المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تقليدُ الجديد أو جديدُ التقليد



الطلحاوي
02-02-2015, 01:19 PM
السلام عليكم

في ثنـايا إنتاجات النخب المثقفة ذوات التكوين السياسي أو الفلسفي تكمـن جوانب التقليد و الجديد في الحقول المعرفية، و بين طياتهـا أفكـارا مستنـسخة أو مستحدثة قـد تشي أحيانـا بالتكرار و الاجترار المفاهيمي كمـا قد توحي بالابتكـار الفكري والجديد الفكري أحيانـا أخـرى. و في كتـابات المحدثين ممن حاولوا التأصيل لأزمة الراهن السياسي و الاجتمـاعي و الاقتصادي شيئـا من النبوغ الفكري و أشياء من التقليديات المنمـقة ،إذ يعجب المـرء و هـو يرصـد فلسفـة أصحـابهـا تصول وتجول في فضاءات اللغـة الخـادعـة فيسقط صريعـا سريعـا في سحـر الكـلام المرسل و مطاطية اللغـة دون أن تترك لـه مجال تتبع مستويات الأفكـار و طبائعهـا و انتمـاءاتهـا الإيديولوجية .

في الحقيقة، نـبغ عندنـا في عـالمنـا الإسلامي عقولا أنتجت طـوفانـا من الكلام حول قضايا المعرفة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية والتاريخية دون أن تُنتِجَ تأصيلا منطقيا متسلسـلا، يكفي للمـلاحظ الحصيف رصد تقليدياتهم المعرفية و المنهجية و التي غـالبا مـا تغطيهـا حجم مطـاطية المفاهيم و توليد المعاني الفرعية، فالتقليد ثاوٍ في التفكير قبل التأليف و التجديد ثاو في التفريع قبل التأصيل، و ليس هنـاك أضــرّ للعقل النـاقد من أن يؤسس فلسفته علـى حساب الآخرين المبدعين في فضاءهم فيشرع في ترصيف ديباجاتهم و تقعيدهـا بمـا يجعله وسيطـا بين مرجعيتين متناقضتين .إن التقليد في نظري ليس أسلوبا في التفكير فحسب و إنمـا عجزا عن التفكير في خـلق نماذج فريدة و أنظمـة معرفية جديدة تنبني علـى المسار الطبيعي للأمـة ، التقليد صياغـة لجديد الآخـر صياغـةً تبعيةً تـروم الإيحاء بجديد الذات لكنهـا في الأصل انسحـاق داخـل نسقيةِ فكرٍ لا حـظّ لـه منـه في شيء ابتكـارا.

تقليد الجديد الغربي صـارَ مهنـة "مثقفين" لُغويين مـا فتئـوا يتقنـون فن الحيل اللغوية فجعلوهـا مدخـلا لعرض البضاعـة القديمـة هنـاك الجديدة هنـا في ديار الإسلام، كــان قديمُ المذاهب الفكرية الغربية هنـاك جديد السـاحة الفلسفية هنـا في عـالم يعـاني من خـصاصٍ في التجديد و شحّ في صنعـه، فصارت عندنـا مرجعيات تشاكسُ مرجعياتنـا سلبا، كـان قديم المنهجيات المبتكرة هناك في حقول "العلوم الإنسانية" عـامة هو جديد الموضة الفكرية هنـا للمثقفين يستهلكونهـا بشراهـة فمسَّت تطبيقـاتهـا العوجاء أصولنـا و قواعدنـا التأسيسية، لـكن و مع ذلك فتقليد الجديد لم يخلُ من جديد إذ أسهمَ ذلك حقا في إغنـاء المكتبة الفكرية بمؤلفات تقليدانية مـاراطونية تُسابقُ اللغة و التـاريخ و تُفرِخُ لدينـا نسخـا صغيرة من المتعلمين يبدءون رحلتهم مبكرا في استهـلاك تقليد التقليد (الكتب المقلِّدة) في انتظار الالتحاق بطـابور المقلدين المثقفين، جديد تقليد الجديد عندنـا إطنـابٌ شديدٌ في عرض الواقع السياسي و الاجتمـاعي و الاقتصادي و الثقافي و تكـلّـف عجيبٌ في منطق توظيف اللغة و إغراقٌ في المداخـل النظرية وتـلاعب في المفاهيم .

فإذا كـان قديم فكر "المـاديات الصلبة" دارت حول مفردات العقلانية و الحرية و الفردانية كمـبادئ لعنوان"الحداثة" فصارت بعدهـا هي عندهم مخلفات فكرية متجاوزة متحولة إلـى "المـادية السائلة" بتعبير عبد الوهـاب المسيري رحمه الله فإننــا في عـالم التقليد العروبي لا زلنـا نمـضغ رواسب "الحداثة" بنفس النَّفَس الغربي لكن بثرثرة أكبر و إيقاع سريع، لازال الذهـول العقلي و الانسحـاق الوجداني يطبع عـالم المثقف المتحرر من "مجاله التداولي" فيجعلـه يعيش الدهـشة في ذاته و كأنـه خرج للتو من مغارة مظلمة فلمـا تبين له هـذا النسق الغربي و الانتظام المادي تحوَّلَ لراهب يُـسبّـحُ بحمدِ المُبدع الغربي.

لقد صـارَ قديم الغرب سقفَ نضاله و عتبة فلسفته و غـاية وجوده لا يبـرح "جنتهـا" لحظة إلا أن يعود لذاته لتبخيسهـا و تدنيسهـا ، و هكذا فإن "الحرية" و "العقلانية" و "الفردانية" مفاهيم فريدة لم تفارق عندهم أزمنـة "التنوير" و "النهضة" ولم يشهـد التراث المشرقي عـامـة نظيرا لهـا بالمعنـى الفلسفي، ويلٌ لكَ إن خـالفتَ و عـاندتَ... و تجري الأيام و السنون و تبرز "المـابعد حداثة" بفكرهـا الجديد و نقدهـا للقديم فتصبح مفردات الذاتية الهيومـانية و مركزيته و "عقلانيته" و تعـاليه علـى سلطـة الواقع تصبح أشباحـا وخرافات غذتهـا سطوة الإنسان وغروره ليس إلا، قــد يجـاري المثقف العروبي تلـك التحولات فينتفض أحدهم هنـا أو هنـاك ليحدثنـا آنذاك عن تقليد جديدٍ آخـر وفد . كيف للعـاقل اللبيب أن يتلمـس الجديد الفكري الجاد في فكر أومليل مـثلا من خـلال ( الإصلاحية العربية و الدولة الوطنية) أو ( أعمـال ندوة ابن رشد ) أو ( في شرعية الاختلاف ) و قد جرت التحليلات تحت وقع انهيار العقل أمـام صدمـة "الحداثة"،فـلا شيء يدور إلا و يعود إلـى نبعـه الغربي ؟

كيف يلمس المسلم وجوده في فكر العروي و هو يطوف في سلسلته المفاهيمية أو في ( العرب و الفكر التاريخي) دون أن يحس باغتراب فكر صاحبه ؟ كيف نتحسس الجديد في خطاب كمـا عبد اللطيف ؟ إن المشكلـة البنيوية لدى مبدعينـا تكمن في كونهم قد جددوا تجديدا تقليدانيا للآخـر الغرب و ليس للذات فظلت اجتهـاداتهم تتمحور حول نـفس العنـاوين الغربية بعيدا عن التمفصلات السياسية و الاجتمـاعية التي تعرفهـا المنطقة المشرقية و المغربية، و بدت كـل المحـاولات كمـا لو أنهـا تُنــظِّـر لواقع آخـر غير واقعنـا .

إن التجديد في التقليد لا يثمـر إلا مزيدا من التشوهـات الثقافية و يورث اغترابات حضارية عكس تجديد الغرب لذاته حيث انطلق من مسح تـاريخه لبناء حضارته، في حين معظم "عَلمانيينــا" يعـانون من عقدة الاقتراب من الدين و من أمـراض الفصام النكد بينه و بين السياسة.

إن التجديد الذي نـراه مركزيا في تطوير الذات هـو مـا كـان ينتمـي لعالم الشهـادة التداولية لتحقيق الشهود الحقيقي، أي مـا تأسس علـى مساره الطبيعي قصد الاجتهـاد فيه لتجاوز إشكـالات الواقع الصلب و ليس عبر التوسل بمعيارية أوروباوية تستنطق وقائع مغايرة مغايرة، التجديد الحقيقي يبتكر المعـاني و "الأواني" معـا و يقدم صاحبه إنتـاجه بعيدا عـن الانتحـالات و الاسقاطـات، و لـو شـئنـا التمثيل لقلنـا أن الفيلسوف طه عبد الرحمـان يعد نموذجـا رائدا في صناعة التجديد الفكري و الفلسفي و صـار رمـزا فريدا من نوعـه استنطق التـراث بأدوات دقيقة "تأصيلية" في ( تجديد المنهج في تقويم التراث) و (القول الفلسفي) دون أن يقع في آفـة الاستغراق في التـاريخ أو أن ينفصل عنه، فقـد فهـم بحق أن "الحداثة" هي "أن لا تقلد الحداثة" و أن الفلسفة الحقة يجب أن لا تُحلِّـق بعيدا عن المجال التداولي الذي يعـيش فيه الإنسان فأبدع و قدَّم درسـا بليغـا للمقلدة الذين رفعـوا "العقلانية" مـقام القداسـة دون أن يتمكنـوا هم من ممــارستهـا بحق و رفعـوا "الحرية" مقام الثابت الكلي دون أن يتمكنوا من التحرر من قبضة الغرب، مـارسوا التقليد "الحداثي" و لم يستطيعوا فهم روحهـا و سقطوا في سيولـة فكرية استندت إلـى النمـاذج الغربية بصنمية بـالغة توسلت نقد الذات بتقليد الآخـر في حين لم يقبلوا نقد الآخـر بمنطق الذات، و هكذا صـارت تحليلاتهم "العَلمانية" حواشيـًا و هوامشاً لمتون الآخـر صيغت بألسن عجمية و عربية في وقت درج فيه القوم اعتبار العقل التراثي عقلا تقليديا لا ينفك عن أسلوب الحواشي و الاستدراكـات !

نـعم يمكن الاستفادة من هـذا الآخـر و التفاعـل معه في حدود مـا يبنـي عـلاقـة أفقية لا تُذَوِّب الشخصية الحضارية و لا تلحقهـا بخطابهـا ، فذلك منطق التـاريخ و الحضارات في جدلياته فلم تسلم منهـا أمـة من الأمم، لكننــا نـرى أن كـل هـذا الانسحـاق الفكري و الرضوخ لمعيارية غربية آفـة بلّــدت العقل النخبوي و صيَّرتهُ أداتيًا حرمتهُ من ملكة النقد ، كمـا أنهـا أنتجت نخبا إلحاقية لا تعي غير المضامين الوافدة في مجالات التدبير السياسي و المقاربات الاقتصادية و الاجتمـاعية و التـاريخية ، في حين كـان يُفترض من أهـل النـظر التعـالي عن سلطـة الواقع الغربي الفكري و المادي لأجـل ممـارسة قدر من الحرية .

إن تقليد الجديد من أدوات التحليل المزمنـة المـادية و أنمـاط القيم التـاريخانية الغربية لـن يفرز في آخـر المطاف إلا جديد التقليد، و مـا أشبه كتابات المقلدة المشائين قديمـا بمقلدة "التنويريين" حديثا و في ذلك درس لمن اعتبر ،أليس التأصيل أولى من التقليد كمـا قال عبد الرحمان في "القول الفلسفي" ؟!