مشاهدة النسخة كاملة : سؤال أقرب من حبل الوريد
*Mahmoud*
10-11-2014, 06:23 PM
السلام عليكم ورحمة الله :
قال تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]
كيف نرد على الحلوليين والاتحاديين الذين يستشهدون بهذه الآية لإثبات معتقدهم ؟ وهل هناك تعارض أو تناقض بين اعتقاد أهل السنة باستواء الله على العرش فوق مخلوقاته بائن عنهم وبين الآية السابقة بأنه سبحانه أقرب إلينا من حبل الوريد ؟ أو بمعنى آخر كيف نوفق بين النصين؟
أبو جعفر المنصور
10-11-2014, 06:35 PM
هذه الآية أصلاً فيه ردٌ عليهم فلا يكون ( شيء أقرب إلى شيء ) إلا وهما متباينان أما إذا تداخل أحدهما في الآخر فلا يقال هذا أقرب وأبعد ، فلا يقال قلبك قريب منك بل يقال هو داخلك
قال ابن تيمية في الحموية :" وكذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء، ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد"
وهذه الآية تتكلم عن قرب العلم بدليل تتمتها ( إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ) وبدليل ذكر وسوسة النفس فالسياق عن علم الله ، واختار ابن تيمية أن المراد قربه بالملائكة لا مجرد العلم فقط
قال ابن تيمية في بيان التلبيس :" وقال خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) [الحديد 4] فأخبر أنه مستوٍ على عرشه وهو مع ذلك مع عباده وكلاهما حق فمن تدبر القرآن علم بالاضطرار أن كونه معهم ليس ذاته فيهم ولا أنه مختلط بهم كسائر موارد مع ومن ادعى ذلك أن هذا ظاهر القرآن فقد افترى على اللغة عمومًا وعلى القرآن خصوصًا وأما قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وقوله كل عاقل يعلم أن المراد منه القرب بالعلم والقدرة الإلهية فليس الأمر كما ادعاه من هذا العموم والإجماع وذلك أنه سبحانه قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وهل المراد بذلك الملائكة أو العلم أو كلاهما قال أبو عمر الطَّّلَمَنْكي ومن سأل عن قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] فاعلم أن ذلك كله على معنى العلم والقدرة عليه قال والدليل على ذلك صدر الآية قال الله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] لأن الله لما كان عالمًا بوسوسته كان أقرب إليه من حبل الوريد وحبل الوريد ما يَعْلَم ما توسوس به النفس ويلزم الملحد على اعتقاده أن يكون معبوده مخالطًا لدم الإنسان ولحمه وأن لا يُجَرد الإنسانُ تسميته المخلوق حتى يقول خالق ومخلوق لأن معبوده بزعمه داخلُ حبلِ الوريد من الإنسان وخارجه فهو على قوله ممتزج به غير مباين له قال وقد أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله على عرشه بائن من خلقه تعالى الله عن قول أهل الزيغ علوًّا كبيرًا "
ثم قال ابن تيمية :" وهكذا ذكر غير واحد من المفسرين مثل الثعلبي وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) [ق 16] وفي قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة 85] فذكر أبو الفرج القولين إنهم الملائكة وذكره عن أبي صالح عن ابن عباس وأنه القرب بالعلم وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات الباري جل وعلا قريبة من وريد العبد ومن الميت ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة فسروا ذلك بالعلم والقدرة كما في لفظ المعية ولا حاجة إلى هذا فإن المراد بقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة 85] أي بملائكتنا في الآيتين وهذا بخلاف لفظ المعية فإنه لم يقل ونحن معه بل جعل نفسه هو الذي مع العباد وأخبر أنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة وهو نفسه الذي خلق السموات وسياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة فإنه قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) [ق 16-18] فَقَيّدَ القرب بهذا الزمان وهو زمان تلقي المتلقيين قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) [ق 18] ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذاته لم يختص ذلك بهذه الحال ولم يكن لذكر العتيد والرقيب معنى مناسب وكذلك قوله في الآية الأخرى فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)والأرض وهو نفسه الذي استوى على العرش وتفسير قربه سبحانه بالعلم قاله جماعة من العلماء لظنهم أن القرب في الآية هو قربه وحده ففسروها بالعلم ولما رأوا ذلك عامًا قالوا هو قريب من كل موجود بمعنى العلم وهذا لا يحتاج إليه كما تقدم وقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) "
وقال ابن القيم في المدارج :" وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقُرْبِ: فَإِنْ أَرَدْتُمْ عُمُومَ قُرْبِهِ إِلَى كُلِّ لِسَانِ مَنْ نَطَقَهُ وَإِلَى كُلِّ قَلْبِ مَنْ قَصَدَهُ: فَهَذَا - لَوْ صَحَّ - لَكَانَ قُرْبَ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَإِحَاطَةٍ، لَا قُرْبًا بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُمَازِجُ خَلْقَهُ، وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَتَّحِدُ بِهِمْ. مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَرِدْ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ تَسْمِيَتُهُ قُرْبًا، وَلَمْ يَجِئِ الْقُرْبُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَطُّ إِلَّا خَاصًّا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْقُرْبَ الْخَاصَّ إِلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ: فَهَذَا قُرْبُ الْمَحَبَّةِ، وَقُرْبُ الرِّضَا وَالْأُنْسِ، كَقُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْقُرْبِ. لَا مِثَالَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ. فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ يَقْرُبَانِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَالرُّوحُ وَالْقَلْبُ فِي الْبَدَنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يُنَافِي الْقَصْدَ وَالطَّلَبَ، بَلْ هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْقَصْدِ. فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِدُونِهِ. وَكُلَّمَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْقَصْدُ أَتَمَّ: كَانَ هَذَا الْقُرْبُ أَقْوَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ؟
قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلنَّاسِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قُرْبُهُ بِعِلْمِهِ. وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِعِلْمِهِ بِوَسْوَسَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ. وَحَبْلُ الْوَرِيدِ حَبْلُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ الَّذِي مَتَى قُطِعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. وَأَجْزَاءُ الْقَلْبِ وَهَذَا الْحَبْلُ يَحْجُبُ بَعْضَهَا بَعْضًا. وَعِلْمُ اللَّهِ بِأَسْرَارِ الْعَبْدِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ قُرْبُهُ مِنَ الْعَبْدِ بِمَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَلْبِهِ. فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْعِرْقِ. اخْتَارَهُ شَيْخُنَا.
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] وَقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي قَصَّهُ عَلَيْهِ بِأَمْرِ اللَّهِ. فَنَسَبَ تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ. إِذْ هُوَ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي قَرَأَهُ عَلَيْهِ. كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: فَإِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا فَأَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ حَتَّى يَقْضِيَهَا.
قُلْتُ: أَوَّلُ الْآيَةِ يَأْبَى ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَالَ {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] قَالَ: وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَسْبَابِ وَتَخْلِيقِ الْمَلَائِكَةِ.
قُلْتُ: وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ «فَيَقُولُ الْمَلَكُ الَّذِي يَخْلُقُهُ: يَارَبِّ، ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَسَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ» . فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْمَلَائِكَةِ
بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي التَّخْلِيقِ. فَإِنَّ أَفْعَالَهُمْ وَتَخْلِيقَهُمْ خَلْقٌ لَهُ سُبْحَانَهُ. فَمَا ثَمَّ خَالِقٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرُهُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ ضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ. وَزَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَاشْتُبِهَتْ فِيهِ مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِالْقُرْبِ. وَاشْتُبِهَتْ فِيهِ آثَارُ قُرْبِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْمُوَافَقَةِ، وَغَلَبَةِ ذِكْرِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ بِقُرْبِ ذَاتِهِ. وَاشْتُبِهَ فِيهِ مَا فِي الذِّهْنِ بِمَا فِي الْخَارِجِ. وَاشْتُبِهَ اضْمِحْلَالُ شُهُودِ الرَّسْمِ وَانْمِحَاؤُهُ مِنَ الْقَلْبِ بِعَدَمِهِ وَفَنَائِهِ. وَاشْتُبِهَتْ فِيهِ آثَارُ الصِّفَاتِ بِحَقِيقَتِهَا، وَأَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ بِأَنْوَارِ الذَّاتِ.
وَأَصْحَابُهُ - لِتَحْكِيمِهِمُ الْحَالَ وَالذَّوْقَ - لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى لِسَانِ الْعِلْمِ، وَلَا يُصْغُونَ إِلَيْهِ. وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ."
وهذا كلام نفيس جداً
أبو جعفر المنصور
10-11-2014, 06:38 PM
وقال ابن القيم كما في مختصر الصواعق المرسلة :" لْمِثَالُ التَّاسِعُ: مِمَّا ادُّعِيَ فِيهِ الْمَجَازُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وَقَوْلُهُ: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] وَقَوْلُهُ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَقَوْلُهُ: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] وَقَوْلُهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الْآيَةَ وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَتِ الْمَجَازِيَّةُ: هَذَا كُلُّهُ مَجَازٌ يُمْتَنَعُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِذْ حَقِيقَتُهُ الْمُخَالَطَةُ وَالْمُجَاوَرَةُ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ قَطْعًا، فَإِذًا مَعْنَاهَا مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِحَاطَةِ، وَمَعِيَّةُ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْمَعُونَةِ، وَكَذَلِكَ الْقُرْبُ.
قَالَ أَصْحَابُ الْحَقِيقَةِ: وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: لَا تَخْلُو هَذِهِ الْأَلْفَاظُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهَا أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ، أَوْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ظَاهِرَهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ظَاهَرَهَا فَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ إِخْوَانِ هَؤُلَاءِ، وَهُمُ الْجَهْمِيَّةُ الْأُولَى، الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا.
وَهَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةُ الْمُسْتَأْخِرُونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إِلَهٌ، عَاجِزُونَ عَنِ الرَّدِّ عَلَى سَلَفِهِمُ الْأَوَّلِ، وَسَلَفُهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا لَهُ وُجُودًا بِكُلِّ مَكَانِ، وَهَؤُلَاءِ نَفَوْا أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْعَالَمِ أَوْ خَارِجَهُ، وَالرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ أَثْبَتُوا أَنَّهُ خَارِجَ الْعَالَمِ، فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَنُفَاةُ النَّقِيضَيْنِ لَا يُمْكِنُهُمُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ النَّقِيضَيْنِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ قَالُوا إِثْبَاتُ النَّقِيضَيْنِ مُحَالٌ، قَالُوا لَهُمْ وَنَفْيُهُمَا مُحَالٌ، وَإِنْ قَالُوا كَوْنُهُ دَاخِلَ الْعَالَمِ يُنَافِي كَوْنَهُ خَارِجًا عَنْهُ، قَالُوا لَهُمْ: وَكَوْنُهُ
غَيْرُ دَاخِلِ الْعَالَمِ يُنَافِي كَوْنَهُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهُ، فَإِنْ قَالُوا وَصْفُهُ بِدُخُولِهِ فِي الْعَالَمِ وَخُرُوجِهِ مِنْهُ يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ، قَالُوا: وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ التَّعْطِيلَ وَالْحُكْمَ بِعَدَمِهِ، وَالتَّجْسِيمُ خَيْرٌ مِنَ التَّعْطِيلِ، وَنَفْيُ حَقِيقَةِ الرَّبِّ لَوْ كَانَ لَازِمًا، كَيْفَ وَلُزُومُهُ مِنْ جَانِبِكُمْ أَقْوَى، فَإِنَّكُمْ تَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالْأَجْسَامِ، وَقَدْ أَلْزَمَكُمُ النُّفَاةُ التَّجْسِيمَ بِإِثْبَاتِهَا فَمَا كَانَ جَوَابُكُمْ لَهُمْ فَهُوَ بِعَيْنِهِ جَوَابُنَا لَكُمْ.
وَإِنْ قَالُوا إِثْبَاتُ دُخُولِهِ فِي الْعَالَمِ يَقْتَضِي مُجَاوَرَتَهُ وَمُخَالَطَتَهُ لِمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ، قَالُوا لَهُمْ: وَنَفْيُ دُخُولِهِ فِي الْعَالَمِ وَخُرُوجِهِ عَنْهُ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ وُجُودِهِ وَهُوَ أَنْقَصُ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ لِلْعَالَمِ، فَإِنْ كَانَ نَقْصًا فَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا يَمْنَعُ وُجُودَهُ أَدْخَلُ فِي النَّقْصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ النَّفْيُ نَقْصًا وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلنَّقْصِ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِثْبَاتِ نَقْصٌ.
فَإِنْ قُلْتُمْ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ يَقْتَضِي انْحِصَارَهُ فِي الْأَمْكِنَةِ، قَالَ سَلَفُكُمْ بَلْ يَقْتَضِي عَدَمَ انْحِصَارِهِ فَإِنَّا لَمْ نَخُصَّهُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلَوِ اقْتَضَى حَصْرَهُ لَكَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَعْقُولِ مِنَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ وَجُودِهِ.
فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ خَلَفُ الْجَهْمِيَّةِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى سَلَفِهِمُ الْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يَتْرُكُوا تَعْطِيلَهُمْ وَيَتَحَيَّزُوا إِلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ، فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ: حَقِيقَةُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَقْتَضِي الْمُجَاوَرَةَ وَالْمُخَالَطَةَ وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُمْ إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ، وَهَلِ الْإِثْبَاتُ بَرَاءٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ؟ هَذَا إِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُجَاوَرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِيهِ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ حَقِيقَتِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ غَايَةَ الْبَيَانِ أَنَّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ وَأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ إِلَيْهِ، وَتَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ رَفَعَ الْمَسِيحَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَصْعَدُ إِلَيْهِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، إِلَى سَائِرِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ مِنْ مُبَايَنَتِهِ لِخَلْقِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ، هَذِهِ نُصُوصٌ مُحْكَمَةٌ فَيَجِبُ رَدُّ الْمُتَشَابِهِ إِلَيْهَا، فَتَمَسُّكُهُمْ بِالْمُتَشَابِهِ وَرَدُّ الْمُحْكَمِ مُتَشَابِهًا وَجَعَلْتُمُ الْكُلَّ مَجَازًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْأَرْضَ قَبْضَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وَأَنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّهُ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهَذِهِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ عَيْنُ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ،
وَلَا صِفَةٌ وَلَا جُزْءٌ مِنْهَا، فَإِنَّ الْخَالِقَ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ، وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهَا مَحْصُورٍ بَلْ هِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ حَالًّا فِيهَا وَلَا مَحَلًّا لَهَا، فَهِيَ هَادِيَةٌ لِلْقُلُوبِ عَاصِمَةٌ لَهَا أَنْ يُفْهَمَ مِنْ قَوْلِهِ {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَيْنُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ حَالٌّ فِيهَا أَوْ مَحَلٌّ لَهَا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَلَا حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُخْتَلِطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ مُمْتَزِجٌ بِهَا، وَلَا تَدُلُّ لَفْظَةُ (مَعَ) عَلَى هَذَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ هُوَ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَمَوْضُوعُهُ، فَإِنَّ (مَعَ) فِي كَلَامِهِمْ لِصُحْبَتِهِ اللَّائِقَةِ وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَاتِهَا وَمَصْحُوبِهَا، فَكَوْنُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ مَعَهُ لَوْنٌ، وَكَوْنُ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ مَعَهُ لَوْنٌ، وَكَوْنُ زَوْجَتِهِ مَعَهُ لَوْنٌ، وَكَوْنُ أَمِيرِهِ وَرَئِيسِهِ مَعَهُ لَوْنٌ، وَكَوْنُ مَالِهِ مَعَهُ لَوْنٌ، فَالْمَعِيَّةُ ثَابِتَةٌ فِي هَذَا كُلِّهِ مَعَ تَنَوُّعِهَا وَاخْتِلَافِهَا، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: زَوْجَتُهُ مَعَهُ وَبَيْنَهُمَا شُقَّةٌ بَعِيدَةٌ وَكَذَلِكَ يُقَالُ مَعَ فُلَانٍ دَارُ كَذَا وَضَيْعَتُهُ كَذَا، فَتَأَمَّلْ نُصُوصَ الْمَعِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] وَقَوْلِهِ: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد: 14] وَقَوْلِهِ: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] وَقَوْلِهِ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة: 249] {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التحريم: 8] {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة: 84] وَأَضْعَافُ ذَلِكَ، هَلْ يَقْتَضِي مَوْضِعٌ وَاحِدٌ مِنْهَا مُخَالَطَةً فِي الذَّوَاتِ الْتِصَاقًا وَامْتِزَاجًا، فَكَيْفَ تَكُونُ حَقِيقَةُ الْمَعِيَّةِ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى ذَلِكَ حَتَّى يُدَّعَى أَنَّهَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَلَا مُلَاصِقَةٌ لَهُمْ، وَلَا مُخَالِطَةٌ وَلَا مُجَاوِرَةٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَغَايَةُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (مَعَ) الْمُصَاحَبَةُ وَالْمُوَافَقَةُ وَالْمُقَارَنَةُ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَا الِاقْتِرَانُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِهِ يَلْزَمُهُ لَوَازِمٌ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: اللَّهُ مَعَ خَلْقِهِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، كَانَ مِنْ لِوَازِمِ ذَلِكَ عِلْمُهُ بِهِمْ وَتَدْبِيرُهُ لَهُمْ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ خَاصًّا كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] كَانَ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ مَعِيَّتُهُ لَهُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْمَعُونَةِ، فَمَعِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عَبْدِهِ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى النَّوْعَيْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ بَلْ حَقِيقَتُهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصُّحْبَةِ اللَّائِقَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ خَلْقِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ وَقَرَنَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ، وَأَنَّهُ مَعَ خَلْقِهِ يُبْصِرُ أَعْمَالَهُمْ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ " «وَاللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ يَرَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ» " فَعُلُوُّهُ لَا يُنَاقِضُ مَعِيَّتَهُ وَمَعِيَّتُهُ لَا تُبْطِلُ عُلُوَّهُ، بَلْ كِلَاهُمَا حَقٌّ، فَمِنَ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وَمِنَ الْعَامَّةِ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وَقَوْلُهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الْآيَةَ.
فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِالثَّلَاثَةِ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي يَجْمَعُ الشَّفْعَ وَالْوَتْرَ، وَلَا يُمْكِنُ أَهْلَهُ أَنْ يَنْقَسِمُوا فِي النَّجْوَى قِسْمَيْنِ، وَنَبَّهَ بِالْخَمْسَةِ عَلَى الْعَدَدِ الَّذِي يَجْمَعُهُمَا، وَيُمْكِنُ أَهْلُهُ أَنْ يَنْقَسِمُوا فِيهَا قِسْمَيْنِ فَيَكُونُ مَعَ كُلِّ الْعَدَدَيْنِ، فَالْمُشْتَرِكُونَ فِي النَّجْوَى إِمَّا شَفْعٌ فَقَطْ أَوْ وِتْرٌ فَقَطْ، أَوْ كِلَا الْقِسْمَيْنِ، وَأَقَلُّ أَقْسَامِ الْوَتْرِ الْمُتَنَاجِينَ ثَلَاثَةٌ وَأَقَلُّ أَنْوَاعِ الشَّفْعِ اثْنَانِ، وَأَقَلُّ أَقْسَامِ النَّوْعَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا خَمْسَةٌ، فَذَكَرَ أَدْنَى مَرَاتِبِ طَائِفَةِ الْوَتْرِ وَأَدْنَى مَرَاتِبِ النَّوْعَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَعِيَّتَهُ الْعَامَّةَ لِمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ.
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ نَفْسَهُ رَابِعَ الثَّلَاثَةِ وَسَادِسَ الْخَمْسَةِ، إِذْ هُوَ غَيْرُهُمْ سُبْحَانَهُ بِالْحَقِيقَةِ لَا يَجْتَمِعُونَ مَعَهُ فِي جِنْسٍ وَلَا فَصْلٍ، وَقَالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]
فَإِنَّهُمْ سَاوَوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاثْنَيْنِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَابِعُ أَرْبَعَةٍ، وَخَامِسُ خَمْسَةٍ وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، لِمَا يَكُونُ فِيهِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُضَافِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] رَسُولُ اللَّهِ وَصِدِّيقُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسٍ قَالُوا رَابِعُ ثَلَاثَةٍ وَخَامِسُ أَرْبَعَةٍ وَسَادِسُ خَمْسَةٍ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ لِمُوسَى وَأَخِيهِ {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وَقَالَ فِي الْعَامَّةِ {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] فَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَفْرَدَ ضَمِيرَ نَفْسِهِ حَيْثُ أَفْرَدَ مُوسَى وَأَخَاهُ عَنْ فِرْعَوْنَ، وَكَيْفَ جَمَعَ الضَّمِيرَ لَمَّا أَدْخَلَ فِرْعَوْنَ مَعَهُمَا فِي الذِّكْرِ، فَجَعَلَ الْخَاصَّ مَعَ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّ مَعَ الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] فَهَذِهِ الْآيَةُ لَهَا شَأْنٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِحَاطَةِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْمُرَادُ قُرْبَهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ نُفُوذُ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِيهِ وَإِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبُ مَلَائِكَتِهِ مِنْهُ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ بِصِيغَةِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ عَلَى عَادَةِ الْعُظَمَاءِ فِي إِضَافَةِ أَفْعَالِ عَبِيدِهَا إِلَيْهَا بِأَوَامِرِهِمْ وَمَرَاسِيمِهِمْ، فَيَقُولُ الْمَلِكُ نَحْنُ قَتَلْنَاهُمْ وَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] وَجَبْرَائِيلُ هُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] فَأَضَافَ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَيْهِ، وَمَلَائِكَتُهُ هُمُ الَّذِينَ بَاشَرُوهُ إِذْ هُوَ بِأَمْرِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ مِنَ الْأَوَّلِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَيَّدَ الْقُرْبَ فِي الْآيَةِ بِالظَّرْفِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 17] كَالْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ مَا فِي قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [ق: 16] مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ قُرْبَهُ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَتَقَيَّدْ ذَلِكَ بِوَقْتِ تَلَقِّي الْمَلَكَيْنِ، وَلَا كَانَ فِي ذِكْرِ التَّقْيِيدِ بِهِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ وَقُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ عَامَّةُ التَّعَلُّقِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ تَكُونُ قَدْ تَضَمَّنَتْ عِلْمَهُ وَكِتَابَةَ مَلَائِكَتِهِ لِعَمَلِ الْعَبْدِ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] وَنَحْوَ قَوْلِهِ: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] ."
*Mahmoud*
10-12-2014, 02:19 PM
كلام رائع .. بارك الله فيك ونفع بك وزادك من لدنه علماً ...
أيضاً لدي سؤال في القسم الخاص حول الآيات التي تتحدث عن الروح (من روحه ، أرسلنا إليها روحنا) أرجو أن تجيبني عليه ..
كما أرجو أن تنصحني بكتاب أقرؤه في العقيدة يتطرق لذكر هذه المسائل والجواب عليها مع الأدلة من الكتاب والسنة..
Powered by vBulletin™ Version 4.2.1 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, ENGAGS © 2010