أميرة الجلباب
12-31-2004, 07:36 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السمات العامة للفلسفة
د. عبد الحليم محمود – فى مقدمة (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة) لأندريه كريسون.
السمة الأولى
( الفلسفة لا مقياس لها)
السمة الأولى من هذه السِّمات - وهى أهمها- وتعتبر كالمنبع الذى عنه تفيض السِّمات الأخرى، هى أن الفلسفة لا مقياس لها للتفرقة بين الحق والضلال، بين الصواب والخطأ، فإذا اختلف فيلسوفان فى أمر من أمور الفلسفة؛ فإنهما لا يجدان مقياساً يرجعان إليه للحسم بينهما فى موضوع الخلاف.
أما فى العلم فإن المقياس هو "التجربة" : فإذا اختلف عالمان فى أمرٍ كونىٍٍ رجعا إلى التجربة، وهى تعلن - فى صراحة مشاهدة - خطأ هذا وصواب ذاك.
• ما هو- فى عالم الفلسفة - الذى يجرى مجرى التجربة فى مجال العلم؟ -لا شىء!.
• ما الذى يحسم الخلاف فى عالم الفلسفة ؟ - لا شىء!!.
• ما هو المرجع من أجل الاتفاق فى عالم الفلسفة؟ - لا مرجع!!.
ولقد شعر الفلاسفة بذلك: فقام اثنان من كبار عباقرة الفلسفة بمحاولة لإيجاد هذا المقياس، وهما أرسطو فى الماضى وديكارت فى العصور الحديثة، ولقد أخفق كل منهما إخفاقاً تاماً كاملاً!
ونبدأ الحديث عن أرسطو- ولا ننسى أننا فى عالم الإلهيات، مجال الفلسفة الرئيسى:
لقد فكر أرسطو وقدَّر، ثم فكرَّ وقدرَّ، وخرج على العالم بما يسمى ( المنطق الأرسطى) أو ( المنطق الصُّورى)، وأخذ هذا المنطق فى عالم الفكر الفلسفى مجالاً من الشهرة والعناية لا حدَّ له، وأخذ فى الجو الإسلامى شهرة ذائعة الصيت، وتبنَّاه جميع فلاسفة الإسلام ابتداء من الكندى فى المشرق إلى ابن رشد فى المغرب!
ولكن كثيراً من المسلمين ذوى الأصالة فى الفكر الإسلامى أبانوا - فى وضوح - أن المنطق الأرسطى منهار، وأنه متهافت، وأن الخلل فى جوهره وأركانه، وأنه خلل لا يُصلَح!
وكان من هؤلاء ابن تيمية الذى كتب كثيراً فى نقد المنطق ونقضه؛ لقد كتب فى ذلك كتباً، وكتب فى ذلك فقرات منثورة هنا وهناك فى خلال كتبه الكثيرة وفتاواه المستفيضة!
وممن كتب - فى نقد المنطق ونقضه - ابن حزم.
والمحدثون جميعاً لا يجد المنطق عندهم ترحاباً ولا قبولاً.
وقد كتبنا نحن ننبه على أن المنطق لا يحسم خلافاً، ولا يفصل حقاً عن باطل، ومما كتبناه فى المنهج الحديث والمنهج الأرسطى ما يلى:
إن المقياس – بالنسبة لمعرفة الحق – هو:
(1) الاستقراء.
(2) القياس.
أما الاستقراء، وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية، فإنه:
1- مبنىٌّ كله على الحسِّ: إنه استقراء مُحَسَّات، إنه تتبُّع جزئيات لا تخرج عن نطاق الواقع.
أما (الإلهيَّات) فهو برىء من البحث فيها - كل البراءة - لأنها لا تدخل فى دائرة اختصاصه، فهو عاجز عن أن يخترق الحُجُب ليصل إلى ما وراء الطبيعة.
2- ثم إن الاستقراء: تامٌّ، وناقصٌ. والتام - كما يعترف المناطقة - لا غَنَاء فيه، ولا فائدة!
أما الناقص، وهو المهم فى نظرهم، فإنه - فى رأيهم - ظنىٌّ، وهو - لذلك- عُرضة للتغيير فى كل آونة: (كل معدن يتمدَّد بالحرارة)..
هذه قضية من قضايا الاستقراء، إنها قضية عامة شاملة، ولكن المعادن لم تُكتشف - بعد- بأكملها!
ومن الجائز أن يُكتشف -الغد- معدن لا يتمدد بالحرارة، إنها إذن فضية مؤقتة تتبرَّأ من اليقين الفلسفى.
( والعلم - كما يقول أحد المفكرين- لا يعرف الكلمة الأخيرة فى مسألة من مسائله، وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة، لها قيمتها حتى يكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيِّرها).
وهكذا قضايا الاستقراء.. إنها:
1- خاصة بالطبيعة، ولا شأن لها بما وراءها.
2- ظنية، لا تعرف اليقين!.
أما القياس:
1- فإنه مبنىٌّ على الاستقراء؛ إذ هو منطو دائماً على كليَّة؛ كليَّة استقرائيَّة. وما دامت قضايا الاستقراء ظنية كما رأينا، وميدانها المُحَسَّات فنتائج القياس ظنية كذلك، وميدانها المُحَسَّات.
2- إن المناطقة لا يشترطون - فى مقدمات القياس- أن تكون مُسلَّمة صادقة فى نفسها، وإنما يشترطون أن يسلِّمها المتجادلون فحسب، وقد تكون - كما يقول صاحب (البصائر النصيرية)- منكرة كاذبة فى نفسها، وفى هذه الحالة يكون القياس صحيحاً، ونتيجته باطلة!
وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس؟.. ما قيمته إذا كان لا يعوَّل فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة، وإن لم تطابق النتيجة الواقع؟
* ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها؟
إنك إذا قلت : الكثير من العلم يؤدى إلى الاستقلال الفردى، وكل ما يؤدى إلى الاستقلال الفردى مضرٌّ بالمجتمع؛ فالكثير من العلم مضرُّ بالمجتمع؛ كان هذا قياساً صحيحاً فى نظر المناطقة.
وإذا قلت: إن الكثير من العلم يؤدى إلى التماسك الاجتماعى وكل ما يؤدى إلى التماسك الاجتماعى مفيد للمجتمع؛ فالكثير من العلم مفيد للمجتمع؛ كان هذا أيضاً قياساً صحيحاً عند المناطقة ومع ذلك فالنتيجتان متعارضتان!
3- ومع كل هذا فالقياس استدلال دورى فاسد؛ ذلك أن العلم بالنتيجة فى نحو قولنا: محمد إنسان ناطق، فمحمد ناطق.. متوقف على العلم بالكبرى، والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة؛ لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنسانى إلا إذا تيقَّنت ثبوت الناطقية لمحمد، ولو كنت فى شك من ذلك لما استطعت تعميم الحكم على جميع أفراد الإنسانية، وإذن تكون الكبرى متوقفة على النتيجة، وتكون النتيجة متوقفة على الكبرى، وعلى ذلك يكون القياس استدلالاً دورياً فاسداً، فلا يعوَّل عليه!
4- وأخيراً.. فالمفروض أن نتيجة القياس جديدة كل الجدَّة، فإنها استنتاج مجهول (هو النتيجة) من معلوم (هو المقدمات).
ولكن النتيجة متضمنة فى المقدمات، إنها ليست مجهولة، والقياس -إذن- لا يؤدى إلى معرفة جديدة، أو إلى استنتاج مجهول من معلوم.. إنه - إذا أردت الدقة- استنتاج معلوم من.. معلوم!
تلك هى موازين العقل، وهى موازين لا غَنَاء فيها ولا جدوى منها فيما يتعلق بالإلهيَّـات.. العقل-إذن- قاصر فيما يتعلق بالأخلاق، وهو قاصر- على الخصوص- فيما يتعلق بالإلهيَّـات!
ومن هنا كانت الحكمة فى نزول الأديان.
ومن هنا كان السبب فى اقتصارها على الأخلاق و الإلهيَّـات.
وإذا كانت قد تحدثت فى التشريع، فإن التشريع داخل فى نطاق الأخلاق.
أخفق-إذن- أرسطو، واستمر الاختلاف بين الفلاسفة كما كان من قبل، واستمر الخلاف حتى بين المناطقة الأرسطِّيين -الكبار منهم والمغمورين- بل حدث الاختلاف بين تلاميذ "أرسطو" نفسه، وهم أتباع مدرسة واحدة، هى ( المدرسة الأرسطية).
ومرت العصور، وتوالت القرون، وجاء ديكارت، وبدأ ديكارت يتفلسف-على استحياء، وعلى حذر بالغ- فما كان جو زعماء المسيحية فى الغرب -إذ ذاك- يوحى بالاطمئنان والسكينة.. لقد كان جواً رهيباً يؤاخذ على الظنّـَة، ويتكِّـل على الشُّـبهة، لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة!
وأخذ ديكارت يتحسس طريقه - فى حيطة بالغة- مدارياً، مجاملاً مادحاً، متواضعاً!
وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم!
وأنه على أساس من هذا "المنهـج" سيقود الإنسانية إلى " الـحــق"!
ورأى أن هذا "المنهـج" صالـح للكشف عن " الـحــق" فى الكـون: فى الطبيعة، وفيما وراء الطبيعة!.. وكان من سخرية الزمن أن التجربة أظهرت خطأه فى أثناء حياته، وأن الخلاف استمر حول آرائه فى الإلهـيَّـات، وآراء معاصريه، وآراء من قبله، كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه.. وأخفـق منهج ديكارت، كما أخفق-من قبل- منهج أرسطو!
وبقيت الحقيقة التى لا شك فيها، وهى أن الفلسفة لا مقياس لها!
هذه هى السِّـمة الأولى.
السمات العامة للفلسفة
د. عبد الحليم محمود – فى مقدمة (المشكلة الأخلاقية والفلاسفة) لأندريه كريسون.
السمة الأولى
( الفلسفة لا مقياس لها)
السمة الأولى من هذه السِّمات - وهى أهمها- وتعتبر كالمنبع الذى عنه تفيض السِّمات الأخرى، هى أن الفلسفة لا مقياس لها للتفرقة بين الحق والضلال، بين الصواب والخطأ، فإذا اختلف فيلسوفان فى أمر من أمور الفلسفة؛ فإنهما لا يجدان مقياساً يرجعان إليه للحسم بينهما فى موضوع الخلاف.
أما فى العلم فإن المقياس هو "التجربة" : فإذا اختلف عالمان فى أمرٍ كونىٍٍ رجعا إلى التجربة، وهى تعلن - فى صراحة مشاهدة - خطأ هذا وصواب ذاك.
• ما هو- فى عالم الفلسفة - الذى يجرى مجرى التجربة فى مجال العلم؟ -لا شىء!.
• ما الذى يحسم الخلاف فى عالم الفلسفة ؟ - لا شىء!!.
• ما هو المرجع من أجل الاتفاق فى عالم الفلسفة؟ - لا مرجع!!.
ولقد شعر الفلاسفة بذلك: فقام اثنان من كبار عباقرة الفلسفة بمحاولة لإيجاد هذا المقياس، وهما أرسطو فى الماضى وديكارت فى العصور الحديثة، ولقد أخفق كل منهما إخفاقاً تاماً كاملاً!
ونبدأ الحديث عن أرسطو- ولا ننسى أننا فى عالم الإلهيات، مجال الفلسفة الرئيسى:
لقد فكر أرسطو وقدَّر، ثم فكرَّ وقدرَّ، وخرج على العالم بما يسمى ( المنطق الأرسطى) أو ( المنطق الصُّورى)، وأخذ هذا المنطق فى عالم الفكر الفلسفى مجالاً من الشهرة والعناية لا حدَّ له، وأخذ فى الجو الإسلامى شهرة ذائعة الصيت، وتبنَّاه جميع فلاسفة الإسلام ابتداء من الكندى فى المشرق إلى ابن رشد فى المغرب!
ولكن كثيراً من المسلمين ذوى الأصالة فى الفكر الإسلامى أبانوا - فى وضوح - أن المنطق الأرسطى منهار، وأنه متهافت، وأن الخلل فى جوهره وأركانه، وأنه خلل لا يُصلَح!
وكان من هؤلاء ابن تيمية الذى كتب كثيراً فى نقد المنطق ونقضه؛ لقد كتب فى ذلك كتباً، وكتب فى ذلك فقرات منثورة هنا وهناك فى خلال كتبه الكثيرة وفتاواه المستفيضة!
وممن كتب - فى نقد المنطق ونقضه - ابن حزم.
والمحدثون جميعاً لا يجد المنطق عندهم ترحاباً ولا قبولاً.
وقد كتبنا نحن ننبه على أن المنطق لا يحسم خلافاً، ولا يفصل حقاً عن باطل، ومما كتبناه فى المنهج الحديث والمنهج الأرسطى ما يلى:
إن المقياس – بالنسبة لمعرفة الحق – هو:
(1) الاستقراء.
(2) القياس.
أما الاستقراء، وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية، فإنه:
1- مبنىٌّ كله على الحسِّ: إنه استقراء مُحَسَّات، إنه تتبُّع جزئيات لا تخرج عن نطاق الواقع.
أما (الإلهيَّات) فهو برىء من البحث فيها - كل البراءة - لأنها لا تدخل فى دائرة اختصاصه، فهو عاجز عن أن يخترق الحُجُب ليصل إلى ما وراء الطبيعة.
2- ثم إن الاستقراء: تامٌّ، وناقصٌ. والتام - كما يعترف المناطقة - لا غَنَاء فيه، ولا فائدة!
أما الناقص، وهو المهم فى نظرهم، فإنه - فى رأيهم - ظنىٌّ، وهو - لذلك- عُرضة للتغيير فى كل آونة: (كل معدن يتمدَّد بالحرارة)..
هذه قضية من قضايا الاستقراء، إنها قضية عامة شاملة، ولكن المعادن لم تُكتشف - بعد- بأكملها!
ومن الجائز أن يُكتشف -الغد- معدن لا يتمدد بالحرارة، إنها إذن فضية مؤقتة تتبرَّأ من اليقين الفلسفى.
( والعلم - كما يقول أحد المفكرين- لا يعرف الكلمة الأخيرة فى مسألة من مسائله، وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة، لها قيمتها حتى يكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيِّرها).
وهكذا قضايا الاستقراء.. إنها:
1- خاصة بالطبيعة، ولا شأن لها بما وراءها.
2- ظنية، لا تعرف اليقين!.
أما القياس:
1- فإنه مبنىٌّ على الاستقراء؛ إذ هو منطو دائماً على كليَّة؛ كليَّة استقرائيَّة. وما دامت قضايا الاستقراء ظنية كما رأينا، وميدانها المُحَسَّات فنتائج القياس ظنية كذلك، وميدانها المُحَسَّات.
2- إن المناطقة لا يشترطون - فى مقدمات القياس- أن تكون مُسلَّمة صادقة فى نفسها، وإنما يشترطون أن يسلِّمها المتجادلون فحسب، وقد تكون - كما يقول صاحب (البصائر النصيرية)- منكرة كاذبة فى نفسها، وفى هذه الحالة يكون القياس صحيحاً، ونتيجته باطلة!
وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس؟.. ما قيمته إذا كان لا يعوَّل فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة، وإن لم تطابق النتيجة الواقع؟
* ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها؟
إنك إذا قلت : الكثير من العلم يؤدى إلى الاستقلال الفردى، وكل ما يؤدى إلى الاستقلال الفردى مضرٌّ بالمجتمع؛ فالكثير من العلم مضرُّ بالمجتمع؛ كان هذا قياساً صحيحاً فى نظر المناطقة.
وإذا قلت: إن الكثير من العلم يؤدى إلى التماسك الاجتماعى وكل ما يؤدى إلى التماسك الاجتماعى مفيد للمجتمع؛ فالكثير من العلم مفيد للمجتمع؛ كان هذا أيضاً قياساً صحيحاً عند المناطقة ومع ذلك فالنتيجتان متعارضتان!
3- ومع كل هذا فالقياس استدلال دورى فاسد؛ ذلك أن العلم بالنتيجة فى نحو قولنا: محمد إنسان ناطق، فمحمد ناطق.. متوقف على العلم بالكبرى، والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة؛ لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنسانى إلا إذا تيقَّنت ثبوت الناطقية لمحمد، ولو كنت فى شك من ذلك لما استطعت تعميم الحكم على جميع أفراد الإنسانية، وإذن تكون الكبرى متوقفة على النتيجة، وتكون النتيجة متوقفة على الكبرى، وعلى ذلك يكون القياس استدلالاً دورياً فاسداً، فلا يعوَّل عليه!
4- وأخيراً.. فالمفروض أن نتيجة القياس جديدة كل الجدَّة، فإنها استنتاج مجهول (هو النتيجة) من معلوم (هو المقدمات).
ولكن النتيجة متضمنة فى المقدمات، إنها ليست مجهولة، والقياس -إذن- لا يؤدى إلى معرفة جديدة، أو إلى استنتاج مجهول من معلوم.. إنه - إذا أردت الدقة- استنتاج معلوم من.. معلوم!
تلك هى موازين العقل، وهى موازين لا غَنَاء فيها ولا جدوى منها فيما يتعلق بالإلهيَّـات.. العقل-إذن- قاصر فيما يتعلق بالأخلاق، وهو قاصر- على الخصوص- فيما يتعلق بالإلهيَّـات!
ومن هنا كانت الحكمة فى نزول الأديان.
ومن هنا كان السبب فى اقتصارها على الأخلاق و الإلهيَّـات.
وإذا كانت قد تحدثت فى التشريع، فإن التشريع داخل فى نطاق الأخلاق.
أخفق-إذن- أرسطو، واستمر الاختلاف بين الفلاسفة كما كان من قبل، واستمر الخلاف حتى بين المناطقة الأرسطِّيين -الكبار منهم والمغمورين- بل حدث الاختلاف بين تلاميذ "أرسطو" نفسه، وهم أتباع مدرسة واحدة، هى ( المدرسة الأرسطية).
ومرت العصور، وتوالت القرون، وجاء ديكارت، وبدأ ديكارت يتفلسف-على استحياء، وعلى حذر بالغ- فما كان جو زعماء المسيحية فى الغرب -إذ ذاك- يوحى بالاطمئنان والسكينة.. لقد كان جواً رهيباً يؤاخذ على الظنّـَة، ويتكِّـل على الشُّـبهة، لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة!
وأخذ ديكارت يتحسس طريقه - فى حيطة بالغة- مدارياً، مجاملاً مادحاً، متواضعاً!
وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم!
وأنه على أساس من هذا "المنهـج" سيقود الإنسانية إلى " الـحــق"!
ورأى أن هذا "المنهـج" صالـح للكشف عن " الـحــق" فى الكـون: فى الطبيعة، وفيما وراء الطبيعة!.. وكان من سخرية الزمن أن التجربة أظهرت خطأه فى أثناء حياته، وأن الخلاف استمر حول آرائه فى الإلهـيَّـات، وآراء معاصريه، وآراء من قبله، كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه.. وأخفـق منهج ديكارت، كما أخفق-من قبل- منهج أرسطو!
وبقيت الحقيقة التى لا شك فيها، وهى أن الفلسفة لا مقياس لها!
هذه هى السِّـمة الأولى.