المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السمــــات العــــامـة للفـلســـــفة...د.عبد الحليم محمود



أميرة الجلباب
12-31-2004, 07:36 AM
بسم الله الرحمن الرحيم



السمات العامة للفلسفة


د. عبد الحليم محمود – فى مقدمة (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة) لأندريه كريسون.




السمة الأولى
( الفلسفة لا مقياس لها)


السمة الأولى من هذه السِّمات - وهى أهمها- وتعتبر كالمنبع الذى عنه تفيض السِّمات الأخرى، هى أن الفلسفة لا مقياس لها للتفرقة بين الحق والضلال، بين الصواب والخطأ، فإذا اختلف فيلسوفان فى أمر من أمور الفلسفة؛ فإنهما لا يجدان مقياساً يرجعان إليه للحسم بينهما فى موضوع الخلاف.
أما فى العلم فإن المقياس هو "التجربة" : فإذا اختلف عالمان فى أمرٍ كونىٍٍ رجعا إلى التجربة، وهى تعلن - فى صراحة مشاهدة - خطأ هذا وصواب ذاك.

• ما هو- فى عالم الفلسفة - الذى يجرى مجرى التجربة فى مجال العلم؟ -لا شىء!.
• ما الذى يحسم الخلاف فى عالم الفلسفة ؟ - لا شىء!!.
• ما هو المرجع من أجل الاتفاق فى عالم الفلسفة؟ - لا مرجع!!.

ولقد شعر الفلاسفة بذلك: فقام اثنان من كبار عباقرة الفلسفة بمحاولة لإيجاد هذا المقياس، وهما أرسطو فى الماضى وديكارت فى العصور الحديثة، ولقد أخفق كل منهما إخفاقاً تاماً كاملاً!

ونبدأ الحديث عن أرسطو- ولا ننسى أننا فى عالم الإلهيات، مجال الفلسفة الرئيسى:
لقد فكر أرسطو وقدَّر، ثم فكرَّ وقدرَّ، وخرج على العالم بما يسمى ( المنطق الأرسطى) أو ( المنطق الصُّورى)، وأخذ هذا المنطق فى عالم الفكر الفلسفى مجالاً من الشهرة والعناية لا حدَّ له، وأخذ فى الجو الإسلامى شهرة ذائعة الصيت، وتبنَّاه جميع فلاسفة الإسلام ابتداء من الكندى فى المشرق إلى ابن رشد فى المغرب!
ولكن كثيراً من المسلمين ذوى الأصالة فى الفكر الإسلامى أبانوا - فى وضوح - أن المنطق الأرسطى منهار، وأنه متهافت، وأن الخلل فى جوهره وأركانه، وأنه خلل لا يُصلَح!
وكان من هؤلاء ابن تيمية الذى كتب كثيراً فى نقد المنطق ونقضه؛ لقد كتب فى ذلك كتباً، وكتب فى ذلك فقرات منثورة هنا وهناك فى خلال كتبه الكثيرة وفتاواه المستفيضة!

وممن كتب - فى نقد المنطق ونقضه - ابن حزم.
والمحدثون جميعاً لا يجد المنطق عندهم ترحاباً ولا قبولاً.
وقد كتبنا نحن ننبه على أن المنطق لا يحسم خلافاً، ولا يفصل حقاً عن باطل، ومما كتبناه فى المنهج الحديث والمنهج الأرسطى ما يلى:

إن المقياس – بالنسبة لمعرفة الحق – هو:
(1) الاستقراء.
(2) القياس.

أما الاستقراء، وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية، فإنه:

1- مبنىٌّ كله على الحسِّ: إنه استقراء مُحَسَّات، إنه تتبُّع جزئيات لا تخرج عن نطاق الواقع.
أما (الإلهيَّات) فهو برىء من البحث فيها - كل البراءة - لأنها لا تدخل فى دائرة اختصاصه، فهو عاجز عن أن يخترق الحُجُب ليصل إلى ما وراء الطبيعة.

2- ثم إن الاستقراء: تامٌّ، وناقصٌ. والتام - كما يعترف المناطقة - لا غَنَاء فيه، ولا فائدة!
أما الناقص، وهو المهم فى نظرهم، فإنه - فى رأيهم - ظنىٌّ، وهو - لذلك- عُرضة للتغيير فى كل آونة: (كل معدن يتمدَّد بالحرارة)..

هذه قضية من قضايا الاستقراء، إنها قضية عامة شاملة، ولكن المعادن لم تُكتشف - بعد- بأكملها!
ومن الجائز أن يُكتشف -الغد- معدن لا يتمدد بالحرارة، إنها إذن فضية مؤقتة تتبرَّأ من اليقين الفلسفى.
( والعلم - كما يقول أحد المفكرين- لا يعرف الكلمة الأخيرة فى مسألة من مسائله، وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة، لها قيمتها حتى يكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيِّرها).

وهكذا قضايا الاستقراء.. إنها:

1- خاصة بالطبيعة، ولا شأن لها بما وراءها.
2- ظنية، لا تعرف اليقين!.

أما القياس:
1- فإنه مبنىٌّ على الاستقراء؛ إذ هو منطو دائماً على كليَّة؛ كليَّة استقرائيَّة. وما دامت قضايا الاستقراء ظنية كما رأينا، وميدانها المُحَسَّات فنتائج القياس ظنية كذلك، وميدانها المُحَسَّات.

2- إن المناطقة لا يشترطون - فى مقدمات القياس- أن تكون مُسلَّمة صادقة فى نفسها، وإنما يشترطون أن يسلِّمها المتجادلون فحسب، وقد تكون - كما يقول صاحب (البصائر النصيرية)- منكرة كاذبة فى نفسها، وفى هذه الحالة يكون القياس صحيحاً، ونتيجته باطلة!
وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس؟.. ما قيمته إذا كان لا يعوَّل فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة، وإن لم تطابق النتيجة الواقع؟

* ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها؟

إنك إذا قلت : الكثير من العلم يؤدى إلى الاستقلال الفردى، وكل ما يؤدى إلى الاستقلال الفردى مضرٌّ بالمجتمع؛ فالكثير من العلم مضرُّ بالمجتمع؛ كان هذا قياساً صحيحاً فى نظر المناطقة.
وإذا قلت: إن الكثير من العلم يؤدى إلى التماسك الاجتماعى وكل ما يؤدى إلى التماسك الاجتماعى مفيد للمجتمع؛ فالكثير من العلم مفيد للمجتمع؛ كان هذا أيضاً قياساً صحيحاً عند المناطقة ومع ذلك فالنتيجتان متعارضتان!

3- ومع كل هذا فالقياس استدلال دورى فاسد؛ ذلك أن العلم بالنتيجة فى نحو قولنا: محمد إنسان ناطق، فمحمد ناطق.. متوقف على العلم بالكبرى، والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة؛ لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنسانى إلا إذا تيقَّنت ثبوت الناطقية لمحمد، ولو كنت فى شك من ذلك لما استطعت تعميم الحكم على جميع أفراد الإنسانية، وإذن تكون الكبرى متوقفة على النتيجة، وتكون النتيجة متوقفة على الكبرى، وعلى ذلك يكون القياس استدلالاً دورياً فاسداً، فلا يعوَّل عليه!

4- وأخيراً.. فالمفروض أن نتيجة القياس جديدة كل الجدَّة، فإنها استنتاج مجهول (هو النتيجة) من معلوم (هو المقدمات).
ولكن النتيجة متضمنة فى المقدمات، إنها ليست مجهولة، والقياس -إذن- لا يؤدى إلى معرفة جديدة، أو إلى استنتاج مجهول من معلوم.. إنه - إذا أردت الدقة- استنتاج معلوم من.. معلوم!
تلك هى موازين العقل، وهى موازين لا غَنَاء فيها ولا جدوى منها فيما يتعلق بالإلهيَّـات.. العقل-إذن- قاصر فيما يتعلق بالأخلاق، وهو قاصر- على الخصوص- فيما يتعلق بالإلهيَّـات!

ومن هنا كانت الحكمة فى نزول الأديان.
ومن هنا كان السبب فى اقتصارها على الأخلاق و الإلهيَّـات.
وإذا كانت قد تحدثت فى التشريع، فإن التشريع داخل فى نطاق الأخلاق.

أخفق-إذن- أرسطو، واستمر الاختلاف بين الفلاسفة كما كان من قبل، واستمر الخلاف حتى بين المناطقة الأرسطِّيين -الكبار منهم والمغمورين- بل حدث الاختلاف بين تلاميذ "أرسطو" نفسه، وهم أتباع مدرسة واحدة، هى ( المدرسة الأرسطية).

ومرت العصور، وتوالت القرون، وجاء ديكارت، وبدأ ديكارت يتفلسف-على استحياء، وعلى حذر بالغ- فما كان جو زعماء المسيحية فى الغرب -إذ ذاك- يوحى بالاطمئنان والسكينة.. لقد كان جواً رهيباً يؤاخذ على الظنّـَة، ويتكِّـل على الشُّـبهة، لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة!
وأخذ ديكارت يتحسس طريقه - فى حيطة بالغة- مدارياً، مجاملاً مادحاً، متواضعاً!
وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم!
وأنه على أساس من هذا "المنهـج" سيقود الإنسانية إلى " الـحــق"!
ورأى أن هذا "المنهـج" صالـح للكشف عن " الـحــق" فى الكـون: فى الطبيعة، وفيما وراء الطبيعة!.. وكان من سخرية الزمن أن التجربة أظهرت خطأه فى أثناء حياته، وأن الخلاف استمر حول آرائه فى الإلهـيَّـات، وآراء معاصريه، وآراء من قبله، كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه.. وأخفـق منهج ديكارت، كما أخفق-من قبل- منهج أرسطو!

وبقيت الحقيقة التى لا شك فيها، وهى أن الفلسفة لا مقياس لها!

هذه هى السِّـمة الأولى.

أميرة الجلباب
12-31-2004, 07:38 AM
السمة الثانية
(أنها ظنــية)

ما دامت الفلسفة لا مقياس لها؛ فهى-إذن- ظنيـة، إنها ظنية وإن عُجنت بمنطق " أرسطو"، الذى أخفق، وهى ظنية وإن خُبـزت بمنهج " ديكارت"، الذى لم ينفع فى قليل ولا فى كثير.. إنها ظنية لأنه لا يتأتَّـى أن تفرِّق فيها-ولا مقيــاس- بين الحق والضلال، وستستمر هكذا إلى الأبـــد.

أميرة الجلباب
12-31-2004, 07:42 AM
السمة الثالثة
(اختلاف الآراء فيها دائم)

ما دام لا سبيل إلى اليقين فى موضوعات الفلسفة؛ فإن من البدهىِّ أن : ( اختلاف الآراء فيها دائم).
وهذا هو الواقع حينما يتصفح الإنسان الفكر الفلسفى عبر القرون: إن الاختلاف والجدل دائم مستمر منذ أن نشأ الفكرالفلسـفى!.. إنهم يختلفون حتى فى المدرسة الواحدة!
وانظر- مثلاً- إلى مدرسة سقراط فستجد تلاميذه يقرون بأستاذيته فى احترام بالغ، وفى تبجيل يشبه التقديس!.. فإذا جئت إلى آرائهم فى الإلـهيَّـات، أو فى الأخلاق؛ فستجد الاختلاف والافتراق.
الاختلاف والافتراق بينهم وبين أستاذهم، والاختلاف والافتراق بين بعضهم وبعض!
بل إن الأمر يصل بالشخص الواحد إلى أن يختلف -هو ونفسه- بحسب تطور حياته، أو اختلاف بيئته، أو اختلاف ما يقرأ من مصادر ثقافية.
* وكل هذا واضح عبر العصور.
ومن غرائب الأمور أن " الفلاسفة" يعلمون ذلك- علماً يقينياً- ويعلمون أن كل فيلسوف أتى من قبلهم هدم آراء سابقيه جميعاً: إنه لم يعترف بوصول أحدهم للحق، إنه يُخطِّئهم جميعاً، ولو لم يكن الأمر كذلك لأخذ بآرائـهم، واكتفى بما حَبَّروه، أو بما أنشأه أحدهم من قبل!..ولكنه مع علمه بأن الفلسفة دائماً إلى نقد ونقض، فإنه لا يأبه بهذه المعرفة، ويقيم مذهبه على أنقاض مذاهب سابقيه، فيأتى مَنْ بعده ويهدمه، ويقيم مذهباً مآله السقوط......... وهكذا دواليك!

أميرة الجلباب
12-31-2004, 07:43 AM
السمة الرابعة
(مسائل الفلسفة لم تتغير على مر الدهور)

وما دام الاختلاف مستمراً فإن المسائل-التى هى موضوع الفلسفة- تستمر هى هى... !
" إن مسائل الفلسفة لم تتغير على مر الدهور"
* ما مسائل الفلسفة؟.. إنــها:
• الله - سبحانه- وصفاته، وصلته بالعالم خلقاً وتصريفاً، وصلته بالإنسان قرباً وتوجيهاً، والبعث وكيفيته وهل هو بالروح فحسب أم هو بالروح والجسد؟
• والخُـلُق الكريم الذى يمثِّـل الفضيلة والكمال. والخلق السيِّئ الذى يمثِّـل الشر والفساد.
• والنبوَّة والصلة بالله عن طريق الوحى (إثباتاً وإنكاراً).
• ثــم : هل المعرفة ممكنة؟
وفى كل هذه الموضوعات الكبرى –وغيرها مما يتصل بها- اختلف الفلاسفة.. وما زالوا!.
واستمرت هذه المسائل على مدى سبعة وعشرين قرناً-تقريباً- مثار بحث وجدل إلى الآن، لم يصل الفلاسفة فى واحدة منها إلى اليقين، ولم توضع واحدة منها موضع الاتفاق!

أميرة الجلباب
12-31-2004, 07:51 AM
السمة الخامسة
(الاختلاف عام فى الإيجاب والسلب)


إن الاختلاف فى مسائل الفلسفة ليس اختلافاً فى "الإيجاب" فحسب .. وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألةٍ ما عدة حلول كلها إيجابية. وليس اختلافاً فى "السلب" فحسب.. وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة واحدة عدة حلول كلها سلبية.
كلاَّ!.. إن الخُـلُف عام فى الإيجاب وفى السلب، وإنه ليصل إلى الإنكار المطلق وإلى الإثبات المطلق فى كل مسألة، وإنه ليصل بك أحياناً إلى طرق مسدودة!

* أتحب أن تعرف شيئاً من ذلك؟

إن الأستاذ ألبير ريفو يقول فى كتابه ( الفلسفة اليونانية):
(أما عن العقل: فإن سلسلة الآراء " الرواقية" المتتالية نفسها أثبتت بسهولة أنه ليس له قدرة مطلقة حازمة:
1- فهل فى إمكاننا أن نعرف عن حبَّات من القمح متى تكفُّ عن تكوين أكوام؟
2- وإلى أى حدٍّ نثق فى اعتراف "الكذاب" الذى يعترف بأنه كذاب؟
3- وعندما نقرر أن دليلاً منطقياً هو من الصحة إلى الحد القنع، ألا يتعين علينا أن نقيم دليلاً آخر على صحة حكمنا بأنه صحيح، ثم على الحكم الأخير .. وهكذا إلى ما لا نهاية؟
4- وكيف يمكن التمييز بين الفكرة الجليَّة الواضحة وسواها؟
5- على أن الصور التى نراها فى الأحلام تُـفرض علينا بالقوة المقنعة التى لصور اليقظة نفسها، فالوحش الذى يطاردنا فى الأحلام ليس أقل ترويعاً لنا من وحوش الغابة!
6- ثم إذا نظرنا إلى المجانين أفلا نجد لديهم أيضاً إدراكاً واعياً جلياً؟
7- وعندما نجد أنفسنا بالمصادفة أمام شيئين متشابهين تماماً كورقتى شجرة، أو بيضتين، أو توأمين، فأىُّ وسيلة مصطنعة تمكننا من تمييز أحدهما من الآخر؟
8- وحتى فى العلوم الرياضية: هل يمكن أن نجد بين قضاياها ما هو جلىٌّ بحيث يضطر الشعور إلى التسليم بصحته؟

ومع ذلك فإنه إذا كان ذلك يُحتمل فى الحياة العقلية البحتة، فإنه لا يحتمل فى الحياة التى تتصل بالسلوك الملحِّ الذى تحتاج الحياة العملية إلى الفصل فيه سريعاً. فما موقفنا من هذا النوع؟ وما موقف الفلسفة منه؟..

إنها تكتفى فى الحياة العملية بالترجيح!..

يقول "كاريناد":
( ومع ذلك فلا بد لكى نحيا حياة عملية من وجود معادل يساوى ما هو قاطع وجازم).
ثم يقول "كاريناد":
( إننا نستطيع أن نجد ذلك المعادل فى الرجحانية).. إن إدراكنا - على وجه الترجيح- يمكن أن يسمح لنا بالحكم على الأشياء فى الأمور العملية بطريقة وضعية).
وتصل بك الفلسفة -أحياناً- إلى معقولات يكذِّبها الواقع، أو إلى واقع يكذِّبه المنطق العقلى مع أنه واقع مُشاهد.

* أتحب أن تتسلى بشىء من ذلك؟..

إن الأستاذ "ألبير ريفو" يقول:
( إن التغيُّر يحدث فى المكان أو فى الزمان، وإذا تصوَّرنا المكان قابلاً للتجزئة إلى ما لا نهاية فإن المتحرك لن يبلغ أبداً غاية سيره ما دام يلزمه؛ للوصول إليها؛ أن يقطع - أولاً- نصف المسافة، ثم نصف النصف... وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية!
ولن يبلغ أبداً "أشيل" -ذو القدمين السريعتين- السلحفاة إذا كانت تسبقه ولو بمسافة ضئيلة، ذلك أنه بينما يجتاز نصف هذه المسافة تسبقه هى أيضاً بمسافة يجب عليه - بدوره- أن يقطع نصفها على حين تتقدم هى من جديد!
وهناك حجة أخرى تنكر إمكان تكوين الكل من أجزاء؛ فإن كومة من القمح تُحدث عندما تُرَشُّ على الأرض صوتاً يُسمع على بُعد، ومع ذلك فنحن لا نسمع الصوت الذى تحدثه حبة القمح الواحدة وهى تسقط).
وإذا كان الأستاذ "ألبير ريفو" - موجزاً مركزاً- لا يذكر المسائل فى سهولة ويسر، فإن صاحب (قصة الفلسفة) بسطها فى شىء من الوضوح فيقول متحدثاً عن "زينون الأيلى" :

الدليل على بطلان الكثرة:

إن كانت الكثرةة حقيقة واقعة - ونعنى بالكثرة أن الكون ليس شيئاً واحداً، بل وحدات كثيرة متراكمة- كان الكون لا متناهياً فى الكِبَر، ولا متناهياً فى الصغر؛ لأنه مؤلَّـف من وحدات، كما فرضت أولاً، ولابد أن تبلغ تلك الوحدات من الصغر حدَّ اللاَنهاية بحيث لا يكون لها حجم؛ لأنه إن كان للوحدة حجم سقطت عنها صفة الوحدة، وأصبحت قابلة للانقسام إلى وحدات أصغر منها، فإذا سلَّمنا بأن كل وحدة على انفراد لا حجم لها لزم أن يكون الكون الذى يتكون منها لا حجم له كذلك؛ لأنه حاصل جمعها!..
وكذلك يكون الكون لا متناهياً فى الكِبَر ، لأن له جرماً لا شك فيه، وكل جرم قابل للانقسام لجزئيات لا نهاية لعددها، ومهما بلغت تلك الجزئيات من الصغر فهى إذا ضربت فى عدد لا نهائى كان الناتج كوناً عظيماً يمتد إلى ما لا نهاية!..
وإذن: ففرض الكثرة يؤدى إلى نتيجتين متناقضتين لا يسلِّم بهما معاً منطقٌ سليمٌ! فلم يعد أمامك من سبيل إلا أن تنكر-إنكاراً باتاً- الكثرة، وأن تسلِّـم بأن الكون كله شىء واحد لا يقبل التجزئة، وأن هذه الأجزاء التى تراها متفرقة- باطلة ليس لها وجود!

الدليل على بطلان الحقيقة:

(أ‌) إذا أردت أن تقطع مسافةً ما فستقطع نصفها الأول، ويبقى أمامك نصفها الثانى، ثم ستقطع نصف هذا النصف ويبقى نصفه الآخر، وهكذا ستظل تقطع نصفاً ويبقى نصف إلى ما لا نهاية.
وإذن: فلن تصل إلى غايتك المقصودة إلى الأبد!
(ب‌) تسابق رجل وسلحفاة .. فَهَبْ أن السلحفاة تقدمت عشرة أمتار قبل أن يبدأ الرجل نظراً لبطأ سيرها، وكانت سرعة الرجل عشرة أمثال سرعة السلحفاة، فلما بدأ الرجل، وقطع عشرة الأمتار التى تفصله عن السلحفاة، وجد أنها تقدمت متراً ( أى: عُشر المسافة التى قطعها هو)، فلما قطع هذا المتر كانت السلحفاة قد تقدمت عُشر المتر، فإذا قطع هذا العُشر تكون قد تقدمت جزءاً من مائة جزء من المتر...وهكذا يظلان إلى ما لا نهاية.. فلو ظلَّ المتسابقان إلى آخر الدهر؛ فلن يلحق الرجل بالسلحفاة!!.
(ج‌) إذا انطلق سهم فى الهواء فلا بد أن يكون فى أية لحظة زمنية ثابتاً فى مكان معين؛ لأنه لا يجوز أن يكون-فى اللحظة الواحدة- فى مكانين مختلفين، ولكن إذا كان السهم فى كل جزء زمنى ساكناً فى مكان بعينه؛ لزم أن يكون فى مجموع الفترة الزمنية ساكناً كذلك لأن استمرار السكون يُنتج سكوناً ولا يولِّد حركة!.

من هذه الأمثلة الثلاثة يتضح أن الحركة مستحيلة وإن خُيِّـل لنا أنها حقيقة واقعة؛ لأنك - كما ترى- إن فرضت حدوث الحركة تورَّطت فى سلسلة من المتناقضات لا تستقيم مع العقل والمنطق.
وإن الفكر الفلسفى لَيصلُ بك أحياناً إلى إنكار السماء والأرض وما بين السماء والأرض، ويقول لك: ليس فى الوجود- يقيناً- غيرك أنت وحــدك!.

أميرة الجلباب
12-31-2004, 07:54 AM
السمة الأخـــــيرة

أما السِّـمة الأخيرة: فهى سمة تؤدى إليها - لا مناص- السمات السابقة.
وإذا كانت السِّمات السابقة يسلِّم كل منها إلى الآخر- فإنها جميعاً- تتعاون لتؤدى إلى هذه السِّمة الأخيرة..
هذه السمة الأخيرة هى أن :

(الفلسفة لا رأى لهـــا!..)

وقد تكون هذه السِّـمة مفاجأة لبعض الناس، كيف يتأتى أن تكون هذه الفلسفة -التى ملأت الدنيا صياحاً، منذ أن نشأت،ولم تكفّ منذ أن نشأت، للآن، عن الصياح- لا رأى لها؟..
والأمر أيسر من أن يحتاج إلى استفاضة:

- أما (أولاً) : فلأن ( الفلسفة لا رأى لها) نتيجة واضحة لكل ما قدَّمنا.
- وأما (ثانياً): فخذ أى مسألة من مسائل الفلسفة فستجد الآراء التى تُـنكر، والآراء التى تُـثبت.. إنك ترى الرفض والقبول فى كل أمر!.. والرفض فلسفة!.. والقبول فلسفة!..وقد يكون الرأى توقفاً عن الرفض والقبول؛ وهو فلسفـة!.. وقد يكون شكّـاً فى "الرفض"، وشكّـاً فى "القبول"-فى آنٍ واحدٍ- وهو أيضاً فلسفة!..
والشك إما أن يكون شـكّـاً فى قيمة الآراء التى تعرض: نفياً، أو إثباتاً..
وإما أن يكون شـكّـاً فى قيمة وسيلة المعرفة نفسها، وهى الحواس والعقل.. وكل ذلك فلسفة فى كل مسألة!..

وإذا تساءلت؛ وأنت على علم بالجو الفلسفى ( جو المتاهات والوهــم):

ما الرأى الفلسفى فى هذه المسألة، أو تلك؟ فستجد كل ما قدَّمناه ماثلاً أمامك يثبت لك بما لا مرية فيه أنه: لا رأى للفلســـفة.

وقبل أن نخلص إلى الخاتمة نذكر أمراً فى منهج الفكر الفلسفــى فيه عظة وعبـــرة..

أميرة الجلباب
12-31-2004, 07:59 AM
**محاورة فيدون**


إن محاورة " فيدون" لأفلاطون لها أهميتها، لأكثر من وجه، منها:
1- أنها محاورة يدور البحث فيها حول خلود النفــس.
2- وهى محاورة لا تتعارض فيها أهداف المناقشين، وإنما تتحد وتتفق، ويحب المناقشون أن يصلوا فيها إلى نتيجة محببة إلى نفوسهم، وهى أن (( النفس خالدة)).
3- أن الذين يدور بينهم الحوار " فلاسفة " من الذين لهم وزنهم واعتبارهم، وأحدهم يسمونه "أبا الفلسفة" ويسمونه " أبا الفلاسفة".
4- أن المتحاورين ليسوا من مدرسة واحدة، وإنما هم من مدرستين مختلفتين، هما مدرسة سقراط، ومدرسة فيثاغورس، وهما - وإن كانتا متقاربتين- ما من شك فى أن جو "سقراط" العقلى يختلف عن جو فيثاغورس الروحى.
ولهذا الاختلاف؛ فإن اتفاقهما على غاية واحدة: (( إثبـات خلـود الــروح))، ومحاولتهما الاستدلال عليها، له أهميته الخاصة.
5- بيد أن الأمر الأساسى المهم؛ الذى من أجله نتحدث فى هذا الموضوع هو اتفاق المدرستين على أن ((الوحـى)) فيما يتعلق بما بعد الطبيعة هو السفينة الأمينة المتينة، وأن العقل فى الإلـهيَّـات، إن هو إلا عبارة عن لوح من الخشب إذا قابلته أو إذا وازنتـه بالوحى. إن الوحى سفينة والعقل لوح من الخشب.

لقد كان "الحوار" يدور بين سقراط واثنين من الفيثاغوريين؛ هـما "سيمياس"، و"قابس"، وهـما من كبار فلاسفة المدرسة الفيثاغورية. وأخذ الجميع يجهدون ذهنهم فى البرهنة على خلود النفس، ويقيمون أدلة، وتنقسم بعض أدلتهم إلى فروع، ثــم:
(.. يسكت سقراط، ويسكت الجميع، وبعد هنيهة يقول سيمياس: إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عســير جداً فى هذه الحــياة، ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخـر مدى العقل، فيجب:
• إما الاستيثــاق من الحق..
• وإما إن امتنع ذلك- كشف الدليل الأقوى والتذرع به فى اجتياز الحيــاة.
كما يخاطر المرء بقطع البحـر على لوح خشب ما دام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وآمــن، أعنى إلى وحى إلهى).

وبعد ذلك يعودون إلى البحث من جديد حتى:
( يقتنع قابس، ويعلن سيمياس أنه مقتنع أيضاً، إلا أن شعوره المزدوج بِعظَم المسألة، والضعف البشرى، يضطره إلى بعض التحفظ بإزاء هذه الأدلة على وجاهتها..فيسلِّم له سقراط بحقه فى هذا التحفظ، ويزيد قائلاً: بل إن المقدمات أنفسها مفتقرة إلى بحث أوكد!

إن هناك بحر الإلـهيَّـات وهناك البحر المائى..
وكما أن للبحر المائى آلة عبور هى السفينة، فإن لبحر الإلـهيَّـات آلة عبور هى ((الوحى)) فإذا استعمل الإنسان العقل فى عبور بحـر الإلـهيَّـات؛ فإنه يكون كإنسان يستعمل لوحاً من خشب فى عبور البحر المائى! ولكن المضطر - حيث لا وحى- يستمسك بلوح الخشب كما يقول سيمياس: (ما دام لا سبيل إلى مركب أمتن وآمن، أعنى إلى وحى إلهى).
ولوح الخشب هنا هو العقل!..
(*يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية*)

أبو عبد الرحمن
01-01-2005, 07:52 PM
محهود مشكور واتمنى ان يكلل هذا العمل بما ذكرة ابن تيمية كاملا ليكون مرجعا يحوى نقض الباطل واظهار الحق وانت أهل لذلك
وجزاكم الله خيرا

محب القران
04-25-2012, 04:11 AM
الفلسفه هي ان تقول ملاتفهم لمن لايفهم

قلب معلق بالله
08-05-2012, 07:33 PM
رفع بوركتم

muslim.pure
08-06-2012, 03:54 AM
الفلسفة ليست الا مصدر وجع رأس فلا هي تستقر على رأي و لا هي تجد إجابة على سؤال و الحل هنا هو التمسك بالعقيدة الاسلامية الصحيحة على منهج أهل السنة و الجماعة و الابتعاد عن هذه المتاهات لما فيها من شبهات قد تؤدي بسالكها الى الكفر و الخروج عن الملة و عدم الخوض في هذه المسائل الا بعد التحصن بالعلم الشرعي
موضوع رائع
جزاك الله خيرا