"



أبو الفداء
05-05-2014, 10:05 PM
فتح القدير في التحذير من قبول نموذج "الانفجار الكبير"

الحمد لله وحده، أما بعد، فيظن كثير من المسلمين أن "الانفجار الكبير" Big Bang يعد حقيقة علمية قطعية، وأنه يعتبر مغنما من مغانم العلم الحديث بالنسبة لنا معاشر الموحدين، على اعتبار أنه قد "أحرج" الملاحدة المعاصرين، لكفايته في "إثبات" حدوث العالم وهدم النحلة الدهرية جملة واحدة. وهذا في الحقيقة تصور قاصر للغاية وغير صحيح سواء لمذاهب الدهرية وفلسفاتهم (قديما وحديثا) أو لنموذج الانفجار الكبير وما يقوم عليه ذلك النموذج من مسلمات ميتافزيقية ومعرفية. وقد أسهبت في بيان هذا الخلل في التصور في "آلة الموحدين"، ثم رأيت أن أوجز القضية في مقال موجز (نسبيا)، بالنظر إلى خطورتها على اعتقاد المسلمين فيما يتعلق بجملة من القضايا الغيبية التي لا طريق لمعرفتها في الحقيقة إلا الوحي الثابت الصحيح. فمع أن كثيرا من المسلمين يحسبون (تبعا لبعض اللاهوتيين النصارى المعاصرين) أن الملحد يلزمه القول بحدوث العالم والزوال عن دهريته بمجرد التسليم بقبول نموذج الانفجار الكبير، إلا أن الواقع على خلاف ذلك. بل إن نموذج الانفجار الكبير نفسه (فضلا عن غيره من نماذج تاريخ الكون في علم الكونيات) ما تأسس إلا على أصول النحلة الدهرية القديمة ومسلماتها الميتافزيقية كما سنبين بحول الله تعالى وقوته.
فبداية، دعنا نقرر أن الدهرية المعاصرة قد اتخذت صورا تختلف (في تفاصيل المعتقد) عن تلك النحلة القديمة القائلة بأن العالم كان ولم يزل على ما هو عليه الآن من الأزل وإلى الأبد، ولكنها – مع ذلك – لم تزل متمسكة بأزلية النظام الكوني على صورة من الصور. فهي على أربعة أصناف فيما بلغه استقرائي الناقص، أصنفها كالتالي:

- دهرية العدم (ويمكن تسميتهم بالدهريين القانونيين)، وهم القائلون بأزلية بعض القوانين الفيزيائية والرياضية (لا سيما الاحتمالية) التي كانت تحكم العدم المطلق قبل فردية الانفجار المزعوم، والعدم المطلق هذا يعني عدم المادة والطاقة والزمان والمكان (الذي يعتقدون وجوده كشيء واقعي) Absolute Nothingness. فلا تسأل كيف يعقل أن توجد قوانين سببية كلية (كانت سابقة على حدث الانفجار ومن ثم كانت مفسرة لوقوعه) دون أن يوجد شيء تجري عليه تلك القوانين!

- دهرية الجوهر، وهم القائلون بالعدم الفيزيائي Physical Nothing (خلافا للعدم المطلق) قبل الانفجار، (مع كونه بالبداهة خاضعا لجملة من القوانين التي كانت تحكمه وأدت به إلى وقوع فردية الانفجار والتمدد)، مع أزلية بعض المادة أو الطاقة أو ما يشبههما على المستوى الكماتي بصورة ما أو بأخرى)، وهو الاعتقاد الأكثر شيوعا بين الطبيعيين المعاصرين.

- دهرية الكون المتقلب (ويمكن تسميتهم بالدهريين التقلبيين)، الذين يعتقدون أن العالم كان ولا يزال يبدأ من نقطة تتممد (في حدث الانفجار) ثم يمضي بتمدده إلى لحظة ينقلب فيها إلى الانكماش رجوعا إلى نفس تلك النقطة متناهية الصغر، ثم يعاود الكرة ليتمدد من جديد ثم ينكمش فيما يعرف باسم Big Crunch، وهكذا في تقلب دائم بلا بداية ولا نهاية، في إطار ما يعرف باسم نظرية الكون المتقلب أو المتردد Oscillating Universe أو النموذج الدوري Cyclic Model (وهذه الطوائف الثلاثة كلها يمكن جمعها تحت اسم "الدهريين الانفجاريين"، أي القائلين بنموذج الانفجار الكبير). (1)

- دهرية الكون الثابت، وهم القائلون بنموذج الكون الثابت Steady-State Universe (على قلتهم)، ومن شاكلهم ممن يقولون بنماذج أخرى لتاريخ الكون بخلاف نموذج التضخم المفاجئ أو الانفجار الكبير. وهؤلاء باقون على ما كان عليه الدهرية القدماء إجمالا من اعتقاد قدم العالم، وإن اختلفت صورة العالم القديم في تصورهم عما كانت عليه عند أسلافهم.
هذه الطوائف الأربعة أزعم أنه لا يخرج عنها فيزيائي واحد من الطبيعيين الغربيين المعاصرين، وقد تشكلت دهريتهم على صور ودرجات متفاوتة في ضوء النظريات المعاصرة في علم الكونيات، ليجمعها كلها قاسم مشترك أعظم كما ترى، ألا وهو اعتقادهم بأزلية "القانون الطبيعي" Natural Law إجمالا، بمعنى أن ثمة قوانين طبيعية معينة كانت جارية من الأزل وستظل تجري إلى الأبد ولابد، وهو ما يبقيهم على الركن الركين للمعتقد الدهري: تسلسل الأسباب (بصورة ما أو بأخرى) من جنس ما يجري في العالم المشاهد، من الأزل وإلى الأبد بلا سبب غيبي أول.

وخلافا لما يظنه كثير من المسلمين وغيرهم من أهل الملل التي تدين بالخلق والمخلوقية، فهؤلاء الدهرية المعاصرون لم "يتحايلوا" على المعتقد الدهري بهذا الاعتقاد الجديد تبعا لما سببه لهم نموذج الانفجار الكبير من "إحراج"! بمعنى أنهم لم "يضطروا" للشهادة بأن الكون حادث (غير أزلي)، بل لم يضطروا للزوال عن دهريتهم في الحقيقة كما يظنه كثير من إخواننا، وإنما التزموا – بدهريتهم المعاصرة - ما يقتضيه التسليم بصحة ذلك النموذج الكوزمولوجي نفسه (بل أي نموذج طبيعي آخر في تصور نشأة الكون، وليس الانفجار الكبير على وجه الخصوص). ذلك أن مجرد القول بإمكان بناء نموذج "طبيعي" لتصور نشأة الكون وما جرى في سياقها من أحداث تفصيلية وما جرت عليه تلك الأحداث من تتابع للأسباب والمسببات، يستلزم تمديد القانون الطبيعي الجاري (كله أو بعضه) إلى ما قبل تلك الأحداث نفسها، حتى يصح – من حيث المبدأ المعرفي - إخضاعها إلى منهج القياس والاستقراء الطبيعي الذي يقال له "الطريقة العلمية" Scientific Method ، ومن ثم الوصول إلى تصورها "طبيعيا" باستصحاب مبدأ الاستمرارية أو الثابتية Uniformity كمقدمة مبطنة Implicit Premise، وإلا فلو قال أحدهم بأن ذلك الحدث لا يمكن أن يكون قد خضع لشيء مما يمكننا تصوره "طبيعيا" من القوانين السببية في ضوء معرفتنا الحالية بالنظام الكوني، وإنما خضع – بالضرورة - لأسباب لا قياس لها على شيء مما هو جار في هذا العالم من نواميس (وهو الحق الذي يقتضيه المنطق الفطري وتشهد به البداهة الأولى كما سيأتي)، لقطع على نفسه طريق المعرفة "الطبيعية" ولحكم بامتناع بناء أي نموذج نظري في تلك القضية باستعمال تلك الأدوات من الأساس، وهو ما لا يمكن أن نتوقع حصوله عند أحد من الطبيعيين أبدا في يوم من الأيام، لاعتقادهم كفاية الطريقة العلمية الطبيعية في تحصيل المعرفة بمسألتي الأصل والمنشأ من جهة والمصير والمآل من الجهة الأخرى! فهم حريصون على حشر العلم الطبيعي وأدواته في سائر الأسئلة الكبرى التي كان العقلاء ولا يزالون يلتمسون جوابها من طريق الوحي والنبوات، لأنهم لو لم يفعلوا – على أي صورة من صور التنطع الفلسفي الفجّ الذي نعهده من الملاحدة عموما - للزمهم أن يشهدوا على نحلتهم بالخواء والفقر والجهالة!

فالقول بأن قصة النشأة الأولى لهذا العالم كانت خاضعة لنظام سببي "طبيعي" كان جاريا على سائر الموجودات فيما قبلها (وهي تلك المقدمة المعرفية الضرورية التي بها يستجاز نمذجة تلك القصة وتوصيف أسبابها باستعمال مفردات النظام الطبيعي الحالي)، إنما يعني تمديد قاعدة الاستمرارية في النظم الطبيعية الحالية إلى الأزل في الماضي بلا بداية، وإلى ما لا نهاية له من الامتداد في جميع الجهات مكانيا! وإن افتُرضت لتلك النظم بداية في الماضي لزم أن تكون أسبابها السابقة عليها هي الأخرى بدورها من جنس ما يمكننا تحليله طبيعيا وقياسه طبيعيا. وهذا التصور في إعمال مبدأ الاستمرارية الطبيعية هو عين معتقد الدهرية في تسلسل الأسباب كما بينا!

فالقانونية الكونية نفسها لا فرق في جريانها بين الحدث الأول وغيره من أحداث العالم عند التدبر، لدخول جميع الحوادث عندهم – من الأزل وإلى الأبد - تحت تلك النظامية السببية المادية المحسوسة (بالفعل) أو الممكن إخضاعها للحس من حيث المبدأ (بالقوة)! فلا شيء في نموذج الانفجار أو غيره من نماذج تفسير وتوصيف "النشأة" (طبيعيا) يقتضي أي معاملة خاصة من الناحية المعرفية فيما يتعلق بالتعليل الأول إثباتا أو نفيا، وذلك لمجرد حقيقة أنه "نموذج طبيعي" Scientific Model! فحدث النشأة عند علماء الكونيات إنما هو من جهة النوع: "حدث طبيعي" كأي حدث من الأحداث الجارية الآن في كوننا، ليس تعسفا منهم في فهم مقتضياته، وإنما إعمالا للمنطق الطبيعي المجرد Scientific Logic في تصور أي حدث مما يوصف بأنه "طبيعي"! ذلك أنه حتى يصح للعلم الطبيعي أن يكون طريقا لتصور أي حدث "أ" وتوصيفه قياسيا واستقرائيا، فإنه يلزم استصحاب الاعتقاد بكون "أ" هذا مسبوقا ولابد بأحداث من جنس ما يمكننا رصده وقياسه وتصوره فزيقيا (من حيث المبدأ، أو بالقوة القريبة)، ومن ثم تصور الكيفية التي كانت بها تلك الأحداث سببا في وقوع "أ" هذا على وفق قانون كوني يمكننا طرده في جهة الماضي إلى ما قبل "أ"!

وعليه، فإن جعلنا "أ" هذا هو حدث تكون الأرض على هذه الهيئة التي نعرفها بها الآن (مثلا)، وأردنا تفسير "أ" وتصور كيفيته وأسبابه طبيعيا (أي بالقياس والاستقراء الطبيعي: Scientific Method)، لزمنا تصور وقوع جملة من الأحداث "الطبيعية" الأخرى (أي التي يمكن تفكيكيها إلى أسباب ومسببات من جنس ما يمكننا أن نشاهده الآن في هذا العالم) الخاضعة لقانون كوني مطرد، التي نعتقد أنها وقعت قبل "أ" وكانت سببا فيه! فلا حقيقة "للتفسير الطبيعي" Scientific Explanation إلا على هذا المعنى على أي حال! فإن أعملنا مبدأ الاستمرارية الطبيعية في جهة الماضي، على ما هو شائع من تفسير المشاهدات الطيفية للنجوم البعيدة بالقياس على الانحراف الطيفي أو الإزاحة الحمراء Redshift ومن ثم اتخاذه دليلا على تباعد الأجرام وتوسعها في الفضاء، ومددناه (أي افتراض الاستمرارية) حتى نجاوز به حدث نشأة الكون نفسه في الماضي السحيق، أصبح بين أيدينا "نموذج طبيعي" لتوصيف ذلك الحدث على أنه نتاج سلسلة من الأحداث "الطبيعية" السابقة عليه التي كانت كل مجموعة منها سببا فيما جاء بعدها، في تمدد مطرد بداية من نقطة غامضة ما زلنا لا نتصور سببها (الطبيعي أيضا).

وعليه فمن قال إن حدث أو أحداث نشأة الكون (كما يصفها ذلك النموذج الطبيعي) لم تنته إلى الآن، لاستمراره في التمدد والتوسع باطراد، لم يخطئ عند الطبيعيين! ذلك أن التمدد والتوسع ليس أثرا لما يسمى "إعلاميا" عندهم بحدث الخلق أو النشأة في الحقيقة وإنما هو حلقة من سلسلة من الأحداث التي لا فرق بين أولها (الذي لا تصور له إلى الآن) وأوسطها وآخرها حدوثا، في مطلق الخضوع للقانون الكوني الجاري المستمر إلى ما قبلها (أي تلك الأحداث) جميعا! سم منها ما شئت بأنه حدث "نشأة" أو "خلق" أو غير ذلك، المهم أن تعتقد أنها كلها سواء معرفيا على هذا الاعتبار "الطبيعي"! ولهذا وبنفس المنطق ترى الطبيعيين يراوغون كلما سئلوا عن نظرية أصل الأنواع، كيف يقال إنها تفسر أصل الحياة وتقدم تصورا لكيفية نشأتها في الأجسام الميتة ابتداء؟ فيقول قائلهم إنها ليست نظرية في أصل الحياة وإنما في أصل الأنواع، آحاد الأنواع، تصل بها جميعا إلى كائن أحادي الخلية، ثم لا شأن لها بعد ذلك بتفسير الكيفية الطبيعية التي تكون بها ذلك الكائن الحي الوحيد من المادة الميتة!

ولتيسير هذا المفهوم على القارئ وتقريبه إلى ذهنه نقول: من اعتقد أن وقوع أي انفجار "اعتيادي" مما نراه في واقعنا المحسوس في نجم من النجوم (مثلا)، لا يقتضي – كغيره من حوادث العالم - إثبات علة أولى (الخالق بالغيب سبحانه)، فهو كذلك لا يعتقد أن الانفجار الكبير المزعوم يلزم منه إثبات العلة الأولى، وللأسباب نفسها وتبعا لنفس الفلسفة الفاسدة ولا فرق! فكلا الانفجارين قد خضعا للقانون الطبيعي (بشكل ما أو بآخر) الذي يزعم أحدهم أن مجرد تصوره وتوصيفه يكفي معرفيا في تفسير ما يخضع له من أحداث، دون التعليل بخالق غيبي فوق الطبيعة وأسبابها، لاعتقاده تسلسل الأسباب الكونية "الطبيعية" من الأزل وإلى الأبد في إطار هذا النموذج الطبيعي أو ذاك!

فالأمر الذي يجب أن يفهمه إخواننا ويتأملوا فيه مليا، أن "طبيعية" نموذج الانفجار الكبير وما يناظره من نظريات أو نماذج تصورية لأحداث النشأة الأولى للسماوات والأرض وما بينهما = هي الدهرية بعينها، ولا مخرج من تلك الدهرية المعاصرة إلا بإسقاط ذلك النموذج جملة واحدة وسدّ الباب – معرفيا – أمام الطريقة العلمية الطبيعية في الوصول إلى تصور أحداث وأسباب وكيفيات خلق السماوات والأرض وصور الحياة على الأرض، وذلك بتحديد حدود واضحة قاطعة لمبدأ الاستمرارية القانونية الطبيعية فلا تتجاوزها قيد أنملة! فالمنطق والبداهة تحكم بضرورة ألا تكون تلك الأحداث التي خُلقت فيها سائر نواميس الكون وقوانينه التي تحكمه الآن، قد خضعت في تفاصيلها وأسبابها إلى تلك القوانين نفسها التي كانت هي مصدرها ومنشأها بالأساس! هذا دور منطقي جلي لا يعبأ به الملاحدة من الطبيعيين وغيرهم ولا يلزمهم ابتداءً لأنهم دهرية في تعاملهم مع القانون الطبيعي كما بينا، بصرف النظر عن طبيعة ما يعتقدون أزليته مع ذلك القانون من مادة أو طاقة (أو "عدم" لا يعقلون له أي معنى مستقيم) أو غير ذلك! نحن من نؤمن – تبعا لبداهة العقل أولا وقواطع النقل ثانيا – بأن سائر ما في هذا العالم من قوانين ونظم وجميع ما تجري عليه تلك القوانين والنظم من مادة وطاقة وغير ذلك مما اجتهد علماء الطبيعة في تصنيفه وتقسيمه عبر القرون والأعصار، إنما هي حادثة كلها من بعد عدمها (كانت بعد أن لم تكن)، وكان حدوثها وابتداؤها – بالضرورة – في أحداث خلق السموات والأرض، لا قبل ذلك! وهو ما يقتضي القطع بأن أحداث خلق السماوات والأرض لا يمكن الوصول إلى معرفتها بإعمال قاعدة الاستمرارية والانتظامية Uniformity (وهي من الكليات الكبرى التي تقوم عليها منهجية العلم الطبيعي) التي زعموا تأسيسا عليها أن التمدد الكوني لابد وأنه يمتد في جهة الماضي إلى نقطة بدأ منها بناء العالم! فمجرد التطلع إلى معرفة تلك الأحداث من طريق قوانين الطبيعة يقتضي إخضاع تلك الأحداث الفريدة لقانون كانت هي السبب في ظهوره بالأساس! لذا نقول إن هذه القفزة الإيمانية Leap of faith التي يقوم عليها ذلك النموذج (وأي نموذج طبيعي في نفس الأمر) لا يصح لنا قبولها أصلا كمسلمين، وعلى الباحثين في فلسفة العلوم الطبيعية وفي فلسفات الملاحدة المعاصرين أن يتنبهوا لضرورة معاملة نموذج الانفجار الكبير هذا بنفس المعاملة التي يتناولون بها نظرية داروين في أصل الأنواع، لقيامها على نفس المنطق الدهري الفاسد في تناول قضية النشأة الأولى معرفيا! فلا نقبل بحال من الأحوال أن يتخذ الانفجار الكبير "حجة" على الملاحدة تقليدا للنصارى المعاصرين، كما يسلكه بعض المسلمين!

وأقول إنه توشك أن تظهر في المسلمين طائفة جديدة من المتكلمين تتخذ من الانفجار الكبير بديلا لبرهان الحدوث الذي استعمله المتكلمون الأوائل في الرد على فلاسفة الإلحاد، تماما كما كان برهان الحدوث هو الطريق "العصري" في زمانهم لمجادلة الملاحدة، الذي يرون ضرورة تعلمه وإتقانه للرد عليهم! ثم إذا بنا نفاجأ بعد حين بمن يرى وجوب اعتقاد صحة الانفجار الخرافي هذا، وتلبيسه لبوس العقيدة الإسلامية في خلق السماوات والأرض (وهذا موجود بالفعل وقد رأيته في غير موضع)، ويحكمون بنقص إيمان من لم يدرس تلك النظرية ويعتقد صحتها ويتعلم كيف يؤسس عليها إيمانه بوجود باريه! والطريق إلى ذلك قد تمهد بالفعل فيما يرى الناظر، بظهور من يزعمون أن القرءان قد جاء بمصداق "الانفجار الكبير" بتأويل متعسف فاسد لبعض آيات خلق السماوات والأرض، يعدون ذلك من دلائل صدق النبوة، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

هذا وليُعلم أن من الملاحدة المعاصرين من تنازل عن دهريته، ولكن مع نفي السببية نفسها فيما قبل حدث الانفجار، حتى إذا ما قيل له إن الانفجار الكبير لابد وأن له سبب متقدم عليه، قال بل لا سببية قبل الانفجار لأنه كان نقطة بداية الزمان والمكان نفسه وجوديا، وفقا للنسبية العامة! ولا شك أنه متناقض لأن مطلق اعتقاد وقوع حدث الانفجار يلزم منه التسليم بوجود عامل سببي مفجر، بصرف النظر عن ماهية ذلك العامل وما إذا كان طبيعيا أو ما ورائيا! وهو متناقض كذلك لأن السببية مفهوم ذهني بدهي محض ملازم لتصور الحوادث ولمطلق معنى الحدوث نفسه، فلا يصح قبوله في وصف بعض الحوادث ورده في غيرها، بدعوى أن "الزمان" لم يكن قد بدأ بعد! هذا تحكم باطل لا وجه له! وإلا، فمن أسقط السببية على المستوى تحت الذري، أو عطلها فيما قبل الانفجار المزعوم، فقد أوقع نفسه في التناقض بمجرد سعيه في بناء أي نموذج "تفسيري" لأي شيء من محسوسات هذا العالم، فالعلم الطبيعي نفسه إنما هو سعي في معرفة "أسباب" الظواهر الطبيعية المحسوسة!

ولو كان الزمان لم يبدأ (بهذا الإطلاق) إلا بعد وقوع الحدث الفردي (الانفجار المزعوم)، لما صح في العقل أن نصف ذلك الحدث بأنه "قد حدث" (فعل ماضي)، لأنه لولا مفهوم الزمان المجرد في أذهاننا ما جاز لنا أن نتصور واقعا قبل الحدث وواقعا آخر مغايرا بعد الحدث (وهو ما يقتضيه إطلاق معنى الحدوث نفسه في اللغة الطبيعية)! فلا يمكن الفصل – في الذهن - بين مفهوم الزمان ومفهوم الحدوث، كما لا يمكن الفصل بين معنى السببية ومعنى الحدوث!

والقصد أنه حتى هذا الذي تنازل عن دهريته، وقرر قبول القول بحدوث جميع المحسوسات ونظامها الطبيعي الذي يحكمها، بل ونسب الحدوث إلى الزمان والمكان نفسه، على أثر التصور الفلسفي الفاسد لماهية "الزمكان" عند أكثر الطبيعيين المعاصرين، حتى هذا تراه يتخذ من الانفجار الكبير مستندا على أنه ليس ثمة خلق ولا خالق ولا علة أولى ولا شيء من ذلك، لأن الزمان نفسه قد بدأ معه تبعا لذلك النموذج، فإذا كان الزمان قد بدأ معه، فقد سقط شرط من شروط السببية بزعمه: ألا وهو تقدم العلة زمانيا على معلولها!

والحاصل أنه لا تلازم بين قبول سيناريو الانفجار الكبير أو غيره من نماذج التنظير الطبيعي في توصيف تاريخ الكون، وبين ترك الدهرية والزوال عنها! وما دام الكلام محصورا في دائرة المحسوسات بالفعل أو بالقوة (أو بعبارة أخرى: دائرة العلم الطبيعي)، فالملحد هو المستفيد من ذلك الكلام لا محالة! بل لو أنه دقق النظر لاستطاع أن يُلزم خصمه اللاهوتي أو المتكلم بقبول صورة واحدة على الأقل من صور الدهرية المعاصرة التي ذكرناها آنفا، من مجرد التسليم بقبول نموذج الانفجار الكبير كنموذج نظري لتوصيف أحداث نشأة هذا الكون كما نعرفه توصيفا طبيعيا، لأن بناءه وتصوره (كنموذج طبيعي) يقوم على مسلمات الدهريين بالأساس كما بينا وجه ذلك فيما مر معك!

فإن قيل إن نموذج الانفجار الكبير في علم الكوزمولوجيا Big Bang Model هو الأكثر رواجا وقبولا الآن في المعاهد والأكاديميات الغربية لوصف سيناريو تكون هذا العالم كما نعرفه بسماواته وأرضه، فلابد وأنه حق، قلنا: هذا كلام من لا يدري ما معنى "النموذج النظري" Theoretical Model في أي علم من العلوم الطبيعية، ولا يدري أنه حتى وإن أجمع عليه أهل الأرض اليوم جميعا وأطبقوا على قبوله، فإن هذا لا يمنع أبدا من إمكان ثبوت بطلانه في يوم من الأيام (إن سلمنا بظهور صحته ومعقلويته وسلامته من الخلل الفلسفي)! فضلا عن كونه كلام من لا يدري أصناف المسائل المعرفية وأساليب تحقيق المعرفة فيها، وما يتعين استصحابه من مسلمات كلية فلسفية في طرق تحقيق المعرفة الصحيحة Justified Belief فيما يتعلق بالكيفية التي نشأ بها الكون ونظامه وقانونه وجميع ما فيه!

والأمر الذي لا يعرفه كثير من إخواننا المسلمين أن نموذج الانفجار الكبير هذا ليس هو النموذج النظري الوحيد المطروح حاليا عند علماء الكونيات لتفسير المشاهدات الكونية ومن ثم توصيف أحداث نشأة السماوات والأرض (أو تاريخ الكون بعموم بصرف النظر هل نشأ أصلا على غير مثال سابق أم لم ينشأ) توصيفا طبيعيا، وإن كان هو الأشهر والأحظى بالقبول حاليا! ولولا أن معركتي في هذا المقام معركة فلسفية بالأساس مع مطلق فكرة استخدام التنظير والنمذجة الطبيعية كطريق لتحصيل المعرفة بأحداث خلق السماوات والأرض، لأوردت على القارئ شرحا لتلك النماذج الأخرى (التي نرفضها كذلك للسبب نفسه)، ولبينت له أن من فتح الباب – فلسفيا – لتأويل تلك المشاهدات الكونية الحالية على نحو يخدم نموذج الانفجار الكبير (الذي يعده بعض إخواننا هداهم الله "دليلا طبيعيا" على الخلق)، لم يعجز عن أن يعيد تأويل تلك المشاهدات كلها على نحو يخدم نماذج افتراضية أخرى ليس فيها تمدد كوني ولا انفجار ولا نشأة أولى أصلا! هذا المنهج التأويلي في بناء الفرضيات النظرية التفسيرية Hypothetico-deductive model of Confirmation (HD) هو في الحقيقة أوهن وأضعف مناهج الاستدلال بالمشاهدات المحسوسة على الإطلاق، وهذه حقيقة يعرفها كل من كانت له دراسة أولية لفلسفة العلم الطبيعي. وهو المنهج الذي به يقال: "هذا هو أحسن الفرضيات التفسيرية المتاحة في الوقت الحالي، التي يمكن تصور موافقتها مجموع المشاهدات المحسوسة لدينا بطريق ما أو بآخر" بحيث يكون معيار النجاح لهذا النموذج أو ذاك: كثرة ما يمكن "تفسيره" من مشاهدات يتأولونها لخدمته! فمن السهولة بمكان – تبعا لهذا المسلك الاستدلالي - أن ترى المشاهدة الواحدة يتخذها الباحث كتعضيد إمبريقي Empirical Confirmation لنظرية ما، بينما يتخذها مخالفه (هي نفسها) كتعضيد لنظرية أخرى مخالفة بالكلية، يقول أحدهما: "هذا ما أتوقع أن أشاهده أو أرصده في الواقع إن صح النموذج النظري الذي أفترضه"، ويقول الآخر "هذا ما أتوقع أن أراه أو أرصده إن صح نموذجي أنا الآخر"! لذا، فعندما تكون تلك النماذج النظرية مما يضعه الطبيعيون في موضع الاعتقاد الميتافزيقي، لأنه يتناول قضايا يزعم أهل الأديان أن طريق معرفتها مقصور على النص الديني وحده، أو على الأقل لا بنغي أن يقدم فيه على النص الديني المنسوب إلى الخالق نفسه أي مصدر من مصادر تلقي المعرفة (كقضايا النشأة الأولى للسماوات والأرض وما بينهما)، يصبح الفيصل حينئذ في الترجيح إنما هو الميزان النفعي الصرف، المرتبط بتعصبات الاعتقاد الغيبي عند أصحاب التمويل الأكاديمي Academic Funding!

يقول قائلهم بلسان الحال: لو اعتمدنا النموذج "ب" أو انتصرنا له فسيترتب على ذلك تبعات نكرهها ولا نقبلها، قد تصل إلى ضياع درجاتنا الأكاديمية ومنازلنا العلمية بين أقراننا، بل قد تطردنا جامعاتنا التي نعمل بها وتنهي تعاقداتنا (وهذا ما نراه جليا في مقدار ما يعانيه من يتبنون نموذج التصميم الذكي في علم الأحياء من معارك وحروب أكاديمية ضارية) (2)! فلنبق إذن على النموذج "أ" ما دام هو الأحظى بالقبول حاليا في أوساط الأكاديميين، ولنعمل على تأويل سائر المشاهدات لخدمته وحده! الآن لدينا أكاديميات كاملة تنفق عليها مليارات الدولارات سنويا للبحث في مسألة أصل الكون والكيفية التي "نشأ" بها، ولدينا مئات بل آلاف المشاريع البحثية التجريبية باهظة التكاليف المصممة لخدمة نموذج نظري معين قد استقر عليه قبول أصحاب تلك الأموال، فأي ثمرة تترتب الآن على صدمهم ومخالفتهم في بعض الأصول الفلسفية الكلية التي يقوم عليها نموذجهم ذاك؟ على أحسن الفرضيات، سيقال لذلك المخالف الشاذ: "دعنا نعمل في أبحاثنا وتجاربنا وانصرف أنت إلى دوائر البحث الفلسفي المتخصص وانشر ما شئت في دورية فلسفية لعلك تجد من يهتم بالرد عليك هناك، إن قبلوا أن ينشروا لك أفكارك بالأساس!" هذا الفصل الأكاديمي والإداري الحاد Disciplinary Departmentalization بين الباحثين في تخصص العلم الطبيعي والباحثين في تخصص "فلسفة العلم الطبيعي"، كان من العوامل التي سهلت بناء "كنيسة" للعلم الطبيعي لا يخالف كهنتها مخالف إلا عزلوه منها، أو أحالوه – على أحسن الأحوال – إلى تخصص آخر لا يوصف بأنه "علم" ولا يوصف أصحابه بأنهم "علماء"! والناس الآن تريد "العلم" الذي به يعلو البنيان ويعالج المرض وتسهل كافة مناحي الحياة اليومية، ولا تريد "الفلسفة" ولا تريد الجدل العقيم، فهو إذن حكم بالإعدام الفكري من الناحية الاجتماعية عند التأمل. فكان لزاما أن يزكى ذلك الاشتباه والغموض Ambiguity في مفهوم "العلم" وعلاقته بمفهوم "الفلسفة" حتى يصبح لفظ "العلم" هذا اسما جامعا لكل ما تدفع به تلك الأكاديميات الطبيعية تحديدا من أبحاث ونظريات ونماذج تفسيرية، يقبلها الناس بمجموعها لأن أصحابها كما يقبلون الطب الحديث والهندسة الحديثة، لا لشيء إلا لأن أصحابها هم "العلماء" الذين خدموا البشرية بعلومهم التجريبية فمن خالفهم فلابد أنهم "فلاسفة" أصحاب شطحات، أو مخرفون يكرهون العلم والتطور العلمي ويريدون أن يرجعوا بالبشرية إلى "عصور الظلام"!

الطبيعيون يريدون أن يصبح "العلم الطبيعي" (وهو اللفظ الذي نطلقه على مجموع مباحثهم ونظرياتهم) كلا لا يتجزأ، يتخذه الناس نظاما اعتقاديا شاملا في محل الأديان كلها، فإما أن يقبلوه كله أو يرفضوه كله! ومعلوم أن نظرية المعرفة لا يمكن أن تنفصل عن التصور الاعتقادي الغيبي الذي يعتنقه الإنسان! فمصادر التلقي المعرفي تتقرر في ضوء البدهيات الأولى أولا، ثم الاعتقاد الغيبي ثانيا! فمن كان يؤمن بخالق في الغيب قد أرسل في الناس رسولا بالحق المنزل (في خبر الغيب العلمي وفي التكليف الأخلاقي العملي على السواء)، فلابد وأن مصادر التلقي المعرفي لديه ستختلف اختلافا جذريا عما يناظرها عند الملحد المادي في نفس الأمر!

فعندما يطرح السؤال "من أين أتينا وإلى أين نذهب؟" على كلا الرجلين (المؤمن بالخلق والبعث والنشور والكافر الملحد)، فلابد وأن يختلفا في جوابه اختلافا جذريا يبدأ من مصادر التلقي المعرفي نفسها (أنواع الأدلة التي يقبلها كل واحد منهما ويعتقد إفادتها المعرفة في تلك القضية الكبرى)! ولأن الملحد المادي قد رفض قبول السلطان المعرفي الوحيد الذي يجيز العقل اعتماده مصدرا معرفيا في قضية النشأة الأولى (وهي تلك القضية التي تتناول أحداثا سابقة على نظامنا المحسوس، كانت طريقا لتكوينه على نحو ما نراه، بمادته ونواميسه وقوانينه ما علمنا منها وما لم نعلم)، ألا وهو نصوص الوحي الثابت الصحيح عن رب العالمين، فلابد وأن يتخذ موقفا من اثنين لا ثالث لهما (معرفيا): إما اعتناق عقيدة مفادها امتناع الوصول إلى معرفة جواب تلك الأسئلة الكبرى مطلقا بأي طريق من الطرق، سواء على سبيل التوصيف المجرد أو التعليل التليولوجي، أو ادعاء أن ثمة طريق آخر بخلاف النص المنسوب إلى الخالق نفسه، يمكن أن يفيد في تحصيل المعرفة في هذا الشأن! وهذا المسلك الأخير هو ما دان به الدهريون الطبيعيون، وهم عامة الملاحدة المعاصرين الذين اختاروا طرح تلك الأسئلة الكبرى في دائرة العلم الطبيعي التجريبي واستعمال وسائله لتحصيل المعرفة فيها، وزعموا أنه إن كان من طريق لمعرفة جواب فيها فلابد وأنه العلم الطبيعي وحده، وإلا فلا علم ولا معرفة!

هذا الموقف الفلسفي موقف فاسد مردود عليهم من الأساس! وهي قضية اعتقاد أقول إنه قد بات من الضروري أن نقررها في جملة مسائل معتقد أهل السنة والجماعة! (3) فنحن المسلمون إن سألنا سائل: "كيف نشأت السماوات والأرض"، رجعنا إلى النص الثابت الصحيح عن رب العالمين في الكتاب والسنة، فما وجدنا من جواب في هذا الشأن قررناه وجعلناه هو المعرفة الصحيحة الخالصة، وما لم نجد لزمنا السكوت عنه والإمساك عن الخوض فيه، لأنه غيب مطلق سابق على جميع ما ترصده حواسنا من موجودات مادية محسوسة (بالفعل أو بالقوة) ومن نظم سببية وقوانين كونية جارية على تلك الموجودات، فلا يوصل إلى معرفته – بالبداهة المحضة – إلا من طريق الرسالات والنبوات وحسب! هذا النظام الذي نرصده ونراه هو النظام الذي نعتقد نحن – مصادقا للبداهة والفطرة السوية – أنه مخلوق كله من أوله إلى آخره، في أحداث لابد وأنها لا قياس لشيء منها على ما يجري فيه، ولا يصح في العقل إخضاعها لتلك القوانين الكونية الجارية حاليا التي كانت هي (أي تلك الأحداث الأولى) سببا في وجودها أصلا (وهي – أي تلك القوانين الجارية - غاية ما يمكن للعلم الطبيعي أن يتصوره)! فنحن لا نقبل أولى فرضيات الكونيين الطبيعيين التي اتخذوها من مسلماتهم الميتافزيقية وبها أجازوا هذا الصنف من التنظير الطبيعي، ألا وهي فرضية استمرارية النظام الطبيعي المرصود حاليا (بالفعل أو بالقوة) كله أو بعضه إلى جهة الأزل Uniformity، واطراده كذلك في جميع جهات الفضاء إلى غيرما نهاية ولا حد Homogeneity / Isotropy ! هذه هي مسلمات الدهريين القدماء والمعاصرين على السواء (أزلية "الطبيعة" ولا نهائيتها مكانيا كذلك)، وهي أساس منطلقاتهم المعرفية الكلية التي منها اتخذوا العلم الطبيعي طريقا لإجابة سؤال النشأة أصلا! فما بالنا نلتقط منهم ما أسسوه على دهريتهم المحضة، ثم لا نكتفي بجعله عقيدة لنا في خلق السماوات والأرض وحسب، بل نتخذه "برهانا" لإثبات حقيقة الخلق (على بدهيتها وفطريتها!) ولإثبات إعجاز القرءان نفسه؟ هذا والله أمر في غاية العجب!
من زعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة أحداث "نشأة" أو "تكون" الكون بقياس ما غاب من أحداثه وأجزائه عن حسنا ومشاهدتنا على المحسوس والمشاهد منه (وهي طريقة العلم الطبيعي Scientific Method إجمالا) وبافتراض تلك الفرضيات الميتافزيقية التي أسس عليها علماء الطبيعيات نماذجهم النظرية في هذا الشأن، فهذا من لا يأتي إلا بالدجل والخرافة لا محالة وليس صاحب النص الديني الصحيح، حتى وإن وافق بتنظيره الطبيعي شيئا مما في نصوصنا، لأنه يتعدى بمصادر التلقي المعرفي لديه حدودها المعقولة، يستعملها في غير محلها!

ما الذي يضطر كثيرا من المسلمين إلى التسليم بصحة فرضيات الدهريين المعاصرين الميتافزيقية الكلية التي أسسوا عليها كلياتهم المعرفية ومن ثم تنظيرهم الطبيعي في هذه القضايا، وقد علموا أنها لم تتأسس لديهم – بالأساس – إلا على إلحادهم ودهريتهم الصرفة؟ ما الذي يمعنهم من الوقوف بكل قوة وحزم في وجوه الأكاديميات العلمية الغربية بموقف قاطع يقال لهم فيه: "إلزموا حدودكم ولا تسألوا عن خلق السماوات والأرض وخلق الدواب على الأرض إلا حيث يجيز العقل طرح سؤال كهذا من الأساس! لا في المعامل ولا في المراصد ولكن في نصوص الوحي الثابت الصحيح!" ما الذي يمنعنا من الصدع بهذا الحق وقد علمناه وعقلناه ولم نجد له مدفعا؟ أهو الوهن والخوف من مخالفة الجماهير يا عباد الله يا موحدين، أم هو العجز والكسل والتخاذل عن القيام بواجب البحث والدراسة والتمحيص والتحقيق الطويل قبل رفع العقيرة بمحاربة الإلحاد وتصحيح معتقد المسلمين في مقابله؟ من نظر منكم في نفسه متجردا فسيعرف الجواب يقينا!

فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم وفي المسلمين، ولا تعجلوا في النقد والرد، ولا تدخلوا جحر الضب خلف اللاهوتيين المعاصرين كما دخله المتكلمون من أهل القبلة من قبل (4)، فيأتي الواحد منكم في الدين بالمهالك من حيث يحسب أنه يحسن صنعا، وإذا بنا يصبح لدينا "الخلقيون المسلمون" على غرار "الخلقيين النصارى"، و"التطويريون المسلمون" على غرار "التطويريين النصارى"، و"الانفجاريون المسلمون" (القائلين بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض بالانفجار الكبير) على غرار "الانفجاريين النصارى"، وغير ذلك مما بات يسهل تصنيفه في فرق وشيع شتى، نسأل الله العافية لنا ولكم ولجميع المسلمين!


-------------------
(1) هذا وينبغي التنبيه في هذا المقام إلى الفارق بين القول بتسلسل المخلوقات الذي انتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والقول بتسلسل العلل الذي هو أساس سائر النحل الدهرية، فمعلوم أن كثيرا من المتكلمين يتهمون شيخ الإسلام رحمه الله بالدهرية لقوله بتسلسل المخلوقات (مخلوقات لا أول لها)، وهي تهمة من لم يعقل عن الشيخ قوله، أو عقله ولكن أبت عليه نفسه إلا الاتهام والتشنيع لنصرة بدعته! فالقول بتسلسل المخلوقات إنما يقصد به أنه لم يكن لله تعالى مخلوق أول، بمعنى أنه كان ولم يزل يخلق الشيء بعد الشيء سبحانه وتعالى، فلم يكن متعطلا عن الخلق – سبحانه وتعالى – لفترة زمنية غير محدودة في جهة الماضي كما يقتضيه القول بأن له سبحانه مخلوق أول لم يخلق شيئا قبله! فلا يلزم من ذلك القول إثبات اتصال السلسلة بحيث يكون لله في كل آن وحين عالم مخلوق، فلا نرجع في جهة الماضي إلى نقطة ما إلا وجدنا لله فيها عالما مخلوقا ولابد! ونحن نعلم بموجب النص الصحيح (الذي رواه البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن الله سبحانه – قبل خلق هذا العالم – "كان ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض"! فلا يعد هذا نصا على انعدام الخلق مطلقا قبل العرش والماء وإلا نسبناهما إلى الأزلية وهو باطل، أو نسبنا الرب سبحانه إلى أزلية التعطل عن الخلق وهو باطل كذلك! وإنما يعد نصا على أنه سبحانه بدأ خلق هذا العالم المشهود بمخلوق أول (بالنسبة لهذا العالم نفسه) لا تحويلا من عالم آخر سابق عليه ولا بإعمال نظام كوني سببي متقدم عليه، وإنما إحداثا لعالم جديد بمكوناته ونظمه وتقديراته، على خلاف مشهور فيما إذا كان المخلوق الأول في هذا العالم الجديد هو العرش أو القلم. فالأسباب كلها سواء في خلق السماوات والأرض أو في خلق العرش أو الماء أو ما كان قبل ذلك كله مما لا يعلمه إلا الله تعالى، كلها منه سبحانه، بما في ذلك من نظم سببية هو من يحدثها سبحانه في عوالمه المخلوقة ليحكم نظامها وتقديرها على نحو ما يشاء، فيبدلها كما يشاء دون أن يترتب منها النظام اللاحق على السابق بالضرورة. أما الدهرية فيعتقدون تسلسل العلل الكونية في جهة الماضي، بمعنى أنه ما من شيء حدث في هذا العالم (سواء كان شيئا عينيا أو نظاما كونيا سببيا، كالقوى الأربعة الأساسية في الفيزياء مثلا: الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوي الجزيئية القوية والقوى الضعيفة) إلا وله سبب من جنسه سابق عليه (أي شيء عيني مادي مثله أو نظام كوني كذلك)، وهكذا من الأزل وإلى الأبد: كل موجود مادي معلل بموجود (أو أكثر) من جنسه سابق عليه، دون أن يكون لتلك السلسلة علة أولى خارجة عن تلك الفئة من العلل "الطبيعية"! فالدهرية إنما هي اعتقاد تسلسل العلل من الأزل بلا فاعل أول، وليس تسلسل المخلوقات من الأزل بلا مخلوق أول، فليتنبه القارئ لهذا.

(2) ولسنا نقبل مجرد فكرة اعتبار الخلق المحكم تام الإحكام "نظرية" طبيعية، لأننا نفهم معنى "النظرية التفسيرية الطبيعية" أو "النموذج الطبيعي"، ونعلم مقتضيات وتبعات ذلك التوصيف عندما يطلق على دعوى معرفية ما! فلا نرتضي للمسلمين أن يقلدوا النصارى في استعمال ما يسمى بنظرية التصميم الذكي طريقا لمحاربة نظرية الارتقاء الدرويني على طريقة "البديل الإسلامي"، فتراهم يضربون الأمثلة التي ضربها مايكل بيهي وغيره لإثبات حقيقة بدهية مفادها أن الكائن المخلوق بأجزاء يوصف كل جزء منها بأنه عضو له وظيفة، لابد وأنه خلق على هذا النحو لخدمة غاية محددة من خلقه لا تتم إلا بذلك البناء والتركيب وحده دون غيره، فإن اختزلت تلك الأجزاء عجز ولابد عن الأداء! العلم الطبيعي لا قول له في مخالفة تلك الحقيقة البدهية ونحوها (التي جعل اللاهوتيون النصارى منها نظرية طبيعية، وكأنهم لا موطئ لأقدامهم بين العقلاء إلا أن يكون لديهم "بديل طبيعي" لنظرية الارتقاء)، ولا طريق دونه إلى الغيبيات المطلقة التي لا تعرف إلا من طريق النص، هذا ما نقطع به ونرى وجوب تعليمه للشباب المسلم في جيلنا هذا، عسى الله أن يقينا من دخول جحر الضب الذي دخله اللاهوتيون النصارى من قبلنا، والله المستعان!

(3) وهي اعتقاد أن أحداث خلق السماوات والأرض وما بينهما لا يوصل إلى معرفتها إلا من طريق نصوص الوحي الثابت الصحيح. فهي مسألة قد أطبقت عليها قرون المسلمين بما أغناهم عن نقل الإجماع فيها (لبداهتها ولعدم ظهور من يتلقى المعرفة في تلك القضايا الغيبية من مصادر أخرى إلى جانب النص إلا في هذه القرون المتأخرة!)!

(4) يوم أن تابعوا اللاهوتيين على اختراع البراهين الفلسفية لإثبات وجود الباري (على بداهته المحضة) فاعتمدوا دليل "حدوث العالم" ونحوه مما سلكه اللاهوتيون من أهل الكتاب من قبل (إجمالا)، وما رجعوا من تلك البراهين على الدين نفسه إلا بالزندقة والضلال المبين!

أبو الفداء
05-08-2014, 06:31 AM
الحمد لله وحده،
أما بعد فقد سألني أحد الأخوة هذا السؤال:

سلام عليكم , قرأت أو حاولت قراءة موضوعك " فتح القدير في التحذير من قبول نموذج "الانفجار الكبير" " ومع علمي ببعض المصطلحات إلا إني وجد صعوبه في فهم الموضوع , ربما لم تهدف لخطاب من هم على مستوى ثقافتي , لكن لحرصي على الموضوع ودت لو بإمكانك ايضاح رأيك , ربما بأسلوب اسهل , على هاتين النقطتين , الأولى إذا كان الكون يتمدد وهذا مبني على حس والمشاهدة وليس من باب الفلسفة اليس منطقيا انه كلما رجعنا بالزمن كان حجمه يتضائل , وهذا يخدم نظريه المعتقدين بالإنفجار العظيم ; الثانية قول الله " أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما" ومقرر في كتب التفاسير كما تعلم رأي يقول ان السماوات والارض كانتا ملتصقين وهذا ايضا يصب في ناحية جواز صحه نظريه الانفجار الكبير .
جزيت خيرا
فأجبته بما يلي:

عليكم السلام.
أولا، القول بتمدده ليس مشاهدة مباشرة وإنما هو تأويل نظري (ظني) افترضه الفلكي إدوين هابل لبعض خصائص الطيف الضوئي الواردة إلينا من النجوم والمجرات البعيدة، فالقول بالتمدد ليس حقيقة قطعية في نفسه.
ثانيا: إن سلمنا بحصول التمدد تبعا لتلك النظرية، فلا يجوز لنا كمسلمين أن نقبل الفرضية الفلسفية (المبنية على مبدأ الاستمرارية عند الطبيعيين) القائلة بأن ذلك التمدد كان جاريا في هذا الكون من الماضي السحيق، وصولا إلى "نقطة كثيفة"، فنجعل التمدد هو الكيفية التي خلقه الله تعالى بها!! والسبب في فساد تلك المقدمة الفلسفية كما بينت في المقال أنها مبنية على فلسفة دهرية تقول باستمرار القانون الطبيعي (كنوع من أنواع النظم السببية) من الأزل وإلى الأبد! تأسيسا على تلك الفلسفة، كانت نقطة بداية الكون عندهم - التي ما قالوا بها إلا "بتمديد" فكرة التمدد هذه إلى الماضي السحيق - خاضعة أحداثها - ولابد - لقانون طبيعي معين يمكن الوصول إلى معرفته باستعمال القياس والاستقراء التجريبي Scientific Method. وهذا باطل بالعقل والنقل جميعا.
فأما بالعقل فلأن الكون مخلوق بالضرورة، والقانون الطبيعي إنما هو ذلك القانون الجاري على هذا الكون المشاهد، فحدث خلق الكون هو الحدث الذي بدأ عنده القانون الطبيعي كله (أو بسببه)، فلا يصح أن نمده (أي ذلك القانون) إلى ما وراء حدث نشأة الكون حتى نجعله طريقا لتوصيف وتفسير ذلك الحدث نفسه! ولا يجوز قياس الكيفية التي خلقت بها الطبيعة نفسها وقوانينها كلها التي تحكمها، على شيء مما هو معلوم لنا من علاقات الجسيمات (مثلا) بعضها ببعض في إطار نظام الطبيعة المشاهد حاليا! العلم الطبيعي غايته أن يصف لنا النظام الجاري وحسب! أما أن يتجاوزه إلى الأحداث التي بها خلق الله ذلك النظام نفسه فهذا ما نرفضه (عقليا، أو إن شئت فقل فلسفيا)!
وأما بالنقل، فأنا أثبت الإجماع العملي عبر قرون الأمة المتطاولة على عدم مشروعية التماس العلم بالكيفية التي خلق الله تعالى بها السماوات والأرض من طريق بخلاف الوحي! ولو سلمنا تنزلا بأنه لا مانع - عقلا وشرعا - من تلقي العلم بأحداث خلق الكون وتفاصيله من المراصد والمعامل ونحوها، فأحداث خلق السماوات والأرض في الكتاب والسنة لا علاقة لها من قريب أو بعيد (إلا بتأويل متعسف كما ذكرت في المقال) بتفاصيل تلك النظرية! فالفتق لا يطلق لغة إلا على جسمين ملتصقين، والتمدد الانفجاري المزعوم ليس فتقا لجسمين ملتصقين (أحدهما يقال له الأرض والآخر يقال له السماوات)، وقد بسطت الرد على ذلك التأويل المتعسف في كتابي "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين"، فطالعه للزيادة، بارك الله فيك.