المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملاحظات على تشجير كتب السلف



أحمد بن مسفر العتيبي
12-13-2014, 10:40 PM
ملاحظات على تشجير كتب السلف
أثناء مطالعتي لترجمة الإمام جلال الدين المحلِّي(ت: 864هـ ) رحمه الله تعالى ، تعجبتُ من صعوبة الحفظ عليه وجودة فهمه وتفطُّنه للمعاني العويصة الخفية ، فقد كان ذهنه- كما قيل – يكاد يثقب الألماس من قوة قريحته . وهذا من فضل الله وحده .
هذه الصفة عند الإمام المحلِّي جعلتني أفكِّر في ظاهرة التشجير التي انتشرت اليوم في الأوساط العلمية ، وكانت سبباً من أسباب التخلُّف العلمي في الآونة الأخيرة .

فقد دأب بعض طلبة العلم وبعض المتصدِّرين للتدريس على تشجير كتب السلف التي جمعت مُهمَّات الفنون ، أو بعض المصنفات المهمة في التخصصات التي يعكف كثيرٌ من محبِّي العلم على تأملها وتكرارها .

والمقصود بالتشجير : التفريع والتقريب بالرسوم البيانية أو بالجداول العمودية والخرائط الذهنية ،مع حذف الزوائد لبعض المسائل الفرعية.
والتشجير في اللغة مصدر للفعل شجَّر ، ويقصد به الرسم والتزييِّن .

وفي الإصطلاح المعاصر للعرف العلمي : تزييِّن الكتب وتقريب المسائل بالرسم العمودي وما في معناه ، غير أنه لون من ألوان الضعف العلمي الذي تسرَّب إلينا من الحضارة العلمية الغربية التي لا تناسب بينها وبين علومنا ومناهجنا .

التشجير لم يكن معروفاً قبل عقد من الزمان ، فقد ظهر في الأوساط العلمية فجأة ، إثر موجة الإعجاب بنظريات التعلَّم الحديثة عند الغربيين والمستشرقين ، والدارسين في الجامعات الأجنبية .

التشجير مفيد لطلاب العلم ذوي الفهم المحدود أو للأعاجم الذين لا يُحسنون إدراك المعاني الشرعية والاصطلاحية المبثووثة في المتون ، أما طلاب العلم الذين عندهم مَلكة الفهم والجمع بين النظائر والمفردات واستخراج الحكم ومعرفة العلل أو يأملون في النبوغ ، فلا يحسن تسويق هذا اللون بينهم ، كما هو شائع الآن في المنتديات والملتقيات والجامعات الشرعية .

وقد ظهرت ثمرة هذا التشجير عياناً بياناً في خُلوِّ المكتبات العلمية من الجدية في الطرح العلمي ، والضعف في تأصيل النوزل المعاصرة ، إلا ما رحم ربي .
لو تأملنا الكتب التي يتم تشجيرها وتسويقها بين طلبة العلم ورُوّاد المكتبات ، لألفيناها كتب الفقه والأصول ،فقد فُرِّعت مسائلها وقُلِّمت وشُذِّبت ، فأضحت ملساء كالرمل الذي لا يُمسك الماء ولا يُنبت الكلأ ! . وهذا مما يستدعي النظر في هذه الظاهرة الملفتة أمام صمت عجيب من المتخصِّصين ! .

لا يوجد إطلاقاً تشجير لكتب التاريخ والسِّير، أو كتب اللغة ، أو كتب النحو والصرف ، أو كتب علم الإجتماع ، أو ونحوها من الفنون .
قد تُوجد محاسن يسيرة لهذا الأسلوب لتقريب العلم الشرعي ، لكن الملاحظات تنيف على المحاسن ويجب التنبه لها وهي :

1- قطع الصلة بين المتن ومنهج المصنف :
السبك العلمي لعبارات المتن التي يصوغها الماتن أو العالِم تكون على منهج مُعيَّن ومنظومة موحَّدة ، وهذه تُفيد الطالب في معرفة مفردات الأحكام ومعانيها ، وهي وسيلة لحفظ كلامه في المسألة ، وتشجير ألفاظه يُفوِّت هذه المصلحة ، وقديماً كان العلماء يعرفون المخطوطة أو الكتاب الذي فُقد غِلافه بسبك عبارات مؤلِّفه وأسلوب كلام كاتبه . وقد صح أن الإمام المزني (ت: 264هـ ) رحمه الله تعالى ، قرأ كتاب “الرسالة” خمسمئة مرة .
وقد تواتر عن أبي العباس بن سُريج ( ت: 306هـ) رحمه الله تعالى، أنه كان ينظر في مختصر المزني ثلاثين عاماً حتى أنشد :
سميرُ فؤادي مُّذْ ثلاثون حِجَةً وصيقلُ ذهني والمُفرّجُ عن همي .
وقد ثبت أن الإمام النووي (ت: 676هـ ) رحمه الله تعالى ، قرأ كتاب “الوسيط” للغزالي ( ت: 505هـ ) رحمه الله تعالى ، أربعمئة مرة .
وهذا يدل على إعتنائهم بمناهج المؤلِّفين وحرصهم على إدمان النظر فيها بلا كلل .

2- حرمان الطالب من استدراكات العلم :
فمن خلال أبواب الكتاب ومسائله يستدرك المصنِّف على كلامه، أو يُستدرك عليه من خلال شارحه أو محقِّق كلامه ، وتشجير الكتاب يُفوِّت هذه المصلحة ، ويقطع الدارس عن معرفة مُرجِّحات المسائل . وقد رأيتُ في بعض كتب التشجير لمتن فقهي في باب السبق : ” (يصح السبق على الأقدام وسائر الحيوانات والسُّفن والمزاريق ) ولم يوضِّح معنى المزاريق ، فبقيت مبهمة غامضة . ومعناها : الرماح .

3- إضعاف ملكة الإستبصار العلمي :
والإستبصار هو النظر في الفقرات مرة واحدة متتابعةً كأنها قطعة معدنية في اليد ، مما يُسهِّل معرفة ماهية المراد منها كمنطوق ومفهوم ومطلق ومقيد ، ونحو ذلك من الدلائل التي لا تخفى على من له ممارسة للنظر في الكتب . وقد أومأ إلى هذه الطريقة العلامة ابن بدران ( ت: 1346هـ ) رحمه الله تعالى ، في كتابه “المدخل”.فلُتراجَع فإنها نفيسة .

4 البُعد عن إدراك النظائر الفقهية والأصولية :
فالتشجير يبُعد المتأمل عن إدراك النظائر الفقهية والأصولية في المسائل المرقومة في المتن ، لأنه يعرض المفردات مجردة عن دلائلها ، كأنها عظم بلا لحم . وهذا من أفسد الأساليب لتجريد الطالب عن الأصول وفوائدها. كقاعدة : ( الأصل في الأشياء الإباحة ) فهذه يكثر إيرادها في كتب التشجير ، والصحيح عدم التعويل عليها مطلقاً ، لعدم الإجماع على التسليم بتعميمها .

5- تعزيز ملكة الكسل والحرمان من التأصيل :
فيبقى الطالب أسيرا مُقيَّداً في هذا التشجير المبهم ولا يكاد يخرج عن إطاره ، فَيُحرم من بناء المَلكة وتأصيل المسائل ومعرفة مناط الأحكام . كغموض مسألة ماء الرحى إذا حُبس ، فلم أر من نبَّه على معناه من المشجِّرين ! .

6- تأسيس الإعتماد على الجُذاذات :
والجُذاذات هي بطاقات العلم الصغيرة الخالية من بناء الملكة وترسيخ الفقه الصحيح ، مما شجَّع المتعالمين على تخطئة العلماء وأهل الفتوى الذين رسخوا في العلم وعرفوا مكنونه ، فأصبح العامة من الناس يستدركون على أهل العلم لإعتمادهم على ظاهر هذه الجذاذات الخالية من التأصيل .

7- توسيع ظاهرة نبذ التحرير :
التشجير للمتون يمنع أو يحدُّ من تحرير ألفاظ المتن لإعتماده على غير نسخة الأصل ، فالغالب أن تدوين الفرائد يكون على أصل المتن لا على بديله . وهذا معروف بالتجربة .

8- فوات لطائف الحواشي والتنبيهات :
ففي بعض المتون هناك لطائف من الماتن نفسه أو من المحقِّق أو المعلِّق على الكتاب ، وفيها نفائس تُحذف عند تشجير الكتاب ، ولا يتفطَّن لهذا كثير من محبِّي العلم المتعلِّقين بالتشجير والمختصرات .

9- هَجر لُغة العلم وفخامة معاني المتون :
العين إذا مارست النظر في متون العلم فإنها تكتسب فخامة اللفظ وقوة المعنى المنطويان في عبارات الماتن . ومعلوم أن لغة الفقه القديمة لغة مباركة وفيها غزارة علم وجودة سبك ، ولا يُمكن تحصيل هذه المصلحة بطريقة التشذيب .

10- ترسيخ ضعف الملكة العلمية :
وهذا لا يحتاج إلى قانون وبرهان ، فإن الملكة العلمية إنما تُبنى بالقواعد وفهم الأدلة ومعرفة الدلائل وإدمان النظر في المتون الأصيلة ، لا بتشذيبها وتشجيرها واستخراج الملكة منها ! .

ومن المؤسف اليوم تسويق البحث في المكتبات الإلكترونية ، مما زاد من غربة النظر في الكتب ومذاكرتها وطلب بركة البحث فيها . وهذا سببه عدم اليقين بثواب الرحلة للكتاب وطلبه واحتساب التقييِّد فيه . وقد قيل : ” إذا جاء نهر الله بطل نهر معقِل” .
وختاماً فإن الأكمل والأفضل هو الإستعاضة عن تشجير كتب السلف بتعليق الحواشي وكتابة الأدلة المقرِّبة لها ، بتحرير عباراتها مع فهم الدلائل والقواعد الموضِّحة لها ، أو بطريقة السؤال والجواب التي درج عليها بعض علماء العصر ، لكنها خَبت مع الحضارة المعاصرة والثورة الرقمية . نسأل الله الخَلف والعِوض .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

أ/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بمعاهد القوات البرية
__________________________

مؤسِّس مُدوَّنة المتوقِّد التأصيلية
http://ahmad-mosfer.com/

الـطواف
12-14-2014, 10:55 AM
ملاحظاتك أستاذ أحمد ان دلت على شيء فهي انما تدل على رهافة احساسك ونباهة ذهنك . بالفعل اتفق معك في كل ما تقول فجميع المذكرات والمختصرات تهدف الى تعليب وترويج المعرفه كسلع تجاريه جاهزة لتكفي متلقيها مؤونة التعب والكدح الذهني للسفر الى موطن المعلومة والتعرف عليها بشكل واقعي ومنطقي يستجلي جميع ملابساتها , ويضفي على المعرفة الروح والملكة التي كان يتميز بها أولئك الرواد السابقين من لعلماء الجهابذة الذين كانوا بحق يملكون قيمة وجوهر المعلومة والقدرة التامة على التحكم السليم في استعمالها.