المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خبر كي لا تنخدع بالإلحاد ( متجدد )



د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:26 PM
مقالات جديدة في نقض و فضح كلام الملاحدة العقيم ،والرد على دعاويهم ومغالطاتهم فأسال الله التوفيق والسداد يتبع

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:28 PM
الإجابة على أسئلة الملاحدة حول الغاية من الخلق
د.ربيع أحمد











الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله الرد على أسئلة الملاحدة واللادينيين حول الغاية من الخلق ،وهي في الحقيقة ليست أسئلة بل شبه في صورة أسئلة .

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:30 PM
أسئلة الملاحدة حول الغاية من الخلق

يقول الملاحدة أنتم أيها المسلمون عندما نسألكم لماذا خلق الله البشر ؟ تجيبون خلقنا الله لنعبده ، و السؤال لكم أيها المؤمنون : هل يحتاج الله لعبادتنا ؟ وما الذي سيستفيده من عبادتنا له ؟ ،وإذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئا فهل خلقنا ليعبث بنا ؟ وإذا كان خلقنا لعبادته فلماذا يعبده بعض الناس لا كل الناس ، ولماذا لم يجعلنا كلنا نعبده ؟ ولماذا لم يستأذن منا قبل أن يخلقنا ؟

دأب الملاحدة واللادينيين سوء الأدب مع رب العالمين

دأب الملاحدة في كل زمان ومكان سوء الأدب مع الله ،و الاعتراض على أحكامه و أفعاله فيقول الواحد منهم معترضا – وإن كان لا يؤمن بالله أصلا - لماذا خلقني الله ؟ ويكلم أحدهم الله – عز وجل - متبجحا : لماذا خلقتني يا الله ؟ لماذا تريد مني أن أعبدك أتحتاج عبادتي ؟ لماذا لم تستأذن مني قبل أن تخلقني ؟ إن كنت تحبنا فلماذا لم تخلقنا كلنا صالحين نؤمن بك ؟ لماذا لم تدخلنا الجنة دون المرور بالدنيا ؟ إلى غير ذلك من التجاوزات وسوء الأدب : ﴿ و َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ( الزمر : 67 ) .

وكيف لمخلوق لا يساوي في الكون شيئا أن يعترض على ملك الكون و ملك الملوك ؟!! كيف له أن يعترض على تصرف الله في الكون و الخلق خلق الله و الكون ملك الله ؟!! قال تعالى : ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ ( الأنبياء : 23 ) .

وإذا كان لأي مالك التصرف فيما يملكه بما شاء وكيف شاء ، و إذا كان لصاحب المال التصرف في ماله بما شاء وكيف شاء ،وإذا كان للسيد حرية التصرف في عبده بما شاء وكيف شاء فأي نوع من العقول هؤلاء الملاحدة يعترضون على فعل الله في ملكه و فعل الله في عبيده ؟! قال تعالى : ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾( آل عمران : 26 ).

لماذا خلقنا الله ؟

بين الحق سبحانه و تعالى الغاية الكبرى التي من أجلها خلق الجن و الإنس فقال سبحانه : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ( الذاريات : 56) ،و إذا كان الله هو الخالق فله الحق أن يُعبَد إذا كان الله هو الخالق فهو المستحق بالعبادة ، و نحن نعبد الله ؛ لأنه خلقنا وأمرنا أن نعبده قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ( البقرة : 21 )


ومما ينبغي علينا معرفته أن الإنسان أصبح كائنا حيا موجودا بعد أن لم يكن له وجود ولا حياة ، و خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئا ووهب الحياة له ما هو إلا فضل و جود وكرم من الله للإنسان ،و نعمة الوجود و نعمة الحياة لا تقدر بثمن ،والإنسان لا يتمتع فقط بنعمة الوجود والحياة بل يتمتع أيضا بنعمة الصحة و نعمة السمع و نعمة البصر و نعمة التذوق و نعمة اللمس و نعمة الكلام و نعمة الحركة إلى غير ذلك من النعم التي يتمتع الإنسان بها .


و إذا كان من فعل لك معروفا له حق أن يشكر ، و أن تذكر معروفه وتكسبه المقالة الحسنة فهل الخالق واهب النعم للإنسان لا يستحق منا الشكر و التقدير والاعتراف بفضله وجوده وكرمه ؟!!


وعبادتنا لله من شكرنا له ،ونحن لو عبدنا الله طيلة حياتنا ما وفيناه حق نعمة واحدة وهبنا إياها فكيف بكل هذه النعم الكثيرة التي لا تعد و لا تحصى ؟!! قال تعالى : ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ( النحل : 18 )


وعبادة الله في حد ذاتها نعمة عظيمة و خير كبير إذ العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضاه ، وما يحبه الله عبارة عن أوامر يحب أن تفعل و نواهي يحب أن تجتنب ،ولا يأمر الله إلا بكل معروف ، ولا ينهي إلا عن كل منكر ،وفعل المعروف ،و ترك المنكر فيه الخير و الصلاح لنا ولمجتمعنا والسعادة لنا و لمجتمعنا ،و كأن الله خلقنا لننعم بعبادته و ننعم بشرعه .


وإذا عبدنا الله حق عبادته سعدنا في الدنيا و فزنا بالجنة في الآخرة قال تعالى : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (النحل:97) ،و قال تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون ﴾ ( البقرة : 82 ) ، و قال تعالى : ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله يُدْخِلهُ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم ﴾ ( النساء : 13 ) و قال تعالى : ﴿ إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ( الأحقاف : 13 - 14 ) .

و الالتزام بشرع الله و عبادته سبحانه يؤدي إلى السعادة في الدنيا ،ويترتب على الالتزام بشرع الله و عبادته الفوز و السعادة في الآخرة ،و كأن الله خلقنا لننعم بطاعته في الدنيا و ننعم– إذا أطعناه في الدنيا – بجنته في الآخرة وكأن الله خلقنا كي نعيش في سعادة في الدنيا بالتزام شرعه و كي نعيش في سعادة في الآخرة بالعيش في الجنة إذا التزمنا شرعه في الدنيا .
.

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:32 PM
بيان خطأ اعتراض الملحد على الله قائلا : لماذا يريد الله منا أن نعبده أيحتاج عبادتنا ؟

إن من يعترض على الله قائلا لماذا تريد مني يا الله أن أعبدك أتحتاج عبادتي ؟ كالعبد الذي يعترض على سيده أمره بشيء فقال له : سيدي لماذا تريد مني أن أفعل ما تأمرني به أتحتاج ذلك ؟ و هذا خطأ ،ووجه الخطأ في ذلك أن العبد ليس له أن يسأل هذا السؤال ؛ لأنه عبد لسيده ،وهل يعقل أن يحاكم العبد سيده ؟!! ونحن عبيد لله فكيف لنا أن نحاكمه ؟!! هذه واحدة .

و الأمر الآخر : هذا السؤال نفسه مبني على مغالطة أن كل أمر يأمر به السيد عبده يحتاجه السيد من العبد ،وهذا ليس صحيحا فقد يكون الأمر اختبارا من السيد لعبده ،وقد يكون الأمر تشريفا للعبد بفعل شيء جدير أن يفعله ، وقد يكون الأمر لمحبة السيد أن يرى امتثال عبده له وطاعته له ، وقد يأمر السيد عبده بشيء إذا فعله رفع منزلته عنده و أفاض عليه بعطايا عظيمة ، ولله المثل الأعلى .

و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده ،و في عبادته سبحانه صلاحنا و سعادتنا في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة فنحن الذين نحتاج عبادته ،ونحن من ننتفع بعبادته فأمره لنا بالعبادة من حبه لنا ،ومن فضله وكرمه علينا قال قتادة و غيره من السلف : « إنَّ الله سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلاً منه ، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم » .

و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده باختيارنا تشريفا لنا و تمييزا لنا عن كثير من خلقه سبحانه .

و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده ؛ لأنه يحب أن يرى امتثالنا و طاعتنا له سبحانه ،وإذا طلب منك ملك من ملوك الدنيا فعل شيئا يحب أن تفعله فهل ستتأخر عن ذلك ،وتقول لماذا تطلبه مني ؟!! وإذا طلب منك رئيس من رؤساء الدول فعل شيئا يحب أن تفعله فهل ستتأخر عن ذلك،وتقول لماذا تطلبه مني ؟!! وإذا طلب منك أحد الوزراء فعل شيئا يحب أن تفعله فهل ستتأخر عن ذلك،وتقول لماذا تطلبه مني ؟!!.

و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده باختيارنا لينعم علينا في الآخرة - إذا عبدناه وحده وأطعناه - بالسعادة الأبدية ،وذلك كرم منه و فضل .

وكون الله هو الخالق فهذا يقطع بعدم احتياجه لغيره فكيف ندعي أنه يحتاج عبادتنا ،وهو لايحتاج لغيره ؟!!

و الله – عز وجل - ما كلف المكلفين ليجرّ إلى نفسه منفعةً أو ليَدْفَع عن نفسه مضرَّة ؛ لأنه تعالى غني على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة، لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الودود لذاته في جميع صفاته يكون غنياَ على الإطلاق و أيضاً فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسيّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ممتنع أن ينتفع بصلاة «زَيْدٍ» وصيامِ «عَمْرٍو» وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذلك .

و الأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان إنما تنفع صاحبها، وكذلك الأعمال السيئة لا تضر إلا صاحبها، وأما الله تعالى فغني عن العالمين فالخلق هم المستفيدون من الطاعة والمتضررون من المعصية قال تعالى : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ (فصلت : 46 )

وقال تعالى : ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ ( إبراهيم : 8 ) أي : إن تكفروا بالله أنتم وجميع أهل الأرض فلن تضروا الله شيئًا; فإن الله لغني عن خلقه, مستحق للحمد والثناء, محمود في كل حال .

و قال تعالى : ﴿ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً ﴾ ( النساء : 131 ) أي : إن تجحدوا وحدانية الله تعالى وشرعه فإنه سبحانه غني عنكم; لأن له جميع ما في السموات والأرض. وكان الله غنيّاً عن خلقه, حميدًا في صفاته وأفعاله .

وفي الحديث القدسي قال الله - عز وجل - : « يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر » .

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:34 PM
بيان خطأ اعتراض الملحد على الله قائلا : لماذا لم تستأذن مني يا الله قبل أن تخلقني ؟

إن من يعترض على الله قائلا : لماذا لم تستأذن مني يا الله قبل أن تخلقني ؟ كالعبد الذي يعترض على سيد اشتراه فقال له : لماذا لم تستأذن مني قبل أن تشتريني ؟ و هذا خطأ ، ووجه الخطأ في ذلك أن العبد ليس له أن يسأل هذا السؤال ؛ لأنه عبد مملوك لا اختيار له مع اختيار سيّده ومالكه .

و من يعترض على الله قائلا : لماذا لم تستأذن مني يا الله قبل أن تخلقني ؟ كالابن الذي يعترض على أمه قائلا : لماذا لم تستأذنيني يا أمي قبل أن تلديني ؟ ولا يخفي ما في هذا الاعتراض من السخف والغلط .

ولاشك أن الوجود بعد العدم خير ، ووجود الإنسان في هذا الكون وتمتعه بالحياة خير ،وفعل الخير لا يحتاج استئذان أرأيت أما تستأذن رضيعها لتغذيه ؟ّ! أرأيت أبا يستأذن ابنه كي يربيه ؟! أرأيت شخصا يستأذن شخصا كي ينقذه ؟!!، أرأيت غنيا يستأذن فقيرا كي يعطيه مالا ؟!! ولله المثل الأعلى فقد خلق الإنسان في هذه الحياة الدنيا وجعله كائنا بعد أن لم يكن ،وبدل من أن يشكره الإنسان على خلقه له يتبجح قائلا هل استأذنتني يا الله قبل أن تخلقني ؟! منطق معكوس .

و من يقول إذا كان وجود الإنسان في الدنيا عبارة عن امتحان من الله للإنسان ،و أنا لم أوافق على دخول هذا الامتحان فليس من العدل إقحامي في امتحان لم أوافق عليه يقال له اعتراضك لا يصح فأنت عبد لله ،و السيد يتصرف في مملوكه بما شاء .

و هذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة فمن عمل صالحا في الحياة الدنيا كان الجزاء جنة عرضها السموات والأرض فهذا الامتحان من أجل جائزة كبرى لمن نجح في الاختبار ألا وهي دخول الجنة ،ومن رشح للفوز بجائزة كبيرة مقابل اجتياز اختبار لاشك أنه سيقبل الاختبار ،والناس تتسارع في المسابقات من أجل الفوز فكيف بالجنة ألا تستحق أن نتسارع من أجلها ؟ وهذه الدنيا امتحان يبين من يستحق دخول الجنة و من لا يستحق .




الرد على سؤال الملاحدة : لماذا لم يخلق الله كل البشر صالحين ؟

يتسائل الملاحدة في دهشة إذ كان الله يحبنا ،ويحب أن نعبده فلما لم يخلقنا كلنا طائعين صالحين ؟! والجواب أن الله هو مالك البشر ،والمالك يتصرف في ملكه بما شاء وكيف شاء قال تعالى : ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ ( الأنبياء : 23 ) ،وقال تعالى : ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ ( الأعراف : 54 ).


والإنسان حر في اختيار طريق الخير و طريق الشر ،و حر في اختيار طريق النور و طريق الظلام ،و حر في اختيار طريق الإيمان وطريق الكفر قال تعالى : ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ ( الإنسان : 3 ) ،وقال تعالى : ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ ( الكهف : 29 ) ،و قال تعالى : ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ (يونس : 99) ،و مادام الإنسان حرا فاختياره قد يكون حجة له أو حجة عليه .
.
وقد اقتضت حكمة الله أن يكون الإنسان حر الإرادة غير مجبر على الإيمان أو الكفر ،و الله حكيم في أفعاله فكل فعل يفعله له حكمة عرفناها أو لم نعرفها قال تعالى : ﴿ و اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( النساء : الآية 26 )و قال تعالى : ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ ( الأنعام : 18) و قال تعالى : ﴿ و َإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (العمران : 62 ) .

وحرية اختيار الإنسان ميزة قد ميزه الله بها عن كثير من المخلوقات فليس الإنسان كالحيوان أو الجماد بل الإنسان يطيع الله باختياره ،ومن يعترض على عدم جعل الناس جميعا طائعين مؤمنين هو في الحقيقة يعترض على جعل الإنسان مخيرا لا مسيرا هو في الحقيقة يعترض على الميزة التي تميز بها الإنسان عن الحيوان و عن الجماد .

و لو جعل الله جميع الناس طائعين صالحين عابدين له لربما ظُن أنه يحتاج لعبادتهم .

وبوجود الطاعة والمعصية يحدث التدافع بين الخير و الشر ،ويحدث التدافع بين الحق والباطل ،ويحدث التدافع بين الكفر والإيمان ،و تظهر حلاوة الطاعة و مرارة المعصية ،و تظهر حلاوة التوبة ومرارة التمرد والعصيان ،ولولا قبح المعصية ما عرف حسن الطاعة ،ولولا وجود العصاة ما عرف نعمة الهداية ،ولولا اقتراف المعاصي ما عرف نعمة التوبة ،و الضـد يظهـر حسـنه الضـد وبضدهـا تتمـيز الأشـياء .

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:35 PM
الرد على سؤال الملاحدة : إذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئا فهل خلقنا ليعبث بنا ؟

يتسائل الملاحدة في دهشة إذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئا فهل خلقنا ليعبث بنا ؟ ، وهذا السؤال مبني على مغالطة مبناها أننا مادمنا لا ندرك الحكمة من أمر الله لنا بالعبادة فلا حكمة و الأمر عبث ، و هذا الكلام غير صحيح إذ كثير من الأمور لا ندرك حكمتها ،وكوننا لا ندرك حكمتها ليس معناه ألا يوجد حكمة إذ علمنا قاصر ،وليس معنى عدم العلم العدم .
والواحد منا قد لا يدرك الحكمة من فعل شخص شيئا من الأشياء ،وهو مثله في البشرية و مع ذلك لا يستطيع أن يقول ألا حكمة في فعله فكيف لو كان عبقريا من العباقرة أو عالما من العلماء ؟!! ،وكيف لو كان الفاعل هو خالق العباقرة و العلماء وجميع البشر ؟!

والواحد منا يتعفف من أن يفعل شيئا عبثا ،ويستنكر على من يفعل شيئا بلا هدف فكيف ننسب ذلك للخالق ؟!!

وسؤال الملاحدة : إذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئا فهل خلقنا ليعبث بنا ؟ مبني على مغالطة مبناها أن الفعل الذي لا يستفيد الشخص من فعلِه فعلُه عبث ،وهذا غير صحيح إذ قد يفعل الشخص شيئا لا يستفيد منه ،ولا ينتفع به بل ليفيد غيره و لينتفع به غيره فقد يفعل الواحد منا شيئا من قبيل الكرم و الجود والفضل أو من قبيل حب الخير للناس وحب الخير للغير .

و الله قد أنعم علينا بالوجود و الحياة فضلا منه وجودا ،وهل يصح جعل فعل الكريم الجواد من قبيل العبث وعدم الغائية ؟!! و من حب الله لنا أن خلقنا و أمرنا بعبادته وهل يصح جعل الفعل الدال على المحبة من قبيل العبث وعدم الغائية ؟!!!.




الرد على سؤال الملاحدة : لماذا لم تدخلنا يا الله الجنة دون المرور بالدنيا ؟

يقول الملاحدة أنتم أيها المؤمنون تزعمون أن الله خلقنا لننعم في الآخرة بالجنة فلماذا لم يدخلنا الجنة دون المرور بالدنيا ؟ والجواب أن الله هو مالك البشر ،والمالك يتصرف في ملكه بما شاء وكيف شاء قال تعالى : ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ ( الأنبياء : 23 ) ،وقال تعالى : ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ ( الأعراف : 54 ).

و الله حكيم في أفعاله فكل فعل يفعله له حكمة عرفناها أو لم نعرفها قال تعالى : ﴿ و اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ( النساء : الآية 26 )و قال تعالى : ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ ( الأنعام : 18) و قال تعالى : ﴿ و َإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (العمران : 62 ) .

وقد جعل الله الدنيا دار اختبار للبشر تبين من يستحق دخول الجنة منهم ممن لا يستحق ،وتبين المؤمن من الكافر ،وتبين الصالح من الطالح مما هو معلوم لله قبل ظهوره في الحاضر و الواقع فيكون علم شهادة بعد أن كان علم غيب قال تعالى : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ (الكهف : 7 ) وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ ( الملك: 2) وقال تعالى: ﴿ مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ( آل عمران: 179) ، و قال تعالى : ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ ( محمد: 4) ، وقال تعالى : ﴿ أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ ( آل عمران: 142).
.
وليس من العدل التسوية بين الصالح والطالح ، وليس من العدل التسوية بين المؤمن به و الكافر به قَالَ تَعَالَى : ﴿ أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين مَا لكم كَيفَ تحكمون ﴾ (القلم : 35 – 36 ) ، و قَالَ تَعَالَى : ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ ﴾ ( السجدة : 18 )

وإذا كان الواحد منا لا يرضى أن تساوي المدرسة أو الكلية بين الطالب الذي يذاكر و الذي لا يذاكر ،و لا يرضى أن تساوي المدرسة أو الكلية بين الطالب الناجح النبيه والطالب الفاشل الكسول فكيف بالخالق العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة أنعتقد أنه يساوي بين المؤمن والكافر أو يساوي بين الطائع والعاصي يوم القيامة ؟!!

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:37 PM
لتحميل المقال الإجابة على أسئلة الملاحدة حول الغاية من الخلق من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=2140749#post2140749) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/82630/)

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:39 PM
الملحد و دعوى أن قوانين الكون قد أنشأت الكون
د.ربيع أحمد














الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله نقض دعوى الكثير من الملاحدة أن قوانين الكون قد أنشأت الكون ،ونقض دعوى بعض الملاحدة أن بسبب وجود قانون كقانون الجاذبية فإن الكون يمكنه وسيمكنه خلق نفسه من العدم ، ونقض قول بعضهم نشأة الكون لم تكن سوى عواقب حتمية لقوانين الفيزياء ،و لم يكن الكون بحاجة إلى إله يشعل فتيل ما لخلقه وعلى ما يزعمون الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكون .

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:41 PM
ما هي القوانين الفيزيائية ؟

قبل بيان بطلان دعوى أن قوانين الكون قد أنشأت الكون لابد أن نعرف ما هي القوانين الفيزيائية فالحكم على الشيء فرع عن تصوره ، والقوانين الفيزيائية عبارة عن وصف لظاهرة فيزيائية معينة أو سلوك معين للمادة يتكرر تحت نفس الظروف في صورة معادلات وثوابت يتم استنباطها من خلال دراسة تلك الظواهر أو السلوكيات للمادة ،وتكون هذه القوانين عادة عبارة عن استنتاجات تستند إلى تجارب علمية تمت على مر فترة زمنية طويلة فأصبحت مقبولة بشكل عام ضمن المجتمع العلمي.


وجود قانون يدل على وجود مقنن له

من البديهيات أن وجود قانون ما يدل على وجود مقنن واضع لهذا القانون سن هذا القانون ،وواضع القانون ( الفاعل ) لابد أن يسبق القانون ( المفعول ) ،والكون الذي نعيش فيه محكوم بقوانين فلابد أن يكون لها من قننها و سنها فمن الذي فرض هذه القوانين على الكون وسنها ؟




من الذي فرض قوانين الكون على الكون ؟


بما أن أي قانون لابد له من مقنن سنه فمن الذي فرض قوانين الكون على الكون ؟

والجواب الذي سن هذه القوانين التي تحكم الكون إما أن يكون الكون نفسه أو القوانين نفسها أو شيء آخر خارج عن الكون .

و إن قالوا الكون نفسه فمقتضى قولهم أن الكون يحرك نفسه بنفسه ،و لا يمكن أن يكون الشيء بعينه محركاً لنفسه، وإلا لزم وجوده قبل نفسه، و هذا محال .

و إن قالوا من سن القوانين القوانين نفسها فهذا تصوير للقوانين على أنها محرك و هذا فاسد ؛ لأن القوانين مجرد وصف سلوك لظاهرة في الكون يتكرر تحت نفس الظروف .

و إما أن يكون من سن القوانين شيء خارج عن الكون فهذا إثبات لشيء خارج عن الكون ونحن نقول أنه الله .



العلم يعرفنا كيف تعمل الأشياء ، و ليس لماذا تعمل ومن الذي عملها ؟

مما ينبغي معرفته أن العلم يعرفنا كيف تعمل الأشياء ، و ليس لماذا تعمل الأشياء ومن الذي عملها ؟ أي يعرفنا آلية عمل الأشياء ،وطريقة عملها ،ولا يفسر العلم لنا لماذا تعمل الأشياء ؟ ، ومن الذي جعلها تعمل بهذه الطريقة ؟ فلا يبحث العلم عن الفاعل بل يبحث عن الفعل ،ولا يبحث عن الحادث بل يبحث عن الحدث ،ولا يبحث عن موجِد القوانين بل يبحث عن القوانين نفسها .


إدراك كيفية عمل الشيء لا ينفي وجود مسبب للشيء

مما ينبغي معرفته أن إدراك كيفية عمل الشيء لا ينفي وجود مسبب للشيء فليس معنى أني عرفت كيف تطير الطائرة أن الطائرة ليس لها مخترع ومصمم فأنا اعلم أن للطائرة مخترع ومصمم ، و قد اخترع الطائرة الأخوان رايت - أورفيل وويلبر - ،و آلية عمل الطائرة لا تنفي وجود مخترع للطائرة ولا تنفي وجود مصمم للطائرة .

وليس معنى أني عرفت كيف تعمل السيارة المعتمدة على البنزين أن السيارة المعتمدة على البنزين ليس لها مخترع ومصمم فأنا اعلم أن للسيارة المعتمدة على البنزين مخترع ومصمم ، ومخترع السيارة المعتمدة على البنزين هو كارل فريدريش بنز ،وآلية عمل السيارة المعتمدة على البنزين لا تنفي وجود مخترع للسيارة المعتمدة على البنزين ولا تنفي وجود مصمم لها.

وليس معنى أني عرفت كيف يعمل المصباح الكهربائي أن المصباح الكهربائي ليس له مخترع ومصمم فأنا اعلم أن للمصباح الكهربائي مخترع ومصمم ومخترع المصباح الكهربائي هو توماس ألفا إديسون ،و آلية عمل المصباح الكهربائي لا تنفي وجود مخترع للمصباح ومصمم له .


و من هنا نستنتج أيضا أنه ليس معنى أن العلماء قد عرفوا كيف نشأ الكون ،وأسباب نشأة الكون وعرفوا الآليات التي يعمل بها الكون أن الكون ليس له موجِد ،وليس له مصمم ،وليس له مسبب سبب أسباب نشأته،والقول بأن معرفة العلماء كيف نشأ الكون ،والآليات التي يعمل بها الكون يغني عن البحث عن موجد للكون و يغني عن البحث عن سبب وجود الكون قول غير صحيح إذ فيه خلط بين آلية نشأة الكون و موجِد الكون ومسبب الكون .

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حَبَنَّكَة الميداني : ( قد يعض الكلب الحجر الذي رآه يتجه نحوه ليصيبه، أما الإنسان المفكر فإنه يبحث عن الذي رمى الحجر نحوه بقصد، فإذا عرفه واستبان أنه قد قصد قتله أو إيذاءه حاول أن ينتقم منه دفاعاً عن نفسه، ولم يفكر بالانتقام من الحجر مطلقاً.

وهنا نقول: إن الماديين الذين يقفون عند الأسباب المادية للظواهر الكونية التي يتجلى فيها القصد، ولا يبحثون عن السبب الحقيقي، مع أن هذه الأسباب تحتاج هي أنفسها إلى أسباب تفسر ظاهراتها وتعلل حدوثها، إنما يفكرون بمثل دماغ الحيوان الذي يعض الحجر الذي قُذف عليه ) .

إيجاد تفسير لظاهرة من الظواهر ليس معناه استبعاد سبب الظاهرة

مما ينبغي معرفته أن إيجاد تفسير لظاهرة من الظواهر ليس معناه استبعاد سبب الظاهرة ، و الإقرار بوجود ظاهرة لا يلغي وجود سبب لها كما أن الإقرار بالفعل لا يلغي وجود فاعل ، و على سبيل المثال لو وقعت جريمة من الجرائم فتفسير كيفية وقوعها لا يغني عن وجوب البحث عن فاعل لهذه الجريمة .

و العلماء يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها، هم يكشفون لنا كيف تعمل القوانين في الأشياء ، ونحن نريد إجابة عن موجد الكون و موجد القوانين التي تحكمه .

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:43 PM
لا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج شيئا للوجود

لا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج شيئا للوجود ،ولا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج حدثا من الأحداث بل غاية قوانين الطبيعة وصف العلاقة بين أحداث معينة بعدما أوجدتها الأسباب ،ومن يعتقد أن القوانين تستطيع أن تسبب شيئا من الأشياء كمن يعتقد أن القوانين الحسابية يمكن أن توجد مالا ،و كمن يعتقد أن القوانين التي تعمل بها السيارة يمكن أن تخلق السيارة أو تسير السيارة دون الحاجة لمن يقودها و هذا قول في غاية السخف والسقوط .

بطلان دعوى أن توافر الظروف لنشأة الكون أدى لنشأة الكون دون الحاجة لمسبب

القول بأن توافر الظروف لنشأة الكون أدى لنشأة الكون دون الحاجة لمسبب ،والقول بأن توافر الظروف لنشأة الكون كاف لنشأة الكون فلم يكن الكون بحاجة إلى إله يشعل فتيل ما لخلقه قول في غاية السخف والسقوط ،وهو كمن يقول توافر الظروف لحدوث الجريمة أدي لحدوث الجريمة ،وعليه فليس للجريمة مرتكب .

لا تعارض بين وجود تفسير لنشأة الكون وبين وجود منشئ للكون

لا تعارض بين وجود تفسير لنشأة الكون وبين وجود منشئ للكون كما لا تعارض بين مخترع الشيء و آلية عمل الشيء ، ووجود حدث لا ينفي وجود محدِث له بل يؤكد على وجوده .

و لا تعارض بين وجود قوانين تتحكم في عمل الكون و بين وجود خالق للكون فالله يدير الكون من خلال قوانين قد سنها للكون ،ولا يدير الكون بالمعجزات ،وهذا لا يمنع من التدخل الإلهي المباشر في بعض الأحيان فالله خالق القوانين ، و إذا شاء أن تعطل عطلها .

و الاعتقاد بوجود الله و أنه مسبب الأسباب و أنه خالق القوانين الفيزيائية لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية أو التمرّد على شيء من حقائق العلم الصحيح ، وإنّما هو اعتقاد بأن الله هو المسبب لهذه الأسباب الطبيعية ، ومسبب لهذه القوانين الفيزيائية ،و حتى لو سلمنا جدلا أن العلم وصل إلى معرفة كل الأسباب الطبيعية و كل القوانين التي تدير الكون فهذا لا ينفي وجود الخالق بل هذه الأسباب الطبيعية و هذه القوانين دالة على موجد لها فكل سبب له مسبب ، وكل قانون له مقنن و الله عز و جل مسبب هذه الأسباب الطبيعية ،وخالق هذه القوانين .

قانون الجاذبية ولد بعد نشأة الكون فكيف يكون سببا لنشأة الكون ؟

مما ينبغي معرفته أن قانون الجاذبية ولد بعد نشأة الكون فبعد وقوع الانفجار العظيم وانخفاض درجة حرارة الكون بشكل متوالي ولدت الجاذبية التي حالت دون تبعثر نواتج الانفجار العظيم وعليه كيف تكون الجاذبية سببا لنشأة الكون ، وهي قد ولدت بعد وجود الكون ؟!!

هل الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكون ؟

انتشر بين الملاحدة مقولة الفيزياء الحديثة تنفي وجود خالق للكون ،وهذا و إن دل فإنما يدل على قلة علم هؤلاء الملاحدة وضحالة مستواهم الثقافي إذ وجود الله من القضايا الإيمانية الغيبية ، و القضايا الإيمانية الغيبية لا تدرك بالتجارب و لا المختبرات و العلم المادي لا يتدخل في القضايا الإيمانية الغيبية , و العلم الحديث كله لا يملك دليلاً صحيحاً واحداً يستطيع أن يثبت عدم وجود خالق للكون بل الكون شاهد على وجوده سبحانه .


هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات


مراجع المقال
1- خرافة الإلحاد د.عمرو شريف
2- كيف بدأ الخلق د.عمرو شريف
3- العقيدة في الله د. عمر سليمان الأشقر
4- الشرك في القديم والحديث الشيخ أبو بكر محمد زكريا
5- كواشف زيوف الشيخ عبد الرحمن الميداني

د.ربيع أحمد
02-17-2015, 08:47 PM
لتحميل مقال : الملحد و دعوى أن قوانين الكون قد أنشأت الكون من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=2140754#post2140754) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/82611/)

يتبع بإذن الله

د.ربيع أحمد
02-23-2015, 11:24 PM
الملحد و خطأ حصر الأدلة العلمية في الأدلة التجريبية

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله النقض لأحد المغالطات الشديدة لهم ألا وهي حصر الأدلة العلمية في الدليل التجريبي فقط ،ودعواهم أن ما لا يدرك بالحواس لا وجود له ودعواهم أن ما لا يخضع للبحث التجريبي لا يسمّى علميًّا .

د.ربيع أحمد
02-23-2015, 11:25 PM
ما هو الدليل العلمي ؟

قبل بيان مغالطة الملاحدة في حصر الأدلة العلمية في الدليل التجريبي لابد أن نعرف ما هو الدليل العلمي ،والدليل العلمي مكون من كلمتين : كلمة دليل و كلمة علمي .

و الدليل هو المرشد إلى المطلوب أو ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة مطلوب خبري ( حكم من الأحكام ) ، أو أنه ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ،و الأمر الذي يكون قبل إقامة الدليل عليه يسمى دعوى، ووقت إقامة الدليل يسمى مطلوباً ، وبعد إقامة الدليل يسمى نتيجة .

والعلمي نسبة إلى العلم ،و العلم هو معرفة الشيء على حقيقته أو معرفة الشيء على ما هو به في الواقع أما معرفة الشيء على غير حقيقته كمعرفته باعتقاد أمر غير واقع فيه فيعد من الغلط والجهل به، فلا يسمى ذلك علماً.






هدف الدليل العلمي و أقسامه

الغرض من الدليل العلمي هو التوصل إلي معرفة شيء من الأشياء على ما هو به في الواقع ،وقد أصل إلى معرفة شيء من الأشياء عن طريق الحس كالعلم بأن النار محرقة ،والعلم بأن الثلج بارد ،و العلم بأن الشخص له رجلان ويدان ورأس ،وقد أصل إلى معرفة شيء من الأشياء عن طريق التجربة كالعلم بأن النعناع يفيد تقلصات البطن ،والليمون يفيد الزكام ، وقد أصل إلى معرفة شيء من الأشياء عن طريق العقل كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين ، والعلم بأن الكل أكبر من الجزء ،والعلم بأن النقيضين لا يجتمعان ،والعلم بأن لكل حادث محدِث ،ومن هنا ندرك أن الدليل العلمي أقسام فمنه الدليل الحسي المادي ومنه الدليل التجريبي و منه الدليل العقلي .









الدليل العلمي ليس منحصرا في الدليل التجريبي

الدليل العلمي ليس نوعا واحدا ،و ليس منحصرا في الدليل التجريبي ؛ لأن العلوم أصناف شتى ،و كل علم من العلوم له الأدلة التي تناسبه ،ودليل العلوم الطبيعية التحليلية ليس كدليل العلوم الإنسانية .

و من العلوم ما يناسبه الدليل الحسي المادي و الدليل التجريبي كعلم الفيزياء و الكيمياء والأحياء ،وهذه العلوم الثلاثة علوم طبيعية تحليلية تجريبية تقوم على ملاحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية ووضع الفروض لها واختبار هذه الفروض بالتجربة أو ما يقوم مقامها ثم استنتاج الفرض الصحيح للظاهرة .

ومن العلوم ما يناسبه اللجؤ إلى أفضل التفسيرات كعلوم البدايات مثل بداية الكون و بداية الحياة و اللجؤ إلى أفضل التفسيرات يعتبر قاعدة علمية في التفضيل بين الأدلة أكثر من كونها دليل قائم بحد ذاته فإذا كان يمكن تفسير ظاهرة ما بشكل بسيط، وبشكل معقد، فإن التفسير البسيط هو الأفضل .

و من العلوم ما يناسبه الدليل العقلي كعلم الفلسفة أحد العلوم الإنسانية حيث الاعتماد فيه على معلومات عقلية لا تحتاج إلى إحساس وتجربة .

و من العلوم ما يناسبه الوثائق و الآثار كعلم التاريخ أحد العلوم الإنسانية ، وهذا العلم مبني على الوثائق ولا مجال للتجربة فيه حيث نحتاج لإثبات الحادث التاريخي إلى أخبار و آثار تبرهن على وجود هذا الحدث التاريخي في الماضي ،و الوثائق و الآثار التي يعتمد عليها علماء التاريخ قد تكون مكتوبة كالرسائل و السجلات ،و قد تكون غير مكتوبة كالألبسة و النقود و الأوسمة والمباني .

و هناك علوم كثيرة لا مجال للتجربة فيها أو تندر التجربة فيها فأين التجربة في علم اللغة و الأدب ؟ و أين التجربة في علم التاريخ ؟ و أين التجربة في علم المنطق ؟ و أين التجربة في علم الفلسفة ؟ و أين التجربة في علم الاجتماع ؟ و أين التجربة في علم القانون ؟ و أين التجربة في علم الاقتصاد ؟

و من هنا ندرك أن ليس كل الأدلة العلمية أدلة حسية أو أدلة تجريبية ،وأن هناك علوم لا مجال للدليل الحسي أو التجريبي فيها .

د.ربيع أحمد
02-23-2015, 11:27 PM
الحواس قد تخطيء

بالغ الملاحدة في الاعتماد على الحس في الحكم على الأشياء أشد المبالغة رغم أن الاعتماد على الحس وحده في الحكم على الأشياء قد يؤدي للوقوع في الخطأ فالحس قد يخطئ ،و العقل يصحح خطأ الحواس .

ومن الأمثلة على خطأ الحواس ظاهرة السراب ،وهو نوع من الوهم البصري فهو خدعة بصرية تحدث نتيجة ظروف البيئة المحيطة من اشتداد درجة الحرارة، والأرض المستوية، واختلاف في معامل الانكسار، مما يجعلها في حالة توهج شديد حيث تبدو كالماء الذي يلتصق بالأرض ليعكس صورا وهمية للأجسام وكأنها منعكسة عن سطح مرآة كبيرة .

ومن الأمثلة على خطأ الحواس أيضا ظاهرة انكسار الضوء ،و هي عبارة عن انحراف الضوء عن مساره عند انتقاله إلى وسط شفاف آخر فبدل أن يستمر في الحركة على نفس الخط المستقيم الذي كان يستمر فيه ينحرف عن مساره بنقطه انتقاله بين الوسطين فإذا وضعنا قلماً في كأس ماء بدا القلم للناظر مكسوراً ،و هو ليس كذلك .

ومن الأمثلة على خطأ الحواس أيضا الخداع البصري ،و هو أن يرى الناظر الصورة التي أمامه على غير حقيقتها التي هي عليها في الحقيقة نتيجة أن المعلومات التي تجمعها العين المجردة وبعد معالجتها بواسطة الدماغ تعطي نتيجة لا تطابق المصدر أو العنصر المرئي فالخدع البصرية إذا هي صور و مشاهد مصنوعة مسبقا بطريقة مدروسة لتظهر للناظر بطريقة معيّنة و هي ليست كذلك .

و من هنا ندرك أن الحواس يمكن تضليلها بسهولة ،والدليل الحسي و الدليل التجريبي يعتمد على الحواس في رصد النتائج فهو عرضة للتضليل ،ومما سبق يتبين خطأ الاعتماد على الحواس كمصدر وحيد للمعرفة ،وأن المعرفة لا يمكن أن تبنى فقط على الحواس فالحواس قد توهمنا وتخدعنا .












بطلان دعوى ما لا يدرك بالحواس لا وجود له

كثير ما نقرأ أو نسمع للملاحدة أن ما لا يدرك بالحواس لا وجود له ، و هذا زعم باطل يغني فساده عن إفساده فهذه الروح التي بنزعها نموت غير محسوسة بالحواس فلا نستطيع أن نسمعها أو نراها أو نشمها أو نلمسها أو نتذوقها مع أن الروح موجودة ،ويدرك وجودها بأثرها .

و العقل و الإدراك غير محسوس بالحواس فلا نستطيع أن نسمعه أو نراه أو نشمه أو نلمسه أو نتذوقه مع أن العقل موجود ويدرك وجوده بأثره.

و العدل و الظلم و الحكمة و الحب و الكره و السعادة و الفرح و الرضا و الغضب و غير ذلك من الصفات المعنوية غير محسوسة بالحواس مع أنها موجودة و من أنكرها عد من المجانين .

و الجاذبية موجودة لكنها لا تدرك بالحواس فلا نستطيع أن نسمعها أو نراها أو نشمها أو نلمسها أو نتذوقها لكن الجاذبية تدرك بغير الحواس إذ يدرك وجودها بأثرها .

والكهرباء موجودة لكنها لا تدرك بالحواس فلا نستطيع أن نسمعها أو نراها أو نشمها أو نلمسها أو نتذوقها بل تدرك بغير الحواس إذ يدرك وجودها بأثرها .

والكون مليء بالموجودات التي لا تقع تحت نطاق الحس و لا تعرف عن طريق الرؤية و إنما نستدل عليها عن طريق العقل و ظهور الآثار .

و الملاحدة يؤمنون بوجود الحس ويجعلونه أصل نظريتهم و أساسها مع أن الحس نفسه غير محسوس فإن قالوا هو محسوس ، فبأي الحواس أثبتوا وجوده بالبصر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس ؟! ، و إذا كان الحس موجوداً فقد اعترفوا بموجود غير محسوس ، وإن كان الحس غير موجود فهذا أساس نظريتهم المادية ،وقد انهار .

و على منهج هؤلاء الملاحدة الماديين لن يستطع أحد الحكم باستحالة شيء أو بضرورة شيء آخر ؛ لأن الاستحالة بمعنى عدم إمكان وجود الشيء ،و عدم إمكان وجود الشيء ليس مما يدخل في نطاق التجربة ، و لا يمكن للحواس أن تكشف عنه و مع سقوط مفهوم الاستحالة يكون التناقض ممكناً .

و إن أقروا بجواز استحالة شيء و استنجوا منه استحالة وجوده في الخارج فالانتقال من الحكم باستحالة تصور شيء أو إحساسه إلى الحكم باستحالة وجوده في الخارج هو استنباط شيء من شيء ، و هذا الاستنباط خارج على مذهب الماديين أنفسهم .


و تعميم الحكم من الجزئي أو الفرد الذي أجرينا عليه التجربة على كافة أفراد النوع ( على أمثاله ) حكم عقلي لا تجريبي أي التعميم نفسه تجاوز لمصدر الحس و ليس مما يقع في خبرة الحواس بل هو استنباط ،و الاستنباط خارج على مذهب الماديين أنفسهم .

والتجربة لوحدها تحتاج إلى القوانين والقواعد العقلية الأولية في أكثر معارفها و لا قيمة للحواس في عملية المعرفة بدون العقل الذي يوجهها ويضبطها ويجمعها ويرتب صورها ويعطي أحكاما على مجالاتها .

و التجربة نفسها لا تثبت مبدأ العلية ؛ لأن العلية لا تثبت عن طريق التجربة و مع انهيار مبدأ العلية تنهار قاعدة إثبات العلوم و إن أقروا بوجود مبدأ العلية فقد أقروا بمبدأ عقلي و المبادئ العقلية خارجة على مذهب الماديين أنفسهم .

و نخلص من هذا إلى خطأ القول بأن ما لا يدرك بالحواس لا وجود له بل ما لا يدرك بالحواس قد يدرك بغيرها .









خطأ مطالبة الملاحدة رؤية الله للإيمان به

رغم أن الأدلة على وجود الله كثيرة من شرع و عقل وفطرة و حس إلا أن الملاحدة يرددون دائما أنهم يريدون أن يروا الله جهرة كي يؤمنوا به ، وهذا الذي طلبه الملاحدة ما هو إلا تعنت منهم واستكبار عن قبول الحق إذ الأدلة الدالة على وجود الله يؤمن على مثلها البشر ،وهي أكثر مما اقترحوه و كافية في إثبات وجود الله لكن القلب إذا استحكم فيه الكفر والهوى لا يجرى على لسان صاحبه إلا ما ينبئ بالتباعد عن الإيمان من معاذير لا تجدي ، و تعللات لا تفيد .
.
و قد قضى الله سبحانه وتعالى أنه لن يراه أحد في الدنيا إذ جعل الدنيا دار امتحان و ابتلاء ليؤمن بعض الخلق بالغيب ويكفر البعض الآخر ، ولو رأى الناس الله في الدنيا لانتفت الحكمة التي من أجلها أوجد الناس في هذه الحياة الدنيا إذ عدم رؤية الله في الدنيا هي مادة الاختبار في هذه الحياة الدنيا فكيف نريد أن نرى الله في الدنيا و نكون في وضع الاختبار ؟!!


وقال المعلمي – رحمه الله - : ( والحكمة التي اقتضت الخلقَ والتكليفَ اقتضت أن لا تكون حجج الحق في أقصى غاية الوضوح؛ لأنه يفوت بذلك الابتلاء والاختبار، وبفواته يفوت مقصود الخلق والتكليف ) .


و عدم رؤية الشئ لا يعني عدم وجوده ،و في الكون أشياء كثيرة لا ترى كالروح و الحياة و العقل ،ورغم ذلك يؤمن الناس بوجودها لأثرها فلما لا نؤمن بوجود الله ،وهو لا يُرى في الدنيا ،و الآثار على وجوده أكثر من الآثار على وجود الروح و الحياة و العقل ؟!!! .

وهذه النباتات والحيوانات والبحار و المحيطات و الأنهار والجبال ، وكل ما نشاهده في هذا الكون وجدت بعد أن لم تكن فمن الذي أوجدها ؟

وهذه المجرات و النجوم و الكواكب و الأقمار وجدت بعد أن لم تكن فمن الذي أوجدها ؟

وهذا الكون بما فيه من تناسق و نظام بديع من الذي نظمه ؟

و كل ما في الكون يسير بقوانين و نظم لا يمكن أن يحيد عنها فهي مفروضة عليه فرضا فمن الذي قنن هذه القوانين ،وفرضها على كل ما في الكون ؟


و قد هدت آثار الله في الكون الكثير من العلماء إلى الإقرار بوجوده سبحانه فقد قال العالم الفلكي هرشل : ( كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته و لا نهاية ، فالجيولوجيون ، و الرياضيون ، و الفلكيون، و الطبيعيون قد تعاونوا و تضامنوا على تشييد صرح العلم وهو صرح عظمة الله وحده ) .

و قال الدكتور سيسل هامان عالم البيولوجي : ( أينما اتجهت ببصري في دنيا العلوم، رأيت الأدلة على التصميم والإبداع، على القانون والنظام، على وجود الخالق الأعلى ) .

و قال العالم جون كليفلاند كونران عالم الكمياء و الرياضة: (...إذا كان هذا العالم المادي عاجزاً عن أن يخلو نفسه، أو يحدد القوانين التي يخضع لها؛ فلا بد أن الخلق قد تم بقدرة كائن غير مادي، وتدل الشواهد جميعاً على أن هذا الخالق لا بد أن يكون متصفاً بالعقل والحكمة ) .

و قال العالم ماريت ستانلي كونجدن أخصائي الفيزياء وعلم النفس وفلسفة العلوم : ( إن جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه ويدل على قدرته وعظمته، وعندما نقوم نحن العلماء: بتحليل ظواهر الكون ودراستها حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية؛ فإننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمه، ذلك هو الله الذي لا نستطيع الوصول إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كل ذرة من ذرات هذا الوجود، وليست العلوم إلا دراسة خلق الله وآثار قدرته ) .

د.ربيع أحمد
02-23-2015, 11:30 PM
الملاحدة يؤمنون ببعض الغيب ولا يؤمنون ببعض


وفي الختام أنقل للقارئ كلاما نفيسا للشيخ الميداني يبين فيه تناقض وانتقائية الملاحدة الماديين التجريبين حيث يؤمنون ببعض الغيب ولا يؤمنون ببعض .

يقول الشيخ – رحمه الله - : ( التقدم العلمي والصناعي لم يتوصل بعد إلى قياس شيء من عالم الغيب، بل ما زال عاجزاً حتى الآن عن قياس أمور كثيرة داخلة في العالم المادي، الذي هو مجال كل أنواع التقدم العلمي الذي انتهت إليه النهضة العلمية الحديثة.فالمعامل والمختبرات والأجهزة العلمية المتقدمة جداً ما زالت عاجزة عن أن تقيس أشياء كثيرة في هذا العالم المادي الذي نشاهد ظواهره، بشهادة كبار العلماء الماديين أنفسهم، وبدليل تجدد المعارف والمكتشفات يوماً بعد يوم، ومتى زعم العلم الإنساني أنه اكتشف كل شيء فقد سقط في الجهل، وأجهز على نفسه بنفسه منتحراً.

يضاف إلى ذلك أن العلماء الماديين من بعد كل دراساتهم ومشاهداتهم وملاحظاتهم المادية يحاولون تفسير ما شاهدوه من ظواهر بنظريات استنتاجية، يقررون فيها حقائق غير مرئية وغير مشاهدة، وهي بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أدواتهم ما زالت أموراً غيبية، ومع ذلك فإنهم يضطرون إلى إقرارها والتسليم بها، ويجعلونها قوانين ثابتة يقولون عنها: إنها قوانين طبيعية.

ومن أمثلة ذلك قانون الجاذبية، إنه قانون غدا من الحقائق العلمية الطبيعية لدى العلماء الماديين. فما هي حقيقة هذه الطاقة؟ هل باستطاعة العلماء أن يشاهدوها بأدواتهم وأن يعرفوا كنهها؟ وكيف أثبتوها؟
ألم يثبتوها بالاستنتاج العقلي استناداً إلى ما شاهدوه من ظواهرها وآثارها ؟ هذه هي الحقيقة فما بال هؤلاء الملاحدة يسلمون بهذه القوانين الخارجة عن نطاق المشاهدات المادية، وهي بالنسبة إلى حواسهم وإلى الأدوات العلمية المتقدمة أمور غيبية، ثم ينكرون وجود الخالق - جل وعلا - لمجرد كونه خارجاً عن نطاق الإدراك الحسي، ولا يمكن التواصل إلى إدراكه بالأجهزة العلمية المتقدمة ؟ )





هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

مراجع المقال
1- العقائد الإسلامية الشيخ سيد سابق
2- براهين وأدلة إيمانية الشيخ عبد الرحمن الميداني
3- خرافة الإلحاد د.عمرو شريف
4- صراع مع الملاحدة حتى العظم الشيخ عبد الرحمن الميداني
5- قضايا فلسفية في ميزان العقيدة الإسلامية د.سعد الدين صالح
6- توحيد الخالق الشيخ عبد المجيد الزنداني
7- آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبْد الرّحمن بْن يحْيَي المُعَلّمِيّ اليَماني

د.ربيع أحمد
02-23-2015, 11:54 PM
التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/11927/82928/#relatedContent) أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=347179)

د.ربيع أحمد
02-24-2015, 06:44 PM
الملحد ووهم أزلية المادة والكون
د.ربيع أحمد

















الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله النقض لأحد هذه الشبه والمغالطات والدعاوي وهو قولهم بأزلية المادة و أزلية الكون فعندما تسأل أحد الملاحدة عمن أوجد المادة يجيب : المادة أزلية موجودة منذ الأزل فليست بحاجة إلى خلق وخالق ، وعندما تسأل أحدهم عمن خلق الكون يجيب : الكون وجد منذ الأزل ،والكون ليس إلا مادة وطاقة ومادة الكون أزلية والكون أزلي ليس بحاجة لخالق .ويستدل بعضهم بأن المادة لا تفنى و لا تستحدث من عدم ،ويستدل بعضهم بنظرية الحالة المستقرة ،وبعضهم يستدل بفرضية الكون المتذبذب ،وبعضهم يقول أن المفردة التي نشأ منها الكون أزلية ،وكل هذه الأقوال ظنون و أوهام لا تغني من الحق شيئا .

د.ربيع أحمد
02-24-2015, 06:45 PM
ما هي المادة ؟ وما هو الكون ؟ وما صفات الشيء الأزلي ؟

وقبل نقض شبهة أزلية المادة والكون لابد أن نعرف ما هي المادة ؟ وما هو الكون ؟ وما صفات الشيء الأزلي ؟ و كلنا نعلم أن المادة هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيز في الفراغ ،ومن أمثلة المادة : الماء ،والهواء ،والكواكب ،والنجوم ،والنباتات ،والجمادات ،والحيوانات وغير ذلك .

و الكون هو ذلك الفضاء المحيط بنا و كل ما يحويه من مجرات و نجوم وكواكب وغير ذلك .

وكلنا يعلم أن الأزلي ما ليس لوجوده بداية فوجوده ذاتي لا ينفك عنه أي يبقى إلى الأبد ،ولا يعتمد في وجوده ولا استمرار وجوده على غيره فهو مستغن عن غيره و لا يتبدل و لا يتغير .



تحول المادة لطاقة ينافي الأزلية

ومن المعلوم أن المادة يمكن أن تتحول إلى طاقة ،والطاقة يمكن أن تتحول إلى مادة طبقا لقوانين معينة ،وهذا يدل أن الوجود ليس صفة ذاتية ملازمة للمادة أو الطاقة إذ لو كان الوجود صفة ذاتية ملازمة للمادة لما انفك عن المادة وفارقها بأي حال من الأحوال ،و لو كان الوجود صفة ذاتية ملازمة للطاقة لما انفك عن الطاقة وفارقها بأي حال من الأحوال أي أن الوجود صفة عارضة للمادة والطاقة تعترض المادة أو الطاقة في بعض الأحوال ،وتنفك عن المادة أو الطاقة في بعض الأحوال ،وهذا يستلزم أن يكون لوجود المادة بداية أي المادة محدثة ليست أزلية ،وكل محدَث له محدِث.


تحول المادة من صورة لأخرى ينافي الأزلية

ومن المعلوم أن المادة يمكن أن تتحول من صورة لصورة أخرى طبقا لقوانين معينة ،والتحول والتغير يدل أن بقاء المادة في صورة معينة يحتاج شروط معينة خارجة عن ذاتها فإذا زالت تلك الشروط زالت تلك الهيئة والصورة أي المادة تحتاج شروط معينة كي تبقى على صورة معينة وحاجة الشيء إلى غيره تعني أنه غير مستغني بنفسه عن غيره ، وهذا معناه أنه غير قائم بذاته أي يحتاج إلى من يقيمه أي يحتاج إلى غيره ،وهذا ينافي الأزلية .



خضوع المادة لقوانين لا تحيد عنها ينافي الأزلية

ومن المعلوم أن أي مادة من المواد في الكون تخضع لقوانين معينة ،ولا تستطيع المادة الخروج عن هذه القوانين ،ويستحيل عليها تغييرها ،ولو كانت هذه القوانين من المادة نفسها لكان بإمكانها أن تغيرها لكن الواقع أنها لا تستطيع تغييرها , ولا الخروج عنها وإنما هي مفروضة عليه فرضا , فدل ذلك على أن هذه القوانين ليست من المادة و بالتالي فهي مفروضة من غيرها ،ووجود قانون ما يدل على وجود مقنن واضع لهذا القانون سبق القانون ،والمادة تحكمها قوانين ،ومقنن القوانين وواضعها سابق للقوانين مما ينافي القول بأزلية المادة ،وإذا كان للمادة قدر لا تستطيع تجاوزه وتعجز عنده فهي مخلوقة لا محالة .

احتجاج الملاحدة بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم على أزلية المادة

يحتج بعض الملاحدة على أزلية بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم معللين ذلك بعلة عليلة فيقولون إذا كان في وقت من الأوقات لم يكن هناك شيء في الوجود أي لم يكن هناك وجود للمادة، فمن أين لها أن تنشأ؟! ولكن وجود المادة يعني أنها لم تنشأ في أي وقت من الأوقات ،و في الطبيعة لا ينشأ شيء من لا شيء ،والجواب على هذا الاستدلال السقيم أن الخالق لا يعجزه شيء ، وإذا كان المخلوق لا يمكنه أن يصنع شيئا من لا شيء فالخالق قدرته ليس لها حدود، فهو على كل شيء قدير قادر على خلق الأشياء من عدم ،و قادر على خلق الأشياء من جنسها ،و قادر على خلق الأشياء من غير جنسها و قادر على إفناء الأشياء ، قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ( يس : الآية 82 ) ، والعلم لا يدري ماذا كان قبل الانفجار ،ولا يدري من أين جاءت المادة التي نشأ منها الكون ؟ فلا ينبغي علينا أن نتكلم فيما لا نعلمه ،و قال تعالى : ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ ( الإسراء الآية 36 ) ،وكون المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم فهذا كلام تجريبي على المادة التي نتعامل معها و نختبرها أما المادة الأولى لنشأة الكون فلا سبيل للعلم للوصول إليها فضلا عن أن يختبرها .

دعوى الملاحدة أن المفردة التي نشأ منها الكون أزلية

ادعي بعض الملاحدة أن المفردة التي نشأ منها أو المادة التي نشأ منها أو السديم أو المادة الأولى للكون أزلية ،وهذا كلام بلا دليل ،والجواب عليه من وجوه :
الوجه الأول : أن العلم لا يدري ماذا كان قبل الانفجار ،و لا يدري من أين جاءت المادة التي نشأ منها الكون و تطور منها كل شيء ؟
الوجه الثاني : ليس هناك ما يدعو إلى أن المادة و الطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم .
الوجه الثالث : الفضاء والزمان وجدوا مع الانفجار العظيم ، والمادة هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيز في الفراغ أي المادة تحتاج لمكان أو حيز ليحويها ،وبالتالي لا مادة دون وجود المكان الذي سيحويها .
الوجه الرابع : كون الكون تطور من المادة الأولى إلى الحالة التي هو عليها فهذا يدل أن المادة الأولى قد طرأ عليها التغير و التبدل ،وما يجري عليه التغير والتبدل لا يكون أزليا ؛ لأن كل ما يتغير و يتبدل لا بد له من مغيِّر و مبدل أي لابد له من سبب يغيره و يبدله ،وهذا السبب لابد أن يكون سابقا له مما ينافي الأزلية ،و مادامت المادة الأولى احتاجت إلى سبب يغيرها من حال إلى حال و سبب يبدلها من حال إلى حال فالمادة محتاجة إلى غيرها غير مستغنية بنفسها مما يدل أن المادة حادثة ،و لو كان الأصل فيها الوجود الأزلي لم تكن عرضة للتحول والتغير والتبدل .

د.ربيع أحمد
02-24-2015, 06:48 PM
الكون ممكن الوجود ،وهذا ينافي الأزلية

هذا الكون بكل ما فيه من مجرات و نجوم وكواكب وبحار و أنهار و محيطات و نباتات وحيوانات وغير ذلك يقبل الوجود و العدم فإننا نرى أعيان ما في الكون تموت وتحيى ، و توجد و تنعدم ،و كانت غير موجودة ثم وجدت ،ونعلم أن المجرات و النجوم و الكواكب و الحيوانات و النباتات و الجمادات لم تكن موجودة ثم وجدت ،وعليه فلا مانع عقلا من انعدام الكون ،و لا يلزم من فرض وجود الكون محال ،و لا يلزم من فرض عدمه محال ،وهذه صفات ممكن الوجود ،وممكن الوجود الأصل فيه العدم إذ لو كان الأصل فيه الوجود لكان واجب الوجود فلا يكون مع ذلك ممكن الوجود والعدم ، وإذ كان الكون مسبوقا بالعدم فلابد من وجود من رجح وجود الكون على عدمه لبطلان الترجيح بلا مرجح ،و الممكن لا يوجد بنفسه بل بغيره ولا يكون كذلك إلا ما كان محدثاً ،وهذا ينافي الأزلية .


القول بأزلية الكون يستلزم وجود أحداث لا نهائية تمت في الكون وهذا باطل

القول بأزلية الكون يستلزم وجود أحداث لا نهائية تمت في الكون ،و لا يمكن أن يكون هناك عدد لانهائي من الأحداث تم في الكون ؛ لأن أحداث الماضي واقعية ، و ليست مجرد أفكارا ، فإن عدد أحداث الماضي يجب أن يكون نهائياً أي يجب أن يكون له بداية .


الكون بالموجودات التي فيه يعتريه التغير و التبدل،وهذا ينافي القول بأزليته

الكون يحمل دائما صفات حدوثه إذ من المشاهد أن الكون بالموجودات التي فيه من مجرات ونجوم وكواكب و غير ذلك يتغير من حال إلى حال ،ويتبدل من حال إلى حال ، وكل ما يتغير و يتبدل لا بد له من مغيِّر و مبدل أي لابد له من سبب يغيره و يبدله ،وهذا السبب لابد أن يكون سابقا له مما ينافي الأزلية ،و مادام الكون يحتاج إلى سبب يغيره من حال إلى حال و سبب يبدله من حال إلى حال فالكون محتاج إلى غيره غير مستغن بنفسه مما يدل أن الكون حادث ،و لو كان الأصل في الكون و الموجودات التي به الوجود الأزلي لم يكن عرضة للتحول والتغير والتبدل .
و قال الشيخ عبد الرحمن الميداني – رحمه الله - : ( فالأدلة العقلية الفلسفية تثبت لنا حدوث العالم من ظاهرة التغير الملازمة لكل شيء فيه، وذلك لأن التغير نوع من الحدوث للصورة والهيئة والصفات، وهذا الحدوث لا بد له من علة ، وتسلسلاً مع العلل للمتغيرات الأولى، سنصل حتماً إلى نقطة بدء نقرر فيها أن هذا الكون له بداية، في صفاته وأعراضه، وفي ذاته ومادته الأولى، وحينما نصل إلى هذه الحقيقة لا بد أن نقرر أن خالقاً أزلياً لا يمكن أن يتصف بصفات تقتضي حدوثه، وهذا الخالق هو الذي خلق هذا الكون وأمده بالصفات التي هو عليها ) .





الكون من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته في حركة دائرية مما ينافي الأزلية

من المعلوم أن الكون من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته في حركة دائرية ، و على سبيل المثال : الإلكترون يدور حول نواة الذرة ،والأرض تدور حول الشمس ،والقمر يدور حول الأرض ،و المجموعة الشمسية تدور حول مركز المجرة ، و المجرة تدور حول مركز تجمع مجري ،والشيء الدائر لابد أن تكون له نقطة بداية بدأ منها دورته ،وبما أن الكون بأكمله في حركة دائرية فلابد أن تكون له بداية بدأ منها ،وهذا ينافي الأزلية .



استمرار انتقال الحرارة من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الباردة ينافي أزلية الكون

حسب قانون الديناميكا الحراري الثاني فإن الحرارة تنتقل من الجسم الساخن إلى الجسم البارد ،و الطاقة المركزة الموجودة في نظام معزول تنتشر وتتوزع فيه بالتساوي مع مرور الزمن ،و الاختلافات في تركيز الطاقة تختفي بمرور الوقت ، وتتساوى درجة الحرارة بمرور الوقت ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام وينضب فيها معين الطاقة ,وهو ما يعرف بالموت الحراري ،وعندها لن تكون هناك عمليات كيميائية أو فيزيائية ، ولن يكون هناك أي أثر للحياة نفسها في هذا الكون ،ولما كانت الحياة ما زالت قائمة ،و العمليات الكيميائية والفيزيائية مازالت مستمرة فهذا يستلزم أن الكون لا يمكن أن يكون أزلياً ، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود .
ظاهرة الإشعاع الحراري تنافي أزلية الكون

من المعلوم أن الأجسام الساخنة تشع طاقة حرارية ويطلق على الإشعاعات الصادرة عن الأجسام بفعل حرارتها اسم الإشعاع الحراري ، ومن الأجسام التي تشع طاقة حرارية النجوم ،و الكون مليء بالعديد من النجوم ،و هذه النجوم عبارة عن أجرام سماوية شديدة الحرارة ملتهبة مشتعلة تبعث العديد من الإشعاعات ، وموت النجوم يكون بانتهاء وقودها من غاز الهيدروجين الذي يزودها بالطاقة فإذا ما نفدت هذه المادة انكمش النجم و تقلص حجمه إلى أقل مما كان عليه بملايين المرات ثم انهار و فقد نشاطه ، و ما دامت الشمس و الكثير من النجوم مازالت مشتعلة وتبعث الإشعاعات، إذن فلا بد من وجود بداية لها؛ لأنها لو كانت أزلية لنفد وقودها منذ مليارات السنوات.
.

د.ربيع أحمد
02-24-2015, 06:49 PM
نظرية الانفجار العظيم تنافي أزلية الكون

تقول نظرية الانفجار العظيم Big Bang إن الكون نشأ من كتلة واحدة ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها وتناثرت ،وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، حيث خلقت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء خلقت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب، وما زالت تتكون حتى وصل الكون إلى ما نراه عليه اليوم ،ومادام الكون له بداية فكيف يكون أزليا ؟!!.

و من أدلة حدوث الانفجار العظيم : وفرة غاز الهيدروجين و الهيليوم في الكون ،و إشعاع الخلفية الكونية ،و توسع الكون باستمرار .

و نعلم أن أي انفجار لا يكون إلا مخربًا وهادمًا ومشتتًا ومبعثرًا للمواد، ولكن عندما نرى أن انفجارًا بهذا العنف وبهذا الهول يؤدي إلى تشكيل وتأسيس كون منظم غاية النظام، فإن هناك إذن وراءه يد قدرة وعلم وإرادة فوق الطبيعة ،وهي يد الله – سبحانه وتعالى - .

وفرة غاز الهيدروجين و الهيليوم في الكون تنافي أزلية الكون

وجد العلماء أن غاز الهيدروجين يكون أكثر قليلاً من (74%) من مادة الكون، ويليه في النسبة غاز الهليوم الذي يكون حوالي (24%) من تلك المادة ، ومعنى ذلك أن أخف عنصرين يكونان معاً أكثر من (98%) من مادة الكون المنظور، أما بقية العناصر مجتمعة فتكون أقل من (2%) من مادة الكون ، ونسب وجود غازَي الهيدروجين والهليوم في الكون تتطابقان مع حسابات نظرية الانفجار العظيم ، ولو كان الكون أزليًّا لاحترق جميع الهيدروجين وتحول إلى غاز الهليوم.




احتجاج الملاحدة بنظرية الحالة الثابتة أو نظرية الحالة المستقرة على أزلية الكون

يحتج الكثير من الملاحدة بنظرية الحالة الثابتة أو نظرية الحالة المستقرة Steady State theory أو نظرية الكون اللامتناهي أو الخلق المستمر على أن الكون أزلي ،وموجود منذ الأبد لا يتغير ،وهذه النظرية عبارة عن نموذج تم تطويره في عام 1949 من قبل فريد هويلو توماس غولد و هيرمانبوندي وآخرون كبديل عن نظرية الانفجار العظيم ،وحسب نظرية الحالة الثابتة، هناك مادة جديدة تتشكل وتخلق باستمرار مع توسع وتمدد الكون، بحيث يؤمن الحفاظ على المبدأ الكوني المثالي ،وقد تراجع الكثير من العلماء عنها في أواخر الستينات مع اكتشافهم إشعاع الخلفية الكونية cosmic background radiation .

و إشعاع الخلفية الكونية ما هو إلا ضوء خافت يملأ الكون ساقطاً نحو الأرض من كل الاتجاهات بشدة ثابتة تقريباً , و يمكن القول أنه الحرارة المتبقية من الخلق – بقايا التوهج الناتج عن الانفجار الأعظم – التي ظلت تتدفق عبر الفضاء خلال ال 14 مليار سنة الماضية فعندما كان الكون صغيرا جدا وقبل تكون النجوم والمجرات كان شديد الحرارة ، وكان يملأه دخان ساخن جدا موزعا توزيعا متساويا في جميع أنحائه، ومكونات هذا الدخان كانت بلازما الهيدروجين، أي بروتونات وإلكترونات حرة من شدة الحرارة وعظم الطاقة التي تحملها.

وبدأ الكون يتمدد ويتسع فبدأت بالتالي درجة حرارة البلازما تنخفض، إلى الحد الذي تستطيع فيه البروتونات الاتحاد مع الإلكترونات مكونة ذرات الهيدروجين، وأصبح الكون مضيئا وانتهت فترة الظلمة، وكانت الفوتونات الموجودة تنتشر في جميع الأرجاء إلا أن طاقتها بدأت تضعف حيث يملأ نفس عدد الفوتونات الحجم المتزايد بسرعة للكون، وهذه الفوتونات هي التي تشكل اليوم إشعاع الخلفية الكونية ، وانخفضت درجة حرارتها عبر نحو 14 مليار سنة الماضية هي العمر المقدر فلكيا للكون .


و يعتبر إشعاع الخلفية الكونية من الأدلة الهامة على صحة نظرية الانفجار العظيم فقد قال العلماء : لو كان هناك مثل هذا الانفجار لكان من الضروري أن يخلف وراءه إشعاعًا. وفعلاً تم العثور على هذا الإشعاع عام 1989م .


توسع الكون باستمرار ينافي أزليته

لاحظ العلماء أَن هناك مجرات في الكون تتحرك مبتعدة بعضها عن بعض و أن الأجسام السماوية تترك عند تحليل طيفها لوناً أكثر احمراراً في حال كانت تقترب من مركز المراقبة، ولكنه يميل إلى الأزرق عندما تبتعد فالضوء المنبعث من النجوم في مجرات بعيدة ينحرف نحو موجات الضوء الحمراء والطويلة للطيف ،وهذه الظاهرة تدعى الإزاحة الحمراء red shift فسرت على أنها ناتجة عن الحركة السريعة للمجرات في ابتعاد كل منها عن الأخرى. وأصبح بمقدور العلماء أن يحسبوا سرعة حركة المجرة من الانحراف الأحمر .

و قد أعلن أدوين هابل عام 1929م أن المجرات تبتعد عنا بسرعة تتناسب طرديًّا مع بعدها عنا أي أن الكون يتمدد و يتوسع باستمرار ، وما دام الكون في توسع دائم، إذن لو عدنا بحساباتنا إلى الوراء فمن الضروري أن الكون في الماضي كان كله متركزًا في نقطة واحدة أطلق عليها العلماء اسم الذرة البدائية أو الحساء الكوني.

وتوسع الكون ينافي أزليته فإذا كان الكون يتمدد ،وكان أزليا لكان قد تبعثر ، وتناثرت مادة الكون وتشتت الكون .

د.ربيع أحمد
02-24-2015, 06:53 PM
احتجاج الملاحدة بفرضية الكون المتذبذب

يحتج بعض الملاحدة على أزلية الكون بفرضية تدعى الكون المتذبذب ،وهذه النظرية ترى أن الكون نشأ من انفجار أعقبه انسحاق أعاد الكون إلى حالة المفردة ثم أعقب ذلك انفجار ثم انسحاق ثم انفجار ثم انسحاق و هكذا إلى ما لا نهاية في القدم ،وهذه النظرية مجرد ظن لا يغني من الحق شيئا فلا دليل على أن كوننا كان قبله قد سبقه كون منسحق ،و حسب قوانين الديناميكا الحرارية يستحيل أن تكون هناك انفجارات أزلية ؛ لأن كل انفجار يجب أن ينتج كونا له عمر أطول من الكون السابق أي دورة الكون السابق أقصر من الكون اللاحق فإذا رجعنا إلى الوراء، سيتقلص زمن كل كون في هذه السلسلة، ونعود إلى كون زمن دورته صفر ، فنسأل عن هذا الانفجار الأول وعن المؤثر الذي أحدثه، وستكون هذه هي بداية دورات التذبذب ،و أيضا يستحيل تحقق اللانهائية في الواقع فهو مفهوم رياضي يستحيل تحققه في العالم المادي ،و لا يمكن أن يكون هناك عدد لانهائي من الأكوان تم في الماضي ؛ لأن أحداث الماضي واقعية ، و ليست مجرد أفكارا ، فإن عدد أحداث الماضي يجب أن يكون نهائياً أي يجب أن يكون له بداية .

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات


مراجع المقال :
1- أوهام الملحدين أوهى من بيت العنكبوت شحاته صقر
2- الشرك في القديم والحديث أبو بكر محمد زكريا
3- الفيزياء ووجود الخالق د.جعفر شيخ إدريس
4- الله يتحدى الملحدين د.محمد شيخاني
5- خرافة الإلحاد د.عمرو شريف
6- للكون إله د.صبري الدمرداش
7- موقف الإسلام من نظرية ماركس أحمد العوايشة
8- العقيدة الإسلامية في مواجهة التيارات الإلحادية د.فرج الله عبد الباري
9- صراع مع الملاحدة حتى العظم الشيخ عبد الرحمن الميداني

د.ربيع أحمد
02-24-2015, 06:55 PM
الملحد ووهم أزلية المادة والكون التحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=2142784#post2142784) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/82990/)

د.ربيع أحمد
03-09-2015, 02:16 PM
الملحد وسؤاله الخاطئ من خلق الله ؟
د.ربيع أحمد






الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله بيان خطأ سؤالهم من خلق الله فهو سؤال غير منطقي و غير صحيح إلا أن الملاحدة يكررونه دوما .

بيان شبهة الملاحدة

يقول الملاحدة : أنتم أيها المؤمنون بوجود الإله تسألون عن علة وجود المادة الأولى للكون وتجيبون بأن علة وجود المادة الأولى للكون هي الله، ونحن نسألكم وما علة وجود الله ؟ وستجيبون بأن الله غير معلول الوجود، فلماذا تقفون بمبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله؟ و هنا نجيبكم ، و لماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود، وبذلك يُحسم النقاش .

ويقول بعضهم : إذا قلنا بأن للكون خالق فهذا سيؤدي بنا إلى القول أن هذا الخالق له خالق آخر ، وهذا يمهد الطريق لآخرين ليضيفو خالقين آخرين ،وهذا تسلسل ممنوع فالتوقف عند الكون يعني التوقف عند المحسوس والملموس المدعوم بدليل، ويغلق الباب أمام من يحاول إضافة أسباب أخرى، بينما الإيمان بخالق هو بحد ذاته من يفتح الباب للقول بالتسلسل .








عدم منطقية سؤال من خلق الله

سؤال من خلق الله من الأسئلة غير المنطقية فالخالق لا يُخلق ،و الله ليس مخلوقا لنسأل من خلقه ، و الله قديم ليس حادثا أول ليس قبله شيء ، فلاينطبق عليه قانون الحوادث في السؤال عن خالقه ، و السؤال عمن أحدثه ،و المخلوقية من صفات الحوادث ،وهي الأشياء التي وجدت بعض أن لم تكن موجودة فكيف نصف الخالق بصفات الحوادث و ننسب له ما لا يليق ؟!!.

قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ﴾ (الحديد : الآية 3 ) أي : الله هو الأول الذي ليس قبله شيء, وهو الآخر الذي ليس بعده شيء, وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء, وهو الباطن الذي ليس دونه شيء, ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, وهو بكل شيء عليم .

و الله – سبحانه وتعالى - أزلي ليس لوجوده بداية فوجوده ذاتي لا ينفك عنه أي يبقى إلى الأبد ،وإذا كان الله ليس لوجوده بداية فكيف نسأل عن سبب وجوده ؟!! وكيف نسأل عن علة لوجوده ؟!

والأصل في الخالق الوجود إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون ؛ لأن فاقد الشيء لايعطيه ، وإذا كان وجود الله هو الأصل ، فهذا يستلزم أنه لا يحتاج إلى موجِد يوجده ، ولا علة لوجوده إذ لا يبحث عن علة وجود ما الأصل فيه الوجود .

وقول القائل : إن خالق الكون بحاجة إلى خالق رغم أنه خالق قريب من قول القائل إن الملح يحتاج إلى ملح كي يكون مالحاً رغم أنه ملحا، وإن السكر يحتاج إلى سكر حتى يكون حلواً رغم أنه سكر ، وإن الأحمر يحتاج إلى اللون الأحمر كي يكون أحمرا رغم أنه أحمر.


و قول القائل : من خلق الله ؟ يساوي قوله : ما الذي سبق الشيء الذي لا شيء قبله ؟ و يساوي قوله : ما بداية الشيء الذي لا بداية له ؟ ويساوى قوله : ما بداية وجود الشيء الذي لا بداية لوجوده ؟ وهذا قول في غاية السخف والسقوط .

د.ربيع أحمد
03-09-2015, 02:18 PM
الرد على زعم بعضهم أن استغناء الله‏ عن علة توجده يستلزم أن الله‏ توقف في وجوده على نفسه

يقول بعض الملاحدة قولكم أيها المؤمنون بأن الله لا علة لوجوده يستلزم أن الله‏ توقف في وجوده على نفسه أي أن الله‏ هو الذي أوجد نفسه بنفسه ،و هذا يستلزم أنه الله علة لنفسه ،و الجواب كلامكم أيها الملاحدة يصح لو كان الله ممكن الوجود إذ ممكن الوجود هو ما كان حادثاً بعد عدم أي وجوده له بداية فيتصور العقل وجوده وعدم وجوده فيمكن أن يوجد و يمكن ألا يوجد و هذا الحادث بعد عدم لابد له من موجد يوجده وخالق يحدثه أي يحتاج في وجوده إلي موجِد .

ولكن الله عندنا واجب الوجود أي وجوده ذاتي لا ينفك عنه فلم يكن في زمن من الأزمان بمفتقرٍ إلى الوجود ، و لم يكن في زمن من الأزمان معدوماً حتى يحتاج إلى من يخرجه من العدم إلى حَيّز الوجود سبحانه خالق الزمان والمكان ، وعليه فإن الله‏ لا يصدق عليه أنه مخلوق ومعلول حتى نسأل عن خالقه وعلته أو أن نقول بأنه خلق نفسه بنفسه .




الرد على سؤالهم لماذا تقفون بمبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله؟

يقول الملاحدة عندما نسألكم أيها المؤمنون عن علة وجود الله تجيبون بأن الله غير معلول الوجود ، فلماذا تقفون بمبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله ؟ والجواب على سؤالهم من وجوه :
الوجه الأول : أن الأصل في الخالق الوجود إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون ؛ لأن فاقد الشيء الذي لا يملكه، ولا يملك سبباً لإعطائه لايعطيه ، و إذا كان الأصل في الخالق الوجود فلايصح أن نسأل عن سبب وجوده .
الوجه الثاني : أن الله أزلي فوجوده ذاتي لا ينفك عنه فلايصح أن نسأل عن سبب وجوده ، ووجوده ليس له بداية .
الوجه الثالث : أن الله له الكمال المطلق إذ هو واهب الكمال لمخلوقاته فهو أحق بالاتصاف بها من الموهوب ، وكل كمال ثبت للمخلوق المحدث المربوب الممكن، فإنه يكون ثابتا للخالق من باب أولى ،وإذا كان الكمال المطلق لله ،والاحتياج يناقض الكمال المطلق فالكامل المطلق لا يحتاج إلى غيره ،وعليه فالخالق لا يحتاج إلى غيره ،وإذا لم يحتج إلى غيره فهو غير معلول ،و إذا كان غير معلول فلايصح أن نسأل عن علته .
الوجه الرابع : أن السؤال عن سبب وجود شيء يصح فيما كان الأصل فيه الحدوث و أنه لم يكن موجودا ثم أصبح موجودا بعد عدم ،والله قديم وليس حادثا .
الوجه الخامس : لو قلنا بأن كل خالق له من خلقه أي خالق الكون له من خلقه،ومن خلق خالق الكون له من خلقه ومن خلق خالق خالق الكون له من خلقه وهكذا إلى ما لا نهاية فهذا يستلزم أن لا خلق للكون ،وهذا باطل لوجود الكون فوجود الكون يستلزم عدم تسلسل الفاعلين إلى ما لانهاية ، إذ لا بد أن تصل سلسلة الفاعلين إلى علة غير معلولة ، و لا بد من سبب تنتهي إليه الأسباب وليس هناك أسباب لا تنتهي إلى شيء ، وإلا لم يكن هناك شيء أي أن التسلسل في الفاعلين ممنوع، بل لابد أن نصل إِلَى نهاية ، وهذه النهاية في الفاعلين أو المؤثرين هي إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذا أحد ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ ( النجم : الآية 42 ) .

و للتقريب نأخذ مثال الجندي والرصاصة الجندي يريد أن يطلق النار ،و لكن حتى يطلق النار، يجب على الجندي أن يستأذن من الجندي الذي خلفه ، و هذا الجندي حتى يعطي الإذن يجب أن يستأذن من الجندي الذي خلفه، و هكذا إلى ما لا نهاية. السؤال، هل سيطلق الجندي النار ؟ الجواب لا ؛ لأنه لن يصل إلى الجندي الذي سيعطيه الإذن بإطلاق النار أما إذا انتهت السلسلة إلى شخص لا يوجد فوقه أحد ليعطيه الإذن بإطلاق النار فستنطلق الرصاصة و بدون هذا الشخص ومهما كثر عدد الأشخاص لن تنطلق الرصاصة فهم كالأصفار إذ وضعتها بجانب بعضها البعض فمهما كثرت وبلغت حدا لا نهاية له : فستظل لا تساوي شيئا إلا أن يوضع قبلها رقم 1 فأكثر .

د.ربيع أحمد
03-09-2015, 02:19 PM
الرد على سؤال الملاحدة : لماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود ؟

يقول الملاحدة إذا كان الله عندكم لا علة لوجوده فلماذا لا تفترضون أن المادة الأولى غير معلولة الوجود ؟ والجواب فرق شاسع بين صفات الخالق التي تحمل دليل قدمه و أزليته و بين صفات المادة التي تحمل دليل حدوثها وافتقارها لمحدث ،وقول الملاحدة أن المادة الأولى غير معلولة الوجود قول بلا دليل ،والجواب عليه من وجوه :
الوجه الأول : أن العلم لا يدري ماذا كان قبل الانفجار العظيم الذي نشأ منه الكون ،و لا يدري من أين جاءت المادة التي نشأ منها الكون و تطور منها كل شيء ؟
الوجه الثاني : ليس هناك ما يدعو إلى أن المادة و الطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم .
الوجه الثالث : الفضاء والزمان وجدوا مع الانفجار العظيم ، والمادة هي كل ما له كتلة وحجم ويشغل حيز في الفراغ أي المادة تحتاج لمكان أو حيز ليحويها ،وبالتالي لا مادة دون وجود المكان الذي سيحويها .
الوجه الرابع : كون الكون تطور من المادة الأولى إلى الحالة التي هو عليها فهذا يدل أن المادة الأولى قد طرأ عليها التغير و التبدل ،وما يجري عليه التغير والتبدل لا يكون أزليا ؛ لأن كل ما يتغير و يتبدل لا بد له من مغيِّر و مبدل أي لابد له من سبب يغيره و يبدله ،وهذا السبب لابد أن يكون سابقا له مما ينافي الأزلية ،و مادامت المادة الأولى احتاجت إلى سبب يغيرها من حال إلى حال و سبب يبدلها من حال إلى حال فالمادة محتاجة إلى غيرها غير مستغنية بنفسها مما يدل أن المادة حادثة ،و لو كان الأصل فيها الوجود الأزلي لم تكن عرضة للتحول والتغير والتبدل .
.
هل القول بخالق للكون يفتح الباب للتسلسل الممنوع ؟

يزعم الملاحدة أن القول بخالق للكون سيؤدي بنا إلى القول أن هذا الخالق له خالق آخر ، وهذا يمهد الطريق لآخرين ليضيفو خالقين آخرين مما يفتح الباب للتسلسل الممنوع وهذا الكلام فيه خلط للحقائق ،وتسوية بين صفات الخالق القديم الأزلي ،وصفات المخلوق الحادث فالخالق لا يُخلق ،والقديم لا يُحدَث ،وكون الله الخالق قد خلق الكون فهذا يقطع بعدم التسلسل في الفاعلين ؛ لأن من صفات الخالق أنه الأول فليس قبله شيء ،وبذلك لايوجد تسلسل في الفاعلين .



هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

مراجع المقال :
1- الشرك في القديم والحديث أبو بكر محمد زكريا
2- الفيزياء ووجود الخالق د.جعفر شيخ إدريس
3- صراع مع الملاحدة حتى العظم الشيخ عبد الرحمن الميداني
4- كواشف زيوف الشيخ عبد الرحمن الميداني

د.ربيع أحمد
03-09-2015, 02:21 PM
الملحد وسؤاله الخاطئ من خلق الله ؟ التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/83538/)أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=2145704#post2145704)

د.ربيع أحمد
03-10-2015, 04:53 PM
الملحد ودعواه أن الأخلاق مصدرها الطبيعة












الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله دعوى يكثر تكرارها من الملاحدة و اللادينين ألا وهي أن أخلاق الإنسان مصدرها الطبيعة و تستمد من الطبيعة ، ومنشأ الأخلاق هو منشأ طبيعي بحت هدفهُ الحفاظ على النوع واستمرار بقاء الفرد وتحقيق فائدة شخصية غير مباشرة من خلال الفائدة العامة المباشرة .

ومنهم من يقول الأخلاق يجب أن تُفسَّر تفسيرًا ماديًّا، ووفقًا لقانون طبيعي، فمنطق الحاجة الطبيعيَّة المباشِرة هو الذي يتحكَّم في الأخلاق الإنسانيَّة، تمامًا مثلما تتحكَّم الجاذبية في سقوط التفَّاحة.

و بالغ بعضهم في الطبيعة حتى وصل أن قال إننا مجبورون على السير في الطريق الذي رسمته لنا الطبيعة فإننا لا نسير إلا في الطريق الذي نحبه ولكننا لم نحب نحن هذا الطريق, ولكن الطبيعة هي التي جعلتنا نحبه وهي التي تجبرنا على السير فيه ،و الإنسان نظام كغيره من النظم في الطبيعة يخضع بدوره لقوانين الطبيعة الحتمية .

ومنهم من يزعم أن الانتخاب الطبيعيّ هو صاحب الكلمة الأخيرة في تقرير سلوك الإنسان ،و قد أنتج هذا الانتخاب عند الكائن البشريّ نوع من القاعدة الأخلاقيّة الكونيّة ، والأخلاق تطورت تطورًا تدريجيًّا، وليس عبر قفزات نوعية .

ومنهم من يدعي أن الأخلاق تكيف بيولوجي تطوري .

ومنهم من يزعم أن وجود قيم أخلاقية مشتركة بين الشعوب المختلفة يمكن تفسيره بالداروينية الاجتماعية .

ومنهم من يدعي أن الأخلاق قوانين سلوكية تفرضها الطبيعة وحسب آليّة الانتقاء التّطوريّ والقائمة على الغربلة الطّبيعية المستمرة عبر ملايين السّنين صارت الكائنات تمتلك مزيجًا من السّلوكيات الأنانية (الشريرة) من ناحية، والسّلوكيات الأخلاقيّة الإيثارية (الخيّرة) من ناحيةٍ أخرى، ممّا مكنها من التّعاون الدّاخلي وتحسين مجتمعها والحفاظ على بقائها ضد الأعداء .

وقبل الرد على هذه الدعاوي لابد من معرفة مفهوم الأخلاق و معرفة مفهوم الطبيعة و معرفة مفهوم الداروينية الاجتماعية .

د.ربيع أحمد
03-10-2015, 04:56 PM
مفهوم الأخلاق

الأخلاق مفرد كلمة خلق ،و الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه .

والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسن عن الغريزة فالأكل مثلا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة وليس مما يمدح به أو يذم. لكن لو أنَّ إنسانَا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة. كذلك فإن مسألة حبّ البقاء ليست محلًا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهور، فهو أثر لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة .

وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم .


و الخُلُق منه ما هو طبيعي أي فطري يولد الإنسان مجبولا عليه كالحلم والتؤدة والحياء ، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرب والبيئة كالشجاعة والكرم .


ولابد أن نفرق بين الخلق والتخلق إذ التخلق هو تكلف و تصنع خلق معين وهذا التصنع لا يدوم طويلاً بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلف لا يسمى خلقًا حتى يصير عادة وحالة للنفس راسخة يصدر عن صاحبه في يسر وسهولة، فالذي يصدق مرة لا يوصف بأن خلقه الصدق ومن يكذب مرة لا يقال إن خلقه الكذب بل العبرة بالاستمرار في الفعل حتى يصير طابعًا عامًا في سلوكه .







مفهوم الطبيعة

الطبيعة لفظ مشترك المعاني – أي له عدة معاني – غامض جدا مما دعا بعض علماء الطبيعة في القرن السابع عشر إلى تجنب استعماله لقد استعمله علماء الطبيعة بمعنى كل ما هو مشاهد .

و الطبيعة قد تعني ذوات الأشياء المادية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا من جماد وحيوان ونبات ،وقد تعني صفات الأشياء الموجودة في الكون من حركة وسكون, وحرارة وبرودة, وليونة ويبوسة, وغير ذلك ، وقد تعني الخصائص الثابتة التي تميز كائنا أو شيئا ما بحيث لا يمكن تصوره بدونها كالاحتراق بالنسبة للنار أو المكر بالنسبة للثعلب ، وقد تعني مجموع الخصائص الأساسية الثابتة للشيء المنتمية إلى ماهيته أو جوهره في مقابل صفاته المؤقتة أو الثانوية ، وقد تعني صفات الكائن الحي واستعداداته المنتمية إلى الإرث البيولوجي في مقابل الصفات المكتسبة ،وقد تعني مجموعة الأشياء التي لم يتدخل الإنسان في صنعها كالأشجار و الجبال مثلا وقد تعني مجموع السنن و القوانين المتحكمة في ظواهر العالم المشاهد المحسوس السارية على جميع موجوداته ،وقد تعني المادة التي تتكون منها الأشياء في العالم المشاهد المحسوس ،وقد تعني مجموعة الخصائص الفطرية و الغريزية التي تولد مع الإنسان و المشتركة بين جميع الناس، كالأكل و النوم. و بهذا المعنى فالطبيعة هي عكس ما هو مكتسب و ثقافي.

و يكثر استعمال كلمة الطبيعة في الخطاب الفلسفي الغربي محل كلمة المادة فهي عند الفلاسفة الجوهر المادي الأول الذي تصنع منه الأشياء، وهذا الجوهر المادي هو أصل الوجود، والعلة الأولى في وجود هذا الكون ، وهي عند أفلاطون المثال، وعلة الوجود، والنفس الكلية، وعند أرسطو هي أصل الأشياء ، و مصدر الحركة ، والمادة التي تصنع منها الأشياء .

وقد استخدمت الفلسفات الغربية مفهوم الطبيعة، بهذا المعنى الإغريقي القديم ، فالطبيعيون والمثاليون و الواقعيون و الدارونيون يرون الطبيعة هي الأشياء، وهي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، والطبيعة هي أصل الأشياء .

ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري : ( مفهوم الطبيعة مفهوم أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وخصوصاً في الغرب، فكلمة «طبيعة» داخل السياق الفلسفي الغربي لا تشير إلى الأحجار والأشجار والسحب والقمر والتلقائية والحرية، وإنما هي كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 ـ تتسم الطبيعة بالوحدة، فهي شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكل المتصل وما عداها مجرد جزء ناقص منها، فهي لا تتحمل وجود أية مسافات أو ثغرات أو ثنائيات. وجماع الأشياء والإجراءات التي توجد في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقع الوحيد ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها، فالطبيعة نظام واحد صارم.
2 ـ تتسم الطبيعة بالقانونية (لكل ظاهرة سبب وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان) ، أي أن الطبيعة بأسرها متسقة مع نفسها، فهي تتحرك تلقائياً بقوة دفع نابعة منها، وهي خاضعة لقوانين واحدة ثابتة منتظمة صارمة مطردة وآلية، قوانين رياضية عامة واضحة، حتمية لا يمكن تعديلها أو التدخل فيها ، وهي قوانين كامنة فيها.
3 ـ الحركة أمر مادي، ومن ثم، لا توجد غائية في العالم المادي (حتى لو كانت غائية إنسانية تسحب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية) .
4 ـ لا تكترث الطبيعة بالخصوصية ولا التفرد ولا الظاهرة الإنسانية ولا الإنسان الفرد واتجاهاته ورغباته، ولا تمنح الإنسان أية مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقية الكائنات ويمكن تفسيره في كليته بالعودة إلى قوانين الطبيعة. والإنسان الفرد (أو الجزء) يذوب في الكل (الطبيعي/المادي) ذوبان الذرات فيها، أي أن الطبيعة تلغي تماماً الحيز الإنساني.
5 ـ الإيمان بأنه لا توجد غيبيات ولا يوجد تَجاوُز للنظام الطبيعي من أي نوع، فالطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما نحتاج إليه لتفسيرها؛ فهي علة ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفية بذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود.

يُلاحَظ أن الطبيعة، حسب هذا التعريف الفلسفي، هي نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، تُوجَد مقومات حركته داخله، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه. وهو نظام ضروري كلي شامل تنضوي كل الأشياء تحته، وضمن ذلك الإنسان الذي يُستوعَب في عالم الطبيعة ويُختزَل إلى قوانينها بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منها ويختفي ككيان مركب منفصل نسبياً عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة (ولذا فالرغبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان) . وهذه هي الصفات الأساسية للمذهب المادي. ولذا، فنحن نرى أن كلمة «المادة» يجب أن تحل محل كلمة «الطبيعة» أو أن تُضاف الواحدة للأخرى، وذلك لفك شفرة الخطاب الفلسفي الذي يستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمه حق الفهم وندرك أبعاده المعرفية المادية.

ولعل كثيراً من اللغط الفلسفي ينكشف إذا استخدمنا كلمة «مادي» بدلاً من كلمة «طبيعي» ، فبدلاً من «المذهب الطبيعي» نقول «المذهب المادي» ، وبدلاً من «القانون الطبيعي» نقول «القانون المادي» ، وبدلاً من «الإنسان الطبيعي» يمكننا أن نقول «الإنسان المادي» ، وبدلاً من «الطبيعية ( بالإنجليزية : ناتشوراليزم naturalism) » نقول «مادية» . وحينئذ، فإننا نؤكد أن الإنسان الطبيعي، في واقع الأمر، شخص يُعرَّف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُرَدُّ إليها، ولذا فهو يجمع براءة الذئاب وتلقائية الأفعى وحياد العاصفة وتَسطُّح الأشياء وبساطتها. وحينما نقول «العودة للطبيعة» ، فنحن نقصد أن العودة ستكون لقوانين الطبيعة، أي قوانين المادة. وقد فك هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية حينما قال يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وقد تبع في ذلك كلاً من داروين ونيتشه ) .

د.ربيع أحمد
03-10-2015, 05:00 PM
مفهوم الأخلاق

الأخلاق مفرد كلمة خلق ،و الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه .

والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسن عن الغريزة فالأكل مثلا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة وليس مما يمدح به أو يذم. لكن لو أنَّ إنسانَا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة. كذلك فإن مسألة حبّ البقاء ليست محلًا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهور، فهو أثر لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة .

وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم .


و الخُلُق منه ما هو طبيعي أي فطري يولد الإنسان مجبولا عليه كالحلم والتؤدة والحياء ، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرب والبيئة كالشجاعة والكرم .


ولابد أن نفرق بين الخلق والتخلق إذ التخلق هو تكلف و تصنع خلق معين وهذا التصنع لا يدوم طويلاً بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلف لا يسمى خلقًا حتى يصير عادة وحالة للنفس راسخة يصدر عن صاحبه في يسر وسهولة، فالذي يصدق مرة لا يوصف بأن خلقه الصدق ومن يكذب مرة لا يقال إن خلقه الكذب بل العبرة بالاستمرار في الفعل حتى يصير طابعًا عامًا في سلوكه .







مفهوم الطبيعة

الطبيعة لفظ مشترك المعاني – أي له عدة معاني – غامض جدا مما دعا بعض علماء الطبيعة في القرن السابع عشر إلى تجنب استعماله لقد استعمله علماء الطبيعة بمعنى كل ما هو مشاهد .

و الطبيعة قد تعني ذوات الأشياء المادية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا من جماد وحيوان ونبات ،وقد تعني صفات الأشياء الموجودة في الكون من حركة وسكون, وحرارة وبرودة, وليونة ويبوسة, وغير ذلك ، وقد تعني الخصائص الثابتة التي تميز كائنا أو شيئا ما بحيث لا يمكن تصوره بدونها كالاحتراق بالنسبة للنار أو المكر بالنسبة للثعلب ، وقد تعني مجموع الخصائص الأساسية الثابتة للشيء المنتمية إلى ماهيته أو جوهره في مقابل صفاته المؤقتة أو الثانوية ، وقد تعني صفات الكائن الحي واستعداداته المنتمية إلى الإرث البيولوجي في مقابل الصفات المكتسبة ،وقد تعني مجموعة الأشياء التي لم يتدخل الإنسان في صنعها كالأشجار و الجبال مثلا وقد تعني مجموع السنن و القوانين المتحكمة في ظواهر العالم المشاهد المحسوس السارية على جميع موجوداته ،وقد تعني المادة التي تتكون منها الأشياء في العالم المشاهد المحسوس ،وقد تعني مجموعة الخصائص الفطرية و الغريزية التي تولد مع الإنسان و المشتركة بين جميع الناس، كالأكل و النوم. و بهذا المعنى فالطبيعة هي عكس ما هو مكتسب و ثقافي.

و يكثر استعمال كلمة الطبيعة في الخطاب الفلسفي الغربي محل كلمة المادة فهي عند الفلاسفة الجوهر المادي الأول الذي تصنع منه الأشياء، وهذا الجوهر المادي هو أصل الوجود، والعلة الأولى في وجود هذا الكون ، وهي عند أفلاطون المثال، وعلة الوجود، والنفس الكلية، وعند أرسطو هي أصل الأشياء ، و مصدر الحركة ، والمادة التي تصنع منها الأشياء .

وقد استخدمت الفلسفات الغربية مفهوم الطبيعة، بهذا المعنى الإغريقي القديم ، فالطبيعيون والمثاليون و الواقعيون و الدارونيون يرون الطبيعة هي الأشياء، وهي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، والطبيعة هي أصل الأشياء .

ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري : ( مفهوم الطبيعة مفهوم أساسي في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وخصوصاً في الغرب، فكلمة «طبيعة» داخل السياق الفلسفي الغربي لا تشير إلى الأحجار والأشجار والسحب والقمر والتلقائية والحرية، وإنما هي كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 ـ تتسم الطبيعة بالوحدة، فهي شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، وهي الكل المتصل وما عداها مجرد جزء ناقص منها، فهي لا تتحمل وجود أية مسافات أو ثغرات أو ثنائيات. وجماع الأشياء والإجراءات التي توجد في الزمان والمكان هو الطبيعة، وهي مستوى الواقع الوحيد ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها، فالطبيعة نظام واحد صارم.
2 ـ تتسم الطبيعة بالقانونية (لكل ظاهرة سبب وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان) ، أي أن الطبيعة بأسرها متسقة مع نفسها، فهي تتحرك تلقائياً بقوة دفع نابعة منها، وهي خاضعة لقوانين واحدة ثابتة منتظمة صارمة مطردة وآلية، قوانين رياضية عامة واضحة، حتمية لا يمكن تعديلها أو التدخل فيها ، وهي قوانين كامنة فيها.
3 ـ الحركة أمر مادي، ومن ثم، لا توجد غائية في العالم المادي (حتى لو كانت غائية إنسانية تسحب خصوصيات النشاط البشري على الطبيعة المادية) .
4 ـ لا تكترث الطبيعة بالخصوصية ولا التفرد ولا الظاهرة الإنسانية ولا الإنسان الفرد واتجاهاته ورغباته، ولا تمنح الإنسان أية مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقية الكائنات ويمكن تفسيره في كليته بالعودة إلى قوانين الطبيعة. والإنسان الفرد (أو الجزء) يذوب في الكل (الطبيعي/المادي) ذوبان الذرات فيها، أي أن الطبيعة تلغي تماماً الحيز الإنساني.
5 ـ الإيمان بأنه لا توجد غيبيات ولا يوجد تَجاوُز للنظام الطبيعي من أي نوع، فالطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما نحتاج إليه لتفسيرها؛ فهي علة ذاتها، تُوجَد في ذاتها، مكتفية بذاتها وتُدرَك بذاتها، وهي واجبة الوجود.

يُلاحَظ أن الطبيعة، حسب هذا التعريف الفلسفي، هي نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، تُوجَد مقومات حركته داخله، لا يشير إلى أي هدف أو غرض خارجه، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه. وهو نظام ضروري كلي شامل تنضوي كل الأشياء تحته، وضمن ذلك الإنسان الذي يُستوعَب في عالم الطبيعة ويُختزَل إلى قوانينها بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ منها ويختفي ككيان مركب منفصل نسبياً عما حوله وله قوانينه الإنسانية الخاصة (ولذا فالرغبة في العودة إلى الطبيعة هي تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان) . وهذه هي الصفات الأساسية للمذهب المادي. ولذا، فنحن نرى أن كلمة «المادة» يجب أن تحل محل كلمة «الطبيعة» أو أن تُضاف الواحدة للأخرى، وذلك لفك شفرة الخطاب الفلسفي الذي يستند إلى فكرة الطبيعة، ولكي نفهمه حق الفهم وندرك أبعاده المعرفية المادية.

ولعل كثيراً من اللغط الفلسفي ينكشف إذا استخدمنا كلمة «مادي» بدلاً من كلمة «طبيعي» ، فبدلاً من «المذهب الطبيعي» نقول «المذهب المادي» ، وبدلاً من «القانون الطبيعي» نقول «القانون المادي» ، وبدلاً من «الإنسان الطبيعي» يمكننا أن نقول «الإنسان المادي» ، وبدلاً من «الطبيعية ( بالإنجليزية : ناتشوراليزم naturalism) » نقول «مادية» . وحينئذ، فإننا نؤكد أن الإنسان الطبيعي، في واقع الأمر، شخص يُعرَّف في إطار وظائفه الطبيعية البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُرَدُّ إليها، ولذا فهو يجمع براءة الذئاب وتلقائية الأفعى وحياد العاصفة وتَسطُّح الأشياء وبساطتها. وحينما نقول «العودة للطبيعة» ، فنحن نقصد أن العودة ستكون لقوانين الطبيعة، أي قوانين المادة. وقد فك هتلر شفرة الخطاب الفلسفي الغربي بكفاءة غير عادية حينما قال يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وقد تبع في ذلك كلاً من داروين ونيتشه ) .

د.ربيع أحمد
03-10-2015, 05:02 PM
مفهوم الداروينية الاجتماعية

الداروينية الاجتماعية كلمة منسوبة إلى اسم تشارلز داروين (1731 ـ 1820) . وهي فلسفة علمانية شاملة، واحدية عقلانية مادية كمونية تنكر أية مرجعية غير مادية، وتستبعد الخالق من المنظومة المعرفية والأخلاقية وتَرُد العالم بأسره إلى مبدأ مادي واحد كامن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون.


والآلية الكبرى للحركة في الداروينية هي الصراع والتَقدُّم اللانهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني. وقد حققت الداروينية الاجتماعية ذيوعاً في أواخر القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي تَعثَّر فيها التحديث في شرق أوربا، وبدأ فيها بعض يهود اليديشية في تبنِّي الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، كما بدأ التشكيل الإمبريالي الغربي يتسع ليقتسم العالم بأسره. ويمكن القول بأن الداروينية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة، إن لم يكن كلها.

ويرى دعاة الداروينية الاجتماعية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي نفسها التي تسري على الظواهر الإنسانية، التاريخية والاجتماعية. وهم يذهبون إلى أن تشارلز داروين قد وصف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين: حول أصل الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجل الحياة. وقد ذهب داروين إلى أن الكون بأسره سلسلة متواصلة في حالة حركة من أسفل إلى أعلى وأن الإنسان إن هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أرقاها ولكنه ليس آخرها. ويرى داروين أن تَقدُّم الأنواع البيولوجية الحية يعتمد على الصراع من أجل البقاء الذي ينتصر فيه الأصلح .
الطبيعة محايدة

من المعلوم أن الطبيعة محايدة لا تعرف الخير أو الشر أو القبح أو الجمال ،والطبيعة محايدة لا تعرف ما هو أخلاقي و ما هو غير أخلاقي ، والإنسان لا يمكن أن يكون محايدا بالنسبة للأخلاق ولذلك فهو إما أن يكون صادقا في أخلاقه أو كاذبا، أو مازجا بين الصدق والكذب، وهي حالة أكثر شيوعا بين البشر , فكيف تكون الطبيعة المحايدة مصدرا لشيء غير محايد ؟! والإنسان عنده وعي أخلاقي و الطبيعة ليس عندها وعي أخلاقي و الملحد إذ اعتبر نفسه مادة فهذا يستلزم ألا توجد أخلاق عنده ؛ لأن المادة لا أخلاق عندها ،و كيف تكون الأخلاق في الإنسان مستمدة مما لا خلق عنده ؟!! وحسبُ التناقض دليلاً على إسقاط أيّ مذهب .


الطبيعة حتمية

الطبيعة عند الماديين خاضعة لقوانين آلية ثابتة ومنتظمة وصارمة و مطردة ولا إرادة فيها و لا اختيار وما يميِّز فعل الإنسان الأخلاقي عن أيِّ فعل آخر هو المصدر الدافع إليه ؛ إذ يصدر الفعل الأخلاقي من داخل النفس البشرية من المبادئ والقيم والمُثُل المغروسة فيها دون قسر أو إكراه خارجي عليه فالإنسان يتمتع بالإرادة ،وحرية الاختيار فيمكن أن يفعل الشيء بإرادته واختياره ويمكن ألا يفعل الشيء بإرادته مثلا : يمكن أن يصدق بإرادته واختياره ويمكن ألا يصدق ،ويمكن أن يفي بعهد من العهود بإرادته واختياره و يمكن ألا يفي ،ويمكن أن يرفق بالإنسان والحيوان بإرادته واختياره و يمكن ألا يرفق ،ويمكن أن يحترم غيره بإرادته واختياره ،ويمكن ألا يحترم ،فكيف تكون الطبيعة التي لا إرادة فيها ولا اختيار مصدرا لأخلاق الإنسان التي يتحلى بها عن إرادة واختيار وفاقد الشيء لا يعطيه ؟!!

وكيف تكون الطبيعة حتمية و الإنسان لا تجوز عليه الحتمية ثم يقال أخلاق الإنسان صادرة من الطبيعة ،و الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين الطبيعة ؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية ؟!!

و إذا كان الإنسان يسرى عليه ما يسرى على الطبيعة وهو من الطبيعة و ابن الطبيعة فكيف يتمرد عليها من أين له حرية الإرادة و القدرة على التمرد على الطبيعة ؟

والحتمية إنما تنطبق على ما هو من الكون مجبور لا اختيار له، فهي لا تنطبق على سلوك الحيوان الذي عنده هامش من الإرادة فضلا عن الإنسان الذي يمتلك حرية الإرادة والاختيار .






الطبيعة مادية

إذا كانت الطبيعة هي المادة ،والمادة هي الطبيعة والمادة تدرك بالحواس ،و الأخلاق صفات معنوية ،وليست صفات حسية تدرك بالحواس فلا أحد يرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أي خُلق من الأخلاق الحميدة كالشجاعة و الكرم و أداء الأمانة والاحترام والتوقير، والاعتدال والتوسط، والإخاء ، والإصلاح بين الناس، والإيثار، والإخلاص، والاستقامة، ، والحياء، والرحمة، والرفق ، والبر، والشكر، والصدق، والعدل، والعفة وغير ذلك.

ولا أحد يرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أي خُلق من الأخلاق السيئة كالكبر، والاعتداء، والإفساد، والإسراف ، والتشاؤم ، والمن، والبخل، والبغي، والبغض، والبهتان، والتبذير، والجبن، والتجسس، والتواكل، والحسد، والخيانة، والرياء، والشماتة و السباب، والسخرية، وسوء الظن، والطمع، والظلم،والعجب، والغدر، ونقض العهود، والعنف، والغضب، والغيبة، والنميمة، والغيرة، والغش، والغرور، والجفاء، والتعيير، والفجور، والكذب، وقول الزور، ، والكبر وغير ذلك ،وعليه كيف تكون الطبيعة أو المادة مصدرا لشيء غير مادي ،ومن المعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه ؟!!!

أخبرونا أيها الملاحدة : من أي مادة جاءت الرحمة ؟
ومن أي مادة جاء العدل ؟
ومن أي مادة جاء الكرم ؟
ومن أي مادة جاء الإيثار ؟
ومن أي مادة جاء الصدق ؟
ومن أي مادة جاءت الشجاعة ؟

وفي إطار المرجعية المادية يصير كل شيء مباحاً ونسبياً فعلى أي أساس مادي يمكن أن نحكم على سلوك الإنسان أنه سلوك حميد أو سلوك مذموم ؟!
وفي إطار المرجعية المادية كيف نحب الصدق و نكره الكذب ؟!،و كيف نحب العدل ونكره الظلم ؟!! وكيف نحب الكرم و نكره البخل ؟!! وكيف نحب الشجاعة و نكره الجبن ؟!! و كيف نحب الأمانة و نكره الخيانة ؟

و في إطار المرجعية المادية كيف يكون عندنا إدراك للأخلاق الحسنة و إدراك للأخلاق السيئة من الطبيعة التي ليس لديها إدراك ؟!!

وإذا كنا في إطار المرجعية المادية نعجز عن تفسير الأخلاق فإننا نعجز أشد العجز عند تفسير خلق كالإيثار و التضحية ،و لا يوجد أي تفسير مادي يجعل المادة تؤثر مادة على نفسها ،ولا يوجد أي تفسير مادي يجعل المادة ترفض ما هو أصلح لها كمادة وتقبل التضحية من أجل مادة غيرها .

والأخلاق تضع الملحد في مأزق فليس أمامه إلا خيارين إما أن يؤمن بوجودها و بذلك يؤمن بوجود مصدر غير مادي تسبب في نشأتها ،وإما ألا يعترف بوجودها وبذلك يصبح كائن غير أخلاقي مثله مثل الجماد .
الطبيعة تتميز بالوحدة و السببية

الطبيعة عند الماديين تتسم بالوحدة فهي نظام واحد صارم ، وفعلها متشابه لأنها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف أفعالها، ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها ، و الطبيعة أيضا سببية فلكل ظاهرة سبب، وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان مثلا الماء يغلي في كل الأماكن عند 100 درجة مئوية والتفاحة تسقط على الأرض ولن ترتفع إلى السماء في كل مكان ، ولا تكترث الطبيعة عندهم بالخصوصية ولا التفرد .

والإنسان يتميَّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها، فالأفراد ليسوا نسخاً متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعاً للقوالب التفسيرية نفسها ،و من المشاهد و الملاحظ تباين طباع الناس وأخلاقهم ، فلو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق فمن أين لها هذا الاختلاف ؟ وكيف تختلف أفعالها ؟! و لو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق لكان الخلق متساوين في الأخلاق غير متفاوتين .

و الإنسان حر في اختياره قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسئولية ومقاييس مثل الحرية والقدرة على الاختيار مقاييس تستند إلى الإيمان بوجود شيء ما غير مادي، شيء متجاوز المادة شيء متجاوز الطبيعة .

القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان ومسئوليته تجاه أفعاله

القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان ؛ لأن الطبيعة تتسم بالحتمية فلا معنى لحرية الإرادة و الاختيار بل يصبح الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا تملك لنفسها تصريفاً ولا توجيهاً ،و الحرية ترتبط دائما بالمسئولية، فإن لم يكن الشخص حر الإرادة، فلا مسئولية عليه وبذلك يصبح القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة ملغيا لالتزام الأفراد ومسئولياتهم و إرادتهم و يهدم المسئولية الأخلاقية من أساسها ، و لا تستقيم أمور الدنيا علي ذلك ؛ لأن الإنسان لابد أن يحاسب بعمله، ويحاسب على تصرفاته والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل فهو قول فاسد لا اعتبار له .

و هل يمكن أنْ نكلّف شخصاً بأيّ تكليف، ونحمّله مسؤولية ذلك إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟ وكيف نمدح الناجح في عمله و نذم الفاشل إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل ؟

و في عالم الحتمية لا معنى للخير و الشر ،ولا معنى للثواب والعقاب ولا معنى للمدح و الذم ،ويصبح الحديث عن القيم الأخلاقية العليا لغوا لا معنى له إذ كل شيء يجري وفق قوانين ثابتة لا يمكن أن يحيد عنها .


و في عالم الحتمية المحسن لا يكون مختاراً عندما يحسن، ولا المسيء يكون مختاراً عندما يسيء .

د.ربيع أحمد
03-10-2015, 05:05 PM
مفهوم الداروينية الاجتماعية

الداروينية الاجتماعية كلمة منسوبة إلى اسم تشارلز داروين (1731 ـ 1820) . وهي فلسفة علمانية شاملة، واحدية عقلانية مادية كمونية تنكر أية مرجعية غير مادية، وتستبعد الخالق من المنظومة المعرفية والأخلاقية وتَرُد العالم بأسره إلى مبدأ مادي واحد كامن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون.


والآلية الكبرى للحركة في الداروينية هي الصراع والتَقدُّم اللانهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني. وقد حققت الداروينية الاجتماعية ذيوعاً في أواخر القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي تَعثَّر فيها التحديث في شرق أوربا، وبدأ فيها بعض يهود اليديشية في تبنِّي الحل الصهيوني للمسألة اليهودية، كما بدأ التشكيل الإمبريالي الغربي يتسع ليقتسم العالم بأسره. ويمكن القول بأن الداروينية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة، إن لم يكن كلها.

ويرى دعاة الداروينية الاجتماعية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي نفسها التي تسري على الظواهر الإنسانية، التاريخية والاجتماعية. وهم يذهبون إلى أن تشارلز داروين قد وصف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين: حول أصل الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجل الحياة. وقد ذهب داروين إلى أن الكون بأسره سلسلة متواصلة في حالة حركة من أسفل إلى أعلى وأن الإنسان إن هو إلا إحدى هذه الحلقات، قد يكون أرقاها ولكنه ليس آخرها. ويرى داروين أن تَقدُّم الأنواع البيولوجية الحية يعتمد على الصراع من أجل البقاء الذي ينتصر فيه الأصلح .
الطبيعة محايدة

من المعلوم أن الطبيعة محايدة لا تعرف الخير أو الشر أو القبح أو الجمال ،والطبيعة محايدة لا تعرف ما هو أخلاقي و ما هو غير أخلاقي ، والإنسان لا يمكن أن يكون محايدا بالنسبة للأخلاق ولذلك فهو إما أن يكون صادقا في أخلاقه أو كاذبا، أو مازجا بين الصدق والكذب، وهي حالة أكثر شيوعا بين البشر , فكيف تكون الطبيعة المحايدة مصدرا لشيء غير محايد ؟! والإنسان عنده وعي أخلاقي و الطبيعة ليس عندها وعي أخلاقي و الملحد إذ اعتبر نفسه مادة فهذا يستلزم ألا توجد أخلاق عنده ؛ لأن المادة لا أخلاق عندها ،و كيف تكون الأخلاق في الإنسان مستمدة مما لا خلق عنده ؟!! وحسبُ التناقض دليلاً على إسقاط أيّ مذهب .


الطبيعة حتمية

الطبيعة عند الماديين خاضعة لقوانين آلية ثابتة ومنتظمة وصارمة و مطردة ولا إرادة فيها و لا اختيار وما يميِّز فعل الإنسان الأخلاقي عن أيِّ فعل آخر هو المصدر الدافع إليه ؛ إذ يصدر الفعل الأخلاقي من داخل النفس البشرية من المبادئ والقيم والمُثُل المغروسة فيها دون قسر أو إكراه خارجي عليه فالإنسان يتمتع بالإرادة ،وحرية الاختيار فيمكن أن يفعل الشيء بإرادته واختياره ويمكن ألا يفعل الشيء بإرادته مثلا : يمكن أن يصدق بإرادته واختياره ويمكن ألا يصدق ،ويمكن أن يفي بعهد من العهود بإرادته واختياره و يمكن ألا يفي ،ويمكن أن يرفق بالإنسان والحيوان بإرادته واختياره و يمكن ألا يرفق ،ويمكن أن يحترم غيره بإرادته واختياره ،ويمكن ألا يحترم ،فكيف تكون الطبيعة التي لا إرادة فيها ولا اختيار مصدرا لأخلاق الإنسان التي يتحلى بها عن إرادة واختيار وفاقد الشيء لا يعطيه ؟!!

وكيف تكون الطبيعة حتمية و الإنسان لا تجوز عليه الحتمية ثم يقال أخلاق الإنسان صادرة من الطبيعة ،و الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين الطبيعة ؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية ؟!!

و إذا كان الإنسان يسرى عليه ما يسرى على الطبيعة وهو من الطبيعة و ابن الطبيعة فكيف يتمرد عليها من أين له حرية الإرادة و القدرة على التمرد على الطبيعة ؟

والحتمية إنما تنطبق على ما هو من الكون مجبور لا اختيار له، فهي لا تنطبق على سلوك الحيوان الذي عنده هامش من الإرادة فضلا عن الإنسان الذي يمتلك حرية الإرادة والاختيار .






الطبيعة مادية

إذا كانت الطبيعة هي المادة ،والمادة هي الطبيعة والمادة تدرك بالحواس ،و الأخلاق صفات معنوية ،وليست صفات حسية تدرك بالحواس فلا أحد يرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أي خُلق من الأخلاق الحميدة كالشجاعة و الكرم و أداء الأمانة والاحترام والتوقير، والاعتدال والتوسط، والإخاء ، والإصلاح بين الناس، والإيثار، والإخلاص، والاستقامة، ، والحياء، والرحمة، والرفق ، والبر، والشكر، والصدق، والعدل، والعفة وغير ذلك.

ولا أحد يرى أو يسمع أو يشم أو يتذوق أو يلمس أي خُلق من الأخلاق السيئة كالكبر، والاعتداء، والإفساد، والإسراف ، والتشاؤم ، والمن، والبخل، والبغي، والبغض، والبهتان، والتبذير، والجبن، والتجسس، والتواكل، والحسد، والخيانة، والرياء، والشماتة و السباب، والسخرية، وسوء الظن، والطمع، والظلم،والعجب، والغدر، ونقض العهود، والعنف، والغضب، والغيبة، والنميمة، والغيرة، والغش، والغرور، والجفاء، والتعيير، والفجور، والكذب، وقول الزور، ، والكبر وغير ذلك ،وعليه كيف تكون الطبيعة أو المادة مصدرا لشيء غير مادي ،ومن المعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه ؟!!!

أخبرونا أيها الملاحدة : من أي مادة جاءت الرحمة ؟
ومن أي مادة جاء العدل ؟
ومن أي مادة جاء الكرم ؟
ومن أي مادة جاء الإيثار ؟
ومن أي مادة جاء الصدق ؟
ومن أي مادة جاءت الشجاعة ؟

وفي إطار المرجعية المادية يصير كل شيء مباحاً ونسبياً فعلى أي أساس مادي يمكن أن نحكم على سلوك الإنسان أنه سلوك حميد أو سلوك مذموم ؟!
وفي إطار المرجعية المادية كيف نحب الصدق و نكره الكذب ؟!،و كيف نحب العدل ونكره الظلم ؟!! وكيف نحب الكرم و نكره البخل ؟!! وكيف نحب الشجاعة و نكره الجبن ؟!! و كيف نحب الأمانة و نكره الخيانة ؟

و في إطار المرجعية المادية كيف يكون عندنا إدراك للأخلاق الحسنة و إدراك للأخلاق السيئة من الطبيعة التي ليس لديها إدراك ؟!!

وإذا كنا في إطار المرجعية المادية نعجز عن تفسير الأخلاق فإننا نعجز أشد العجز عند تفسير خلق كالإيثار و التضحية ،و لا يوجد أي تفسير مادي يجعل المادة تؤثر مادة على نفسها ،ولا يوجد أي تفسير مادي يجعل المادة ترفض ما هو أصلح لها كمادة وتقبل التضحية من أجل مادة غيرها .

والأخلاق تضع الملحد في مأزق فليس أمامه إلا خيارين إما أن يؤمن بوجودها و بذلك يؤمن بوجود مصدر غير مادي تسبب في نشأتها ،وإما ألا يعترف بوجودها وبذلك يصبح كائن غير أخلاقي مثله مثل الجماد .
الطبيعة تتميز بالوحدة و السببية

الطبيعة عند الماديين تتسم بالوحدة فهي نظام واحد صارم ، وفعلها متشابه لأنها واحدة في نفسها لا تفعل بإرادة ولا مشيئة فلا يمكن اختلاف أفعالها، ولا يوجد شيء متجاوز لها أو دونها أو وراءها ، و الطبيعة أيضا سببية فلكل ظاهرة سبب، وكل سبب يؤدي إلى نفس النتيجة في كل زمان ومكان مثلا الماء يغلي في كل الأماكن عند 100 درجة مئوية والتفاحة تسقط على الأرض ولن ترتفع إلى السماء في كل مكان ، ولا تكترث الطبيعة عندهم بالخصوصية ولا التفرد .

والإنسان يتميَّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها، فالأفراد ليسوا نسخاً متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعاً للقوالب التفسيرية نفسها ،و من المشاهد و الملاحظ تباين طباع الناس وأخلاقهم ، فلو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق فمن أين لها هذا الاختلاف ؟ وكيف تختلف أفعالها ؟! و لو كانت الطبيعة مصدر الأخلاق لكان الخلق متساوين في الأخلاق غير متفاوتين .

و الإنسان حر في اختياره قادر على اتخاذ قرارات أخلاقية وعلى تحمُّل المسئولية ومقاييس مثل الحرية والقدرة على الاختيار مقاييس تستند إلى الإيمان بوجود شيء ما غير مادي، شيء متجاوز المادة شيء متجاوز الطبيعة .

القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان ومسئوليته تجاه أفعاله

القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي إرادة الإنسان ؛ لأن الطبيعة تتسم بالحتمية فلا معنى لحرية الإرادة و الاختيار بل يصبح الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا تملك لنفسها تصريفاً ولا توجيهاً ،و الحرية ترتبط دائما بالمسئولية، فإن لم يكن الشخص حر الإرادة، فلا مسئولية عليه وبذلك يصبح القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة ملغيا لالتزام الأفراد ومسئولياتهم و إرادتهم و يهدم المسئولية الأخلاقية من أساسها ، و لا تستقيم أمور الدنيا علي ذلك ؛ لأن الإنسان لابد أن يحاسب بعمله، ويحاسب على تصرفاته والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل فهو قول فاسد لا اعتبار له .

و هل يمكن أنْ نكلّف شخصاً بأيّ تكليف، ونحمّله مسؤولية ذلك إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل؟ وكيف نمدح الناجح في عمله و نذم الفاشل إذا لم يكن له الخيار فيما يفعل ؟

و في عالم الحتمية لا معنى للخير و الشر ،ولا معنى للثواب والعقاب ولا معنى للمدح و الذم ،ويصبح الحديث عن القيم الأخلاقية العليا لغوا لا معنى له إذ كل شيء يجري وفق قوانين ثابتة لا يمكن أن يحيد عنها .


و في عالم الحتمية المحسن لا يكون مختاراً عندما يحسن، ولا المسيء يكون مختاراً عندما يسيء .

د.ربيع أحمد
03-10-2015, 05:10 PM
القول بأن مصدر الأخلاق هو الطبيعة يلغي دور الإنسان في التاريخ و الحضارة

إذا كان الإنسان يخضع لحتميات الطبيعة فلا إرادة عنده و لا عزيمة و لا اختيار و لا رغبة في التغيير و لا إرادة للتغيير مثله مثل أي كائن آخر في الطبيعة .

وأحد دعائم التاريخ و الحضارة العنصر البشري الذي مهمته التغيير و البناء و الابتكار و الإبداع و هذا يحتاج إرادة ذاتية وعزيمة داخلية تنبعث في نفس الإنسان تحثّه على التغيير و البناء و الابتكار و الإبداع ،ومن خلال العقل المدرك الذي وهبه الله للإنسان و العزيمة الداخلية و الإرادة الذاتية و الطاقات التي زوده بها يستطيع الإنسان أن يصنع تاريخه و حضارته على هذه الأرض .

و الواقع العملي أثبت الدور الإيجابي للإنسان في صنع التاريخ والحضارة لكن الماديين يريدون سلب هذا الدور من الإنسان و بذلك يلغون مصدر أصيل في إنشاء التاريخ إذ الحتمية تفترض أنه لا إرادة للإنسان ،وكأن الإنسان يشاهد حركة التاريخ و يرى ما يحدث له وللمجتمع دون أن يشارك فيه وهذا مخالف للواقع .





التفسير الدارويني لنشأة الأخلاق

فسر كثير من الملاحدة نشأة الأخلاق بالتطور الدارويني الذي آليته الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح فكل كائن حي يسعى من أجل بقائه، و ينتهي هذا السعي إلى التنازع من أجل البقاء، وهذا التنازع ينتهي إلى الانتخاب الطبيعي، وانتخاب الأصلح و عليه فأخلاق البشر تطورت تطورًا تدريجيًّا ثم استقرت تبعا لما يحقق للإنسان المصلحة والتفوق والانتخاب الطبيعيّ هو صاحب الكلمة الأخيرة في تقرير سلوك الإنسان ،و قد أنتج هذا الانتخاب عند الكائن البشريّ نوع من القاعدة الأخلاقيّة الكونيّة فالأخلاق ما هي تكيف بيولوجي تطوري لتنظيم عملية التكاثر الذي يخدم بقائنا والعملية البيولوجية هي معيار الأخلاقيات، وكل شيء يدعمها فهو خير، وكل شيء يعارضها فهو شر .

و زعم الدارونيين أن كل كائن حي يسعى من أجل بقائه، و ينتهي هذا السعي إلى التنازع من أجل البقاء، وهذا التنازع ينتهي إلى الانتخاب الطبيعي، وانتخاب الأصلح زعم باطل ورجم بالغيب فمن المشاهد و الملاحظ وجود تعاون بين الأنواع أكبر من التنازع، وهناك تلاقي و تعاون و تكامل بين الكائنات أقوى من الصراع ،وهذا الالتقاء والتعاون والتكامل هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء.

و قد شهد التاريخ ببطلان نظرية التنازع من أجل البقاء والبقاء للأصلح والأقوى فإذا نظرنا إلى تاريخ البشر نجد خلاف هذه النظرية فها هم أهل الكتاب يهود و نصارى عاشوا ضعاف في الدولة الإسلامية 12 قرنا ، ومازالوا باقين ،و هاهم المسلمون كانوا هم حاكمي البلاد و بالتالي هم الأقوياء و مع ذلك بقي أهل الكتاب في حكمهم و هاهم المسلمون كانوا في بداية الدعوة ضعفاء ثم قويت شوكتهم ،و هاهم النصارى كانوا ضعفاء في الدولة الرومانية ثم قويت شوكتهم ،و هاهم اليهود كانوا في بداية دعوة موسى عليه السلام ضعفاء ثم قويت شوكتهم .

و من المعلوم بالحس و المشاهدة أن أي دولة من الدول تجد فيها الضعيف و القوي و مع ذلك لم ينقرض الضعفاء و مازال الأقوياء موجودين .

و بالنسبة للحيوانات و الطيور و الأسماك و النباتات فليس هناك تنازع من أجل البقاء و لا بقاء للأقوى و الأصلح بل بقاء الحيوانات و الطيور و الأسماك و النباتات يرجع لعدم وجود عوامل الانقراض و التي من أهمها :
القطع الجائر للنباتات .
الصيد الجائر للحيوانات والطيور و الأسماك .
تعديل البيئة فتعديل البيئة يؤدي إلى إبادة كثير من الأنواع النباتية والحيوانية و العديد من الطيور .
تلوث البيئة ،وقد أهلكت الملوثات المائية من زيت البترول و العناصر الثقيلة و المبيدات العديدة من الطيور المائية و الأحياء البحرية الدقيقة و الأسماك التي تتغذى عليها .

و ترجع عوامل البقاء إلى توافر مقومات الحياة ،و عدم وجود عوامل الانقراض ،و لو كان البقاء للأقوى لما انقرضت الديناصورات و بقيت الحشرات .

ومن المعروف أن الكثير من الكائنات الحية لا تستطيع إنتاج غذائها بنفسها فتتغذى على غيرها ،وغيرها يتغذى عليها و هذا من التكامل بين الكائنات مثلا يأكل الأرنب الأعشاب و تأكل البومة الأرنب و تموت البومة فيأكلها الضبع و يموت الضبع فتتغذى عليه الكائنات المحللة أو قمح يأكله فأر و الفأر يأكله ثعبان و الثعبان يأكله نسر و النسر يموت فتتغذى عليه الكائنات المحللة و هكذا .

و الذكر القوي إذا تزوج بأنثى قوية لا يستلزم ذلك إنجاب ولد قوي فقد ينجبا ولدا ضعيفا حسب قوانيين الوراثة و كم رأينا من رجل جميل يتزوج بامرأة جميلة و ينجبا طفلا غير جميل و رأينا العكس أيضا .

و عقليا ومنطقيا البقاء عن طريق التعاون بين الإنسان والحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع .

و تفسير نشأة الأخلاق بالتطور الدارويني الذي آليته الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح تفسير لا يفرز إلا الوحشية والدناءة ، فالتطور الدارويني لا يُنتج إلا أمثال هتلر، والمجتمع الدارويني لا يكون إلا مجتمعاً فاشيا ينتشر فيه التعصب العنصري والتصفية العرقية .

و قد كان الفكر التطوري الدارويني سببا في نشأة اثنين من أسوأ النظم الاجتماعية والسياسية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي ،والنازية في ألمانيا ،وقد طبق الفكر السياسي الاستعماري هذه النظرية على الشعوب المستعمرة وجعلوا منها مبرراً لسيطرة المستعمرين .

و دارون يعتبر الأخلاق من نتائج الانتخاب الطبيعي في المجال السلوكي مثلها مثل أي صفات بيولوجية أخرى مثل منقار الطائر هل يوصف منقار الطائر بأنه خير أو شر ؟ إنه فقط مفيد للقيام بوظائفه لهذا الطائر بالتحديد تحت هذه الظروف في هذه الفترة من الزمن لذلك فاستخدمنا لاصطلاح جيد أو سيء يكون من منطق الفائدة المادية ،وليس القيمة الأخلاقية أي ليس هناك أخلاق فاضلة و أخرى شريرة ، ولكن هناك سلوكيات و مفاهيم تعين بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع من أجل البقاء .

و إذا كان الانتخاب الطبيعي مبني على تحقيق المنفعة الفردية حيث كلُّ فرد لا يهمه إلا نفسه في صراعه مع الآخرين من أجل البقاء، فهذا التفسير يلغي الأخلاق إذ من قوام الفضائل الأخلاقية التضحية و الإيثار و التعاطف مع الآخرين وفي التضحية يبذل الشخص النَّفس أو الوقت أو المال لأجل الآخرين دون مقابل منهم ، وفي الإيثار يقدم الإنسان حاجة الآخرين على حاجته، برغم احتياجه لما يبذله، فقد يجوع ليشبع غيره، ويعطش ليروي سواه و في التعاطف يضع الشخص نفسه محل الآخر ويتبنى مشاعره وأحاسيسه وآلامه ،وكل هذه السلوك الأخلاقية من منطلق مادي لا تخدم البقاء و ليس فيها تحقيق منفعة للفرد بل تحقق منفعة لغيره ولذلك هذه السلوك الأخلاقية تضع الانتخاب الطبيعي في مأزق .

والانتخاب الطبيعي يعجز عن تفسير وجود أخلاق حميدة تمارسها الكائنات تجاه كائنات من أنواع أخرى كالرفق بالحيوان و الشفقة على الحيوان فهذه السلوك الأخلاقية لا تخدم البقاء و ليس فيها تحقيق منفعة مادية للفرد .

و إذا كانت نشأة الأخلاق تفسر بالتطور الدارويني و الانتخاب الطبيعي فما المصلحة من وجود الأخلاق السيئة كالكذب و الغش و الغدر و الخيانة و القتل فهل مثل هذه الأخلاق تخدم البقاء أم تساعد على الفناء ؟!! والإنسان يقوى بإخوانه فهل قتل الناس بعضهم بعضا يخدم البقاء أم يساعد على الفناء ؟

و إذا كانت الأخلاق نشأة بآلية الصراع من أجل البقاء و البقاء للأصلح فلماذا يوجد الخلق و ضده فإما الخلق الحسن هو الذي يخدم البقاء فيصطفيه الانتخاب الطبيعي أو الخلق المذموم هو الذي يخدم البقاء فيصطفيه الانتخاب الطبيعي .

وحسب الانتخاب الطبيعي فأي شيء يحافظ على بقاء صور الحياة الأكثر تعقيداً والأفضل تكاملاً يوصف بالخير ، وما يعوق التطور الدارويني يعتبر شراً ولو تركنا قانون الغاب يعمل عمله بأن يبقى الأصلح وحده ، فإن سلوكنا عندئذ يكون صواباً لأن الاتجاه الرئيسي للتطور الدارويني يكون قد حقق الهدف منه ، ولكن لو تدخلنا في مسار التطور الدارويني بمعاونة الأضعف على البقاء ، فإن سلوكنا عندئذ يكون من الناحية الأخلاقية خاطئاً .

و في عالم دارون تصبح الدعوى إلى حماية الضعفاء والمرضى والمعاقين و الإشفاق عليهم والعناية بهم دعوى ضد الطبيعة ضد الانتخاب الطبيعي و البقاء للأصلح .

و في عالم دارون تصبح الدعوى إلى الإنفاق على الفقراء واليتامى والمساكين دعوى ضد الطبيعة ضد الانتخاب الطبيعي و البقاء للأصلح .
و في عالم دارون تصبح الدعوى إلى تحريم الزنا و زواج المحارم دعوى ضد الطبيعة و ضد الانتخاب الطبيعي .

و إنسان دارون إنسان الغاب لا مانع عنده أن تخونه زوجته أو يزني بمحارمه .

و الإنسان يمكن أن نسميه كائناً أخلاقياً بينما لا نسمى الحيوان كائناً أخلاقياً ، إذ لا معنى للحديث عن قيم خلقية وسلوك خلقي ومسئولية و جزاء في عالم الحيوانات فالأخلاق مرتبطة بالاختيار ، ويقوم الاختيار على الوعي بمبادئ وقواعد يتصرف الإنسان وفقاً لها ، ولا ترتبط هذه القواعد والمبادئ بالغريــزة والحاجة القريبة دائماً ، لكن سلوك الحيوان محدود بحاجاته القريبة فقط .

إن السلوكيات الأخلاقية وآدابها هي التي تميز سلوك الإنسان عن سلوك البهائم سواء في تحقيق حاجاته الطبيعية أو في علاقاته مع غيره من الكائنات الأخرى، فالآداب زينة الإنسان من حيث الجنس والأكل والشرب والنظافة، وتذوق السلوك الجميل وتمييزه عن السلوك القبيح، والبحث عن أفضل العلاقات وأحسنها في المعاشرة والمحادثة والتعاون والتآلف وتبادل المحبة والإكرام والإحسان والتراحم والتعاطف وغيرها ولهذا فالآداب الأخلاقية زينة الإنسان وحليته الجميلة، وبقدر ما يتحلى بها الإنسان يضفي على نفسه جمالا وبهاء، وقيمة إنسانية .

وإذا كانت الأخلاق التي يتحلى بها الجنس البشري يتحلى بها عن وعي كامل و قدرة على الاختيار ، ولا نجد في غيره من الكائنات مثل ذلك فلماذا حصل هذا التطور عند النوع الإنساني دون غيره ؟ أي إذا كان الإنسان على زعمهم يمثل امتدادا طبيعيا لمن سبقه في سلم التطور البيولوجي فلماذا خضع الإنسان للتطور في الأخلاق دون غيره ؟.

و الزعم بأن أخلاق البشر تطورت تطورًا تدريجيًّا يحتاج إلى دراسة تاريخية متعمقة تشمل الإنسان الأول إلى أن تصل للإنسان المعاصر ، وتسير الدراسة مع الإنسان سيراً متأنياً لتكشف عن سلوكه و أخلاقه خلال الظروف والأحوال التي تحيط به .

و لابد للدراسة أن تبين هل كانت هناك مؤثرات خارجية غيرت من سلوك الإنسان الأخلاقي أم لا ؟ والإنسان يتميَّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها، فالأفراد ليسوا نسخاً متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعاً للقوالب التفسيرية نفسها .

و يصعب إخضاع السلوك الإنساني الأخلاقي للتجربة ،والتأكد من صحة الفروض شرط أساسي من شروط المنهج العلمي فإن التجربة تقتضي قدرة الباحث على التحديد والضبط و التحكم في السلوك الإنساني الأخلاقي محل البحث وضبط كل المتغيرات المؤثرة فيه ،و لخصوصية السلوك الإنساني فهو أمر يصعب ضبطه ويستحيل أن يطلب الباحث من الإنسان تكرار السلوك الإنساني بهدف إجراء التجربة .
و لا يخضع الإنسان لمبدأ الحتمية التي تخضع لها الظواهر الطبيعية بل يخضع للأهواء و الميولات و التقلبات وهذه الأمور و غيرها تجعل القول بأن أخلاق البشر تطورت تطورًا تدريجيًّا تحكم علمي ومجازفة ورجم بالغيب .

و الزعم بأن الأخلاق تكيف بيولوجي تطوري لتنظيم عملية التكاثر الذي يخدم بقائنا يجعل الأخلاق نسبية غير مطلقة وتختفي مع النسبية أي معايير أخلاقية ، وبالتالي تلغى الأخلاق فقد يكون السلوك الأخلاقي محرماً عند شخص ولكنه محلل ‏عند شخص آخر ، وقد يكون السلوك محمودا عند شخص ولكنه مذموم عند شخص آخر ،وقد يكون الفعل من قبيل الرحمة عند شخص ،وعند شخص آخر من قبيل القسوة ،وهذا الكلام مخالف للواقع والتاريخ .

والخير خير عند الصالح والطالح والشر شر عند الصالح والطالح و هناك سلوكيات مستهجنة عند جميع المجتمعات كالسرقة و الكذب و الغدر و الخيانة و البخل وهناك سلوكيات مستحسنة عند جميع المجتمعات كالصدق و العدل والأمانة و الوفاء والكرم .

و ثبات الأخلاق يبعث الطمأنينة و السعادة في حياة الفرد، و المجتمع ،و لا تتأتى السعادة والأمن والاستقرار إذا لم يكن هناك أخلاق يمارسها الفرد ويتوقعها من الآخرين حوله .

و في عالم دارون عالم الغاب لا يأمنُ الناسُ على أنفسهِم ولا أموالهِم ولا أعراضهِم، وكفى بذلك سبباً في عدمِ الأمنِ والاستقرارِ، وانتشارِ الخوف، واضطراب حياةِ الناس .
و الزعم بأن الأخلاق تكيف بيولوجي تطوري يلغي التزام الأفراد ومسئولياتهم و إرادتهم و يهدم المسئولية الأخلاقية من أساسها فلا معنى للخير و الشر ،ولا معنى للثواب والعقاب ولا معنى للمدح و الذم .

و في الختام أهمس في أذن كل ملحد قائلا إذا كانت الأخلاق قد نشأت عن طريق التطور الدارويني و تنازع البقاء و انتخاب الأصلح – على حد زعمك - فمن الذي يصطفي هذا الخلق دون غيره ؟!!

والانتخاب الطبيعي ما هو إلا وصف لظاهرة ،وليس هو سبب الظاهرة فمن الذي ينتخب و يصطفي ويختار هل هو الطبيعة أم الانتخاب نفسه أم شيء غير الطبيعة و الانتخاب ؟!! إن قلت الطبيعة فهذا خطأ ؛ لأن الطبيعة لا إرادة لها ولا اختيار ،وإن قلت الانتخاب نفسه فهذا خطأ ؛ لأن الانتخاب حدث و الحدث لابد له من محدِث فيتعين أن هناك شيء غير الطبيعة هو الذي يصطفي و يختار فأنت من هذا المنطلق تثبت شيء غير الطبيعة و المادة ،وهذا يخالف ويناقض اعتقادك .

و إني أسأل كل من يدعي أن الطبيعة مصدر الأخلاق : كيف عرفت أن الطبيعة هي مصدر أخلاقك ؟ هل أعلمتك ذلك أم رأيتها تعطيك الأخلاق أم ماذا ؟

هذا و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات


مراجع المقال :
التعريفات للجرجاني
الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان للدكتور عبد الوهاب المسيري
خرافة الإلحاد للدكتور عمرو شريف
علم النفس الإسلامي العام والتربوي للدكتور محمد رشاد خليل
علم الأخلاق الإسلامية لمقداد يالجن
موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز
موسوعة الفلسفة للدكتور عبد الرحمن بدوي
موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري

د.ربيع أحمد
03-10-2015, 05:17 PM
تحميل الملحد ودعواه أن الأخلاق مصدرها الطبيعة من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=2146024#post2146024)أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/83606/)

د.ربيع أحمد
03-12-2015, 04:48 PM
الملحد ودعواه نسبية الأخلاق


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله دعوى يرددها الكثير من الملاحدة واللادينين ألا وهي نسبية الأخلاق و حسب كلامهم أن الأخلاق أمور اعتبارية نسبية لا ثبات لها فهي تختلف من شعب إلى شعب، ومن أمة إلى أمة، ومن زمان إلى زمان... فبعض الأمور تعتبر منافية لمكارم الأخلاق عند شعب من الشعوب أو أمة من الأمم في حين أنها غير منافية لمكارم الأخلاق عند شعب آخر أو أمة أخرى، وبعض الأمور كانت في زمان مضى أموراً منافية لمكارم الأخلاق، ثم صارت بعد ذلك أموراً غير منافية لها؛ وهذا يدل على أن الأخلاق مفاهيم اعتبارية تتواضع عليها الأمم والشعوب، وليس لها ثبات في حقيقتها، وليس لمقاييسها ثبات.

و يقول بعض الملاحدة واللادينين : من المستحيل أن تعمم على جميع البشر .. نعم قد يتفق مجموعة من الأشخاص على مفاهيم أخلاقية معينة ولكن هذا لا يعني أن التعميم في الأخلاق مستساغ من قبل جميع الناس ؛ لأنه بكل بساطة عادات الناس وطبائعهم مختلفة بعضها عن بعض... فماذا نقول عن بعض المجتمعات التي من عادتها في استقبال الضيوف جلوس الضيف على حضن المستضيف كنوع من التكريم أو التعبير عن المحبة ونجد أن هناك عادات غربية قد يستهجنها الشرقيين وهذا أمر طبيعي ونستطيع أن نطلق إذا صفة النسبية على الأخلاق.

ويقول بعضهم : كل الأخلاق أخلاق نسبية قد تكون صحيحة هنا و خطأ هناك .

و يقول بعضهم : الأخلاق مبنية على المنفعة ،ومنفعة الإنسان هي بالطبع السعادة أو البعد عن الألم علي أقل تقدير. و لهذه السعادة متطلبات تختلف من مجتمع لأخر بناءا علي اختلاف الاحتياجات و الخبرات و الثقافات و بالتالي تصبح الأخلاق علي إطلاقها نسبية و لكن بدور في غاية الأهمية ؛ لأنها تضع القوانين التي يستطيع أفراد المجتمع أن يحققوا بها سعادتهم من خلال البناء الاجتماعي و بدون القلق من تعرض أمانهم للاعتداء من الآخرين ... و من هنا تتطور الأخلاق, فكل ما يهدم هذا البناء الاجتماعي و يجعل الفرد في حالة انعدام للأمان هو لا أخلاقي ؛ لأنه يعود بالإنسان ( و لو في لحظة) لحالة العشوائية و قانون الغاب الذي هجره الإنسان ليصل إلي ما هو أفضل منذ أزمان بعيدة .
ويقول بعضهم: لما كان لكل ثقافة معاييرها الخاصة بها فإن المرغوب فيه يختلف تبعا لذلك من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من ثقافة إلى ثقافة .

ويقول بعضهم: المبادئ الأخلاقية نسبية ومتغيرة ومتطورة؛ لأنها ترتبط بعجلة التطور الاجتماعي، وتخضع لتأثير العوامل الاقتصادية والدينية والثقافية والتاريخية، وهذه كلها متطورة ومتغيرة من عصر إلى عصر، وعليه تتطور الأخلاق بتطور هذه المؤثرات.

ويقول بعضهم: إن الخير والشر والمرغوب فيه أو غير مرغوب فيه هو ما تقرر الثقافة (والثقافة وحدها هي الحكم) أنه كذلك، فالحرب، والأخذ بالثأر، وقتل أسرى الحرب، واحتكار الأقلية لأرض، والديكتاتورية، كل هذه أمور تكون مرغوبا فيها وذات قيمة إذا قررت الثقافة ذلك، فالقيم إذن نسبية إلى طبيعة الإنسان، كما تتضح هذه الطبيعة في فعله وتفاعله الاجتماعي والثقافي .

وقبل الرد على هذه الدعاوي لابد من بيان مفهوم الأخلاق ،ومفهوم النسبية الأخلاقية .

د.ربيع أحمد
03-12-2015, 04:51 PM
مفهوم الأخلاق

الأخلاق مفرد كلمة خلق ،و الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه .

والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسن عن الغريزة فالأكل مثلا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة وليس مما يمدح به أو يذم. لكن لو أنَّ إنسانَا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة. كذلك فإن مسألة حبّ البقاء ليست محلًا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهور، فهو أثر لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة .

وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم .


و الخُلُق منه ما هو طبيعي أي فطري يولد الإنسان مجبولا عليه كالحلم والتؤدة والحياء ، ومنه ما هو مكتسب ينشأ من التعود والتدرب والبيئة كالشجاعة والكرم .























مفهوم نسبية الأخلاق

نسبية الأخلاق تعني أن الأخلاق تتغير بتغير الزمان والمكان و الثقافة و الأشخاص والمجتمع فلا توجد أخلاق مطلقة، وعليه ليس هناك صواب وخطأ أخلاقي فقد يكون السلوك الأخلاقي محرماً عند شخص ولكنه محلل ‏عند شخص آخر ، وقد يكون السلوك محمودا عند شخص ولكنه مذموم عند شخص آخر ،وقد يكون الفعل من قبيل الرحمة عند شخص ،وعند شخص آخر من قبيل القسوة ،وقد يكون السلوك محمودا في مجتمع ولكنه مذموم في مجتمع آخر .











مخالفة القول بنسبية الأخلاق للواقع

إن القول بنسبية الأخلاق يخالف الواقع إذ توجد مجموعة من الأخلاق تفرض نفسها على الجميع فرضا فيوجد سلوكيات مستهجنة عند جميع المجتمعات كالسرقة و الكذب و الغدر و الخيانة و البخل ويوجد سلوكيات مستحسنة عند جميع المجتمعات كالصدق و العدل والأمانة و الوفاء والكرم .

ومن المستحيل أن يكون الصدق فضيلة عند مجتمع معين و يكون رذيلة عند مجتمع آخر ،ومن المستحيل أن يكون العدل فضيلة عند مجتمع معين و يكون رذيلة عند مجتمع آخر ،ومن المستحيل أن يكون الوفاء فضيلة عند مجتمع معين و يكون رذيلة عند مجتمع آخر ،ومن المستحيل أن يكون الصدق فضيلة في زمن معين و يكون رذيلة في زمن آخر.








مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر
مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر فليس لدينا مقياس نفرق به بين الخير والشر ،و ليس لدينا معيار نحكم به أن هذا الخلق خير و هذا الخلق شر ،و ليس لدينا قيم أخلاقية ثابتة مطلقة يمكن أن نحتكم إليها ،و تجعل بوسعنا الحكم والتمييز بين ما هو خير من الخلق و ما هو شر ، و إذا كان مع القول بنسبية الأخلاق لا يمكن التمييز بين الخير والشر ،وهذا أمر باطل فالقول بنسبية الأخلاق قول باطل ؛ لأن ما يلزم منه اللازم الباطل فهو باطل لا اعتبار له .

و نحن في الكثير من الأحيان نستطيع التّمييز بسهولة بين ما هو خير وما هو شرّ، و إن كان في أحيان أخرى لمؤثرات معينة قد يلتبس علينا الأمر فنظن أن الشيء فيه خيرًا وهو شر، أو نظن أن الشيء فيه شرا وهو خير ،و تمييزنا في كثير من الأحيان بين ما هو خير وما هو شر يدل أن لدينا معايير نحكم بها على أن هذا الخلق خير و هذا الخلق شر ،وهذا يناقض القول بنسبية الأخلاق .

و من مساوئ القول بالنسبية الأخلاقية أنها تساوي بين قتل عشرات الناس و بين إطعام عشرات الناس فعلى النسبية الأخلاقية قتل عشرات الناس لا خير فيه و لا شر ، وإطعام عشرات الناس لا خير فيه و لا شر .

و من مساوئ القول بالنسبية الأخلاقية أنها تساوي بين اغتصاب فتاة و بين إنقاذ فتاة من خطر معين فعلى النسبية الأخلاقية اغتصاب فتاة لا خير فيه و لا شر ، وإنقاذ فتاة من خطر معين لا خير فيه و لا شر .
مع القول بنسبية الأخلاق تلغى الأخلاق

مع القول بنسبية الأخلاق تلغى الأخلاق فما هو حسن عند شخص يكون قبيحا عند آخر ، و ما هو مستحسن في مجتمع يكون مستقبحا في مجتمع آخر ،وما هو خلق رفيع في زمان يكون خلقا وضيعا في زمان آخر وبالتالي تختفي مع النسبية أي معايير أخلاقية ؛ لأن المبدأ ‏الذي تستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقود ،وعليه فالدعوة إلى النسبية الأخلاقية دعوة إلى التحرر من القيم الأخلاقية ودعوة إلى إلغاء القيم الأخلاقية .

وكيف نحكم على سلوك أنه موافق للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟

وكيف نحكم على سلوك أنه مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟

وكيف نحكم أن القتل مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟ وكيف نحكم أن الغدر مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟ وكيف نحكم أن الظلم مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟ وكيف نحكم أن الغش مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟ وكيف نحكم أن الاغتصاب مخالف للأخلاق إذ لم يكن لدينا أخلاق مطلقة نحتكم إليها ؟

القول بنسبية الأخلاق يهدم المسئولية الأخلاقية

لو كانت الأخلاق نسبية فستفقد قوتها الإلزامية إذ لا معنى للخير و الشر ،ولا معنى للثواب والعقاب ولا معنى للمدح و الذم في وجود النسبية الأخلاقية ، وكيف يلتزم الإنسان بقيم خلقية يؤمن بأنها متغيرة و نسبية ؟ وكيف يشين المجتمع سلوكا معينا لشخص إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف يشيد المجتمع بسلوك معين لشخص إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وعليه فالقول بنسبية الأخلاق يفقد الأخلاق قوتها الإلزامية وبالتالي يهدم و ينكر مسئولية الفرد الأخلاقية ،و إنكار مسئولية الفرد الأخلاقية مخالف للواقع .

وكيف للناس تجريم القتل إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تجريم الاغتصاب إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تجريم الغش إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟

وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص الأمين إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص الشجاع إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص المصلح إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص المخلص إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟ وكيف للناس تكريم أو مدح الشخص الشهم إذ لم يكن لديهم أخلاق مطلقة يحتكمون إليها ؟

ولو كانت الأخلاق نسبية لما جرم القاتل إذ له أن يحتج بأنه تصرف وفق رأيه الشخصي ومعاييره الخاصة التي يراها صحيحة ، ولو كانت الأخلاق نسبية لما جرم المغتصب إذ له أن يحتج بأنه تصرف وفق رأيه الشخصي ومعاييره الخاصة التي يراها صحيحة ، ولو كانت الأخلاق نسبية لما وجد الكثير من الناس حرجا في التحلي برذائل الأخلاق ،و من هنا ندرك أن الدعوة إلى نسبية الأخلاق دعوة إلى الانحراف الأخلاقي ،ودعوة إلى اقتراف الجرائم و الأخلاق المشينة إذ مع نسبية الأخلاق لا معنى للعقاب و لا معنى للذم و لا معنى للتجريم .

د.ربيع أحمد
03-12-2015, 04:53 PM
الناس أنفسهم يعملون بخلاف القول بنسبية الأخلاق

الناس أنفسهم يعملون بخلاف القول بنسبية الأخلاق فتجد الواحد من الناس يحكم على بعض السلوكيات أنها منافية للأخلاق مثل زنا المحارم و السباب و الفساد في الأرض مما يدل على وجود قيم أخلاقية مطلقة ،ومن خلال مطلقيتها حكم الشخص على بعض السلوكيات أنها منافية للأخلاق .

والواحد من الناس يحكم على بعض سلوكيات الأفراد أنها حميدة مثل الشجاعة والشهامة والكرم مما يدل على وجود قيم أخلاقية مطلقة ،ومن خلال مطلقيتها حكم الشخص على بعض السلوكيات أنها حميدة .

وهناك سلوكيات كالبخل و الجشع و السباب يذمها جميع الناس إلا النذر اليسير مما يدل على وجود قيم أخلاقية مطلقة ،ومن خلال مطلقيتها حكم الشخص على بعض السلوكيات أنها مذمومة .

و الناس تمدح الشخص ذي الأخلاق الحسنة وتذم الشخص ذي الأخلاق السيئة ،ولو كانت الأخلاق نسبية لما كان للمدح أو الذم معنى .

وأي دولة من الدول تجرم بعض السلوكيات من الأفراد ،وتعاقب على فعل بعض السلوكيات و أي مجتمع من المجتمعات يجرم بعض السلوكيات من الأفراد ، ويعاقب على فعل بعض السلوكيات مثل الخيانة والاعتداء والفساد ولو كانت الأخلاق نسبية لما كان للتجريم أو العقاب معنى .
بعض ملامح المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق

المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع لا يأمنُ الناسُ فيه على أنفسهِم ولا أموالهِم ولا أعراضهِم، وكفى بذلك سبباً في عدمِ الأمنِ والاستقرارِ، وانتشارِ الخوف، واضطراب حياةِ الناس إذ كل شخص يفعل ما يريد وفق رأيه الشخصي ومعاييره الخاصة التي يراها صحيحة .

المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع لا سعادة فيه ولا أمن ولا استقرار إذ كيف تتأتى السعادة وكيف يأتي الأمن والاستقرار إذا لم يكن هناك أخلاق حميدة يمارسها الفرد ويتوقعها من الآخرين حوله ؟!!.

المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع لا يشجع على فضيلة ،ولا يُبَغِض في رذيلة فيقل فيه فعل الفضائل و يكثر فيه فعل الرذائل .

المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع لا قيمة فيه للعفة و الطهر فيكثر فيه الزنا وإتيان الفواحش .

المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع يصبح الإنسان فيه كالحيوان فكما أن سلوكيات الحيوان لا تمدح و لا تذم فكذلك إنسان المجتمع النسبي الأخلاق سلوكياته لا تمدح و لا تذم .

المجتمع الذي يسود فيه اعتقاد نسبية الأخلاق مجتمع ضعيف مفكك لكثرة النزاع والصراع فيه و لا وجود لقيم ثابتة يحتكم إليها الناس فتفض النزاع .















القائل بنسبية الأخلاق يناقض نفسه

نجد الكثير من القائلين بنسبية الأخلاق يناقضون أنفسهم فمنهم من يستقبح الظلم و يستحسن العدل و يحب الخير و يكره الشر ،وهذا يخالف مذهبه بنسبية الأخلاق إذ استقباح الظلم و استحسان العدل وحب الخير وكراهة الشر دليل على وجود أخلاق مطلقة .

ومنهم – إن لم نقل كلهم - من يقابل الظلم في حقه بالانتقام فلما يقابل الظلم في حقه بالانتقام ،والظلم عنده نسبي فما يراه ظلما قد يراه غيره عدلا ؟!!

ومنهم– إن لم نقل كلهم - من يعاقب ابنه على فعل سلوك غير أخلاقي كالكذب ،ويمدح ابنه على فعل سلوك أخلاقي كالصدق فلما يعاقب ابنه على الكذب و يمدح ابنه على الصدق ولا معنى للعقاب ولا معنى للمدح في إطار نسبية الأخلاق .






المغالطات التي لجأ إليها الملاحدة و غيرهم من المضللين لتسويغ القول بنسبية الأخلاق

بعد أن بينا أن القول بنسبية الأخلاق قول باطل يخالف الواقع ،ويستلزم لوازم باطلة ويعمل الناس بخلافه حتى من يعتقد به قد لا يعمل به حري بنا أن نبين المغالطات التي لجأ إليها الملاحدة وغيرهم إلى تسويغ القول بنسبية الأخلاق من كلام الشيخ عبد الرحمن الميداني – رحمه الله – فقد بين و أجاد و أفاد ،وذكر أن المغالطات التي لجأ إليها الملاحدة وغيرهم إلى تسويغ القول بنسبية الأخلاق كالتالي:
مدُّ عُنوان الأخلاق مداً يشمل التقاليد والعادات والآداب، وبعض الأحكام الدينية التي لا علاقة لها بموضوع الأخلاق من حيث ذاتها.
مفاهيم بعض الناس للأخلاق ولأسسها، مع أنها مفاهيم غير صحيحة.
اضطراب الفكر الفلسفي في تحديد المبادئ التي يرجع إليها الأخلاق، كالقوة، والمنفعة، واللذة، وغيرها.

ومن التعميم الفاسد الذي يطلقونه ويقررونه، ومن مفاهيم بعض الناس غير الصحيحة للأخلاق، ومن اضطراب الفكر الفلسفي في تحديده للمبادئ التي ترجع إليها الأخلاق، يجد المضلون أمامهم مجالاً مُهَيّأً لاستغلال أمثلة تدخل في هذه الأُطر العامة الموسّعة بالباطل، وهذه الأمثلة تخضع للتغيّر والتبدّل، ولا تظهر فيها قِيمٌ خلقية ثابتة، لأنها في الحقيقة ليست من الأخلاق، وإنما دُسَّت في الأخلاق تزييفاً لنقض الأخلاق بها.
و اللعبة تتم على الوجه التالي: هذه أمثلة من مفردات الأخلاق التي يؤمن بها الأخلاقيون.
هذه الأمثلة تخضع للتغيّر والتبدّل، فليس لها قيم ثابتة.
إذن فالأخلاق كلها أمور ذات مفاهيم متغيرة متبدلة.
إذن فالأخلاق كلها ليس لها قيم ثابتة.
إذن فالأخلاق أمور اعتبارية، أو نسبية.
وبلعبة المغالطة هذه يسهل على مدمري الأخلاق في المجتمعات الإنسانية، إفساد الأجيال، حتى تتمرد على جميع الضوابط الخلقية، التي تُمثّل في الأمم قوى مترابطة وتماسكها، وعناصر الدفع لارتقائها الإنساني، وشروط المحافظة على أمجادها الموروثة والمتجددة بأعمالها.


شرح وتحليل :

منشأ المشكلة يرجع إلى الخطأ في تحديد مفهوم الأخلاق، وتحديد دوافعها وغاياتها، وتحديد مستوياتها، من قِبَل كثير من الناس، وفيهم كثير من الباحثين في علم الأخلاق، من فلاسفة ومفكرين.
وهذا هو الذي يفتح الثغرة الفكرية التي يعبُر منها الخبثاء الماكرون، ليهدموا الأبنية الأخلاقية الحصينة التي تتمتع بها الشعوب العريقة بأمجادها، لا سيما المسلمون الذين سبق أن رفعتهم الأخلاق العظيمة إلى قمة مجد لم يطاولهم فيها أحد.

وحين يتبصر الباحث بالأسس الأخلاقية، التي تم فيها تحديد مستوياتها، وفق المفاهيم المقتبسة من التعاليم الإسلامية، يتبين له بوضوح تساقط أقوال الذين يزعمون أن الأخلاق اعتبارية أو نسبية، وأنها من الأمور التي تتواضع عليها الأمم، وأنها ليست ذات قيم حقيقية، أو حقائق ثابتة .


فالباحث المتحري للحقيقة يستطيع أن يكتشف بسرعة عناصر المغالطة التي يصطنعها هؤلاء المضللون، إذ يأتون بأمثلة جزئية يزعمون أنها من الأخلاق، ثمّ يثبتون أنها أمور اعتبارية أو نسبية تتواضع عليها الأمم، وليس لها حقائق ثابتة في ذاتها، ثمّ ينقضون بها ثبات الأخلاق نقضاً كلياً، بطريقة تعميمية لا يقبل بها العلم، حتى على افتراض أن هذه الأمثلة هي من الأخلاق فعلاً، لأنه لا يجوز علميّاً الحكمُ على النوع كله من خلال الحكم على بعض أفراه، ما لم يثبت أن سائر الأفراد مشتركة بمثل الصفة التي كانت علة صدور الحكم على بعض الأفراد .


إن مغالطتهم هذه تشبه مغالطة من يأتي بمجموعة من القرود، ويلبسها لباس بني آدم، ويدخلها بين مجموعاتهم ثمّ يقول: إن الناس جميعهم لهم صفات القرود، بدليل أن هذا الإنسان - ويشير إلى بعض قروده - له صفات القرود، بدليل أن هذا الإنسان - ويشير إلى فرد آخر من هذه المجموعة المزيفة- له صفات القرود. وهكذا يأتي بأمثلة متعددة من هذا العنصر الدخيل، ثمّ يصدر حكمه التعميمي في مغالطة أخرى، فيقول: ومن هذا يتبين لنا أن جميع الناس لهم صفات القرود.


إن هذه العملية قد تضمنت مغالطة مركبة تمت على مرحلتين:
المرحلة الأولى: إدخال عنصر ليس من البشر تحت عنوان البشر.
المرحلة الثانية: تعميم الحكم الذي يَصدر على هذا العنصر الدخيل، وجعله شاملاً للناس جميعاً.


وهذا مثال مطابق تماماً لمغالطتهم في موضوع الأخلاق، فهي أيضاً تشتمل على إدخال ما ليس من أفراد الأخلاق تحت عنوان الأخلاق، ثمّ تعميمهم حكمهم على هذه الأفراد الدخيلة، وجعله شاملاً لجميع أفراد الأخلاق الحقيقية .

نماذج من الأمثلة التي يدخلونها في الأخلاق وهي ليست منها :

فمن الأمثلة الجزئية التي يدخلونها في الأخلاق وليست منها، وغرضهم من ذلك التمهيد لنقض الأخلاق بها، ما يلي:
1- يقولون: إن أكل لحم الميتة أمر لا يعتبر منافياً للأخلاق عند بعض القبائل، بينما يعتبر منافياً للأخلاق عند الذين لا يأكلون لحم الميتة، حتى حين تأكل بعض القبائل موتاها من الناس فإن لها في ذلك مبرراتها الاقتصادية، إذ ترى أن انتفاعها بلحوم موتاها خير من تركها للدود، وخير من دفنها في التراب، وتركها تتعفن وتتفسخ وتتحلل.

وهذا يدل على أن الأخلاق أمور اعتبارية ونسبية، وليس لها قيم حقيقية ثابتة، وهي قابلة للتغير والتبدل من زمان إلى زمان، ومن أمة إلى أمة.

2- ويقولون: إن بعض الأمم تحرم شرب بعض أنواع من الأشربة، كالخمور، وتعتبر شربها عملاً منافياً للأخلاق، بينما ترى أمم أخرى أنه لا شيء في شربها.

3- ويقولون: إن بروز المرأة بزينتها، وتعريها من ثيابها، وعرضها مفاتنها للرجال الأجانب، أمرٌ لا يعتبر منافياً للأخلاق عند كثير من الشعوب، بينما يعتبر عند شعوب أخرى من الرذائل الخلقية.

ويأتون بمثال تعدد الزوجات وإباحته عند أمة وتحريمه عند أمة أخرى.

4- ويقولون: إن دعم مراعاة الأنظمة المتبعة في الطعام والشراب واللباس عند بعض الأمم، يعتبر من الأمور المستنكرة جداً، والمنافية للأخلاق، بينما ترى أمم أخرى خلاف ذلك، إذ ترى أن ترك الإنسان حراً يتصرف كما يحلو له في طعامه وشرابه ولباسه هو الفضيلة الخلقية.

ويأتون بأمثلة الطقوس في البلاد الأقيانوسية، ومنها تحريمهم الطعام تحت سقف، والمكث في المسكن إذا كان الإنسان مريضاً، وتحريمهم استعمال الأيدي في تناول الطعام بعد فراغ الإنسان من حلق شعره، أو بعد فراغه من صنع زورق، وهكذا يوردون أمثلة هي من العادات والتقاليد الاجتماعية، أو من الظواهر الجمالية، أو من الأحكام الدينية لدين صحيح أو لدين وضعي من وضع البشر.

قالوا: وكل هذا يدل على أن الأخلاق أمور اعتبارية ونسبية، وليست لها قيم حقيقية مطلقة ثابتة، وهي قابلة للتغير والتبدل من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى، ومن أمة إلى أمة أخرى.

وحين يورد المضلون مثل هذه الأمثلة الجزئية، لا يعرجون على أخلاق الصدق، والعدل، والأمانة، والوفاء بالعهد والوعد، والكرم، والشجاعة وأمثالها، ولا يذكرون الرذائل الخلقية المضادة لها، كالكذب، والجور، والظلم، والخيانة، والغدر، والشح، والجبن في المواطن التي تحسن فيها الشجاعة، وأمثالها.


المناقشة:

لدى تحليل الأمثلة التي يذكرونها لنقض الأخلاق بها، يلاحظ الباحث الفاحص أنها ليست في الحقيقة من فروع الأخلاق، وإنما ترجع إلى أصول أخرى.

فالمنع من أكل لحم الميتة مثلاً، أو شرب الخمور يرجع إلى أنه حكم دينيٌّ، لابتلاء إرادة الإنسان في الحياة الدنيا، وهو من ناحية أخرى حكم تقتضيه موجبات الحماية الصحية.

فإدخاله في الأخلاق، وإرجاعه إلى أصولها، واعتباره من مفرداتها، غلطٌ فكري، أو مغالطة وتزييف.

وحجاب المرأة وإلزامها بالحشمة، وعدم عرض زينتها ومفاتن جسمها للرجال الأجانب، حكم ديني لابتلاء إرادة الإنسان في الحياة الدنيا، وهو أيضاً أمر اقتضته قاعدة سد الذرائع، فهو يساعد على درء الفتنة، وحماية المجتمع من أن تنتشر فيه الفاحشة، التي يتولد عن انتشارها اختلاط الأنساب، وتفكك الأسر، وانهيار المجتمعات.

فإدخال هذا الموضوع في الأخلاق، وإرجاعه إلى أصولها، واعتباره من مفرداتها، غلطٌ فكري، أو مغالطة وتزييف.

وتعدد الزوجات حكم ديني روعيت فيه مصالح إنسانية لا دخل له في الأخلاق .

ومراعاة الأنظمة المتبعة عند بعض الأمم في الطعام والشراب واللباس، أمرٌ من الآداب الجمالية الحضارية لديهم، وليس فرعاً من فروع الأخلاق.

فإدخاله في الأخلاق، وإرجاعه إلى أصولها، واعتباره من مفرداتها، غلط فكري، أو مغالطة وتزييف.

أليس عجيباً أن يدخلوا مثل هذه الأمثلة في باب الأخلاق مع أنها في جوهرها من أبواب غير باب الأخلاق، فهي إما أحكام دينية، أو طقوس وعادات وتقاليد؟! وإدخالها في باب الأخلاق مغالطة.

ولستر مغالطتهم التي يدخلون بها في الأخلاق ما ليس منها، تمهيداً لنسف الأخلاق من جذورها، يعتمدون على مفاهيم بعض الناس الخاطئة للأخلاق، إذ يعتبرون أن هذه المفاهيم جزء من حقيقة الأخلاق.

مع أن مفاهيم الناس قد تصدق وقد تكذب، فهي لا تمثل جزءاً من حقيقة الشيء الذي هو موضوع البحث، وإنما تمثل مقدار إدراك أصحابها لحقيقة الشيء، وهذا الإدراك قد يكون مطابقاً لحقيقة الشيء، وقد يكون مخالفاً لها، وقد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، وهو لا يؤثر بحالٍ من الأحوال على حقيقة الشيء.

لقد كان للفلاسفة القدماء مفاهيم عن السماء، وهذه المفاهيم مخالفة لواقع حال السماء، ومع ذلك فإن أي ذي عقل سليم لا يقبل اعتبار هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة السماء.
وللناس مفاهيم كثيرة باطلة عن الخالق، ولا يجوز مطلقاً أن تكون هذه المفاهيم جزءاً من حقيقة الخالق.

وينكر كروية الأرض منكرون، ولكن مفاهيمهم هذه لا يمكن أن تجعل الأرض في واقع حالها غير كروية.

على مثل هذا الغلط الفكري يدخل كثير من الناس في الأخلاق ما هو ليس من الأخلاق، كتقاليد، وعادات، وأحكام وضعية، ليس لها أسس ولا جذور تجعلها نابعة من الأسس الخلقية، أو منبثقة عنها.

كذلك يجحد كثير من الناس بعض ما هو من الأخلاق فعلاً، فيزعم أنه لا داعي للتقيد بقواعد الأخلاق فيها.

فهل يؤثر هؤلاء أو هؤلاء على الحقيقة المطلقة للأخلاق؟!.

إن مفاهيم الناس ليست هي التي تصنع الحقائق، بل وظيفتها أن تعمل على إدراك الحقائق، حتى تكون صورة الحقائق فيها مطابقة لما هي عليه في الواقع.

وما قيمة مفاهيم الناس حول حقيقة من الحقائق، ولنفرض أن بعض الناس استحسنوا رذائل الأخلاق، ولم يجدوا أي رادع من ضمائرهم يردعهم عنها، فمارسوا الظلم بمثل الجرأة التي يمارسون بها العدل، ومارسوا الخيانة بمثل الجرأة التي يمارسونها بها الأمانة، ومارسوا قسوة القلب بمثل الجرأة التي يمارسون بها الشفقة والرمة، ومارسوا الكذب الضار بمثل الجرأة التي يمارسون بها الصدق النافع، أفيغير ذلك واقع حال الرذائل فيجعلها من قبيل الفضائل؟!.

كم نشاهد من شعوب تألف القذارات، وتعيش فيها، ولا تشعر بأنها تعمل عملاً غير مستحسن أو غير جميل، فهل تغير مفاهيمهم من واقع حال القذارة القبيح شيئاً؟!.

إن فساد مفاهيم الناس حول حقيقة من حقائق المعرفة لا يغير من واقع حال هذه الحقيقة شيئاً، وجميع حقائق المعرفة تتعرض لمشكلة فساد مفاهيم الناس عنها، وفساد تصور الناس لها.

ويوجد سبب آخر للخطأ الذي يقع فيه الباحثون في علم الأخلاق، هو اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلها المقياس الوحيد الذي تقاس به الأخلاق، ونسبوا إلى هذا المقياس العصمة عن الخطأ مع أنه مقياس غير كافٍ وحده، فقد يخطئ، وقد يُصابُ عند بعض الناس بعلةٍ من العلل المرَضِيَّة، فيعشى أو يعمى، أو تختلُّ عنده الرؤية، فيصدّر أحكاماً فاسدة .


تلخيص لأسباب الغلط أو المغالطة:

مما سبق يتضح أن أسباب الغلط أو المغالطة عند القائلين بأن الأخلاق اعتبارية أو نسبية، وليس لها ثبات ولا قيمٌ حقيقية مطلقة، ترجع إلى ثلاثة أمور:

الأمر الأول: تعميم اسم الأخلاق على أنواع كثيرة من السلوك الإنساني، فلم يميّزوا الظواهر الخلقية، عن الظواهر الجمالية والأدبية، وعن العادات والتقاليد الاجتماعية، وعن التعاليم والأحكام المدنية أو الدينية البحتة، فحشروا مفردات كل هذه الأمور تحت عنوان الأخلاق، فأفضى ذلك بهم إلى الخطأ الأكبر، وهو حكمهم على الأخلاق بأنها أمور اعتبارية أو نسبية.

الأمر الثاني: أنهم جعلوا مفاهيم الناس عن الأخلاق مصدراً يرجع إليه في الحكم الأخلاقي، مع أن في كثير من هذه المفاهيم أخطاءً فادحة، وفساداً كبيراً، يرجع إلى تحكم الأهواء والشهوات والعادات والتقاليد فيها، ويرجع أيضاً إلى أمور أخرى غير ذلك.

والتحري العلمي يطالب الباحثين بأن يتتبعوا جوهر الحقيقة، حيث توجد الحقيقة، لا أن يحكموا عليها من خلال وجهة نظر الناس إليها، فكل الحقائق عرضة لأن يثبتها مثبتون , وينكرها منكرون، ويتشكك فيها متشككون، ويتلاعب بها متلاعبون، ومع ذلك تبقى على ثباتها، لا تؤثر عليها آراء الناس فيها.

الأمر الثالث: اعتمادهم على أفكارهم وضمائرهم فقط، وجعلها المقياس الوحيد الذي تقاس به الأخلاق، مع أن هذه عرضة للصواب والخطأ .

د.ربيع أحمد
03-12-2015, 04:57 PM
نظرات في كلام بعض الملاحدة

يقول بعضهم : ( من المستحيل أن تعمم الأخلاق على جميع البشر .. نعم قد يتفق مجموعة من الأشخاص على مفاهيم أخلاقية معينة ولكن هذا لا يعني أن التعميم في الأخلاق مستساغ من قبل جميع الناس ؛ لأنه بكل بساطة عادات الناس وطبائعهم مختلفة بعضها عن بعض ) ،وهذا الكلام باطل إذ المستحيل خلافه فمن المستحيل ألا تعمم الأخلاق على جميع البشر ،ويوجد الكثير من الأخلاق المطلقة التي لا تتغير من أمة لأمة و لا من زمن لزمن كفضيلة الصدق و الوفاء والعدل و الأمانة فكل الأمم تحب مثل هذه الأخلاق و تستحسنها و يوجد خلق أخرى تستقبحها و تكرهها جميع الأمم كالغدر والخيانة و الكذب .

والاستدلال بتغير عادات الناس وطبائعهم استدلال في غير محل النزاع فليست العادات والطباع من قبيل الأخلاق فالعادات من اسمها أمور تعود الناس على عملها أو القيام بها أو الاتصاف بها ، وتكرَّرَ عملها حتى أصبحت شيئاً مألوفاً ، وهي نمطٌ من السلوك أو التصرُّف يُعتادُ حتى يُفعل تكراراً ، ولا يجد المرء غرابة في هذه الأشياء لرؤيته لها مرات متعددة في مجتمعه وفي البيئة التي يعيش فيها ،وما يكون معهودا في مجتمعه وبيئته قد لا يكون معهودا في مجتمع آخر .

والطباع مفرد طبع و هو كل ما كان في أصل خِلقة الإنسان، وجُبِلَ عليه أي ثابت الأخلاق التي جبلت النفوس عليها فالطبع مجموعة من السمات الداخلية في الإنسان تؤثر في سلوكه ومن الناس من جبل على الخلق الحسن فيتخلق به ومنهم من جبل على الخلق الرذيل فيتخلق به ، وطباع الإنسان الْخُلُقيِّة يمكن تغييرها بالتهذيب والتربية ،ونحن لا نتكلم عن طباع خلقية يمكن تغييرها بل نتكلم عن استحسان الخلق الحميد و استقباح الخلق الرذيل نتكلم عن وجود أخلاق يمدح صاحبها و أخلاق أخرى يذم صاحبها نتكلم عن أخلاق يحبها جميع الناس و أخلاق أخرى يكرهها جميع الناس .

ويقول بعضهم : ( كل الأخلاق أخلاق نسبية قد تكون صحيحة هنا و خطأ هناك ) ،و هذا الكلام باطل إذ من الأخلاق ما يكون خيرا و يمدح فاعله بإطلاق كالصدق والعدل والكرم والأمانة ومن الأخلاق ما يكون شرا ويذم فاعله كالكذب والخيانة والإفساد في الأرض فيوجد أخلاق محمودة عند جميع الناس و أخلاق مذمومة عند جميع الناس .

و يقول بعضهم : ( الأخلاق مبنية على المنفعة ،ومنفعة الإنسان هي بالطبع السعادة أو البعد عن الألم علي أقل تقدير. و لهذه السعادة متطلبات تختلف من مجتمع لأخر بناءا علي اختلاف الاحتياجات و الخبرات و الثقافات و بالتالي تصبح الأخلاق علي إطلاقها نسبية ) و الأخلاق التي تبنى على المنفعة هي الأخلاق النفعية و الأخلاق النفعية خارجة عن محل النزاع إذ هذه الأخلاق لا تحمل من الأخلاق إلا اسمها ،واعتبار المنفعة مقياسا للأخلاق يجعل الأخلاق نسبية ومتغيرة ، فيصبح السلوك الواحد خيرا وشرا في آن واحد ، خيرا عند الذي حقق له منفعة ، وشرا عند الذي لم يتحقق له منفعة وبالتالي لا يوجد خلق حميد و لا خلق رذيل وهذا مخالف للواقع بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك كالعدالة و الفضيلة والكرم.

و اعتبار المنفعة مقياسا للأخلاق يلغي الأخلاق ؛ لأن المبدأ ‏الذي تستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقود فالمنافع متعارضة ، وما ينفعني قد لا ينفع غيري مما يؤدي لحدوث التنازع و اصطدام مصالح الناس بعضها ببعض وعموم الفوضى .
و ربط الأخلاق بالمنفعة يحط من قيمة الأخلاق ؛ لأنه ينزلها إلى مستوى الغرائز ،والغرائز موجودة في الإنسان و الحيوان معا فيصبح سلوك الإنسان لا يتميز عن سلوك الحيوان .


ويقول بعضهم: ( لما كان لكل ثقافة معاييرها الخاصة بها فإن المرغوب فيه يختلف تبعا لذلك من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من ثقافة إلى ثقافة ) ،و الجواب أن الثقافة هي الإطار الأساسي والوسط الذي تنمو فيه الشخصية وتترعرع، فهي التي تؤثر في أفكاره ومعتقداته ومعلوماته ومهاراته، وخبراته ودوافعه، وطرق تعبيره عن انفعالاته ورغباته، كما تحدد له القيم والمعايير التي يسترشد بها وتفرض عليه التقاليد التي يتمسك بها .

ويمكن أن نعرف الثقافة بأنها الطريقة التي يفكر بها الناس في مجتمع ما، ويعملون بها، وتقوم عليها نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية, والطريقة التي يتحدثون بها, ويسيرون بها في الشوارع، ويقودون بها السيارات، ويتعاملون بها مع بعضهم البعض داخليا، ومع الآخرين خارجيا، وعاداتهم وتقاليدهم.. إلخ .

و يمكن أن نعرف الثقافة بأنها مجموعة الأعراف والطرق والنظم والتقاليد التي تميز جماعة أو أمة أو سلالة عرقية عن غيرها .
ولكل أمة ثقافة و أسلوب للحياة و طريقة للتعايش الناس بعضهم مع بعض تتسق مع عقيدتها ،والذي يتغير تبعا للثقافة هو عادات الناس وتقاليدهم فهذه عرضة للتغيير والتبديل أما الأخلاق فلا تتغير بتغير الثقافة بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها خير عند جميع الأمم كالعدالة و الأمانة والكرم ،ويوجد قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها شر عند جميع الأمم كالكذب و الخيانة ،والشر محبب عند جميع الأمم والثقافات و الشر مذموم عند جميع الأمم والثقافات و الصدق والعدل والكرم والأمانة والشجاعة أخلاق محمودة عند جميع الأمم والثقافات والكذب والغش والخيانة أخلاق مذمومة عند جميع الأمم والثقافات.

ويقول بعضهم: ( المبادئ الأخلاقية نسبية ومتغيرة ومتطورة؛ لأنها ترتبط بعجلة التطور الاجتماعي، وتخضع لتأثير العوامل الاقتصادية والدينية والثقافية والتاريخية، وهذه كلها متطورة ومتغيرة من عصر إلى عصر، وعليه تتطور الأخلاق بتطور هذه المؤثرات ) والجواب أن الذي يتغير هو أعراف الناس وتقاليدهم وعاداتهم لكن الأخلاق تتمتع بالثبات فكل العصور و كل الأمم عندها الصدق فضيلة والكذب رذيلة ،و كل العصور و كل الأمم عندها الأمانة خير و الخيانة شر ،و كل العصور و كل الأمم عندها الكرم محمود و البخل مذموم.

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

مراجع المقال :
التعريفات للجرجاني
الثقافة والشخصية لسامية الساعاتي
كواشف زيوف الشيخ عبد الرحمن الميداني
علم الأخلاق الإسلامية لمقداد يالجن
مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها لعلى أحمد مدكور
موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز

د.ربيع أحمد
03-12-2015, 05:03 PM
التحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=348044) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/83694/)

د.ربيع أحمد
03-29-2015, 03:37 PM
الملحد و تشكيكه في مصدرية الدين للأخلاق

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول إن شاء الله وقدر تشكيك الملاحدة و اللادينين في مصدرية الدين للأخلاق بالعرض والنقد ،وقبل بيان دعاويهم والرد عليها لابد من معرفة مفهوم الأخلاق ومفهوم الدين

مفهوم الأخلاق

الأخلاق مفرد كلمة خلق ،و الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه[1] .

والذي يفصلُ الأخلاق وُيميِّزُهَا عن غيرها هي الآثار القَابلة للمدح أو الذَّم، وبذلك يتميز الخُلُق الحسن عن الغريزة فالأكل مثلا غريزة، والإنسان عند الجوع يأكلُ بدافع الغريزة وليس مما يمدح به أو يذم. لكن لو أنَّ إنسانَا أكلَ زائدًا عن حاجته الغريزية، صارَ فعله مذمومًا، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الطمع، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود، وهو القناعة. كذلك فإن مسألة حبّ البقاء ليست محلًا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر لخلق في النفس مذموم، وهو الجبن، أما الإقدامُ الذي لا يصلُ إلى حد التهور، فهو أثر لخلق في النفس محمود، وهو الشجاعة .

وهكذا سائرُ الغرائزِ والدوافع النفسية التي لا تدخلُ في باب الأخلاق، إنَّما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم [2].



مفهوم الدين


الدين له عدة تعريفات منها الشرع الإلهي المتلقَّى عن طريق الوحي[3]،ومن تعريفات الدين وضع إلهي سائق لذوي العقول - باختيارهم إياه - إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل[4]،ومن تعريفات الدين كل ما يتخذه الناس ويتعبدون له سواء كان صحيحاً، أو باطلاً [5].















الشبه التي لجأ إليها الملاحدة لتشكيك في مصدرية الدين للأخلاق

لجأ الملاحدة للعديد من الشبه للتشكيك في مصدرية الدين للأخلاق فقالوا : وجدت الأخلاق قبل الدين ،و اخترع الدين لتنظيم المسيرة الأخلاقية فالأخلاق مستمدة من احتياجات الإنسان و اهتماماته بل الإنسان إذا وجد بعض القيم الخلقية في الدين فإنها مأخوذة من المجتمع الذي ظهر به هذا الدين .

وقال آخرون : وجود بعض الأخلاق في بلاد لا تدين بدين سماوي ،ووجود بعض الأخلاق في بلاد يكثر فيها الإلحاد ،و انتشار الفساد في البلاد الإسلامية الأخلاق أي يوجد من هو متدين وليس لديه أخلاق ، بينما يوجد من هو لا ديني ولديه أخلاق ،وهذا دليل على عدم مصدرية الدين للأخلاق .

واحتج بعضهم : أن الدين ثابت و أخلاقيات بعض المنتسبين إلي الدين تتغير مع الوقت .

و قال البعض : ليس من الأخلاق قطع يد السارق و رجم الزاني ،وكيف يكون الدين مصدرا للأخلاق و يشترط شهادة أربعة رجالا لتطبيق حد الزنا فلو فعلها الشخص دون علم لأحد أو أمام سيدات لا بأس بذلك ؟ .

و قال البعض : ليس الدين مصدر الأخلاق إذ كيف يضبط السلوك الاجتماعي عن طريق التهديد بالعذاب الأبدي بواسطة كائن فوق الطبيعة ؟ و عدم التخلق بالخلق السيئ خوفا من النار كأنه تقديم رشوة للرب ،و أسلوب الترغيب في الأخلاق الحسنة بدخول الجنة والترهيب من الأخلاق السيئة بدخول النار ليس من الأخلاق في شيء .

وقال البعض : لا يحق لأي دين أن يفرض رؤيته للفضيلة الأخلاقية و الإثم و السلوك الجنسي و الزواج و الطلاق و التحكم في النسل أو الإجهاض أو أن تسن القوانين بحسب تلك الرؤية على بقية المجتمع ،والمبادئ الأخلاقية من الممكن أن تكتشف في سياق التشاور الأخلاقي و الديموقراطية .

وقال البعض : العقل و الإنسانية كفيلان بجعل الإنسان يتخلق بالخلق الحسن ،ومن طبائع الإنسانية و دون حاجة لتوجيه ديني مباشر أو غير مباشر مسائل مثل تجريم القتل و السرقة و الخيانة المالية و الزوجية و العلاقات الممنوعة بين المحارم ، والأخلاق موجودة في الضمير الإنساني ،والحاجة للدين كي يبين أن ممارسة جنس المحارم و قتل الإنسان هو شيء خاطئ يصور الإنسان كأنه كائن لا أخلاقي وحوش ، وإذا كان هذا الوحش موجوداً داخل أي إنسان فلن ينفع لا الدين ولا القوانين بالقضاء عليه.

وقال البعض : الافتراض بأنّ الخوف والطمع يدفعان الإنسان لعمل الخير أو اجتناب الشرّ يصور الإنسان كأنه شرّيرٌ بالفطرة لذلك لا بدّ من ترويضه بالقوة كالحيوان المتوحّش .

وقال البعض : القول بأن الأديان مصدر الأخلاق مسألة غير عملية لا تصمد أمام التجارب الحقيقية على أرض الواقع

وقال البعض : إن خصصنا الأديان كمصدر للأخلاق لوجود نصوص أخلاقية فعليه سنقول الأديان مصدر القتل لوجود تعاليم ترتبط بالقتل و أنها مصدر الحرب لوجود تعاليم ترتبط بالحرب .

وقال البعض : لنفرض أن أمامنا عدة كتب (التوراة، الإنجيل، القرآن، ...) كل منها يزعم أنه الصحيح ويحتوي الأخلاق الصحيحة وفقط هو يمتلك هذه المعرفة. كيف سيكون بإمكاننا معرفة أي منها هو الصادق إذا لم نعرف أصلاً ما تعنيه الأخلاق ؟ أي كيف يمكننا أن نقول أن كتاباً معيناً هو الصحيح من وجهة نظر أخلاقية إذا لم تكن لدينا فكرة مسبقة مستقلة عما يعنيه أن يكون حكماً ما أخلاقياً أو لا؟ بأي معيار أستطيع أن أقول أن كتاباً معيناً صادق بحكم أخلاقي ما (أو بكل أحكامه الأخلاقية) بدون أن أعرف ما تعنيه الأخلاق؟ بالتالي من هنا ضرورة أن تكون المعرفة الأخلاقية سابقة ومستقلة وذات أولية على الدين ما يؤدي إلى أن الكتب الدينية لا يمكنها أن تكون مصدراً للأخلاق .


وقال البعض : الدين هو مصدر الأخلاق هي مقولة خاطئة لأنها تؤدي إلى تناقض ذاتي: لنفرض أن إنسان أ1 يتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه د1 وأما الإنسان أ2 فيتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه د2. في حال اختلاف الدينين فيما يطالبان به بخصوص حالة معينة (كضرورة أو عدم ضرورة رجم الزانية مثلاِ) فإن هذا يؤدي العمل ذاته سيكون أخلاقياً من منظور الدين الأول وغير أخلاقي من منظور الدين الثاني. أي أن الحكم الموضوعي على العمل نفسه لن يكون ممكناً إذا كان مرجعنا فيما يجب فعله أو الاستنكاف عن عمله هو فقط ما يسوغه دين معين أو غيره .




[1] - التعريفات للجرجاني ص 104
[2] - موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز ص 22-23
[3] - دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف ص 9
[4] - دائرة المعارف للبستاني مادة (دين).
[5] - دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف ص 10

د.ربيع أحمد
03-29-2015, 03:39 PM
الأخلاق قيمة مطلقة ثابتة

الأخلاق قيمة مطلقة ثابتة لا يعتريها التبديل من عصر لعصر ولا من بلد لبلد ولا من شخص لشخص شأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب لا تتغير بتغير الزمان .

و رغم أن العديد من الناس لديهم ممارسات أخلاقية مختلفة، إلا أنهم يتشاركون في مبادئ أخلاقية عامة مثلا، يتفق مناصري الإجهاض ومعارضيه أن القتل أمر خاطئ، و لكنهم يختلفون حول ما إذا كان الإجهاض يعتبر قتلاً أم لا. لهذا، حتى في هذه الحالة تثبت حقيقة وجود الأخلاقيات العامة المطلقة ، و لا يوجد مجتمع بكامله يمكن أن يرى أن زنا المحارم مسألة عادية و ليس أمرا مشينا ، نعم قد يوجد بعض الأفراد الشواذ الذي يرون أن زنا المحارم مسألة عادية فالعيب في هؤلاء الأفراد الشاذين وليس في المجتمع .


و يوجد قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها خير عند جميع الأمم كالعدالة و الأمانة والكرم ،ويوجد قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك على أنها شر عند جميع الأمم كالكذب و الخيانة .

وتجد جميع الأمم والشعوب في كل الأزمان و كل الأماكن تحب الخير وتمدحه و تكره الشر وتذمه ،و تحب الفضيلة و تكره الرذيلة وتحب الصدق وتمدحه و تكره الكذب وتذمه ،وتحب الأمانة وتمدحها وتكره الخيانة وتذمها ،وتحب الشجاعة وتمدحها وتكره الجبن وتذمه ،و تحب الكرم وتمدحه و تكره البخل وتذمه ،وتحب الاحترام وتمدحه وتكره الاحتقار وتذمه ،وتحب العدل وتمدحه وتكره الظلم وتذمه ،ولا معنى للمدح والذم ،ولا معنى لحب الخير و كره الشر إذ لم تكن الأخلاق مطلقة .

وتجد جميع الأمم والشعوب تشيد أو تكافئ على فعل بعض السلوكيات الحسنة كالشجاعة والوفاء والإخلاص ، وتجرم أو تندد أو تعاقب على فعل بعض السلوكيات السيئة كالسباب و الفساد والقتل والغش ،ولا معنى للثواب والعقاب إذ لم تكن الأخلاق مطلقة ،ولا معنى للمكافأة و المعاقبة و التجريم في غياب الأخلاق المطلقة .

و لا توجد أمة من الأمم في أي وقت و أي زمان تجعل السرقة عملا بطوليا و لا توجد أمة من الأمم في أي وقت و أي زمان تمتدح الكذب و لا توجد أمة من الأمم في أي وقت و أي زمان تعظم الخيانة .

و إذا كان الواحد منا يرى بعض السلوكيات فيرفضها ،ويقول أنها منافية للأخلاق كقتل الرجل لأبيه أو سب الرجل لشخص فهذا دليل على مطلقية الأخلاق و من خلال مطلقيتها حكمنا على بعض السلوك أنه منافي للأخلاق .

د.ربيع أحمد
03-29-2015, 03:42 PM
أهمية وجود قيم أخلاقية مطلقة و ثابتة

إن وجود قيم أخلاقية مطلقة و ثابتة يجعل من السهل الحكم على بعض السلوكيات بالخير أو الشر ، بالخطأ أو الصواب ،بالحسن أو القبح لوجود مبادئ أخلاقية مطلقة و ثابتة يمكن أن نحتكم إليها و نستند في حكمنا على السلوكيات عليها .

و في وجود قيم أخلاقية مطلقة و ثابتة يسهل التمييز بين السلوك المحمود والسلوك المذموم ،و يسهل التمييز بين السلوك الحسن و السلوك القبيح لوجود معايير أخلاقية مطلقة و ثابتة يمكن أن تدلنا على السلوك الحسن والسلوك القبيح .

و في وجود قيم أخلاقية مطلقة و ثابتة يسهل التحفيز على فعل السلوك المحمود و التنفير من فعل السلوك المذموم ،و يسهل الالتزام بالقيم الأخلاقية .

و في وجود قيم أخلاقية مطلقة و ثابتة يميز الإنسان بين السلوك الحسن و السلوك القبيح ، و يبحث عن أفضل العلاقات وأحسنها في معاشرة الناس ،و بذلك يتميز سلوك الإنسان عن سلوك البهائم و يحافظ الإنسان على إنسانيته التي يترتفع بها عن الحيوان .


أهمية الالتزام بالقيم الأخلاقية

إن الالتزام بالقيم الأخلاقية ذو أهمية بالغة إذ مع الالتزام بالقيم الأخلاقية يكثر الخير والصلاح والصالحون، ويقل الشر والفساد و المفسدون .

و في وجود قيم أخلاقية مطلقة و ثابتة يتحلي أفراد المجتمع بها و يلتزمون بها تجد الفرد والمجتمع يعيشون في سعادة إذ الكل يفعل الخير ويجتنب الشر فتنتشر الفضيلة وتختفي الرذيلة و العيش في ظل الفضيلة يبعث السعادة والبهجة .

و في وجود قيم أخلاقية مطلقة و ثابتة يتحلي أفراد المجتمع بها و يلتزمون بها تجد الفرد والمجتمع يعيشون في طمأنينة و أمان و سلام إذ الكل يفعل الخير ويتوقعه ممن حوله .

و في وجود قيم أخلاقية مطلقة و ثابتة يتحلي أفراد المجتمع بها و يلتزمون بها يتخلص المجتمع من ظاهرة القلق والاضطرابات التي تسوده لانتشار الخير و الثقة المتبادلة والألفة والمحبة بين الناس .




أهمية الإلزام بالقيم الأخلاقية

القيم الأخلاقية لا معنى لها إذا لم تكن ملزمة ،و لا أخلاق بدون إلزام إذ بدون الإلزام لا يهتم الإنسان بالأخلاق ولا يعيرها اهتماما و بانعدام الإلزام تنعدم المسؤولية الأخلاقية ، وإذا انعدمت المسؤولية الأخلاقية التي تلزم الإنسان بالعمل الخلقي ،ولا يوجد ما يحمله على الالتزام ضاعت الأخلاق فكل شخص يفعل ما يحلو له .











مصدر الإلزام الأخلاقي في غياب الدين

إذا كانت الأخلاق لا معنى لها دون إلزام فما مصدر الإلزام الأخلاقي في غياب الدين هل هو الضمير أم العقل أم المجتمع أم المنفعة أم القانون ؟


و إن قيل مصدر الإلزام الضمير فالجواب لا يكفي وازع الضمير الإنساني وحده لحمل الإنسان على التحلي بالفضائل فمن الناس من يتميز بضعف الضمير وكثيرا ما تتغلب العواطف والانفعالات والعادات والتقاليد والمواقف الخاصة والمصالح الشخصية في ضمائر الناس وأحكامهم ، وقد يخطئ الضمير بسبب العديد من المؤثرات ، وقد ينحرف بسبب العديد من المؤثرات الخارجية فيرى المنكر معروفا والمعروف منكرا والضمير ليس ملكة معصومة من الخطأ بل يحتاج إلى من يرشده .

و الضمير يختلف في البيئة الواحدة وفي الجماعة الواحدة فما يمليه ضمير شخص قد لا يمليه ضمير شخص آخر ،و كما قيل : الناس في كل العصور، وفي جميع الأقطار، يستشيرون ضمائرهم، ولكنها لا تسمعهم جميعاً لحناً واحداً إذ أن ما يظهر عدلاً وخيراً لبعض النفوس المخلصة في عصر خاص، لا يظهر عدلاً ولا خيراً لنفوس أخرى، هي أيضا مخلصة، ولكنها عاشت في عصر آخر أو مكان آخر .

و إن قيل مصدر الإلزام الأخلاقي العقل فالجواب لا يكفي وازع العقل وحده لحمل الإنسان على التحلي بالفضائل فالعقول قاصرة لا تهدي أصاحبها في جميع الأحوال و أحكام العقول متناقضة ، وما يحكم عليه شخص بأنه خير له يحكم عليه آخر بأنه شر له ،والأخلاق عقليًا من منظور مادي غير مربحة بل ضارة بل هي أكبر عبء على صاحبها .

وقد يخطئ العقل بسبب العديد من المؤثرات ، وقد ينحرف بسبب العديد من المؤثرات الخارجية فيرى المنكر معروفا والمعروف منكرا ، وقد يصاب عند بعض الناس بعلة من العلل المرضية، فيعشى أو يعمى أو تختل عنده الرؤية، فيصدر أحكاماً فاسدة ،والعقل ليس ملكة معصومة من الخطأ بل يحتاج إلى من يرشده .


و إن قيل مصدر الأخلاق و الإلزام الأخلاقي هو المجتمع الذي يعيش فيه الفرد فالجواب لا يمكن أن يكون المجتمع مصدرا للأخلاق ولا مصدرا للإلزام الأخلاقي إلا إذا اعتبرنا المجتمع مجتمعا مثاليا أضف إلى ذلك أن ليس كل فرد مندمجا في المجتمع فالقيم الأخلاقية تتباين داخل المجتمع الواحد ،و لك أن ترجع إلى التاريخ لترى أن بعض الأفراد من أنبياء ورسل ومصلحين كانوا مصدرا لقيم أخلاقية ساعدت المجتمعات على النهوض والتقدم .

و أعراف الناس متغيرة وغير ثابتة إذ تختلف الأعراف باختلاف الزمان والمكان فما كان مألوفا متعارفا عليه في زمان أو مكان قد يكون منكرا ومستهجنا في زمان آخر أو مكان آخر ، والأخلاق تتمتع بالمطلقية والثبات في كل زمان ومكان .

و اعتبار المجتمع مصدر الأخلاق و الإلزام الأخلاقي يجعل الأخلاق خاضعة إلى ما تواضع عليه الناس في المجتمع ، وبدلا من أن تُحدث القيم الأخلاقية تحولات في الواقع والمجتمع تصبح الأخلاق مجرّد انعكاس لهذا الواقع وتبريراً له وبالتالي تفقد الأخلاق مطلقيتها و إلزامها و ماذا لو تواضع الناس على جواز الزنا و جواز اللواط وجواز زنا المحارم هل يلتزم الفرد بمثل هذه السلوكيات الفاسدة أم يخالف مجتمعه ؟.

و إن قيل مصدر الأخلاق و الإلزام الأخلاقي هو المنفعة فالجواب الأخلاق التي تبنى على المنفعة هي الأخلاق النفعية ،و الأخلاق النفعية لا تحمل من الأخلاق إلا اسمها ،واعتبار المنفعة مقياسا للأخلاق يجعل الأخلاق نسبية ومتغيرة ، فيصبح السلوك الواحد خيرا وشرا في آن واحد ، خيرا عند الذي حقق له منفعة ، وشرا عند الذي لم يتحقق له منفعة وبالتالي لا يوجد خلق حميد و لا خلق رزيل وهذا مخالف للواقع بدليل وجود قيم أخلاقية تحتفظ بقدر من التوافق العام والتصور المشترك كالعدالة و الفضيلة والكرم.



و اعتبار المنفعة مقياسا للأخلاق يلغي الأخلاق ؛ لأن المبدأ ‏الذي تستند إليه الأخلاق وتحتكم إليه مفقود فالمنافع متعارضة ، وما ينفعني قد لا ينفع غيري مما يؤدي لحدوث التنازع و اصطدام مصالح الناس بعضها ببعض وعموم الفوضى .

و ربط الأخلاق بالمنفعة يحط من قيمة الأخلاق ؛ لأنه ينزلها إلى مستوى الغرائز ،والغرائز موجودة في الإنسان و الحيوان معا فيصبح سلوك الإنسان لا يتميز عن سلوك الحيوان .

و إن قيل مصدر الإلزام الأخلاقي هو القانون فالجواب لا يكفي القانون وحده وازعا لحمل الناس على التحلي بالأخلاق إذ يمكن التحايل عليه ويستطيع الإنسان الإفلات منه و تجاوزه والهروب من العقوبة ،و سلطان القانون على الظاهر لا على الباطن والقانون قد يعاقب المسيء لكنه لا يكافئ المحسن ، و إذا كانت القوانين عاجزةً عن أن تزجر الإنسان عن الشر والفساد بدليل كثرة الشر والفساد ، فهي أشدُّ عجزاً من أن تدفع الإنسان إلى الخير والإصلاح.
ومن هنا لا يكفي كل من الضمير و العقل و المجتمع و المنفعة و القانون لأن يكون أحدهم مصدرا للإلزام الأخلاقي ، و الاكتفاء بوضع باعث واحد للالتزام أدعى إلى عدم الالتزام .

و لو جعلنا طرق الإلزام كل هذه الطرق دون الإلزام بوازع الدين فهذا لا يصح أيضا ؛ لأن الضمير متفاوت متغير و العقول قاصرة متفاوتة في إدراك ما ينفعها و المنفعة نسبية فما ينفعني قد لا ينفع غيري و المجتمع متغير و ما هو سائد في هذا المجتمع قد لا يكون سائدا في مجتمعي ،والقانون سلطانه على الظاهر دون الباطن فلابد من مصدر متعالي يهيمن على كل هذه المصادر و يرشدها ويوجهها ويقومها إذا إعوجت.

د.ربيع أحمد
03-29-2015, 03:51 PM
الحاجة إلى الدين في تأسيس الأخلاق و الإلزام بها

إن القيم الأخلاقية لا معنى لها إذا لم تكن مطلقة وملزمة ، ولا تكون القيم الأخلاقية كذلك إلا إذا استمدت وجودها و إلزاميتها من مصدر متعالي ،وهذا المصدر المتعالي هو الدين ، وأمام الدين يصبح الإنسان أمام مرجعية عليا للأخلاق بحيث يستند إليها في تقرير صحة القواعد والمبادئ الأخلاقية من ‏عدمها، و المبادئ التي جاء بها الدين في المجال الأخلاقي ‏مبادئ ثابتة ومطلقة وغير قابلة للتغير والتبدل ، وعزل القيم الأخلاقية عن هذا المصدر المتعالي يؤدي إلى زوال حقيقتها فتصبح خاضعة إما للضمير المتقلب المتغير أو للعقل القاصر المتفاوت أو للمنفعة النسبية أو للمجتمع المتغير غير المثالي.


وبغير الدين لا يهتم الإنسان بالأخلاق ولا يعيرها اهتماما ،و لم تشهد أمة أو جماعة التزمت القيم الأخلاقية و تقيدت بضوابطها دون الاعتماد على وازع يقودها إلى ذلك ، و لا يوجد وازع ينجح في حمل الناس على هذا الالتزام إلا الوازع الديني الذي يجعل الإنسان يشعر الإنسان بمراقبة الله - سبحانه و تعالى - الدائمة و الشاملة له فالوازع الديني يعتبر أقوي إلزام للإنسان ،و هو خير ضمان لاستقامة الفرد في حياته .

و إن حضور الدين في مشاعر الحب والخوف والرضا والغضب والرغبة والكره تنمي في شخصية الإنسان مقاومة الانحراف و الشر ، بينما خلو المشاعر من التدين يؤدي إلى سهولة انحراف الإنسان ، والذي يستشعر أن الله سبحانه هو الحسيب والرقيب يكون من أبعد الناس عن الغش والكذب والظلم ،والذي لا يؤمن بإله خالق حسيب ورقيب يكون من أقرب الناس إلى الغش والكذب والظلم ،و يقول البعض : إذا لم يكن إله ولا دين فليس غريبا ولا مجافيـا للواقع أن تعيث في الأرض فسادا ولو على حساب الآباء والأبناء ،ويقول آخرون : إذا لم يكن لك دين فلا مانع أن تخونك زوجتك ويسرقك خادمك .


و في المجتمعات غير الملتزمة بالدين يمكن أن يقدم الناس على ارتكاب جميع أنواع الأعمال المنافية للأخلاق لكن الشخص المتدين حق التدين لا يمكن أن يفعل الأعمال المنافية للأخلاق مثلا لا يقبل أن يتعامل بالرشوة أو القمار أو أن يحسد أحدا، أو أن يكذب لأنه يعلم أن عليه مراقبة أعماله وتذكر الحساب بعد الموت أما ّالشخص غير المتدين فلا يمنعه شيء عن ارتكاب هذه الأعمال .

و ليس كافيا أن يقول الشخص غير المتدين : أنا لا أؤمن بالله ولكنني لا آخذ رشوة أو أن يقول : أنا لا أؤمن بالله و لكنني لا أقامر أو أن يقول : أنا لا أؤمن بالله ولكنني لا أسرق أو أن يقول : أنا لا أؤمن بالله و لكنني لا أزني و السبب أنّ الإنسان الملحد الذي لا يخشى الله ولا يستشعر رقابته، ولا يخاف الحساب بعد الموت قد يرتكب أي فعل من هذه الأفعال عند تغير المواقف أو الأوضاع من حوله .

وإذا قال شخص ما : أنا ملحد ولكنني لا أزني فالشخص نفسه قد يرتكب الزنا في مكان يعتبر فيه الزنا أمرا عاديا. وممكن للشخص الذي لا يأخذ رشوة أن يقول : إني أحتاج المال فعلي أن أقبل الرشوة هذا إذا لم يكن في قلبه خوف من الله تعالى.

وفي حالة غياب الدين ، فإن السرقة نفسها يمكن أن تصبح أمرا مشروعا تحت ظروف معينة فالإنسان الذين لا دين له يمكن ألا يعتبر - حسب رأيه - أن أخذ المناشف وأدوات الزينة من الفنادق سرقة.
و من ناحية أخرى فإن الشخص المتدين لا يظهر مثل هذا العمل ؛ لأنه يخشى الله ويعلم أن الله يعلم سره وعلانيته، فالمؤمن يعمل بإخلاص ويتجنب المعاصي، ويمكن لملحد أن يقول : أنا ملحد ولكنني أتسامح مع الناس، فأنا لا أشعر برغبة في الانتقام ولا أكره أحدا ، ولكن في يوم ما يمكن أن يحدث شيء ما يجعله يظهر تصرفا غير متوقع منه، كأن يحاول قتل شخص ما أو إيذائه لأن الأخلاق التي لديه تتغير بحسب البيئة والظروف التي يوجد فيها ،وانعدام الوازع الديني عند الملحد يجعله كلما تحركت في نفسه شهوة أو نزوة سارع إلى قضائها .

أما الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان فلا يحيد أبدا عن الأخلاق الفاضلة مهما كانت المؤثرات ، فأخلاقه غير متقلبة ،و الوازع الديني عنده ومراقبة الله والخوف من ارتكاب الإثم يجعله يتجنب الوقوع في رذائل الأخلاق .

د.ربيع أحمد
03-29-2015, 03:54 PM
نظرات في كلام الملاحدة واللادينين


قال بعضهم : ( وجدت الأخلاق قبل الدين ،و اخترع الدين لتنظيم المسيرة الأخلاقية فالأخلاق مستمدة من احتياجات الإنسان و اهتماماته بل الإنسان إذا وجد بعض القيم الخلقية في الدين فإنها مأخوذة من المجتمع الذي ظهر به هذا الدين ) ،و هذا الكلام غير صحيح إذ مبناه أن الدين جاء بعد فترة زمنية من وجود البشر ،و الدين موجود منذ أن وجدت البشرية ،ولا يوجد على الإطلاق في أي عصر من العصور ، و لا في أي أمة من الأمم مجتمع بلا دين و لا بلا إله معبود حقاً كَانَ أو باطلاً فهناك اتجاه فطري إِلَى أن يكون هناك دين ، و إله معبود و كما قال البعض : لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات ، و لم توجد جماعة بغير ديانة و ذكر آخرون أن فكرة التدين لم تخل منها أمة من الأمم في القديم و الحديث .

و لا يضير الدين الحق وجود أديان باطلة فكل هذه أمور طارئة والإنسان قد تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف عن الدين الحق فإذا لم يهتد الإنسان إلى الله تعالى و إلى الدين الحق فإنه يُعبِّد نفسه لأي معبود آخر ليشبع في ذلك نهمته إلى التدين ، وذلك كمن استبد به الجوع فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه فإنه يتناول كل ما يمكن أكله ولو كان خبيثا ليسد به جوعته .


والدين ليس اختراعا بشريا بل عطاءا ربانيا من الله للبشر ليهدي البشرية ويوجهها ويرشدها إلى خير الدنيا و الآخرة .

ولا يختص الدين بتنظيم السلوكيات الأخلاقية بل يختص بتنظيم جميع السلوكيات و جميع أمور الناس إذ يوجد بالدين جميع أنواع التشريعات من تشريعات اجتماعية و تشريعات اقتصادية وتشريعات دولية وتشريعات جنائية وتشريعات أسرية وتشريعات سياسية وغير ذلك من التشريعات فالدين منهج حياة .

والزعم بأن الأخلاق مستمدة من احتياجات الإنسان و اهتماماته زعم باطل وكلام بلا دليل فأين الحاجة للتضحية و الفداء ؟ وأين الحاجة للكرم والجود ؟ وأين الحاجة للإيثار ؟ وأين الحاجة للعطف على الحيوانات ؟وأين الحاجة للعطف على الفقراء والمساكين والمرضى ؟ وأين الحاجة للتعاطف مع الناس ؟

والزعم بأن القيم الأخلاقية الموجودة في الدين مأخوذة من المجتمع الذي ظهر به هذا الدين زعم باطل وكلام عار عن الصحة فكم عارض الدين أخلاقيات المجتمع الذي وجد فيه والدين يصحح أخلاقيات المجتمع فيرفض الأخلاقيات السيئة كالعري و زنا المحارم وزواج المثليين و اللواط و تبرج النساء والظلم والعدوان .


و قال بعضهم: ( وجود بعض الأخلاق في بلاد لا تدين بدين سماوي ،ووجود بعض الأخلاق في بلاد يكثر فيها الإلحاد ،و انتشار الفساد في البلاد الإسلامية أي يوجد من هو متدين بدين وليس لديه أخلاق ، بينما يوجد من هو لا ديني ولديه أخلاق ،وهذا دليل على عدم مصدرية الدين للأخلاق ) و هذا قول باطل إذ وجود بعض الأخلاق في بلاد لا تدين بدين سماوي ،ووجود بعض الأخلاق في بلاد يكثر فيها الإلحاد ليس دليلا على عدم مصدرية الدين للأخلاق بل دليل على وجود دين كانت تدين به هذه البلاد ،و هذه الأخلاق من بقايا آثار هذا الدين .

وإن كان مصدر الأخلاق هو الدين إلا أن ممارسة الأخلاق قد تستمر مع غياب هذا الدين أو اندثاره فتظل الأخلاق موروثاً دينياً يمتد حتى بعد غياب الدين أو تشوه حقائقه كما تظل بعض التقاليد والعادات تنتقل بين الأجيال برغم تغير الأديان والعقائد والثقافات، فتظل موروثاً ثقافياً مستمراً وإن جهلنا أصله ومنشأه .

وقولهم يوجد من هو متدين بدين وليس لديه أخلاق ، بينما يوجد من هو لا ديني ولديه أخلاق ليس دليلا على عدم مصدرية الدين للأخلاق إذ الأخلاق كمبدأ لا يمكن وجودها بغير دين أما الأخلاق كممارسة أو حالة معينة من السلوك فإنها لا تعتمد مباشرة على التدين .

والإيمان بالشيء لا يستلزم العمل له و إن كان دافعا على العمل له فالناس تعلم و تتيقن أن النار محرقة و بعضهم يحرق نفسه بالنار و أيضا قد تجد أن الولد الذي يعلم أن فلان أبيه لا يبر هذا الأب و أيضا قد تجد أن الدائن لا يعطي المال للمدين و بعض الناس تعلم أن الزنا يكون سبابا في العديد من الأمراض الجنسية و مع ذلك يرتكبه و بعض الناس تعلم أن من قتل سيعاقب من الحكومة و مع ذلك يقتل .


واحتج بعضهم : ( أن الدين ثابت و أخلاقيات بعض المنتسبين إلي الدين تتغير مع الوقت ) والجواب أن تغير أخلاقيات بعض المنتسبين إلي الدين دليل على ضعف التدين عندهم ، و ليس دليلا على عدم مصدرية الدين للأخلاق ففرق بين العلم بالدين وبين العمل بالدين أو ممارسة الدين فقد لا يعمل الشخص بما علم بسبب هوى في النفس أو شبهة أو مغالطة أو تعلق قلبه بشيء آخر ،وعلى سبيل المثال كثير ممن يدخن يعلم الآثار السيئة للتدخين ومع ذلك يدخن ،ومن يقتل شخصا يعلم أن القتل مجرم دينيا وقانونيا ومع ذلك يقتل .
و قال بعضهم : ( ليس من الأخلاق قطع يد السارق و رجم الزاني ،وكيف يكون الدين مصدرا للأخلاق و يشترط شهادة أربعة رجالا لتطبيق حد الزنا فلو فعلها الشخص دون علم لأحد أو أمام سيدات لا بأس بذلك ؟ ) و قطع يد السارق و رجم الزاني من الأحكام الدينية ،وليس من الأحكام الأخلاقية فإدخاله في الأخلاق مغالطة وتزييف ، والعقوبة على قدر الجريمة و غلظة العقوبة بسبب غلظة الجريمة ،و هذه العقوبات المغلظة الهدف منها التخويف والردع وهؤلاء الملاحدة نظروا إلى غلظة العقوبة و لم ينظروا إلى شناعة الجريمة وهذا ليس من العدل و الإنصاف في شيء .

أما قول بعضهم : (و يشترط شهادة أربعة رجالا لتطبيق حد الزنا فلو فعلها الشخص دون علم لأحد أو أمام سيدات لا بأس بذلك ؟ ) فهذا الكلام ينم عن الجهل الشديد بالشريعة الإسلامية و أحكامها فقد اشترط الشرع شهادة أربعة رجالا لتطبيق حد الزنا تغليظاً على من يرمي شخصا بالزنا ؛ لأن شهادة المدعي قد يترتب عليها قتل وعار دائم ،وليس هذا الشرط لجواز الزنا بل لسدّ السبيل على الذين يتهمون الأبرياء ظلماً، وكذلك سدّ السبيل على الذين يريدون إشاعة الفاحشة في المجتمع .

والإسلام قد حرم الزنا فقد قال تعالى : ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ﴾ (الإسراء: الآية 32) ،وقال تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ ( الفرقان : الآية 68 ) ،وقال تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ( الأعراف : الآية 33 ) ،ومن المعلوم أن الزنا من أفحش الفواحش وأشد الجرائم ، وأبشع المعاصي ، وأقبح الذنوب.


و قال البعض : ( ليس الدين مصدر الأخلاق إذ كيف يضبط السلوك الاجتماعي عن طريق التهديد بالعذاب الأبدي بواسطة كائن فوق الطبيعة ؟ و عدم التخلق بالخلق السيئ خوفا من النار كأنه تقديم رشوة للرب ،و أسلوب الترغيب في الأخلاق الحسنة بدخول الجنة والترهيب من الأخلاق السيئة بدخول النار ليس من الأخلاق في شيء ) و دعواهم أن السلوك الاجتماعي لا يضبط عن طريق التهديد بالعذاب كلام مخالف للواقع فكم من شخص ارتدع عن فعل معصية خوفا من عذاب الله يوم القيامة لكن الناس طبائع شتى منهم من يرتدع بالترهيب و منهم من يرتدع بالترغيب ومنهم من يرتدع بوازع الضمير ومنهم من يرتدع بوازع العقل ومنهم من يرتدع بوازع السلطان ،والدين قد عدد طرق الإلزام لمعرفته بطبيعة النفس البشرية .

وقول بعضهم :( عدم التخلق بالخلق السيئ خوفا من النار كأنه تقديم رشوة للرب و أسلوب الترغيب في الأخلاق الحسنة بدخول الجنة والترهيب من الأخلاق السيئة بدخول النار ليس من الأخلاق في شيء ) فيه تشويه للحقائق فالمؤمن يعبد الله و يتخلق بالخلق الحسن طاعة لله المتفضل عليه بالنعم و خوفا من العذاب وطمعا في الثواب فأين هذا الحال من حال المرتشي والراشي الذي يفعل فعلا مشينا ؟!! والناس تحب و تمدح من يعبد الله خوفا من العذاب وطمعا في الثواب لكنها تذم المرتشي والراشي فأين هذا من هذا ؟

و الرشوة كل مال دفع لذي جاه عوناً على ما لا يحل أما التخلق بالخلق الحسن خوفا من العذاب وطمعا في الثواب فهو فعل ما يستحسن أن يفعل – أي التحلي بالخلق الحسن - و يستقبح ألا يفعل - أي عدم التحلي بالخلق الحسن - فأين هذا من هذا ؟ والرشوة يترتب عليها ضياع الحقوق وفساد المجتمعات و العبادة والتخلق بالخلق الحسن طاعة لله وخوفا من العذاب وطمعا في الثواب يترتب عليها سعادة الفرد والمجتمع و صلاح الفرد والمجتمع فأين هذا من هذا ؟


والملحد يتوهم أن أسلوب الترغيب والترهيب يقلل من الأخلاق ،و كأنه يريد أن يقول أن الأخلاق الحسنة يجب فعلها بصرف النظر عما يترتب عليها من جزاء أو مكافأة و أن الأخلاق السيئة يجب تركها بصرف النظر عما يترتب عليها من عقاب وهذه أخلاق كانط و مثل هذه الأخلاق إن تصلح لفئة خاصة أمثال كانط فإنها لا تصلح لجميع الفئات، والأخلاق الإسلامية جاءت لجميع الفئات مراعية لجميع النفوس ولجميع الفروق الفردية .

ومن طبيعة النفس البشرية محبة ما فيه نفعها ومصلحتها والإقبال عليه وكره ما يضرها ويؤذيها ويفسد عليها أمرها والنفور منه ، و يعد الثواب والعقاب هو الأسلوب الذي يتفق مع الفطرة الإنسانية ، والذي ثبت صلاحيته في كل زمان ومكان ،وربط الأخلاق بالجزاء أمر ضروري؛ لأنه يزيد قيمة الأخلاق كما تزيد قيمة الشجرة ثمرتها وبذلك اختلفت الأخلاق الإسلامية عن الأخلاق الكانطية التي لا تربط الأخلاق بالجزاء والمكافأة, والأخلاق من غير جزاء ومكافأة جافة لا طعم فيها أو قليلة الفائدة وناقصة القيمة .



وقال البعض : ( لا يحق لأي دين أن يفرض رؤيته للفضيلة الأخلاقية و الإثم و السلوك الجنسي و الزواج و الطلاق و التحكم في النسل أو الإجهاض أو أن تسن القوانين بحسب تلك الرؤية على بقية المجتمع ،والمبادئ الأخلاقية من الممكن أن تكتشف في سياق التشاور الأخلاقي و الديموقراطية ) وهذا الكلام فيه إجحاف لحق الخالق فالخالق له الحق أن يشرع لخلقه ما يصلحهم و هو أعلم بمصالح خلقه منهم ،و لو كلّ فرد في المجمتع له الحق في أنْ يفعل ما يريد ويشتهي، ولا يحقّ للدين أنّ يمنعه فإنّ ذلك سيستلزم حدوث الهرج والمرج .


وقول بعضهم : (والمبادئ الأخلاقية من الممكن أن تكتشف في سياق التشاور الأخلاقي و الديموقراطية ) كلام في غاية السخف والسقوط ،و الناس بفطرتهم يحبون الأخلاق الحسنة كالعدل و الكرم والوفاء ، كما ينفِرون بفطرتهم من الأخلاق السيئة كالكذب والغدر والخيانة ،وهل مثل هذه الأمور تحتاج للتشاور ؟ إن من يريد التشاور في معرفة الأخلاق الحسنة و السيئة كمن يريد التشاور في معرفة أن الواحد نصف الاثنين ،وأن النقيضين لا يجتمعان .

وإن أرادوا التشاور في الإلزام بالأخلاق الحسنة و اجتناب الأخلاق السيئة عن طريق وضع قانون فهذا القانون سلطانه على بعض الظاهر فضلا عن الباطن ،وهذا القانون من الممكن التحايل عليه والإفلات منه والقانون من الصعب أن يطبق على كل الأخلاق .

والقوانين ليس لها سلطان على النفوس، ولا تقوم على أساس من العقيدة والإيمان كما هو الحال بالنسبة للإسلام، ولهذا فإنَّ النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما وجدت فرصة لذلك، وقدرة على الإفلات من ملاحقة القانون وسلطان القضاء، ورأت في هذه المخالفة إتباعا لأهوائها وتحقيقًا لرغباتها.

إنَّ القانون لا يكفي أن يكون صالحًا، بل لا بُدَّ له من ضمانات تكفل حسن تطبيقه، ومن أول هذه الضمانات إيجاد ما يصل هذا القانون بنفوس الناس، ويحملهم على الرضى به، والانقياد له عن طواعية واختيار.

ولا يحقق مثل هذه الضمانة مثل الإسلام؛ لأنه أقام تشريعاته على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم، وأن الالتزام الاختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا الإيمان .

وقال البعض : ( العقل و الإنسانية كفيلان بجعل الإنسان يتخلق بالخلق الحسن ،ومن طبائع الإنسانية و دون حاجة لتوجيه ديني مباشر أو غير مباشر مسائل مثل تجريم القتل و السرقة و الخيانة المالية و الزوجية و العلاقات الممنوعة بين المحارم ، والأخلاق موجودة في الضمير الإنساني ،والحاجة للدين كي يبين أن ممارسة جنس المحارم و قتل الإنسان هو شيء خاطئ يصور الإنسان كأنه كائن لا أخلاقي وحوش ، وإذا كان هذا الوحش موجوداً داخل أي إنسان فلن ينفع لا الدين ولا القوانين بالقضاء عليه ) وهذا الكلام باطل و مخالف للواقع فمن الناس من لا ينفع معه وازع العقل و لا ينفع معه وازع الضمير الإنساني وكم من أناس خالفوا عقولهم وباعوا ضمائرهم بسبب الهوى والشهوة ،ومن الممكن أن ينحرف العقل والضمير عن الحق بسبب بعض المؤثرات ولذلك لابد من موجه ومرشد للعقل والضمير حتى لا يحيدا عن الحق .

أما قول بعضهم : ( الحاجة للدين كي يبين أن ممارسة جنس المحارم و قتل الإنسان هو شيء خاطئ يصور الإنسان كأنه كائن لا أخلاقي وحشي ) فهذا الكلام ينم عن الجهل الشديد بالدين فالدين لا يعرفنا الأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة فقط بل يلزمنا بفعل الخلق الحسن و اجتناب الخلق الرذيل و يعرفنا ثواب الخلق الحسن وعقاب الخلق الرذيل و يشجعنا على فعل الخلق الحسن و اجتناب الخلق الرذيل وبذلك يكون الدين عونا في إيقاظ الدوافع النبيلة في النفس البشرية و عونا في إخماد دوافع الشر في النفس البشرية .

ولأن من الناس من يقل عنده الوازع الديني ومنهم من لا يجدي معه وازع الترغيب والترهيب ومنهم من لا يجدي معه وازع العقل ، ومنهم من لا يجدي معه وازع الضمير لذلك نوع الشرع طرق الإلزام فمن لا يجدي معه وازع الدين قد يجدي معه وازع المجتمع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ، و من لا يجدي معه وازع الدين قد يجدي معه وازع السلطان .

أما قول بعضهم : ( وإذا كان هذا الوحش موجوداً داخل أي إنسان فلن ينفع لا الدين ولا القوانين بالقضاء عليه ) فهذا الكلام مخالف للواقع والتاريخ فكم غير الدين مجتمعات كانت تألف المحرمات وترتكب المحظورات وتفعل الموبقات ،وكم غير بعض المصلحين مجتمعاتهم .

وقال البعض : ( الافتراض بأنّ الخوف والطمع يدفعان الإنسان لعمل الخير أو اجتناب الشرّ يصور الإنسان كأنه شرّيرٌ بالفطرة لذلك لا بدّ من ترويضه بالقوة كالحيوان المتوحّش ) ،وهذا الكلام فيه تشويه للحقائق إذ من طبيعة النفس البشرية محبة ما فيه نفعها ومصلحتها والإقبال عليه وكره ما يضرها ويؤذيها ويفسد عليها أمرها والنفور منه ، و يعد الثواب والعقاب هو الأسلوب الذي يتفق مع الفطرة الإنسانية ، والذي ثبت صلاحيته في كل زمان ومكان .

و الجزاءات المترتبة على السلوكيات الأخلاقية تعد من أقوى الحوافز والدوافع القوية إلى الالتزام الدائم بالقيم الأخلاقية ، ذلك أنه بقدر ما يعرف الإنسان قيمة الشيء يلتزم به وبقدر ما يعرف العواقب الوخيمة لسلوكيات سيئة يتجنبها ، وهذا وذلك يدفعانه إلى مزيد من التضحية من أجل التمسك بالقيم في هذه الحياة .

و الإنسان بطبيعته يتصرف في كثير من الأحيان وفق الخوف و الطمع, فهو يفعل أمرا طمعا في شيء معين و لا يفعل أمر آخر خوفا من شيء معين ،و على سبيل المثال يعمل الإنسان طلبا للمال ويزيد في عمله ويجد طمعا في الحوافز والترقيات ولا يتأخر عن عمله خوفا من الجزاءات فهل هذا السلوك سلوك مذموم ؟ ،والطالب يذاكر طمعا في النجاح و خوفا من الرسوب فهل هذا السلوك سلوك مذموم ؟،والسائق يلتزم بإشارات المرور خوفا من الغرامة فهل هذا السلوك سلوك مذموم ؟


وقال البعض : ( القول بأن الأديان مصدر الأخلاق مسألة غير عملية لا تصمد أمام التجارب الحقيقية على أرض الواقع ) وهذا الكلام مخالف للحقائق إذ الدين موجود منذ أن وجدت البشرية ،ولا يوجد على الإطلاق في أي عصر من العصور ، و لا في أي أمة من الأمم مجتمع بلا دين ،و يمثل الاهتمام بالأخلاق قاسماً مشتركاً في جميع الأديان ،ولا توجد ديانة إلا وهي تدعو أتباعها إلى الالتزام بالقيم الأخلاقيّة على اختلاف في التفاصيل .

ولم تشهد أمة أو جماعة التزمت القيم الأخلاقية و تقيدت بضوابطها دون الاعتماد على وازع يقودها إلى ذلك ، و لا يوجد وازع ينجح في حمل الناس على هذا الالتزام إلا الوازع الديني الذي يجعل الإنسان يشعر الإنسان بمراقبة الله - سبحانه و تعالى - الدائمة و الشاملة له فالوازع الديني يعتبر أقوي إلزام للإنسان ،و هو خير ضمان لاستقامة الفرد في حياته وبغير الدين لا يهتم الإنسان بالأخلاق ولا يعيرها اهتماما.


وقال البعض : ( إن خصصنا الأديان كمصدر للأخلاق لوجود نصوص أخلاقية فعليه سنقول الأديان مصدر القتل لوجود تعاليم ترتبط بالقتل و أنها مصدر الحرب لوجود تعاليم ترتبط بالحرب ) وهذا الكلام تشويه للحقائق فالدين مصدر الأخلاق ؛ لأنه منهج حياة وضعه الله للبشر لسعادة الدارين ،و الدين عقيدة وعمل والدين عقيدة وعبادات ومعاملات وأخلاق، والكلام عن الأخلاق الدينية فرع عن الكلام عن الدين فإذا ثبت بالأدلة أن دين معين هو الدين الحق فلابد من الإيمان والانقياد والتسليم لكل ما جاء به هذا الدين من عقائد وعبادات ومعاملات و أخلاق ، و عزل القيم الأخلاقية عن الدين يؤدي إلى زوال حقيقتها فتصبح خاضعة إما للضمير المتقلب المتغير أو للعقل القاصر المتفاوت أو للمنفعة النسبية أو للمجتمع المتغير غير المثالي.


وقال البعض: ( لنفرض أن أمامنا عدة كتب (التوراة، الإنجيل، القرآن، ...) كل منها يزعم أنه الصحيح ويحتوي الأخلاق الصحيحة وفقط هو يمتلك هذه المعرفة. كيف سيكون بإمكاننا معرفة أي منها هو الصادق إذا لم نعرف أصلاً ما تعنيه الأخلاق؟ أي كيف يمكننا أن نقول أن كتاباً معيناً هو الصحيح من وجهة نظر أخلاقية إذا لم تكن لدينا فكرة مسبقة مستقلة عما يعنيه أن يكون حكماً ما أخلاقياً أو لا؟ بأي معيار أستطيع أن أقول أن كتاباً معيناً صادق بحكم أخلاقي ما (أو بكل أحكامه الأخلاقية) بدون أن أعرف ما تعنيه الأخلاق؟ بالتالي من هنا ضرورة أن تكون المعرفة الأخلاقية سابقة ومستقلة وذات أولية على الدين ما يؤدي إلى أن الكتب الدينية لا يمكنها أن تكون مصدراً للأخلاق ) ،وهذا الكلام سفسطة باطلة إذ الكلام عن الأخلاق الدينية فرع عن الكلام عن الدين فإذا ثبت بالأدلة أن دين معين هو الدين الحق فلابد من الإيمان والانقياد والتسليم لكل ما جاء به هذا الدين من عقائد وعبادات ومعاملات و أخلاق ، و صدق الدين يستلزم صدق التعاليم التي جاء بها والتي من ضمنها التعاليم الأخلاقية ،و صدق الدين يستلزم أن تكون تعاليمه مصدر للعقيدة ومصدر للعبادات ومصدر للمعاملات ومصدر للأخلاق.

والمعرفة الأخلاقية لا تستقل بنفسها في تأسيس الأخلاق بل تحتاج إلى الدين ،ولا يمكن أن نستغني بها عن الدين إذ القضية ليست مجرد معرفة الحسن والقبح للسلوك الأخلاقي فقط فما فائدة العلم بحسن الصدق مع عدم التحلي به ،وما فائدة العلم بقبح الكذب مع اقترافه وعليه فالمعرفة الأخلاقية لا تؤتي ثمرتها إذ لم يعمل بمقتضها ،وكي تؤتي المعرفة ثمارها لابد أن تكون ملزمة وهذا قدر زائد على المعرفة يتميز به الدين عن المعرفة إذ الأخلاق الدينية ملزمة ،والأخلاق الدينية يترتب عليها ثواب وعقاب أي مرتبطة بالجزاء وربط الأخلاق بالجزاء يزيد قيمة الأخلاق ،و الأخلاق من غير جزاء ومكافأة قليلة الفائدة وناقصة القيمة.

و الدين يعرفنا الأخلاق المحمودة و يلزمنا بها و يحث على فعلها و يبين ثواب الامتثال بالفعل و يكون عونا في إيقاظ دوافع السلوك الحميد في النفس البشرية ويعرفنا الدين أيضا الأخلاق المذمومة ويلزمنا بتركها ويحثنا على تركها و يبين عقاب عدم الامتثال بالترك ، و يكون عونا في إخماد دوافع السلوك المذموم في النفس البشرية .

ولم تشهد أمة أو جماعة التزمت القيم الأخلاقية و تقيدت بضوابطها دون الاعتماد على وازع يقودها إلى ذلك ، و لا يوجد وازع ينجح في حمل الناس على هذا الالتزام إلا الوازع الديني الذي يجعل الإنسان يشعر الإنسان بمراقبة الله - سبحانه و تعالى - الدائمة و الشاملة له فالوازع الديني يعتبر أقوي إلزام للإنسان ،و هو خير ضمان لاستقامة الفرد في حياته وبغير الدين لا يهتم الإنسان بالأخلاق ولا يعيرها اهتماما.


وقال البعض : ( الدين هو مصدر الأخلاق هي مقولة خاطئة لأنها تؤدي إلى تناقض ذاتي: لنفرض أن إنسان أ1 يتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه د1 وأما الإنسان أ2 فيتبع الأخلاق التي يمليها عليه دينه د2. في حال اختلاف الدينين فيما يطالبان به بخصوص حالة معينة (كضرورة أو عدم ضرورة رجم الزانية مثلاِ) فإن هذا يؤدي العمل ذاته سيكون أخلاقياً من منظور الدين الأول وغير أخلاقي من منظور الدين الثاني. أي أن الحكم الموضوعي على العمل نفسه لن يكون ممكناً إذا كان مرجعنا فيما يجب فعله أو الاستنكاف عن عمله هو فقط ما يسوغه دين معين أو غيره ) وهذا الكلام سفسطة فمن المشاهد أن أهل كل مجال معين قد يختلفون في الحكم على شيء معين لكن هذا لا ينفي مصدريتهم في الحكم على هذا الشيء ،وعلى سبيل المثال مريض يشتكي من أعراض مرضية لمرض معين يمكن أن يذهب لخمسة أطباء كل منهم يشخصه غير الآخر بل عكس الآخر هل يمكن أن ننفي مصدرية الأطباء في الحكم على المسائل الطبية بسبب هذا الاختلاف ؟ ،ومثال آخر مسألة قانونية تعرض على عشرة مستشارين كل منهم يحكم فيها غير الآخر بل عكس الآخر هل يمكن أن ننفي مصدرية المستشارين في الحكم على المسائل القانونية بسبب هذا الاختلاف ؟

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات .
مراجع المقال :
أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان
الإسلام بين الشرق والغرب للفيلسوف على عزت
التعريفات للجرجاني
بناء المجتمع الإسلامي للدكتور نبيل السمالوطي
دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف
علم الأخلاق الإسلامية لمقداد يالجن
موسوعة الأخلاق لخالد عثمان الخراز

د.ربيع أحمد
03-29-2015, 04:02 PM
للتحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/84416/) أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=2150278)

د.ربيع أحمد
03-31-2015, 05:57 PM
الملحد وزعمه الجائر أن الخالق لا يستحق العبادة تعالى الله عما يقول الظالمون













الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول - إن شاء الله وقدر - زعم الملاحدة الجائر بأن الله – سبحانه وتعالى – لا يستحق العبادة - تعالى الله عما يقول الظالمون - .

عرض زعم الملاحدة الجائر

يزعم الملاحدة أن الله – سبحانه وتعالى – لا يستحق العبادة - تعالى الله عما يقول الظالمون - ويبرر أحدهم هذا الزعم الجائر قائلا : أن قيمة الأشياء تتميز في مقدار تأثيرها علينا ،و تأثير الله علينا هو الخلق ،والخلق ليس سببا كافيا للعبادة ؛ لأن الخلق لابد أن يكون له هدف سامي ،و غياب أي الهدف يجعل عملية الخلق عبثيةً ،و في حالة وجود هدف، فالهدف في حد ذاته ينسف صفة الكمال والاكتفاء الذاتي عند الله، وفي حالة غياب أي هدفٍ أو غايةٍ للخلق فلماذا سنعبده ؟

ويستطرد في سفسطته قائلا : ربما عظمته وجلاله في حد ذاتها سببٌ كافي يدفعنا للعبادة... ربما السبب أن الله بنفسه طلبَ مِنا عبادته ،و طلبه هذا جاء من كائنٍ في موقع قوةٍ تجاه كائنٍ آخر في موقع ضعف ،وهذا فيه استغلال للقوة و القدرة في إيذائنا ليفرض أحكامهِ علينا بل يلجأ للتهديد والترغيب (قانونياً هذه جريمة ابتزاز) لإجبارنا على تنفيذ أوامره التي لا نعرف سببًا واضحًا لها أو غايةً معينة بل إن ضررها في أغلب الأحيان أكثر من فوائدها لما تثيره من تبلدٍ للفكر (ترديد نفس العبارات مراراً وتكراراً) وإضاعةٍ للوقت وتبذيرٍ للجهد.

ثم يفترض هذا الملحد افتراض خاطئ أن الله يحتاج لعبادتنا ومن ثم هذا ينفي عنه صفة الكمال لثبات حاجته ثم يقول هذا الملحد : ولو افترضنا نحن حاجتنا لعبادته فإن تلك الحاجة تنفي التكليف الذي يفرضه علينا، لأن العبادة حينها ستكون حاجةً طبيعيةً مثل الحاجات الإنسانية الأخرى كالهواء والغذاء .وقبل الرد على هذه الدعاوي والتفاهات لابد من بيان مفهوم العبادة .

د.ربيع أحمد
03-31-2015, 06:00 PM
مفهوم العبادة

للعبادة العديد من التعريفات من أحسنها وأجمعها تعريف ابن تيمية – رحمه الله – حيث قال : ( الْعِبَادَة هِيَ اسْم جَامع لكل مَا يُحِبهُ الله ويرضاه من الْأَقْوَال والأعمال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة. فَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَصدق الحَدِيث وَأَدَاء الْأَمَانَة وبرّ الْوَالِدين وصلَة الْأَرْحَام وَالْوَفَاء بالعهود وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد للْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَالْإِحْسَان للْجَار واليتيم والمسكين وَابْن السَّبِيل والمملوك من الْآدَمِيّين والبهائم وَالدُّعَاء وَالذكر وَالْقِرَاءَة وأمثال ذَلِك من الْعِبَادَة.

وَكَذَلِكَ حب الله وَرَسُوله وخشية الله والإنابة إِلَيْهِ وإخلاص الدَّين لَهُ وَالصَّبْر لحكمه وَالشُّكْر لنعمه وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ والتوكل عَلَيْهِ والرجاء لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْف من عَذَابه وأمثال ذَلِك هِيَ من الْعِبَادَة لله.

وَذَلِكَ أَن الْعِبَادَة لله هِيَ الْغَايَة المحبوبة لَهُ والمرضية لَهُ الَّتِي خَلق الْخلق لَهَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ( الذاريات : 56) وَبهَا أرسل جَمِيع الرُّسُل ) .

و يقول ابن باديس – رحمه الله - : ( العبادة هي التوجه بالطاعة لله امتثالا لأمره وقياما بحقه مع الشعور بالضعف والذل أمام قوة وعز الربوبية وذلك يبعث على الخوف المأمور به، ومع الشعور بالفقر والحاجة أمام غنى وفضل الربوبية وذلك يبعث على الرجاء المأمور به ) .

و من الناس من يتوهم أن العبادة مقصورة على الصلاة والصوم والزكاة والحج ،وهذا خطأ فالعبادة ليست مقصورة على مناسك التعبد المعروفة من صلاة وصيام وزكاة وحج.. إلخ, بل إن العبادة هي العبودية لله وحده، والتلقي من الله وحده في كل أمور الدنيا والآخرة، إنها الصلة الدائمة لله في كل قول أو عمل أو شعور، فالإنسان عابد لله حيثما توجه إلى الله، ومن ثم تشمل "العبادة" الحياة، ويصبح الإنسان عابدا في كل حين .





















الله عز وجل مستحق للعبادة لذاته وصفاته وأفعاله


الله - عز وجل - مستحق للعبادة ؛ لأنه خالق الكون ومدبره ورب جميع العوالم والكائنات ،والعبادة حق الله على جميع مخلوقاته حق الخالق على المخلوق ، و الله خالقنا ومالكنا، وللمالك أن يأمر وينهى ، ومن ينكر حق الله على خلقه أعظم جرما وفرية ممن ينكر حق الوالدين على الولد ،وحق المدرس على تلاميذه وحق الوطن على أبنائه .


و الله - عز وجل - يستحق العبادة لذاته بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى إذ النفوس مجبولة على حب الكمال ، و الله - عز وجل – له الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعا وفطرةً ،و الله – سبحانه وتعالى - يستحق العبادة لا لكونه خلق الخلق فقط بل أيضا يستحق العبادة لذاته .


ويقول ابن القيم – رحمه الله - : ( وَلَا ريب أَن كَمَال الْعُبُودِيَّة تَابع لكَمَال الْمحبَّة وَكَمَال الْمحبَّة تَابع لكَمَال المحبوب فِي نَفسه وَالله سُبْحَانَهُ لَهُ الْكَمَال الْمُطلق التَّام فِي كل وَجه الَّذِي لَا يَعْتَرِيه توهم نقص أصلا وَمن هَذَا شَأْنه فان الْقُلُوب لَا يكون شَيْء أحب إِلَيْهَا مِنْهُ مَا دَامَت فطرها وعقولها سليمَة وَإِذا كَانَت أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهَا فَلَا محَالة أَن محبته توجب عبوديته وطاعته وتتبع مرضاته و استفراغ الْجهد فِي التَّعَبُّد لَهُ والإنابة إِلَيْهِ وَهَذَا الْبَاعِث أكمل بواعث الْعُبُودِيَّة وأقواها حَتَّى لَو فرض تجرده عَن الْأَمر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب استفرغ الوسع واستخلص الْقلب للمعبود الْحق ) .
و الله - عز وجل - يستحق العبادة ؛ لأنه المنعم علينا بالحياة و السمع والبصر والعقل والإحساس وغير ذلك من النعم التي لا تعد و لا تحصى ، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وأعطاها وبغض من أساء إليها ومنعها ، وكلما ازداد العطاء و الإحسان ازداد الحب خاصة إذا ما كان العطاء بلا مقابل .

والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم كالحياة والفهم والسمع والبصر .

والعبادة غاية التعظيم، والعقل يشهد بأن غاية التعظيم لا يليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام والإحسان


والله – سبحانه وتعالى – هو الذي يجلب للإنسان النفع والرزق ويدفع عنه الضر والمرض ،ويصرف عنه الشر و السوء ،ويجيب المضطر إذا دعاه ،وهذه الأمور لا يستطيعها إلا من ملك السماوات والأرض وما بينهما فالله – سبحانه وتعالى - هو مصدر خير الإنسان ونفعه ومنع الضرر عنه .


ويقول ابن تيمية – رحمه الله - : (فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره؛ خضع له وذل؛ وانقاد وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته ) .


و الله – سبحانه وتعالى - كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فالذي لا يعبد الله لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه فعندنا عبادة للذات ؛ لأنه سبحانه يستحق العبادة لذاته، وعبادة لصفات الذات في معطياتها، فمَنْ لم يعبده لذاته عبده لنعمته .


ويقول ابن تيمية – رحمه الله – : ( في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه: فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو سبحانه الذي ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا ؛ وما فعل بك لا يقدر عليه غيره. ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضرر: فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره، وهو الذي يدفع الضرر لا يدفعه غيره ) .

و يقول ابن القيم – رحمه الله -: ( ولما كانت عبادته تعالى تابعة لمحبته وإجلاله وكانت المحبة نوعين : محبة تنشأ عن الأنعام والإحسان فتوجب شكرا وعبودية بحسب كمالها ونقصانها ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وطاعة أكمل من الأولى كان الباعث على الطاعة والعبودية لا يخرج عن هذين النوعين ) .

و إذا اعترف الإنسان أن الله ربه وخالقه وأنه مفتقر إليه، محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله .

والناس مفطورون على التعبد لمعبود معين ،وعند النفس البشرية حاجة ذاتية إلى إله تعبده و معبود تتعلق به وتسعى إليه، وتعمل على مرضاته ،وجميع الأمم التي درس العلماء تاريخها تجدها اتخذت معبودات تتجه إليها وتقدَّسها مما يدل على وجود اتجاه فطري إِلَى أن يكون هناك إله معبود .

و إذا لم يهتد الإنسان إلى الإله المعبود بحق وهو الله سبحانه تعالى بسبب وجود مؤثرات تجعله ينحرف عن الفطرة السليمة فإنه يُعبِّد نفسه لأي معبود آخر ليشبع في ذلك نهمته إلى العبادة ، وذلك كمن استبد به الجوع فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه فإنه يتناول كل ما يمكن أكله ولو كان خبيثا ليسد به جوعته .










لماذا نعبد الله ؟

نعبد الله ؛ لأنه خالقنا ومالكنا ،ومن حق الخالق أن يعبد .

ونعبد الله ؛ لأنه خالقنا ومالكنا وقد أمرنا بعبادته قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ( البقرة : 21 ) وإذا طلب منك ملك من ملوك الدنيا فعل شيء فهل ستتأخر عن ذلك ؟!! وإذا طلب منك رئيس من رؤساء الدول فعل شيء فهل ستتأخر عن ذلك ؟!! وإذا طلب منك أحد الوزراء فعل شيء فهل ستتأخر عن ذلك ؟!! والله أحق أن تطيعه.


ونعبد الله ؛ لأن في عبادته السعادة في الدنيا والآخرة قال تعالى : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (النحل:97) ، و قال تعالى : ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ﴾ ( طه :123-124 ) ،و قال تعالى : ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ( النور : 55 ) ،و قال تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ ( الأعراف : 96 )

ونعبد الله ؛ لأن في عبادته الخير لنا قال تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾ ( النساء :66 ) وقال قتادة و غيره من السلف : « إنَّ الله سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلاً منه ، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم » .


ونعبد الله ؛ لأنه يستحق العبادة لذاته فهو كامل في أسمائه وكامل في صفاته وكامل في أفعاله قال تعالى : ﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ( النحل : 60 ).

ونعبد الله ؛ لأنه المنعم علينا بأجل النعم فقد خلقنا في أحسن تقويم وفضلنا على كثير مما خلق ، و سخر لنا ما في الأرض ورزقنا من الطيبات ووهب لنا السمع والبصر والفؤاد وغير ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى قال تعالى : ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ( النحل : 18 ) ،وقال تعالى : ﴿ ومَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله‏ ﴾ ( النحل : 53 )


ونعبد الله ؛ لنفوز بمرضاته وحبه وقربه منا قال تعالى : ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ ( العلق : 19 )،و الواحد من الناس يحب أن يفعل الأمر الذي يحبه ملك من ملوك الدنيا ،و الله – سبحانه وتعالى - ملك الملوك فهو أحق بأن نفعل ما يحبه .

ونعبد الله ؛ لأن في عبادة الله مع استشعار مناجاته وقربه لذة لا تضاهى بلذات الدنيا ،ويجد المرء أثناء ممارسته العبادة أنسا وسعادة وانشراحا وراحة ما بعدها راحة و حلاوة ما بعدها حلاوة ،و المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته، وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل .

د.ربيع أحمد
03-31-2015, 06:03 PM
مفهوم العبادة

للعبادة العديد من التعريفات من أحسنها وأجمعها تعريف ابن تيمية – رحمه الله – حيث قال : ( الْعِبَادَة هِيَ اسْم جَامع لكل مَا يُحِبهُ الله ويرضاه من الْأَقْوَال والأعمال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة. فَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَصدق الحَدِيث وَأَدَاء الْأَمَانَة وبرّ الْوَالِدين وصلَة الْأَرْحَام وَالْوَفَاء بالعهود وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد للْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَالْإِحْسَان للْجَار واليتيم والمسكين وَابْن السَّبِيل والمملوك من الْآدَمِيّين والبهائم وَالدُّعَاء وَالذكر وَالْقِرَاءَة وأمثال ذَلِك من الْعِبَادَة.

وَكَذَلِكَ حب الله وَرَسُوله وخشية الله والإنابة إِلَيْهِ وإخلاص الدَّين لَهُ وَالصَّبْر لحكمه وَالشُّكْر لنعمه وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ والتوكل عَلَيْهِ والرجاء لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْف من عَذَابه وأمثال ذَلِك هِيَ من الْعِبَادَة لله.

وَذَلِكَ أَن الْعِبَادَة لله هِيَ الْغَايَة المحبوبة لَهُ والمرضية لَهُ الَّتِي خَلق الْخلق لَهَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ( الذاريات : 56) وَبهَا أرسل جَمِيع الرُّسُل ) .

و يقول ابن باديس – رحمه الله - : ( العبادة هي التوجه بالطاعة لله امتثالا لأمره وقياما بحقه مع الشعور بالضعف والذل أمام قوة وعز الربوبية وذلك يبعث على الخوف المأمور به، ومع الشعور بالفقر والحاجة أمام غنى وفضل الربوبية وذلك يبعث على الرجاء المأمور به ) .

و من الناس من يتوهم أن العبادة مقصورة على الصلاة والصوم والزكاة والحج ،وهذا خطأ فالعبادة ليست مقصورة على مناسك التعبد المعروفة من صلاة وصيام وزكاة وحج.. إلخ, بل إن العبادة هي العبودية لله وحده، والتلقي من الله وحده في كل أمور الدنيا والآخرة، إنها الصلة الدائمة لله في كل قول أو عمل أو شعور، فالإنسان عابد لله حيثما توجه إلى الله، ومن ثم تشمل "العبادة" الحياة، ويصبح الإنسان عابدا في كل حين .





















الله عز وجل مستحق للعبادة لذاته وصفاته وأفعاله


الله - عز وجل - مستحق للعبادة ؛ لأنه خالق الكون ومدبره ورب جميع العوالم والكائنات ،والعبادة حق الله على جميع مخلوقاته حق الخالق على المخلوق ، و الله خالقنا ومالكنا، وللمالك أن يأمر وينهى ، ومن ينكر حق الله على خلقه أعظم جرما وفرية ممن ينكر حق الوالدين على الولد ،وحق المدرس على تلاميذه وحق الوطن على أبنائه .


و الله - عز وجل - يستحق العبادة لذاته بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى إذ النفوس مجبولة على حب الكمال ، و الله - عز وجل – له الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعا وفطرةً ،و الله – سبحانه وتعالى - يستحق العبادة لا لكونه خلق الخلق فقط بل أيضا يستحق العبادة لذاته .


ويقول ابن القيم – رحمه الله - : ( وَلَا ريب أَن كَمَال الْعُبُودِيَّة تَابع لكَمَال الْمحبَّة وَكَمَال الْمحبَّة تَابع لكَمَال المحبوب فِي نَفسه وَالله سُبْحَانَهُ لَهُ الْكَمَال الْمُطلق التَّام فِي كل وَجه الَّذِي لَا يَعْتَرِيه توهم نقص أصلا وَمن هَذَا شَأْنه فان الْقُلُوب لَا يكون شَيْء أحب إِلَيْهَا مِنْهُ مَا دَامَت فطرها وعقولها سليمَة وَإِذا كَانَت أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهَا فَلَا محَالة أَن محبته توجب عبوديته وطاعته وتتبع مرضاته و استفراغ الْجهد فِي التَّعَبُّد لَهُ والإنابة إِلَيْهِ وَهَذَا الْبَاعِث أكمل بواعث الْعُبُودِيَّة وأقواها حَتَّى لَو فرض تجرده عَن الْأَمر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب استفرغ الوسع واستخلص الْقلب للمعبود الْحق ) .
و الله - عز وجل - يستحق العبادة ؛ لأنه المنعم علينا بالحياة و السمع والبصر والعقل والإحساس وغير ذلك من النعم التي لا تعد و لا تحصى ، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وأعطاها وبغض من أساء إليها ومنعها ، وكلما ازداد العطاء و الإحسان ازداد الحب خاصة إذا ما كان العطاء بلا مقابل .

والعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم كالحياة والفهم والسمع والبصر .

والعبادة غاية التعظيم، والعقل يشهد بأن غاية التعظيم لا يليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام والإحسان


والله – سبحانه وتعالى – هو الذي يجلب للإنسان النفع والرزق ويدفع عنه الضر والمرض ،ويصرف عنه الشر و السوء ،ويجيب المضطر إذا دعاه ،وهذه الأمور لا يستطيعها إلا من ملك السماوات والأرض وما بينهما فالله – سبحانه وتعالى - هو مصدر خير الإنسان ونفعه ومنع الضرر عنه .


ويقول ابن تيمية – رحمه الله - : (فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره؛ خضع له وذل؛ وانقاد وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته ) .


و الله – سبحانه وتعالى - كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فالذي لا يعبد الله لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه فعندنا عبادة للذات ؛ لأنه سبحانه يستحق العبادة لذاته، وعبادة لصفات الذات في معطياتها، فمَنْ لم يعبده لذاته عبده لنعمته .


ويقول ابن تيمية – رحمه الله – : ( في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه: فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو سبحانه الذي ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا ؛ وما فعل بك لا يقدر عليه غيره. ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضرر: فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره، وهو الذي يدفع الضرر لا يدفعه غيره ) .

و يقول ابن القيم – رحمه الله -: ( ولما كانت عبادته تعالى تابعة لمحبته وإجلاله وكانت المحبة نوعين : محبة تنشأ عن الأنعام والإحسان فتوجب شكرا وعبودية بحسب كمالها ونقصانها ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكماله فتوجب عبودية وطاعة أكمل من الأولى كان الباعث على الطاعة والعبودية لا يخرج عن هذين النوعين ) .

و إذا اعترف الإنسان أن الله ربه وخالقه وأنه مفتقر إليه، محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله .

والناس مفطورون على التعبد لمعبود معين ،وعند النفس البشرية حاجة ذاتية إلى إله تعبده و معبود تتعلق به وتسعى إليه، وتعمل على مرضاته ،وجميع الأمم التي درس العلماء تاريخها تجدها اتخذت معبودات تتجه إليها وتقدَّسها مما يدل على وجود اتجاه فطري إِلَى أن يكون هناك إله معبود .

و إذا لم يهتد الإنسان إلى الإله المعبود بحق وهو الله سبحانه تعالى بسبب وجود مؤثرات تجعله ينحرف عن الفطرة السليمة فإنه يُعبِّد نفسه لأي معبود آخر ليشبع في ذلك نهمته إلى العبادة ، وذلك كمن استبد به الجوع فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه فإنه يتناول كل ما يمكن أكله ولو كان خبيثا ليسد به جوعته .










لماذا نعبد الله ؟

نعبد الله ؛ لأنه خالقنا ومالكنا ،ومن حق الخالق أن يعبد .

ونعبد الله ؛ لأنه خالقنا ومالكنا وقد أمرنا بعبادته قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ( البقرة : 21 ) وإذا طلب منك ملك من ملوك الدنيا فعل شيء فهل ستتأخر عن ذلك ؟!! وإذا طلب منك رئيس من رؤساء الدول فعل شيء فهل ستتأخر عن ذلك ؟!! وإذا طلب منك أحد الوزراء فعل شيء فهل ستتأخر عن ذلك ؟!! والله أحق أن تطيعه.


ونعبد الله ؛ لأن في عبادته السعادة في الدنيا والآخرة قال تعالى : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (النحل:97) ، و قال تعالى : ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ﴾ ( طه :123-124 ) ،و قال تعالى : ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ( النور : 55 ) ،و قال تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ ( الأعراف : 96 )

ونعبد الله ؛ لأن في عبادته الخير لنا قال تعالى : ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾ ( النساء :66 ) وقال قتادة و غيره من السلف : « إنَّ الله سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلاً منه ، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم » .


ونعبد الله ؛ لأنه يستحق العبادة لذاته فهو كامل في أسمائه وكامل في صفاته وكامل في أفعاله قال تعالى : ﴿ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ( النحل : 60 ).

ونعبد الله ؛ لأنه المنعم علينا بأجل النعم فقد خلقنا في أحسن تقويم وفضلنا على كثير مما خلق ، و سخر لنا ما في الأرض ورزقنا من الطيبات ووهب لنا السمع والبصر والفؤاد وغير ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى قال تعالى : ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ( النحل : 18 ) ،وقال تعالى : ﴿ ومَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله‏ ﴾ ( النحل : 53 )


ونعبد الله ؛ لنفوز بمرضاته وحبه وقربه منا قال تعالى : ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ ( العلق : 19 )،و الواحد من الناس يحب أن يفعل الأمر الذي يحبه ملك من ملوك الدنيا ،و الله – سبحانه وتعالى - ملك الملوك فهو أحق بأن نفعل ما يحبه .

ونعبد الله ؛ لأن في عبادة الله مع استشعار مناجاته وقربه لذة لا تضاهى بلذات الدنيا ،ويجد المرء أثناء ممارسته العبادة أنسا وسعادة وانشراحا وراحة ما بعدها راحة و حلاوة ما بعدها حلاوة ،و المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته، وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل .

د.ربيع أحمد
03-31-2015, 06:05 PM
نظرات في كلام ملحد

سنتناول بإذن الله في هذه الجزئية الرد على بعض ما كتبه أحد الملاحدة في مواقعهم الخبيثة .

يقول الملحد : ( قيمة الأشياء تتميز في مقدار تأثيرها علينا ،و تأثير الله علينا هو الخلق ،والخلق ليس سببا كافيا للعبادة )،و قوله : قيمة الأشياء تتميز في مقدار تأثيرها علينا حق أريد به باطل ،وقوله : تأثير الله علينا هو الخلق فيه غض الطرف عن جميع آثار الله ،وقصرها على الخلق وهذا من الظلم والجور ،وليس من العدل والإنصاف .

والواقع والمشاهد أن آثار الله أكبر من أن تعد وتحصى ،ولو خلق الله الكون وتركه هملا لهلك الكون فالكون يحتاج للخالق كي يظل قائما فلابد من عناية الله بالكون ،وهذه نعمة تستوجب استحقاق الله بالعبادة .

وخلق الله الكون بهذه السعة وهذا الإحكام والتناسق لدليل على عظمة الله وكماله وحكمته مما يوجب استحقاقه بالعبادة .

و خلق الله للإنسان بعد أن لم يكن شيئا ووهب الحياة له ما هو إلا فضل و جود وكرم من الله للإنسان يستوجب استحقاق الله بالعبادة .
والله هو الذي يرزقنا و يجلب لنا الخير و يدفع عنا الضر ،و كل هذه نعم تستوجب استحقاق الله بالعبادة .

والله هو الذي سخر لنا ما في الأرض جميعا ،وهذه نعمة تستوجب استحقاق الله بالعبادة .

والله هو الذي وهبنا السمع والبصر والفؤاد والتذوق والعقل والكلام والحركة ،و كل هذه نعم تستوجب استحقاق الله بالعبادة .

والله هو الذي خلق لنا النبات والحيوان والطيور والأسماك لنستمتع ولنتمتع ولننتفع بها ،و كل هذه نعم تستوجب استحقاق الله بالعبادة .

والله هو الذي يطعمنا ويسقينا و إذا مرضنا يشفينا ،ويجيب المضطر إذا دعاه و كل هذه نعم تستوجب استحقاق الله بالعبادة .

وقول الملحد : والخلق ليس سببا كافيا للعبادة فيه جحود لحق الخالق على المخلوق وهذا من الظلم والجور و أعظم جرما وفرية ممن ينكر حق الوالدين على الولد،وحق المدرس على تلاميذه وحق الوطن على أبنائه.


ويقول الملحد هداه الله : ( الخلق لابد أن يكون له هدف سامي ،و غياب أي الهدف يجعل عملية الخلق عبثيةً ،و في حالة وجود هدف، فالهدف في حد ذاته ينسف صفة الكمال والاكتفاء الذاتي عند الله، وفي حالة غياب أي هدفٍ أو غايةٍ للخلق فلماذا سنعبده ؟ ) وقوله : الخلق لابد أن يكون له هدف سامي ،و غياب أي الهدف يجعل عملية الخلق عبثيةً حق أريد به باطل ،ونحن نعتقد أن الله لا يفعل شيء إلا لحكمة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ،وليس معنى عدم معرفتنا للحكمة من شيء ألا حكمة فيه فعقولنا قاصرة وعلمنا محدود والعلم يكشف لنا كل يوم أشياء كنا نجهلها فيما سبق .

وقول الملحد : و في حالة وجود هدف، فالهدف في حد ذاته ينسف صفة الكمال والاكتفاء الذاتي عند الله ،هذا سفسطة و إدعاء بلا دليل ، وأي إدعاء بلا دليل فهو باطل مرفوض فوجود هدف وغاية من عمل الشيء ينفي عن الفاعل العبثية وعدم الغائية وعدم وجود هدف من عمل الشيء شيء مذموم لا محمود ،والخالق منزه عن النقص والذم .

ولعل الملحد قصد بالهدف الدافع ،وهو قوى محركة تبعث النشاط في الكائن الحي و تُبدئ السلوك وتوجهه نحو هدف أو أهداف معينة أو الدافع هو أي عمل داخلي في الكائن يدفعه إلى عمل معين، والاستمرار في هذا العمل مدة معينة من الزمن حتى يشبع هذا الدافع فالدافع ينشأ عن حالة من التوتر يصحبه شعور الفرد بنقص أو حاجة معينة ليوجه السلوك باتجاه تحقيق هدف أو نتيجة لإشباع الحاجة أو النقص لدى الفرد .

ووراء كل سلوك يصدر عن الكائن الحي دافع قوي يحركه أو حاجة قوية تحركه وتدفعه إلى الظهور أي الدافع ينشأ نتيجة افتقاد الكائن الحي لشيء ما فينتج عن ذلك نوع من التوتر يدفعه إلى محاولة إرضاء الحاجة المفتقدة ،و الله عز وجل لا يوصف بذلك فهو القيوم وواجب الوجود لذاته.

و الله - عز وجل – لم يخلق الخلق ليحقق كمالا ما فهو واجب الوجود لذاته وكامل في ذاته و صفاته .

و الله - عز وجل – لم يخلق الخلق ليشبع حاجة ما فهو قيوم قائم بنفسه مستغني بنفسه عن غيره ، و الله - عز وجل – لا يحتاج لشيء بل الخلق يحتاجون إليه .

و الله - عز وجل له حكمة وغاية وهدف من الخلق ،وليس له حاجة من الخلق ،والحكمة من الخلق أن نعبده قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ( الذاريات : 56) و في عبادته سبحانه صلاحنا و سعادتنا في الدنيا و الآخرة ونحن الذين نحتاج عبادته ،ونحن من ننتفع بعبادته فأمره لنا بالعبادة من حبه لنا ،ومن فضله وكرمه علينا

و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده باختيارنا تشريفا لنا و تمييزا لنا عن كثير من خلقه سبحانه .
و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده ؛ لأنه يحب أن يرى امتثالنا و طاعتنا له سبحانه .
و الله – عز وجل - خلقنا لنعبده باختيارنا لينعم علينا في الآخرة - إذا عبدناه وحده وأطعناه - بالسعادة الأبدية ،وذلك كرم منه و فضل .
وكون الله هو الخالق فهذا يقطع بعدم احتياجه لغيره فكيف ندعي أنه يحتاج عبادتنا ،وهو لايحتاج لغيره ؟!!

و الله – عز وجل - ما كلف المكلفين ليجرّ إلى نفسه منفعةً أو ليَدْفَع عن نفسه مضرَّة ؛ لأنه تعالى غني على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة، لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته في جميع صفاته يكون غنياَ على الإطلاق و أيضاً فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسيّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ممتنع أن ينتفع بصلاة «زَيْدٍ» وصيامِ «عَمْرٍو» وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذلك .


وقول الملحد : وفي حالة غياب أي هدفٍ أو غايةٍ للخلق فلماذا سنعبده ؟ والجواب نقطع بأن أي فعل لله – عز وجل - له غاية وحكمة فهو الحكيم في أفعاله ،ودقة الكون وتناسقه ووضع كل شيء في الكون في موضعه دليل على علم الله وقدرته و حكمته .

ومجرد خلق الله لنا ،وإنعامه علينا بالحياة فهذه نعمة تستوجب العبادة سواء علمنا الغاية من الخلق أو لم نعلم ،ومن يقول لا أعبد الله رغم أنه خلقني ؛ لأني لا أعرف الغاية من خلقي كمن يقول لا أطيع والدي رغم أني أعرف أنه والدي ؛ لأنه لم يبين لي لماذا أنجبني ؟
ومجرد إنعام الله علينا بأجل النعم كالحياة والسمع والبصر والعقل فهذا يستوجب عبادته سبحانه سواء علمنا الغاية من الخلق أو لم نعلم ،ومجرد اتصاف الله بصفات الجلال والكمال فهذا يستوجب عبادته سبحانه سواء علمنا الغاية من الخلق أو لم نعلم ،ومن رحمة الله بنا أرسل لنا أنبياء ورسلا ليعرفونا الغاية من الخلق و كيف نعبد الخالق ؟ .


يقول الملحد : ( ربما عظمته وجلاله في حد ذاتها سببٌ كافي يدفعنا للعبادة ) حقا عظمة الله وجلاله وكماله وجماله تستوجب استحقاق عبادة الله لذاته .

ويقول الملحد : ( ربما السبب أن الله بنفسه طلبَ مِنا عبادته ،و طلبه هذا جاء من كائنٍ في موقع قوةٍ تجاه كائنٍ آخر في موقع ضعف ،وهذا فيه استغلال للقوة و القدرة في إيذائنا ليفرض أحكامهِ علينا بل يلجأ للتهديد والترغيب (قانونياً هذه جريمة ابتزاز) يلجأ للتهديد والترغيب (قانونياً هذه جريمة ابتزاز) لإجبارنا على تنفيذ أوامره التي لا نعرف سببًا واضحًا لها أو غايةً معينة ) وهذا سوء أدب وتشويه للحقائق بالسفسطة فما علاقة طلب العبادة باستغلال القوة ؟ وهل أجبرنا الله على العبادة أم خيرنا ؟ وهل أسلوب الترهيب دليل على حب الله لنا أم كرهه لنا ؟ .

و تحذير الله لنا أن نعصيه دليل على حبه لنا كما أن الوالد الذي يخاف على ولده من الرسوب في الامتحان يحذره من الرسوب فيقول لولده : لو رسبت سأفعل بك وأفعل ،وكما أن الأم التي تحب أن يكون لباس ابنها نظيفا تحذره من اتساخ الملابس فتقول : لو اتسخت ملابسك سأفعل بك وأفعل وهل تهديد الحكومة لمن يخالف القانون شيء مذموم ؟ وهل تهديد الأب لابنه الذي لا يذاكر أنه سيعاقبه شيء مذموم ؟ ،وهل تهديد رئيس العمل للموظف الذي يخطئ شيء مذموم ؟
.
ولو سلمنا جدلا أن أسلوب الترهيب فيه استعمال القوة فهل استعمال القوة لتقويم المعوج شيء مذموم ؟ وهل تقويم الحكومة للمجرم شيء مذموم ؟ وهل عقاب الأب لابنه على خطأ ارتكبه شيء مذموم ؟

سبحان ربي الله يأمرنا بما فيه الخير لنا و الملحد لا يريد الخير ،والله يأمرنا بما فيه الصلاح لنا والملحد لا يريد الصلاح قال تعالى : ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ ( النساء : 27 )


وقول الملحد : ( لإجبارنا على تنفيذ أوامره التي لا نعرف سببًا واضحًا لها ) الملحد يعترض على خالقه أنه يأمره بأوامر لا يعرف الغاية منها لكنه لا يعترض على من أعلى منه في العمل عندما يأمره بشيء لا يعرف الغاية منه ،وهل يجب على الأعلى إذا أراد من الأدنى منه أن يفعل شيء أن يبين له الحكمة من الأمر ؟!

ويقول الملحد : ( إن ضررها – يقصد الصلاة - في أغلب الأحيان أكثر من فوائدها لما تثيره من تبلدٍ للفكر (ترديد نفس العبارات مراراً وتكراراً) وإضاعةٍ للوقت وتبذيرٍ للجهد ) وهذا كلام مخالف للواقع فالصلاة إذا أديت كما ينبغي نهت عن الفحشاء والمنكر وكانت سببا في زوال الهموم وكانت راحة للنفس والبدن ،و من المعلوم أن الركوع والسجود في الصلاة يقويان عضلات البطن والساقين والفخذين ،و تزيد حركات الصلاة من نشاط الأمعاء وبالتالي تقلل من الإمساك ،والملحد يكره ضياع جزء من الوقت بسبب الصلاة لخالقه ، و كم ضيع وقته في مداعبة زوجته أو ولده أو صديقه !!

والملحد يعيب تكرار نفس العبارات في الصلاة رغم أنها كلمات طيبة والسؤال ما المانع من تكرار الكلام الطيب ؟ وهل تكرار الكلام الطيب يؤثر تأثيرا سلبيا على الإنسان ؟ وهل تكرار تعبيرك لزوجك بالحب أمر غير مرغوب ؟ وهل تكرار تعبيرك لأمك بالحب أمر غير مرغوب فيه ؟


و يقول الملحد : ( حاجة الله لعبادتنا تنفي عنه صفة الكمال لثبات حاجته ) والسؤال ما دليلك أن الله يحتاج العبادة منا ؟ ألا تعلم أن الله عندنا واجب الوجود لذاته ؟ ألا تعلم أن الله عندنا قيوم ؟ والملحد ربما توهم أن طلب الله العبادة منا دليل على احتياجه لها ،وهذا الفهم مبني على مغالطة أن كل أمر يأمر به السيد عبده يحتاجه السيد من العبد ،وهذا ليس صحيحا فقد يكون الأمر اختبارا من السيد لعبده ،وقد يكون الأمر تشريفا للعبد بفعل شيء جدير أن يفعله ، وقد يكون الأمر لمحبة السيد أن يرى امتثال عبده له وطاعته له ، وقد يأمر السيد عبده بشيء إذا فعله رفع منزلته عنده و أفاض عليه بعطايا عظيمة ، ولله المثل الأعلى .


و يقول هذا الملحد : ( ولو افترضنا نحن حاجتنا لعبادته فإن تلك الحاجة تنفي التكليف الذي يفرضه علينا، لأن العبادة حينها ستكون حاجةً طبيعيةً مثل الحاجات الإنسانية الأخرى كالهواء والغذاء ) .وهذا الكلام تشويه للحقائق بالسفسطة وأين الدليل الدال أن الحاجة تنفي التكليف ؟ وهل من موانع التكليف الاحتياج ؟ نحن نعلم أن من موانع التكليف الجهل والخطأ والنسيان والإكراه ،ولم نقرأ في أي شرع أو قانون أن الحاجة من موانع التكليف ،وما قولك في حاجة المغتصب في الاغتصاب و حاجة السارق في السرقة ؟!!.

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

مراجع المقال :

آثار ابن باديس
التفسير المنير للزحيلي
الفتاوى الكبرى لابن تيمية
القرآن وعلم النفس لمحمد عثمان نجاتي
اللباب في تفسير الكتاب
المخصص لابن سيده
تجريد التوحيد المفيد لتقي الدين المقريزي
تفسير الشعراوي
شرح أسماء الله الحسنى للرازي
طريق الهجرتين لابن القيم
علم النفس التربوي لأحمد زكي صالح
قاعدة في المحبة لابن تيمية
مجموع الفتاوى لابن تيمية
مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب
مفتاح دار السعادة لابن القيم
مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها لعلى أحمد مدكور
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي

د.ربيع أحمد
03-31-2015, 06:12 PM
للتحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=349002) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/84552/)

د.ربيع أحمد
04-20-2015, 03:52 PM
الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغُر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتك بالإيمان، ويعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض به يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.
ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهل بالدين، وضعف العقيدة واليقين، والاسترسال في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل.
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل، وادعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد، شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشُبَههم.
وفي هذا المقال سنتناول - بإذن الله - استدلال الملحد الخاطئ بالصدفة.
الملاحدة والصدفة:
الصدفة عند الملاحدة لها عدة معانٍ، منها: حدوث الشيء دون علة؛ أي: الحدث لا تعليل له[1]، ومنها: حدوث الشيء بعلة مجهولة[2]،ومنها: حدوث الكون وانتظامه عبر سلسلة من العلل غير العاقلة وغير المدركة، ومنها: التقاء عرضي لسلسلتين من الأسباب[3]، ومنها:توفر مجموعة من العوامل بطريقة غير واعية لتُشكل ظاهرة.
ومن الملاحدة من يدعي أن الكون نشأ صدفة من لاشيء دون علة؛لأن القول بأن كل حادث يحتاج إلى محدِث قولٌ بلا دليل، ولا سبيل للبرهنة عليه، ومهما جمعمن أدلة من العالمفإنها لا تكفي للوصول إلى الكلية؛ لاستحالة اختباركل الحوادث، ومعرفة هل هي محتاجة إلى محدث أو لا، والسببية ما هي إلا عادة ذهنية ترسخت في الذهن عن طريق التكرار.
ومنهم من يدعي أن الكون بهذا الانتظام قد وُجد صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة، دون تنظيم أو تخطيط سابق.
وبالغ بعضهم فقال: لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير، فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء خلال بلايين السنين.
ومنهم من يدعي أن الحياة نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي Prebiotic Chemical Evolution استمر لملايين السنين، ابتداءً من الكيميائيات البسيطة، مرورًا بالجزيئات المتعددة polymers، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات تحفيزية، وصولًا إلى كائنات "ما قبل بكتيرية"، وأخيرًا وصولًا إلى بكتريا بسيطة.
ويقول البعض: إذا كان هناك احتمال - ولو ضئيلاً- في أن تنشأ الحياة من المادة صدفة بلا خالق عبر ملايين السنين، فمن الممكن أن تنشأ الحياة من المادة صدفة عبر ملايين السنين، وفي ظل وجود الكثير من الوقت المستحيل يصبح ممكنًا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدًا، وما على المرء إلا الانتظار، والوقت نفسه ينفذ المعجزات.
ويقول البعض:مادة الكون كانت موجودة قبل نشأة الكون، ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها وتناثرت، وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات؛ حيث كونت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء كونت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألَّف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب، وما زالت تتكون حتى وصل الكون إلى ما نراه عليه اليوم، وكل هذا صدفة دون تدخُّل قوى عاقلة مريدة.
ومن الملاحدة من يدعي أن الكون نشأ صدفة من لاشيء دون علة لوجود الفوضى في الكون.
ومنهم من يدعي أن الكون بهذا الانتظام قد تكوَّن صدفة نتيجة سلسلة من العلل المادية غير العاقلة وغير المدركة، وتوافر الظروف والعلل المادية لنشأة الكون أدى لنشأة الكون دون الحاجة لقوة عاقلة.
وقبل الرد على دعاوى الملاحدة حول الصدفة لا بد من بيان مفهوم الصدفة في اللغة وفي الفلسفة.

[1] - حدوث الشيء دون علة يعتبر صدفة مطلقة؛ كغليان الماء دون أي سبب، وهذا مستحيل؛ فمن المستحيل حدوث شيء دون علة وسبب.

[2] - الجهل بالعلة يعني عدم العلم بالعلة، وليس معناه انعدام العلة.

[3] - التقاء عرضي لسلسلتين من الأسبابيعني حدوث حدث معين نتيجة توافر سببه، ويتفق اقترانه بحدث آخر صدفة، وهذا يعتبر صدفة نسبية، وهذا ممكن الوقوع، مثل صديق كان يمشي في شارع لزيارة أحد أقاربه، فوجد صديقًا له كان ذاهبًا لشراء طعام من السوق صدفة، وهنا ترافق وتزامن مشي الصديق الأول مع مشي الصديق الثاني في نفس الشارع، ومثال آخر: يمكن أن تجد في مكان واحد في لحظة واحدة ماءً يتجمد، وماءً يغلي.

د.ربيع أحمد
04-20-2015, 03:59 PM
مفهوم الصدفة في اللغة:
الصدفة: من صادف الشخص مصادفة؛ أي: وجده، ولقِيه، ووافقه[1]، ومعنى وافقه؛ أي: لاقاه ووجده من غير موعد ولا قصد، وصادف صديقه في الطريق:لقيه مصادفةً[2]، وتصادفا:تقابلا على غير وعد[3]، ومن هنا نعلم أن المصادفة في اللغة تدل على وقوع الشيء اتفاقًا من غير قصد ولا توقُّع ولا ترتيب مسبق.
مفهوم الصدفة في الفلسفة:
مفهوم الصدفة في الفلسفة بوجه عام: ما يخرج على النظام والقانون المعروف، ولا يبدو له سبب ولا غاية واضحة، وهو أشبه ما يكون بالاتفاق، والمصادفة من الناحية العلمية: هي النتائج غير المتوقعة والمترتبة على تداخل الظواهر الخاضعة لقوانين ثابتة دون أن تكون هذه النتائج أقل ضرورة من النتائج المتوقعة، ويستخدم حساب الاحتمال في تحديدها[4]، ويمكن أن تعرَّف الصدفة بأنها كل عارض للإنسان لا يتوقعه، أو لا يعرف أسباب ظهوره[5]، ويمكن أن تعرف الصدفة بأنها حدوث حدث معين خلال علة لا تخضع لقانون عام، ولا يمكن اعتبار ظهور الحدثبعد تلك العلة قانونًا كليًّا؛ أي: هذا الحدث ليس ملازمًا لنوع العلة[6].
ولعل أرسطو هو أول من حدد معنى المصادفة فقال: إن من الموجودات ما هو بالطبع، ومنها ما هو بالصناعة أو الفن، ومنها ما هو بالمصادفة؛ أي: بالاتفاق والبخت، والمصادفة: هي اللقاء العرضي الشبيه باللقاء القصدي، أو هي العلة العرضية المتبوعة بنتائج غير متوقعة، تحمل طابع الغائية [7].
والمصادفة عند المحدثين تطلق على معنيين: أحدهماذاتي، والآخر موضوعي، أما المعنى الذاتي فهو القول:إن المصادفة هي الأمر الذي يبدو لنا مخالفًا للسوي من الطبائع؛ كالحوادث المتعلقة بالشخص الإنساني، أو بأمواله ومصالحه، فإنها إذا كانت مخالفة للنظام المألوف ومستعصية على التنبؤ كان وقوعها بالمصادفة...وأما المعنى الموضوعي: فهو القول:إن المصادفة هي الأمر الذي لا يمكن تفسيره بالعلل الفاعلة ولا بالعلل الغائية، أما الأول فمثاله الأمر المتولد من تلاقي سلسلتين من الأسباب المستقلة[8]، وأما الثاني فمثاله الأمر الذي ليس له غاية واضحة[9].
وقد بين كورنو أن المصادفة هي التلاقي الممكن بين حادثين أو أكثر تلاقيًا عرضيَّا لا يمكن تفسيره بالعلل المعلومة، وإن كان لكل حادثة من هذه الحوادث علل تخصها، فليست المصادفة إذًا خروجًا عن قوانين الطبيعة، وإنما هي أمر طبيعي يعجِز العقل عن الإحاطة بشروطه المعقدةوعلله كثيرة الاشتباك، لنفرض أن قرميدة سقطت على رأس أحد السائرين في الطريق، فسقوطها خاضعٌ لسلسلة من العلل الفيزيائية الميكانيكية، ومرور أحد المشاة بذلك المكان تابع لسلسلة أخرى من العلل الفيزيولوجية والنفسية، والمصادفة في هذا المثال هي التلاقي العرضي بين هاتين السلسلتين[10]؛ أي:رافَق وزامَن سقوط القرميدة مرور أحد المشاة.

[1] - تاج العروس للزبيدي 24/10 مادة صدف.
[2] - معجم اللغة العربية المعاصرة للدكتور أحمد مختار 2/1281.
[3] - المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة 1/510
[4] - المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة ص 185.
[5] - مثل صديق كان يمشي في شارع لزيارة أحد أقاربه فوجد صديقًا له كان ذاهبًا لشراء طعام من السوق صدفة، فكل صديق لم يتوقع أن يلتقي بصديقه الآخر، وهذا الالتقاء حدث عارض؛ أي: مؤقت، وليس دائمًا، أما لو كان أحدهم يعلم أنه سيلتقي بصديقه فلا يعتبر الأمر صدفة بالنسبة له، ومثال آخر: يمكن أن تجد في مكان واحد في لحظة واحدة ماءً يتجمد وماءً يغلي، فأنت لا تتوقع أن هذا الماء سيتجمد لحظة غليان الماء الآخر.
[6] - مثل رجل يحفِرُ الأرض بحثًا عن الماء، فوجد كنزًا، فهو لم يتوقع أن يجد كنزًا، وقد عثر على الكنز من غير قصد، وليس كل من يحفِر أرضًا بحثًا عن الماء يجد كنزًا؛ أي: ليس حفر الأرض بحثًا عن الماء ملازمًا للعثور على كنز، ومثال آخر: رجل كان يقود سيارته ذاهبًا إلى عمله، فاصطدم برجل يعبر الطريق ذاهبًا لمنزله، فصاحب السيارة لم يتوقع أن يصطدم بالرجل الذي كان يعبر الطريق، وقد اصطدم به من غير قصد، وليس كل من يقود سيارة ذاهبًا إلى عمله يصطدم برجل.
[7] - المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا ص 383.
[8] - مثل صاعقة كهربائية ضربت مبنى تجاريًّا في لحظة افتتاحه صدفة، وهنا ترافق وتزامن سقوط الصاعقة الكهربائية مع لحظة افتتاح المبنى التجاري، ومثال آخر: صديق كان يمشي في شارع لزيارة أحد أقاربه، فوجد صديقًا له كان ذاهبًا لشراء طعام من السوق صدفة، وهنا ترافق وتزامن مشي الصديق الأول مع مشي الصديق الثاني في نفس الشارع.
[9] - مثل رجل يحفر الأرض بحثًا عن الماء فوجد كنزًا، فهذا الكنز قد عثر عليه من غير قصد في العثور عليه؛ أي: لم يكن في ذهنه وهو يحفِر أن يحصل على كنز.
[10] - المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا ص 383-384.

د.ربيع أحمد
04-20-2015, 04:02 PM
الصدفة تصف كيفية الحدث، ولا تنفي وجود فاعل للحدث:
مما ينبغي معرفته: أن الصدفة تصف كيفية الحدث، ومعنى أن الفعل حدث صدفة؛ أي: الفعل حدث دون قصد وترتيب مسبق من الفاعل، ووصف كيفية حدوث الفعل لا ينفي وجود فاعل له، وعندما نسمع أن أثرًا من الآثار الفرعونية اكتشف صدفة لا نفهم من ذلك أن الأثر ليس له مكتشف[1]،وعندما نسمع أن أحد القوانين الفيزيائية اكتشف صدفة لا نفهم من ذلك أن القانون ليس له مكتشف[2]، وعندما نسمع أن شيئًا من الأشياء اخترع صدفة لا نفهم من ذلك أن هذا الشيء ليس له مخترع [3]،وعندما نسمع أن جريمة من الجرائم اكتشفت صدفة لا نفهم من ذلك أن هذه الجريمة ليس لها مرتكب[4].
والملاحدة الذي يقولون: "نشأة الكون ليست دليلاً على وجود خالق؛ لأن الكون نشأ صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة، دون تنظيم أو تخطيط سابق" كلامهم هذا لا يصح، وينم عن جهلهم بمفهوم الصدفة؛ إذ على التسليم الجدلي - تنزلاً معهم - أن الكون نشأ صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة دون تنظيم أو تخطيط سابق هذا لا ينفي وجود خالق للكون، ومكون للكون؛ لأن الصدفة ليست فاعلة، ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل، والفعل لا يوجد بدون فاعل.
ولو كان الكون قد نشأ نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة دون تنظيم أو تخطيط سابق، فلابد من وجود موجِد للكون أنشأ المادة التي كونت الكون، وجعلجزيئاتها تتفاعل، وأعطاها القابلية للتفاعل والتشكل، وهذه السلسلة من التفاعلات لها شروط معينة للحدوث، فتحتاج إلى من يهيئ لها الشروط المعينة لحدوثها، وهذه السلسلة من التفاعلات تحتاج إلى من يحافظ عليها كي تعطي نتائجها.
وإن قيل: قابلية التفاعل في المادة التي نشأ منها الكون هي التي كونت الكون، فمعنى هذا أن خصائص مادة الكون قد أنشأت الكون[5]، ومحصلة هذا القول أن الكون قد أنشأ نفسه بنفسه؛أي: الكون علة لنفسه، وهذا يقتضيأن يكون الكون سابقًا على نفسه في الوجود من حيث هو علة، ومتأخرًا على نفسه في الوجود من حيث هو معلول، وهذا ظاهر التناقض.
والصدفة وحدها أصغر من أن تفسر نشأة الكون، وتكوين هذا الكون من ذرات على النحو الذي هو عليه يستلزم أن تكون هذه الذرات قد صممت وهيئت، بحيث إنها إذا اجتمعت بطريقة معينة يتكون منها شيء معين في الكون، مثلاً تتجمع الذرات بطريقة معينة تكون ماءً، وبطريقة أخرى تكون أكسجين، وبطريقة أخرى تكون نيتروجين، وبطريقة أخرى تكون ذهبًا، وهكذا، فلا بد من وجود مصمم لها ومهيئ لهاقبل وجودها وقبل نشأة الكون.
إن فروع العلم كافة تثبت أن هنالك نظامًا معجزًا يسود هذا الكون، أساسه القوانين والسنن الكونية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، والتي يعمل العلماء جاهدين على كشفها والإحاطة بها، وقد بلغت كشوفنا من الدقة قدرًا يمكننا من التنبؤ بالكسوف والخسوف وغيرهما من الظواهر قبل وقوعها بمئات السنين.
فمن الذي سن هذه القوانين وأودعها كل ذرة من ذرات الوجود، بل في كل ما هو دون الذرة عند نشأتها الأولى؟ ومن الذي خلق كل ذلك النظام والتوافق والانسجام؟ من الذي صمم فأبدع وقدَّر فأحسن التقدير؟ هل خلق كل ذلك من غير خالق أم هم الخالقون؟ إن النظام والقانون وذلك الإبداع الذي نلمسه في الكون حيثما اتجهت أبصارنا يدل على أنه القدير، وعلى أنه العليم الخبير من وراء كل شيء[6].
والملاحدة الذي يقولون: "نشأة الحياة ليست دليلاً على وجود خالق؛ لأنها نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي Prebiotic Chemical Evolution استمر لملايين السنين ابتداءً من الكيميائيات البسيطة، مرورًا بالجزيئات المتعددة polymers، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات تحفيزية، وصولًا إلى كائناتما قبل بكتيرية، وأخيرًا وصولًا إلى بكتريا بسيطة"كلامهم هذا لا يصح، وينم عن جهلهم بمفهوم الصدفة؛ إذ على التسليم الجدلي - تنزلاً معهم - أن الحياة نشأة صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات فهذا لا ينفي وجود خالق للحياة؛ لأن الصدفة ليست فاعلة، ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل، والفعل لا يوجد بدون فاعل.
وعلى التسليم الجدلي أن الملاحدة قدموا الآلية الصحيحة لنشأة الحياة، فهم تكلموا عن كيفية نشأة الحياة، وليس لماذا نشأت الحياة،ومن الذي أنشأها؟ ومن الذي جعلها تنشأ بهذه الطريقة؟ إذالعلم يبحث عن الفعل، ولا يبحث عن الفاعل، ويبحث عن الحدث، ولا يبحث عن الحادث.
ولو كانت الحياة قد نشأت نتيجة سلسلة من التفاعلات، فلا بد من وجود موجِد للمواد التي تتفاعل، ولابد من وجود من أعطى هذه المواد القابلية للتفاعل، وهذه السلسلة من التفاعلات لها شروط معينة للحدوث، فتحتاج إلى من يهيئ لها الشروط المعينة لحدوثها، وهذه السلسلة من التفاعلات تحتاج إلى من يحافظ عليها كي تعطي نتائجها.
ولو كانت الحياة قد تطورت من مادة غير حية، فمن الذي طور هذه المادة؟ إذ أي تطور لا بد له من مطوِّر، وإن قيل: المادة هي التي طورت نفسها عبر ملايين السنين، فالجواب: هذا الكلام يستلزم أن الأدنى يتطور بنفسه إلى الأعلى، والتطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، أمرٌ مستحيل عقلًا؛ إذ الناقص لا ينتج الكامل في خطةٍ ثابتة، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود[7]، ويلزم من هذا الكلام قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض[8].

[1] - يوجد الكثير من المقابر الفِرعونية التي اكتشفت صدفة، ومن ذلك اكتشاف أهالي إحدى قرى أشمون المنوفية مصر بالصدفة مدخل مقبرة فرعونية أثناء إجراء حفائر لتشييد مسجد، وقاموا بإبلاغ مسؤولي المجلس الأعلى للآثار، الذين أوفدوا لجنة فنية وأثرية متخصصة، وتبين لهم أنه من الاكتشافات الأثرية المهمة، ويعود إلى العصر الفرعوني المتأخر للدولة الفرعونية القديمة.
[2] - يوجد الكثير من القوانين الفيزيائية التي اكتشفت صدفة، ومن ذلك اكتشاف أرشميدس لقانون الطفو، واكتشاف نيوتن للجاذبية.
[3] - من الأشياء التي اخترعت عن طريق الصدفة: اختراع هانز ليبرش للنظارة الطبية، واختراع جون واكر لأعواد الثقاب، واختراع ليبارون سبنسر للميكروويف.
[4] - ومن أشهر الجرائم التي اكتشفت صدفة: جريمة ريا وسكينة.
[5] - القابلية للتفاعل خاصية من خصائص المادة.
[6] - من مقدمة مترجم كتاب: الله يتجلى في عصر العلم،الدكتور الدمرداشعبدالمجيد ص 7.
[7] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمنحبنكة الميداني ص 331.
[8] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمنحبنكة الميداني ص 446.

د.ربيع أحمد
04-20-2015, 04:10 PM
احتمال وقوع الحدث لا يستلزم وقوعه:
ولا يعني إمكانية وقوعه بمعزل عن الأسباب الموجِدة له
ومما ينبغي التنبيه عليه أن احتمال وقوع الحدث لا يستلزم وقوعه، واحتمالية وقوعه تكون في كل مرة، فلوأن عندنا قطعة معدنية بها وجه صورة ووجه كتابة عندما نلقيها على الأرض، فاحتمال وقوع وجه الصورة في كل مرة واحد من اثنين 1/2، ويمكن أن تلقي القطعة المعدنية عشر مرات ولا تحصل على وجه الصورة، ويمكن أيضًا تلقيها عشرين مرة ولا تحصل على وجه الصورة.
ولوأن عندنا حجر نرد به ستة وجوه،فاحتمال الحصول على وجه "1" في كل مرة سيكون واحدًا من ستة 1/6، ويمكن أن تلقي حجر النرد عشر مرات ولا تحصل على وجه "1"، ويمكن أيضًا تلقيه عشرين مرة أوثلاثين مرة ولا تحصل على وجه "1".
وليس معنى أن الحدث يمكن حساب احتمالية وقوعه بالصدفة أنه ممكن الوقوع بمعزل عن الأسباب الموجِدة له،فالاحتمالية الرياضيةلا تعني أن الحدث قابل لأن يخرج إلى حيز الواقع دون أن تتوافر له المقدمات التي تنسجم مع القوانين الموجدة للظاهرة [1]، وعلى سبيل المثال: إن قال طالب لا يذاكر:إن من المحتمل أن أنجح بنسبة 50%، قيل له: النجاح له أسبابه، وليس معنى احتمالية نجاحك في الامتحان إمكان أن تنجح دون مذاكرة؛ فمن جد وجد، ومن زرع حصد.
ومن الملاحدة من يقول: "إذا كان هناك احتمال - ولو ضئيلاً- في أن تنشأ الحياة من المادة صدفة بلا خالق عبر ملايين السنين، فمن الممكن أن تنشأ الحياة من المادة صدفة عبر ملايين السنين، وفي ظل وجود الكثير من الوقت المستحيل يصبح ممكنًا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدًا، وما على المرء إلا الانتظار، والوقت نفسه ينفذ المعجزات"، والجواب: على التسليم الجدلي، تنزلاً معكم أيها الملاحدة، أن من المحتمل أن تنشأ الحياة من المادة صدفة بلا خالق عبر ملايين السنين، هذا الاحتمال لا يستلزم أن تنشأ الحياةصدفة بلا خالق، وليس معنى أن الحياة يمكن أن تنشأ صدفة عبر ملايين السنين أنها يمكن أن تنشأ بمعزل عن الأسباب الموجدة لها.
وقولهم: "من الممكن أن تنشأ الحياة من المادة صدفة عبر ملايين السنين، وفي ظل وجود الكثير من الوقت المستحيل يصبح ممكنًا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدًا" يستلزم أن المادة التي لا حياة فيها يمكن أن تعطي الحياة لغيرها، وهذا باطل؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه إذا كان لا يملِكه ولا يملك أسبابه، والمادة تفتقد الحياة، فكيف تهب الحياة لغيرها؟! والحياة شيء غير مادي، فكيف تكون ناتجة من شيء مادي؟! ما هذه العقول التي تصدق أن الشيء (وهو المادة) يمكن أن يتحول لغير جنسه (وهو الحياة) بنفسه دون تدخل قوة خارجية قادرة مريدة؟!
والحياة لا تأتي إلا من حي، والكائنات الحية لا يمكن أن تأتي إلا من كائنات حية مثلها، وكلام هؤلاء الملاحدة يستلزم قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض[2].
والبون الشاسع بين المادة والكائنات الحية لا يمكن تغافله؛ إذ المادة لا حياة فيها، ولا نمو ولا حركة ولا تكاثر، والكائن الحي كالإنسان والحيوان يتمتع بالحياة والنمو، والحركة والتكاثر.
وقولهم: "وفي ظل وجود الكثير من الوقت المستحيل يصبح ممكنًا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدًا" قول لا يصح؛ لأن الوقت عامل هدم لا عامل بناء؛ فالكائنات من إنسان وحيوان ونبات وأسماك وطيور وحشرات كلها تهرَمُ وتموت بمرور الوقت، والجمادات من بيوت وقصور وغير ذلك تفسُدُ وتبلىبمرور الوقت، وإذا تركت طعامًا أو لحمًا تجده يفسد بعد مدة معينة، حتى النجوم بمرور الوقت تجدهاتفقد وقودها من غاز الهيدروجينالذي يزودها بالطاقة، أضِفْ إلى ذلك أن الشيء الممكن قد يصير مستحيلاً بمرور الوقت.
وهؤلاء الملاحدة الذين يرون أن المادة قد أدت إلى ظهور عناصر متجاوزة لها - كالحياة مثلاً- هم في نهاية الأمر ينسبون للمادة مقدرات غير مادية، ومن ثم فإنهم يكونون قد خرجوا من مقاصد الفلسفة المادية، خصوصًا وأن فرضياتهم لا تخرج عن كونها تكهنات عنيدة طفولية تضمن لهم الاستمرار في ماديتهم، وتضمن لهم في الوقت ذاته تفسير ما حولهم من تركيب ووعي وغائية[3].
تكرار الحدث يقلل من احتمالية الصدفة:
مما ينبغي معرفته أن تكرار الحدث يقلل من احتمالية الصدفة حتى يصبح احتمالها في حكم العدم والمستحيل، وعندما يتكرر حدث معين بنفس النمط تستبعد الصدفة من الحسبان، وتبحث عن سبب؛فالصدفة لا تکونأکثرية أو دائميةفي الحدوث، بل عشوائية، لا قصد فيها ولا ترتيب، ولا يمكن التنبؤ بها قبل حدوثها.
مثال 1: لو وجدت حادثة من الحوادث تتكرر من حين لآخر في نفس المكانوبنفس النمط، لاشك أنك ستستبعد الصدفة، وتبحث عن سبب وراء ذلك، وهذا السبب ربما يكون خللاً ما في هذا المكان، أو شخصًا معينًا يتسبب في ذلك.
مثال 2: لو رسب طلاب مدرسة معينة في امتحان معين دون باقي المدارس، لاشك أنك ستستبعد الصدفة، وتبحث عن سبب وراء ذلك، ربما يكون خللاً في المنظومة التعليمية، أو إهمال أُسَرِ الطلاب لأبنائهم.
مثال 3: شخص يسكن في شقة وحيدًا، يذهب لعمله صباحًا ويأتي ليلاً، وعندما عاد لشقته يومًا وجد نافذة حجرة النوم مفتوحة، رغم أنه يغلق جميع نوافذ الشقة قبل خروجه منها، ثم تكرر هذا الأمر، لاشك أنه سيستبعد الصدفة، ويبحث عن سبب وراء ذلك، ويفكر في أن شخصًا ما يتسللإلى شقته.
ومن الملاحدة من يقول: "إن مادة الكون كانت موجودة ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها وتناثرت، وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، حيث كونت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء كونت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألَّف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب، وما زالت تتكون حتى وصل الكون إلى ما نراه عليه اليوم، وكل هذا صدفة دون تدخُّل قوى عاقلة مريدة".
وحسب قانون نيوتن الأول: الجسم الساكن يبقى ساكنًا ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتحركه، والجسم المتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم يبقى على هذه الحالة ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتغير الحالة الحركية له، ومادة الكون الأولى كانت ساكنة ثم انفجرت، فلا بد من وجود قوة خارجية أدت إلى ذلك؛ فكل حدث لا بد له من محدِث.
ومن المعلوم أن أي انفجار يتبعه تناثر لأشلاء عديدة وجسيمات صغيرة، فكيف يتبع الانفجارتجمُّع للجزئيات والجسيمات، وتكوين أرض وجبال وكواكب ونجوم ومجرات وغير ذلك دون وجود قوة خارجية حكيمة عالمة أدت لذلك؟! وقلنا:قوة عالِمة حكيمة؛لأن تناسق الكون وانتظامه يشهد بذلك، وكل شيء في الكون يوجد في المكان المناسب له، وجمال الطبيعة دليل على حكمة وعلم وإبداع خالقها، والعشوائية لا تنتج نظامًا، ولو سلمنا جدلاً وتنزُّلاً أنها أنتجت نظامًا، فسرعان ما يزولُ هذا النظام.
ومن المعلوم أن أي انفجار يتبعه دمار،فكيف يتبع الانفجار الكوني العظيم عمار وتكوين أرض وجبال وبحار ومحيطات وأنهار وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة؟!
ومن المعلوم أن أي انفجار يتبعه هدم، فكيف يتبع الانفجار الكوني بناء أرض وجبال وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة؟!
وعلى التسليم الجدلي أن الانفجار الكوني أدى إلى تكوين الكون ونشأته صدفة، فكيف يبقى ويستمر دون وجود قوة خارجية تحافظ على بقائه واستمراره؟!
وإذا كان الكون قد تطور من المادة الأولى له، فمن الذي طور هذه المادة؛ إذ أي تطور لا بد له من مطور؟ وإن قيل: المادة هي التي طورت نفسها عبر ملايين السنين، فالجواب: هذا الكلام يستلزم أن الأدنى يتطور بنفسه إلى الأعلى، والتطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، أمرٌ مستحيل عقلًا؛ إذ الناقص لا ينتج الكامل[4]، ويلزم من هذا الكلام قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض[5].
وإذا كان وجود هذا الكون عن طريقة الصدفة، أليس من الممكن، والحال هكذا، أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون كله؟ وتتعطل كل هذه المصالح من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك، مما في هذا الكون المترابط المنتظم بصورة تضمن استمرار الحياة سليمة عن الخراب والتداخل؛ إذ الشمس تجري لمستقر لها، والنجوم زينة للسماء، والقمر ضياء، والرياح لواقح، والسحب تحمل المطر، والليل في وقته، والنهار في وقته، كلها تجري لصالح الإنسان، ولبقاء الحياة هذه الدهور التي لا يعرف لها وقتًا إلا الله تعالى، بل والإنسان نفسه أعظم آية، كيف أوجدته الصدفة من العدم؟ وكيف وجد الإنسان الحي من مادة ليس لها حياة؟![6].
وعلى التسليم الجدلي أن تكوين كوكب من الكواكب كان صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين الكواكب الأخرى؟ ولو كان تكوين أحد الأقمار صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين الأقمار الأخرى؟ولو كان تكوين أحد النجوم صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين النجوم الأخرى؟ فإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت كوكبًا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث كوكب آخر كل مرة.
وإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت قمرًا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث قمر آخر كل مرة، وإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت نجمًا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث نجم آخر كل مرة، وإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت مجرة، فلا يمكنها أن تكرر إحداث مجرة أخرى كل مرة؛ أي: نحن أمام كمٍّ هائل من الأحداث المتكررة، التي يحيل العقل حدوثها دون وجود قوة عالمة حكيمة أدت لذلك،نحن أمام سلسلة من الصدف المنظمة،وليس صدفة واحدة.
وما دام الكون لم يكن إلا مادة راكدة ركودًا رهيبًا، ولم يكن هناك شيء غير المادة الراكدة، فمن أين أتت هذه "الصدفة" التي حركت الكون كله، مع أن هذا الحادث الذي وقع لم تكن له أية أسباب موجودة، لا داخل المادة ولا خارجها؟! وأطرف تناقض هنا: أن هذا التفسير يقرر وجوب واقعة قبل حدوث واقعة أخرى، حتى يمكن إرجاع نسبة هذه الواقعة الأخيرة إلى التي سبقتها، ولكن بالرغم من هذا يبدأ هذا التفسير نفسه من واقعة لا سابقة لها؛ فهذا هو الافتراض القائم بدون أي أساس، وهو الافتراض الذي أقيم عليه البناء الكامل لنظرية الخلق الصدفي (الاعتباطي) للكون.
وشيء آخر: أن هذا الكون، إذا كان مرهونًا بوقوع بعض المصادفات، فكيف نفسر اضطرار كل الوقائع والحوادث على نهج طرق معينة ثابتة نهجنا بالفعل، لولا هذا النهج لما كنا اليوم موجودين لنفكر في هذه القضايا، ألم يكن من الممكن أن يحدث شيء آخر نقيض تمامًا لما حدث؟
ألم يكن من الممكن أن ترتطم النجوم ببعضهاالبعض وتتحطم؟ وبعد حدوثالحركةفي المادة، أما كان من الممكن أن تبقى حركة مجردة دون أن تصبح حركة "ارتقائية"، تجري في سلسلة مدهشة من العمل التطوري لإيجاد الكون الخالي؟
ما هو ذلك المنطق الذي جعل النجوم والسيارات تتحرك بهذا النظام العجيب في الكون اللامتناهي؟وما هو ذلك المنطق الذي أوجد النظام الشمسي في ركن بعيد من أركان الكون؟ وما هو ذلك المنطق الذي أمكن بواسطته إجراء تغيرات مدهشة أتاحت الفرصة لنشأة الحياة الإنسانية على كرة الأرض؟
وهذه التغيرات التي قد حدثت بالفعل على كرتنا لا نعرف حتى الآن ما إذا كانت موجودة على ظهر سيار أو نجم آخر من ملايين المجرات المنتشرة في أركان الكون، فما هو المنطق الذي تسبب في إيجاد مخلوق حي من مادة بدون حياة؟ هل لأحد أن يقدم لنا تفسيرًا معقولًا لتوضيح: كيف وجدت الحياة على سطح الأرض؟ ولماذا؟ وتحت أي قانون تستأنف الحياة وجودها المدهش بهذا التسلسل؟!
ثم ما هو ذلك المنطق الذي أوجد في حيز مكاني صغير كل تلك الأشياء اللازمة لحياتنا ومدنيتنا؟ ثم ما هو ذلك المنطق الذي يعمل على إبقاء هذه الأحوال دائمًا في صالحنا كما هي؟ أي صدفة واتفاق يتيحان حدوث هذه الإمكانات بهذا التسلسل والترتيب الجميل، ثم استمرارها لملايين السنين بحيث لا يطرأ عليها أدنى تغير يخالف مصالح الإنسان؟
هل لديكم أيها المعارضون تفسير واقعي به صفة "اللزوم" التي التزمت بها وقائع مادية حدثت - بزعمكم- بمحض الصدفة؟ ومن أين أتت بحنينها للارتقاء الدائم نحو الأصلح بطريقة غريبة؟[7].
أجيبوا أيها الملاحدة: من أين حصل لهذا العالم هذا النظام العجيب، والترتيب الحكيم، الذي حارت فيه العقول؟ كيف ينسب ذلك إلى الاتفاق والمصادفة ومجرد البخت؟ وكيف اجتمعت تلك الأجزاء على اختلاف أشكالها، وتباين مواردها وقواعدها؟ وكيف حفظت وبقيت على تآلفها؟ وكيف تجددت المرة بعد المرة؟![8].
إن الصدفة في مجال الكون مستحيلة في ذاتها، فضلًا عن أن ينبثق عنها هذا الإحكام والنظام، ولو سلمنا جدلًا بصدفة واحدة في البداية، فهل يقبل عقلنا بسلسلة طويلة متتابعة من المصادفات؟[9].
والعلامة المميزة للمصادفة:هي عدم الاطراد وعدم النظام، بينما النظام السائد في هذا الكون ثابت كل الثبات، مطرد بلا تخلُّف، على تعقُّده، تحكمه قوانين نتوقع معلولاتها توقعًا يقينيًّا: فكيف يدعى أن مثل هذا النظام المطرد ناتج مصادفة؛أي: من عدم النظام وعدم الاطراد؟
ومن الملاحدة من يقول: "نشأة الحياة ليست دليلاً على وجود خالق؛ لأنها نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي Prebiotic Chemical Evolution استمر لملايين السنين، ابتداءً من الكيميائيات البسيطة، مرورًا بالجزيئات المتعددة polymers، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات تحفيزية، وصولًا إلى كائناتما قبل بكتيرية،وأخيرًا وصولًا إلى بكتريا بسيطة"،وحال كلام هؤلاء الملاحدة أن جزئيات غير عضويةكونت أحماضًا أمينية بالصدفة، وهذه الأحماض الأمينية كونت بروتينات بالصدفة، والبروتينات كونت المادة الوراثية وباقي مكونات الخلية الأولى؛ أي: نحن أمام سلسلة من الصدف المنظمة، وليس صدفة واحدة، وهذا غير مسلَّم.
وعلى فرض إيجاد الصدفة لمركب معقد يكون خلية، فهل الصدفة تبث فيه الحياة وتجعله ينمو ويتحرك ويتغذى ويتكاثر ويخرج الفضلات؟!
وعلى فرض أن الصدفة أوجدت الخلية الأولى بكل مكوناتها، فإنها لا يمكنها أن توجد العديد من هذه الخلايا كل مرة.
وعلى فرض أن الصدفة أوجدت ذكَرًا بكامل أعضائه وأجهزته، فهل يمكن للصدفة أن توجد أنثى مماثلة للذكَر تمامًا ومخالفة له في الجهاز التناسلي، بهدف التناسل واستمرار الحياة علىالأرض؟!
وعلى فرض أن الصدفة أوجدت كائنًا حيًّا، فكيف توجد الغذاء الذي يناسبه صدفة؟!
وعلى فرض أن الصدفة أوجدت كائنًا حيًّا، فكيف تحافظ عليه وتضمن له الحياة حتى يتكاثروينتج كائنًا مثله؟!
لسان هؤلاء الملاحدة:إن جمع أجزاء ومكونات الخلية الأولى كفيل بأن تتجمع هذه المكونات، وكفيل بنشأة الحياة، وهذا كلام في غاية السخف والسقوط؛ إذ الحياة شيء منفصل عن هذه المكونات والأجزاء؛ أي: شيء من غير جنس هذه المكونات والأجزاء؛ أي: شيء متجاوز لهذه المكونات والأجزاء، وتجمع أجزاء ومكونات الكائن الحي لا يكفي لأن ينشأ كائن حي، وهذا المنطق شبيه بمن يقول تجمع أجزاء ومكونات السيارة كفيل بأن تتكون السيارة دون مجمع ومركب لهذه المكونات والأجزاء، وهل وجدنا أجزاء سيارة تتجمع وتتركب بالصدفة دون مجمع ومركب؟!
ولو سلمنا جدلاً وتنزلاً مع الملاحدة أن أجزاء ومكونات الخلية الأولى تجمعت بذاتها، فهل تجمع أجزاء ومكونات الخلية كافٍ لبث الحياة فيها؟ ثم بث الحياة وحده ليس كافيًا لحياة الخلية، فالخلية تحتاج طاقة وغذاءً، فكيف ستوفر لنفسها الطاقة والغذاء؟ ومن الذي يلهمها بأن هذا الغذاء يناسبها دون غيره من الأغذية؟ وكيف تستفيد من هذا الغذاء لتنمو وتتكاثر دون أن تكون مهيأة للنمو والتكاثر؟! والحياة والطاقة للخلية كالوقود للسيارة، فلن تعمل الخلية الأولى إذا لم تكن حية وبها طاقة، كما أن السيارة لن تعمل دون وقود.

[1] - خرافة الإلحاد للدكتور عمر شريف ص 337.
[2] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 446.
[3] - الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان للدكتور عبدالوهاب المسيري ص 27.
[4] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 331.
[5] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمنحبنكة الميداني ص 446.
[6] - المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات للدكتور غالب عواجي 2/1174-1175.
[7] - الدين في مواجهة العلم لوحيد الدين خان ص 46- 47.
[8] - الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، للدكتور سعيد بن علي بن وهف القحطاني ص 352.
[9] - عقيدة التوحيد للدكتور محمد ملكاوي ص 150.

د.ربيع أحمد
04-20-2015, 04:12 PM
احتمال وقوع الحدث لا يستلزم وقوعه:
ولا يعني إمكانية وقوعه بمعزل عن الأسباب الموجِدة له
ومما ينبغي التنبيه عليه أن احتمال وقوع الحدث لا يستلزم وقوعه، واحتمالية وقوعه تكون في كل مرة، فلوأن عندنا قطعة معدنية بها وجه صورة ووجه كتابة عندما نلقيها على الأرض، فاحتمال وقوع وجه الصورة في كل مرة واحد من اثنين 1/2، ويمكن أن تلقي القطعة المعدنية عشر مرات ولا تحصل على وجه الصورة، ويمكن أيضًا تلقيها عشرين مرة ولا تحصل على وجه الصورة.
ولوأن عندنا حجر نرد به ستة وجوه،فاحتمال الحصول على وجه "1" في كل مرة سيكون واحدًا من ستة 1/6، ويمكن أن تلقي حجر النرد عشر مرات ولا تحصل على وجه "1"، ويمكن أيضًا تلقيه عشرين مرة أوثلاثين مرة ولا تحصل على وجه "1".
وليس معنى أن الحدث يمكن حساب احتمالية وقوعه بالصدفة أنه ممكن الوقوع بمعزل عن الأسباب الموجِدة له،فالاحتمالية الرياضيةلا تعني أن الحدث قابل لأن يخرج إلى حيز الواقع دون أن تتوافر له المقدمات التي تنسجم مع القوانين الموجدة للظاهرة [1]، وعلى سبيل المثال: إن قال طالب لا يذاكر:إن من المحتمل أن أنجح بنسبة 50%، قيل له: النجاح له أسبابه، وليس معنى احتمالية نجاحك في الامتحان إمكان أن تنجح دون مذاكرة؛ فمن جد وجد، ومن زرع حصد.
ومن الملاحدة من يقول: "إذا كان هناك احتمال - ولو ضئيلاً- في أن تنشأ الحياة من المادة صدفة بلا خالق عبر ملايين السنين، فمن الممكن أن تنشأ الحياة من المادة صدفة عبر ملايين السنين، وفي ظل وجود الكثير من الوقت المستحيل يصبح ممكنًا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدًا، وما على المرء إلا الانتظار، والوقت نفسه ينفذ المعجزات"، والجواب: على التسليم الجدلي، تنزلاً معكم أيها الملاحدة، أن من المحتمل أن تنشأ الحياة من المادة صدفة بلا خالق عبر ملايين السنين، هذا الاحتمال لا يستلزم أن تنشأ الحياةصدفة بلا خالق، وليس معنى أن الحياة يمكن أن تنشأ صدفة عبر ملايين السنين أنها يمكن أن تنشأ بمعزل عن الأسباب الموجدة لها.
وقولهم: "من الممكن أن تنشأ الحياة من المادة صدفة عبر ملايين السنين، وفي ظل وجود الكثير من الوقت المستحيل يصبح ممكنًا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدًا" يستلزم أن المادة التي لا حياة فيها يمكن أن تعطي الحياة لغيرها، وهذا باطل؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه إذا كان لا يملِكه ولا يملك أسبابه، والمادة تفتقد الحياة، فكيف تهب الحياة لغيرها؟! والحياة شيء غير مادي، فكيف تكون ناتجة من شيء مادي؟! ما هذه العقول التي تصدق أن الشيء (وهو المادة) يمكن أن يتحول لغير جنسه (وهو الحياة) بنفسه دون تدخل قوة خارجية قادرة مريدة؟!
والحياة لا تأتي إلا من حي، والكائنات الحية لا يمكن أن تأتي إلا من كائنات حية مثلها، وكلام هؤلاء الملاحدة يستلزم قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض[2].
والبون الشاسع بين المادة والكائنات الحية لا يمكن تغافله؛ إذ المادة لا حياة فيها، ولا نمو ولا حركة ولا تكاثر، والكائن الحي كالإنسان والحيوان يتمتع بالحياة والنمو، والحركة والتكاثر.
وقولهم: "وفي ظل وجود الكثير من الوقت المستحيل يصبح ممكنًا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدًا" قول لا يصح؛ لأن الوقت عامل هدم لا عامل بناء؛ فالكائنات من إنسان وحيوان ونبات وأسماك وطيور وحشرات كلها تهرَمُ وتموت بمرور الوقت، والجمادات من بيوت وقصور وغير ذلك تفسُدُ وتبلىبمرور الوقت، وإذا تركت طعامًا أو لحمًا تجده يفسد بعد مدة معينة، حتى النجوم بمرور الوقت تجدهاتفقد وقودها من غاز الهيدروجينالذي يزودها بالطاقة، أضِفْ إلى ذلك أن الشيء الممكن قد يصير مستحيلاً بمرور الوقت.
وهؤلاء الملاحدة الذين يرون أن المادة قد أدت إلى ظهور عناصر متجاوزة لها - كالحياة مثلاً- هم في نهاية الأمر ينسبون للمادة مقدرات غير مادية، ومن ثم فإنهم يكونون قد خرجوا من مقاصد الفلسفة المادية، خصوصًا وأن فرضياتهم لا تخرج عن كونها تكهنات عنيدة طفولية تضمن لهم الاستمرار في ماديتهم، وتضمن لهم في الوقت ذاته تفسير ما حولهم من تركيب ووعي وغائية[3].
تكرار الحدث يقلل من احتمالية الصدفة:
مما ينبغي معرفته أن تكرار الحدث يقلل من احتمالية الصدفة حتى يصبح احتمالها في حكم العدم والمستحيل، وعندما يتكرر حدث معين بنفس النمط تستبعد الصدفة من الحسبان، وتبحث عن سبب؛فالصدفة لا تکونأکثرية أو دائميةفي الحدوث، بل عشوائية، لا قصد فيها ولا ترتيب، ولا يمكن التنبؤ بها قبل حدوثها.
مثال 1: لو وجدت حادثة من الحوادث تتكرر من حين لآخر في نفس المكانوبنفس النمط، لاشك أنك ستستبعد الصدفة، وتبحث عن سبب وراء ذلك، وهذا السبب ربما يكون خللاً ما في هذا المكان، أو شخصًا معينًا يتسبب في ذلك.
مثال 2: لو رسب طلاب مدرسة معينة في امتحان معين دون باقي المدارس، لاشك أنك ستستبعد الصدفة، وتبحث عن سبب وراء ذلك، ربما يكون خللاً في المنظومة التعليمية، أو إهمال أُسَرِ الطلاب لأبنائهم.
مثال 3: شخص يسكن في شقة وحيدًا، يذهب لعمله صباحًا ويأتي ليلاً، وعندما عاد لشقته يومًا وجد نافذة حجرة النوم مفتوحة، رغم أنه يغلق جميع نوافذ الشقة قبل خروجه منها، ثم تكرر هذا الأمر، لاشك أنه سيستبعد الصدفة، ويبحث عن سبب وراء ذلك، ويفكر في أن شخصًا ما يتسللإلى شقته.
ومن الملاحدة من يقول: "إن مادة الكون كانت موجودة ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها وتناثرت، وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، حيث كونت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء كونت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألَّف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب، وما زالت تتكون حتى وصل الكون إلى ما نراه عليه اليوم، وكل هذا صدفة دون تدخُّل قوى عاقلة مريدة".
وحسب قانون نيوتن الأول: الجسم الساكن يبقى ساكنًا ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتحركه، والجسم المتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم يبقى على هذه الحالة ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتغير الحالة الحركية له، ومادة الكون الأولى كانت ساكنة ثم انفجرت، فلا بد من وجود قوة خارجية أدت إلى ذلك؛ فكل حدث لا بد له من محدِث.
ومن المعلوم أن أي انفجار يتبعه تناثر لأشلاء عديدة وجسيمات صغيرة، فكيف يتبع الانفجارتجمُّع للجزئيات والجسيمات، وتكوين أرض وجبال وكواكب ونجوم ومجرات وغير ذلك دون وجود قوة خارجية حكيمة عالمة أدت لذلك؟! وقلنا:قوة عالِمة حكيمة؛لأن تناسق الكون وانتظامه يشهد بذلك، وكل شيء في الكون يوجد في المكان المناسب له، وجمال الطبيعة دليل على حكمة وعلم وإبداع خالقها، والعشوائية لا تنتج نظامًا، ولو سلمنا جدلاً وتنزُّلاً أنها أنتجت نظامًا، فسرعان ما يزولُ هذا النظام.
ومن المعلوم أن أي انفجار يتبعه دمار،فكيف يتبع الانفجار الكوني العظيم عمار وتكوين أرض وجبال وبحار ومحيطات وأنهار وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة؟!
ومن المعلوم أن أي انفجار يتبعه هدم، فكيف يتبع الانفجار الكوني بناء أرض وجبال وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة؟!
وعلى التسليم الجدلي أن الانفجار الكوني أدى إلى تكوين الكون ونشأته صدفة، فكيف يبقى ويستمر دون وجود قوة خارجية تحافظ على بقائه واستمراره؟!
وإذا كان الكون قد تطور من المادة الأولى له، فمن الذي طور هذه المادة؛ إذ أي تطور لا بد له من مطور؟ وإن قيل: المادة هي التي طورت نفسها عبر ملايين السنين، فالجواب: هذا الكلام يستلزم أن الأدنى يتطور بنفسه إلى الأعلى، والتطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، أمرٌ مستحيل عقلًا؛ إذ الناقص لا ينتج الكامل[4]، ويلزم من هذا الكلام قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض[5].
وإذا كان وجود هذا الكون عن طريقة الصدفة، أليس من الممكن، والحال هكذا، أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون كله؟ وتتعطل كل هذه المصالح من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك، مما في هذا الكون المترابط المنتظم بصورة تضمن استمرار الحياة سليمة عن الخراب والتداخل؛ إذ الشمس تجري لمستقر لها، والنجوم زينة للسماء، والقمر ضياء، والرياح لواقح، والسحب تحمل المطر، والليل في وقته، والنهار في وقته، كلها تجري لصالح الإنسان، ولبقاء الحياة هذه الدهور التي لا يعرف لها وقتًا إلا الله تعالى، بل والإنسان نفسه أعظم آية، كيف أوجدته الصدفة من العدم؟ وكيف وجد الإنسان الحي من مادة ليس لها حياة؟![6].
وعلى التسليم الجدلي أن تكوين كوكب من الكواكب كان صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين الكواكب الأخرى؟ ولو كان تكوين أحد الأقمار صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين الأقمار الأخرى؟ولو كان تكوين أحد النجوم صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين النجوم الأخرى؟ فإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت كوكبًا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث كوكب آخر كل مرة.
وإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت قمرًا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث قمر آخر كل مرة، وإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت نجمًا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث نجم آخر كل مرة، وإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت مجرة، فلا يمكنها أن تكرر إحداث مجرة أخرى كل مرة؛ أي: نحن أمام كمٍّ هائل من الأحداث المتكررة، التي يحيل العقل حدوثها دون وجود قوة عالمة حكيمة أدت لذلك،نحن أمام سلسلة من الصدف المنظمة،وليس صدفة واحدة.
وما دام الكون لم يكن إلا مادة راكدة ركودًا رهيبًا، ولم يكن هناك شيء غير المادة الراكدة، فمن أين أتت هذه "الصدفة" التي حركت الكون كله، مع أن هذا الحادث الذي وقع لم تكن له أية أسباب موجودة، لا داخل المادة ولا خارجها؟! وأطرف تناقض هنا: أن هذا التفسير يقرر وجوب واقعة قبل حدوث واقعة أخرى، حتى يمكن إرجاع نسبة هذه الواقعة الأخيرة إلى التي سبقتها، ولكن بالرغم من هذا يبدأ هذا التفسير نفسه من واقعة لا سابقة لها؛ فهذا هو الافتراض القائم بدون أي أساس، وهو الافتراض الذي أقيم عليه البناء الكامل لنظرية الخلق الصدفي (الاعتباطي) للكون.
وشيء آخر: أن هذا الكون، إذا كان مرهونًا بوقوع بعض المصادفات، فكيف نفسر اضطرار كل الوقائع والحوادث على نهج طرق معينة ثابتة نهجنا بالفعل، لولا هذا النهج لما كنا اليوم موجودين لنفكر في هذه القضايا، ألم يكن من الممكن أن يحدث شيء آخر نقيض تمامًا لما حدث؟
ألم يكن من الممكن أن ترتطم النجوم ببعضهاالبعض وتتحطم؟ وبعد حدوثالحركةفي المادة، أما كان من الممكن أن تبقى حركة مجردة دون أن تصبح حركة "ارتقائية"، تجري في سلسلة مدهشة من العمل التطوري لإيجاد الكون الخالي؟
ما هو ذلك المنطق الذي جعل النجوم والسيارات تتحرك بهذا النظام العجيب في الكون اللامتناهي؟وما هو ذلك المنطق الذي أوجد النظام الشمسي في ركن بعيد من أركان الكون؟ وما هو ذلك المنطق الذي أمكن بواسطته إجراء تغيرات مدهشة أتاحت الفرصة لنشأة الحياة الإنسانية على كرة الأرض؟
وهذه التغيرات التي قد حدثت بالفعل على كرتنا لا نعرف حتى الآن ما إذا كانت موجودة على ظهر سيار أو نجم آخر من ملايين المجرات المنتشرة في أركان الكون، فما هو المنطق الذي تسبب في إيجاد مخلوق حي من مادة بدون حياة؟ هل لأحد أن يقدم لنا تفسيرًا معقولًا لتوضيح: كيف وجدت الحياة على سطح الأرض؟ ولماذا؟ وتحت أي قانون تستأنف الحياة وجودها المدهش بهذا التسلسل؟!
ثم ما هو ذلك المنطق الذي أوجد في حيز مكاني صغير كل تلك الأشياء اللازمة لحياتنا ومدنيتنا؟ ثم ما هو ذلك المنطق الذي يعمل على إبقاء هذه الأحوال دائمًا في صالحنا كما هي؟ أي صدفة واتفاق يتيحان حدوث هذه الإمكانات بهذا التسلسل والترتيب الجميل، ثم استمرارها لملايين السنين بحيث لا يطرأ عليها أدنى تغير يخالف مصالح الإنسان؟
هل لديكم أيها المعارضون تفسير واقعي به صفة "اللزوم" التي التزمت بها وقائع مادية حدثت - بزعمكم- بمحض الصدفة؟ ومن أين أتت بحنينها للارتقاء الدائم نحو الأصلح بطريقة غريبة؟[7].
أجيبوا أيها الملاحدة: من أين حصل لهذا العالم هذا النظام العجيب، والترتيب الحكيم، الذي حارت فيه العقول؟ كيف ينسب ذلك إلى الاتفاق والمصادفة ومجرد البخت؟ وكيف اجتمعت تلك الأجزاء على اختلاف أشكالها، وتباين مواردها وقواعدها؟ وكيف حفظت وبقيت على تآلفها؟ وكيف تجددت المرة بعد المرة؟![8].
إن الصدفة في مجال الكون مستحيلة في ذاتها، فضلًا عن أن ينبثق عنها هذا الإحكام والنظام، ولو سلمنا جدلًا بصدفة واحدة في البداية، فهل يقبل عقلنا بسلسلة طويلة متتابعة من المصادفات؟[9].
والعلامة المميزة للمصادفة:هي عدم الاطراد وعدم النظام، بينما النظام السائد في هذا الكون ثابت كل الثبات، مطرد بلا تخلُّف، على تعقُّده، تحكمه قوانين نتوقع معلولاتها توقعًا يقينيًّا: فكيف يدعى أن مثل هذا النظام المطرد ناتج مصادفة؛أي: من عدم النظام وعدم الاطراد؟
ومن الملاحدة من يقول: "نشأة الحياة ليست دليلاً على وجود خالق؛ لأنها نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي Prebiotic Chemical Evolution استمر لملايين السنين، ابتداءً من الكيميائيات البسيطة، مرورًا بالجزيئات المتعددة polymers، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات تحفيزية، وصولًا إلى كائناتما قبل بكتيرية،وأخيرًا وصولًا إلى بكتريا بسيطة"،وحال كلام هؤلاء الملاحدة أن جزئيات غير عضويةكونت أحماضًا أمينية بالصدفة، وهذه الأحماض الأمينية كونت بروتينات بالصدفة، والبروتينات كونت المادة الوراثية وباقي مكونات الخلية الأولى؛ أي: نحن أمام سلسلة من الصدف المنظمة، وليس صدفة واحدة، وهذا غير مسلَّم.
وعلى فرض إيجاد الصدفة لمركب معقد يكون خلية، فهل الصدفة تبث فيه الحياة وتجعله ينمو ويتحرك ويتغذى ويتكاثر ويخرج الفضلات؟!
وعلى فرض أن الصدفة أوجدت الخلية الأولى بكل مكوناتها، فإنها لا يمكنها أن توجد العديد من هذه الخلايا كل مرة.
وعلى فرض أن الصدفة أوجدت ذكَرًا بكامل أعضائه وأجهزته، فهل يمكن للصدفة أن توجد أنثى مماثلة للذكَر تمامًا ومخالفة له في الجهاز التناسلي، بهدف التناسل واستمرار الحياة علىالأرض؟!
وعلى فرض أن الصدفة أوجدت كائنًا حيًّا، فكيف توجد الغذاء الذي يناسبه صدفة؟!
وعلى فرض أن الصدفة أوجدت كائنًا حيًّا، فكيف تحافظ عليه وتضمن له الحياة حتى يتكاثروينتج كائنًا مثله؟!
لسان هؤلاء الملاحدة:إن جمع أجزاء ومكونات الخلية الأولى كفيل بأن تتجمع هذه المكونات، وكفيل بنشأة الحياة، وهذا كلام في غاية السخف والسقوط؛ إذ الحياة شيء منفصل عن هذه المكونات والأجزاء؛ أي: شيء من غير جنس هذه المكونات والأجزاء؛ أي: شيء متجاوز لهذه المكونات والأجزاء، وتجمع أجزاء ومكونات الكائن الحي لا يكفي لأن ينشأ كائن حي، وهذا المنطق شبيه بمن يقول تجمع أجزاء ومكونات السيارة كفيل بأن تتكون السيارة دون مجمع ومركب لهذه المكونات والأجزاء، وهل وجدنا أجزاء سيارة تتجمع وتتركب بالصدفة دون مجمع ومركب؟!
ولو سلمنا جدلاً وتنزلاً مع الملاحدة أن أجزاء ومكونات الخلية الأولى تجمعت بذاتها، فهل تجمع أجزاء ومكونات الخلية كافٍ لبث الحياة فيها؟ ثم بث الحياة وحده ليس كافيًا لحياة الخلية، فالخلية تحتاج طاقة وغذاءً، فكيف ستوفر لنفسها الطاقة والغذاء؟ ومن الذي يلهمها بأن هذا الغذاء يناسبها دون غيره من الأغذية؟ وكيف تستفيد من هذا الغذاء لتنمو وتتكاثر دون أن تكون مهيأة للنمو والتكاثر؟! والحياة والطاقة للخلية كالوقود للسيارة، فلن تعمل الخلية الأولى إذا لم تكن حية وبها طاقة، كما أن السيارة لن تعمل دون وقود.

[1] - خرافة الإلحاد للدكتور عمر شريف ص 337.
[2] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 446.
[3] - الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان للدكتور عبدالوهاب المسيري ص 27.
[4] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 331.
[5] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمنحبنكة الميداني ص 446.
[6] - المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات للدكتور غالب عواجي 2/1174-1175.
[7] - الدين في مواجهة العلم لوحيد الدين خان ص 46- 47.
[8] - الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى، للدكتور سعيد بن علي بن وهف القحطاني ص 352.
[9] - عقيدة التوحيد للدكتور محمد ملكاوي ص 150.

د.ربيع أحمد
04-20-2015, 04:17 PM
]أمثلة تبين تفاهة القول بالصدفة في نشأة الكون والحياة:[/color]
يقال للقائلين بالصدفة: لو أن هزة أرضية قلبت صناديق الحروف في مطبعة، بها نصف مليون حرف، فخلطتها ببعضها، فأخبرنا صاحب المطبعة أنه تكون من اختلاط الحروف صدفة عشر كلمات متفرقة؛ فالمسألة تحتمل التصديق وتحتمل النفي، لكنه لو أخبرنا بأن الكلمات العشر كونت جملة مفيدة، لازدادت درجة النفي والاستبعاد، لكننا قد لا نجزم بالاستحالة، ولو أخبرنا بأن الحروف المبعثرة كونت كتابًا من مائة صفحة، وبه قصيدة كاملة منسجمة بألفاظها، وأوزانها، فالاستحالة في هذه الحالة بحكم البديهية.
والمسألة في الكون وأجزائه، وما فيها من إتقان وإحكام وعناية: أعقد بكثير من مثال حروف المطبعة؛ لأن الحروف هنا جاهزة معبأة في صناديقها، إن الصدفة في مجال الكون مستحيلة في ذاتها، فضلًا عن أن ينبثق عنها هذا الإحكام والنظام، ولو سلمنا جدلًا بصدفة واحدة في البداية، فهل يقبل عقلنا بسلسلة طويلة متتابعة من المصادفات؟[1].
ولو قال شخص: وجدت قصرًا شديد الجمال، مكونًا من خمسة طوابق، فيه ثلاثون غرفة، كل غرفة مفروشة بأجمل أنواع الفرش، ومزخرفة بأجمل أنواع الزخارف، وهذا القصر ليس له بانٍ، ولا مصمم، وإنما تكوَّن صدفة عبر عشرات السنين، أترى أحدًا يصدق هذا الكلام؟! وإذا لم يصدق أحد أن هذا القصر تكون صدفة، وهو جماد لا حياة فيه، ولا وعي ولا إدراك ولا مشاعر ولا أحاسيس، فكيف يصدق أحدٌ أن هذا الكون تكون صدفة دون قوة عالمة حكيمة رغم ما في الكون من جمال وإبداع، وتجد حيوانات مختلفة الأنواع، وطيورًا مختلفة الأنواع، وأسماكًا مختلفة الأنواع، وحشرات مختلفة الأنواع، ونباتات مختلفة الأنواع، وأشجارًا مختلفة الأنواع؟!
ويقال لكل قائلبالصدفة: ما تقول في دولاب دائر على نهر، قد أحكمت آلاته، وأحكم تركيبه، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه، بحيث لا يرى الناظر فيه خللًا في مادته ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلم شعثها، ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها، فلا يختل منها شيء، ولا يتلف ثمارها، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على الدوام، أترى هذا اتفاقًا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر، بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقًا من غير فاعل ولا مدبر؟ أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟ وما الذي يفتيك به؟ وما الذي يرشدك إليه؟[2].
ولو قال شخص: وجدت كتابًا محكَمًا في علم من العلوم، يتكون من مجلدين، والمجلد يتكون من جزأين، وكل جزء مكون من ثلاثمائة صفحة، وكل صفحة بها عشرون سطرًا، وكل سطر به عشرون كلمة، وهذا الكتاب ليس له مؤلف، ولا كاتب، وإنما تألف وكتب صدفة عبر عشرات السنين، أترى أحدًا يصدق هذا الكلام؟! وإذا لم يصدق أحد أن هذا الكتاب كُتب وأُلِّف صدفة، وهو جماد لا حياة فيه، ولا وعي ولا إدراك ولا مشاعر ولا أحاسيس، فكيف يصدق أحد أن هذا الكون تكوَّن صدفة بما فيه من آلاف الحيوانات، وآلاف الطيور، وآلاف الزواحف، وآلاف النباتات، ويمكن أن تكتب عشرات المجلدات في إحكام ونظام كل نوع من هذه الكائنات؟!
ولحظة تأمل في خلية من خلايا الإنسان تجعل القول بالصدفة في غاية السخف والسقوط؛ فخلية الإنسان تشبه المصنع، وأي مصنع به مدير ومشرف على المصنع، وأرضية للمصنع، وقسم للتسوق والاستقبال، وعمال لهم دور في تصنيع منتجات المصنع، وقسم لتعبئة المنتجات وتهيئتها، وحراس أمن، ومولد للطاقة، وخلية الإنسان كالمصنع؛ ففيها النواة، وهي كالمدير للخلية، تتحكم في جميع أنشطة الخلية،وصفات البروتين الذي سوف يصنع، وفي الخلية السيتوبلازم، وهو كالأرضية للخلية، تسبح فيه عضيات الخلية،وفي الخلية غشاء خلوي، وهو يشبه قسم التسوق والاستقبال؛ حيثإن أي جسم يحاول دخول الخلية عليه أن يبرز هويته، وينظم مرور المواد عبر الخلية، وما الذي يدخل، وما الذي يخرج، وفي الخلية الريبوسومات، وهي تشبه العمال، حيث لها الدور في تصنيع البروتينات.
وفي الخلية الشبكة الإندوبلازمية، وهي مكان عمل الريبوسومات(منطقة عمل)، وفي الخلية جهاز جولجي، وهو يشبه قسم التعبئة والتهيئة والتغليف؛ فهو يقوم بإعداد وتهيئة البروتين للاستعمال أو التصدير.
وفي الخلية الأجسام الحالة، وهي تشبه رجال الأمن؛ حيث تهاجم كل جسم يحاول الإضرار بالخلية، وفي الخلية الميتوكوندريا، وهي كمولدات الطاقة،انظروا أيها الإخوة أي خلية من خلايا الإنسان مصنع متكامل، وكل شيء فيها يجري بنظام ودقة، فهل سمعتم أنعاقلاً يفكر في وجود مصنع صدفة دون قوة عالمة مريدة حكيمة؟ وها هي الخلية أحد المصانع الربانية يعجز عن وظائفها عشرات المصانع، ومع ذلك هناك مِن البشرمَن ينكر وجود موجِد عالم مريد حكيم!
وإني أسأل عن شخص يفكر في وجود جهاز دقيق الحجم معقد التركيب محكم الوظائف وجد بلا موجد، ما حكمه عند العقلاء؟ وأيهما أعظم في الحكم، هذا الجهاز الدقيق أم هذه الخلية الحية، الدقيقة الحجم، المعقدة التركيب، المحكمة الوظائف، أضف إلى ذلك أنها تنمو وتتكاثر وتتنفس وتتغذى وتقوم بعمليات حيوية تعجز عن محاكاتها أكبر المصانع في العالم، والأعجب من هذا أنالمواد الميتة خارج الخلية- كالكربوهيدرات والبروتينات - عندما تعبر غشاءالخلية ويسمح لها بالاندماج مع مكونات الخلية وعضياتها تتحول هذه المواد من مواد ميتة لا حياة فيها إلى عضيات حية تتغذى وتتنفس؟!
وإني أسأل عن شخص يفكر في وجود أجزاء ساعة تجمعت وكونت ساعة في غاية الروعة والدقةوالساعة تعمل دون الحاجة لمجمع ومركب ومحرك عالم حكيم، ما حكمه عند العقلاء؟ والخلية الحية أعظم وأعقد بكثير من الساعة؛فهي حية ذاتية الحركة، تستجيب للمؤثرات، تنمو تتكاثر،تنتج طاقة تخرج فضلاتها.
وإني أسأل عن شخص يفكر في وجود أجزاء سيارة تجمعت وكونت سيارة في غاية الروعة والدقةوالسيارة تعمل دون الحاجة لمجمع ومركب ومحرك عالم حكيم، ما حكمه عند العقلاء؟ والخلية الحية أعظم وأعقد بكثير من السيارة؛ فهي حية ذاتية الحركة، تستجيب للمؤثرات، تنمو تتكاثر، تنتج طاقة تخرج فضلاتها.
وإني أسأل عن شخص يفكر في لوحة فنية رآهاكشجرة مثمرة حولها زهور جميلة قرب نهر جارٍ، وادعى أن هذه الصورة تكونت صدفة دون رسام مبدع رسمها، ما حكمه عند العقلاء؟ فكيف إذا كانت هذه الصورة مجسمة؟ وإذا لم يصدق أحد أن هذه الصورة الجميلة المجسمة تكونت صدفة دون تدخل كائن مريد مبدع، فكيف بهذا الكون الشاسع المليء بالمناظر الخلابة، والكائنات العجيبة المدهشة؟!
والدلائل العلمية المادية المستندة إلى الوسائل الإنسانية ترفض المصادفة في أي ظاهرة كونية ذات إتقان دقيق معقد، والباحثون العلميون سواء أكانوا مثاليين أم ماديين، يبحثون باستمرار عن سبب أية ظاهرة كونية يشاهدونها، ويرفضون ادعاء المصادفة فيها رفضًا قاطعًا؛ لأن المناهج العلمية الاستقرائية قد أثبتت للعلماء أنه ما من ظاهرة تحدث في الكون دون أن تكون مسبوقة بسببٍ مكافئ لحدوثها، وإذا كانت هذه الظاهرة من الظواهر التي تحتاج إلى صاحب علم ومهارة حتى يكون قادرًا على إنتاجها، قرروا أن منتجها صاحب علم ومهارة، وهكذا[3].


التشكيك في مبدأ السببية
يشكك بعض الملاحدة في مبدأ السببية، ويدَّعون أن قول المؤمنين: كل حادث يحتاج إلى محدِث، قول بلا دليل، ولا سبيل للبرهنة عليه، ومهما جمعمن أدلة من العالمفإنها لا تكفي للوصول إلى الكلية؛ لاستحالة اختباركل الحوادث، ومعرفة هل هي محتاجة إلى محدث أو لا؟ويدعي هؤلاء أن السببية عادة ذهنية ترسخت في الذهن عن طريق التكرار، وكلامهم هذا سفسطة لا أثارة عليها من علم؛إذ مقولة: الحادث لا بد له من محدِث، من البديهيات.
والبديهيات هي حقائق ضرورية لا تحتاج إلى برهان؛ أي:إنها تفرض نفسها على الذهن، بحيثلا يحتاج إلى برهان لإثباتها، ويجمع العقلاء على صحتها واعتمادها كأصول ضروريةلازمة، وهي تعتبر أسسًا وقواعد أولية ومقاييس تبنى عليها باقي الأفكار، وبراهينلإثبات صِدقِ غيرها من الأفكار.
ومقولة: كل حادث لا بد له من محدِث، هي كمقولة: كل كتابة لا بد لها من كاتب، ولو رأى شخص كتابة فقال: لا بد لها من كاتب، فاعترض عليه آخر قائلاً:(أثبت لي أن هذه الكتابة تحتاج لكاتب، وهل اختبرتَكل الكتابات لتعرف هل تحتاج إلى كاتب أم لا؟)- لعدَّه الناس مجنونًا.
ومقولة: كل حادث لا بد له من محدِث، بديهية، مستغنية أن يُذَبَّ عنها، يُستدَل بها، ولا يُستدَل لها؛ فالسؤال عن إثباتها يعتبر خطأ فادحًا،كالتصديق بأن النار حارة لا يحتاج إلى إثبات وجمع الأدلة عليه من كل العالم.
ولا يجوز القدح في البديهيات بالنظريات؛لأن البديهيات أصل للنظريات، فلو جاز القدح بالنظريات في البديهيات، والنظريات لا تصح إلا بصحة البديهيات، كان ذلك قدحًا في أصل النظريات؛ فلزم من القدح في البديهيات بالنظريات فساد النظريات، وإذا فسدت لم يصحَّ القدح بها، والقدح في البديهيات بالنظريات يستلزم فساد النظريات وفساد العلوم.
وإذا لم يجُزِالقدح في البديهيات بالنظريات، فمن باب أولى لا يجوزالسؤال عن إثبات البديهيات؛ فالبديهيات لا تحتاج في حصولها إلى كسْبٍ ونظر وفكر؛ إذ إنها تحصل بالبداهة والضرورة، من غير تعبٍ، ومن غير إجراء عملية فكرية.
ومبدأ العِلِّيَّة مبدأ عقلي، لا مبدأ حسي نابع من الاستقراء، وليس مبدأ العلية مقصورًا على الكون فحسب؛ فما مادام هناك فعلفلا بد أن يكون له فاعل، سواء في عالمنا أو في غير عالمنا، وتخصيص العِلِّية بالكون الذي نعيش فيه فقط تخصيص بلا مخصص.
وجميع العلوم الكونية مبنية على السببية؛ ولذلك لا يمكن للعلوم الاستغناء عن السببية، وبسقوط السببية تنهار جميع العلوم.
وعدم اعتبار أصل السببية يؤدي إلى عدم الاستدلال؛ لأن الإثبات والدليل عامل مهم من عوامل قبول النتائج، وإذا لم يرتبط الإثبات بالنتائج، فلا يؤدي الإثبات إلى نتيجة.
ومبدأ العِلِّية مبدأ ضروري، لا يمكن الاستدلال على رده؛ وذلك لأن الدليل علة للعلم بالشيء المستدل عليه، وإذًا محاولة الاستدلال على رد مبدأ العلية تنطوي على الاعتراف بمبدأ العلية وتطبيقه.
ولو لم تكن السببية موجودة في الواقع، لما أمكن التفكير، ولا تناول الطعام، ولا المشي أيضًا، ولا الشرب، وغير ذلك من أمور الحياة.
ولو لم تكن السببية موجودة في الواقع، لما تمكن العلماء من تفسير الظواهر الكونية.
ولو لم تكن السببيةموجودة في الواقع، لما تمكن الأطباء من علاج الأمراض والوقاية منها.
وقولهم: السببية عادة ذهنية ترسخت في الذهن عن طريق التكرار،يُبطِله الواقع؛ فمن يرى كتابة يعرف أن لها كاتبًا، ولو كانت أول كتابة يراها، ومن يرى كرسيًّا يعرف أن له صانعًا، ولو كان أول كرسي يراه،ومن يرى لوحة فنية يعرف أن لها فنانًا، ولو كانت أول لوحة فنية يراها في حياته، وحتى الطفل الصغير إذا سمع صوتًا انتبه إلى مكانه ليعرف سببه، وإذا جاع طلب الطعام.
دعوى أن الكون نشأ صدفة بدليل وجود الفوضى في الكون
يدعي بعض الملاحدة أن الكون نشأ صدفة، بدليل وجود بعض الظواهر الفوضوية، والجواب:هذه الظواهر التي يدَّعون أنها فوضوية لا تُلغي وجود نظام في الكون، فكم يوجد في الكون من أشياء منظمة منسقة بهرت علماء الفيزياء والأحياء والكيمياء والفلكوالجولوجيا، وغيرهم!
والفوضى تستلزم عدم وجود أنظمة وقوانين تحكم هذه الظواهر الفوضوية، وإمكان استنتاج قوانين عامة تحكم هذه الأمور: يدلُّ على انتظامها، وليس على عدم انتظامها.
وما دامت الفوضى تخضع لقوانين فليست فوضى، ولكن نظام مرتب لم يتم الكشف عن ماهيته الحقيقية.
والنظام هو السائد في الكون، بدليل تمكُّنِ العلماء من وضع قوانين للظواهر الفيزيائية والطبيعية، فلو كانت الفوضى هي السائدة لَمَا تمكن العلماء من وضع قوانين تحكم الكون.

[1] - عقيدة التوحيد للدكتور محمد ملكاوي ص 149 - 150.
[2] - مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/214.
[3] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 542.

د.ربيع أحمد
04-20-2015, 04:19 PM
أمثلة تبين تفاهة القول بالصدفة في نشأة الكون والحياة:
يقال للقائلين بالصدفة: لو أن هزة أرضية قلبت صناديق الحروف في مطبعة، بها نصف مليون حرف، فخلطتها ببعضها، فأخبرنا صاحب المطبعة أنه تكون من اختلاط الحروف صدفة عشر كلمات متفرقة؛ فالمسألة تحتمل التصديق وتحتمل النفي، لكنه لو أخبرنا بأن الكلمات العشر كونت جملة مفيدة، لازدادت درجة النفي والاستبعاد، لكننا قد لا نجزم بالاستحالة، ولو أخبرنا بأن الحروف المبعثرة كونت كتابًا من مائة صفحة، وبه قصيدة كاملة منسجمة بألفاظها، وأوزانها، فالاستحالة في هذه الحالة بحكم البديهية.
والمسألة في الكون وأجزائه، وما فيها من إتقان وإحكام وعناية: أعقد بكثير من مثال حروف المطبعة؛ لأن الحروف هنا جاهزة معبأة في صناديقها، إن الصدفة في مجال الكون مستحيلة في ذاتها، فضلًا عن أن ينبثق عنها هذا الإحكام والنظام، ولو سلمنا جدلًا بصدفة واحدة في البداية، فهل يقبل عقلنا بسلسلة طويلة متتابعة من المصادفات؟[1].
ولو قال شخص: وجدت قصرًا شديد الجمال، مكونًا من خمسة طوابق، فيه ثلاثون غرفة، كل غرفة مفروشة بأجمل أنواع الفرش، ومزخرفة بأجمل أنواع الزخارف، وهذا القصر ليس له بانٍ، ولا مصمم، وإنما تكوَّن صدفة عبر عشرات السنين، أترى أحدًا يصدق هذا الكلام؟! وإذا لم يصدق أحد أن هذا القصر تكون صدفة، وهو جماد لا حياة فيه، ولا وعي ولا إدراك ولا مشاعر ولا أحاسيس، فكيف يصدق أحدٌ أن هذا الكون تكون صدفة دون قوة عالمة حكيمة رغم ما في الكون من جمال وإبداع، وتجد حيوانات مختلفة الأنواع، وطيورًا مختلفة الأنواع، وأسماكًا مختلفة الأنواع، وحشرات مختلفة الأنواع، ونباتات مختلفة الأنواع، وأشجارًا مختلفة الأنواع؟!
ويقال لكل قائلبالصدفة: ما تقول في دولاب دائر على نهر، قد أحكمت آلاته، وأحكم تركيبه، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه، بحيث لا يرى الناظر فيه خللًا في مادته ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلم شعثها، ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها، فلا يختل منها شيء، ولا يتلف ثمارها، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على الدوام، أترى هذا اتفاقًا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر، بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقًا من غير فاعل ولا مدبر؟ أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟ وما الذي يفتيك به؟ وما الذي يرشدك إليه؟[2].
ولو قال شخص: وجدت كتابًا محكَمًا في علم من العلوم، يتكون من مجلدين، والمجلد يتكون من جزأين، وكل جزء مكون من ثلاثمائة صفحة، وكل صفحة بها عشرون سطرًا، وكل سطر به عشرون كلمة، وهذا الكتاب ليس له مؤلف، ولا كاتب، وإنما تألف وكتب صدفة عبر عشرات السنين، أترى أحدًا يصدق هذا الكلام؟! وإذا لم يصدق أحد أن هذا الكتاب كُتب وأُلِّف صدفة، وهو جماد لا حياة فيه، ولا وعي ولا إدراك ولا مشاعر ولا أحاسيس، فكيف يصدق أحد أن هذا الكون تكوَّن صدفة بما فيه من آلاف الحيوانات، وآلاف الطيور، وآلاف الزواحف، وآلاف النباتات، ويمكن أن تكتب عشرات المجلدات في إحكام ونظام كل نوع من هذه الكائنات؟!
ولحظة تأمل في خلية من خلايا الإنسان تجعل القول بالصدفة في غاية السخف والسقوط؛ فخلية الإنسان تشبه المصنع، وأي مصنع به مدير ومشرف على المصنع، وأرضية للمصنع، وقسم للتسوق والاستقبال، وعمال لهم دور في تصنيع منتجات المصنع، وقسم لتعبئة المنتجات وتهيئتها، وحراس أمن، ومولد للطاقة، وخلية الإنسان كالمصنع؛ ففيها النواة، وهي كالمدير للخلية، تتحكم في جميع أنشطة الخلية،وصفات البروتين الذي سوف يصنع، وفي الخلية السيتوبلازم، وهو كالأرضية للخلية، تسبح فيه عضيات الخلية،وفي الخلية غشاء خلوي، وهو يشبه قسم التسوق والاستقبال؛ حيثإن أي جسم يحاول دخول الخلية عليه أن يبرز هويته، وينظم مرور المواد عبر الخلية، وما الذي يدخل، وما الذي يخرج، وفي الخلية الريبوسومات، وهي تشبه العمال، حيث لها الدور في تصنيع البروتينات.
وفي الخلية الشبكة الإندوبلازمية، وهي مكان عمل الريبوسومات(منطقة عمل)، وفي الخلية جهاز جولجي، وهو يشبه قسم التعبئة والتهيئة والتغليف؛ فهو يقوم بإعداد وتهيئة البروتين للاستعمال أو التصدير.
وفي الخلية الأجسام الحالة، وهي تشبه رجال الأمن؛ حيث تهاجم كل جسم يحاول الإضرار بالخلية، وفي الخلية الميتوكوندريا، وهي كمولدات الطاقة،انظروا أيها الإخوة أي خلية من خلايا الإنسان مصنع متكامل، وكل شيء فيها يجري بنظام ودقة، فهل سمعتم أنعاقلاً يفكر في وجود مصنع صدفة دون قوة عالمة مريدة حكيمة؟ وها هي الخلية أحد المصانع الربانية يعجز عن وظائفها عشرات المصانع، ومع ذلك هناك مِن البشرمَن ينكر وجود موجِد عالم مريد حكيم!
وإني أسأل عن شخص يفكر في وجود جهاز دقيق الحجم معقد التركيب محكم الوظائف وجد بلا موجد، ما حكمه عند العقلاء؟ وأيهما أعظم في الحكم، هذا الجهاز الدقيق أم هذه الخلية الحية، الدقيقة الحجم، المعقدة التركيب، المحكمة الوظائف، أضف إلى ذلك أنها تنمو وتتكاثر وتتنفس وتتغذى وتقوم بعمليات حيوية تعجز عن محاكاتها أكبر المصانع في العالم، والأعجب من هذا أنالمواد الميتة خارج الخلية- كالكربوهيدرات والبروتينات - عندما تعبر غشاءالخلية ويسمح لها بالاندماج مع مكونات الخلية وعضياتها تتحول هذه المواد من مواد ميتة لا حياة فيها إلى عضيات حية تتغذى وتتنفس؟!
وإني أسأل عن شخص يفكر في وجود أجزاء ساعة تجمعت وكونت ساعة في غاية الروعة والدقةوالساعة تعمل دون الحاجة لمجمع ومركب ومحرك عالم حكيم، ما حكمه عند العقلاء؟ والخلية الحية أعظم وأعقد بكثير من الساعة؛فهي حية ذاتية الحركة، تستجيب للمؤثرات، تنمو تتكاثر،تنتج طاقة تخرج فضلاتها.
وإني أسأل عن شخص يفكر في وجود أجزاء سيارة تجمعت وكونت سيارة في غاية الروعة والدقةوالسيارة تعمل دون الحاجة لمجمع ومركب ومحرك عالم حكيم، ما حكمه عند العقلاء؟ والخلية الحية أعظم وأعقد بكثير من السيارة؛ فهي حية ذاتية الحركة، تستجيب للمؤثرات، تنمو تتكاثر، تنتج طاقة تخرج فضلاتها.
وإني أسأل عن شخص يفكر في لوحة فنية رآهاكشجرة مثمرة حولها زهور جميلة قرب نهر جارٍ، وادعى أن هذه الصورة تكونت صدفة دون رسام مبدع رسمها، ما حكمه عند العقلاء؟ فكيف إذا كانت هذه الصورة مجسمة؟ وإذا لم يصدق أحد أن هذه الصورة الجميلة المجسمة تكونت صدفة دون تدخل كائن مريد مبدع، فكيف بهذا الكون الشاسع المليء بالمناظر الخلابة، والكائنات العجيبة المدهشة؟!
والدلائل العلمية المادية المستندة إلى الوسائل الإنسانية ترفض المصادفة في أي ظاهرة كونية ذات إتقان دقيق معقد، والباحثون العلميون سواء أكانوا مثاليين أم ماديين، يبحثون باستمرار عن سبب أية ظاهرة كونية يشاهدونها، ويرفضون ادعاء المصادفة فيها رفضًا قاطعًا؛ لأن المناهج العلمية الاستقرائية قد أثبتت للعلماء أنه ما من ظاهرة تحدث في الكون دون أن تكون مسبوقة بسببٍ مكافئ لحدوثها، وإذا كانت هذه الظاهرة من الظواهر التي تحتاج إلى صاحب علم ومهارة حتى يكون قادرًا على إنتاجها، قرروا أن منتجها صاحب علم ومهارة، وهكذا[3].


التشكيك في مبدأ السببية
يشكك بعض الملاحدة في مبدأ السببية، ويدَّعون أن قول المؤمنين: كل حادث يحتاج إلى محدِث، قول بلا دليل، ولا سبيل للبرهنة عليه، ومهما جمعمن أدلة من العالمفإنها لا تكفي للوصول إلى الكلية؛ لاستحالة اختباركل الحوادث، ومعرفة هل هي محتاجة إلى محدث أو لا؟ويدعي هؤلاء أن السببية عادة ذهنية ترسخت في الذهن عن طريق التكرار، وكلامهم هذا سفسطة لا أثارة عليها من علم؛إذ مقولة: الحادث لا بد له من محدِث، من البديهيات.
والبديهيات هي حقائق ضرورية لا تحتاج إلى برهان؛ أي:إنها تفرض نفسها على الذهن، بحيثلا يحتاج إلى برهان لإثباتها، ويجمع العقلاء على صحتها واعتمادها كأصول ضروريةلازمة، وهي تعتبر أسسًا وقواعد أولية ومقاييس تبنى عليها باقي الأفكار، وبراهينلإثبات صِدقِ غيرها من الأفكار.
ومقولة: كل حادث لا بد له من محدِث، هي كمقولة: كل كتابة لا بد لها من كاتب، ولو رأى شخص كتابة فقال: لا بد لها من كاتب، فاعترض عليه آخر قائلاً:(أثبت لي أن هذه الكتابة تحتاج لكاتب، وهل اختبرتَكل الكتابات لتعرف هل تحتاج إلى كاتب أم لا؟)- لعدَّه الناس مجنونًا.
ومقولة: كل حادث لا بد له من محدِث، بديهية، مستغنية أن يُذَبَّ عنها، يُستدَل بها، ولا يُستدَل لها؛ فالسؤال عن إثباتها يعتبر خطأ فادحًا،كالتصديق بأن النار حارة لا يحتاج إلى إثبات وجمع الأدلة عليه من كل العالم.
ولا يجوز القدح في البديهيات بالنظريات؛لأن البديهيات أصل للنظريات، فلو جاز القدح بالنظريات في البديهيات، والنظريات لا تصح إلا بصحة البديهيات، كان ذلك قدحًا في أصل النظريات؛ فلزم من القدح في البديهيات بالنظريات فساد النظريات، وإذا فسدت لم يصحَّ القدح بها، والقدح في البديهيات بالنظريات يستلزم فساد النظريات وفساد العلوم.
وإذا لم يجُزِالقدح في البديهيات بالنظريات، فمن باب أولى لا يجوزالسؤال عن إثبات البديهيات؛ فالبديهيات لا تحتاج في حصولها إلى كسْبٍ ونظر وفكر؛ إذ إنها تحصل بالبداهة والضرورة، من غير تعبٍ، ومن غير إجراء عملية فكرية.
ومبدأ العِلِّيَّة مبدأ عقلي، لا مبدأ حسي نابع من الاستقراء، وليس مبدأ العلية مقصورًا على الكون فحسب؛ فما مادام هناك فعلفلا بد أن يكون له فاعل، سواء في عالمنا أو في غير عالمنا، وتخصيص العِلِّية بالكون الذي نعيش فيه فقط تخصيص بلا مخصص.
وجميع العلوم الكونية مبنية على السببية؛ ولذلك لا يمكن للعلوم الاستغناء عن السببية، وبسقوط السببية تنهار جميع العلوم.
وعدم اعتبار أصل السببية يؤدي إلى عدم الاستدلال؛ لأن الإثبات والدليل عامل مهم من عوامل قبول النتائج، وإذا لم يرتبط الإثبات بالنتائج، فلا يؤدي الإثبات إلى نتيجة.
ومبدأ العِلِّية مبدأ ضروري، لا يمكن الاستدلال على رده؛ وذلك لأن الدليل علة للعلم بالشيء المستدل عليه، وإذًا محاولة الاستدلال على رد مبدأ العلية تنطوي على الاعتراف بمبدأ العلية وتطبيقه.
ولو لم تكن السببية موجودة في الواقع، لما أمكن التفكير، ولا تناول الطعام، ولا المشي أيضًا، ولا الشرب، وغير ذلك من أمور الحياة.
ولو لم تكن السببية موجودة في الواقع، لما تمكن العلماء من تفسير الظواهر الكونية.
ولو لم تكن السببيةموجودة في الواقع، لما تمكن الأطباء من علاج الأمراض والوقاية منها.
وقولهم: السببية عادة ذهنية ترسخت في الذهن عن طريق التكرار،يُبطِله الواقع؛ فمن يرى كتابة يعرف أن لها كاتبًا، ولو كانت أول كتابة يراها، ومن يرى كرسيًّا يعرف أن له صانعًا، ولو كان أول كرسي يراه،ومن يرى لوحة فنية يعرف أن لها فنانًا، ولو كانت أول لوحة فنية يراها في حياته، وحتى الطفل الصغير إذا سمع صوتًا انتبه إلى مكانه ليعرف سببه، وإذا جاع طلب الطعام.
دعوى أن الكون نشأ صدفة بدليل وجود الفوضى في الكون
يدعي بعض الملاحدة أن الكون نشأ صدفة، بدليل وجود بعض الظواهر الفوضوية، والجواب:هذه الظواهر التي يدَّعون أنها فوضوية لا تُلغي وجود نظام في الكون، فكم يوجد في الكون من أشياء منظمة منسقة بهرت علماء الفيزياء والأحياء والكيمياء والفلكوالجولوجيا، وغيرهم!
والفوضى تستلزم عدم وجود أنظمة وقوانين تحكم هذه الظواهر الفوضوية، وإمكان استنتاج قوانين عامة تحكم هذه الأمور: يدلُّ على انتظامها، وليس على عدم انتظامها.
وما دامت الفوضى تخضع لقوانين فليست فوضى، ولكن نظام مرتب لم يتم الكشف عن ماهيته الحقيقية.
والنظام هو السائد في الكون، بدليل تمكُّنِ العلماء من وضع قوانين للظواهر الفيزيائية والطبيعية، فلو كانت الفوضى هي السائدة لَمَا تمكن العلماء من وضع قوانين تحكم الكون.



[1] - عقيدة التوحيد للدكتور محمد ملكاوي ص 149 - 150.
[2] - مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/214.
[3] - كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 542.

د.ربيع أحمد
04-20-2015, 04:24 PM
العلل المادية لا تكفي لتفسير نشأة الكون دون خالق
يدَّعي بعض الملاحدة أن الكون بهذا الانتظام قد تكوَّن صدفة، نتيجة سلسلة من العلل المادية غير العاقلة وغير المدركة، وتوافر الظروف والعلل المادية لنشأة الكون أدى إلى نشأة الكون دون الحاجة لقوة عاقلة، وهذا الكلام في غاية السخف والسقوط، وهو كمن يقول: توافر الظروف لحدوث الجريمة أدىإلى حدوث الجريمة، وعليه فليس للجريمة مرتكب، وكمن يقول: توافر الخشب والمسامير أدى إلى صنع الكرسي،وعليه فليس للكرسي صانع، وكمن يقول: توافر العوامل المادية لصنع السيارة أدى إلى صنع السيارة، وعليه فليس للسيارة صانع.
وكيف للعلل المادية تفسير النظام والإبداع الذي في الكون؟!ووجود النظاموالإبداع يستلزم وجود كائن ذي علم وإرادة قد نظمه وأبدعه، هو الله، لا المادة غير العاقلة وغير العالمة وغير الحكيمة، والمادة من جهة ذاتها لا علم لها، فلا يصح أن تكون هي العلة المنظمة المبدِعة.
وكيف للعلل المادية تفسير نشأة الحياة، والحياة ليست من جنس المادة؟
وكيف للعلل المادية تفسير نشأة الأخلاق، والأخلاق ليست من جنس المادة؟ الإنسان قد يوصف بالكرم والعدل والوفاء، أو البخل والظلم والغدر، والمادة لا توصف بذلك.
وكيف للعلل المادية تفسير نشأة الإدراك، والإدراك ليس من جنس المادة؟ الإنسان يدرك ما حوله، والمادة لا توصف بذلك.
وكيف للعلل المادية تفسير نشأة المشاعر والأحاسيس؛ كالسعادة والحبِّ، والكُره والألم، وكل هذه المشاعر والأحاسيس ليست من جنس المادة؟ الإنسان يحب ويكره، يفرح ويحزن، والمادة لا توصف بذلك.


سخافة مبرهنة القردة:
يقول بعض الملاحدة: لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير، فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء خلال بلايين السنين.
وهذا القول في غاية السخف والسقوط؛ إذ احتمال أن يقوم قرد يخبط على آلةكاتبة فيخرج لنا بالمصادفة قصيدة من قصائد شكسبير أبسط بكثير من إنشاء كون في الدقة والإحكام ويسير وَفْق سنن وقوانين لا يحيد عنها.
ولو سلمنا أن القرود استطاعت كتابة قصيدة من قصائد شكسبير، فهل يمكن أن تتذوقها أو تنطق كلماتها، أو تجعل كلمات القصيدة ناطقة؟! وهل هناك قرد يعيش ملايين السنين؟! وهل هناك آلة كاتبة تظل تطبع لملايين السنين؟! وهل هناك أوراق تكفي للكتابة عليها لملايين السنين؟! من الذي صنع له الحبر ووفر الحبر لهفي نفس المكان الذي هو فيه؟ من الذي وفر له الأوراق في نفس المكان الذي هو فيه؟
لو سلمنا أن الصدفة يمكن أن تنتج أشياء غير متوقعة، فليس معنى ذلك أنها يمكن أن تنتج حدثًا مستحيلاً، ونشأة نظام مستمر قابل للتفسير بلا منظم عاقل: حدَثٌ مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان، وتحول مادة غير حية بنفسها لمادة حية: حدث مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان، وتحول مادة غير واعية بنفسها إلى كائن واعي: حدث مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان، وتحول مادة لا تسمع بنفسها إلى كائن يسمع: حدث مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان،وتحول مادة لا تضحك إلى كائن يضحك: حدث مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان.

كلام نفيس في نفي الصدفة والعشوائية[1]:
إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورًا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية؛ فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار، وهي تسبَحُحول الشمس مرة في كل عام، فيكون في ذلك تتابع الفصول، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزيء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت الأرض ساكنة، ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير (يزيد على 500 ميل).
ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكشافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة إلينا، منقضة بسرعة ثلاثين ميلاً في الثانية، والغلاف الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات؛ حيث يمكن أن يتكاثف مطرًا يحيي الأرض بعد موتها، والمطر مصدر الماء العذب، ولولاهلأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة، ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة.
ويمتاز الماء بأربع خواص هامة تعمل على صيانة الحياة في المحيطات والبحيرات والأنهار، وخاصة حيثما يكون الشتاء قارسًا وطويلاً؛ فالماء يمتص كميات كبيرة من الأوكسجين عندما تكون درجة حرارته منخفضة، وتبلغ كثافة الماء أقصاها في درجة أربعة مئوية، والثلج أقل كثافة من الماء، مما يجعل الجليد المتكون في البحيرات والأنهار يطفو على سطح الماء؛ لخفته النسبية، فيهيئ بذلك الفرصة لاستمرار حياة الكائنات التي تعيش في الماء في المناطق الباردة، وعندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الأحياء التي تعيش في البحار.
أما الأرض اليابسة فهي بيئة ثابتة لحياة كثير من الكائنات الأرضية؛ فالتربة تحتوي العناصر التي يمتصها النبات، ويمثلها ويحولها إلى أنواع مختلفة من الطعام يفتقر إليها الحيوان، ويوجد كثير من المعادن قريبًا من سطح الأرض، مما هيأ السبيل لقيام الحضارة الراهنة، ونشأة كثير من الصناعات والفنون، وعلى ذلك فإن الأرض مهيأة على أحسن صورة للحياة، ولا شك أن كل هذا من تيسير حكيم خبير، وليس من المعقول أن يكون مجرد مصادفة أو خبط عشواء، ولقد كان أشعياء على حق عندما قال مشيرًا إلى الله: (لم يخلقها باطلًا، للسكن صورها) (45: 18).
وكثيرًا ما يسخر البعض من صغر حجم الأرض بالنسبة لما حولها من فراغ لانهائي،ولو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر، أو حتى لو أن قُطرها كان ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها، ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت،أما لو كان قطر الأرض ضِعفَ قُطرها الحالي لتضاعفت مساحة سطحها أربعة أضعاف،وأصبحتجاذبيتها للأجسام ضعف ما هي عليه، وانخفض تبعًا لذلك ارتفاع غلافها الهوائي، وزاد الضغط الجوي من كيلو غرام واحد إلى كيلو غرامين على السنتيمتر المربع، ويؤثر كل ذلك أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض، فتتسع مساحة المناطق الباردة اتساعا كبيرًا، وتنقص مساحة الأراضي الصالحة للسكنى نقصًا ذريعًا، وبذلك تعيش الجماعات الإنسانية منفصلة، أو في أماكن متنائية، فتزداد العزلة بينها، ويتعذر السفر والاتصال، بل قد يصير ضربًا من ضروب الخيال.
ولو كانت الأرض في حجم الشمس - مع احتفاظها بكثافتها - لتضاعفت جاذبيتها للأجسام التي عليها 150 ضعفًا، ولنقص ارتفاع الغلاف الجوي إلى أربعة أميال، ولأصبح تبخر الماء مستحيلاً، ولارتفع الضغط الجوي إلى ما يزيد على 150 كيلو غرامًا على السنتيمتر المربع، ولوصل وزن الحيوان الذي يزن حاليًّا رطلاً واحدًا إلى 150 رطلاً، ولتضاءل حجم الإنسان حتى صار في حجم ابن عرس أو السنجاب، ولتعذرت الحياة الفكرية لمثل هذه المخلوقات.
ولو أزيحتالأرض إلى ضعف بُعدها الحالي عن الشمس، لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس إلى ربع كميتها الحالية، وقطعت الأرض دورتها حول الشمس في وقت أطول، وتضاعف تبعًا لذلك طول فصل الشتاء، وتجمدت الكائنات الحية على سطح الأرض.
ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليها الآن، لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة أمثال، وتضاعفت سرعتها المدارية حول الشمس، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحالي إذا كانت هناك فصول مطلقًا، ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.
وعلى ذلك، فإن الأرض بحجمها وبُعدها الحاليين عن الشمس وسرعتها في مدارها، تهيئ للإنسان أسباب الحياة والاستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا.
فإذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق، فلا بد أن تكون قد نشأت عن طريق المصادفة، فما هي تلك المصادفة إذًا حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة؟
إن نظريات المصادفة والاحتمال لها الآن من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق، وتضع هذه النظريات أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم..
ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدمًا كبيرًا، حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر التي نقول:إنها تحدث بالمصادفة، والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى (مثل قذف الزهر في لعبة النرد).
وقد صِرنا - بفضل تقدم هذه الدراسات - قادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة، وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان، ولننظر الآن إلى الذي تستطيع أن تلعبه المصادفة في نشأة الحياة:
إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية، وهي تتكون من خمسة عناصر، هي: الكربون، والأيدروجين، والنيتروجين، والأوكسجين، والكبريت، ويبلغ عدد الذرات في الجزيء البروتيني الواحد 40000 ذرة.
ولما كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة 92 عنصرًا موزعة كلها توزيعًا عشوائيًّا، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكوِّن جُزَيئًا من جُزَيئات البروتين يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطًا مستمرًا لكي تؤلف هذا الجزيء، ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد.
وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعًا، فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد إلا بنسبة 1 إلى ‍‍‍‍10 160؛أي: بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروبًا في نفسه 160 مرة، وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات، وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات، ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تحصى من السنوات، قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين (10 243سنة).
إن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمنية، فكيف تتألف ذرات هذه الجزيئات؟ إنهاإذا تآلفت بطريقة أخرى غير التي تتآلف بها، تصير غير صالحة للحياة، بل تصير في بعض الأحيان سمومًا، وقد حسب العالم الإنجليزي ج. ب. ليثزJ. B. Leathesالطرق التي يمكن أن تتألف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات، فوجد أن عددها يبلغ البلايين (10 48)، وعلى ذلك فإنه من المحال عقلاً أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئًا بروتينيًّا واحدًا.
ولكن البروتينات ليست إلا مواد كيماوية عديمة الحياة، ولا تدب فيها الحياة إلا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب الذي لا ندري مِن كُنهه شيئًا، والله وحده هو الذي استطاع أن يدرك ببالغ حكمته أن مِثل ذلك الجزيء البروتيني يصلح لأن يكون مستقرًّا للحياة، فبناه وصوَّره وأغدق عليه سر الحياة.
هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
مراجع البحث:
1. الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى للدكتور سعيد بن علي بن وهف القحطاني.
2. الدين في مواجهة العلملوحيد الدين خان.
3. الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان للدكتور عبدالوهاب المسيري.
4. الله يتجلى في عصر العلم لنخبة من العلماء الأمريكيين،ترجمة الدكتور الدمرداشعبدالمجيد.
5. المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات للدكتور غالب عواجي.
6. المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة.
7. المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا.
8. المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة.
9. تاج العروس للزبيدي.
10. خرافة الإلحاد للدكتور عمر شريف.
11. عقيدة التوحيد للدكتور محمد ملكاوي.
12. كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمنحبنكة الميداني.
13. معجم اللغة العربية المعاصرة للدكتور أحمد مختار.
14. مفتاح دار السعادة لابن القيم.

[1] - هذا الكلام للدكتور فرانك ألن من كتاب: الله يتجلى في عصر العلم، لنخبة من العلماء الأمريكيين، ترجمة الدكتور الدمرداشعبدالمجيد ص12-16.

د.ربيع أحمد
04-20-2015, 04:29 PM
للتحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/11927/85356/)أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=349913)

د.ربيع أحمد
04-22-2015, 02:07 PM
الملحد و استنكاره خلود الكفار في النار









الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله استنكار الملاحدة خلود الكفار في النار فيدعي الملاحدة أن عقاب الكافر بالخلود في النار ليس من العدل و الإنصاف في شيء ، و يعللون ذلك بأن عصيان الكافر كان في مدة قليلة جدا لكن الخالق جعل عذابه يستمر إلى ما لا نهاية مع أنّ مقتضى العدل أن يعذب بقدر ما عصى ،و يسأل الملاحدة : لماذا هذا العقاب العظيم الأبدي أمام هذا الجرم الصغير المحدود ؟ ،و يقول أحدهم : خلود الكافر في النار - رغم أن كفره كان مدة قليلة - كفيل بأن يجعل أي إنسان لا دينيا لو تفكر به بصدق و تعمق ،و كيف يكون العدل أن يخلد الكافر في النار ؛ لأنه عصى الله لمدة قصيرة وهي عمره (60 عاما مثلا)؟

د.ربيع أحمد
04-22-2015, 02:12 PM
]العقاب يتناسب مع عظم الجريمة ،وليس مع مدة الجريمة[/color]

من الأمور التي يجب معرفتها أن العقاب لابد أن يتناسب مع عظم الجريمة ،ولا يشترط أن يتناسب مع مدة الجريمة فكم حدثت جرائم بشعة في مدد وجيزة جدا فمثلا يمكن لإنسان في خلال ثواني يقوم بقتل رجل و امرأة حامل و طفل و رضيع فهل نقول يعاقب هذا المجرم مدة وجيزة ؛ لأن جريمته لم تتجاوز الدقيقة ؟!!!!!!! ،و هل مدة عقاب هذا القاتل الذي قتل رجل و امرأة و طفل ورضيع سيكون أقل من مدة عقاب سارق ظل ساعتين يسرق منزل إذا كان في بلد لا تطبق حكم الإعدام على القاتل العمد ؟!!!! بالطبع لا فجريمة القتل أعظم بكثير من جريمة السرقة .

وماذا لو شنق رجل طفلا لا يتجاوز العاشرة من عمره ،ومدة هذه الجريمة لا تتجاوز خمس دقائق بينما رجلا آخر ظل ساعتين يعتدي على امرأة بالضرب أي الجريمتين ستكون مدة عقابه أكبر إذا كان في بلد لا تطبق حكم الإعدام على القاتل العمد ؟ بالطبع سيكون عقاب جريمة قتل الطفل شنقا أكثر بكثير من جريمة الاعتداء على امرأة بالضرب .

و يوجد الكثير من الدول تطبق السجن المؤبد على من يرتكب بعض الجرائم منها القتل و الاغتصاب و التجسس والخيانة العظمى وتجارة المخدرات فهل نقول مدة هذه الجرائم مدة وجيزة فكيف نحكم عليه بالسجن مدى الحياة ،و هل نقول مدة هذه الجرائم مدة وجيزة فكيف نحكم على المجرم بأن يقضي ما تبقى من حياته في السجن ؟ ، ومن هنا ندرك أن التناسب يكون بين مدى عظم الجريمة و العقوبة المستحقة ،وليس بين مدة الجريمة و العقوبة المستحقة .


عظم إثم الكفر والشرك

إن الكافر يعيش في ملك الله و في ظل نعمه وتحت سمائه وفوق أرضه ،ومع ذلك ينكر وجوده سبحانه أو يتكبر عن عبادته أو يصرف العبادة لغيره وهذا غاية المعاندة والمشاقة لله- سبحانه و تعالى - فأي إثم أعظم من هذا الإثم ،وأي جرم أعظم من هذا الجرم ؟! .

وما زال الناس يعتبرون إساءة الأدب مع كبرائهم وسادتهم أكبر عيب وأعظم خرق، فلما كان تبارك وتعالى أكبر من كل كبير، كانت إساءة الأدب إليه، والإشراك معه عيبا ليس فوقه عيب، وخرقا لا يفوقه خرق[1] .

و قال تعالى : ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ ( لقمان : 13 ) ،و الظلم في الأصل : وضع الشيء في غير موضعه، والشرك معناه: وضع العبادة في غير موضعها، وهذا أعظم الظلم، لأنهم لما وضعوا العبادة في غير موضعها، أعطوها لغير مستحقها، وسوَّوْا المخلوق بالخالق، سوَّوْا الضعيف بالقوي الذي لا يُعجزه شيء، وهل بعد هذا ظلم؟ [2].

و عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : « أن تدعو لله نداً وهو خلقك »[3] ،و لا فرق بين من كفر بالله و من أشرك مع الله أحدا .
و لا أفظع ولا أبشع ممن سوّى المخلوق من تراب بمالك الرقاب، وسوّى الذي لا يملك من الأمر شيئاً بمالك الأمر كله وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه ولا يصرف السوء إلا هو. فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ وهل أعظم ظلماً ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئاً [4] .


و قال تعالى : ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾ (النساء : 48 ) أي افترى جرما كبيرا وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق -من تراب الناقص من جميع الوجوه الفقير بذاته من كل وجه الذي لا يملك لنفسه- فضلا عمن عبده -نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا- بالخالق لكل شيء الكامل من جميع الوجوه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع الذي ما من نعمة بالمخلوقين إلا فمنه تعالى فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟[5]


والشرك يتضمن ظلما؛ لأنه اعتداء على المستحق للعبادة وحده، وهو فساد في النفوس. و (افترى) هنا تضمن قولا كذبا، وفعلا ظالما، وتضمن أعظم ذنب في الوجود؛ لأنه اعتداء على رب العالمين[6] ،وإذا كان من أشرك مع الله غيره رغم أنه مقر بوجود الله - سبحانه و تعالى - قد أفترى إثما عظيما فكيف بمن أنكر وجوده ؟

إن الكافر يجحد وجود الله - سبحانه و تعالى - وربوبيته وألوهيته،وهذا أظلم الظلم ففيه إنكار للحقائق الواضحة وضوح الشمس إذ دلائل وجوده سبحانه قد ملئت الكون كله ،وفيه إنكار لأعظم حق ،وهو توحيد الله - سبحانه و تعالى - وأن لا يُشركَ بهِ شيئا .

و يجحد الكافر نعم الله وفضله وهذا إنكار للجميل ،وإنكار لفضل صاحب الفضل ،وظلم ما بعده ظلم ،والنفوس الطيبة تشكر من أسدى لها معروفا ،وتمتن بمن أسدى لها معروفا ،والنفوس الخبيثة تجحف فضل صاحب الفضل ،وعدم عرفان الجميل من سوء الخلق فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟!!.

ولو أن رجلا ربي ابنه أحسن تربية و أغدق عليه بالهدايا والعطايا ومع ذلك رفض الابن طاعة أبيه و استنكر أبوته ماذا تقلون في شأن هذا الابن ؟!! انظروا أيها الأخوة لمدى بشاعة وشناعة فعل الكافر فالله قد خلقه وأنعم عليه بأجل النعم وسخر له ما في الأرض جميعا كي يستعين بذلك على عبادته و بدلا من أن يعبده ترك عبادته و أنكر وجوده .

ولو أن رجلا جاء إلى بلد ليس معه شيء لا كسوة ولا طعام و لا شراب و لا مال فوجده شخص فألبسه وأطعمه وسقاه وأعطاه المال ألا يستحق هذا الرجل الاعتراف له بالجميل والفضل ،ولله المثل الأعلى جئنا الدنيا بلا كسوة ولا طعام و لا شراب و لا مال ،ورزقنا الله من فضله الكسوة والطعام والشراب والمال ألا يستحق الشكر - سبحانه و تعالى - ؟!!! .

إن الكافر قد تمرد على خالقه إذ لا يعبده و لا يوحده ولا يؤدي حقه و ينكر وجوده وربوبيته وألوهيته،و في هذا اعتداء على حقه - سبحانه و تعالى - ، و إساءة الأدب معه - سبحانه و تعالى - فأي جرم أعظم من هذا الجرم ،وأي ذنب أعظم من هذا الذنب ؟!!!!

ولو أن رجلا عاش في مملكة وينعم بهوائها ومياهها وطعامها وشرابها ،وتعلم في مدارسها وجامعاتها ثم لما أصبح ذي شأن أنكر فضلها و تمرد على قوانينها وأساء الأدب إليها ماذا تقلون في شأن هذا الرجل ألا يستحق أشد العقاب ؟!!

و ترك عبادة الله مناقض للمقصود بالخلق فقد خلق الله الإنس و الجن لعبادته سبحانه قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ( الذاريات : 56 ) فهذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها ، و بعث جميع الرسل يدعون إليها ، و هي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته و الإنابة إليه و الإقبال عليه ، و الإعراض عما سواه .







[1] - رسالة التوحيد المسمى بـ تقوية الإيمان للدهلوي ص 90
[2] - إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ص 57
[3] - رواه البخاري في صحيحه رقم 4477 ، و رواه مسلم في صحيحه رقم 86
[4] - تفسير السعدي ص 648
[5] - تفسير السعدي ص 181
[6] - زهرة التفاسير 4/1710

د.ربيع أحمد
04-22-2015, 02:17 PM
]فائدة استحضار الكافر أنه سيخلد في النار إذا لم يتب من الكفر[/color]



أخبر الله - سبحانه و تعالى - أن من مات على الكفر يكون مخلدا في النار ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ( آل عمران : 116) ، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ ( التوبة : 68) ) ،وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ ( الأحزاب : 64 - 65 ) .

و فائدة ذكر خُلُود الكفار فِي النَّار كفهم عَن الْكفْر وَالْفساد والعناد والشقاق والنفاق[1] ،ولو استحضر الكافر عاقبة كفره ،و أن الله - عز وجل – سيصليه نارا خالدا فيها فقد يستيقظ ضميره و ويؤنب نفسه ويتوب إلى الله ، و من تاب إلى الله - سبحانه و تعالى - فإن الله يتوب عليه ،وبذلك يكون ذكر خُلُود الكفار فِي النَّار فيه زجر لمن يريد الكفر ، وباعث له على التثبت في الأمر و إصلاح للكافر واستنقاذه من الكفر، وإرشاده من الضلالة، وكفه عن الكفر وبعثه على الإيمان .

وفي تكرار ذكر خلود الكفار في النار زيادة التحذير من الكفر ،وهذا من رحمة الله بنا و حبه لنا فالله لا يريد لنا الكفر ،ولا يرضى لنا الكفر ،ويريد لنا الإيمان والتوحيد والعبادة ،ولذلك يحذرنا من الكفر والشرك أشد التحذير .
من العدل تخليد الكافر في النار

من العدل تخليد الكافر في النار إذ الكفر اعتداء على حق الله في الربوبية و الألوهية والأسماء والصفات،وحق الله من الأمور الواجبة الاحترام فهو الخالق الملك الجبار ،وقد خلق الله الجن و الإنس ليعرفوه ويوحدوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه ،ونصب لهم دلائل وجوده ودلائل توحيده وعظمته وكبريائه ،و أرسل الرسل و أنزل الكتب .

ولا يوجد رسول إلا وقد حذر قومه من الشرك والكفر ،و لا يوجد رسول إلا وقد بين لقومه عقوبة الشرك و عقوبة الكفر والوعيد الشديد على الشرك والكفر لكن الكافر لم يعبأ بكلام الله - سبحانه و تعالى - ،ولم يعبأ بكلام رسل الله – عليهم الصلوات والتسليم -،ولم يعبأ بالوعيد الشديد وولى ظهره وهذا استهتار و استهانة واعتداء على حق الله ،وذلك يستوجب استحقاقه أشد العذاب ، و من لم يعبأ بكلام الله ووعيده فلا يلومن إلا نفسه .

و ليس من العدل في شيء ألا ينال الكافر أشد العقاب جزاءا على كفره ، فإن في ذلك إجحافاً في حق الله و استهانة بحق الله و تشجيعاً للناس على الكفر ، و من يشنع على خلود الكافر في النار نظر للعقوبة و لم ينظر لعظم الذنب و عظم الجريمة ،وعظم من عصاه.

والجزاء من جنس العمل ، والجزاء ثمرة العمل وجزاء الإيمان الجنة الأبدية وجزاء الكفر النار الأبدية فليختار كل إنسان أيهما يريد ،وليتحمل كل إنسان مسئولية اختياره لكن أن يكفر الإنسان ،ولا يريد أن يعاقب أشد العقاب فهذا غاية التبجح و الكبر والغرور .

ولو أن دولة من الدول جرمت فعلا معينا ،وحذرت منه في وسائل الإعلام أن من يفعله سيعاقب مدى حياته ثم لم يعبأ رجلا بهذا التجريم والتحذير ففعل هذا الفعل المجرَم ،ولا يريد أن يعاقب مدى حياته و أدعى أن ذلك ظلم هل يلتفت لكلام هذا الرجل ،وهل يخفف عنه العقاب ؟!!

حقيقة الكافر هو الذي ظلم نفسه بأن حرم نفسه من نعمة الإيمان و لذة مناجاة الرحمن ،وأشقى نفسه بالكفر والعصيان ،وترك الطريق المستقيم ،والتزم بطريق المغضوب عليهم أو الضالين .








الكافر عاش حياته الدنيا كافرا بالله فاستحق أن يعيش حياة الآخرة في عذاب الله



إن الكافر قد عاش حياته الدنيا في الكفر والعصيان والإعراض عن توحيد الرحمن فاستحق أن يعيش حياة الآخرة في عذاب الله جزاءا وفاقا موافقاً لأعماله من غير أن يظلم ، وهذا من تمام عدل الله حيث لم يسو بين من عاش حياته الدنيا في الإيمان والطاعة والتوحيد ،ومن عاش حياته الدنيا في الكفر و المعاصي والشرك ،ولو أن طالبا ذاكر بجد خلال فترة الدراسة حتى نجح في الامتحان بتفوق فتمتع بالأجازة الصيفية ،وزميله لم يذاكر خلال فترة الدراسة فرسب في الامتحان ،وقضى الأجازة الصيفية في المذاكرة ليدخل امتحان الدور الثاني ،ولم يتمتع بالأجازة هل تلام المدرسة على عدم تمتع الطالب بالأجازة الصيفية مثل زميله أم يلام هذا الطالب المستهتر ؟


والدنيا امتحان للجن و الإنس في الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فمن آمن ووحد و أطاع نجح في الامتحان و فاز بالخلود في الجنة ومن كفر وأشرك و عصى رسب في الامتحان و عوقب بالخلود في النار ،ولا يلومن إلا نفسه .







[1] - غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 231

د.ربيع أحمد
04-22-2015, 02:25 PM
الكافر يعزم على الكفر مهما طالت به حياته الدنيا فاستحق العذاب في حياة الآخرة


الكافر يعزم على الكفر مهما طالت به حياته الدنيا فاستحق العذاب في حياة الآخرة جزاءا وفاقا و المؤمن نيته دوام الإيمان بالله وطاعته مهما طالت به حياته الدنيا فاستحق الخلود في الجنة فضلا من الله وكرما .

وسر خلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، أن كلا من الفريقين كان مصرًا على ما هو عليه، فأهل الجنة كانوا مريدين الإيمان والطاعة مهما طالت بهم الحياة وامتد بهم العمر، وأهل النار كانوا مصرين على الكفر والعصيان ولو عاشوا ملايين السنين، فكان الجزاء للفريقين على الإرادة والنية، وبمقتضى هذه الإرادة والتصميم، كان الخلود، إذ أن الإيمان والكفر وما يستتبعانه من أعمال ، قد تمكن من النفس تمكنًا لا يزول .

ولقد صور القرآن هذا التمكن، فذكر أن الكفار لو رجعوا إلى الدنيا بعد معاينتهم العذاب لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وسوء العمل .

﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ( الأنعام : 27- 28 )

والأصل في كون الجزاء على الإرادة والنية، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى »[1] [2].


من مات كافرًا فإنّه يستمر كافرًا أبدًا



من مات كافرًا فإنّه يستمر كافرًا أبدًا، بمعنى أنّه يبقى حتى في البرزخ والقيامة والنار جاحدًا لبعض الأشياء الذي يُعدّ جَحْدها كفرًا، ومصمِّمًا على الخلاف والمعصية لو وجد إليها سبيلًا، ولا يتوب أبدًا، وإن قال بلسانه فهو معتقد بقلبه خلاف ذلك فلذلك - والله أعلم - يخلَّد في النار... ويظهر لك هذا مما حكاه الله - عزَّ وجلَّ -عن أهل النار من دعائهم، ولا سيّما إذا قرنته بما حكاه عن أهل الجنة ،وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ ( الأنعام: 28) ليس ذلك - والله أعلم - من باب الإخبار بالغيب فقط، بل المعنى - والله أعلم - أنهم في نفوسهم مُزْمِعون على ذلك، أي أنهم عازمون في أنفسهم أن لو رُدّوا إلى الدنيا لاستمروا على كفرهم وعنادهم. والله أعلم[3] .













ملازمة الكفر للكفار سبب في ملازمة العذاب لهم


الخلود في النار سببه الكفر ،و الحكم يدور مع سببه و علته وجوداً و عدماً ،والكفار يخلدون في النار لأن صفة الكفر ملازمة لهم فلو رجعوا للدنيا لعادوا لكفرهم فمسألة الكفر والإيمان ليست متعلقة بقضية أنهم رأوا الحق أو لم يروا الحق؛ بل هي مسألة استكبار وعناد في نفوس الكفار قال تعالى : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون ﴾ أي : بل ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت به الرسل في الدنيا, وإن كانوا يظهرون لأتباعه خلافه. ولو فرض أن أعيدوا إلى الدنيا فأمهلوا لرجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب. وإنهم لكاذبون في قولهم: لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا , وكنا من المؤمنين[4] فالله يعلم أن هؤلاء المكذبين الذين يتمنون في يوم القيامة الرجعة إلى الدنيا أنهم لو عادوا إليها لرجعوا إلى تكذيبهم وضلالهم[5] .

و قال المراغي – رحمه الله - : ( لو ردوا – أي الكفار - لعادوا لما كانوا فيه لفقد استعدادهم للإيمان، وأن حالهم بلغ مبلغا لا يؤثّر فيه كشف الغطاء و رؤية الفزع و الأهوال )[6] ، و قال أيضا : ( ﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ من الكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي فإن ذلك من أنفسهم، ثابت فيها لخبث طينتهم وسوء استعدادهم، ومن ثم لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوا ولا سوء ما رأوا )[7] .

و قال الحجازي – رحمه الله - : ( ولو ردوا – أي الكفار - إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والعناد وعدم الإيمان، وإنهم لقوم طبعهم الكذب وديدنهم العناد، ولو ردوا إلى الدنيا لقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط وليست لنا حياة أخروية أبدا، وما نحن بمبعوثين وهكذا القوم الماديون لا يؤمنون بالغيب، ولا يرجى منهم خير أبدا )[8].

و قال الشنقيطي – رحمه الله - في شأن استمرار الكافر في النار : ( سبب هذا الاستمرار هو ملازمة الخبث لذلك الكافر دائما ، وعدم مفارقته له في أيّ حال من الأحوال ؛ فهو منطو عليه لا يزول، وباستمرار السبب الذي هو الخبث استمر المسبب الذي هو العذاب. والدليل على استمرار خبثه: قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ؛ فبديمومة السبب الذي هو الكفر دام المسبب الذي هو العذاب )[9] .

وقال ابن القيم – رحمه الله - : ( سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارضا كمعاصي الموحدين أما إذا كان لازما كالكفر والشرك فان أثره لا يزول كما لا يزول السبب وقد أشار سبحانه إلى هذه المعنى بعينه في مواضع من كتابه منها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك وإنها غير قابلة للإيمان أصلا ومنها قوله تعالى : ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ فأخبر سبحانه أن ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم فإن موجبه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم ومنها قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ وهذا يدل على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثره )[10].

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

مراجع المقال :
آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبْد الرّحمن بْن يحْيَي المُعَلّمِيّ اليَماني
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
التفسير الميسر
العقائد الإسلامية لسيد سابق
القضاء والقدر لعمر الأشقر
تفسير السعدي
تفسير المراغي
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم
رسالة التوحيد المسمى بـ تقوية الإيمان للدهلوي
زهرة التفاسير
غاية المرام في علم الكلام للآمدي
معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي


[1] - رواه البخاري في صحيحه رقم 1
[2] - العقائد الإسلامية لسيد سابق ص 307-308
[3] - آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبْد الرّحمن بْن يحْيَي المُعَلّمِيّ اليَماني 24/98
[4] - التفسير الميسر
[5] - القضاء والقدر لعمر الأشقر ص 27

[6] - تفسير المراغي 7/100

[7] - تفسير المراغي 7/102
[8] - التفسير الواضح للدكتور محمد محمود حجازي ص 602
[9] - معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي ص 258
[10] - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ص 368-369

د.ربيع أحمد
04-22-2015, 02:31 PM
الكافر يعزم على الكفر مهما طالت به حياته الدنيا فاستحق العذاب في حياة الآخرة


الكافر يعزم على الكفر مهما طالت به حياته الدنيا فاستحق العذاب في حياة الآخرة جزاءا وفاقا و المؤمن نيته دوام الإيمان بالله وطاعته مهما طالت به حياته الدنيا فاستحق الخلود في الجنة فضلا من الله وكرما .

وسر خلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، أن كلا من الفريقين كان مصرًا على ما هو عليه، فأهل الجنة كانوا مريدين الإيمان والطاعة مهما طالت بهم الحياة وامتد بهم العمر، وأهل النار كانوا مصرين على الكفر والعصيان ولو عاشوا ملايين السنين، فكان الجزاء للفريقين على الإرادة والنية، وبمقتضى هذه الإرادة والتصميم، كان الخلود، إذ أن الإيمان والكفر وما يستتبعانه من أعمال ، قد تمكن من النفس تمكنًا لا يزول .

ولقد صور القرآن هذا التمكن، فذكر أن الكفار لو رجعوا إلى الدنيا بعد معاينتهم العذاب لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وسوء العمل .

﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ( الأنعام : 27- 28 )

والأصل في كون الجزاء على الإرادة والنية، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى »[1] [2].


من مات كافرًا فإنّه يستمر كافرًا أبدًا



من مات كافرًا فإنّه يستمر كافرًا أبدًا، بمعنى أنّه يبقى حتى في البرزخ والقيامة والنار جاحدًا لبعض الأشياء الذي يُعدّ جَحْدها كفرًا، ومصمِّمًا على الخلاف والمعصية لو وجد إليها سبيلًا، ولا يتوب أبدًا، وإن قال بلسانه فهو معتقد بقلبه خلاف ذلك فلذلك - والله أعلم - يخلَّد في النار... ويظهر لك هذا مما حكاه الله - عزَّ وجلَّ -عن أهل النار من دعائهم، ولا سيّما إذا قرنته بما حكاه عن أهل الجنة ،وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ ( الأنعام: 28) ليس ذلك - والله أعلم - من باب الإخبار بالغيب فقط، بل المعنى - والله أعلم - أنهم في نفوسهم مُزْمِعون على ذلك، أي أنهم عازمون في أنفسهم أن لو رُدّوا إلى الدنيا لاستمروا على كفرهم وعنادهم. والله أعلم[3] .













ملازمة الكفر للكفار سبب في ملازمة العذاب لهم


الخلود في النار سببه الكفر ،و الحكم يدور مع سببه و علته وجوداً و عدماً ،والكفار يخلدون في النار لأن صفة الكفر ملازمة لهم فلو رجعوا للدنيا لعادوا لكفرهم فمسألة الكفر والإيمان ليست متعلقة بقضية أنهم رأوا الحق أو لم يروا الحق؛ بل هي مسألة استكبار وعناد في نفوس الكفار قال تعالى : ﴿ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون ﴾ أي : بل ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت به الرسل في الدنيا, وإن كانوا يظهرون لأتباعه خلافه. ولو فرض أن أعيدوا إلى الدنيا فأمهلوا لرجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب. وإنهم لكاذبون في قولهم: لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا , وكنا من المؤمنين[4] فالله يعلم أن هؤلاء المكذبين الذين يتمنون في يوم القيامة الرجعة إلى الدنيا أنهم لو عادوا إليها لرجعوا إلى تكذيبهم وضلالهم[5] .

و قال المراغي – رحمه الله - : ( لو ردوا – أي الكفار - لعادوا لما كانوا فيه لفقد استعدادهم للإيمان، وأن حالهم بلغ مبلغا لا يؤثّر فيه كشف الغطاء و رؤية الفزع و الأهوال )[6] ، و قال أيضا : ( ﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ من الكفر والنفاق والكيد والمكر والمعاصي فإن ذلك من أنفسهم، ثابت فيها لخبث طينتهم وسوء استعدادهم، ومن ثم لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوا ولا سوء ما رأوا )[7] .

و قال الحجازي – رحمه الله - : ( ولو ردوا – أي الكفار - إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والعناد وعدم الإيمان، وإنهم لقوم طبعهم الكذب وديدنهم العناد، ولو ردوا إلى الدنيا لقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط وليست لنا حياة أخروية أبدا، وما نحن بمبعوثين وهكذا القوم الماديون لا يؤمنون بالغيب، ولا يرجى منهم خير أبدا )[8].

و قال الشنقيطي – رحمه الله - في شأن استمرار الكافر في النار : ( سبب هذا الاستمرار هو ملازمة الخبث لذلك الكافر دائما ، وعدم مفارقته له في أيّ حال من الأحوال ؛ فهو منطو عليه لا يزول، وباستمرار السبب الذي هو الخبث استمر المسبب الذي هو العذاب. والدليل على استمرار خبثه: قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ؛ فبديمومة السبب الذي هو الكفر دام المسبب الذي هو العذاب )[9] .

وقال ابن القيم – رحمه الله - : ( سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان السبب عارضا كمعاصي الموحدين أما إذا كان لازما كالكفر والشرك فان أثره لا يزول كما لا يزول السبب وقد أشار سبحانه إلى هذه المعنى بعينه في مواضع من كتابه منها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقتضي غير الكفر والشرك وإنها غير قابلة للإيمان أصلا ومنها قوله تعالى : ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ فأخبر سبحانه أن ضلالهم وعماهم عن الهدى دائم لا يزول حتى مع معاينة الحقائق التي أخبرت بها الرسل وإذا كان العمى والضلال لا يفارقهم فإن موجبه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم ومنها قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ وهذا يدل على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثره )[10].

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

مراجع المقال :
آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبْد الرّحمن بْن يحْيَي المُعَلّمِيّ اليَماني
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
التفسير الميسر
العقائد الإسلامية لسيد سابق
القضاء والقدر لعمر الأشقر
تفسير السعدي
تفسير المراغي
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم
رسالة التوحيد المسمى بـ تقوية الإيمان للدهلوي
زهرة التفاسير
غاية المرام في علم الكلام للآمدي
معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي


[1] - رواه البخاري في صحيحه رقم 1
[2] - العقائد الإسلامية لسيد سابق ص 307-308
[3] - آثَار الشّيخ العَلّامَة عَبْد الرّحمن بْن يحْيَي المُعَلّمِيّ اليَماني 24/98
[4] - التفسير الميسر
[5] - القضاء والقدر لعمر الأشقر ص 27

[6] - تفسير المراغي 7/100

[7] - تفسير المراغي 7/102
[8] - التفسير الواضح للدكتور محمد محمود حجازي ص 602
[9] - معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي ص 258
[10] - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم ص 368-369

د.ربيع أحمد
04-22-2015, 02:35 PM
التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/11927/85491/) أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=350044)

د.ربيع أحمد
04-27-2015, 08:43 PM
الملحد ودعواه أن الإسلام يبيح النفاق في سبيل الحفاظ على الحياة




الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله دعوى بعض الملاحدة أن الإسلام يبيح النفاق في سبيل الحفاظ على الحياة ،واحتج أحدهم بقوله تعالى : ﴿ لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ ( آل عمران : 28 ) ،وبقوله تعالى : ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ( النحل : 106 )،و استنتج بناءا على هذه الدعوى أن الخالق – عز وجل - عاجز عن حماية أتباعه من أي ضرر يصيبهم في حالة إعلانهم عن عقيدتهم – تعالى الله عما يقول الظالمون - ،وقد وجدت نفس هذه الشبهة في إحدى مواقع التنصير ،ولعل الملحد اقتبس شبهته منها .

د.ربيع أحمد
04-27-2015, 08:48 PM
منشأ الشبهة

كلام الملحد هداه الله أن الإسلام يبيح النفاق في سبيل الحفاظ على الحياة ينم عن عدم تفريقه بين النفاق و التقية ،و النفاق مذموم في كل حال والتقية جائزة في حالات معينة ،والملحد توهم أن التقية الجائزة شرعا من جنس النفاق لاشتراكهما بصفة إظهار الإنسان لشيءٍ على خلاف ما يُبطن .


و كي يتضح زيف هذه الشبهة لابد من بيان مفهوم النفاق و مفهوم التقية والفرق بينهما ثم بيان أن إباحة الإسلام للتقية الجائزة شرعا يعد من محاسن الشريعة الإسلامية ، وبيان أن الرجل لا يعد منافقا إذا تظاهر بشيء لينجو من بطش ظالم وبيان أن الله - سبحانه وتعالى - لا يعجز عن حماية أوليائه .


مفهوم النفاق لغة واصطلاحا


والنفاق لغة: مصدر نافق، يُقال: نافق نفاقًا ومنافقة ،و نَافق اليربوع نفَاقًا وَمُنَافِقَة دخل فِي نافقائه وَفُلَان أظهر خلاف مَا يبطن[1] ،والنفاق إما مأخوذ من النفق أو النافقاء ،و النفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان ، و النافقاء : موضع يرققه اليربوع من جحره ، فإذا أُتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق ، أي: خرج منه، ويقال: نفق اليربوع من جحره ، قالوا: ومنه اشتقاق النفاق ؛ لأن الإيمان يخرج من قلبه ، أو يخرج هو من الإيمان[2] .

و النفاقَ في اللغة من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير، وإبطان خلافه [3].

ومادة نفق تدل على الإخفاء وعدم الإظهار ،ولذلك سمي السرب في الأرض الذي له مخلص إلى مكان آخر نفقا ، وسمي أحد جحري اليربوع النافقاء والنفقة ؛ لأنه يكتمه ويظهر غيره فإذا طلب من مخرج هرب إلى الآخر ، وخرج منه ،وسمي النفاق بهذا الاسم ؛ لأن صاحبه يكتم خلاف ما يُظهر, فكأن الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء .


والنفاق اصطلاحا إظهار الإيمان باللّسان وكتمان الكفر بالقلب[4] ،وهذا التعريف ينطبق على النفاق الاعتقادي ،وقيل النفاق هو إظهارُ الإسلام والخير، وإبطانُ الكفر والشر؛ سمي بذلك ؛ لأنه يدخل في الشرع من باب، ويخرج منه من باب آخر، وعلى ذلك نبه الله تعالى بقوله: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ( التوبة : 67) أي: الخارجون من الشرع [5] ،وقيل النفاق هو أن يظهر المرء ما يوافق الحق، ويبطن ما يخالفه؛ فمن أظهر أمام الناس ما يدل على الحق، وكان حقيقة أمره أنه على باطل من الاعتقاد، أو الفعل، فهو المنافق، واعتقاده، أو فعله هو النفاق [6] ،وقيل النفاق هو التظاهر الكاذب بالفضيلة والتمسك بالدين
مع إبطان الرذيلة ومخالفة الدين .

وأساس النفاق الذي بني عليه هو الكذب، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه، كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم[7] .


أقسام النفاق


و النفاق في الشرع ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: النفاقُ الأكبرُ – وهو النفاق الاعتقادي - ، وهو أنْ يظهر الإنسانُ الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويُبطن ما يُناقض ذلك كلَّه أو بعضه، وهذا هو النِّفاق الذي كان على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أنَّ أهله في الدَّرْكِ الأسفل من النار .
والثاني : النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل – أي النفاق العملي - ، وهو أنْ يُظهر الإنسانُ علانيةً صالحةً، ويُبطن ما يُخالف ذلك[8] .

ومِنْ أعظم خِصال النفاق العملي : أنْ يعملَ الإنسان عملاً ، ويُظهرَ أنَّه قصد به الخيرَ، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيِّئٍ، فيتمّ له ذلك، ويتوصَّل بهذه الخديعةِ إلى غرضه، ويفرح بمكره وخِداعه وحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره، وتوصل به إلى غرضه السيِّئِ الذي أبطنه [9].


ومن الفروق بين النفاق الأكبر والنفاق الأصغر ما يلي:
1 - إن النفاقَ الأكبرَ يُخرجُ من الملَّة، والنفاقَ الأصغر لا يُخرجُ من الملَّة.
2 - إن النفاق الأكبر: اختلاف السر والعلانية في الاعتقاد، والنفاق الأصغر: اختلاف السر والعلانية في الأعمال دون الاعتقاد.
3 - إن النفاق الأكبر لا يصدر من مؤمن، وأما النفاق الأصغر فقد يصدر من المؤمن.
4 - إن النفاق الأكبر في الغالب لا يتوب صاحبه، ولو تاب فقد اختلف في قبول توبته عند الحاكم. بخلاف النفاق الأصغر؛ فإن صاحبه قد يتوب إلى الله، فيتوب الله عليه[10] .




[1] - المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية 2/942
[2] - مجمل اللغة لابن فارس 1/877

[3] - جامع العلوم والحكم لابن رجب 3/1250
[4] - التعريفات للجرجاني ص 245
[5] - عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها لصالح بن فوزان الفوزان ص 85
[6] - المفيد في مهمات التوحيد للدكتور عبد القادر صوفي ص 191
[7] - منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1 / 159
[8] - جامع العلوم والحكم لابن رجب 3/1250
[9] - جامع العلوم والحكم لابن رجب 3/1260
[10] - عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها لصالح بن فوزان الفوزان ص 88

د.ربيع أحمد
04-27-2015, 08:53 PM
مفهوم التقية لغة واصطلاحا

و التقية لغة من الاتقاء ،و أصل الاتِّقاء الحَجْز بَين الشّيئين، يُقَال: اتَّقاه بالتّرس أَي جعله حاجزاً بَينه وَبَينه، واتقاه بحَقِّه أَيْضا كَذَلِك وَمِنْه الوِقاية وَيُقَال وَقاه وَمِنْه التّقِيَّة[1] ،ووقى الشيءَ وقايةً: إِذا صانه بوِقاء ،ووقاه الله تعالى : أي حفظه ومنعه[2] ، و اتَّقَى الرَّجُل الشَّيْءَ يَتَّقِيهِ، إِذَا اتَّخَذَ سَاتِرًا يَحْفَظُهُ مِنْ ضَرَرِهِ .

و التُّقاة وَالتقيَّة والتقوَى والاتِّقاءُ كلُّه واحدٌ[3] ،و أصل المادة المنع، كالذي يتقى البرد بالملابس، ويتقى عذاب الله بالطاعة، ويتقى سهام العدو بالدرع، والتقية بهذا هي اتخاذ ما يمنع المكروه، أو هي الشيء الذي يتخذ لمنع المكروه .

و التقية اصطلاحا الحذر من إظهار ما في الضمير من العقيدة ونحوه عند الناس[4] ،و قيل التَّقِيَّةُ الْحَذَرُ مِنْ إِظْهَارِ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ مُعْتَقَدٍ وَغَيْرِهِ لِلْغَيْرِ[5] ،وقيل التَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ الإْنْسَانُ نَفْسَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلاَفَهُ [6] ،ومن هنا يتبين أن التقية معناها إظهار خلاف ما في الباطن بسبب قهر أو خوف يواجهه الإنسان أي الإنسان يفعل التقية احترازا من الوقوع في مكروه أو التعرض لضرر ،وبالتالي التقية من جنس ( الإكراه ) بالمصطلح الشرعي .

حكم التقية وشروط العمل بها

التقية تجوز عند خوف الضرر كالقتل أو القطع أو الإيذاء أي الترخص بالتقية يكون في حال الإكراه ، قال تعالى : ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ( النحل : 106 ) قال ابن كثير – رحمه الله - : ( وأما قوله: ﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾ فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله )[7].



وفي حكم المكره من يكون بين قوم لا يدينون بما يدين، وإذا لم يجارهم في القول تعمدوا إضراره والإساءة إليه فيماشيهم بقدر ما يصون به نفسه، ويدفع الأذى عنه ؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها قال تعالى : ﴿ لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ ( آل عمران : 28 ) .

ومعنى الآية : لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك ﴿ فليس من الله في شيء ﴾ ، يعني بذلك : فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ﴿ إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ ، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل[8] .

وقوله: ﴿ إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: "إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم" [9].


والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي، فإن هذا نفاق، ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [10].


فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه، مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله، بل غايته أن يكون كمؤمن آلفرعون - وامرأة فرعون - وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه.

وكتمان الدين شيء، وإظهار الدين الباطل شيء آخر. فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره، بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر. والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره ، والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين، لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن هذا الإكراه لا يكون عاما من جمهور بني آدم، بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر، ولا أحد يكرهه على كلمة الكفر، ولا يقولها، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم، وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل يكتم ما في قلبه .


وفرق بين الكذب وبين الكتمان فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار، كمؤمن آل فرعون. وأما الذي يتكلم بالكفر، فلا يعذره إلا إذا أكره. والمنافق الكذاب لا يعذر بحال، ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب. ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه، وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه ; لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح، وإرادة الخير بهم، وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم، كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا، وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ، ومع هذا كان يعظم موسى ويقول: ﴿ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ﴾ ( غافر: 2 ) [11].


والأمور التي يكره الإنسان على فعلها لدفع الضرر عن نفسه أو عرضه هي في أصلها ممنوعة ولكن الله أباحها للضرورة إذ الضرورات تبيح المحظورات ، ويجوز دفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما وما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (البقرة : 173 )

ودفع الإنسان الضرر عن نفسه من باب المحافظة على النفس ،ولا يجوز للإنسان أن يضرّ بنفسه تعالى: قال تعالى : ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ (البقرة : 195 )


و التقية لا تجوز بما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وإطلاع الكفار على عورات المسلمين إذ القاعدة لا ضرر ولا ضرار ،و الضَّرَرَ لاَ يُزَالُ بِمِثْلِهِ ، والضَّرَرُ يُزَالُ بِلاَ ضَرَرٍ ،ولا يجوز للإنسان أن يضرّ بنفسه ولا بغيره ،وليس نفس الإنسان وعرضه وماله أولى من نفس الغير وعرضه وماله .

والتقية رخصة ، وليست بعزيمة[12] .

والأصل في المسلم القيام بدينه و إظهاره وتطابق الظاهر مع الباطن ،والأخذ بالعزيمة والصبر على الأذى أو القتل أولى من الترخص وإجابة داعية الإكراه ، ومن ترك الرخصة وصبر على إظهار الإسلام ، و تحمل الأذى فذلك أحظى له عند ربه إن صدق .

و قال بن بطال – رحمه الله - : ( أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة وأما غير الكفر فإن أكره على أكل الخنزير وشرب الخمر مثلا فالفعل أولى ) [13].





الفرق بين التقية الجائزة شرعا و النفاق

تختلف التقية عن النفاق في التعريف و الغاية فالتقية الجائزة شرعا كتمان الإيمان وإظهار خلافة باللسان لضرورة قائمة واقعة كدفع أذى محقق أو تكون التقية حيلة لجلب مصلحة للمسلمين في الحرب أما النفاق فهو إظهار الإيمان ،والخير و إبطان الكفر والشر لمرض في القلب و صاحبه يمارسه ليدخل بين المسلمين فيفسد عقائدهم، ويبث الشبهات بينهم لتشكيكهم في دينهم، ويغرس البدع التي تفسد عليهم دينهم .

و تختلف التقية عن النفاق في وقت التحلي بها فالتقية الجائزة شرعا حالة استثنائية مؤقتة مخالفة لما يجب أن يتحلى به المؤمن فلا تباح إلا لضرورة والأصل في المسلم أن يتطابق ظاهره وباطنه ، ولذلك كان التظاهر بالكفر من غير ضرورة معتبرة شرعا نفاقاً وخداعاً لا يصح بحال وينتهي العمل بالتقية بمجرد زوال الضرورة الداعية إليها أما أهل النفاق فحالهم الدائم مخالفة الظاهر للباطن .

و تختلف التقية عن النفاق في حال المتحلي بها فالتقية الجائزة شرعا حالة يلجأ إليها المسلم عند الضرورة دون رضى و حب أما النفاق فيتحلى به صاحبه عن رضى و حب .

و تختلف التقية عن النفاق في الحكم فالتقية تجوز عند الضرورة أما النفاق فلا يجوز مطلقا .

والتقية الجائزة شرعا تكون مع الكفار أو الفساق و الظلمة، أما النفاق فيكون مع المسلمين عندما يكون لهم الشوكة و الظهور في الغالب.








[1] - المخصص لابن سيده 4/61
[2] - شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم للحميري 1/7275
[3] - تهذيب اللغة لأبي منصور الهروي 9/199
[4] - الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للكرماني 24/61
[5] - فتح الباري لابن حجر 12/314
[6] - المبسوط للسرخسي 24/45
[7] - تفسير ابن كثير 4/605
[8] - تفسير الطبري 6/313
[9] - تفسير ابن كثير 2/30
[10] - رواه مسلم في صحيحه رقم 49
[11] - منهاج السنة لابن تيمية 6/424-425
[12] - زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 1/272
[13] - فتح الباري لابن حجر 12/317

د.ربيع أحمد
04-27-2015, 08:56 PM
إباحة الإسلام للتقية عند الضرورة من محاسن الشريعة

إن إباحة الإسلام للتقية عند الضرورة يعد من محاسن الشريعة ،ودليل على مرونتها وعدالتها وموافقتها للعقل حيث إباحة التقية عند الاضطرار فيه مراعاة حال المكره المضطر ،وتكليفه بما يستطيع و يقدر عليه فلم تلزمه بوجوب تحمل الضرر و الأذى ،وأجازت له النطق بكلمة الكفر عند الإكراه للنجاة من القتل والتعذيب بشرط أن يكون القلب مطمئنا بالإيمان فالكثير من الناس لا يتحمل التعذيب ،وهذا دليل على عدالة الشريعة الإسلامية فلم تلزم الإنسان بما لا يستطيع تحمله .

و في إباحة التقية عند الاضطرار موافقة لحكم العقل فالعقل يقضي بدفع الضرر والفرار منه وجلب ما فيه السلامة والنجاة ، ودفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما .








لا يعد منافقا من تظاهر بشيء لينجو من بطش ظالم

لا يعد منافقا من تظاهر بشيء لينجو من بطش ظالم فهذا التظاهر إنما هو حيلة ووسيلة للدفاع عن النفس و الحفاظ عليها وهذا أمر جائز شرعا وعقلا وفطرة ولا يذم من استعمل هذه الوسيلة للنجاة بنفسه من بطش ظالم بل يمدح على ذكائه وحسن تصرفه كما يمدح ضابط الشرطة عندما يتظاهر أمام اللصوص أو تجار المخدرات أنه منهم حتى يتمكن من القبض عليهم وتخليص المجتمع من شرهم ، ويمدح الصحفي عندما يتظاهر بأنه رجل فقير يريد العمل عند رجل محتال ليكشف احتياله .











لا يعجز الله- سبحانه وتعالى - عن حماية أوليائه

الله - سبحانه وتعالى - لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ،ولا يعجز عن حماية أوليائه وقادر أن يهلك الظالم و الكافر ،وينجي المؤمن من الكافر في لمح البصر لكنه - سبحانه وتعالى - أجرى بعض السنن في خلقه ،ومن هذه السنن سنة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين وسنة الإملاء والإمهال للكافرين قال تعالى: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ ﴾ (آل عمران : 141) .


و قال تعالى : ﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ ( آل عمران : 154) ،و قال تعالى : ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴾ ( العنكبوت: 2 ) .


و قال تعالى : ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ ( آل عمران : 179) ،و قال تعالى : ﴿ ولَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ ( محمد : 4 )

ومن حكم سنة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين وسنة الإملاء والإمهال للكافرين أن يظهر الصالح من الطالح ،والمحق من المبطل ،والمؤمن من المنافق والكافر و ومريدو الآخرة من مريدي الدنيا ،ويظهر من بعض العباد عبادة الصبر على البلاء ،ومن آخرين عبادة الشكر على السلامة والأمن ،ومن آخرين عبادة الشكر على النجاة من الظالمين و تظهر عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتظهر عبادة الجهاد في سبيل الله إلى غير ذلك من الحكم .
وأنت أيها المخلوق الضعيف قد تتعمد في وضع ابنك في مشكلة تستطيع أن تحلها له لكنك لا تفعل وتتركه يحل هذه المشكلة بنفسه كي يتعود على حل المشاكل و تنمي فيه المقدرة على حل المشاكل ،وقائد الجيش قد يتعمد وضع بعض الجنود في مأزق يستطيع أن يخلصهم منه لكنه يتركهم يتخلصون من هذا المأزق بأنفسهم تدريب لهم على التخلص من مثل هذه المآذق وكي يرى من يستحق من الجنود بالقيادة ومن عنده سرعة بديهة ،ولله المثل الأعلى الله قادر أن يهلك الظالم و الكافر ، وينجي المؤمن في لمح البصر لكنه أمهل الكافر وابتلى المؤمن لحكم عظيمة .

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

مراجع المقال :
التعريفات للجرجاني
المبسوط للسرخسي
المخصص لابن سيده
المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية
المفيد في مهمات التوحيد للدكتور عبد القادر صوفي
تفسير ابن كثير
تفسير الطبري
تهذيب اللغة لأبي منصور الهروي

جامع العلوم والحكم لابن رجب
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي
شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم للحميري
عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها لصالح بن فوزان الفوزان
فتح الباري لابن حجر
مجمل اللغة لابن فارس
منهاج السنة النبوية لابن تيمية

د.ربيع أحمد
04-27-2015, 09:01 PM
التحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=350303) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/85732/)

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 02:14 PM
الملحد ودعواه أن الإسلام يبيح الكذب








الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله دعوى بعض الملاحدة أن الإسلام يبيح الكذب .

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 02:18 PM
أدلة الملاحدة على هذا الزعم


استدل الملاحدة – هداهم الله - بقوله تعالى : ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ( النحل : 106 ) و قالوا الآية تجيز الكذب من أجل الحفاظ على الحياة فإذا اضطروك للكذب و إنكار الإيمان فأفعل.

و استدلوا أيضا بقول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا [1] ،و قَالَ الْقَاضِي : لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ [2].

و استدلوا أيضا بقصة قتل كعب ابن الأشرف قالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ»، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: ائْذَنْ لِي، فَلْأَقُلْ، قَالَ: «قُلْ»، فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: وَذَكَرَ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَرَادَ صَدَقَةً، وَقَدْ عَنَّانَا، فَلَمَّا سَمِعَهُ قَالَ: وَأَيْضًا وَاللهِ، لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ الْآنَ، وَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ أَمْرُهُ، قَالَ: وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ تُسْلِفَنِي سَلَفًا، قَالَ: فَمَا تَرْهَنُنِي؟ قَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: تَرْهَنُنِي نِسَاءَكُمْ، قَالَ: أَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ، أَنَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا؟ قَالَ لَهُ: تَرْهَنُونِي أَوْلَادَكُمْ، قَالَ: يُسَبُّ ابْنُ أَحَدِنَا، فَيُقَالُ: رُهِنَ فِي وَسْقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ، وَلَكِنْ نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ - يَعْنِي السِّلَاحَ -، قَالَ: فَنَعَمْ، وَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحَارِثِ، وَأَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ، وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، قَالَ: فَجَاءُوا فَدَعَوْهُ لَيْلًا فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ غَيْرُ عَمْرٍو: قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ صَوْتُ دَمٍ، قَالَ: إِنَّمَا هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَرَضِيعُهُ، وَأَبُو نَائِلَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ لَيْلًا لَأَجَابَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنِّي إِذَا جَاءَ، فَسَوْفَ أَمُدُّ يَدِي إِلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَدُونَكُمْ، قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ نَزَلَ وَهُوَ مُتَوَشِّحٌ، فَقَالُوا: نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الطِّيبِ، قَالَ: نَعَمْ تَحْتِي فُلَانَةُ هِيَ أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ، قَالَ: فَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ مِنْهُ، قَالَ: نَعَمْ فَشُمَّ، فَتَنَاوَلَ فَشَمَّ، ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَعُودَ، قَالَ: فَاسْتَمْكَنَ مِنْ رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: دُونَكُمْ، قَالَ: فَقَتَلُوهُ[3].

و استدلوا بقصة قتل خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ قال عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ،: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ، وَكَانَ نَحْوَ عُرَنَةَ وَعَرَفَاتٍ، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ»، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا إِنْ أُؤَخِّرِ الصَّلَاةَ، فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إِيمَاءً، نَحْوَهُ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ، قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَجْمَعُ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجِئْتُكَ فِي ذَاكَ، قَالَ: إِنِّي لَفِي ذَاكَ، فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً حَتَّى إِذَا أَمْكَنَنِي عَلَوْتُهُ بِسَيْفِي حَتَّى بَرَدَ[4] .


و قال البعض :لا يصح أن يبيح الإسلام بعض الكذب ؛ لأن الكذب في أمر يؤدي إلي الكذب في باقي الأمور ومن يكذب في أمر لا يمكن تصديقه بعد ذلك ولا مصداقية له .

وقال البعض : أنتم أيها المسلمون تدعون كمال ربكم فكيف يكون كاملا ،ويجيز لكم الكذب ،وإن قلتم الكذب حرام فكيف يجيز الكذب و يحرمه في نفس الوقت .

و قد وجدت جل ما استدل به الملاحدة موجود بالنص في العديد من مواقع التنصير .


[1] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 2692 ،ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2605 واللفظ لمسلم
[2] - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 16/158
[3] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 4037 و رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 1801 واللفظ لمسلم
[4] - رواه أبو داود في سننه حديث رقم 1249 والحديث سكت عنه أبو داود فهو صالح للاحتجاج لكن الألباني ضعفه في صحيح وضعيف سنن أبي داود ثم تراجع عن ذلك وصححه في السلسلة الصحيحة حديث رقم 2981 .

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 02:21 PM
مفهوم الكذب

الْكَذِبَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا أَوْ غَلَطًا[1] لكن لا يأثمُ في الجهل وإنما يأثمُ في العمد[2] فالمخطئ غير مأثوم بالإجماع[3].


الأصل في الكذب الحرمة

الكذب في الإسلام الأصل فيه الحرمة ،والدليل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فمنه قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ( التوبة : 119 ) ، و الآية فيها الأمر بالتحلي بالتقوى و الصدق ،والأمر يفيد الوجوب ما لم تأت قرينة صارفة ،فالتحلي بالتقوى والصدق واجب مما يدل على حرمة التخلق بالفسوق والعصيان والكذب .

وقال تعالى : ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ ( النحل : 105 ) وقد دلت الآية أن الكذب من صفات الكفار ،وعليه فلا يجوز أن يتخلق به المؤمن .

و أما السنة فمنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا »[4] ،والحديث نص في وجوب الصدق و حرمة الكذب .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : « آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ »[5] ،والحديث دل أن الكذب من صفات المنافقين ،وعليه فلا يجوز أن يتخلق به المؤمن .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « وَيْلٌ للَّذي يُحَدِّثُ فيكذِبُ ليُضْحِكَ به القومَ، وَيْلٌ له، وَيْلٌ له »[6] ، وإذا كان من يكذب بنية إضحاك الناس توعد بالويل ،والويل هو كلمة للدعاء بالعذاب أو الهلاك أو الويل هو واد في جهنم فكيف بمن يكذب للإضرار بإنسان ؟! .


و أما الإجماع فقد قال النووي – رحمه الله - : ( إجماعُ الأمة منعقدٌ على تحريمه – أي الكذب - ) [7] ، وقال ابن حزم - رحمه الله - : (وَاتَّفَقُوا على تَحْرِيم الْكَذِب فِي غير الْحَرْب وَغير مداراة الرجل امْرَأَته وإصلاح بَين اثْنَيْنِ وَدفع مظْلمَة )[8].


بطلان دعوى أن الإسلام يجيز الكذب

من تدليسات الملاحدة و المنصرين دعواهم أن الكذب في الإسلام مباح ، و هذه فرية يغني فسادها عن إفسادها و يغني بطلانها عن إبطالها إذ الكذب محرم في الإسلام ، ونصوص الكتاب و السنة متضافرة على حرمة الكذب ،وقد أجمع العلماء على تحريمه .

واستند الملاحدة و المنصرون في دعواهم إلى بعض النصوص التي ترخص في بعض حالات الكذب ،وهي ثلاث حالات : الكذب في الحرب و الكذب للإصلاح بين الناس ،والكذب بين الزوجين ،وما في معنى هذه الحالات كإنقاذ نفس من ظالم .

وهذه الرخص من باب رفع الحرج و المشقة عن الناس و لدفع أعلى المفسدتين ،و ارتكاب أخف الضررين ، ومحل جواز الكذب في هذه الحالات إذا لم يفوت حقا للمكذوب عليه وإلا حرم، وهذه الحالات ما هي إلا رخص أي استثناء من أصل ،وليست قاعدة عامة .

و إخراج بعض أفراد العام عن حكم العام لا يلغي عمومية العام فلو سرق طبيب لا نقول أن الأطباء سُراق ،ولو ارتشى مستشار لا نقول أن المستشارين مرتشون ،و الحكم على البعض ليس حكما على الكل فمن الجهل إطلاق القول بإباحة الكذب بناءا على الترخص في بعض أفراده ،وهذه الرخص لحالات معينة يجوز فيها الكذب فكيف ندعي عموميتها ؟!!
والكلامَ وسيلةٌ إِلَى المقاصدِ، فَكُلُّ مَقْصُودٍ محْمُودٍ يُمْكِن تحْصيلُهُ بغَيْر الْكَذِبِ يَحْرُمُ الْكذِبُ فِيهِ، وإنْ لَمْ يُمكِنْ تَحْصِيلُهُ إلاَّ بالكذبِ جازَ الْكذِبُ. ثُمَّ إنْ كانَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ المقْصُودِ مُباحاً كَانَ الْكَذِبُ مُباحاً، وإنْ كانَ واجِباً، كَانَ الكَذِبُ واجِباً، فإذا اخْتَفى مُسْلمٌ مِن ظالمٍ يُريدُ قَتلَه، أوْ أخْذَ مالِه، وأخَفي مالَه، وسُئِل إنسانٌ عَنْهُ، وَجَبَ الكَذبُ بإخفائِه، وكذا لو كانَ عِندهُ وديعَةٌ، وأراد ظالِمٌ أخذَها، وجبَ الْكَذِبُ بإخفائها، والأحْوطُ في هَذَا كُلِّه أنْ يُوَرِّي، ومعْنَى التَّوْرِيةِ: أنْ يقْصِد بِعبارَتِه مَقْصُوداً صَحيحاً ليْسَ هُوَ كاذِباً بالنِّسّبةِ إلَيْهِ، وإنْ كانَ كاذِباً في ظاهِرِ اللًّفظِ، وبِالنِّسْبةِ إِلَى مَا يفهَمهُ المُخَاطَبُ ولَوْ تَركَ التَّوْرِيةَ وَأطْلَق عِبارةَ الكذِبِ، فليْس بِحرَامٍ في هَذَا الحَالِ[9].


من محاسن الشريعة ترخيصها للكذب في بعض الحالات

إن ترخيص الشريعة للكذب في بعض الحالات يعد من محاسن الشريعة ،ودليل على مرونتها وعدالتها وموافقتها للعقل .

و إباحة الكذب عند الاضطرار لجلب منفعة لا يستغنى عنها أو لدفع مضرة لا يمكن أن تدفع إلا بالكذب فيه مراعاة حال المضطر ،وتكليفه بما يستطيع و يقدر عليه ،وهذا دليل على عدالة الشريعة الإسلامية فلم تلزم الإنسان بما لا يستطيع تحمله ،ولم تلزمه بما لا يمكن فعله .
و إباحة الكذب عند الاضطرار موافق لحكم العقل فالعقل يقضي بدفع الضرر والفرار منه وجلب ما فيه السلامة والنجاة ، ودفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما .
و العقل يقضي بجواز الكذب في بعض الحالات من باب ارتكاب أخف الضررين و دفع أعلى المفسدتين ،و هذه أمثلة من هذا القبيل :

مثال 1 : لو فر رجل مظلوم من ظالم يريد قتله و رأيت هذا الرجل المظلوم يختبئ في مكان تعرفه و سألك الظالم هل رأيت هذا الرجل هل تعلم أين اختبأ ؟ وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة قتل مظلوم فهل من العقل و المنطق و الأخلاق أن تدله على مكان الرجل المظلوم ليقتله ، وهل من العقل و المنطق و الأخلاق أن تقول للظالم نعم رأيت هذا الرجل و هو في المكان الفلاني أم ستكذب ليتمكن المظلوم من الهرب و بذلك تكون قد أنقذت روح رجل من الموت ؟

مثال 2 : لو أراد مجرم أن يبطش بأخيك فسألك عن مكانه و أنت تعلمه وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة البطش بأخيك فهل ستقول الصدق ،وتقول هو في المكان الفلاني ،وبذلك تدله على مكان أخيك ليقتله أم ستكذب ؟

مثال 3 : ماذا لو وقعت في يد رجل ظالم يقتل كل من هو من بلدة معينة ،و أنت من هذه البلدة فسألك هل أنت من هذه البلدة وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة قتل الظالم لك فهل من العقل أن تقول له نعم أنا من هذه البلدة أم ستكذب لتنجو بنفسك ؟

مثال 4 : ماذا لو وقع بعض الجنود في الأسر و أخذ العدو يسألهم عن جيشهم و عدتهم و عتادهم وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة الإدلاء بمعلومات عن جيشهم وعدتهم وعتادهم فهل من العقل أن يخبروهم عن جيشهم وعدتهم وعتادهم و يصبحون خونة لبلدهم أم سيكذبون ؟!!!

مثال 5 : ماذا لو كنت طبيبا و تعلم أن مريضا معينا في حالة خطرة ،ولو علم المريض بخطورة حالته ستسوء صحته ،وربما لا يتحمل هذا الخبر فيموت ،وسألك هذا المريض هل حالتي خطرة يا دكتور ؟ أصدقني يا دكتور ؟ وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة ازدياد سوء صحة المريض فهل من العقل و المنطق و الأخلاق أن تقول له نعم حالتك خطرة و بذلك تكون ساعدت في ازدياد سوء صحته أو ساعدت في موته أم ستكذب و تخبره أن حالته جيدة وتتحسن ؟!

مثال 6 : ضابط يريد القبض على تجار مخدرات متلبسين بالجريمة فاضطر للكذب و إدعاء أنه يريد العمل معهم حتى يتمكن من مراقبتهم و القبض عليهم فهل العقل والمنطق يجيز مثل هذا العمل أم لا ؟

مثال 7 : رجل تهيأت له زوجته وتصنعت وتعطرت و أعدت له أحسن الطعام و الشراب و لبست له أحسن الثياب إلا أن الزوج رأى في تصنعها شيئا يكرهه ثم سألته الزوجة ما رأيك هل ترى شيئا تكرهه ؟ فهل من الذوق و الأدب أن يقول لها نعم أرى منك كذا أكرهه أم يداريها ويقول لها لا أرى منك إلا الخير و الجمال ما شاء الله تبارك الخلاق وكلمات من هذا القبيل ؟ .

و الصدق مع المرأة في بعض الحالات قد يؤدي إلى إيذاء العلاقة بين الزوجين و الإضرار بها كاعتراف الزوج بأمور تجرح مشاعر المرأة و تجعلها حزينة و غير قادرة على استمرار العلاقة معه في الكثير من الأحيان مع أن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها غض الطرف عن صفاتها التي لا تعجبه ،وبذلك تدوم العشرة و الألفة بين الزوجين .



[1] - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 1/94
- [2] الأذكار للنووي ص 582
[3] - فتح الباري لابن حجر 1/201
[4] - رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2607
[5] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 33 و رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 59
[6] - رواه أبو داود في سننه حديث رقم 4990 ،ورواه النسائي في سننه حديث رقم 11061 ،ورواه الحاكم في المستدرك حديث رقم 142 ،ورواه الدارمي في سننه حديث رقم 2744 ،ورواه الطبراني في المعجم الكبير حديث رقم 951 ،ورواه البيهقي في السنن الكبرى حديث رقم 20825 ، و حسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود وقال الترمذي في سننه هذا حديث حسن 4/135 حديث رقم 2315
[7] - الأذكار للنووي ص 377
[8] - مراتب الإجماع لابن حزم ص 157
[9] - رياض الصالحين للنووي ص 439

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 02:22 PM
مفهوم الكذب

الْكَذِبَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا أَوْ غَلَطًا[1] لكن لا يأثمُ في الجهل وإنما يأثمُ في العمد[2] فالمخطئ غير مأثوم بالإجماع[3].


الأصل في الكذب الحرمة

الكذب في الإسلام الأصل فيه الحرمة ،والدليل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فمنه قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ( التوبة : 119 ) ، و الآية فيها الأمر بالتحلي بالتقوى و الصدق ،والأمر يفيد الوجوب ما لم تأت قرينة صارفة ،فالتحلي بالتقوى والصدق واجب مما يدل على حرمة التخلق بالفسوق والعصيان والكذب .

وقال تعالى : ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ ( النحل : 105 ) وقد دلت الآية أن الكذب من صفات الكفار ،وعليه فلا يجوز أن يتخلق به المؤمن .

و أما السنة فمنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا »[4] ،والحديث نص في وجوب الصدق و حرمة الكذب .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : « آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ »[5] ،والحديث دل أن الكذب من صفات المنافقين ،وعليه فلا يجوز أن يتخلق به المؤمن .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « وَيْلٌ للَّذي يُحَدِّثُ فيكذِبُ ليُضْحِكَ به القومَ، وَيْلٌ له، وَيْلٌ له »[6] ، وإذا كان من يكذب بنية إضحاك الناس توعد بالويل ،والويل هو كلمة للدعاء بالعذاب أو الهلاك أو الويل هو واد في جهنم فكيف بمن يكذب للإضرار بإنسان ؟! .


و أما الإجماع فقد قال النووي – رحمه الله - : ( إجماعُ الأمة منعقدٌ على تحريمه – أي الكذب - ) [7] ، وقال ابن حزم - رحمه الله - : (وَاتَّفَقُوا على تَحْرِيم الْكَذِب فِي غير الْحَرْب وَغير مداراة الرجل امْرَأَته وإصلاح بَين اثْنَيْنِ وَدفع مظْلمَة )[8].


بطلان دعوى أن الإسلام يجيز الكذب

من تدليسات الملاحدة و المنصرين دعواهم أن الكذب في الإسلام مباح ، و هذه فرية يغني فسادها عن إفسادها و يغني بطلانها عن إبطالها إذ الكذب محرم في الإسلام ، ونصوص الكتاب و السنة متضافرة على حرمة الكذب ،وقد أجمع العلماء على تحريمه .

واستند الملاحدة و المنصرون في دعواهم إلى بعض النصوص التي ترخص في بعض حالات الكذب ،وهي ثلاث حالات : الكذب في الحرب و الكذب للإصلاح بين الناس ،والكذب بين الزوجين ،وما في معنى هذه الحالات كإنقاذ نفس من ظالم .

وهذه الرخص من باب رفع الحرج و المشقة عن الناس و لدفع أعلى المفسدتين ،و ارتكاب أخف الضررين ، ومحل جواز الكذب في هذه الحالات إذا لم يفوت حقا للمكذوب عليه وإلا حرم، وهذه الحالات ما هي إلا رخص أي استثناء من أصل ،وليست قاعدة عامة .

و إخراج بعض أفراد العام عن حكم العام لا يلغي عمومية العام فلو سرق طبيب لا نقول أن الأطباء سُراق ،ولو ارتشى مستشار لا نقول أن المستشارين مرتشون ،و الحكم على البعض ليس حكما على الكل فمن الجهل إطلاق القول بإباحة الكذب بناءا على الترخص في بعض أفراده ،وهذه الرخص لحالات معينة يجوز فيها الكذب فكيف ندعي عموميتها ؟!!
والكلامَ وسيلةٌ إِلَى المقاصدِ، فَكُلُّ مَقْصُودٍ محْمُودٍ يُمْكِن تحْصيلُهُ بغَيْر الْكَذِبِ يَحْرُمُ الْكذِبُ فِيهِ، وإنْ لَمْ يُمكِنْ تَحْصِيلُهُ إلاَّ بالكذبِ جازَ الْكذِبُ. ثُمَّ إنْ كانَ تَحْصِيلُ ذَلِكَ المقْصُودِ مُباحاً كَانَ الْكَذِبُ مُباحاً، وإنْ كانَ واجِباً، كَانَ الكَذِبُ واجِباً، فإذا اخْتَفى مُسْلمٌ مِن ظالمٍ يُريدُ قَتلَه، أوْ أخْذَ مالِه، وأخَفي مالَه، وسُئِل إنسانٌ عَنْهُ، وَجَبَ الكَذبُ بإخفائِه، وكذا لو كانَ عِندهُ وديعَةٌ، وأراد ظالِمٌ أخذَها، وجبَ الْكَذِبُ بإخفائها، والأحْوطُ في هَذَا كُلِّه أنْ يُوَرِّي، ومعْنَى التَّوْرِيةِ: أنْ يقْصِد بِعبارَتِه مَقْصُوداً صَحيحاً ليْسَ هُوَ كاذِباً بالنِّسّبةِ إلَيْهِ، وإنْ كانَ كاذِباً في ظاهِرِ اللًّفظِ، وبِالنِّسْبةِ إِلَى مَا يفهَمهُ المُخَاطَبُ ولَوْ تَركَ التَّوْرِيةَ وَأطْلَق عِبارةَ الكذِبِ، فليْس بِحرَامٍ في هَذَا الحَالِ[9].


من محاسن الشريعة ترخيصها للكذب في بعض الحالات

إن ترخيص الشريعة للكذب في بعض الحالات يعد من محاسن الشريعة ،ودليل على مرونتها وعدالتها وموافقتها للعقل .

و إباحة الكذب عند الاضطرار لجلب منفعة لا يستغنى عنها أو لدفع مضرة لا يمكن أن تدفع إلا بالكذب فيه مراعاة حال المضطر ،وتكليفه بما يستطيع و يقدر عليه ،وهذا دليل على عدالة الشريعة الإسلامية فلم تلزم الإنسان بما لا يستطيع تحمله ،ولم تلزمه بما لا يمكن فعله .
و إباحة الكذب عند الاضطرار موافق لحكم العقل فالعقل يقضي بدفع الضرر والفرار منه وجلب ما فيه السلامة والنجاة ، ودفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما .
و العقل يقضي بجواز الكذب في بعض الحالات من باب ارتكاب أخف الضررين و دفع أعلى المفسدتين ،و هذه أمثلة من هذا القبيل :

مثال 1 : لو فر رجل مظلوم من ظالم يريد قتله و رأيت هذا الرجل المظلوم يختبئ في مكان تعرفه و سألك الظالم هل رأيت هذا الرجل هل تعلم أين اختبأ ؟ وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة قتل مظلوم فهل من العقل و المنطق و الأخلاق أن تدله على مكان الرجل المظلوم ليقتله ، وهل من العقل و المنطق و الأخلاق أن تقول للظالم نعم رأيت هذا الرجل و هو في المكان الفلاني أم ستكذب ليتمكن المظلوم من الهرب و بذلك تكون قد أنقذت روح رجل من الموت ؟

مثال 2 : لو أراد مجرم أن يبطش بأخيك فسألك عن مكانه و أنت تعلمه وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة البطش بأخيك فهل ستقول الصدق ،وتقول هو في المكان الفلاني ،وبذلك تدله على مكان أخيك ليقتله أم ستكذب ؟

مثال 3 : ماذا لو وقعت في يد رجل ظالم يقتل كل من هو من بلدة معينة ،و أنت من هذه البلدة فسألك هل أنت من هذه البلدة وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة قتل الظالم لك فهل من العقل أن تقول له نعم أنا من هذه البلدة أم ستكذب لتنجو بنفسك ؟

مثال 4 : ماذا لو وقع بعض الجنود في الأسر و أخذ العدو يسألهم عن جيشهم و عدتهم و عتادهم وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة الإدلاء بمعلومات عن جيشهم وعدتهم وعتادهم فهل من العقل أن يخبروهم عن جيشهم وعدتهم وعتادهم و يصبحون خونة لبلدهم أم سيكذبون ؟!!!

مثال 5 : ماذا لو كنت طبيبا و تعلم أن مريضا معينا في حالة خطرة ،ولو علم المريض بخطورة حالته ستسوء صحته ،وربما لا يتحمل هذا الخبر فيموت ،وسألك هذا المريض هل حالتي خطرة يا دكتور ؟ أصدقني يا دكتور ؟ وهنا نحن أمام مفسدتين مفسدة الكذب ، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة ازدياد سوء صحة المريض فهل من العقل و المنطق و الأخلاق أن تقول له نعم حالتك خطرة و بذلك تكون ساعدت في ازدياد سوء صحته أو ساعدت في موته أم ستكذب و تخبره أن حالته جيدة وتتحسن ؟!

مثال 6 : ضابط يريد القبض على تجار مخدرات متلبسين بالجريمة فاضطر للكذب و إدعاء أنه يريد العمل معهم حتى يتمكن من مراقبتهم و القبض عليهم فهل العقل والمنطق يجيز مثل هذا العمل أم لا ؟

مثال 7 : رجل تهيأت له زوجته وتصنعت وتعطرت و أعدت له أحسن الطعام و الشراب و لبست له أحسن الثياب إلا أن الزوج رأى في تصنعها شيئا يكرهه ثم سألته الزوجة ما رأيك هل ترى شيئا تكرهه ؟ فهل من الذوق و الأدب أن يقول لها نعم أرى منك كذا أكرهه أم يداريها ويقول لها لا أرى منك إلا الخير و الجمال ما شاء الله تبارك الخلاق وكلمات من هذا القبيل ؟ .

و الصدق مع المرأة في بعض الحالات قد يؤدي إلى إيذاء العلاقة بين الزوجين و الإضرار بها كاعتراف الزوج بأمور تجرح مشاعر المرأة و تجعلها حزينة و غير قادرة على استمرار العلاقة معه في الكثير من الأحيان مع أن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها غض الطرف عن صفاتها التي لا تعجبه ،وبذلك تدوم العشرة و الألفة بين الزوجين .



[1] - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 1/94
- [2] الأذكار للنووي ص 582
[3] - فتح الباري لابن حجر 1/201
[4] - رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2607
[5] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 33 و رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 59
[6] - رواه أبو داود في سننه حديث رقم 4990 ،ورواه النسائي في سننه حديث رقم 11061 ،ورواه الحاكم في المستدرك حديث رقم 142 ،ورواه الدارمي في سننه حديث رقم 2744 ،ورواه الطبراني في المعجم الكبير حديث رقم 951 ،ورواه البيهقي في السنن الكبرى حديث رقم 20825 ، و حسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود وقال الترمذي في سننه هذا حديث حسن 4/135 حديث رقم 2315
[7] - الأذكار للنووي ص 377
[8] - مراتب الإجماع لابن حزم ص 157
[9] - رياض الصالحين للنووي ص 439

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 02:28 PM
نظرات في استدلالات الملاحدة


استدل الملاحدة – هداهم الله - بقوله تعالى : ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ( النحل : 106 ) و قالوا الآية تجيز الكذب من أجل الحفاظ على الحياة فإذا اضطروك للكذب و إنكار الإيمان فأفعل و إباحة الكذب عند الاضطرار للحفاظ على النفس من الهلاك من محاسن الشريعة و دليل على مراعاتها الأحوال المختلفة للناس فلا تعامل المضطر معاملة غيره .


والأمور التي يكذب فيها الإنسان لدفع ضرر محقق عن نفسه أو عرضه لا يدفع إلا بالكذب هي في أصلها ممنوعة ولكن الله أباحها للضرورة إذ الضرورات تبيح المحظورات ، ويجوز دفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما وما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (البقرة : 173 )

ودفع الإنسان الضرر عن نفسه من باب المحافظة على النفس ،ولا يجوز للإنسان أن يضرّ بنفسه تعالى: قال تعالى : ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ (البقرة : 195 )

و اقتضت حكمة الله رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه، بقَّاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به[1].


و استدل الملاحدة – هداهم الله - بقول النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا [2] ،و قَالَ الْقَاضِي : لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ [3] ،وترخيص الكذب في هذه الحالات من سماحة و عدالة الشريعة و دليل على مرونة الشريعة و مراعاتها لأحوال الناس المختلفة .


ومفسدة الكذب تعتبر مفسدة صغرى إذا قورنت بمفسدة فساد ذات البين و مفسدة العداوة بين الناس ، ومفسدة الكذب تعتبر مفسدة صغرى إذا قورنت بمفسدة إفشاء أسرار الدولة و خيانة الدولة .
ومفسدة الكذب بين الزوجين تعتبر مفسدة صغرى إذا كان الغرض المحافظة على الحياة الزوجية ومنع هدمها و لحصول الألفة بين الزوجين بشرط ألا يترتب على هذا الكذب إضاعة حق فإذا سأل الزوج زوجته هل تحبه فعليها أن تجيبه بنعم وإن كانت تكرهه محافظة على بقاء الأسرة واستمرارية الحياة الزوجية ،وإذا سألت الزوجة زوجها هل تحبني فعليه أن يجيبها بنعم و إن كان يكرهها محافظة على بقاء الأسرة واستمرارية الحياة الزوجية ،وهذا من باب الملاطفة والمؤانسة وحسن العشرة .

و استدل الملاحدة بقصة قتل كعب ابن الأشرف ،و من المعلوم أن كعبا كان شاعرا، فهجا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، وشبب بنسائهم، وبكى على قتلى بدر، وحرض المشركين بالشعر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [4] .

وهذه الأسباب أستحق بسببها القتل جزاءا وفاقا فقد هجا نبي الأمة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهجا أصحابه و تغزل بنساء المسلمين ووصف جمالهن وحرض المشركين على قتال نبي الأمة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ،ولو أن رجلا سب رئيس دولة وأهل دولة معينة فقتلوه لما تكلم أحد ،ولو أن رجلا حرض على حرب دولة فأمسك أهلها به وقتلوه لما تكلم أحد ،وما فعله محمد بن مسلمة ما هو إلا حيلة لقتل من يستحق القتل بأمر من حاكم الدولة الإسلامية .

وهل يريد الملحد أن يترك من يهين دولته و يسب أهلها و يحرض على حربها ؟!!
و استدلوا بقصة قتل خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ وخالد بن سفيان الهُذلي كان يُجَمِّع العرب في بطن عُرْنَة لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم –[5] فأستحق بسبب ذلك القتل جزاءا وفاقا ،ولو أن رجلا جمع بعض الناس لقتال قرية من القرى فأمسك أهلها به وقتلوه لما تكلم أحد ،وما فعله عبد الله بن أنيس ما هو إلا حيلة لقتل من يستحق القتل بأمر من حاكم الدولة الإسلامية .

وهل يريد الملحد أن يترك من يحرض على حرب بلاده ،ويجمع الناس لتدمير بلاده ؟!!

أيها الأخوة إن الملحد يمدح كذب أحد رجال الشرطة على سفاح أو مجرم ليتمكن منه و يقتله أو يسلمه للدولة فتعدمه ليستريح منه الناس لكن عندما يفعل مثل هذا أحد المسلمين بأمر من حاكم الدولة الإسلامية يشنع الأمر ،وهذا تناقض .



و قال البعض :لا يصح أن يبيح الإسلام بعض الكذب ؛ لأن الكذب في أمر يؤدي إلي الكذب في باقي الأمور ومن يكذب في أمر لا يمكن تصديقه بعد ذلك ولا مصداقية له ،والجواب حقا من يكذب في أمر يكذب في باقي الأمور ومن يكذب في أمر لا يمكن تصديقه بعد ذلك لكن هذا في حق غير المضطر و غير المجبر و غير المكره فمن كذب لينجو من بطش ظالم و ليس له سبيل للنجاة إلا الكذب لا يقال أنه كذاب أو سيكذب في باقي الأمور أو لا يمكن تصديقه بعد ذلك ،ومن كذب لأخذ حقه ،وليس له سبيل لأخذ حقه إلا بالكذب لا يقال لا يقال أنه كذاب أو سيكذب في باقي الأمور أو لا يمكن تصديقه بعد ذلك .


وقال البعض : أنتم أيها المسلمون تدعون كمال ربكم فكيف يكون كاملا ،ويجيز لكم الكذب ،وإن قلتم الكذب حرام فكيف يجيز الكذب و يحرمه في نفس الوقت ،والجواب أن ترخيص الكذب في بعض الحالات من كمال عدل الله و من كمال علمه فهو يعلم أن المضطر و المكره و المجبر لا يقدر على الصدق في هذه الحالات فأجاز له الكذب حتى تزول ضرورته رحمة به ولعلمه بحاله .

أما قولهم : إن قلتم الكذب حرام فكيف يجيز الكذب و يحرمه في نفس الوقت ،والجواب مورد النهي ليس مورد الإباحة فالجهة منفكة فالنهي في حالة عدم الاضطرار و في حالة حرية الاختيار أما الإباحة فهي في حالة الاضطرار و عدم الاختيار .

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

مراجع المقال :
المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي
الأذكار للنووي
إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم
سنن أبي داود
سنن الترمذي
سنن الدارمي
صحيح البخاري
صحيح مسلم
رياض الصالحين للنووي
مراتب الإجماع لابن حزم
مستدرك الحاكم
فتح الباري لابن حجر




[1] - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/92
[2] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 2692 ،ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2605 واللفظ لمسلم
[3] - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 16/158
[4] - المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي 3/158
[5] - انظر تاريخ الإسلام للذهبي 2/198 ،والبداية والنهاية لابن كثير 4/160

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 02:33 PM
التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/86157/) أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=354992)

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 02:50 PM
الملحد واستنكاره استعمال الإسلام لأسلوب الترغيب والترهيب

د.ربيع أحمد












الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله استنكار الملاحدة لاستعمال الإسلام لأسلوب الترغيب والترهيب .


إنكار الملاحدة لأسلوب الترغيب و الترهيب

ينكر الملاحدة حض الإسلام على فعل الخير عن طريق ذكر الثواب و المكافأة على فعله ،وهو ما يعرف بالترغيب ،ويستنكرون أيضا حث الإسلام على ترك الشر عن طريق ذكر العقاب و العواقب الوخيمة له ،وهو ما يعرف بالترهيب ويعللون ذلك أن مجرد معرفة الإنسان بالخير كفيلة بأن تجعله يفعل الخير ،ومعرفة الإنسان بالشر كفيلة بأن تجعله يجتنب الشر ومن ثم فلا حاجة و لا قيمة لأسلوب الترغيب و الترهيب .
.

ويقول بعض الملاحدة : " من يفعل الخير حبا لذات الخير هو أفضل من الذي يفعل الخير طمعا أو خوفا من رقيب نحن الملحدين لسنا بحاجة لرقيب و لسنا أطفال بحاجة لـ big brotherـ" .

و يقول آخرون : " إن ما يحرّك الإنسان على الخير وأداء الأمانة والالتزام الأخلاقي وأداء واجباته بضمير والرحمة بالمتألمين والمبادرة إلى نجدتهم هو فعل الخير لذات الخير ،وليس رجاء الثواب من إله أو إنسان.

ويقول أحدهم : " فعل الخير يجب أن يطبق بصرف النظر عما يترتب عليها من جزاء أو مكافأة "

ويقول آخر: " الافتراض بأنّ الخوف والطمع يدفعان الإنسان لعمل الخير أو اجتناب الشرّ يصور الإنسان كأنه شرّيرٌ بالفطرة لذلك لا بدّ من ترويضه بالقوة كالحيوان المتوحّش "
وبالغ بعضهم فقال: الحض على فعل الخير عن طريق ذكر الأجر و الثواب عبارة عن رشوة للناس كي يفعلوا الخير .

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 02:52 PM
معرفة الخير لا تكفي لإلزام الناس به

معرفة الخير لا تكفي وحدها لإلزام الناس به ،ومعرفة الشر لا تكفي وحدها لصرف الناس عنه فقد لا يعمل الشخص بما علم بسبب هوى في النفس أو شبهة أو مغالطة أو تعلق قلبه بشيء آخر ،وعلى سبيل المثال كثير ممن يدخن يعلم الآثار السيئة للتدخين ومع ذلك يدخن ،ومن يقتل شخصا يعلم أن القتل مجرم قانونيا ومع ذلك يقتل ،و الناس تعلم و تتيقن أن النار محرقة و بعضهم يحرق نفسه بالنار و بعض الناس تعلم أن الزنا يكون سبابا في العديد من الأمراض الجنسية و مع ذلك يرتكبه .

و إذا كانت معرفة الخير لا تكفي وحدها لإلزام الناس به ،ومعرفة الشر لا تكفي وحدها لصرف الناس عنه فلا معنى لمعرفة الخير دون إلزام بفعله ،و لا معنى لاستحسان الخير دون إلزام بفعله إذ بدون الإلزام لا يهتم الإنسان بفعل الخير ولا يعيره اهتماما و بانعدام الإلزام تنعدم المسؤولية التي تلزم الإنسان بعمل الخير ، وإذا انعدمت المسؤولية التي تلزم الإنسان بعمل الخير ،ولا يوجد ما يحمل الإنسان على الالتزام بفعل الخير يضيع الخير فكل شخص يفعل ما يحلو له .



من طبيعة النفس البشرية التصرف في كثير من الأحيان وفق الخوف و الطمع

من طبيعة النفس البشرية التصرف في كثير من الأحيان وفق الخوف و الطمع ،وهذا ليس عيبا فيها بل هو من طبيعتها و مما جبلت عليه كما جبلت على حب البقاء و الجمال والتكاثر .

و كثير ما تفعل النفس البشرية الخير لأجل جلب مصلحة أو لدفع مفسدة أو للاثنين معا ،وقلما تفعل لأجل الخير ذاته .

وتجد الواحد من الناس يفعل أمرا طمعا في شيء معين و لا يفعل أمر آخر خوفا من شيء معين ،و على سبيل المثال يعمل الإنسان طلبا للمال ويزيد في عمله ويجد في عمله طمعا في الحوافز والترقيات ولا يتأخر عن عمله خوفا من الجزاءات والعقوبات ،والطالب يذاكر طمعا في النجاح و خوفا من الرسوب ،والسائق يلتزم بإشارات المرور خوفا من الغرامة وحفظا على السلامة .

والملحد نفسه يتصرف في حياته اليومية وفق الخوف والطمع فهو يذاكر أملا في النجاح وخوفا من الرسوب ويعمل طلبا للمال وأملا في حسن المعيشة وهل وجدنا ملحدا يعمل ولا يريد أجرا على عمله ؟!! ،وهل وجدنا ملحدا يتفوق في الامتحان ،ولا يريد شهادة تقدير على تفوقه ؟!! ،ولو قال الملحد أنا لا أسرق ؛ لأني لا أحب أن يسرقني أحد فهو يريد أن يعامل بالمثل ،ومن ثم يريد مقابل معاملته معاملة مثلها و بالتالي فهو لا يسرق ؛ لأن السرقة شر لكن لا يسرق ؛ لأنه يريد ألا يسرقه أحد .

أسلوب الترغيب والترهيب يتفق مع طبيعة النفس البشرية

أسلوب الترغيب و الترهيب يتفق مع طبيعة النفس البشرية فالنفس البشرية تحب ما فيه نفعها ومصلحتها وتقبل عليه وتكره ما يضرها ويؤذيها وتنفر منه ،والترغيب في الخير يحث الناس و يدفعهم إلى فعله ،والترهيب من الشر يحث الناس على تركه و يدفعهم إلى اجتنابه .

استعمال أسلوب الترغيب و الترهيب في الحياة اليومية

يعد أسلوب الترغيب و الترهيب من أكثر الأساليب المستخدمة في حياتنا اليومية ولما لا و هذا الأسلوب يوافق الفطرة و طبيعة النفس البشرية .

و من أمثلة استعمال أسلوب الترغيب و الترهيب في الحياة اليومية : المدرس في المدرسة يحض الطلبة على المذاكرة بالترغيب والترهيب،والأستاذ في الجامعة يحض الطلبة على المذاكرة والبحث بالترغيب والترهيب ،والأب والأم في المنزل يحضا ابنهما على عمل شيء معين بالترغيب والترهيب ،والبائعون يروجون سلعتهم بالترغيب و الترهيب ،ومدير العمل يحفز موظفيه على الالتزام بالعمل بالترغيب و الترهيب .

وما زال الدعاة و المصلحون و القادة و الإعلاميون يستعملون أسلوب الترغيب و الترهيب في حمل الناس على فعل الخير و التحلي بالفضائل ،وحمل الناس على ترك الشر و ترك اقتراف الرذائل .

أهمية أسلوب الترغيب و الترهيب

يكتسب أسلوب الترغيب والترهيب أهمية بالغة لشدة أثره و تأثيره على الناس في حملهم على فعل الخير و ترك الشر ،ولذلك كثر في القرآن و السنة الترغيب بالجنة والترهيب من النار، وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه والهرب من هذه فترت عزائمه، وضعفت همته، ووهى باعثه، وكلما كان أشد طلبا للجنة، وعملا لها كان الباعث له أقوى، والهمة أشد، والسعي أتم. وهذا أمر معلوم بالذوق[1].


وربط عمل الخير بالجزاء ،والمكافأة أمر ضروري؛ لأنه يزيد قيمة عمل الخير كما تزيد قيمة الشجرة ثمرتها والجزاءات المترتبة على عمل الخير و ترك الشر تعد من أقوى الحوافز والدوافع القوية إلى الالتزام الدائم بعمل الخير و ترك الشر ذلك أنه بقدر ما يعرف الإنسان قيمة الشيء يلتزم به وبقدر ما يعرف العواقب الوخيمة لعمل الشر يجتنبه ،وعمل الخير من غير جزاء ومكافأة عمل جاف لا طعم فيه أو قليل الفائدة وناقص القيمة .


و أي نظام لا يطبق فيه مبدأ الثواب والعقاب و الترغيب والترهيب فهو نظام قصير الأجل لا يصمد إلا فترة وجيزة من الزمن .

و دون الترغيب و الترهيب لا يشجع الناس على فعل الخير و ترك الشر ،ومن ثم يقل الخير و يزداد الشر والخبث .

دوافع عمل الخير عند المسلم

يخطئ من يتوهم أن المسلم يفعل الخير طلبا للجنة وخوفا من النار فقط فدوافع عمل الخير أكثر من ذلك ،و إن كان الله – سبحانه وتعالى - يحب من عباده أن يسألوه جنته، ويستعيذوا به من ناره، فإنه يحب أن يسأل. ومن لم يسأله يغضب عليه. وأعظم ما سئل الجنة وأعظم ما استعيذ به من النار فالعمل لطلب الجنة محبوب للرب، مرضي له. وطلبها عبودية للرب. والقيام بعبوديته كلها أولى من تعطيل بعضها [2].

ومن دوافع عمل الخير عند المسلم :
عمل الخير طاعة لله فالله قد أمرنا بكل خير و نهانا عن كل شر ،وبالتالي فعلنا للخير يكون امتثالا لأمر الله .
وعمل الخير حبا لله ،وابتغاء وجه الله والمسلم يحب الله ، و الذي يحب شيئا يطيعه ويفعل ما يحب حبيبه .
وعمل الخير من أجل رضا الله فالله يرضى عمن يطيعه و يفعل الخيرات و يجتنب المنكرات .
وعمل الخير شكرا لله على نعمه التي لا تعد ولا تعصى فمن شكر النعم استعمال نعم الله في مرضاة الله و التي منها عمل الخير .
وعمل الخير من أجل حب الله لنا فالله يحب المطيعين له .
وعمل الخير اتقاءا لغضب الله .
وعمل الخير طمعا في زيادة الحسنات و تكفيرا للسيئات فالحسنات يذهبن السيئات .
يقول الدكتور : عمر الأشقر : " العباد يقصدون ربهم من جوانب مختلفة، فمنهم الذي يعبده تعظيما له وتوقيرا، ومنهم الذي يقصد الدخول في طاعته وعبادته، ومنهم الذي يطلب رضوانه ورضاه، ومنهم الذي يقصد الأنس به، والتلذذ بطاعته وعبادته، ومنهم من يرجو التنعم برؤيته في يوم لقياه، ومنهم من يطلب ثوابه من غير أن يستشعر ثوابا معينا، ومنهم من يطلب ثوابا معينا، ومنهم من يخاف عقابه من حيث الجملة غير ناظر إلى عقاب معين، ومنهم من يخشى عقابا معينا.

وتنوع المقاصد باب واسع، والعبد قد يقصد هذا مرة، وهذا مرة، وقد يقصد أكثر من واحد من هذه المقاصد، وكلّها تنتهي إلى غاية واحدة، وتعني في النهاية شيئًا واحدا، أنّ العبد يريد الله سبحانه، ولا يريد سواه، وكل ذلك محقق للإخلاص. وأصحاب هذه المقاصد على الصراط المستقيم، وعلى الهدى والصواب، وإن كان العبد لا ينبغي أن يخلي قصده من الحبّ والخوف، فإن قوام العبادة بهما، ومدارها عليهما " [3].

ومن هنا يتبين خطأ الملاحدة في دعواهم أن محرك فعل الخير عند المسلمين هو الطمع في الجنة والخوف من النار فقط ،والواحد من الناس قد يطيع أباه حبا لأبيه و خوفا من عقابه وطمعا في إحسانه و من أجل إرضائه و ومن أجل ألا يغضبه فهناك أكثر من دافع و أكثر من محرك على الطاعة و كذلك المسلم مع ربه مع الفارق بين الرب و الأب .

و لتعدد دوافع عمل الخير عند المسلم أثر كبير في زيادة عمل الخير في البلاد التي تلتزم بتعاليم الإسلام حيث يعم الخير و السعادة و الرخاء هذه البلاد ،و صدق الله القائل : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (النحل:97) ، و القائل : ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ﴾ ( طه :123-124 ) ،والقائل : ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ ( الأعراف : 96 ).


[1] - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم 2/79

[2] - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم 2/79

[3] - مَقَاصِدُ المُكَلفينَ فيمَا يُتعَبَّدُ به لِرَبِّ العَالمين للدكتور عمر سليمان الأشقر ص 409

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 03:44 PM
تصحيح فهم خاطئ للملاحدة عن الجنة

يتوهم الملاحدة – هداهم الله – أن الجنة لا يدخل في مسماها إلا الأكل، والشرب، واللباس، والنكاح، ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات ،وهذا فهم خاطئ ينم عن ضعف الأرضية الثقافية الدينية عند الملاحدة فالجنة اسم جامع لكل نعيم وأعلاه النظر إلى وجه الله كما في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد. يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه » وهو الزيادة [1].

و يقول ابن القيم : " الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور. وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل.

ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه. فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور، إلى هذه اللذة أبدا. فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك. كما قال تعالى: ﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾ ( التوبة: 72 ) . وأتى به منكرا في سياق الإثبات؛ أي: أي شيء كان من رضاه عن عبده: فهو أكبر من الجنة " [2].


نظرات في كلام الملاحدة

يقول بعض الملاحدة : " من يفعل الخير حبا لذات الخير هو أفضل من الذي يفعل الخير طمعا أو خوفا من رقيب نحن الملحدين لسنا بحاجة لرقيب و لسنا أطفال بحاجة لـ big brotherـ" وكلامهم كلام بلا دليل فضلا عن مخالفته للواقع فالذي يفعل الخير من أجل هدف وغاية - كالطمع في شيء أو الخوف من شيء - أثبت على فعل الخير ممن ليس عنده هدف وغاية ،ومن يفعل الخير من أجل هدف وغاية أحرص على فعله ممن ليس عنده هدف وغاية ، ومن يفعل الخير من أجل هدف وغاية أكثر سعادة بفعل الخير ممن ليس عنده هدف وغاية ،ومن ينجح في الامتحان بعد جد و كفاح وطموح في التفوق و النجاح يمدحه الناس و يثنون عليه أكثر ممن نجح بلا هدف و طموح .

وقولهم : " نحن الملحدين لسنا بحاجة لرقيب و لسنا أطفال بحاجة لـ big brother" كلام بلا دليل و فيه نبرة الكبرياء و الغرور بالنفس مما ينم عن نفسية غير سوية ،وإذا كان العلماء و الناجحون و المبدعون يحتاجون إلى من يشد أزرهم و يحمسهم ،وإذا كان قادة الجيوش يحتاجون إلى من يشد أزرهم و يحمسهم فكيف بهؤلاء الشرذمة القليلين ؟!! وهل يوجد إنسان لا يحتاج إلى تشجيع ؟!!

و أي إنسان ليس ملاكا و ليس معصوما من الخطأ ولذلك فهو بحاجة إلى رقيب عليه و أمور الناس على هذا سواء مؤسسات حكومية أو غير حكومية لكن الملاحدة يجهلون الواقع .

و يقول بعض الملاحدة : " إن ما يحرّك الإنسان على الخير وأداء الأمانة والالتزام الأخلاقي وأداء واجباته بضمير والرحمة بالمتألمين والمبادرة إلى نجدتهم هو فعل الخير لذات الخير ،وليس رجاء الثواب من إله أو إنسان " وهذا كلام بلا دليل و مخالف للواقع ،والملحد نفسه يخالفه فهو يعمل طلبا للمال والأجر وهل وجدنا ملحدا يعمل ولا يريد أجرا على عمله ؟!!

ويقول أحد الملاحدة : " فعل الخير يجب أن يطبق بصرف النظر عما يترتب عليها من جزاء أو مكافأة " ،وهذا الكلام إن صلح لفئة من الناس فلا يصلح للفئات الأخرى ،وكيف تقبل النفس على عمل ليس فيه جلب مصلحة لها أو دفع مضرة عنها ؟!! ومن طبيعة النفس البشرية محبة ما فيه نفعها ومصلحتها والإقبال عليه وكره ما يضرها ويؤذيها ويفسد عليها أمرها والنفور منه[3] وعمل الخير من غير جزاء ومكافأة عمل جاف لا طعم فيه أو قليل الفائدة وناقص القيمة .



ويقول أحد الملاحدة: " الافتراض بأنّ الخوف والطمع يدفعان الإنسان لعمل الخير أو اجتناب الشرّ يصور الإنسان كأنه شرّيرٌ بالفطرة لذلك لا بدّ من ترويضه بالقوة كالحيوان المتوحّش " وهذا الكلام فيه تشويه للحقائق إذ من طبيعة النفس البشرية محبة ما فيه نفعها ومصلحتها والإقبال عليه وكره ما يضرها ويؤذيها ويفسد عليها أمرها والنفور منه ، و يعد الثواب والعقاب هو الأسلوب الذي يتفق مع الفطرة الإنسانية ، والذي ثبت صلاحيته في كل زمان ومكان [4] .


و الإنسان بطبيعته يتصرف في كثير من الأحيان وفق الخوف و الطمع, فهو يفعل أمرا طمعا في شيء معين و لا يفعل أمر آخر خوفا من شيء معين ،و على سبيل المثال يعمل الإنسان طلبا للمال ويزيد في عمله ويجد طمعا في الحوافز والترقيات ولا يتأخر عن عمله خوفا من الجزاءات فهل هذا السلوك سلوك مذموم ؟ ،والطالب يذاكر طمعا في النجاح و خوفا من الرسوب فهل هذا السلوك سلوك مذموم ؟،والسائق يلتزم بإشارات المرور خوفا من الغرامة فهل هذا السلوك سلوك مذموم ؟


ويقول أحد الملاحدة : " الحض على فعل الخير عن طريق ذكر الأجر و الثواب عبارة عن رشوة للناس كي يفعلوا الخير " وهذا الكلام فيه تشويه للحقائق فالمؤمن يعبد الله و يعمل الخير طاعة لله المتفضل عليه بالنعم و خوفا من العذاب وطمعا في الثواب فأين هذا الحال من حال المرتشي والراشي الذي يفعل فعلا مشينا ؟!! والناس تحب و تمدح من يعبد الله خوفا من العذاب وطمعا في الثواب لكنها تذم المرتشي والراشي فأين هذا من هذا ؟

و الرشوة كل مال دفع لذي جاه عوناً على ما لا يحل أما فعل الخير خوفا من العذاب وطمعا في الثواب فهو فعل ما يستحسن أن يفعل – أي فعل الخير - و يستقبح ألا يفعل - أي ترك فعل الخير - فأين هذا من هذا ؟ والرشوة يترتب عليها ضياع الحقوق وفساد المجتمعات و عمل الخير طاعة لله وخوفا من العذاب وطمعا في الثواب يترتب عليها سعادة الفرد والمجتمع و صلاح الفرد والمجتمع فأين هذا من هذا ؟

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات .
مراجع المقال :
بناء المجتمع الإسلامي للدكتور نبيل السمالوطي
مجموع الفتاوى لابن تيمية
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم
مَقَاصِدُ المُكَلفينَ فيمَا يُتعَبَّدُ به لِرَبِّ العَالمين للدكتور عمر سليمان الأشقر

[1] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/62
[2] - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم 2/79
[3] - بناء المجتمع الإسلامي للدكتور نبيل السمالوطي ص 45
[4] - بناء المجتمع الإسلامي للدكتور نبيل السمالوطي ص 45

د.ربيع أحمد
09-02-2015, 03:50 PM
التحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=354993)أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/89743/)

د.ربيع أحمد
02-23-2016, 07:16 AM
الملحد وتشنيعه على حد الرجم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
و في هذا المقال سنتناول بإذن الله تشنيع الملاحدة على حد الرجم ودعواهم أن الرجم عقوبة وحشية همجية في غاية القسوة والبشاعة والعنف والتخلف ،ودليل على انعدام الرحمة عند المسلمين


شناعة جريمة الزنا

لاشك أن الزنا جريمة من أقبح الجرائم و موبقة من أخبث الموبقات و فاحشة من أشد الفواحش و منكر من أبشع المنكرات ، والزنا جريمة شنيعة مشينة منكرة مستقذرة في جميع الشرائع والملل والأعراف الأخلاقية في كل عصر ومصر .

و النفوس مجبولة على النفرة من الزنا و الزناة وبغض الزنا والزناة ، ومن من الناس لا يستقبح و لا يستنكر و لا يستبشع أن تزني زوجه أو ابنته أو أمه أو أخته إلا عديم الرجولة والمروءة خبيث النفس والطباع ؟!! وهل توجد امرأة عفيفة لا تستقبح و لا تستنكر و لا تستبشع أن يزني زوجها أو ابنها أو أبوها أو أخوها ؟!!!
ولو وقعت جريمة زنا في حي أو قرية علم بها الأهالي لوجدتهم مشمئزين غاضبين مسارعين في الانتقام من الزاني والزانية ينهالون عليهما ضربا وسبا إلى أن يتم تسليمهم للأولي الأمر .

مفاسد جريمة الزنا

للزنا العديد من المفاسد في العاجل والآجل منها هتك الأعراض واختلاط الأنساب وانحطاط الآداب وإلقاء العداوة والبغضاء بين الناس و فساد المجتمع وتهديده بالفناء والانقراض عن طريق إشاعة الفحش و الفجور والتبرج والسفور و انتشار الأمراض الجنسية المعدية و فقد الثقة بين الأزواج والزوجات وتقطيع العلاقات الزوجية و تفكك الروابط الأسرية و تعريض النسل للخطر والضياع والتشرد و الانحراف .

والسعي لإشباع الغريزة الجنسية بالحرام يؤدي لعزوف الشباب عن الزواج فيقل بناء الأسر التي هي لبنة المجتمع فيضمحل المجتمع .
و المرأة إذا حملت من الزنا فربما قتلت ولدها و بذلك تجمع بين الزنا والقتل وإذا كانت متزوجة و قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل والخيانة الزوجية ، والزنى قد ينتج عنه الحمل و يتوهم الزوج أنه منه فينسبه إليه و يقوم بتربيته ويرث هذا الولد ممن ليس بأبيه ،والزانية تجلب العار لزوجها وأهلها وولدها وربما قتلت زوجها من أجل عشيقها والرجل إذا رأى زوجته تزني ربما قتلها و قتل عشيقها وربما يشك في أولاده أهم من صلبه أم لا فيقتلهم أو يعاملهم أسوأ معاملة .


الزاني المحصن يستحق الرجم

من الأمور التي يجب معرفتها أن العقوبة المستحقة لابد أن تتناسب مع جسامة الجريمة التي ارتكبها المدان فكلما زادت جسامة الجريمة زاد العقاب فمثلا عقوبة من قتل شخص أشد و أغلظ من عقوبة من ضرب شخص ،وعقوبة من خان الدولة أشد و أغلظ من عقوبة من خان فرد من أفراد الدولة ،و عقوبة القتل العمد أشد و أغلظ من عقوبة القتل شبه العمد ،وعقوبة اللواط أشد و أغلظ من عقوبة فعل مقدمات اللواط ،وعقوبة من زنا بامرأة أشد و أغلظ من عقوبة من قبل امرأة ،وعقوبة من اعتدى على مجتمع أشد و أغلظ من عقوبة من اعتدى على فرد .

و الزنا فيه اعتداء على العرض و المجتمع .

والعرض أغلى ما يملك المرء بعد دينه ،والعرض أعز من نفس الإنسان وماله ،وإذا زنى الإنسان فقد هتك عرض أخيه الإنسان ،وحكم على طهر أخته في الإنسانية بالإعدام ،والناس قد تسامح من قتل شخصا عزيزا لهم لكن لا تسامح من هتك عرضا لهم .

والزانية تلحق بأهلها وزوجها – إن كانت متزوجة - عار يجعلهم مقتولي الكرامة بين الناس و عرضة للنقص والازدراء من قبل الآخرين.

و الزنا أقوى معول يهدم كيان الأسرة ويفكك رابطتها، ويأتي على بنائها من أساسه و يعرض الأولاد للخطر والضياع والتشرد و الانحراف .

والزنا يضعف قوى المجتمع إذ ماذا يبقى للمجتمع من قوة إذا تهدمت الأسر وانحلت روابطها وتحطمت قواها بسبب الزنا وهل المجتمع إلا مجموعة أسر ؟.

والزاني المحصن عنده الحلال الطيب فيتركه ويذهب للحرام الخبيث فيهتك العرض ويشيع الفاحشة و يخون الزوجة إلى غير ذلك من المفاسد .

والزاني المحصن قد تمَّت عليه النعمة بالزوجة، فإقدامه على الزنا يعد دليلاً على أنَّ الشر متأصل في نفسه، وأما غير المحصَن فلعلَّ داعي الشهوة غلبه على ذلك، فخُفِّفَ عنه الحد – بالجلد - مراعاة لحاله وعذره [1].

و استحق الزاني المحصن أشد العقوبة وهي الرجم نكالا من الله لشناعة فعله وبشاعة جريمته وقذارتها و عظم آثارها السيئة والمدمرة على الفرد و الأسرة والمجتمع فالعقوبة تكون على الجريمة و الآثار الناتجة عنها، والأضرار المترتبة عليها ، والجزاء من جنس العمل .





[1] - توضِيحُ الأحكَامِ مِن بُلوُغ المَرَام للبسام 6/218

د.ربيع أحمد
02-23-2016, 07:18 AM
رجم الزاني المحصن فيه ردع لمن تسول له نفسه بالزنا

إن من تسول له نفسه بالإقدام على الزنا إذا استحضر عقوبة الرجم بالحجارة حتى الموت فقد يستيقظ ضميره و ويؤنب نفسه ويرجع عن الزنا ،وبذلك تكون عقوبة رجم الزاني المحصن وسيلة لكف الناس عن الإقدام على الزنا وليرتدعوا أشد الردع فكلما اشتدت العقوبة قوى المنع .

و رجم الزاني المحصن والزانية المحصنة بالحجارة حتى الموت ليرتدع الباقون عن الزنا خير من أن يعاقبا بعقوبة أخف من الرجم فيأمن الناس و يرتكب بعضهم الزنا ويستشري الزنا في المجتمع إذ من أمن العقوبة الرادعة أساء الأدب ،ومن المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله، وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة[1].

وقد غلظ الله جل وعلا عقوبة المحصن بالرجم تغليظا أشد من تغليظ عقوبة البكر بمائة جلدة ; لأن المحصن قد ذاق عسيلة النساء ، ومن كان كذلك يعسر عليه الصبر عنهن ، فلما كان الداعي إلى الزنا أعظم كان الرادع عنه أعظم وهو الرجم [2].





رجم الزاني المحصن فيه ضرب من القسوة لمصلحة الفرد والمجتمع

إن رجم الزاني المحصن و الزانية المحصنة فيه ضرب من القسوة والغلظة لمصلحتهما ومصلحة المجتمع الذي يعيشا فيه فقبل الإقدام على جريمة الزنا إذا تذكر المرء أنه سيرجم بالحجارة حتى الموت ربما خاف وارتدع فيمتنع عن الزنا ويكف عنه فيسلم .

والتشديد في عقوبة الزنا فيه ردع لأفراد المجتمع عن اقتراف هذه الفعلة المشينة وبذلك يأمن كل فرد من أفراد المجتمع من أن يدنس عرضه فتحفظ أعراض الناس وبذلك يكون إقامة حد الزنا على المحصن أنفى للزنا ويشعر كل إنسان في المجتمع بأنه مصون في عرضه .
وفي رجم الزاني المحصن صيانة للمجتمع باستئصال الفرد الفاسد منه ليدفع شره البالغ غاية الشناعة والبشاعة عن المجتمع الذي يعيش فيه ،وفي ذلك رحمة بالمجتمع بإنقاذه من الفساد والمفسدين ،واستئصال الفساد والمفسدين .

ومن لم يبال بغلظة العقوبة وأقدم على الزنا فلا بد من تطهيره ، وتطهير المجتمع منه كي لا يفسد باقي المجتمع كما يستأصل العضو الفاسد في جسد الإنسان كي لا يفسد باقي الجسد وقتل مرتكب الزنا بالرجم أقل ضررا من ظهور الآثار السيئة التي يسببها الزنا في المجتمع .

ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضا، وفسد نظام العالم، وصارت حال الدواب والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم[3]
رجم الزاني المحصن فيه شفاء لنفوس أهل الزانية وزوجها – إن كانت متزوجة -

حادثة الزنا تجلب لأهل الزانية وزوجها – إن كانت متزوجة - الخزي والعار والحزن والأسى فتثير في نفوسهم الانتقام شر الانتقام ممن فعلا هذه الفعلة المشينة فشرع الله إقامة الحد ليشفي نفوسهم ويذهب غيظ قلوبهم ،و يرد اعتبارهم وحين يعلموا أن الزاني الذي انتهك عرضهم سيرجم فإن في ذلك شفاء لصدورهم فلا يفكرون في الانتقام.
والزانية والزاني حينما أقدما على الزنا لم يراعا مصلحة الآخرين ولم يبالا بحق الآخرين ولم يبالا بالفاحشة التي ارتكبت والعرض الذي انتهك والعار الذي سيلحق بالأهل ولذلك ليس لهما أن يطمعا في تخفيف العقاب ومن لا يرحم لا يرحم .




رجم الزاني المحصن و الزانية المحصنة فيه قسوة عليهما قسوة فيها رحمة

إن رجم الزاني المحصن و الزانية المحصنة فيه ضرب من القسوة والغلظة والعذاب نكالا لهما على ما اقترفاه من الذنب العظيم ،والفاحشة المبينة ،فهذه القسوة التي في العقوبة سببها فعل أشد قسوة بل فعل همجي بهيمي ولعظمه وعظم آثاره عظم الحد و العقاب.

والرجم ليس مكافأة بل عقوبة على فعل مُجَرَم ،و لا عقوبة بلا قسوة و ألم ،و القسوة ليست شرا في كل أحوالها ،و لابد أن تشتمل العقوبة على عقاب رادع و ألم حسي أو معنوي أو الاثنين معا يزداد بزيادة جسامة الجريمة ،وإلا لما كان للعقوبة أثر في الزجر والردع .

ولما كان الداعي إلى الزنا داع قوي في الطباع غلظت هذه العقوبة لمقابلة قوة الداعي رحمة بضعاف النفوس ،وإعانة لهم على النفور من هذه الفعلة الشنيعة فلا يقدمون عليها فإذا أقدموا عليها بعد هذا التحذير الشديد كان العقاب شديدا .

[1] - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/69
[2] - أضواء البيان للشنقيطي 3/37
[3] - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/69

د.ربيع أحمد
02-23-2016, 07:20 AM
حقا إن الرجم رحمة

في رجم الزناة المحصنين تطهير للمجتمع من الأفراد الفاسدين ،وهذا رحمة .

في رجم الزناة المحصنين ردع لباقي أفراد المجتمع عن الوقوع في الفاحشة فيأمن الناس على أعراضهم ،وهذا رحمة .

مع رجم الزناة المحصنين لا تشيع الفاحشة في المجتمع ،وهذا رحمة .

في رجم الزناة المحصنين حفظ للأعراض من الانتهاك ،والأنساب من الاختلاط ،وهذا رحمة .

في رجم الزناة المحصنين مكافحة للأمراض الجنسية المعدية التي يسببها الزنا كالإيدز و الزهري و في ذلك حماية للمجتمع منها ومن أخطارها وهذا رحمة .

في رجم الزناة المحصنين توطيد للعلاقة الزوجية ومنع للخيانة ، وحفظ للرابطة الأسرية من التفكك وحفظ لكيان الأسرة ،وهذا رحمة .

وكما أن عَقوبة الزنا مشددة فأدلة إثباته كذلك فشرط إقامة الحد على الزاني المحصن والزانية المحصنة إما الاعتراف القاطع الصريح وإما بشهادة أربعة شهود برؤية الفعل على حقيقته مبالغة في الحيطة والحذر حتى لا يرمى بها الأبرياء وتغليظا على المدعي وسترا على العباد،و هذا رحمة .

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات

د.ربيع أحمد
02-23-2016, 07:23 AM
التحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=355652) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/90359/)

د.ربيع أحمد
02-23-2016, 05:35 PM
الملحد وتشنيعه على حد السرقة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله تشنيع الملاحدة على حد السرقة ودعواهم أن قطع يد السارق عقوبة وحشية فيها ضرب من القسوة التي تبعث على الاشمئزاز و تتنافى مع الإنسانية الراقية الرحيمة ، وتصيب الإِنسانِ الذي طبق عليه هذا الحد بالإِعاقةِ والبِطالة إذ يصير مقطوع اليد لا يستطيع العمل إذا كان في عمله يعتمد على يده فيصبح عالة على المجتمع ، و إذا قطع يد شخص بريء ظنا من القضاء انه سارق فلا يمكن رد يده إليه لكن في عقوبة الحبس يمكن أن يتم تعويض الشخص عنها ، و قطع يد شخص سوف يولد منه شخصا حاقدا على المجتمع و سوف يحول مشاعر الحب في قلبه تجاه الناس و المجتمع إلى مشاعر انتقام و سوف يبقى يحلم بيوم ينتقم فيه منهم ، و عقوبة قطع اليد سوف تؤثر على نظرة المجتمع للسارق حيث أنه سوف يعرفه الجميع بسبب يده المقطوعة و لن يعود يثق به أحد وقبل بيان فساد هذه الشبهة يحسن بنا ذكر بعض مفاسد السرقة .



مفاسد السرقة

للسرقة العديد من المفاسد منها :
ظلم الناس بالتعدي على أموالهم والاعتداء عليها ،وضياع أموال الناس وأكلها بالباطل ،وأخذها بغير حق وحرمان الناس من أموالهم ،وإفساد معاشهم وترويعهم ،و اضطراب أمنهم على أموالهم ،وإذا انتشرت السرقة أدت إلى إشاعة الخوف بدل الأمن والقلق بدل الطمأنينة والفوضى بدل الاستقرار .


استحقاق السارق لقطع يده التي باشر بها السرقة


من المسلم به أن عقاب أي شخص لابد أن يتناسب مع جسامة الجريمة التي ارتكبها فكلما زادت جسامة الجريمة زاد العقاب ،والسارق قد اعتدى على أموال الناس و أخذها بغير حق بغيا وظلما وحرم صاحب المال من ماله ،وأفسد على الناس معاشهم وظلمهم أشد ظلم وروعهم أشد الترويع ،وتعتبر يده أكبر مساعد له على فعله فهي آلة و أداة ظلمه وعدوانه وبطشه وسطوه فاستحق بذلك قطعها و إتلافها جزاءا وفاقا .

واللهُ – عز وجل - هو الذي مَنَحَ الإنسان اليَدَ ليكسبَ بها ويَعتاشَ ويرتزق، ولكنَه حَوَّلَها إِلى أَداةٍ للعدوان، فناسَبَ أَنْ تُقْطَع، وأَنْ تُزالَ القُوَّةُ الباغيةُ التي يَعْتَدُّ بها، ويَعْتَدي بها على الآخَرين، وهو الذي أَساءَ لنفسِه وليدِه، وهو الذي عَطَّلَها عن مهمتِها الإِيجابية، وحَولَها إِلى وسيلةٍ تخريبية، ولذلك أَدَّبَهُ اللهُ بقَطْعِها[1].

وقطع يد السارق فيه ضرب من القسوة والغلظة والعذاب نكالا له على ما اقترفه من الجرم العظيم ،وهذه القسوة التي في العقوبة سببها فعل أشد قسوة ولعظمه وعظم آثاره عظم الحد و العقاب.

وحد السرقة ليس مكافأة بل عقوبة على فعل مُجَرَم ،و لا عقوبة بلا قسوة و ألم ،و القسوة ليست شرا في كل أحوالها ،و لابد أن تشتمل العقوبة على عقاب رادع و ألم حسي أو معنوي أو الاثنين معا يزداد بزيادة جسامة الجريمة ،وإلا لما كان للعقوبة أثر في الزجر والردع .

ومن لم يبال بغلظة العقوبة وأقدم على السرقة فلا بد من إقامة الحد عليه بقطع يده لتطهير المجتمع منها كي لا يفسد باقي المجتمع كما يستأصل العضو الفاسد في جسد الإنسان كي لا يفسد باقي الجسد .

وقد يقول قائل : "إن قطع يد السارق يساوى من سرق قطعة ذهب مع من سرق ألف قطعة ، و من سرق للمرة الألف مع من يسرق للمرة الأولى " ،ويقول آخر : "إن عقاب السارق بقطع يده ليس فيه مساواة بين الجريمة والعقاب، فقد يكون المسروق ضئيلاً، ولقد حدَّ نصاب السرقة على مذهب من حده بقدر ضئيل، وهو ربع دينار أو عشرة دنانير.." ، وإن ذلك الكلام يبدو بادئ الرأي وجيهاً وهو عند الله و عند أهل الفكر والإصلاح والعدل الاجتماعي والرحمة العامة الشاملة ليس بوجيه، لأنه التماثل بين الجريمة والعقوبة ليس بشرط - لا في نظر القانونيين ولا في شريعة السماء، إلا إذا كانت العقوبة قصاصا، فإن القصاص أساسه التساوي .

وأما فيما عدا القصاص فالتساوي ليس بشرط لأن المقصد من العقوبة ليس هو المقصود من الضمان المالي، بأن يضمن المعتدي على مال غيره بقدر ما أتلف له من مال، وما ضيع له من منافع، إنما المقصود من العقوبة هو الردع، ومنع التفكير فيها من كل أمرئ تكون نفسه مستعدة لهذا الأثم، وحاله تسهل له ارتكاب ذلك الجرم، فالعقوبة إصلاح اجتماعي وتهذيب عام وزجر نفسي للآحاد و الشذاب .

ولقد نهجت القوانين الحديثة ذلك المنهاج فهي لا تنظر في جرائم السرقات ونحوها إلى مقدار المسروق بمقدار نظرها إلى نفس السارق، وما يترتب على جريمته من إشاعة للخوف وإزعاج للأمن، ولذلك تضاعف العقوبة إذا اعتاد الجريمة وتكررت منه، وقد تحكم ببضع سنين في سرقة بضعة جنيهات، والتفاوت كبير بين الجريمة والعقاب، بل تعطي الجريمة وصفاً إن ارتكبها من غير اعتياد، ووصفاً آخر إن اعتادها وألفها، فتكون العقوبة بمقدار خطر المجرم على المجتمع، وبمقدار الجرأة على الشر، ينشرها بتركه فيفسد الناس[2].


قطع يد السارق من باب ارتكاب أخف الضررين و دفع أعلى المفسدتين

لاشك أن قطع يد السارق فيه ضرر ومفسدة عليه وقد يعيقه عن العمل لكن في ترك قطعها وبقاءها سليمة شر على المجتمع ،وضرر على المجتمع ،و من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها قطع يد السارق فإنه إفساد لها، ولكنه زاجر حافظ لجميع الأموال فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق [3].



وقد يقول قائل : " إن قطع يد السارق يربح المجتمع شخص معاق وعالة على غيره " والجواب أن مصلحة المجتمع مقدمة على مصلحة الفرد ،والإضرار بالسارق أحد أفراد المجتمع عن طريق قطع يده أقل ضررا ومفسدة من اضطراب أمن المجتمع ،وعيش المجتمع في رعب وذعر وقلق إثر تفشي السرقة والسراق .

وإقامة حد السرقة يحتاج لإثبات شروط و انتفاء موانع والحدود تدرأ بالشبهات ،و كما أن العَقوبة مشددة فإن أدلة الإثبات كذلك مشددة فيها ،و قطع يد السارق قطع ليد شريرة لا تعمل ولا تنتج، بل إنها يد خبيثة تعطِّل العمل والإنتاج وتضيِّع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم .

وكل ذي لب يدرك أن قطع يد السارق أقل ضررا من ظهور الآثار السيئة التي تسببها السرقة في المجتمع ،ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضا، وفسد نظام العالم، وصارت حال الدواب والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم[4].

ويد السارق يد خبيثة خائنة ،واليد الخائنة بمثابة عضو مريض يجب بتره ليسلم الجسم، والتضحية بالبعض من أجل الكل مما اتفقت عليه الشرائع والعقول [5].

و قطع يد السارق أهون عند الله وعند كل من يفهم حكمة شرع الله، من أن تنتهب الأموال ويسود الخوف بدل الأمن ، وترتكب الجرائم والجنايات على الأرواح في جنح ظلام الليل البهيم ، وليسأل الذين ينفذون حكم الشارع في هذا: كم جريمة سرقت أفضت إلى موت المسروق؟ وكم يد تقطع كل عام إذا أقيم حد السرقة؟ مع ملاحظة أن الحد لا يقام إلا إذا انتفت كل شبهة، كما قال عليه السلام: "أدرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" إن نتيجة الإحصاء ستوضح لا محالة أن عدد المقطوعين بحكم الله دون من يموتون تحت سلطان الهوى وغواية الشيطان[6].

و قد يقول قائل : " إن عقوبة قطع اليد سوف تؤثر على نظرة المجتمع للسارق حيث أنه سوف يعرفه الجميع بسبب يده المقطوعة و لن يعود يثق به أحد ،وفي هذا إضرار بالغ بالسارق" ،والجواب هذا مطلوب لمزيد من الزجر والردع على جريمة السرقة ففي القطع تنفير للمجتمع من السارق كي يعتبر به غيره ، إذ يعرف كل من يرى يده المقطوعة أنه قد سرق وأقيم عليه الحد فيعتبر و يرتدع من أن يفعل مثل فعله فلا يقدم على السرقة ، و أيضا إذا علم الإنسان أن هذا الشخص قد قطعت يده بسبب السرقة فإنه سيحذر منه و يحتاط منه حتى لا يسرقه .



[1] - القرآن ونقض مطاعن الرهبان للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي ص 382
[2] - شريعة القرآن من دلائل إعجازه لأبي زهرة ص 76
[3] - قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 1/99
[4] - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/69
[5] - فقه السنة للشيخ سيد سابق 2/485
[6] - شريعة القرآن من دلائل إعجازه لأبي زهرة ص 76

د.ربيع أحمد
02-23-2016, 05:38 PM
في قطع يد السارق ردع لمن تسول له نفسه بالسرقة


إن من تسول له نفسه بالسرقة إذا استحضر عقوبة السرقة ،وأنه إذا سرق ستقطع يده فقد يستيقظ ضميره و ويؤنب نفسه ويرجع عن السرقة ،وبذلك تكون عقوبة قطع يد السارق وسيلة لكف الناس عن الإقدام على السرقة وليرتدعوا أشد الردع فكلما اشتدت العقوبة قوى المنع ،وكم من إنسان يرتدع عن السرقة إذا علم أنه إذا سرق قطعت يده فصار في ذلك حفظ لأموال الناس .

و قطع يد السارق خير له و للمجتمع من أن يعاقب بعقوبة أخف من قطع اليد فيتجرأ بعض الناس على السرقة وتستشري السرقة في المجتمع إذ من أمن العقوبة الرادعة أساء الأدب ،ومن المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله، وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة[1].


وقطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم الذل والعار وهو أجدر العقوبات بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم ، وكذا على أرواحهم ؛ لأن الأرواح كثيرا ما تتبع الأموال، إذا قاوم أهلها السراق عند العلم بهم[2] .

ولأن الداعي إلى السرقة في الغالب رغبة الكسب والثراء وهو داع قوي في الطباع ،ومن يسرق مرة كثير ما يتشوق إلى السرقة مرة أخرى إذا لم يجد عقاباً يردعه ويمنعه ،و من يأخذ القليل كثير ما يتدرج على سرقة الكثير ،ولذلك غلظت عقوبة السرقة لمقابلة قوة الداعي رحمة بضعاف النفوس ،وإعانة لهم على النفور من السرقة فلا يقدمون عليها فإذا أقدموا عليها بعد هذا التحذير الشديد كان العقاب شديدا .



في قطع يد السارق معاقبة له بنقيض قصده

إن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر أن يزيد كسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه عن طريق الحرام ، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره، وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق ، أو الظهور ليرتاح من عناء الكد والعمل ، أو ليأمن على مستقبله ، فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات وهو زيادة الكسب أو زيادة الثراء .

وقد حاربت الشريعة الإسلامية هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب؛ إذ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أيا كان، ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء ، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل .

فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة، فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان جريمة مرة كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية [3].

قطع يد السارق فيه قسوة هي عين الرحمة

لا ننكر أن قطع يد السارق فيه ضرب من القسوة والغلظة ،ولكن هذا الضرب من القسوة والغلظة لمصلحته ومصلحة المجتمع الذي يعيش فيه فقبل الإقدام على السرقة إذا تذكر المرء أنه ستقطع يده ربما خاف وارتدع فيمتنع عن السرقة ويكف عنها فيسلم ،ويسلم المجتمع من شره .

والتشديد في عقوبة السرقة فيه ردع لأفراد المجتمع عن اقتراف هذه الفعلة المشينة وبذلك يأمن كل فرد من أفراد المجتمع من أن تسرق أمواله فتحفظ أموال الناس وبذلك يكون إقامة حد السرقة أنفى للسرقة ويشعر كل إنسان في المجتمع بأنه مصون في ماله .

وفي قطع يد السارق صيانة للمجتمع باستئصال اليد الخبيثة منه ليدفع شرها البالغ غاية الخطورة عن المجتمع ،وفي ذلك رحمة بالمجتمع .

ومن يدعي أن قطع اليد ليس من قوانين الرحمة فقد نظر إلى الرحمة بالسارق وترك الرحمة بالمسروق ،و بين أيدينا اثنين: سارقاً ومسروقاً معتديا ومعتديا عليه جانيا ومجنيا عليه ووراء ذلك مجتمع يجب أن يسوده الأمن والأمان لا الفوضى والاضطراب والقلق، فإذا أراد ذو عقل أن يخص برحمته أحد الفريقين، أيخص برحمته من اعتدى وسرق وروع الآمنين أم يخص برحمته من اعتدى عليه، والمجتمع الذي يجب أن يبدل خوفه أمنا، ويسوده الأمان ؟

والسارق لم يرحم الناس بل ظلمهم وروعهم و اعتدى على أموالهم و أخذها بغير حق فاستحق بذلك عدم تخفيف العقوبة ،ووجوب تنفيذ الحد عليه ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله .

إن قانون العقل يقول: إن الرحمة تكون بمن وقعت عليهم الجريمة، وهم الآحاد والجماعة، والنكال الشديد بمن وقعت منه الجريمة، وإن النكال بهذا هو الرحمة بهؤلاء، فلينل حكم الله من جريمته ولتكن شاهد عار إلي يوم القيامة، ليرتدع من غوى ولا يضل من اهتدى، وعسى أن يكون العقاب لذنبه إن تاب وأناب[4].


[1] - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/69
[2] - تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا 6/314
[3] - التشريع الجنائي في الإسلام لعبد القادر عودة 1/653
[4] - شريعة القرآن من دلائل إعجازه لأبي زهرة ص 76

د.ربيع أحمد
02-23-2016, 05:42 PM
مفاسد استبدال عقوبة قطع يد السارق بحبسه لمدة معينة

إن استبدال عقوبة قطع يد السارق بالحبس لمدة معينة له العديد من المفاسد والسلبيات ،ولقد لخص "عبد القادر عودة"رحمه الله عيوب عقوبة الحبس بعدة نقاط مؤيدة بالأرقام الإحصائية فذكر منها :
أولا: إرهاق خزانة الدولة وتعطيل الإنتاج فلاشك أن الدولة سوف تتحمل نفقات كبيرة لإعداد السجون وصيانتها والعناية بها، ومع ذلك فلا يزال السجناء يعانون في كثير من الدول من قلة العناية والرعاية.
ثانيا: إفساد المسجونين ويقول بهذا الصدد وكان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنوياً أي نفقات هذا السجن والسجناء لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، ولكنها في الواقع تؤدي بالصالح إلى الفساد وتزيد الفاسد فساداَ على فساده، فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الإجرام وتمرس بأساليبه، وبين المجرم المتخصص في نوع من الإجرام وبين المجرم العادي، كما يضم السجن أشخاصاً ليسوا بمجرمين حقيقين، وإنما جعلهم القانون مجرمين اعتبارا كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة أو لعدم زراعة نسبة معينة من القمح والشعير، وكالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ والإهمال، إلى آخر ما ذكره رحمه الله. فحاصل ما ذكر أن السجن أصبح مدرسة إجرامية يلقن فيها المجرمون العتاة والمعتادون المبتدئين من المجرمين.

إلى أن قال: ولقد دلت المشاهدات على أن الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة كضبط قطعة سلاح معه، وكان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنه يكره المجرمين ويأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبب إليه الإجرام واحترافه بل صار يتباهى به إلى آخر ما ذكر، وهو كلام جيد مدعم بالإحصائيات فيحسن الرجوع إليه.

ثالثا: قتل الشعور بالمسئولية: وعقوبة الحبس فوق أنها غير رادعة فإنها تؤدى إلى قتل الشعور بالمسئولية في نفوس المجرمين، وتحبب إليهم التعطل، خاصة من يقضى منهم مدة طويلة في السجن.

رابعا: انعدام قوة الردع: إن عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنها عقوبة رادعة ولكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها ولا أثر لها في نفوس المجرمين، فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقة وهى أقصى أنواع الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتى يعودوا لارتكاب الجرائم، ولو كانت العقوبة رادعة لما عادوا، لما عوقبوا عليه بهذه السرعة ثم ذكر إحصائيات تدعم ذلك.
ومن الطريف ما ذكره بعض الكتاب أنهم في أمريكا قاموا بعرض أفلام على السجناء عن بعض المجرمين وكيف كانت نهايتهم المحزنة، وأن الجريمة لم تجرهم إلا إلى الخيبة والفشل، ثم استطلعوا آراء السجناء ليعرفوا مدى تأثرهم بهذه الأفلام وتأثيرها في سلوكهم، وكان الباحثون يتوقعون أن يعتبر السجناء بمصير المجرمين ويتعظوا، ولكن الذي حصل هو أن السجناء كانوا يركزون على البحث في نقاط الضعف في الخطط التي سلكها المجرمون، ويركزون على الأخطاء التي صدرت عنهم، وكانت سببا في القبض عليهم، فكانوا يقولون لو أن المجرم عمل كذا لنجا، ولو أنه لم يعمل كذا لما قبض عليه وهكذا، مما يدل على تأصل الروح الإجرامية في هؤلاء، وأن السجن لم يزدهم إلا عتوا وتمردا، مصادقا لما ذكره عودة رحمه الله.

خامسا: ازدياد سلطان المجرمين بعد خروجهم من السجن وتمردهم على المجتمع.

سادسا: انخفاض المستوى الصحي والأخلاقي نظرا لأن السجون ثابتة المساحة. بينما السجناء يزداد عددهم يوما بعد يوم، وبالتالي ينخفض مستوى الخدمات التي تقدم لهم.

سابعا: ازدياد الجرائم: وقد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة ولكن الإحصائيات التي لا تكذب تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعى النظر وتبعث على التفكير الطويل ثم أورد الإحصائيات الرسمية التي تؤيد ذلك.

ثامنا: وأمر مهم أغفله "عودة"رحمه الله ألا وهو وضع عوائل المسجونين. من ينفق عليها، ومن يقوم بشأنها، ومن يتولى تصريف شئونها وتدبير أمورها، من يغمر صغارهم بالعطف والمودة، لاشك أن أسرة السجين سوف تتعرض للضياع، وربما لحقت بوليها في ركاب الإجرام نتيجة الانحراف الذي ينجرف بها إلى الإجرام، وبسبب الحاجة الماسة وانعدام الشفقة والعطف، وربما قيل إن المجرم وجوده كعدمه في الأسرة. بل قد يكون وجوده وبالا عليها وسببا في ضلالها وانحرافها إن كان وليا لها أو مجرد فرد من أفرادها ربما قيل ذلك.

ولكننا نقول أولا : إن أكثر المسجونين والعدد الأكبر منهم ليسوا مجرمين بمعنى الكلمة كما ذكر "عودة"رحمه الله، وليست قضاياهم بالقضايا الإجرامية الخطيرة، بل قد لا تكون جريمة على الإطلاق، ولكنها مخالفة بسيطة وبالتالي فلا خوف على السجين لأنه ليس مجرما.

ثانيا: إن المجرم مهما كان متماديا في الأجرام فإنه أولى برعاية أسرته وهو أشفق عليها وأرحم بها من غيره، كما أن الحيوانات المتوحشة تعطف على أبنائها وتربيهم رغم ما فيها من القسوة والوحشية، فكذلك هذا الإنسان المجرم اللهم إلا في الجرائم الخطيرة جدا وهي قليلة نادرة فقد تقتضي المصلحة عزلة الَمجرم وإبعاده عن أسرته لألا يفسدها وهذا نادر[1].

و قد يقول قائل : " إذا قطع يد شخص بريء ظنا من القضاء انه سارق فلا يمكن رد يده إليه لكن في عقوبة الحبس يمكن أن يتم تعويض الشخص عنها فلابد من استبدال القطع بالحبس" ،والجواب أن الشرع اشترط شروطا صارمة لإثبات حد السرقة على المدعى عليه فلا يثبت حد السرقة إلا بالإقرار من السارق أو شهادة عدلين ، ، وألزم القاضي بعدم الحكم بعلمه الشخصي، بل بالقرائن الظاهرة و الأدلة المقدمة في الدعوى ، وبذلك يندر أن يحدث خطأ في الحكم،والعبرة بالغالب لا بالقليل النادر .

وإن حدث خطأ في الحكم فلا يسأل القاضي في هذه الحالة؛ لأنه حكم بمقتضى ما توفر له من أدلة ،والعقوبة بالحبس غير رادعة ولها العديد من السلبيات ،واستبدال حد السرقة بالحبس بحجة إمكانية الخطأ في الحكم ،وأن اليد لا ترد إن قطعت كمثل من يريد استبدال عملية بتر عضو لوجود ورم خبيث به يخشى تفشيه في الجسد بالدواء بحجة إمكانية خطأ الطبيب في التشخيص أو البتر .


هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات



[1] - دفاع عن العقوبات الإسلامية لمحمد ناصر السحيباني 81-83

د.ربيع أحمد
02-23-2016, 05:48 PM
للتحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=2205895) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/92817/)

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 03:20 PM
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله الرد على سؤال سأله أحد الملاحدة العرب في مدونته الكفرية ،وهذا السؤال هو : "هل سيعذب في الآخرة ؟" و قد ذكر السؤال خلال كلامه بصيغة أخرى وهي : " هل من سيعذبون يوم القيامة أو ينعمون هم من كانوا يعيشون على الأرض أم نسخ أخرى لمخلوقات مخلوقة لغرض التنعيم أو العذاب ؟" ورجح هذا الملحد أن النعيم أو العذاب سيقع لمخلوقات جديدة مستنسخة من البشر مخلوقة لغرض التنعيم أو العذاب ،واستدل على فريته بأن المشاهد أن من يموت يهلك و يتحلل ،ومن ثم فمن سينعم أو يعذب مخلوق جديد مستنسخ من الإنسان الذي مات ،وليس الإنسان نفسه .

وعلى كلامه الخاطئ يعترض هذا الملحد على قوله تعالى : ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ النور : 24 ] ،ويقول : " كيف يقول القرآن أن أيديهم و أرجلهم ستشهد عليهم بما كانوا يكسبون ،و هي أيدي و أرجل جديدة لم تكن في الدنيا و لم ترتكب أي شيء و عيون لم تر شيئا و آذان لم تسمع شيئا ... بل هو كائن أخر جديد مزود بنسخة لذكريات كائن أخر كان يعيش في عالم أخر ليعذب هو بما فعله هذا الكائن الأخر للأبد "

وقد قال الملحد بمثل ما قال الكفار الأولون ،واستدل بمثل ما استدل به الكفار الأولون ، فقد ذكر الله سبحانه و تعالى مقولة قوم عاد : ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: 35] , وَقَالَ تَعَالَى مبيناً مقولة منكري البعث من كفار مكة: ﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [ الْمُؤْمِنُونَ: 81-83 ] ،وجاء أبي بن خلف بعظم نخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يذروه في الريح , فقال: أيحيي الله هذا يا محمد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: « نعم يحيي الله هذا ويميتك ويدخلك النار»[1] .

و من هنا ندرك أن إنكار الكفار قديما وحديث للبعث سببه استبعادهم إعادة الأجسام بعد الموت بعد أن تصير تراباً وعظاماً على ما يعهد من عادة البشر فيقولون كيف يبعث الإنسان بعد أن بلي وصار ترابا وعظاما ،وهو استبعاد ناشئ عن جهلهم بقدرة الله ،وعلم الله ،وقياسهم قدرة الخالق على قدرة المخلوق ، وعلم الخالق على علم المخلوق .


[1] - انظر تفسير عبد الرزاق 3/87 رقم 2498 ،وتفسير مقاتل بن سليمان 4/30

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 03:22 PM
وقد ذكر القرآن شبهة منكري البعث ،ورد عليها بأبلغ رد و أقوى رد في العديد من الآيات منها قوله تعالى : ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [ يس: 78 - 83] .

ومعنى الآيات أن هذا الكافر ذكر أمرا عجيبا ينفى به قدرة الله عز وجل على إحياء الخلق، فقال: من يحيى العظام وهي رميم ؟ ونسى خلق الله عز وجل له ، أفلم يكن هذا المجادل في يوم من الأيام نطفة من ماء مهين فجعله الله خلقا سويا ناطقا ؟! ولا شك أن من فعل ذلك لا يعجزه أن يعيد الميت حيا، والعظام الرميم بشرا كهيئته التي كان عليها قبل الموت.

وقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هذا الكافر المنكر للبعث عن استبعاده لإعادة الأجسام بعينها بعد الموت بعد أن تصير تراباً وعظاماً بتذكيره بما نساه من حقيقة أمره وخلقه من العدم فقال: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ أي قل يا محمد لمن قال لك: من يحيى العظام وهى رميم؟ يحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئا .

ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته، ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم، كامل القدرة ، كيف يتعذر عليه أن يحي العظام وهي رميم؟[1] كيف يعجز عن إعادة العظام بعدما تفرقت وهو -سُبحانه وتعالى- يَعلم كيف يَخلق الأشياء، وكيف يُكوِّنها ،ويعلم أجزاء العظام بعد تفرقها و يعلم أين ذهبت تلك الأجزاء وكيف تفرقت فلا يَعجز عن إعادة خلقه لها وجمع هذه الأجزاء المتفرقة إلى ما كانت عليه قبل ذلك .

و من المسلم به أن القادر على ابتداء صنع شيء قادر على إعادة صنعه ،و من ينشئ شيئاً يسهل عليه أن يعيد إنشائه ،والقادر على إنشاء الإنسان ثم إحلال الحياة فيه لا يعجزه إعادته مرة أخرى كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ﴾ [ الروم : 27 ] ،وكل شيء هين على الله ، وكل شيء يسير على الله ،و إعادة الخلق عنده عز وجل أقل شأناً من ابتدائه ،و إعادة الخلق تعني إرجاع الخلق إلى الحالة التي كان عليها في البداية، والإعادة فرع عن البداية.


وبعد الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة ذكر سبحانه وتعالى دليلا ثانيا على إثبات البعث يرفع استبعاد هذا المجادل بالباطل ويبطل إنكاره فقال : ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر ( النار ) ، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة ، فالذي يخرج الشيء من ضده ، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه، من إحياء العظام وهي رميم[2] فإذا أخرج النار اليابسة من الشجر الأخضر الذي هو غاية الرطوبة مع تضادهما وشدة تخالفهما، فإخراجه الموتى من قبورهم مثل ذلك[3].

و في قوله تعالى : ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما المَرْخُ وللأخرى العَفَار فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خَصْراوان يقطران الماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى[4].

وبعد الاستدلال بإخراج النار من الشجر الأخضر ذكر سبحانه وتعالى دليلا ثالثا على إثبات البعث يرفع استبعاد هذا المجادل بالباطل ويبطل إنكاره فقال : ﴿ أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ فاستدل بخلق السماوات والأرض على القدرة على البعث فإن خلق مثلكم من العظام الرميم ليس بأعظم من خلق السَّمَواتِ والأرض كما قال تعالى : ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [ غافر : 57 ] ،و من لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم من خلقكم، فكيف يتعذر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمَّت وبلِيَت؟ [5] .

و إذا نظرنا إلى السموات السبع وما فيها من خلق عجيب وإلى الأرض وما فيها كذلك ونظرنا إلى الإنسان فإننا نجده لا شيء إذا قوبل بالسموات والأرض فنحكم بأن من خلق السموات والأرض على عظمها قادر من باب أولى على خلق الإنسان مرة أخرى بعد موته وبلاه وفنائه[6] كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأحقاف :33 ] أي من قدر على خلق السموات و الأرض و هما في غاية العظم قادر من باب أولى على إعادة خلق الإنسان إذ القادر على الأعلى قادر على ما دونه .

و بعد الاستدلال بخلق السماوات والأرض على القدرة على البعث ذكر سبحانه ما هو كالنتيجة لما سبق من تقرير واسع قدرته، وإثبات عظيم سلطانه فقال : ﴿ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي إنما شأنه سبحانه وتعالى في إيجاد الأشياء أن يقول لما يريد إيجاده: تكوّن فيتكوّن ويحدث فورا بلا تأخير فالله عز وجل لا يستعصي عليه شيء أراده فلا يستعصي عليه إعادة خلق الإنسان مرة أخرى .

وبعد أن أثبت سبحانه وتعالى لنفسه القدرة التامة والسلطة العامة، نزّه نفسه عن العيب ، والنقص ، والأوهام الفاسدة ، والظنون الكاذبة فقال : ﴿ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي تنزه ربنا عن كل سوء .

وقوله تعالى : ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي وإليه يرجع العباد يوم المعاد، فيجازى كل عامل بما عمل، وهو العادل المنعم المتفضل[7].


[1] - شرح الطحاوية لابن أبي العز 2/594
[2] - شرح الطحاوية لابن أبي العز 2/595
[3] - تفسير السعدي ص 699
[4] - اللباب في علوم الكتاب لابن عادل 16/267
[5] - تفسير الطبري 20/556
[6] - أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري 4/395
[7] - تفسير المراغي 23/39

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 03:24 PM
و من أدلة القرآن على إثبات البعث أيضا قوله تعالى : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [فصلت : 39] فمن يقدر على إحياء الأرض بعد موتها , يقدر أيضاً على بعث الأجساد بعد موتها



و إن قال الملحد كيف يحيى الله الإنسان من جديد بعد أن يضمحل و يتلاشى بدنه فيستحيل إعادة الإنسان بعد أن يصير عدما ؟ و الجواب : أن الملحد هداه الله يعتقد بأن حقيقة الإنسان هي عبارة عن هذا البدن المادي الذي يهلك و يتلاشى بالموت، وإذا ردت له الحياة من جديد بعد الموت، فهو إنسان آخر لا هو عين الأول ، لأن إعادة المعدوم أمر محال .

و هذا لجهله أن المعاد ليس من باب إعادة للمعدوم ، بل عودة الروح الموجودة إلى نفس الجسد المادي التي كانت متصلة به مرة أخرى فالبعث إعادة و ليس خلقا جديدا البعث إعادة لما زال و تحول ؛ فإن الجسد يتحول إلى تراب ، و العظام تكون رميما ؛ يجمع الله تعالى هذا المتفرق ، حتى يتكون الجسد ، فتعاد الأرواح إلى أجسادها ، و أما من زعم بأن الأجساد تخلق خلقا جديدا ؛ فإن هذا زعم باطل بنص القرآن قال تعالى : ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ [ الأعراف: 29]

وقال تعالى : ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ النور : 24 ] وهذه الآية تدل صراحة على أن جوارح الإنسان التي كانت في الدنيا من لسان و يدين ورجلين هي نفس التي تبعث يوم القيامة فتشهد عليه بما اقترف من أعمال إذ الشاهد يكون حاضرا على ما يشهد به مما يدل أن هذه الجوارح التي تشهد على الإنسان، هي الجوارح التي كانت موجودة في الدنيا بعينها لا جوارح جديدة .

وقال تعالى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾[ الروم : 27 ]

وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ في الإنسان عظماً لا تأكله الأرضُ أبداً فيه يركب يوم القيامة. قالوا: أيُّ عظم هو يا رسول الله؟ قال: عجب الذنب» [1]فقوله " فيه يركب " أي يعود الجسم إلى ما كان عليه، بعد ما دفن في قبره وأكلته الأرض مما يدل أنه نفس الجسد الذي كان في الدنيا .

وإن قال قائل: فما فائدة إبقاء عجب الذنب دون سائر الجسد؟ فقد أجاب ابن عقيل فقال: لله سبحانه في هذا سر لا نعلمه، لأن من ينحت الوجود من العدم لا يحتاج أن يكون لفعله شيء يبنى عليه، فإن علل هذا، فيجوز أن يكون الباري سبحانه جعل ذلك للملائكة علامة على أنه يحيي كل إنسان بجواهره بأعيانها، ولا يحصل العلم للملائكة بذلك إلا بإبقاء عظم من كل شخص ليعلم أنه إنما أراد بذلك إعادة الأرواح إلى تلك الأعيان التي هذا جزء منها، كما أنه لما أمات عزيرا وحماره، أبقى عظام الحمار وكساها ليعلم أن هذا المنشأ ذلك الحمار لا غيره، ولولا إبقاء شيء لجوزت الملائكة أن تكون الإعادة للأرواح إلى أمثال الأجساد لا إلى أعيانها[2].

و إن استدل البعض بأن أشكال الناس وقاماتهم ستغير في الآخرة على أن الأجسام تخلق خلقا جديدا فهذا لا يصح ؛ لأن تغير هيئة الشخص ليس معناه تحوله لشخص آخر ،ومعلوم أن من رأى شخصا وهو صغير، ثم رآه وقد صار شيخا، علم أن هذا هو ذاك، مع أنه دائما في تحلل واستحالة, وكذلك سائر الحيوان والنبات، فمن رأى شجرة وهي صغيرة، ثم رآها كبيرة، قال: هذه تلك [3].

لقد جهل الملحد حقيقة الإنسان أنها من روح وبدن , و أن الروح باقية لا تنعدم , و إنما كانت متلبسة بالبدن ثم تفارقه عند الموت , و أما البدن فإنه لا ينعدم و إنما يتحلل إلى عناصره بعد أن كان مركباً والتحلل إلى العناصر الأصلية لا يسمى عدماً. فلو فرضنا أن هناك مهندس فكك سيارة بصورة تامة إلى أجزائها الأولية ثم أعاد تركيبها فهل هذا يسمى عدماً للسيارة ؟! فتحصل لدينا أن الموت لا يعني عدم الإنسان أما الروح فهي باقية,وأما البدن فهو يتحلل إلى عناصره ولا تنعدم هذه العناصر.

و إذا قيل : ربما تأكل السباع الإنسان ، و يتحول جسمه الذي أكله السبع إلى تغذية لهذا الآكل تختلط بدمه ولحمه وعظمه وتخرج في روثه وبوله فكيف يعاد هذا الجسد ؟ و الجواب : أن الأمر هين على الله ؛ يقول للشيء كن فيكون ، و يتخلص هذا الجسم الذي سيبعث من كل هذه الأشياء التي اختلط بها ، وقدرة الله عز وجل فوق ما نتصوره ؛ فالله على كل شيء قدير ، وقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا، وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي، وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَامْتُحِشَتْ فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا، ثُمَّ انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا فَاذْرُوهُ فِي الْيَمِّ فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ»[4] .


و إن قال الملحد لا أتصور إعادة جسدي بعدما يهلك ويتحلل ،و الحكم على الشيء فرع عن تصوره فالجواب عدم تصورك إعادة جسدك بعدما يهلك ويتحلل لا يعني امتناعه في نفسه، فقد تعجز العقول عن تصور أمور كثيرة كعجزها عن تصور حقيقة العقل رغم أنه داخلنا ولا يمكن أن نفكر بلا عقل و عجزها عن تصور حقيقة الروح رغم أنها بداخلنا ، فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يخضع بعقله أفعال الله سبحانه لقوانين البشر وقدراتهم ،و الشيء الذي لا نشاهده في الواقع الحسي لا يلزم عقلاً أن يكون غير ممكن الوجود ، فعدم الوجود لا يدل على استحالة الوجود .

وختاما اذكر هذا الملحد بقوله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ آل عمران : 116] ، وقوله تعالى: ﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ [التوبة : 68 ]،وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [ الأحزاب : 64 - 65 ] .

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات


[1] - رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2955
[2] - كشف المشكل من حديث الصحيحين 3/454
[3] - شرح الطحاوية لابن أبي العز 1/411
[4] - رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 3479

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 03:27 PM
التحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=358622) أوهنا (http://www.alukah.net/sharia/0/93125/)

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 04:02 PM
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله الرد على سفسطة الملاحدة حول مقولة الأعرابي الذي سئل بم عرفت ربك؟ فقال البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير[1].

يعلق أحدهم على مقولة : البعرة تدل على البعير فيقول : " أنها مليئة بالمغالطات المنطقية ... 1 -المشكلة الأولى تكمن في ضرب مثال بمقياس خاطئ حيث أنه عندما يقول البعرة تدل على البعير فالرد على ذلك هو أي بعير؟؟ الجاموس أم البقر أم الماعز أم الجمل الخ...
و هذا ينطبق على الكون فلماذا هو الله؟ لم ليس فيشنو أو أودين أو زيوس أو اهووا مازدا؟؟
....
2- المشكلة الثانية هي الاعتماد على الخبرات السابقة بمعنى إننا نعرف شكل البعرة من الخبرات السابقة و نعلم كيف يتم تكوينها لذا عندما نراها يساعدنا دماغنا على إمدادنا بمعلومة سابقة تمكننا من التعرف على الجسم الموجود أمامنا و الآن تأملوا معي ذلك الأعرابي الذي وجد البعرة و أثر السير.تخيلوا لو انه رأى حفرة على شكل مثلث...ماذا كان سيقول؟؟ البعرة تدل على البعير و الحفرة تلك تدل على..........????????????? ببساطة لن يعلم ؛ لأنه ليست لديه خبرات سابقة تمكنه من التعرف عليه .
3- الاستنتاج على جهل يعد من أكبر المشاكل التي تواجه المتدين بشكل عام فهو يقول البعرة تدل على البعير ...و هذا الكون لا اعرف من أين جاء إذن...الله خلقه..هذه مغالطة منطقية أخرى
4- سذاجة الطرح..فقد ساوى الأعرابي الكون بما فيه ببعرة و بعير و المثالان مقياسهما مختلف تماما و قد اوضحنا ذلك سابقا
5- ... السؤال الأزلي من خلق الله؟؟ ... و في الحقيقة هذا ليس هو السؤال الصحيح بل السؤال الصحيح هو....كيف جاء الله...اخبرني بالطريقة التي جاء بها و سأفهم و أكف عن سؤالك لأني حينها سأقوم بتطبيق الفكرة على كل ما سبق .. عندما أسألك كيف جئت إلى الدنيا؟ ستقول بالتكاثر هنا سأتوقف عن السؤال فورا و افهم أن تلك هي طريقة الإنجاب و أطبقها على أبوك و جدك و سلالتك ...دعنا نرتب أفكارنا (كيف جاء الكون يا ملحد؟؟ جاء بالانفجار العظيم,,,و كيف جاءت المادة التي سببت الانفجار العظيم؟؟ لا اعلم ما زلنا نكتشف....هاها أجل دعني أخبرك إذن أن الله هو الذي جاء بها...إذن و كيف جاء الله؟؟؟ "

ويقول ملحد آخر عن مقولة : البعرة تدل على البعير : " أنها تعرض إهانة بالغة للذات الإلهية التي يحاولون إثبات وجودها، فلا الكون بعرة ولا الله بعير ...إن مقولة ( البعرة تدل على البعير) تستند في حقيقتها على معرفة سابقة للبعير وإنتاجها للبعرة، وهو ما يجعل البدوي يفرّق بين بعرة البعير وروث بقية البهائم الأخرى. وهذه الفكرة البسيطة تنسف من الأساس أيّ استدلال منطقي قائم للاستشهاد بهذه المقولة في مسألة غاية في التعقيد كمسألة نشوء الكون ووجود إله لهذا الكون، هذا إضافة إلى أن عملية إنتاج البعرة ليست عملية واعية، في حين إنتاج الكون تفترض إرادة ووعياً يُلصقها المؤمنون بآلهتهم، وهذا الأمر يجعل الاستدلال بهذه المقولة غير مقبول منطقياً.

ولنأخذ مثالاً على سذاجة هذه المقولة لنفهم منها استحالة الاعتماد عليها في الاستدلال بوجود الله بهذا المنطق. فإذا وجد أحدنا مادة كريهة الرائحة بالقرب من ضفة نهر، فإنه قد يُخمّن أن تكون هذه المادة روثاً لحيوان ما، ولكنه من المستحيل أن يُجزم لمن يعود هذا الروث؛ إلا أن يكون على معرفة سابقة. ولكن سكان المناطق النهرية يعرفون مثلاً أن هذا الروث روث تمساح، لأنهم على معرفة بشكل ورائحة روث التمساح، وعندها يُمكنهم أن يقولوا إن روث التمساح يدل على وجود التمساح، أو أن وجود بيض السلحفاة يدل على وجود السلحفاة، ولكن هنالك اشتراط واحد واجب الإمكان ألا وهو (المعرفة السابقة)، فكيف يُفرّق السكان الأصليون بين روث التمساح وروث فرس النهر؟ وبين بيض السلحفاة وبيض الزقزاق؟ وهل للمؤمنين معرفة سابقة بالله، تجعلهم يقولون إن (الكون يدل على وجود الله)؟ الواقع يقول إن لا أحد يمتلك هذه المعرفة السابقة على الإطلاق.


إن مقولة (البعرة تدل على البعير) تمت إعادة صياغتها بطريقة رياضية وفقاً للتغيّرات المعرفية المتقدمة في تاريخ حركة الإنسان، وتمثل فيما يُسمى بمبدأ (السببية) أو العلّية، وهي تقضي بأن لكل موجود موجد بالضرورة، ولكن من غرائب العقلية الدينية أنه يرفض تطبيق هذا المبدأ بكُلياته، بحيث يتم استثناء الإله من هذا المبدأ عندما نطرح السؤال المنطقي: إذا كانت البعرة تدل على البعير، فعلى مَن يدل البعير؟ وبالتالي فعلى مَن يدل الله؟ والسؤال بصيغة أقل حدّة (من أوجد الله؟) وتكون الإجابة الصادمة للعقل هو أن الله هو الشيء الوحيد الذي وُجد من غير مُوجد! والمؤمنون متصالحون تماماً مع هذا الانقطاع المنطقي لهذا المبدأ العام "

ويقول ملحد آخر : " يستخدم المتدين مثال الساعة والبعرة للاستدلال على مسبب، ويشبه الخنفساء مثلاً بالساعة، فهذه أيضاً معقدة التركيب ولها نظام دقيق وهدف، وهو التكاثر والبقاء.

ولكن هناك مغالطة ضخمة وخداع مشين للذات في هذا التشبيه. وهو أننا نعرف تمام المعرفة أن الساعة مصنوعة ولها مسبب، فقد شاهدنا (أي بعضنا) من ركبها، وكيف ركبها، وكيف صنعت قطعها، وكيف جاءت ومن أين جاءت. وكذلك نعرف أن البعرة سببها البعير، فقد شاهدناه وهو يتبرزها. ولكن لم يشاهد أو يشعر أو يتحسس أحد منا بأي كيان، ميتافيزيقي بالخصوص، وهو يصنع الخنفساء أو الطير أو القطة أو الإنسان أو أي كائن طبيعي آخر ".

ويقول ملحد آخر : " عندما تدل البعرة على البعير فهذا البعير نعرفه وقد رأيناه من قبل ، ولكن لو أتى شخص غريب ولم ير من قبل أي بعير في حياته من قبل أو حتى سمع عنه وهذا الشخص قد أتى إلى الصحراء وقد رأى براز البعير لأول مرة.. فهل سيتمكن هذا الشخص من الاستدلال على البعير الذي لم يراه من قبل ! ، بالطبع لم يتمكن من معرفة من هو صاحب هذا البراز أبدا ما لم ير صاحبه ( البعير ) بأم عينه وهو يتبرز أمام عينيه ! وكذلك الأمر ينطبق على الساعة أو أي آلة معقدة عندما يراها رجلا من سكان الأدغال لأول مرة في حياته فإنه سوف ينسب تلك الساعة إلى الجن أو الأشباح أو أي آلهة قد سمع عنها أو عبدها ! دون أن يخطر على باله بأنها من صناعة البشر مثله ! ولكنه أكثر تطورا وتعلما منه بأشواط كثيرة جدا ! بحيث لو بقيت تلك الساعة بحوزة ذلك الرجل ساكن الأدغال مدى حياته كلها ! فلم يهتدي ابدا من هو صاحبها الحقيقي وكيف نشأت ! ولو كان هذا الرجل من أذكى رجال قومه ! وهذا الأمر أيضا ينطبق على الإنسان المؤمن برب السموات والأرض !! عندما يرى حجم الكون المذهل وتعقيد جميع الكائنات الحية.. فأنه سوف يقع وقد وقع بالفعل في نفس الخطأ الذي وقع به الرجلان الافتراضيان كما أسلفت في المثالين السابقين عندما نسب كل ما رآه إلى ربه الوهمي ( الله ) ! ولم يستوعب عقله أبدا أن يكون كل ما يراه هو نتيجة طبيعية بحتة والكائنات الحية مهما بلغت من تعقيد فهي لا تحتاج إلى أي رب على الإطلاق لينشئها وهي تنشأ حيث الظروف المناسبة لنشأتها ! وهذا الشيء قد تم إثباته تباعا عن طريق أجيال من العلماء العباقرة والباحثين " .




[1] - البيان والتبيين للجاحظ 1/163.

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 04:07 PM
عدم تعيين الفاعل على وجه التحديد لا يستلزم عدم وجود الفاعل

من البديهيات أن حدوث أي فعل يستلزم وجود فاعل له فحدوث الكتابة يستلزم وجود كاتب ،وحدوث البناء يستلزم وجود بان ،وحدوث الضرب يستلزم وجود ضارب ،وحدوث السرقة يستلزم وجود سارق وحدوث القتل يستلزم وجود قاتل .

والجزم بوجود فاعل للفعل لا يعني القدرة على تعيين فاعل الفعل دون الحاجة لأدلة وبراهين تفيد ذلك إذ تعيين فاعل الفعل يحتاج لأدلة وبراهين تفيد تعيين ذلك الفاعل دون غيره ،فحدوث جريمة ما يستلزم وجود مرتكب لها أما معرفة مرتكب الجريمة بعينه وتحديده دون غيره فيحتاج لأدلة وبراهين تفيد ذلك ،وحدوث كتابة على ورقة يستلزم وجود كاتب لها أما معرفة كاتب الورقة بعينه وتحديده دون غيره فيحتاج لأدلة وبراهين تفيد ذلك ،ورسم منظر طبيعي خلاب يستلزم وجود رسام مبدع أما معرفة من رسم هذا المنظر الطبيعي بعينه وتحديده دون غيره فيحتاج لأدلة وبراهين تفيد ذلك.

وهذا الكون الذي نعيش فيه له لحظة بداية ولحظة تكوين ولحظة إنشاء ،وهذا يستلزم وجود مبدئ ومكون و منشئ له ،وهو الإله الخالق ،ومعرفة من هو هذا الإله الخالق وتعيينه يحتاج لأدلة وبراهين تفيد ذلك ،وهذه الأدلة والبراهين لابد أن تكون موجودة ظاهرة واضحة إذ لا يعقل أن من خلق هذا الكون بهذا الإبداع وهذا التناسق وهذا الجمال وهذا النظام و هذا الاتساع لا يضع للناس أدلة تدل عليه و تعرف الناس به ،وإذا كان من اخترع شيئا من الأشياء يبين للناس أنه مخترع ذلك الشيء بل ويغضب إذا نسب الاختراع لغيره فكيف بمن أبدع السموات و الأرض ،وخلق هذا الجمال على غير مثال ؟!!

ولا يصح الاعتراض على مقولة البعرة تدل على البعير بأنها لم تبين من الفاعل على وجه التحديد ؛ لأن تعيين الفاعل على وجه التحديد يحتاج لأدلة وبراهين تفيد التحديد والتعيين ،ولا يلزم من عدم تعيين الفاعل على وجه التحديد عدم وجود الفاعل أي عدم تعيين الفاعل لا ينفي وجود الفاعل بمعنى أن الاختلاف في تعيين و تحديد الفاعل لا يمنع من الإقرار بوجود الفاعل .

ومنطق هؤلاء الملاحدة هداهم الله أن مادام يوجد عدة احتمالات للبعير فلا يصح أن يقال البعرة تدل على البعير مع أن الإقرار بوجود بعير بعر البعرة شيء ،وتحديد من ذلك البعير الذي بعر هذه البعرة شيء آخر ، وعدم معرفتي بالبعير الذي بعر البعرة لا يمنع من إقراري بوجود بعير بعر البعرة .

ومنطق الملاحدة في نشأة الكون أن مادام يوجد عدة احتمالات لمنشئ الكون فلا يصح أن يقال أن للكون منشئ مع أن الإقرار بوجود منشئ للكون شيء ،وتعيين ذلك المنشئ على وجه التحديد شيء آخر ،وعلى التسليم الجدلي تنزلا مع الملاحدة أني لا أعرف من منشئ الكون على وجه التحديد فهذا لا ينفي أن للكون منشئ .

مقولة البعرة تدل على البعير مقولة بديهية

إن مقولة البعرة تدل على البعير مقولة بديهية أوضح من أن توضح وهي مثل الكتابة تدل على كاتب ،والبناء يدل على بان ،وهذه معارف أولية لا تحتاج في تصورها أو التصديق بها إلى اكتساب أو معرفة سابقة أي علم الإنسان بأن البعرة تدل على البعير ليس موقوفا على معرفة سابقة للبعير وإنتاجها للبعرة كقولنا الكل أكبر من الجزء ،و النقيضان لا يجتمعان ، والخطّان المُتوازيان لا يتقابلان .

وبمجرد أن يرى الإنسان بعرة يدرك أن لها سبب ولها محدث ولها فاعل حتى وإن كانت أول بعرة يراها في حياته كما أن الإنسان إذا رأى كتابة يدرك أن لها سبب ولها محدث ولها فاعل حتى وإن كانت أول كتابة يراها في حياته .

وبمجرد أن يدرك الإنسان أن شيء من الأشياء أثر يعلم أن سببه مؤثر ، وبمجرد أن يدرك الإنسان أن شيء من الأشياء فعل يعلم أن سببه فاعل ،وهذا العلم لا يحتاج إلى رؤية سابقة للمؤثر أو الفاعل ،و عليه فالعلم بأن البعرة سببها البعير لا يحتاج إلى رؤية سابقة لبعير يبعر كي يعلم بأن للبعرة باعر ، وهو مثل العلم بأن الكتابة سببها كاتب ،ولا يحتاج الإنسان لرؤية سابقة لإنسان يكتب كي يعلم بأن للكتابة كاتب ،ومثل العلم بأن البناء سببه بان ،ولا يحتاج الإنسان لرؤية سابقة لإنسان يبني كي يعلم بأن للبناء بان ،ومثل العلم بأن الضرب سببه ضارب ،ولا يحتاج الإنسان لرؤية سابقة لإنسان يضرب كي يعلم بأن للضرب ضارب ،ولو رأى إنسان كرسيا لأول مرة علم أن له صانع ،ولا يحتاج ذلك لرؤية نجار يصنع الكرسي .

وهذا الكون الذي نعيش فيه له لحظة تكوين و إنشاء ووجد بعد أن لم يكن موجودا ،وهذا يستلزم وجود مكون و منشئ و موجِد له ،وهو الإله الخالق ،والعلم بذلك لا يحتاج إلى رؤية سابقة للإله ،وهو يكون الكون وينشئه و يوجده ،و إذا كان أصغر شيء مصنوع في الكون لم نر صانعه يستحيل أن يكون بلا صانع فكيف يصح أن يقال هذا الكون بأكمله بلا خالق لأننا لم نر الخالق وهو يخلق الكون ؟!!!
عدم تصور فاعل الفعل لا يستلزم عدم تعقل وجوده
و عدم تصور السبب لا يستلزم عدم تعقل وجوده

إن الإقرار بوجود فاعل للفعل ،وتعقل وجوده لا يستلزم تصور ذلك الفاعل ،وعدم تصور فاعل الفعل لا يستلزم عدم تعقل وجوده بمعنى آخر عدم تصور السبب لا يستلزم عدم تعقل وجوده ولا ينفي وجوده، و معنى التصور استحضار صورة الشيء في الذهن [1] أو حصول صورة الشيء في العقل [2] ،و قد يطرق باب بيتي طارقا فأجزم أن هناك طارقا بالباب وأعقل أن هناك طارقا بالباب لكن لا أدري من هذا الطارق ولا أتصور من هذا الطارق قد يكون إنسانا قد يكون رجلا قد يكون امرأة قد يكون طفلا قد يكون قطة قد يكون كلبا ،وعليه فعدم تصوري للطارق الذي بالباب لا ينفي تعقلي بوجود طارق بالباب ،ولا ينفي وجود طارق بالباب .

و الأجسام تسقط على الأرض بفعل الجاذبية الأرض ،ونحن نعقل وجود الجاذبية ،ولكننا لا نستطيع تصور هذه الجاذبية الأرضية رغم وجودها ،وعدم تصورنا لهذه الجاذبية الأرضية لا ينفي وجودها .

والمغناطيس يجذب المواد المصنوعة من الحديد ، والكوبلت ، والنيكل ، والكروم والمنجنيز والجادولينيوم وغيرها بفعل الظاهرة المغناطيسية ،ونحن نعقل وجود الظاهرة المغناطيسية ،ولكننا لا نستطيع تصور هذه الظاهرة المغناطيسية رغم وجودها ،وعدم تصورنا لهذه الظاهرة المغناطيسية لا ينفي وجودها .

وبالعقل يدرك الإنسان الأشياء و يميز بين الحسن و القبيح و الخير والشر ،ونحن نعقل وجود العقل ولكننا لا نستطيع تصور هذا العقل رغم وجوده ،وعدم تصورنا للعقل لا ينفي وجوده .

يقول الشعراوي – رحمه الله - : ( وفَرْق بين التعقُّل والتصوُّر، والذي أتعب الفلاسفة أنهم خلطوا بينهما، فالتعقل أن أنظر في آيات الكون، وأرى أن لها موجداً، أمّا التصور فبأنْ أتصور هذا الموجِد: شكله، اسمه، صفاته. . إلخ وهذه لا تتأتى بالعقل، إنما بالرسول الذي يأتي من قِبَل الإله الموجد.
وسبق أن ضربنا مثلاً - ولله تعالى المثل الأعلى - قلنا: لو أننا نجلس في مكان مغلق، وطرق الباب طارق، فكلنا يتفق على أن طارقاً بالباب لا خلاف في هذه، لكن نختلف في تصوُّره، فواحد يتصور أنه رجل، وآخر يقول: طفل، وآخر يتصوَّره امرأة، وواحد يتصوره بشيراً، وآخر يتصوره نذيراً. . إلخ.
إذن: اتفقنا في التعقُّل، واختلفنا في التصور، ولكي تعرف مَن الطارق فعلينا أن نقول: من الطارق ؟ ليعلن هو عن نفسه ويخبرنا مَنْ هو؟ ولماذا جاء؟ ويُنهي لنا في هذا الخلاف.
كذلك الحق - تبارك وتعالى - هو الذي يخبرنا عن نفسه، لكن كيف يتم ذلك؟ من خلال رسول من البشر يستطيع أنْ يتجلى الله عليه بالخطاب، بأن يكون مُعدّاً لتلقِّي هذا الخطاب، لا أنْ يخاطب كل الناس.
وقد مثَّلْنا لذلك أيضاً (بلمبة) الكهرباء الصغيرة أو (الراديو) الذي لا يتحمل التيار المباشر، بل يحتاج إلى (ترانس) أو منظم يعطيه الكهرباء على قَدْره وإلا حُرق، فحتى في الماديات لا بد من قوي يستقبل ليعطي الضعيف.
والحق سبحانه يُعد من خَلْقه مَنْ يتلقى عنه، ويُبلِّغ الناس، فيكلم الله الملائكة، والملائكة تكلم الرسل من البشر )[3].



قول المؤمنين بوجود خالق للكون مبني على علم وليس على جهل

إن قول المؤمنين بوجود خالق للكون قول مبني على علم ،وليس قولا مبنيا على جهل ، والكون نفسه وُجِد بعد أن لم يكن موجودا ،وأُحدِث بعد أن لم يكن حادثا فلابد أن يكون له موجِد ومحدِث ،وعندنا أربعة احتمالات لوجود الكون فإما أن يكون الكون قد وجد صدفة أو يكون الكون قد أوجد نفسه بنفسه أو الطبيعة أوجدته أو هناك خالق خلقه .

والاحتمال الأول مرفوض ؛ لأن الصدفة ليست بشيء حتى تستطيع أن توجد شيئا ،و الصدفة ليست فاعلة ،ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل ،والفعل لا يوجد بدون فاعل ،ومعنى أن الفعل حدث صدفة أي الفعل حدث دون قصد وترتيب مسبق من الفاعل ووصف كيفية حدوث الفعل لا ينفي وجود فاعل له ،وعندما نسمع أن أثرا من الآثار الفرعونية اكتشف صدفة لا نفهم من ذلك أن الأثر ليس له مكتشف [4]،وعندما نسمع أن أحد القوانين الفيزيائية اكتشف صدفة لا نفهم من ذلك أن القانون ليس له مكتشف[5] ،وعندما نسمع أن شيئا من الأشياء اخترع صدفة لا نفهم من ذلك أن هذا الشيء ليس له مخترع [6] .

والاحتمال الثاني مرفوض ؛ لأن الكون لم يكن موجوداً قبل أن يوجد فكيف يوجد شيئاً وهو غير موجود أصلا ،وفاقد الشيء إذا كان لا يملِكه ولا يملك أسبابه لا يعطيه ؟ ، والقول بأن الكون أوجد نفسه بنفسه يلزم منه وجود الكون قبل وجوده ، و هذا محال .

والاحتمال الثالث مرفوض إذ الطبيعة قد تعني ذوات الأشياء المادية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا من جماد وحيوان ونبات ،وقد تعني صفات الأشياء الموجودة في الكون من حركة وسكون, وحرارة وبرودة, وليونة ويبوسة, وغير ذلك وقد تعني مجموع السنن و القوانين المتحكمة في ظواهر العالم المشاهد المحسوس السارية على جميع موجوداته فإن عني بالطبيعة ذوات الأشياء المادية المحسوسة الموجودة في الكون حولنا من جماد وحيوان ونبات فهذا مقتضاه أن الكون قد أوجد نفسه بنفسه و الكون علة لنفسه وهذا فاسد ،ومن المعلوم أن الشيء لا يخلق شيئاً أرقى منه، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار وغير ذلك لا تملك عقلاً ولا سمعاً ولا بصراً، فكيف تخلق إنساناً سميعاً عليماً بصيراً ! وإن عني بالطبيعة صفات الأشياء فهذا التفسير أفسد من التفسير السابق ؛ لأنه إذا عجزت ذات الأشياء عن إيجاد نفسها فعجز صفاتها من باب أولى ،وإن عني بالطبيعة القوانين التي تتحكم في الكون فهذا باطل ؛ لأن القوانين تحتاج لمن يسنها و يقننها ،و لا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج شيئا للوجود ،ولا يمكن لقوانين الطبيعة أن تنتج حدثا من الأحداث بل غاية قوانين الطبيعة وصف العلاقة بين أحداث معينة بعدما أوجدتها الأسباب ،ومن يعتقد أن القوانين تستطيع أن تسبب شيئا من الأشياء كمن يعتقد أن القوانين الحسابية يمكن أن توجد مالا ،و كمن يعتقد أن القوانين التي تعمل بها السيارة يمكن أن تخلق السيارة أو تسير السيارة دون الحاجة لمن يقودها و هذا قول في غاية السخف والسقوط .

و إذا بطلت الاحتمالات الثلاثة تعين أن يكون الاحتمال الرابع ،وهو وجود خالق للكون هو الصحيح لفساد ما ينقضه .

[1] - انظر المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية ص 45
[2] - المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا ص 281
[3] - تفسير الشعراوي 19/11692
[4] - يوجد الكثير من المقابر الفرعونية التي اكتشفت صدفة ، ومن ذلك اكتشاف أهالي أحد قرى أشمون المنوفية مصر بالصدفة مدخل مقبرة فرعونية إثناء إجراء حفائر لتشييد مسجد وقاموا بإبلاغ مسئولي المجلس الأعلى للآثار الذين أوفدوا لجنة فنية وأثرية متخصصة وتبين لهم أنه من الاكتشافات الأثرية المهمة ويعود إلي العصر الفرعوني المتأخر للدولة الفرعونية القديمة .
[5] - يوجد الكثير من القوانين الفيزيائية التي اكتشفت صدفة ،ومن ذلك اكتشاف أرشميدس لقانون الطفو ،واكتشاف نيوتن للجاذبية .
[6] - من الأشياء التي اخترعت عن طريق الصدفة اختراع هانز ليبرش للنظارة الطبية ،و اختراع جون واكر لأعواد الثقاب واختراع ليبارون سبنسر للميكروويف

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 04:09 PM
و إن قال الملاحدة قول المؤمنين كل حادث يحتاج إلى محدث قول بلا دليل و لا سبيل للبرهنة عليه و مهما جمع من أدلة من العالم فإنها لا تكفي للوصول إلى الكلية لاستحالة اختبار كل الحوادث و معرفة هل هي محتاجة إلى محدث أو لا فالجواب هذه سفسطة لا أثارة عليها من علم إذ مقولة الحادث لا بد له من محدِث من البديهيات .

و البدهيات هي حقائق ضرورية لا تحتاج إلى برهان، أي أنها تفرض نفسها على الذهن بحيث لا يحتاج إلى برهان لإثباتها ويجمع العقلاء على صحتها واعتمادها كأصول ضرورية لازمة ، و هي تعتبر أسسا و قواعد أولية ومقاييس تبنى عليها باقي الأفكار، وبراهين لإثبات صدق غيرها من الأفكار .

و مقولة كل حادث لابد له من محدث هي كمقولة كل كتابة لابد لها من كاتب و لو رأي شخص كتابة فقال لابد لها من كاتب فاعترض عليه آخر قائلا : ( أثبت لي أن هذه الكتابة تحتاج لكاتب و هل اختبرت كل الكتابات لتعرف هل تحتاج إلى كاتب أم لا ) لعده الناس مجنونا .

و مقولة كل حادث لابد له من محدث بديهية مستغنية أن يذب عنها يستدل بها و لا يستدل لها فالسؤال عن إثباتها يعتبر خطأ فادح كالتصديق بأن النار حارة فهذا التصديق لا يحتاج إلى إثبات و جمع الأدلة عليه من كل العالم .

و إني أسأل عن شخص يفكر في وجود جهاز دقيق الحجم معقد التركيب محكم الوظائف وجد بلا موجد ما حكمه عند العقلاء و أيهما أعظم في الحكم هذا الجهاز الدقيق أم هذه خلية الإنسان الحية ،وهي دقيقة الحجم معقدة التركيب محكمة الوظائف أضف إلى ذلك أنها تنمو و تتكاثر و تتنفس و تتغذى و تقوم بعمليات حيوية تعجز عن محاكاتها أكبر المصانع في العالم ، و الأعجب من هذا أن المواد الميتة خارج الخلية كالكربوهيدرات و البروتينات عندما تعبر غشاء الخلية و يسمح لها بالاندماج مع مكونات الخلية وعضياتها تتحول هذه المواد من مواد ميتة لا حياة فيها إلى عضيات حية تتغذى ، وتتنفس ؟!!


والكون الذي نعيش فيه محكوم بقوانين لا يحيد عنها ،ولاينفك عنها فهي مفروضة عليه فرضا فلابد أن يكون لها من قننها و سنها وفرضها و عندنا ثلاث احتمالات لمن سن هذه القوانين إما أن يكون الكون نفسه هو الذي سن هذه القوانين أو القوانين نفسها أو شيء آخر خارج عن الكون .

و الاحتمال الأول مرفوض إذ يلزم منه وجود الكون قبل وجوده .

و الاحتمال الثاني مرفوض ؛ لأنه تصوير للقوانين على أنها فاعلة محركة ،و القوانين مجرد وصف سلوك لظاهرة في الكون يتكرر تحت نفس الظروف .

و الاحتمالان السابقان باطلان فتعين الاحتمال الثالث لفساد ما ينقضه ،وهو أن يكون من سن قوانين الكون شيء خارج عن الكون فهذا إثبات لشيء خارج عن الكون ،وهو الإله الخالق .

و نجد هذا الكون الذي نعيش فيه في غاية الانتظام فتجد المطر لا يستطيع أن يمتنع عن الأرض فتنعدم الحياة ويهلك الناس ،و الأرض لا تستطيع أن تمتنع عن إنبات الزرع و ما رأينا يوما تعطل الشمس أو سقوط نجم من السماء على الأرض و غير ذلك من الأمور ،و كل هذا يدل على وجود خالق قدير يحفظ نظام هذا الكون فلابد للتنظيم من منظم ، قال تعالى : ﴿ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : 164 ] ، وقال تعالى : ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ و إذا كان العقل يحيل انتظام عمل مصنع من المصانع دون منظم لهذا المصنع فكيف بهذا الكون الشاسع ؟!

و إن قال الملاحدة الاستدلال بدليل النظام قائم على التشابه بين الكائنات الطبيعية و المصنوعات البشرية فلأننا شاهدنا أن جميع المصنوعات البشرية لا تخلو من صانع ، فلا بد أن يكون للكون المنظَّم من صانع خالق ، و هذا التشابه بمجرده لا يكفي لسحب و تعْدِيَة حكم أحدهما إلى الآخر لاختلافهما ، فإن مصنوعات البشر موجودات صناعية ، بينما الكون موجود طبيعي .

و الجواب أن العقل المدُقّق في حقيقة النظم و المتتبع لعلته ، سيحكم فورا بأن مصدر النظام هو خالق حكيم عالم قد أوجد الأجزاء المختلفة كمّا وكيفا ، ورتبها ونسقها بحيث يمكن أن تتفاعل في ما بينها ، وتتعاون لتحقيق الهدف المطلوب والغاية المقصودة من إيجادها وهذا الحكم الذي يصدر عن العقل لا يستند إلى شيء سوى إلى ماهية النظام وطبيعته الرافضة للتحقق بلا فاعل عالم ومدبر، ولا يستند إلى التشابه ، ولا إلى التجربة كما زعموا فبرهان النظم قائم على إدراك الحس بوجود النظام في الكون بملاحظة العقل للنَّظم و التناسق و الانضباط بين أَجزاء الوجود أي ملاحظة نفس ماهية النظام من دون تنظيرها بشيء ، فيحكم بما هو هو، من دون دخالة لأَية تجربة و مشابهة ، بأَنَّ موجد النَّظم لا محالة يكون موجوداً حكيما قديرا .

و برهان النظام قائم أيضا على البديهة العقلية القاضية بأن النظام لا يكون إلا من منظم ذي إرادة و قدرة وحكمة و ما ذكروه من أن هذا مصنوع ، و هذا طبيعي لا يلغي وجود النظام في كليهما ، و لا يلغي البديهة العقلية القاضية بوجود منظم للكون .

و الفارق الذي ذكروه بين الأحداث التي تكون في الطبيعة و التي يفعلها الانسان غير مؤثر إذ لا فارق بين الأحداث التي تكون في الطبيعة و التي يفعلها الانسان من حيث السبب و العلة .


و إن قال الملاحدة لا يمكن الحكم على الكون أنه منتظم فهل لدينا كون آخر يمكن مقارنته بهذا الكون حتى يمكننا القول بأن كوننا منظم و الجواب لا يشترط في القول بأن الكون منتظم وجود كون آخر يقارن بكوننا ، فوصف أي شيء بصفة لا يستلزم وجود مماثل له لكي يوصف و الشيء يوصف عن طريق رؤيته بالبصر أو الإحساس به عن طريق الحواس الأخرى أو رؤية الشبيه بالبصر أو الإحساس بالشبيه عن طريق الحواس الأخرى .

و لعل الملاحدة خلطوا بين وصف الشيء و مقارنة الشيء بغيره فالمقارنة تحتاج وجود شيء آخر يقارن بالشيء مثل فلان جميل هذا وصف و عند مقارنة فلان بغيره تقول فلان أجمل من فلان و هذا الشيء منظم و هذا الشيء أكثر نظاما من هذا الشيء .

و إن قال الملاحدة لو كان هناك كيان صمم هذا النظام فهذا يعني أن هذا الكيان بنفس الفرض هو محكم ومعقد أكثر من الكون فمن أين أتى هذا الكيان ؟ و الجواب أن القول بوجود منظم للكون لا يفرض وجود سبب لهذا المنظم ؛ لأن الذي نظم الكون هو الخالق و الخالق ليس كالمخلوق و لا يصح أن يُقاس القديم الأزلي الذي لا أول له على الحادث الذي له أول و هل يوجد لله شبيه حتى نشبه الله به و الله ليس له شبيه .

و إن قال الملاحدة لا يصح أن يقال أن الكون منظم لوجود الفوضى في الكون و الجواب هذه الظواهر التي يدعون أنها فوضوية لا تلغي وجود نظام في الكون فكم يوجد في الكون من أشياء منظمة منسقة حتى أبهرت علماء الفيزياء و الأحياء و الكيمياء و الفلك و الجولوجيا و غيرهم .

و الفوضى تستلزم عدم وجود أنظمة و قوانين تحكم هذه الظواهر الفوضوية و إمكان استنتاج قوانين عامة تحكم هذه الأمور يدل على انتظامها و ليس على عدم انتظامها ، و لا يوجد شيء في الكون في الغالب لا يخضع لقوانين ،و ما لم يتم معرفة قوانينه فهذا لقصور العلم في الوقت الحالي و مع مرور الزمن سيكشف لنا العلم وجود نظام لهذه الظواهر .

و ما دامت الفوضى تخضع لقوانين فليست فوضى ، و لكن نظام مرتب لم يتم الكشف عن ماهيته الحقيقية ، و هل وجود ظواهر فوضوية في الكون كما يدعون ينفى وجود موجد لها ؟!!

و النظام هو السائد في الكون بدليل إمكان العلماء من وضع قوانين للظواهر الفيزيائية و الطبيعية فلو كانت الفوضى هي السائدة لما تمكن العلماء من وضع قوانين تحكم الكون .

ووجود الكائنات الحية دليل على وجود خالق حي وهب الحياة لها فالحياة لا تأتي إلا من حي ،و من يقول من الملاحدة: " نشأة الحياة ليست دليلا على وجود خالق ؛ لأنها نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي استمر لملايين السنين ابتداء من الكيميائيات البسيطة مروراً بالجزيئات المتعددة و الجزيئات المتعددة الناسخة ذاتياً داخلةً بدورات تحفيزية وصولاً إلى كائنات ما قبل بكتيرية وأخيراً وصولاً إلى بكتريا بسيطة " فالجواب هذا الكلام لا يصح ،و ينم عن الجهل بمفهوم الصدفة إذ على التسليم الجدلي تنزلا مع الملاحدة أن الحياة نشأة صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات فهذا لا ينفي وجود خالق للحياة ؛ لأن الصدفة ليست فاعلة ،ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل ،والفعل لا يوجد بدون فاعل .

وعلى التسليم الجدلي أن الملاحدة قدموا الآلية الصحيحة لنشأة الحياة فهم تكلموا عن كيفية نشأة الحياة ، و ليس لماذا نشأة الحياة ومن الذي أنشأها ؟ ، ومن الذي جعلها تنشأ بهذه الطريقة ؟ إذ العلم يبحث عن الفعل ،و لا يبحث عن الفاعل ،و يبحث عن الحدث ،و لا يبحث عن الحادث.


و لو كانت الحياة قد نشأت نتيجة سلسلة من التفاعلات فلابد من وجود موجِد للمواد التي تتفاعل ، ولابد من وجود من أعطى هذه المواد القابلية للتفاعل ،وهذه السلسلة من التفاعلات لها شروط معينة للحدوث فتحتاج إلى من يهيئ لها الشروط المعينة لحدوثها ،وهذه السلسلة من التفاعلات تحتاج إلى من يحافظ عليها كي تعطي نتائجها .
ولو كانت الحياة قد تطورت من مادة غير حية فمن الذي طور هذه المادة ؟ إذ أي تطور لابد له من مطور ، و إن قيل المادة هي التي طورت نفسها عبر ملايين السنين ،فالجواب هذا الكلام يستلزم أن الأدنى يتطور بنفسه إلى الأعلى ،و التطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، أمرٌ مستحيل عقلاً، إذ الناقص لا ينتج الكامل في خطةٍ ثابتة ، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود[1] ،و يلزم من هذا الكلام قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض[2].

ومن يدعي من الملاحدة أن توافر الظروف لنشأة الحياة أدى لنشأة الحياة دون الحاجة لمسبب فدعواه في غاية السخف والسقوط ،وهو كمن يقول توافر الظروف لحدوث الجريمة أدي لحدوث الجريمة ،وعليه فليس للجريمة مرتكب .

وقد عرفنا خالق الكون بنفسه وبأسمائه وبصفاته و بخلقه للكون وبما يحبه و بما يكره من خلال رسله وأنبيـائه المؤيدين بالمعجزات وأخبرنا أنه الله ،وأخبرنا أنه هو الذي خلقنـا و لو كان هناك خالق غير الله لأدعى الخلق ، و لم يدع أحد غير الله لنفسه الخلق إلا خذله الله في الدنيا و افتضح أمره ، أما الله سبحانه فقد قال أنه الخالق لكل شيء عن طريق رسله و أنبيائه و لم ينازعه أحد قال تعالى : ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [ فاطر : 3 ] ،وقال تعالى: ﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54] ، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62] و قال تعالى : ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد : 16]


[1] - كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني ص 331
[2] - كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني ص 446

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 04:11 PM
مقولة البعرة تدل على البعير من باب ضرب المثل

إن قول الأعرابي البعرة تدل على البعير كانت على سبيل ضرب المثل والقياس ليتضح قوله ،ويزداد الكلام بالمثل وضوحا كما قيل بالمثال يتضح المقال .

ولسان حال الأعربي يقول إذا كانت البعرة تدل على فاعلها ،وهي أقل شأنا من وجود الليل والنهار والسماء والنجوم فمن باب أولي وجود الليل والنهار والسماء والنجوم والكون بأكمله يدل على وجود فاعله ،وهو الإله الخالق .

وإذا كان أثر السير يدل على فاعله ،وهو أقل شأنا من وجود الليل والنهار والسماء والنجوم فمن باب أولي وجود الليل والنهار والسماء والنجوم والكون بأكمله يدل على وجود فاعله ،وهو الإله الخالق قال تعالى : ﴿ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : 164 ]

والإنسان حين ينظر في الكون وفي آياته لا بُدَّ أنْ يصل من خلالها إلى الخالق عَزَّ وَجَلَّ، فما كان لها أنْ تتأتى وحدها، ثم إنه لم يدَّعها أحدٌ لنفسه ممَّنْ ينكرون وجود الله، وقلنا: إن أتفه الأشياء التي نراها لا يمكن أن توجد هكذا بدون صانع، فمثلاً الكوب الذي نشرب فيه، هل رأينا مثلاً شجرة تطرح لنا أكواباً ؟

إذن: لا بُدَّ أن لها صانعاً فكر في الحاجة إليها، فصنعها بعد أنْ كان الإنسان يشرب الماء عباً، أو نزحاً بالكفن وما توصلنا إلى هذا الكوب الرقيق النظيف إلا بعد بحث العلماء في عناصر الوجود، أيها يمكن أنْ يعطيني هذه الزجاجة الشفافة، فوجدوا أنها تُصنَع من الرمل بعد صَهْره تحت درجة حرارة عالية، فهذا الكوب الذي يمكن أنْ نستغني عنه أخذ منا خبرة وقدرة وعلماً . إلخ فما بالك بالشمس التي تنير الكون كله منذ خلق الله هذا الكون دون أنْ تكلّ أو تملَّ أو تتخلف يوماً واحداً، وهي لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى قطعة غيار، أليست جديرة بأن نسأل عمَّنْ خلقها وأبدعها على هذه الصورة، خاصة وانها فوق قدرتنا ولا تنالها إمكاناتنا[1].


وليس في مقولة البعرة تدل على البعير إهانة للذات الإلهية ،ولا تشبيه الكون ببعرة أو تشبيه الخالق ببعير كما يزعم الملاحدة هداهم الله ؛ لأن المقولة أتت على سبيل ضرب المثل ،وتشبيه حال أمر بحال أمر آخر ،وتنبيه الذهن على قياس النظير على النظير .

والعربي يضرب مثلا لسوء الْجَزَاء بقوله : جزاه جَزَاء سنمار ،وَكَانَ سنمار بِنَاء مجيداً من الرّوم فَبنى الخورنق للنعمان بن امرئ الْقَيْس فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ النُّعْمَان استحسنه وَكره أَن يعْمل مثله لغيره فَأَلْقَاهُ من أَعْلَاهُ فَخر مَيتا[2] قال النعمان لسنمار: ما رأيت مثل هذا البناء قط. فقال له سنمار: إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله. فقال النعمان أيعرفها أحد غيرك. قال: لا. قال: لأدعنها وما يعرفها أحد.وأمر به قفذف من أعلى القصر[3]،وعندما يقال هذا المثل على شخص لا يقصد بذلك تشبيه هذا الشخص بسنمار ،ولكن تشبيه حاله بحال سنمار .


والعربي يضرب مثلا لمن يرجع بالخيبة بقوله رجع بِخُفَّيْ حنين ،و حنين هو اسم إسكاف من أهل الحيرة، ساومه أعرابي بخفين ولم يشترهما، فغاظه ذلك وعلق أحد الخفين في طريقه، وتقدم فطرح الآخر وكمنَ له، وجاء الأعرابي فرأى أحد الخفين فقال: ما أشبه هذا بخف حنين، لو كان معه آخر لاشتريته. فتقدم فرأى الخف الثاني مطروحا في الطريق فنزل وعقل بعيره ورجع إلى الاول، فذهب الإسكاف براحلته وجاء إلى الحي بخفي حنين[4] فكان هذا مثلا يضرب عند الرجوع بالخيبة[5]. وعندما يقال هذا المثل على شخص لا يقصد بذلك تشبيه هذا الشخص بالأعرابي الذي رجع بِخُفَّيْ حنين ،ولكن تشبيه حاله بحال الأعرابي .

والعربي يضرب مثلا لما يكتفي بمنظره عن تعرف حاله بقوله كفى برغائها[6] منادياً و،َأَصله أَن ضيفاً أَنَاخَ[7] بِفنَاء رجل فَجعلت رَاحِلَته ترغو فَقَالَ الرجل مَا هَذَا الرُّغَاء أضيفٌ أَنَاخَ بِنَا فَلم يعرفنا مَكَانَهُ فَقدم قراه فَقَالَ الضَّيْف كفى برغائها منادياً[8] قَال أبو عبيد: هذا مَئَلٌ مشهور عند العرب يضرب في قَضَاء الحاجة قبل سؤلها، ويضرب أيضاً للرجل تحتاج إلى نُصرتَه أوْ مَعُوْنَتَهُ فلا يحضرك، ويعتلُّ بأنه لم يعلم، ويضرب لمن يقف بباب الرجل فيقَال: أرْسِلْ مَنْ يستأذن لك ويقول: كفى بعلمه بوقوفي ببابه مستأذنا لي، أي قد علِم بمكاني فلو أراد أذِنَ لي[9].

ومما يؤكد عدم قصد الأعرابي الأهانة للذات الإلهية أنه لم يذكر البعرة تدل على البعير وحدها بل اتبعها بقوله وأثر السير يدل على المسير ، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير فلما تغافل الملاحدة عن باقي كلام الأعرابي ؟!!


بطلان سؤال من خلق الله ؟ وكيف جاء الله ؟ومن أوجد الله ؟

إن العقل السليم يبطل سؤال من خلق الله أو كيف جاء الله ؟ أو من أوجد الله ؟، إذ كون الله خالقا يستلزم ألا يكون مخلوقا ،وعليه فلا يصح سؤال من خلق الله أو كيف جاء الله ؟ أو من أوجد الله ؟ ، والأصل في الخالق الوجود إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون ؛ لأن فاقد الشيء الذي لا يملكه، ولا يملك سبباً لإعطائه لا يعطيه ، و إذا كان الأصل في الخالق الوجود فلا يصح أن نسأل عن سبب وجوده أو كيف جاء .

و الخلق يفتقرون إلى خالق ، و لو كان الخالق يفتقر إلى غيره ،وهكذا للزم التسلسل في الفاعلين إلى ما لا نهاية و بالتالي لا يوجد خالق للخلق ، و الخلق فعل و الفعل لا بد أن يكون له فاعلا ،و عدم وجود خالق للخلق يستلزم ألا يوجد فاعل للفعل وهذا باطل .

و سؤال السائل : من خلق الله ؟ يساوي سؤال : ما الذي سبق الشيء الذي لا شيء قبله ؟ و يساوي سؤال : ما بداية الشيء الذي لا بداية له ؟ ويساوى سؤال : ما بداية وجود الشيء الذي لا بداية لوجوده ؟ .


هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات


[1] - تفسير الشعراوي 19/11691
[2] - جمهرة الأمثال للعسكري 1/305
[3] - الحيوان للجاحظ 7/460
[4] - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري 5/2106
[5] - اللباب في قواعد اللغة وآلات الأدب لمحمد علي السراج ص 274
[6] - الرغاء صوت الأبل
[7] - أناخ بالمكان أقام بالمكان واستقر
[8] - جمهرة الأمثال للعسكري 2/151
[9] - مجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني النيسابوري 2/142

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 04:15 PM
التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/94321/) أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=358911)

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 09:24 PM
فساد أكذوبة الملاحدة أن وجود الله مجرد فرضية كفرضية وجود الوحش الاسباجيتي

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله الرد على دعوى الملاحدة أن وجود الله مجرد فرضية كفرضية وجود الوحش الاسباجيتي الطائر يقول أحد الملاحدة هداه الله : " هل تستطيعون إثبات أن وحش المكرونة ( أو السباغيتي ) الطائر الذي يأكل البسكويت غير موجود؟ أليس السؤال المنطقي هنا هو كوني أملك دليلاً على وجوده أم لا؟ هل عدم قدرتكم على إثبات أنه غير موجود يعني أنه موجود؟ بنفس الطريقة، الله غير موجود لأنكم لا تستطيعون إثبات وجوده. والبرهان لا يقع على عاتقنا للإثبات بأن الله غير موجود، بل يقع على عاتق المؤمن أن يثبت أن الله موجود بالدليل، بنفس الطريقة التي يقع على عاتقي إثبات أن وحش السباغيتي الطائر موجود إذا ادعيت ذلك. وما قلته أنا هو قاعدة علمية، فعبئ الإثبات يقع على عاتق المدعي، وليس عبئ الإنكار يقع على عاتق المستمع "

ويقول آخر : " وجود علة أولى لا يعني وجود إلهك الديني ...خلق الكون ليس مسجلا كبراءة اختراع للإله الإسلامي ولا لأي إله آخر ...لماذا يفترض أن الفرضية المقبولة هي فكرة أحد آلهة الأديان وليس مثلا وحش السباغيتي الطائر أو إذا أردنا فرضية اقترحها بعض علماء الفيزياء النظرية فلدينا "نظرية-أم" التي يرى ستيفن هوكنج أنها تفسر وجود الكون دون حاجة إلى خالق؟ "

و قال أحدهم عندما سئل عن أدلته في نفي وجود الله : "ما يقال بغير دليل، ينقض بغير دليل " ،وقال آخر : " لا مانع من وجود إله لكن لماذا لا يكون هذا الإله هو وحش السباجيتي الطائر ؟ "

،وقال آخر : " هل تستطيع إثبات أن الله ليس موجوداً ؟ بالطبع لا.. البينة على من ادعى, القصة أشبه بقصة رجل ذهب إلى الغابة, وعندما عاد قال أنه رأى وحشاً بسبعة أرجل وعشرون جناح, ونظراً لاستحالة الأمر كذبه الجميع, لكن بدلاً من أن يثبت لهم أن الوحش موجود طلب منهم محاولة نفي وجوده, فإن لم يستطيعوا نفي وجوده فهذا يعني أنه موجود المنطق الذي قام عليه السؤال غبي جداً, إذا ادعيت أن عندي إله اسمه وحش السباغيتي الطائر, هذا الإله أوحى برسالة لنا وطلب منا أن نعبده, هل تستطيع أن تكذب كلامي ؟ هل علي أن اثبت لك أن وحش السباغيتي الطائر موجود أم عليك أنت أن تحاول نفي وجوده ؟"






وجود خالق للكون ليس فرضية من الفرضيات

إن قضية وجود خالق للكون ليس فرضية من الفرضيات قد يثبت الدليل صحتها وقد يثبت خطأها بل قضية وجود خالق للكون قضية بديهية و حقيقة ثابتة مستقرة في النفوس والفطر ، ولا يمكن إنكار وجوده إذ العلم بوجود خالق للكون كالعلم بوجود كاتب للكتابة و بانٍ للبناء و مؤثر للأثر وفاعل للفعل ومحدث للحدث ،وهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل فهي واضحة ظاهرة ،والواضح لا يحتاج إلى توضيح ، والظاهر لا يحتاج إلى استظهار .

قال سيد سابق – رحمه الله - : ( إن وجود الله حقيقة لا شك في أمرها ، ولا مجال لإنكارها ، فهو ظاهر كالشمس باهر كفلق الصبح، وكل ما في الكون شاهد على هذا الوجود الإلهي ، ومواد الطبيعة وعناصرها تؤكد أن لها خالقًا ومدبرًا .

فالعالم العلوي، وما فيه من شموس وأقمار ونجوم وكواكب، والعالم الأرضي وما فيه من إنسان وحيوان ونبات وجماد، والترابط الوثيق، والتوازن الدقيق، الذي يؤلف بين هذه العوالم، ويحكم أمرها .. ما هو إلا آية وجود الله، ومظهر تفرده بالخلق، ولا يتصور العقل أن توجد هذه الأشياء بدون موجد، كما لا يتصور أن توجد الصنعة بدون صانع.

فإذا كان العقل يحيل أن تطير طائرة في الهواء، أو تغوص غواصة في الماء دون أن يكون فيه صانع للطائرة، ومنشئ للغواصة، فإنه يجزم جزمًا قاطعًا باستحالة وجود هذا الكون البديع، وهذه الطبيعة الجميلة من غير خالق خلقها، ومدبر دبر أمرها )[1].

وقال د .جعفر شيخ إدريس – حفظه الله - : ( إن وجود الإله الخالق أمر تعرفه العقول بداهة، لذلك لم يكن ينكر وجود الإله الخالق فيما مضى إلا فئات قليلة من البشر، ولذلك كانت الرسالات السماوية تُبنى على إقرار الناس بوجود الرب تعالى، وأنه هو الذي خلقهم ويرزقهم ويحييهم و يميتهم، ثم تزيدهم علمًا به، وتدعوهم إلى عبادته وحده دون سواه مما يعلمون أن أنه لم يخلق ولم يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يتصف بشيء من صفات الإله الخالق .

﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت : 16- 17]

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة : 21 -22]
حتى الذين أنكروا وجود الخالق ، والذين يسمَّون في عصرنا بالملحدين ، لا ينكر معظمهم وجود الخالق أي خالق ، وإنما ينكرون وجود الخالق الحق الذي دعتهم إلى الإيمان به رسالات السماء ، والذي كان يؤمن بربوبيته من يشرك معه غيره في عبادته . انظر إلى حال الملحدين في عصرنا : تراهم – إذا أنكروا وجود الخالق الحق – يعزون حدوث الأشياء إلى أشياء أخر ، وهم وإن لم يسموها بالخالقة إلا أنهم يقيمونها مقام الخالق سبحانه ، بل ويضفون عليها بعض صفاته !! ) [2].

[1] - العقائد الإسلامية لسيد سابق ص 39
[2] - الفيزياء ووجود الخالق للدكتور جعفر شيخ إدريس ص 36-37

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 09:26 PM
إبطال قولهم لو كان وجود خالق للكون أمرا بديهيا لما أنكر وجوده أحد

وقد يقول قائل لو كان وجود خالق للكون أمرا بديهيا لما أنكر وجوده أحد والجواب أن الإقرار بوجود خالق للكون إنما يكون بديهيا ضرورياَ في حق من سلم من المؤثرات الخارجية والشبه التي قد تجعله ينحرف عن الحق ، و قد يحتاج بعض الناس إلى ذكر الأدلة على وجود خالق للكون لوجود بعض الشبه لديهم أو لزيادة إيمانهم بوجود خالق .

و قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : ( إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة)[1] .
بعض الأدلة على وجود الخالق

إن الأدلة على وجود الخالق كثيرة ومتنوعة لتناسب جميع المتلقين العالم منهم والجاهل الصغير منهم والكبير ، و هذا التعدد في الأدلة يزيد في التصديق بوجود خالق ، واليقين بوجوده ،ومن الأدلة على وجود خالق للكون قوله تعالى : ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ﴾ [ الطور الآية 35 - 36 ] و قد ذكر الله هذا الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليتبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس ، لا يمكن إنكارها ، فلا يمكن لصحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه ، و لا يمكنه أن يقول : هو أحدث نفسه . ‏

وكأن القرآن الكريم يقول لهذا المنكر: إذا لم يكن الله هو الذي خلقك، وخلق هذا الكون حولك؛ فهل خلقت من غير شيء خلقك؟ أي جئت من العدم المحض؟
سيقول كل عاقل في نفسه : كلا .. فإن هذا مستحيل.
أو أنك أنت الذي خلقت نفسك؟ سيقول: كلا .. فإن هذا يبدو أكثر استحالة.
هل كنت أنت الذي خلق السموات والأرض؟ سيقول: كلا .. فالقول بغير هذا مكابرة.
هذه حجة فطرية يدركها الناس بعقولهم؛ لذلك قرر القرآن الكريم مقدماتها في شكل أسئلة استنكارية. وهذه هي طريقة القرآن في تقرير كل حقيقة معروفة بالبديهية العقلية، يقررها بسؤال استنكاري ليدل على أن منكرها ينكر البدائه. ...
هذه الحجة القرآنية - التي أسميناها دليل الآيات - يمكن وضعها هي الأخرى في صيغة من الصيغ المنطقية العقلية المعروفة... كأن نقول مخاطبين الملحد:
أنت تعلم من نفسك أنك حادث وجدت بعد أن لم تكن.
فإما أن تكون قد وجدت من العدم أو أن شيئاً أوجدك.
من المستحيل أن توجد من العدم.
إذن فقد أوجدك شيء.
هذا الموجد إما أن يكون نفسك أو أن يكون غيرك.
من المستحيل أن تكون أنت الذي أوجدت نفسك.
إذن لابد أن يكون شيء غيرك هو الذي أوجدك .
هذا الغير إما أن يكون مثلك في حاجته إلى من يوجده أو لا يكون .
لا يمكن أن يكون مثلك؛ إذ ما قيل عنك سيقال عنه أيضاً. لابد إذن أن يكون خالقاً بنفسه غير مفتقر إلى من يوجده؛ وهذا هو الله تعالى[2].
ومن الأدلة على وجود خالق للكون دليل الحدوث فقد أثبت العلم وأثبتت الملاحظة أن الكون وحوادثه المستمرة، أمورٌ لم تكن ثم كانت، وكل شيءٍ لم يكن شيئاً مذكوراً ثم كان لا بد له حتماً من موجد أوجده، ولا بد أن يتصف هذا الموجد بالصفات التي تؤهله لعمليات الإيجاد، ولا بد أن يكون أزلياً غير حادث، وإلا احتاج هو أيضاً إلى موجد يوجده[3].

و من المعلوم أن كل الكائنات في الكون لها ساعة ميلاد، ويوم هلاك. فمن الذي أوجدها ومن الذي يفنيها؟
هل جاءت من العدم؟ كلا .. فإن هذا مستحيل عقلاً.
لا بد لها إذن من سبب أحدثها. لكن هذا السبب لا يمكن أن يكون الشيء المحدث نفسه؛ إذ كيف يسوغ عقلاً أن يكون الحادث المعين سبباً في إحداث نفسه؟
لا بد إذن أن يكون سببه شيئا غيره.
لكن إذا كان ذلك السبب الخارجي هو نفسه حادثا كالأسباب الطبيعية التي نشاهدها؛ فإنه سيحتاج – كالحادث الأول – إلى سبب، وسيحتاج سببه إذا كان حادثا إلى سبب .. وهكذا. لكن هذا التسلسل في العلل والمؤثرات مستحيل عقلاً.
لابد – إذن – من أن يكون السبب الحقيقي للحوادث سببا غير حادث. أي لا بد أن يكون شيئاً أزلياً ليس لوجوده ابتداء. ولا يمكن أن يكون هذا السبب الأزلي شيئاً غير الله[4]

و قال الشيخ عبد الرحمن الميداني – رحمه الله - : ( فالأدلة العقلية الفلسفية تثبت لنا حدوث العالم من ظاهرة التغير الملازمة لكل شيء فيه، وذلك لأن التغير نوع من الحدوث للصورة والهيئة والصفات، وهذا الحدوث لا بد له من علة ، وتسلسلاً مع العلل للمتغيرات الأولى، سنصل حتماً إلى نقطة بدء نقرر فيها أن هذا الكون له بداية، في صفاته وأعراضه، وفي ذاته ومادته الأولى، وحينما نصل إلى هذه الحقيقة لا بد أن نقرر أن خالقاً أزلياً لا يمكن أن يتصف بصفات تقتضي حدوثه، وهذا الخالق هو الذي خلق هذا الكون وأمده بالصفات التي هو عليها )[5].

ومن الأدلة على وجود خالق للكون دليل الإمكان فهذا الكون بكل ما فيه من مجرات و نجوم وكواكب وبحار و أنهار و محيطات و نباتات وحيوانات وغير ذلك يقبل الوجود و العدم فإننا نرى أعيان ما في الكون تموت وتحيى ، و توجد و تنعدم ،و كانت غير موجودة ثم وجدت .

ونعلم أن المجرات و النجوم و الكواكب و الحيوانات و النباتات و الجمادات لم تكن موجودة ثم وجدت ،وعليه فلا مانع عقلا من انعدام الكون ،و لا يلزم من فرض وجود الكون محال ،و لا يلزم من فرض عدمه محال ،وهذه صفات ممكن الوجود .
وممكن الوجود الأصل فيه العدم إذ لو كان الأصل فيه الوجود لكان واجب الوجود فلا يكون مع ذلك ممكن الوجود والعدم ، وإذ كان الكون مسبوقا بالعدم فلابد من وجود من رجح وجود الكون على عدمه لبطلان الترجيح بلا مرجح ،و الممكن لا يوجد بنفسه بل بغيره ولا يكون كذلك إلا ما كان محدثاً و من المعلوم ببداهة العقول أن كل محدَث لا بد له من محدِث و كل ممكن لا بد له من واجب فتعين أن يكون للكون خالق أحدثه .

ومن الأدلة على وجود خالق للكون دليل النظام ففروع العلم كافة تثبت أن هنالك نظاما معجزا يسود هذا الكون، أساسه القوانين والسنن الكونية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، والتي يعمل العلماء جاهدين على كشفها والإحاطة بها، وقد بلغت كشوفنا من الدقة قدرا يمكننا من التنبؤ بالكسوف والخسوف وغيرهما من الظواهر قبل وقوعها بمئات السنين.

فمن الذي سن هذه القوانين وأودعها كل ذرة من ذرات الوجود، بل في كل ما هو دون الذرة عند نشأتها الأولى؟ ومن الذي خلق كل ذلك النظام والتوافق والانسجام؟ من الذي صمم فأبدع وقدر فأحسن التقدير؟ هل خلق كل ذلك من غير خالق أم هم الخالقون؟ إن النظام والقانون وذلك الإبداع الذي نلمسه في الكون حيثما اتجهت أبصارنا يدل على أنه القدير وعلى أنه العليم الخبير من وراء كل شيء[6] .

ومن الأدلة على وجود خالق للكون دليل العناية إذ تثبت الملاحظة المستمرة في أشياء هذا الكون أن العناية إحدى الصفات البارزة فيه. فما من حاجة لحي من الأحياء في الكون إلا لها ما يسدها، ويلبي مطالبها على أكمل وضع وأتقنه.

فما من حاجة لدى نبات أو حيوان إلى غذاء إلا لها الغذاء الملائم لها على أحسن وجه وأتقنه.

وما من حاجة لدى ذي حياة إلى كساء يدفع عنه الحر والبرد والضر، إلا لها ما يحقق مطالبها على أحسن وجه وأتقنه.

وما من نزعة إلى رفاهية وترف واستمتاعٍ بجمال إلا لها في الكون ما يُلبّي رغبتها، سواءً للسائلين.

وما من داء إلا له دواء، وما من قوة إلا لها ضد مكافئ، ما لم يكن للقضاء والقدر في الحكمة العامة مرادٌ ما.

إلى غير ذلك من أمور كثيرة لا تحصى. وكل هذا من العناية، والعناية لا تكون إلا صفة لذي علم وحكمة ورحمة، وهذه صفات عليم حكيم رحيم، وهو الله عز وجل [7].

[1] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 16/328


[2] - الفيزياء ووجود الخالق للدكتور جعفر شيخ إدريس ص 53-54
[3] - كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني ص 549
[4] - الفيزياء ووجود الخالق للدكتور جعفر شيخ إدريس ص 48-49
[5] - صراع مع الملاحدة حتى العظم للشيخ عبد الرحمن الميداني ص 97
[6] - من مقدمة مترجم كتاب الله يتجلى في عصر العلم الدكتور الدمرداش عبد المجيد ص 7

[7] - كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني ص 550

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 09:28 PM
ومن الأدلة على وجود خالق للكون ظاهرة العدل فمن الملاحظ في أحداث تاريخ الإنسان، أن مظاهر الجزاء العادل للأمم من السنن الثابتة في الكون.

والجزاء العادل لا يكون من مادة صماء عمياء لا تعلم من أحداث الناس ونياتهم شيئاً.

إذن: فلا بد من موجود عظيم عليم يرقب أعمال الناس، ويعلم نياتهم ومقاصدهم، ويجازيهم بعدله. وهذه الصفات لا بد أن تكون صفات موجودٍ ليس جزءاً من الكون المدروس، ولا مشبها له، لأن شيئاً منه لا يصلح لمثل هذه الصفات.

وشواهد مظاهر الجزاء العادل الذي ليس له سبب إنساني ظاهر كثيرة في تاريخ الناس و هذا دليل ظاهرة العدل [1].

و الحياة في المخلوقات الحية دليل على وجود خالق لها فمن الذي وهب الحياة للمخلوقات الحية ؟

و العقل في المخلوقات العاقلة دليل على وجود خالق له فمن الذي وهب العقل لهذه المخلوقات ؟

و الحكمة في المخلوقات الحكيمة دليل على وجود خالق لها فمن الذي وهب الحكمة لهذه المخلوقات ؟

و البصر في المخلوقات ذي البصر دليل على وجود خالق له فمن الذي وهب البصر لهذه المخلوقات ؟

و السمع في المخلوقات التي تسمع دليل على وجود خالق له فمن الذي وهب السمع لهذه المخلوقات ؟

و الضحك في المخلوقات التي تضحك و تبكي دليل على وجود خالق له فمن الذي وهبه لهذه المخلوقات ؟

و لا يصح القول بأن المادة أو الطبيعة هي الخالقة فهي ليست حية و ليست عاقلة و ليست حكيمة و ليست سميعة و ليست بصيرة ،وفاقد الشيء لا يعطيه .

وبهذا يتبين فساد قول أحدهم : " أن الله غير موجود لأنكم لا تستطيعون إثبات وجوده "،وفساد قول الآخر عندما سئل عن أدلته في نفي وجود الله فقال : "ما يقال بغير دليل، ينقض بغير دليل " فالأدلة على وجود الله كثيرة لكن الملاحدة لا يعلمون أو يتجاهلون تلك الأدلة استكبار وعنادا .
فساد قولهم القول بوجود خالق للكون يقضي بوجود خالق لهذا الخالق

يقول الملاحدة قولكم أيها المؤمنون بوجود خالق للكون يقضي بوجود خالق لهذا الخالق لكنكم لا تقرون بذلك فلماذا تقفون بمبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالخالق ؟ والجواب على سؤالهم من وجوه :
الوجه الأول : أن الأصل في الخالق الوجود إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون ؛ لأن فاقد الشيء الذي لا يملكه، ولا يملك سبباً لإعطائه لا يعطيه ، و إذا كان الأصل في الخالق الوجود فلايصح أن نسأل عن سبب وجوده .
الوجه الثاني : أن الخالق أزلي فوجوده ذاتي لا ينفك عنه فلايصح أن نسأل عن سبب وجوده ، ووجوده ليس له بداية .
الوجه الثالث : أن الخالق له الكمال المطلق إذ هو واهب الكمال لمخلوقاته فهو أحق بالاتصاف بها من الموهوب ، وكل كمال ثبت للمخلوق المحدث المربوب الممكن، فإنه يكون ثابتا للخالق من باب أولى ،وإذا كان الكمال المطلق للخالق ،والاحتياج يناقض الكمال المطلق فالكامل المطلق لا يحتاج إلى غيره ،وعليه فالخالق لا يحتاج إلى غيره ،وإذا لم يحتج إلى غيره فهو غير معلول ،و إذا كان غير معلول فلا يصح أن نسأل عن علته .
الوجه الرابع : أن السؤال عن سبب وجود شيء يصح فيما كان الأصل فيه الحدوث و أنه لم يكن موجودا ثم أصبح موجودا بعد عدم ،والخالق قديم وليس حادثا .
الوجه الخامس : لو قلنا بأن كل خالق له من خلقه أي خالق الكون له من خلقه،ومن خلق خالق الكون له من خلقه ومن خلق خالق خالق الكون له من خلقه وهكذا إلى ما لا نهاية فهذا يستلزم أن لا خلق للكون ،وهذا باطل لوجود الكون فوجود الكون يستلزم عدم تسلسل الفاعلين إلى ما لانهاية ، إذ لا بد أن تصل سلسلة الفاعلين إلى علة غير معلولة ، و لا بد من سبب تنتهي إليه الأسباب وليس هناك أسباب لا تنتهي إلى شيء ، وإلا لم يكن هناك شيء أي أن التسلسل في الفاعلين ممنوع، بل لابد أن نصل إِلَى نهاية ، وهذه النهاية في الفاعلين أو المؤثرين هي إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

و للتقريب نأخذ مثال الجندي والرصاصة الجندي يريد أن يطلق النار ،و لكن حتى يطلق النار، يجب على الجندي أن يستأذن من الجندي الذي خلفه ، و هذا الجندي حتى يعطي الإذن يجب أن يستأذن من الجندي الذي خلفه، و هكذا إلى ما لا نهاية. السؤال، هل سيطلق الجندي النار ؟ الجواب لا ؛ لأنه لن يصل إلى الجندي الذي سيعطيه الإذن بإطلاق النار أما إذا انتهت السلسلة إلى شخص لا يوجد فوقه أحد ليعطيه الإذن بإطلاق النار فستنطلق الرصاصة و بدون هذا الشخص ومهما كثر عدد الأشخاص لن تنطلق الرصاصة فهم كالأصفار إذ وضعتها بجانب بعضها البعض فمهما كثرت وبلغت حدا لا نهاية له : فستظل لا تساوي شيئا إلا أن يوضع قبلها رقم 1 فأكثر .





فساد قولهم هناك نظريات تفسر وجود الكون دون الحاجة إلى خالق

يقول الملاحدة القول بوجود خالق للكون احتجاج بالجهل فلأن المؤمنين جهلوا آلية نشأة الكون ادعوا أن سبب الكون هو الإله ،واليوم هناك العديد من النظريات تفسر نشأة الكون بمعزل عن الإله ،والجواب أن القول بوجود خالق للكون احتجاج بعلم وليس بجهل فيوجد عشرات الأدلة الدالة على وجود خالق و إذا كان أصغر شيء مصنوع في الكون يستحيل أن يكون بلا صانع فكيف يصح أن يقال هذا الكون بأكمله بلا خالق ؟!!!

ولا تعارض بين وجود تفسير لنشأة الكون وبين وجود منشئ للكون كما لا تعارض بين مخترع الشيء و آلية عمل الشيء ، ووجود حدث لا ينفي وجود محدِث له بل يؤكد على وجوده .

و لا تعارض بين وجود قوانين تتحكم في عمل الكون و بين وجود خالق للكون فالخالق يدير الكون من خلال قوانين قد سنها للكون ،ولا يدير الكون بالمعجزات ،وهذا لا يمنع من التدخل الإلهي المباشر في بعض الأحيان.

و الاعتقاد بوجود خالق و أنه مسبب الأسباب و أنه خالق القوانين الفيزيائية لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية أو التمرّد على شيء من حقائق العلم الصحيح ، وإنّما هو اعتقاد بأن الخالق هو المسبب لهذه الأسباب الطبيعية ، ومسبب لهذه القوانين الفيزيائية ،و حتى لو سلمنا جدلا أن العلم وصل إلى معرفة كل الأسباب الطبيعية و كل القوانين التي تدير الكون فهذا لا ينفي وجود الخالق بل هذه الأسباب الطبيعية و هذه القوانين دالة على موجد لها فكل سبب له مسبب ، وكل قانون له مقنن و الخالق عز و جل مسبب هذه الأسباب الطبيعية ،وخالق هذه القوانين .


خالق الكون هو الله لا أحد سواه

إذا ثبت أن للكون إله فلابد أن يعرفنا هذا الإله بنفسه وبصفاته و بخلقه للكون وبما يحبه و بما يكره و الإله لا يعرفنا نفسه و ما يحبه و ما يكره عن طريق نزوله بنفسه لنا لعظمته و ملكه فإذا كان ملوك الدنيا لا يعرفون الناس أنفسهم بأنفسهم بل عن طريق رسل فلخالقهم المثل الأعلى فلابد أن يرسل الإله الملك المعبود رسولا يعرف الناس به وبما يحبه وما يكرهه و كيفية عبادته ،وبذلك يكون الأنبياء و الرسل الواسطة بين الإله وبين خلقه في تعريفهم به و ما يحبه و ما يكرهه و كيفية عبادته .

و لا أحد يعرف صفات الإله و ما يحبه وما يكره إلا من عرفه الإله ذلك ، و الذي يعرفه الإله ذلك هو الرسول و النبي كي يعلِم من بعث فيهم بذلك .

وكل دين ليس مبلغه هو الرسول و النبي المبعوث من قبل الإله فليس دين حق إذ كيف يعرف صفات الإله و ما يحبه وما يكره ، والإله لم يعرفه .

و من الأدلة على أن مدعي الرسالة صادق في دعواه تأييد الإله له بالأدلة الدالة على صدق دعوته كتأييده بالمعجزات فلا يبعث الخالق رسولا من الرسل إلا ومعه آية و علامة تدل على صدقه فيما أخبر به عنه .

وقد عرفنا خالق الكون بنفسه وبأسمائه وبصفاته و بخلقه للكون وبما يحبه و بما يكره من خلال رسله وأنبيـائه المؤيدين بالمعجزات وأخبرنا أنه الله ،وأخبرنا أنه هو الذي خلقنـا و لو كان هناك خالق غير الله لأدعى الخلق ، و لم يدع أحد غير الله لنفسه الخلق إلا خذله الله في الدنيا و افتضح أمره ، أما الله سبحانه فقد قال أنه الخالق لكل شيء عن طريق رسله و أنبيائه و لم ينازعه أحد قال تعالى : ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [ فاطر : 3 ] ،وقال تعالى: ﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54] ، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62] و قال تعالى : ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد : 16] و قال تعالى : ﴿ خلق السَّماوات بغير عمدٍ ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبثَّ فيها من كل دابةٍ وأنزلنا من السَّماء ماءً فأنبتنا فيها من كلّ زوجٍ كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظَّالمون في ضلالٍ مبينٍ ﴾ [ لقمان : 10-11] .


وقد أمرنا الله بعبادته وحده دون ما سواه قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾[ النحل :36] و قال تعالى : ﴿ يا أيَّها النَّاس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلَّكم تتَّقون الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسَّماء بناءً وأنزل من السَّماء ماءً فأخرج به من الثَّمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون﴾ [البقرة: 21-22] ،و قال تعالى : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[ الأعراف : 158]


فساد قول من يدعي أن هناك خالقا غير الله

إن القول بوجود خالق غير الله قول مردود لا أثارة عليه من علم إذ خالق الكون قد عرفنا بنفسه عن طريق أنبيائه ورسله أنه الله وقد أيد أنبيائه ورسله بالمعجزات الدالة على صدقهم ،و لم يأت أحد من البشر غيرهم بمعجزة مثلهم ،وقال بخلاف ما قالوا .

ولا يعقل أن من خلق هذا الكون بهذا الإبداع وهذا التناسق وهذا الجمال وهذا النظام و هذا الاتساع لا يعرف البشر بنفسه ليحمدوه على بديع صنعه ،ويشكروه على كثير إنعامه وفضله .

وإذا كان من اخترع شيئا من الأشياء يبين للناس أنه مخترع ذلك الشيء بل ويغضب إذا نسب الاختراع لغيره فكيف بمن أبدع السموات و الأرض ،ولله المثل الأعلى ؟!!

و يقال لكل من يدعي أن هناك خالق غير الله صف لنا هذا الخالق ،واذكر برهانك على أنه الخالق و ليس غيره ،وإلا فأنت تتكلم بلا علم ،وبلا برهان قال تعالى : ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [الرعد: 33] وليس المراد أن يذكروا أساميها نحو اللّات والعزّى، وإنما المعنى إظهار تحقيق ما تدعونه إلها، وأنه هل يوجد معاني تلك الأسماء فيها، ولهذا قال بعده: ﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [2]ومعنى الآية يا من تدعون أن هناك آلهة غير الله صفوا هذه الآلهة بالصفات التي يستحقونها، هل هي خالقة رازقة محيية مميتة، أم هي مخلوقة لا تملك ضرًا ولا نفعًا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فإذا وصفوها بما تستحقه من الصفات تبين ضلالهم .

و القرءان الكريم الذي بين أيدينا يثبت وبدون شك عند تفحصه و مقارنته بكلام البشر أنه ليس من كلامهم و في الوقت ذاته فهو رسالة من خالق هذا الكون لنا يبلغنا فيه أنه خالقنا ويبلغنا فيه عن صفاته فإن لم يكن هناك خالق فمن أرسل بهذه الرسالة ؟ وإذا كان هناك خالق آخر فلماذا لم يتفضل بإبلاغنا عن وجوده؟! وبهذا يتبين فساد قول أحد الملاحدة : " وجود علة أولى لا يعني وجود إلهك الديني ...خلق الكون ليس مسجلا كبراءة اختراع للإله الإسلامي ولا لأي إله آخر ...لماذا يفترض أن الفرضية المقبولة هي فكرة أحد آلهة الأديان وليس مثلا وحش السباغيتي الطائر " و فساد قول من قال : " لا مانع من وجود إله لكن لماذا لا يكون هذا الإله هو وحش السباجيتي الطائر ؟ "

فساد القول بترك عبادة جميع الآلهة لتعددها

و قد يقول قائل لأن الآلهة كثيرة والكل يدعي أنه الإله فالأسلم ترك جميع الآلهة ،والجواب ليس تعدد الآلهة ذريعة لترك عبادة الإله الحق فلو كنت قاضيا و أمامك أشخاص و كل منهم يدعي أيحق لك أن تقول لا يوجد حق ، بسبب تعدد مدعي الحق و البينة على المدعي و الحق له نور تعرفه به .




شتان ما بين وجود الخالق ووجود الوحش الاسباجيتي

إن من يشبه وجود الله خالق الكون بوجود الوحش الاسباجيتي قد شبه الحقيقة الثابتة بالباطل المضطرب ،وشبه ما ثبت بالبداهة بما ثبت بالأوهام والظنون والخيالات ،وشبه ما تضافرت عليه الأدلة و البراهين بما لا دليل عليه ،ولا برهان ،وشبه من لنا به علم بما ليس لنا به علم وشبه من له الأسماء الحسنى والصفات العلى بمن ليس له الأسماء الحسنى ولا الصفات العلى و لمن تأنس القلوب لله الغفور الرحيم الحكيم الخبير الذي له الكمال المطلق أم للوحش الأسباجيتي ؟! ،و ما من إنسان يسمع كلمة وحش إلا و اشمئز وفزع .

وهل عرفنا الوحش الاسباجيتي بنفسه عن طريق رسل مؤيدين بالمعجزات ؟ وهل أنزل لنا كتب يعرفنا فيها بنفسه وبصفاته وبخلقه للكون و بما يحبه وبما يكرهه ؟ وهل له صفات الكمال والجلال والعظمة ،وكيف تكون له صفات الكمال وهو وحش اسباجيتي ؟ وصدق الله القائل : ﴿إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ [النجم: 23] .

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات


[1] - كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني ص 551

[2] - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص423

د.ربيع أحمد
03-01-2016, 09:30 PM
التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/93434/) أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=358910)

ابن سلامة القادري
03-01-2016, 10:05 PM
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
جزاكم الله خيرا و أحسن إليكم دكتور ربيع و جعل هذا الجهد العظيم في ميزان حسناتك

مشرف 3
03-02-2016, 01:28 PM
قررت الإدارة تثبيت هذا الموضوع لما فيه من جهد بارز و فوائد جامعة متعددة للقارئ و الباحث و جزى الله الأخ الكريم الدكتور ربيع أحمد خيرا

د.ربيع أحمد
04-03-2016, 03:30 AM
قررت الإدارة تثبيت هذا الموضوع لما فيه من جهد بارز و فوائد جامعة متعددة للقارئ و الباحث و جزى الله الأخ الكريم الدكتور ربيع أحمد خيرا


جزاكم الله خيرا

د.ربيع أحمد
04-03-2016, 03:32 AM
مغالطات أكذوبة أن الكون نشأ من لا شيء دون الحاجة لخالق





الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول أكذوبة يرددها بعض الملاحدة هذه الأكذوبة يغني فسادها عن إفسادها و يغني بطلانها عن إبطالها وهي أكذوبة أن الكون نشأ من لا شيء دون الحاجة لخالق يقول صاحب الأكذوبة: " نحن نعرف الآن وبدقة أن الكون مسطح ،ومجموع الطاقة فيه صفر ،ومن الممكن أن يبدأ من لا شيء ...لا حاجة لله لخلق الكون " .

ويتحدث هذا الملحد عن اللاشيء فيقول : " أبسط أنواع اللاشيء لاشيء في داخله لا جزئيات لا إشعاعات لاشيء هذا النوع من اللاشيء تبين أنه مليء بالأشياء ؛ لأنه نظرا لقوانين ميكانيكا الكم والنسبية الفراغ كالمشروب المغلي الذي يبقبق بالجسيمات الافتراضية والتي تظهر وتختفي من الوجود في كل لحظة .

في واقع الأمر هذا النوع من اللاشيء إذا انتظرت فترة طويلة كافية فستضمن لك قوانين ميكانيكا الكم إنتاج شيئا ما . في الواقع : بمجرد تطبيق قوانين ميكانيكا الكم على الجاذبية نفسها الفضاء نفسه يصبح متغير ميكانيكي كمي ،ويتقلب داخل وخارج الوجود ،ويمكنك من خلال قوانين ميكانيكا الكم خلق الأكوان خلق الزمان خلق المكان حيث لم يكن هناك أي من المكان والزمان من قبل " .

و يتكلم هذا الملحد عن أحد كتبه ، وهو كتاب كون من لا شيء : A Universe from Nothing فيقول : " كتابي الجديد كون من لاشيء يصف التغير الثوري في تفكيرنا حول بعض المبادئ التي كانت متواجدة منذ أمد بعيد ،وهي الشيء واللاشيء .السؤال القائل : لماذا الشيء موجود واللاشيء غير موجود ؟ كان متواجدا بيننا على طول التاريخ البشري بشكل أو بآخر من خلال الفلسفة و الدين .

ما فعله العلم أنه غير حقل هذا السؤال ؛ لأننا اكتشفنا أن ما يعتبره أغلب الناس لا شيء هو ليس فقط مثير للاهتمام ،وإنما اللاشيء ممكن أن يكون شيئا . وفي الواقع اللاشيء غير مستقر ما أقصده من كلامي هو أننا اكتشفنا أن الفضاء الفارغ ،وهو ما يعتبره أغلب الناس لا شيء إذا أخذنا جزء منه ،وجردناه من الإشعاعات والجزيئات بحيث لا يكون فيه أي شيء سيكون لهذا الجزء وزن .

نحن حتى لا نفهم السبب ،ولكن عندنا تلميحات لأننا نعلم أنه بسبب ميكانيكا الكم وبسبب النسبية على مستوى أساسي الفضاء الفارغ هو عبارة عن مزيج يغلي مكون من جزيئات ظاهرية /افتراضية تتواجد وتتوقف عن الوجود على مدى فترة زمنية قصيرة جدا بحيث أننا لا نراها هذا يبدو كأنه فلسفة كأنه محاولة لعد الملائكة على رأس إبرة لكنه ليس كذلك ؛ لأنه مع أننا لا نرى هذه الجزئيات الافتراضية بشكل مباشر لكننا نرى أثرها بشكل غير مباشر .

في الواقع نستطيع أن نحسب أثرها و أثر خاصيات الذرات ،وهذا قاد إلى أفضل التوقعات في العلم نستطيع أن نقارن نماذجنا النظرية مع ملاحظاتنا ،ونصل إلى اتفاق حول تسع أرقام عشرية لا نستطيع في أي مجال آخر بالعلم أن نفعل هذا أي أن نتوقع شيء من المبادئ الأولية بهذه الدقة ،ولكننا لا نحصل على الجواب الصحيح إلا إذا شملنا آثار الجزيئات النظرية مع أنه هذا يبدو من الجنون لكنه حقيقي و بسبب هذا الجنون ..نعلم أن الفضاء الفارغ قد يكون له خاصيات لم نتخيلها من قبل .

مازلنا لم نصل إلى الجواب الصحيح عندما نحاول أن نحسب طاقة الفضاء الفارغ كاملة في الكون ،وهو لغز كبير بل هو أكبر لغز في كل العلوم لكننا نعلم أن له خاصيات غريبة ،وعندما نضيف الجاذبية إلى هذا المزيج ،والجاذبية لها أن تعطي الأشياء طاقة سالبة وموجبة نجد أن الفضاء الفارغ الذي ليس فيه جزيئات ينتج جزيئات بشكل عفوي من دون خرق قانون حفظ الطاقة .

في البداية كانت الطاقة الكلية صفر ،وفي النهاية مازالت صفر لكن في البداية كان عندك فراغ ،وبالنهاية أصبح عندك كون مليء بالأشياء تبدو العملية وكأنها معجزة ،ولكنها ليست معجزة كل ما تحتاجه هو قانون الطبيعة .

في الواقع إذا انتظرت مدة كافية من المضمون أن الفضاء الفارغ سينتج جزيئات بالتالي اللاشيء هو غير مستقر ،وسيكون من المفاجئ أن نجد اللاشيء لكن لو كان اللاشيء موجودا ما كنا هنا لنسأل هذه الأسئلة .

وهناك جوانب كثيرة مذهلة حول اللاشيء ؛ لأنه بإمكانك أن تقول والكثير يقولون أن الفضاء الفارغ بحد ذاته هو ليس لاشيء ،وبالطبع تبين أننا إذا طبقنا قوانين الفيزياء وميكانيكا الكم على الجاذبية الفضاء نفسه سيكون جزءا متحركا .

نحن نعلم بشكل عام أن الفضاء يتمدد وينقبض و ينحني بحضور المادة ،وإذا جعلته من ضمن ميكانيكا الكم فحتى الفضاء يمكنه أن يتواجد ،ويتوقف عن الوجود فتستطيع أن تخلق أكوان حيث لم يكن هناك أكوان من قبل ،وبالطبع قد تتخيل كونا حرفيا من لاشيء لا فضاء ولا زمن ...

ومن المذهل أن يكون عندنا مجموعة من المنظومات الفيزيائية العادية التي تأخذنا من اللا فضاء واللا جزيئات إلى كون كالذي نعيش فيه ،والذي يحتوي على كل خصائص الكون الذي نتوقع أنها خلقت من لا شيء " .


و في كلام هذا الملحد العديد من المغالطات فقوله أن الكون نشأ من لا شيء دون الحاجة لخالق يخالف البديهة القاضية أن أي الفعل لا بد أن يكون له فاعل ، وأي حدث لا بد أن يكون له محدِث و أي أثر لابد أن يكون له مؤثِر ،و لا يمكن أن يحدث الفعل بلا فاعل .

د.ربيع أحمد
04-03-2016, 03:33 AM
وهذا الملحد - هداه الله – قدح في قضية بديهية وهي وجوب وجود خالق للكون بإحدى نظريات ميكانيكا الكم ، و بما أن النظريات مؤلفة من البديهيات، فلو جاز القدح في البديهيات بالنظريات لزم فساد البديهيات والنظريات، فإن فساد الأصل يستلزم فساد فرعه، فتبين أن من سوغ القدح في القضايا البديهية الأولية الفطرية بقضايا نظرية فقوله باطل[1] .

و قول الملحد أن الكون نشأ من لا شيء دون الحاجة لخالق يستلزم أن اللاشيء يتحول إلى شيء وهذا يخالف البديهة القاضية أن اللاشيء لا يمكن أن ينتج شيئا ،ولا يمكن لشيء أن يأتي من العدم، وفاقد الشيء إذا كان لا يملكه ولا يملك أسبابه لا يعطيه فكيف يعطي العدم الوجود ؟!!، و كيف يعطي اللاشيء شيئا ؟!!

و اعتبر الملحد الفراغ لا شيء و خلط بين اللاشيء و الفراغ الكمي ،و الفراغ الكمي - حسب ميكانيكا الكم -يعتبر شيئا موجودا ممتلئ بجسيمات افتراضية من المادة والمادة المضادة و يحدث فيه تموجات ومن هذه التموجات يمكن أن تتخلق أزواج من الجسيمات والجسيمات المضادّة ،ولا يمكن فصل هذا الفراغ الكمي عن الكون أما اللاشيء أو العدم فهو ضد الوجود أو اللاوجود أو انعدام الوجود بجميع صوره و أشكاله أي لا يوجد أي شيء تماما لا مادة و لا طاقة ولا زمان ولا مكان ،و نحن نعلم أن الشيء هو ما يتصور أو يخبر عنه ،ويراد به أساسا الموجود و يقابل المعدوم [2] .


و قد أدعي أن أغلب الناس تعتبر الفضاء الفارغ لا شيء وهذا غير صحيح فإذا فرضنا تجريد المكان من الإشعاعات والجزيئات والجسيمات والمادة بحيث لا يكون فيه أي شيء من هذه الأشياء فالمكان الذي كان يحوي هذه الأشياء التي جردت منه مازال موجودا ،وهو شيء موجود و ليس لا شيء ،و إن كان ليس بشيء مادي أو جسماني ،و الفراغ ليس معناه اللامكان بل معناه مكان جُرِد من الإشعاعات والجزيئات والجسيمات والمادة .

و يحدث في الفضاء الفارغ أو الفراغ الكمي quantum vacuum تذبذبات كمومية quantum fluctuation و التي تؤدي إلى وجود جسيمات افتراضية virtual particles تظهر وتختفي من الوجود في كل لحظة ،و بالتالي الفراغ الكمي شيء يحدث فيه أشياء .

و حسب مبدأ عدم التأكد لهيزنبرج يستحيل أن يخلو الفراغ من الطاقة وأنه سيبقى حد أدنى من الطاقة zero point energy لا يمكن النزول عنه ولا يمكن أن تصل الطاقة إلى صفر ،وهذا القدر من الطاقة يعتبر شيئا من ضمن الأشياء مع العلم أن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة أو يمكن اعتبارهما صيغتين مختلفتين لجوهر واحد قابلتين للاستحالة من إحداهما إلى الأخرى[3].

و أدعي الملحد وجود فضاء فارغ خال من كل شيء - أي فراغ محض – فراغ خال من المادة والطاقة ،وهذا يخالف مبدأ عدم التأكد إذ يستحيل أن يخلو الفراغ أو الخواء من الطاقة تماما وأنه سيبقى حد أدنى من الطاقة لا يمكن النزول عنه ولا يمكن أن تصل الطاقة إلى صفر وبالتالي لا يوجد مكان طاقته صفر حقيقي .

والطاقة في الخواء vacuum أمر حقيقي، وليس الخواء في الفيزياء الحديثة جيبا لا يحوي شيئا فهو يمخض بنشاط غير مرئي حتى في درجة حرارة الصفر المطلق التي تتوقف عندها - حسب التعريف- حركة الجزيئات[4].

و لو بذلنا كل قدرتنا في إفراغ منطقة معينة من الفضاء من كل الطاقات فإن هناك قدر من الطاقة سيبقى ولا يمكن إخراجه وهذا القدر من الطاقة يعتبر شيئا من ضمن الأشياء ، وبالتالي ليس هناك شيء اسمه فراغ محض في هذا الكون ولا عدم تام من كل شيء في هذا الكون .
و هذا الملحد يناقض نفسه إذ كيف يدعي أن الكون خلق من لا شيء ،وهو يشرح آلية نشأة الكون من الفضاء الفارغ عبر التموج الكمومي quantum fluctuation ؟!! والفضاء الفارغ شيء موجود في الزمكان المحيط به ،وليس عدما و ليس لا شيء أضف إلى ذلك أن آلية نشأة الكون تطوي في معناه وجود فاعل منشئ للكون .

و أدعي الملحد أن الجسيمات الافتراضية تخرج من لا شيء ،وهذا غير صحيح فهذه الجسيمات الافتراضية خرجت من مكان ما في الكون - و ليس خارج الكون - خلال فترات قصيرة جدا من الزمن ، والمكان الذي خرجت منه له طاقة إذ لا يمكن أن يوجد مكان خال من الطاقة تماما حسب مبدأ عدم التأكد .

ومجرد ظهور الجسيمات تحت الذرية في الفراغ الكمي و اختفائها عبر التموجات الكمومية لا يستلزم أن يكون الكون بأكمله قد نشأ عبر التموجات الكمومية .

وأدعي الملحد أن قوانين ميكانيكا الكم يمكن أن تخلق الكون بدلا من أن يقول أن قوانين ميكانيكا الكم يمكن أن تفسر كيفية نشأة الكون ،و العلم يعرفنا كيف تعمل الأشياء ، و ليس لماذا تعمل الأشياء ومن الذي عملها ؟ أي يعرفنا آلية عمل الأشياء ،وطريقة عملها ،ولا يفسر العلم لنا لماذا تعمل الأشياء ؟ ، ومن الذي جعلها تعمل بهذه الطريقة ؟ فلا يبحث العلم عن الفاعل بل يبحث عن الفعل ،ولا يبحث عن الحادث بل يبحث عن الحدث ،ولا يبحث عن موجِد القوانين بل يبحث عن القوانين نفسها .

وما أجمل ما قاله الشيخ عبد الرحمن بن حَبَنَّكَة الميداني : ( قد يعض الكلب الحجر الذي رآه يتجه نحوه ليصيبه، أما الإنسان المفكر فإنه يبحث عن الذي رمى الحجر نحوه بقصد، فإذا عرفه واستبان أنه قد قصد قتله أو إيذاءه حاول أن ينتقم منه دفاعاً عن نفسه، ولم يفكر بالانتقام من الحجر مطلقاً.

وهنا نقول: إن الماديين الذين يقفون عند الأسباب المادية للظواهر الكونية التي يتجلى فيها القصد، ولا يبحثون عن السبب الحقيقي، مع أن هذه الأسباب تحتاج هي أنفسها إلى أسباب تفسر ظاهراتها وتعلل حدوثها، إنما يفكرون بمثل دماغ الحيوان الذي يعض الحجر الذي قُذف عليه )[5].

[1] - منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2/151
[2] - المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية ص 104
[3] - تأملات في الفيزياء الحديثة لعلي الشوك ص244 الطبعة الأولى 2012 م
[4] - اتجاهات في الفيزياء استغلال طاقة نقطة الصفر مجلة العلوم يوليو 1998 مجلد 14
[5] - كواشف زيوف للشيخ عبد الرحمن الميداني ص 522

د.ربيع أحمد
04-03-2016, 03:36 AM
ولا يمكن لقوانين ميكانيكا الكم أن تنتج شيئا للوجود ،ولا يمكن لقوانين ميكانيكا الكم أن تنتج حدثا من الأحداث بل غاية قوانين ميكانيكا الكم تفسير الظواهر التي تحدث على مستوى الذرة والجسيمات تحت الذرية بعدما أوجدتها الأسباب .

ومن يعتقد أن قوانين ميكانيكا الكم تستطيع أن تسبب شيئا من الأشياء كمن يعتقد أن القوانين الحسابية يمكن أن توجد مالا ،و كمن يعتقد أن القوانين التي تعمل بها السيارة يمكن أن تخلق السيارة أو تسير السيارة دون الحاجة لمن يقودها و هذا قول في غاية السخف والسقوط .

ومن البديهيات أن وجود قانون ما يدل على وجود مقنن واضع لهذا القانون سن هذا القانون ،وواضع القانون ( الفاعل ) لابد أن يسبق القانون ( المفعول ) ،وإذا كانت ميكانيكا الكم لها مجموعة من القوانين فلابد أن يكون لهذه القوانين مقنن فمن الذي فرض و سن هذه القوانين ؟

والجواب الذي سن هذه القوانين التي تحكم الذرة والجسيمات تحت الذرية إما أن تكون الذرة والجسيمات تحت الذرية نفسها أو القوانين نفسها أو شيء آخر خارج عن الذرة والجسيمات تحت الذرية .

و إن قالوا الذرة والجسيمات تحت الذرية نفسها فمقتضى قولهم أن الذرة والجسيمات تحت الذرية وضعت القوانين لنفسها قبل أن توجد و هذا محال .

و إن قالوا من سن هذه القوانين القوانين نفسها فهذا تصوير للقوانين على أنها فاعل محرك و هذا فاسد ؛ لأن القوانين مجرد وصف سلوك لظاهرة في الكون يتكرر تحت نفس الظروف .

و إما أن يكون من سن القوانين شيء خارج عن الذرة والجسيمات تحت الذرية فهذا إثبات لشيء خارج عن الذرة والجسيمات تحت الذرية ونحن نقول أنه الله .


و توهم الملحد أن نشأة الكون لا تحتاج سوى قوانين الطبيعة مع أن نشأة الكون تحتاج إلى مادة لينشأ منها و منشئ للمادة التي ينشأ منها الكون و منشئ للكون ،و إن قالوا أصل الكون طاقة فمن الذي أوجد هذه الطاقة و من الذي صير هذه الطاقة مادة ؟.


و القضية ليست نشأة الكون فقط إذ بعد نشأة الكون الكون بحاجة إلى حفظ و رعاية فمن الذي يحافظ عليه ويرعاه ؟ و من الذي جعل الكون مستمرا في الوجود ؟ ومن الذي جعل الكون صالحا لحياة البشر و سائر الكائنات الحية ؟ ومن الذي جعل الكائنات الحية تنمو وتتكاثر ،و من الذي وضع فيها القابلية للنمو والتكاثر ؟ و من الذي وضع غريزة في الذكر للأنثى ،وغريزة في الأنثى للذكر ؟!! ومن الذي خلق للذكر أنثى و للأنثى ذكر ؟ و من الذي أعطى لكل كائن حي ما يصلحه في حياته ، وكأن الكون معد له قبل أن يوجد على الأرض ؟،و من الذي علم الكائن الحي كيف ينتفع بالشيء الذي يصلحه في حياته خاصة أوائل الكائنات الحية ؟
ونسي هذا الملحد أن الزمان و المكان وجدا بعد نشأة الكون ،وقبل نشأة الكون لم يكن للمكان و لا للزمان و لا للفراغ الكمي وجود ،و بعد نشأة الكون وجد الزمان والمكان و الفراغ الكمي ،وعليه فدعوى أن الكون نشأ من تذبذبات كمومية في الفراغ الكمي دعوى باطلة بينة البطلان .


هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

د.ربيع أحمد
04-03-2016, 03:39 AM
التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/95709/)أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=360501) أو هنا (http://islamselect.net/mat/113559)

د.ربيع أحمد
04-03-2016, 03:44 AM
مغالطات أكذوبة أن ظاهرة النفق الكمومي تدمر مبدأ السببية


















الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و في هذا المقال سنتناول بإذن الله إحدى الأكاذيب التي يرددها الملاحدة ،وهي أكذوبة أن ظاهرة النفق الكمومي تدمر السببية يقول أحد المروجين لهذه الأكذوبة :
( لنفرض أن لدينا كرة بينغ بونغ (كرة تنس طاولة) نرميها لتضرب بسطح طاولة خشبية. نحن نعرف من حياتنا أن هذه الكرة لن تعبر إلى الطرف الآخر من الطاولة إلّا إذا كسرت الطاولة واخترقتها إلى الطرف الآخر، وستبقى فوق الطاولة ترتد إلى الأعلى. هذا المشهد مختلف إذا كانت كرة تنس الطاولة التي نتكلم عنها هي جسيم أولي أو ذري كالإلكترون، فالإلكترون يملك ما يسمى تابع كثافة احتمالية يسمح له بالعبور عبر أي حاجز صلب أو حاجز طاقة أو أي نوع آخر. فمع أن الإلكترون موضوع فوق الحاجز، فهناك احتمال صغير أن يصبح الإلكترون في الطرف الآخر من الحاجز دون أي سبب على الإطلاق، والسبب الوحيد هو العشوائية التي تعيش فيها الجسيمات الأولية والتي هي نتيجة للطبيعة الموجية للجسيمات الذرية، أي أن الإلكترون يعبر الحاجز وكأن الحاجز غير موجود.
وليس فقط ذلك، فتخيل أنك وضعت تفاحة في علبة زجاجية مغلقة، فهذه التفاحة سبتقى في العلبة ولن تخرج منها إلا إذا أخرجها شخص ما وهذا ما نعرفه نحن بمبدأ السببية، فلكل فعل مسبب، لكن في حالة الجسيمات الأولية هذا غير صحيح، فهناك دوماً احتمال أن يخرج هذا الجسيم من العلبة دون أي سبب على الإطلاق.

هذا الكلام تم إثباته تجريبياً، فقد تم حبس إلكترون فيما يسمى “نقطة كوانتية” أو Quantum Dot، وفيها تمت دراسة خروج الإلكترون من “العلبة” المحبوس بها، وذلك يحدث دون أي سبب!

نعم عزيزي القارئ، مبدأ السببية غير مطلق وغير صحيح دوماً، فهناك أشياء في عالمنا تحدث دون أي سبب.

,نشوء هذا الكون أيضاً قد يكون قد حدث بدون سبب، فنشوء الكون تتم دراسته في ميكانيك الكم، والذي يدعم ظاهرة النفق والكثير من الظواهر التي تحدث دون سبب. ولذلك نشوء الكون من العدم فكرة مقبولة علمياً ).

وقد احتوى كلام هذا الملحد على العديد من المغالطات منها الطعن و التشكيك في مطلقية و كلية إحدى مبادئ العقل و إحدى البديهيات العقلية إذ من مبادئ العقل و من البديهيات العقلية مبدأ السببية فلكل ظاهرة سبب أو علة لوجودها ،وما من شيء حادث إلا كان لوجوده سبب يفسر وجوده [1] ،والعقل يدرك ذلك تلقائيا ،وبلا معونة الحس و التجربة كالتلازم والتلاحم بين وجود البناء ووجود الباني ،والجناية والجاني[2] .

[1] - انظر المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 1/649
[2] - مذاهب فلسفية وقاموس مصطلحات لمحمد جواد ص 169

د.ربيع أحمد
04-03-2016, 03:45 AM
والقول بأن لكل حادثة سببا قول بديهي يدركه الإنسان تلقائيا ،وبلا دليل ومقدمات و لا يحتاج في تصوره أو التصديق به إلى اكتساب أو معرفة سابقة بل يؤمن به بمجرد تصوره دون روية وتأمل ودون معرفة سابقة ،ويشترك في هذا الإدراك جميع الناس العالم منهم والجاهل الكبير منهم والصغير .

ومن يرى كتابة يعرف أن لها كاتب و لو كانت أول كتابة يراها في حياته ،و من يرى كرسي يعرف أن له صانع و لو كان أول كرسي يراه في حياته ،و من يرى لوحة فنية يعرف أن لها فنان ولو كانت أول لوحة فنية يراها في حياته ،و حتى الطفل الصغير إذا سمع صوتا انتبه إلي مكانه ليعرف سببه و إذا جاع طلب الطعام ليسد جوعته فالعقل يدرك بصورة فطرية وقبلية مستقلة عن الحس والتجربة أن لكل حادثة سببا [1] .

و لأن السببية إحدى مبادئ العقل فهي تتصف بما تتصف به المبادئ العقلية ،و المبادئ العقلية تتصف بصفتين رئيسيتين:
أ‌- أنها ضرورية، أي لا تقبل التعديل ولا الاحتمال، ولا تتوقف على الأفراد والظروف، ولذا فهي فطرية في الإنسان .
ب‌- أنها كلية ، إذ تسلِّم بها كل العقول و تحكم كل الأشياء[2] . .

والسببية مبدأ عام وحكم عام على جميع الأشياء المحدثة ،و الزعم بعدم صحة مبدأ السببية في بعض الأشياء المحدثة كالزعم بعدم صحة مبدأ عدم التناقض في بعض الأشياء أي الزعم بوجود بعض الأشياء المحدثة تحدث بلا سبب كالزعم بأن بعض الأشياء يمكن أن تتصف بصفة، وبنقيض تلك الصفة في وقت واحد و لا يخفى ما في هذا الزعم من الخطأ المبين .

و من المغالطات التي وقع الكاتب فيها أيضا أنه قدح في كلية مبدأ السببية العقلي البديهي بكلام نظري عن التأثير النفقي ، ولا يجوز القدح في المبادئ العقلية البديهية بالكلام النظري ؛ لأن المبادئ العقلية هي الأسس التي يستند إليها العقل في تفكيره و لو جاز القدح في البديهيات بالنظريات لزم فساد البديهيات والنظريات، فإن فساد الأصل يستلزم فساد فرعه، فتبين أن من سوغ القدح في القضايا البديهية الأولية الفطرية بقضايا نظرية فقوله باطل[3] .

وقد توهم الكاتب أن بإمكانه التشكيك في كلية مبدأ السببية ببعض التجارب و الملاحظات مع أن مبدأ السببية مبدأ عقلي نابع من العقل ،وليس الحس والتجربة فلا يعتمد على استقراء التجارب أو المشاهدات ،والانتقال من الجزء إلى الكل حتى يطعن في تعميمه على جميع المشاهدات وجميع التجارب عن طريق تجربة أو ملاحظة تخالف الاستقراء .


و قول الملحد – هداه الله - : ( هناك أشياء في عالمنا تحدث دون أي سبب ) يخالف البديهية القاضية أن لكل حادثة سببا ،ولكل أثر مؤثر و لكل فعل فاعل ولكل نتيجة سبب.

و قوله : ( هناك أشياء في عالمنا تحدث دون أي سبب ) كمن يقول : هناك أشياء تحدث بسبب اللاشيء ،وكمن يقول : أن اللاشيء يمكن أن ينتج شيئا وهذا يخالف البديهة القاضية أن اللاشيء لا يمكن أن يحدث شيئا و أن اللاشيء لا يمكن أن ينتج شيئا ،ولا يمكن لشيء أن يأتي من العدم، وفاقد الشيء إذا كان لا يملكه ولا يملك أسبابه لا يعطيه فكيف يعطي العدم الوجود ؟!!، و كيف يعطي اللاشيء شيئا ؟!! وكيف يحدث اللاشيء شيئا ؟!!

و من المغالطات التي وقع الكاتب فيها أيضا الاحتجاج بالجهل ،ومن المعلوم أن الجهل بالشيء ليس دليلا على أن هذا الشيء غير موجود[4] إذ عدم العلم ليس علماً بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها [5] ،وقد يكون الشيء موجودًا ولا يعلم دليل وجوده، وقد يكون له أكثر من دليل لكن هذه الأدلة غير معروفة و غير معلومة فعدم العلم بدليل إثبات وجود الشيء ليس دليلا على نفي وجوده , بل دليل على الجهل بدليل إثبات وجوده ، وما يجهله قوم قد يعلمه غيرهم .
و إذا كان الكاتب لا يعلم سببا للتأثير النفقي فبدل من أن يقول التأثير النفقي لا أعلم له سبب أو التأثير النفقي بلا سبب معروف أو بلا سبب معلوم حتى الآن جزم بأن التأثير النفقي ليس له سبب وكأن العلم بميكانيكا الكم قد وصل إلى منتهاه ومن ثم يغلق باب البحث في مسائل ميكانيكا الكم ،و هذا لا يقول به أحد إذ ما يعرفه العلم عن الأشياء أقل كثيرا مما يجهله ،وكم من أمور كان العلم لا يعرف سببها في الماضي ثم اكتشف مؤخرا سببها .

و إن كان لا يمكن تفسير ظاهرة النفق الكمومي أو الاختراق النفقي أو التأثير النفقي Tunneling effect على أسس الميكانيكا الكلاسيكية لكن يمكن تفسيرها على أسس ميكانيكا الكم و ما تقرره ميكانيكا الكم من ازدواجية الموجة والجسيم فالأمواج يمكن أن تسلك كالجسيمات والجسيمات تظهر صفات موجية [6] ،و كما تنص فرضية دي برولي De Broglie hypothesis أن الجسيمات المتحركة تتمتع بخواص ازدواجية[7] فالإليكترون ذو طبيعة مزدوجة بمعنى أنه جسيم مادى له خواص موجية فيمكن أن يتصرف في بعض الأحيان كموجة ويمكن أن يتصرف في البعض الآخر كجسيم .

وظاهرة الاختراق ظاهرة من ظواهر الموجات ،وبسبب الطبيعة المزدوجة للإليكترون فإنه يمكن أن يخترق حاجز الجهد potential energy barrier دون أن يكتسب طاقة إضافية تجعله يخترقه أي أن التأثير النفقي للإليكترون سببه طبيعته المزدوجة Dual nature of electron ،وحمله خصائص موجية .

أيها الأخوة : إن عبور الإلكترون حاجز الجهد ليس معضلة ولم يكسر أي مسلمة طبيعية؛ باختصار فإن سلوك الإلكترون كان موجيا عند التجربة لطبيعته المزدوجة فالتأثير النفقي ناتج من الخواص الموجية للجسيمات .


[1] - مذاهب فلسفية وقاموس مصطلحات لمحمد جواد ص 171
[2] - مدخل جديد إلى الفلسفة للدكتور عبد الرحمن بدوي ص 156
[3] - منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2/151
[4] - موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن صالح المحمود ص 245
[5] - الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق لسليمان بن سحمان ص 331
[6] - الكيمياء العامة: المفاهيم الأساسية لريموند تشانغ ص 218
[7] - أساسيات ميكانيكا الكم أ.د. إبراهيم محمود أحمد ناصر د. عفاف السيد عبد الهادي ص 35

د.ربيع أحمد
04-03-2016, 03:47 AM
والغريب أن الكاتب قد ذكر سبب ظاهرة النفق فقال : (فمع أن الإلكترون موضوع فوق الحاجز، فهناك احتمال صغير أن يصبح الإلكترون في الطرف الآخر من الحاجز دون أي سبب على الإطلاق، والسبب الوحيد هو العشوائية التي تعيش فيها الجسيمات الأولية والتي هي نتيجة للطبيعة الموجية للجسيمات الذرية، أي أن الإلكترون يعبر الحاجز وكأن الحاجز غير موجود ) .

و لعل القارئ قد رأي تناقض الكاتب فبعد أن قال بعدم وجود سبب على الإطلاق لهذه الظاهرة قال : (والسبب الوحيد هو العشوائية التي تعيش فيها الجسيمات الأولية والتي هي نتيجة للطبيعة الموجية للجسيمات الذرية ) فكيف يدعي بعدم وجود سبب ثم يقول : ( و السبب الوحيد هو العشوائية التي تعيش فيها الجسيمات الأولية ، و التي هي نتيجة للطبيعة الموجية للجسيمات الذرية ) ؟!!!! .
و لعل القارئ قد لاحظ مدى اللامنطقية التي عند الكاتب فقد انتقل من زعمه بعدم وجود سبب لظاهرة التأثر النفقي إلى القول باحتمالية أن ينشأ الكون بلا سبب فكيف سوغ لنفسه قياس سبب نشوء شيء بانتقال شيء من موضع إلى موضع ؟!! أي كيف سوغ لنفسه قياس سبب نشوء الكون بسبب انتقال إليكترون من موضع إلى موضع ؟!!

و كيف يقيس سبب ظهور شيء لم يكن له وجود ثم أصبح له وجود بسبب شيء موجود لكنه انتقل من مكان إلى مكان ؟!!! أضف إلى ذلك أن ما ينطبق على العالم الميكرسكوبي ليس بالضرورة ينطبق على العالم الماكروسكوبي ،وما ينطبق على مكونات الشيء قد لا ينطبق على الشيء نفسه .

ودعوى الكاتب أن الكون يمكن أن يكون ناشئا من العدم بلا سبب دعوى باطلة فالعدم ليس بشيء حتى يخلق ،و إن كان يقصد بالعدم الفضاء الفارغ فالفضاء الفارغ مكان جُرِد من الإشعاعات والجزيئات والجسيمات والمادة ،و ليس عدما وهو جزء من أجزاء الكون فكيف يأتي لجزء من أجزاء الكون ويدعي أن الكون نشأ منه ؟!!!!!!!!!!.

وإذا كان العلماء قد استطاعوا ملاحظة الكثير من الظواهر العجيبة في العالم تحت الذري وتمكنوا من تفسيرها ،و هذه الظواهر تقبل التفسير و هي مطردة و متكررة فهذا ينفي الصدفة والعشوائية ،و يدل دلالة واضحة على وجود واضع و منشئ ومسنن لها ؟ فمن الذي سن هذه الظواهر لهذا العالم الصغير ؟!!

هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

د.ربيع أحمد
04-03-2016, 03:56 AM
التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/97455/) أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=362099) أو هنا (http://islamselect.net/mat/113204)

د.ربيع أحمد
06-06-2016, 05:29 PM
الإجابة على سؤال ملحد:هل الخالق خاضع للزمن؟






الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل صحيح وادعاءات بلا مستند راجح ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .


و في هذا المقال سنتناول- إن شاء الله وقدر - شبهة لأحد الملاحدة العرب،و هذه الشبهة صاغها في شكل سؤال ،وهذا السؤال هو هل الخالق خاضع للزمن؟

يقول الملحد صاحب السؤال: "مبدأ السببية هو علاقة بين السبب والنتيجة أو السبب والحدث وهذا المبدأ يحتاج للتسلسل فالسبب دائماً يسبق النتيجة، وليس العكس، وهنا سنكون بحاجة لعامل الزمن ليلعب دور التسلسل الزمني، وهنا سنكون في وجه سؤال صادم بالنسبة للمؤمن. السؤال هو هل الخالق خاضع للزمن؟ .. وإذا كان الخالق خاضعا لزمن فمن أين جاء الزمن؟ .. إذا كان الخالق نفسه يعتمد ويحتاج الزمن في عملية الخلق؟ "

وكلام الملحد يحوي حقا و باطلا ،و الباطل الذي يحويه ينم عن الجهل بحقيقة الزمان ،ومن المعلوم أن أي حدث يقع فلابد له من زمان ومكان يقع فيهما، فلا يتصور حدث بدون زمان و لا مكان،و أي حدث يحدثه محدِث يصح السؤال عن زمن حدوثه بمتى ويصح السؤال عن مكان حدوثه بأين،و أي حدث من الأحداث بغض النظر عن فاعله فلابد أن يحدث في زمن معين ومكان معين ،و لا شكّ فِي أَن الله تَعَالَى إِذا خلق شيئا فَإِنَّمَا يخلقه فِي زمَان وَمَكَان.

و العقل يدرك انطباق الزمان والمكان بل والوجود على جميع الموجودات سواء أكان الموجود موجودا بذاته وهو الله وحده أو موجودا بغيره وهو كل ما سوى الله عز وجل، فما دامت في الوجود ذات ، لزم أن تكون هذه المعاني الذهنية البديهية صحيحة في حق تلك الذات .


واشتراك جميع الموجودات في مطلق الوصف بالوجود والزمان والمكان لا يستلزم الاشتراك في حقيقة هذا الوصف بالنسبة إلى كل واحد منهم فالصفة تليق بالموصوف ،وكما أن لله ذاتا لا تشبه ذوات المخلوقين ، فكذلك صفاته وأفعاله لا تشبه ذوات المخلوقين وأفعالهم ،والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات وعليه فوجود الخالق ليس كوجود المخلوق ،والزمن الذي يصح أن يوصف به الخالق ليس كالزمن الذي يوصف به المخلوق ،والمكان الذي يصح أن يوصف به الخالق[1] ليس كالمكان الذي يوصف به المخلوق .

و كما يقول ابن تيمية – رحمه الله - : ( القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيناً مقيداً، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا، وهذا لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله)[2].


وفرق بين قولنا أن الله خلق الكون في زمان ومكان معين ،وبين القول بأن الله احتاج إلى الزمان والمكان لخلق الكون فالله - عز وجل - لا يحتاج إلى شيء .

وقد اعتبر الملحد – هداه الله –أن المعاني المجردة التي تصف الموجودات كالزمان مثلا قوانين تخضع لها الموجودات ،والمعاني المجردة التي تصف الموجودات ليست قوانين تحكم الموجودات و ليست قوانين تخضع لها الموجودات .

ولو قلت مثلا فلان حكيم فهل معنى هذا أن فلانا هذا يخضع للحكمة أم يوصف بالحكمة ؟!! ولو قلنا الكون جميل فهل معنى هذا أن الكون يخضع للجمال أم يوصف بالجمال ؟!! ولو قلت أن طالبا ذاكر في الساعة العاشرة مساء فهل معنى كلامي أن الطالب احتاج إلى الساعة العاشرة مساء كي يذاكر أم أن وقت المذاكرة كان في الساعة العاشرة مساء؟
و لعل القارئ الكريم يستشعر من كلام هذا الملحد – هداه الله – أنه يريد أن يحصر السببية في الزمن ،و حصر السببية في الزمن لا دليل عليه فالسببية علاقة تربط بين السبب و النتيجة فحيثما وجدت نتيجة فلابد أن يكون لها سبب بغض النظر عن الزمن ،و لو جدت كرسيا ( نتيجة ) أجزم أن له صانع ( سبب ) سواء علمت وقت صناعته أم لم أعلم ،ولو وجدت كتابة في ورقة ( نتيجة ) أجزم أن لها كاتب( سبب ) سواء علمت وقت الكتابة أم لم أعلم ،ولو قلت : فلان حي ( نتيجة ) والدليل : أنه يتكلم ( سبب ) فأين عامل الزمن هنا ؟ ولو قلت : أمطرت السماء( نتيجة ) ،والدليل أن الأرض مبتلة بالماء ( سبب ) فأين عامل الزمن هنا ؟ ولو قلت : فلان مسلم ( نتيجة ) ،والدليل أنه يصلي صلاة المسلمين ( سبب )فأين عامل الزمن هنا ؟



و الله عز وجل منزه عن الزمان المخلوق لا منزه عن مطلق الزمان ؛ لأن أي شيء لم يكن له وجود في الماضي و لا له وجود في الحاضر و لا له وجود في المستقبل فليس بموجود أصلا ، و ليس في إثبات الزمن في حقه– سبحانه وتعالى –أي نقص بأي وجه من الوجوه ،و مهما قدرنا من زمان في الماضي فالله هو الأول ليس قبله شيء و مهما قدرنا من زمان في المستقبل فالله هو الآخر ليس بعده شيء .



هذا و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات



[1]- يعتقد المسلمون أن الله– عز وجل - فوق السماوات و فوق جميع خلقه بذاته و هو مع خلقه بعلمه و بصره وسمعه ، و معية الله لخلقه لا تنافي علوه ، وهذا ما عليه السلف الصالح و من سار على نهجهم .
[2]- التدمرية لابن تيمية ص 128

د.ربيع أحمد
06-06-2016, 05:35 PM
التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/98812/) أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=363144) أو هنا (https://islamselect.net/mat/113562)

د.ربيع أحمد
06-06-2016, 05:43 PM
فساد زعم ملحد أن الخالق يحتاج إلى الزمان ليخلق الكون
تعالى الله عما يقول الظالمون











الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل صحيح وادعاءات بلا مستند راجح ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

ومن المغالطات التي يدعيها الملاحدة زعم بعضهم أن الخالق يحتاج إلى الزمان ليخلق الكون يقول صاحب الزعم الباطل : "السبب هو حدث أو فعل يقتضي بتأثيره على حدث أو فِعل آخر، لذلك من البديهي أن يكونا، السبب و النتيجة، خاضعين لعلاقة زمنية مترابطة. و عليه، فالسبب الأول يشترط الوقت، و بالتالي لا يمكن أن يكون سبباً للزمن أيضاً. أي إذا كان الإله هو السبب الأوّل، فهو إذن ليس أعلى سلطةً، و إنما تعلوه الضرورة الزمنية و يصبح 'بحاجة' للزمن، الذي من جديد يبحث عن عِلّته! فمن يفترض وجود العِلّة، هو مطالب بالدليل، و هو مطالب بأن يثبت أن السببية تتوقف عنده فقط، لأن توقفها بحد ذاته هو ذلك التناقض بجوهره " ا.ه .

و كلام الملحد – هداه الله – يحوي العديد من المغالطات منها أنه عرف السبب بأنه حدث أو فعل يقتضي بتأثيره على حدث أو فِعل آخر ،وهذا لا دليل عليه ،والسبب هو ما يترتب عليه مسبب عقلا أو واقعا فالمقدمات الصادقة سبب صدق النتيجة ،وبعض الظواهر الطبيعة سبب ظواهر أخرى ،وهذا هو المعنى العلمي السائد اليوم[1]، و يرادف السبب العلة إلا أنها قد تغايره، فيراد بالعلة المؤثر وبالسبب ما يفضي إلى الشيء في الجملة أو ما يكون باعثا عليه[2].


ومن مغالطاته زعمه أن من البديهي أن يكون السبب والنتيجة خاضعين لعلاقة زمنية مترابطة أي حصر السببية في الزمن ،و هذا لا دليل عليه فالسببية علاقة تربط بين السبب و النتيجة فحيثما وجدت نتيجة فلابد أن يكون لها سبب بغض النظر عن الزمن ،ولو قلت : فلان حي ( نتيجة ) والدليل : أنه يتكلم ( سبب ) فأين عامل الزمن ،وأين الفاصل الزمني بين السبب والنتيجة هنا ؟ ولو قلت : أمطرت السماء( نتيجة ) ،والدليل أن الأرض مبتلة بالماء ( سبب ) فأين عامل الزمن ،وأين الفاصل الزمنيبين السبب والنتيجة هنا ؟ ولو قلت : فلان مسلم ( نتيجة ) ،والدليل أني رأيته يصلي صلاة المسلمين ( سبب )فأين عامل الزمن ،وأين الفاصل الزمني بين السبب والنتيجة هنا ؟

ومن مغالطاته دعواه أن السبب الأول - يقصد الخالق - يشترط الوقت أي يحتاج إلى وقت و هذه دعوى بغير علم و بغير دليل و تخالف المستقر في الفطر السليمة أن الخالق له الكمال المطلق من كل الوجوه .

وكيف علم الملحد أن الخالق يحتاج إلى الوقت ؟ هل على علم بكيفية ذات الخالق أو على علم بنظير لله فقاسه عليه أو على علم بخبر صادق عن الله فيه هذا الكلام ؟ ومن المعلوم أن لا أحد على علم بكيفية ذات الله ،ولا أحد على علم بنظير مساو لله بل لا يوجد نظير لله أصلا ولا أحد على علم بخبر صادق عن الله فيه بيان لكيفية أفعاله و بالتالي دعوى أن الخالق يحتاج لوقت ليفعل شيء من الأشياء دعوى باطلة لاشتمالها على تكييف أفعال الله – عز وجل - ،وتكييف أفعال الله لا سبيل لنا للعلم بها بأي حال من الأحوال.



و كيف يزعم الملحد أن الخالق – عز وجل - يحتاج إلى زمن ليخلق الكون ،والله - عز وجل - لا يحتاج إلى شيء فهو القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره الغني عن كل ما سواه،وكل ما سواه محتاج إليه مفتقر إليه ؟!! .

و الإنسان منا يحتاج لبعض الوقت كي ينجز فعل شيء من الأشياء لكن الخالق – عزوجل – إذا أراد فعل شيء ، فإنه يفعله وفق ما أراد في الوقت الذي أراده ،ولا يتأخر ذلك الشيء أبدا عن الوقت الذي أراده الله ،و لا يتقدم أبدا عن الوقت الذي أراده الله وهذا دليل القدرة التامة له سبحانه .


وليس معنى أن الخالق – عز وجل – يفعل شيئا من الأشياء في زمن معين أنه محتاج لهذا الزمن كي يفعل هذا الشيء فالاحتياج و الافتقار إلى الغير من صفات المخلوقات ممكنة الوجود ،وهو محال في حق الخالق واجب الوجود بذاته .

والموجود إما أن يكون موجودا بذاته مستغنيا بنفسه عن غيره ،وموجودا بغيره مفتقرا لغيره لإيجاده ،والكون الذي نعيش فيه لم يكن موجودا ثم وجد فهو محدَث مفتقر إلى من يحدثه ممكن الوجود يحتاج إلى من يرجح وجوده على عدم وجوده ،وهذا المرجح لابد أن يكون واجب الوجود بذاته وإلا لزم التسلسل في الفاعلين ،والتسلسل في الفاعلين باطل فتعين وجود خالق للكون واجب الوجود بذاته .

والموجود إما أن يكون قديما ليس لوجوده بداية ،وإما أن يكون محدَثا لوجوده بداية و المحدَث يحتاج إلى من يحدثه و يفتقر إلى من يحدثه والكون الذي نعيش فيه لم يكن موجودا ثم وجد فهو محدَث مفتقر إلى من يحدثه ،والذي يحدِث الكون لابد أن يكون قديما ليس لوجوده بداية وإلا لزم التسلسل في الفاعلين ،والتسلسل في الفاعلين باطل فتعين وجود خالق للكون قديم ليس لوجوده بداية ،ومن هنا ندرك أن الحاجة والافتقار من صفات المخلوقات لا رب المخلوقات .

و عند أهل العقول السليمة والفطر السليمة لا تقاس أفعال الخالق الموجود بذاته المستغني بنفسه عن غيره على أفعال المخلوقين المحتاجين المفتقرين إلى غيرهم قياس تمثيل .


والملحد – هداه الله – قاس أفعال الخالق على أفعال المخلوقين قياس تمثيل ،وكأنه يريد أن يقول مادمنا نحن البشر تحدث أفعالنا في زمن و نحتاج لهذا الزمن كي نفعل أي فعل فكذلك الخالق وهذا غير مسلم ،ولو أبعد الملحد التمثيل وأثبت ما يختص به الخالق من صفات و أفعال لما أورد هذه الشبهة إذ لا يصح قياس أفعال وصفات الخالق على أفعال وصفات المخلوق قياس تمثيل للتباين بين الخالق والمخلوق في الذات والوجود، وهذا يستلزم التباين في الصفات، لأن صفة كل موصوف تليق به، فالمعاني والأوصاف تتقيد وتتميز بحسب ما تضاف إليه[3].

ونشاهد في المخلوقات ما تشترك أسماؤه وصفاته في اللفظ وتتباين في الحقيقة، فللفيل جسم وقوة، وللبعوضة جسم وقوة، والتباين بين جسميهما وقوتيهما معلوم، فإذا جاز هذا التباين بين المخلوقات كان جوازه بين الخالق والمخلوق من باب أولى، بل التباين بين الخالق والمخلوق واجب، والتماثل ممتنع غاية الامتناع[4].

والخالق والمخلوق لو تماثلا للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع، فيكون كل منهما واجبا ممكنا، قديما محدثا، غنيا فقيرا، وهو محال عقلا، لما يتضمنه من جمع بين النقيضين[5].

و كيف سوغ لك عقلك أيها الملحد تطبيق أحد صفات المخلوقات - وهي الاحتياج إلى الزمن من أجل إحداث فعل- على رب المخلوقات ؟!!و لا يشفع لك عند العقلاء أنك لم تجد شيئا من المخلوقات في هذا الكون يحدث فعلا دون الحاجة إلى الزمن لأنك تتكلم عن رب المخلوقات لا أحد المخلوقات .

ألا يعلم الملحد أن الزمان المرتبط بالكون قد وجد مع نشأة الكون ،وقبل نشأة الكون لم يكن هذا الزمان موجودا ،ومع ذلك قد خلق الله الكون وأوجده بعد أن لم يكن موجودا ،ولو كانت قوانين الكون تطبق على الخالق لما وجد الكون أصلا ؛ لأن أي حدث في الكون يحتاج إلى زمن ،والزمن الكوني قبل نشأة الكون لم يكن موجودا؟!!!.

ألا يعلم الملحد أن العلم البشري لا يعرف ماذا كان قبل نشأة الكون و لا سبيل له لمعرفته فكيف يريد تطبيق القوانين التي تحكم الكون منذ نشأته - و التي تنطبق على الموجودات التي فيه – على موجود خارج الكون وكائن فوق الكون بل واضع للقوانين التي تحكم الكون ؟!! .

والقول بوجود منشئ للكون و خالق للكون ليس من باب الفرضيات في شيء و لكنه من القطعيات اليقينيات البديهيات عند أصحاب العقول السليمة ،و العلم بوجود خالق للكون كالعلم بوجود كاتب للكتابة و بانٍ للبناء و مؤثر للأثر وفاعل للفعل ومحدث للحدث ،وهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل فهي واضحة ظاهرة ،والواضح لا يحتاج إلى توضيح، والظاهر لا يحتاج إلى استظهار .

وقد يقول قائل لو كان وجود خالق للكون أمرا بديهيا لما أنكر وجوده أحد والجواب أن الإقرار بوجود خالق للكون إنما يكون بديهيا ضرورياَ في حق من سلم من المؤثرات الخارجية والشبه التي قد تجعله ينحرف عن الحق ، وقد يحتاج بعض الناس إلى ذكر الأدلة على وجود خالق للكون لوجود بعض الشبه لديهم أو لزيادة إيمانهم بوجود خالق .

و ليس في إيقاف السببية عند خالق الكون تناقض صحيح يذكر إذ السؤال عن سبب وجود شيء يصح فيما كان الأصل فيه الحدوث و أنه لم يكن موجودا ثم أصبح موجودا بعد عدم والخالق قديم أزلي بلا بداية وليس حادثا بعد عدم ، والأصل في الخالق الوجود إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون ؛ لأن فاقد الشيء الذي لا يملكه، ولا يملك سبباً لإعطائه لا يعطيه ، و إذا كان الأصل في الخالق الوجود فلا يصح أن نسأل عن سبب وجوده .

ولو قلنا بأن كل خالق له من خلقه أي خالق الكون له من خلقه،ومن خلق خالق الكون له من خلقه ومن خلق خالق خالق الكون له من خلقه وهكذا إلى ما لا نهاية فهذا يستلزم أن لا خلق للكون ،وهذا باطل لوجود الكون فوجود الكون يستلزم عدم تسلسل الفاعلين إلى ما لانهاية ، إذ لا بد أن تصل سلسلة الفاعلين إلى علة غير معلولة ، و لا بد من سبب تنتهي إليه الأسباب وليس هناك أسباب لا تنتهي إلى شيء ، وإلا لم يكن هناك شيء أي أن التسلسل في الفاعلين ممنوع، بل لابد أن نصل إِلَى نهاية، وهذه النهاية في الفاعلين أو المؤثرين هي إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

. هذا و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات



[1]- المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية بمصر ص 96
[2]- المعجم الفلسفي لجميل صليبا 2/96
[3] - تقريب التدمرية لابن عثيمين ص 22
[4]- تقريب التدمرية لابن عثيمين ص 23
[5]- حقيقة المثل الأعلى وآثاره لعيسى الغامدي ص 40

د.ربيع أحمد
06-06-2016, 05:48 PM
التحميل من هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/99470/)أو هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=363143) أو هنا (https://islamselect.net/mat/113563)

أبو مصعب المغربي
06-27-2016, 09:43 PM
شكرا دكتور على هذاالموضوع المميز

د.ربيع أحمد
01-13-2017, 12:31 AM
مغالطات أكذوبة أن مبدأ هايزنبرج يلغي السببية




الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل صحيح وادعاءات بلا مستند راجح ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .
ومن المغالطات التي يدعيها الملاحدة إدعاء أن مبدأ هايزنبرج يلغي السببية أو أن مبدأ اللادقة يدحض السببية أو أن مبدأ اللايقين يدمر السببية أو أن مبدأ عدم التأكد يزعزع السببية أو أن مبدأ اللاتعيين ينفي السببية .

يقول أحد الملاحدة : " يتمثل دحض السببية فيما يعرف بمبدأ الشك و اللاحتميه لهايزنبيرغ ، و الذي يضع حدود للدقة في تحديد موقع أي جسم متحرك و سرعته في نفس اللحظة الزمنية ، و بالتالي فلا يوجد سبب محدد لانتقال جسم من نقطة معينه إلى أخرى بل أن الحركة تتم بعشوائية تامة فيما يعرف بدالة شرودنجر الاحتمالية ، و قد تم إنشاء علم الكوانتم على يد مجموعة من نوابغ العقل البشري ابتداءا بنيلز بور و فيرنر هايزنبيرغ و ديفيد بوهم فيما يعرف بمدرسة كوبنهاجن و انتهاء بالعالم الفذ ريتشارد فاينمان " .

و من الملاحدة من يدعي خطأ مفهوم السببية بسبب مبدأ هايزنبرج ،و منهم من يدعي أن فيزياء الكم قائمة على مبدأ الارتياب الذي يلغي السببية تماماً .

و قبل بيان المغالطات التي يحويها إدعاء أن مبدأ هايزنبرج يلغي السببية يستحسن بنا معرفة ما هو مبدأ عدم التأكد لهايزنبرج و معرفة ماهية العلاقة السببية و معرفة مبدأ السببية فالحكم على الشيء فرع تصوره .
و مبدأ عدم التأكد لهايزنبرج Heisenberg's uncertainty principle هو مبدأ مهم في ميكانيكا الكم صاغه فرنر هايزنبرج عام 1927 ميلاديا ،و ينص على أن من المستحيل رصد و تحديد موقع و كمية تحرك الإلكترون بدقة في آن واحد فكلما زادت الدقة في رصد كمية تحرك الإلكترون قلة الدقة في تحديد موقعه ،و كلما زادت الدقة في تحديد موقع الإلكترون قلة الدقة في تحديد كمية تحركه و لمبدأ عدم التأكد العديد من الأسماء فيسمى مبدأ اللادقة ومبدأ الريبة و مبدأ الشك ومبدأ الارتياب ومبدأ اللايقين ومبدأ اللاتحديد ومبدأ اللاتعيين ومبدأ اللاحتمية ومبدأ عدم الدقة .

والسببية Causalityهي علاقة بين السبب و المسبَب[1] أي علاقة بين السبب و النتيجة ،ومبدأ السببية أحد مبادئ العقل فلكل ظاهرة سبب أو علة لوجودها ،وما من شيء حادث إلا كان لوجوده سبب يفسر وجوده [2] ،والعقل يدرك ذلك تلقائيا ،وبلا معونة الحس و التجربة كالتلازم والتلاحم بين وجود البناء ووجود الباني ،والجناية والجاني[3] .

إن العقل يدرك مبدأ السببية القاضي بأن لكل حادثة سببا بصورة تلقائية دون دليل ودون مقدمات و لا يحتاج في تصوره أو تصديق به إلى اكتساب أو معرفة سابقة بل يؤمن به بمجرد تصوره دون روية وتأمل ودون معرفة سابقة ،ويشترك في هذا الإدراك جميع الناس العالم منهم والجاهل الكبير منهم والصغير .

ومن يرى كتابة يعرف أن لها كاتب و لو كانت أول كتابة يراها في حياته ،و من يرى كرسي يعرف أن له صانع و لو كان أول كرسي يراه في حياته ،و من يرى لوحة فنية يعرف أن لها فنان ولو كانت أول لوحة فنية يراها في حياته ،و حتى الطفل الصغير إذا سمع صوتا انتبه إلي مكانه ليعرف سببه و إذا جاع طلب الطعام ليسد جوعته ،ومن هنا يتضح أن العقل يدرك بصورة فطرية وقبلية مستقلة عن الحس والتجربة أن لكل حادثة سببا [4] .


[1] - المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية بمصر ص 96 ،و المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 1/649
[2] - انظر المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 1/649
[3] - مذاهب فلسفية وقاموس مصطلحات لمحمد جواد ص 169
[4] - مذاهب فلسفية وقاموس مصطلحات لمحمد جواد ص 171

د.ربيع أحمد
01-13-2017, 12:36 AM
وبعد معرفة مبدأ اللادقة و العلاقة السببية و مبدأ السببية نأتي لبيان المغالطات والأخطاء التي وقع فيها الملاحدة عندما ادعوا بأن مبدأ عدم التأكد لهايزنبرج يلغي السببية ،و من هذه المغالطات والأخطاء التشكيك في حقيقة مطلقة absolute truth مقطوع بصحتها و لا تحتمل الخطأ بحقيقة نسبية relative fact تحتمل الخطأ ،و نقبل بصحتها حاليا في ضوء الأدلة المتاحة الدالة على صدقها فمبدأ السببية من البديهيات والحقائق المطلقة الثابتة في كل عصر و مصر ،وفي المقابل مبدأ عدم التأكد مبدأ علمي ،و المبادئ العلمية Scientific Principles كغيرها من أشكال المعرفة العلمية ليست صحيحة صحة مطلقة ، فقد يتم تغييرها أو تعديلها في ضوء المستجدات ،ومن ثم فإنها ليست حقائق نهائية أو مطلقة بل نسبية .

وقد أخطأ الملاحدة وتناقضوا عندما استدلوا على بطلان مبدأ السببية بمبدأ عدم التأكد فالدليل سبب للعلم بالشيء المستدل عليه ، و محاولة الاستدلال على رد مبدأ السببية تنطوي على الاعتراف بمبدأ السببية و تطبيقه ،و بعبارة أخرى لو كان مبدأ عدم التأكد يبطل السببية فقد أبطل الاستدلال به على بطلان السببية ،وإذا لم يكن مبطلا للسببية فلا حجة فيه على بطلان السببية .

ويلزم من كلام الملاحدة لوازم باطلة كعدم صحة أي استدلال لأن الإثبات والدليل عامل مهم من عوامل قبول النتائج، وإذا لم يرتبط الإثبات بالنتائج ، فلا يؤدي الإثبات إلى نتيجة ،ومن اللوازم الباطلة أيضا انهيار العلوم فجميع العلوم الكونية مبنية على السببية و لذلك لا يمكن للعلوم الاستغناء عن السببية ، و بسقوط السببية تنهار جميع العلوم وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم .

وكلام الملاحدة مخالف للواقع إذ لو لم تكن السببية موجودة في الواقع لما تمكن العلماء من تفسير الظواهر الكونية ، و لو لم تكن السببية موجودة في الواقع لما تمكن الأطباء من علاج الأمراض و الوقاية منها .

و مبدأ عدم التأكد لا يدل على نفي السببية بل يدل على استحالة تحديد موقع الإلكترون وكمية حركته في آن واحد تحديدًا دقيقًا أي الإنسان لا يمكنه قياس موقع الإلكترون وكمية حركته في آن واحد بدقة متناهية ذات عدم تأكد ضئيل أي الإنسان لا يمكنه قياس كل شيء بدقة 100% ،وفرق بين دقة نتيجة القياس و صحة نتيجة القياس فكل قياس نتيجته دقيقة لابد أن يكون صحيحا لكن ليس كل قياس نتيجته صحيحة يكون دقيقا .

وعدم القدرة على تحديد موقع الإلكترون وكمية حركته بدقة في نفس الوقت يؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ الدقيق بسلوك الإلكترون في المستقبل ،و عدم القدرة على التنبؤ الدقيق بسلوك الإلكترون في المستقبل قود مذهب الحتمية الصارمة الذي كان سائدا عند علماء الغرب خاصة في القرن التاسع عشر الميلادي قبل ظهور ميكانيكا الكم .

و حسب القائلين بالحتمية الصارمة أو الحتمية الميكانيكية فإن التغيرات التي تحدث في العالم عند أي لحظة تعتمد على فقط على حالة العالم عند تلك اللحظة ،والحالة تحدد بمواضع وسرعات الجسيمات فتغيرات المواضع تحددها السرعات و تغيرات السرعات تحددها القوى ،والقوى بدورها محددة بالمواضع .

فإن أمكننا أن نعرف حالة العالم عند أي لحظة فمن الممكن من حيث المبدأ أن نحسب بأدق التفاصيل السلوك والمعدل الذي سوف تتغير به هذه الحالة فإذا عرفنا هذا يمكننا أن نحسب الحالة في اللحظة التالية ثم نعتمد على ذلك كمرحلة انتقالية فنحسب الحالة في لحظة بعدها وهكذا بغير حدود[1] .

إن مذهب الحتمية determinism يعتقد بأن كل ما يقع في الكون من أحداث بما في ذلك الظواهر النفسية والأفعال الإنسانية نتيجة ضرورية تترتب على ما سبق من الأحداث فالعالم في نظر القائلين بالحتمية عبارة عن مجموعة عضوية ترتبط أجزاؤها فيما بينها كأجزاء آلة دقيقة، ولهذا فأنهم يرونه نظاماً مغلقاً يؤذن حاضره بمستقبله ، وتخضع سائر أجزائه لقوانين مطردة صارمة. ومعنى هذا أن العالم دائرة مقفلة يتصل بعضها ببعض اتصالاً علياً بحتاً بحيث يكون في استطاعتنا – باستقصاء الظواهر الحاضرة – أن نتنبأ بما سيحدث من الظواهر تنبؤاً يقيناً مطلقاً وهذا هو ما عناه لابلاس بعبارته المشهورة : " إن في وسعنا أن ننظر إلى الحالة الحاضرة للكون على أنها نتيجة للماضي وعلة للمستقبل " [2]

وفي الحتمية لا يمكن حدوث أشياء خارج منطق قوانين الطبيعة... وبالتالي لا مجال لحوادث عشوائية غير محددة سلفا ، ويعترف الحتميون بأنه ربما يصعب على الإنسان أحيانا معرفة النتيجة مسبقا نتيجة عدم قدرته تحديد الشروط البدئية للتجربة أو عدم امتلاكه للصياغة الدقيقة للقانون الطبيعي لكن هذا القانون موجود والنتيجة محددة سلفا[3] .

ويكفي للقارئ الكريم أن يعرف أن الحتمية تقوم على إمكان التنبؤ بالأحداث الكونية نظراً لوجود تعاقب حتمي مطرد بين الظواهر الطبيعية ...أما ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻠﻡ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺤﺘﻤﻴﺔ تعني ﺇمكانية ﺍﻟﺘﻨﺒﺅ باﻟﺤﺎﻟﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒلة للعالم الطبيعي بالاستناد إلى الحالة الحاضرة [4].


[1] - الفيزياء والفلسفة لجيمس جينز ترجمة جعفر رجب ص 150-151
[2] - مشكلة الحرية للدكتور زكريا إبراهيم ص 100
[3] - المعجم الفلسفي للدكتور مصطفى حسيبة ص 178
[4] - مشكلة الحرية للدكتور زكريا إبراهيم ص 101

د.ربيع أحمد
01-13-2017, 12:40 AM
ولعل القارئ الكريم أدرك من خلال قراءته لمبدأ عدم التأكد أن التنبؤ الدقيق مستحيل في مستوى العنصر الذري ؛ لأن اللاتعيين الذي أظهرتنا عليه الفيزياء الجديدة لا بد أن يفضى بنا إلى قوانين احتمالية[1] ،ولم يعد باستطاعة الفيزيائيين أن يعطوا توصيفاً حتمياً للأحداث الذرية بل تنبؤات احتمالية ،وفي هذا كسر للغرور العلمي ،ورد مفحم على من يدعي أن المعرفة البشرية قادرة على التنبؤ الدقيق بمصير الكون من الذرة إلى المجرة فما أوتي البشر من العلم إلا القليل .

ولعل القارئ الكريم أدرك اللامنطقية عند الملاحدة هداهم الله عندما أدعوا بأن مبدأ عدم التأكد يلغي السببية فما دخل تحديد موقع الإلكترون وكمية حركته بدقة في نفس الوقت بالسببية ؟!! و ما دخل التنبؤ الدقيق بسلوك الإلكترون في المستقبل بالسببية ؟!!!!!

والملاحدة هداهم الله قد خلطوا بين السببية و الحتمية الصارمة المطلقة المتطرفة ،والسببية معناها أن أي نتيجة لها سبب لكن الحتمية الصارمة أو الحتمية المتطرفة معناها أن نفس السبب يؤدي حتما إلى نفس النتيجة ، ولا يمكن أن تتخلف هذه النتيجة ولو تكرر السبب آلاف المرات أي السبب المعين يؤدي حتما إلى نتيجة معينة لا يمكن أن تتخلف ولا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مختلفة ولو تكرر السبب آلاف المرات ،ولذلك فالحتمية المتطرفة مخالفة لجميع الشرائع السماوية و مخالفة للواقع ومخالفة للعلم .

و دعني أعطيك أمثلة من الواقع فأنت تعلم أن المذاكرة بجد سبب للنجاح لكن هناك من ذاكروا بجد و لم ينجحوا ،وتعلم أن حمل المرأة سببه وطء الرجل زوجته لكن كم من رجل وطء امرأته ولم يحدث حمل ،وتعلم أن الأكل سبب للشبع لكن هناك من يأكل و لا يشبع ،وتعلم أن شرب الماء سبب للارتواء لكن هناك من يشرب الماء ولا يرتوي ،وتعلم أن أخذ الدواء المعين سبب للشفاء من المرض المعين لكن هناك من يتناول الدواء المناسب لعلاج مرضه ولا يشفى .

وها هو مبدأ عدم التأكد يرفض الحتمية المتطرفة و التي ترفضها الشرائع السماوية فأصبح هذا المبدأ يرفض ما رفضته تعاليم الشرائع السماوية .

ويكفي أن يعلم القارئ الكريم أن السبب وإن كان صحيحاً وتاماً في نظرنا فليس من المحتم أن يستوجب مسببه أو نتيجته فقد توجد موانع تؤدي إلى تخلف النتيجة .

قال ابن تيمية – رحمه الله - : ( ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب؛ فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات بل لا بد من ريح مربية بإذن الله ولا بد من صرف الانتفاء عنه؛ فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج بل كم من أنزل ولم يولد له؛ بل لا بد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع )[2].

وليعلم القارئ الكريم أن نقض الحتمية الصارمة لا يستلزم نقض السببية ،و أن لكل حدث محدِث أو لكل فعل فاعل بل غاية ما في الأمر عدم القدرة على التنبؤ الدقيق بسلوك الجسيمات في العالم الذري وتحت الذري في المستقبل ،ولا نخلط بين السببية و التنبؤ بالنتيجة الناشئة عن السبب ،و لا نخلط بين سبب الظاهرة الطبيعية والتنبؤ بنتيجة الظاهرة و بعبارة أخرى لا نخلط بين الجزم بوجود فاعل للحدث و بين توقع وقوع الحدث على نحو معين .

والخطأ الذي وقع فيه الملاحدة أنهم خلطوا بين السببية والتنبؤ بالنتيجة الناشئة عن السبب فقرروا أن مادام التنبؤ احتمالي فالسببية احتمالية ،و لا يخفي على كل ذي عقل أن كون الذي يذاكر ينجح أو لا ينجح لا يمنع ذلك من القول بأن النجاح سببه المذاكرة ،وكون لقاء الرجل بزوجته قد ينتج عنه حمل وقد لا ينتج لا يمنع ذلك من القول بأن حمل المرأة سببه لقاء الرجل بزوجته ،وكون انتقال عدوى ميكروبية إلى شخص قد يمرضه و قد لا يمرضه لا يمنع ذلك من القول أن المرض المعدي سببه انتقال العدوي الميكروبية إلى الشخص المريض .

وليعلم القارئ أن احتمال أن يوجد هذا الحدث أو ذاك لا يمنع من وجود فاعل للحدث .

وكون الإلكترون وجد بعد أن لم يكن موجودا فلابد أن يكون له موجِد حسب مبدأ السببية ،وكون الإلكترون محكوم بقوانين ،وإن كانت حسب معطيات العلم الحديث قوانين احتمالية فلابد أن يكون لهذه القوانين مقنن ومسنن حسب مبدأ السببية .

هذا و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات


[1] - مشكلة الحرية للدكتور زكريا إبراهيم ص 104 -105
[2] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/70

د.ربيع أحمد
01-13-2017, 12:48 AM
التحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=2232326) أو هنا (https://islamselect.net/mat/113583) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/99639/)

د.ربيع أحمد
01-13-2017, 12:58 AM
إبطال مزاعم الملاحدة حول ختان النبي صلى الله عليه وسلم



الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد ، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة إذ يفتك بالإيمان و يعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن ،و تجد المريض يجادل في البديهيات و يجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين ،ويجعل من الظن علما و من العلم جهلا و من الحق باطلا و من الباطل حقا .

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين و ضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل .

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل صحيح وادعاءات بلا مستند راجح ،ورغم ضعفها و بطلانها إلا أنها قد تؤثر في بعض المسلمين لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين ولذلك كان لابد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد شبهة تلو الأخرى و مغالطة تلو المغالطة ودعوى تلو الدعوى حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشبههم .

و قد تلقف الملاحدة هداهم الله قول بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا ثم بنوا عليه مزاعم باطلة يعف القلم عن كتابتها و اللسان عن ذكرها ،وذكر أحدهم وجود قولين للعلماء في مسألة ختان النبي صلى الله عليه وسلم قول أنه ولد مختونا وقول أن جده ختنه و قال بوجود روايات كثيرة تدل أنه ولد مختونا و أدعى أن الذي يولد مختونا يكون عنده مشكلة في القضيب و يكون عنده عقم وضعف جنسي وزعم بعض الملاحدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضا بالمبال التحتاني لأنه على حد زعمه ولد مختونا وانبهر بكلام هذا الملحد بعض زملائه من الملاحدة بل بعض المسلمين غير الملمين بالعلم الشرعي أصيبوا بالحيرة فكان لزاما أن نذب عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما زعمه عنه الملحدون .

مسألة ختان النبي صلى الله عليه وسلم

ليعلم القاريء الكريم أن علماء المسلمين اختلفوا في مسألة ختان النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه ولد مختونا[1] مسرورا [2]، وروي في ذلك حديث لا يصح[3]، ذكره أبو الفرج بن الجوزي في " الموضوعات " وليس فيه حديث ثابت، وليس هذا من خواصه، فإن كثيرا من الناس يولد مختونا... والناس يقولون لمن ولد كذلك: ختنه القمر، وهذا من خرافاتهم[4].
القول الثاني: أنه ختن صلى الله عليه وسلم يوم شق قلبه الملائكة عند ظئره[5] حليمة.
القول الثالث: أن جده عبد المطلب ختنه يوم سابعه وصنع له مأدبة وسماه محمدا.

قال أبو عمر بن عبد البر: وفي هذا الباب حديث مسند غريب، حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم، عن شعيب، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وجعل له مأدبة وسماه محمدا صلى الله عليه وسلم[6]، قال يحيى بن أيوب: طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري.
وقد وقعت هذه المسألة[7] بين رجلين فاضلين صنف أحدهما مصنفا في أنه ولد مختونا، وأجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام، وهو كمال الدين بن طلحة، فنقضه عليه كمال الدين بن العديم، وبين فيه أنه صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب، وكان عموم هذه السنة للعرب قاطبة مغنيا عن نقل معين فيها، والله أعلم[8].

ترجيح القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يولد مختونا

والراجح من أقوال أهل العلم حول مسألة ختان النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يولد مختونا و أنه خُتِن على عادة العرب لما يلي :
الأول : القول بأنه ولد مختونا خلاف العادة ،و لا يقبل ما هو خلاف العادة إلا بدليل صحيح صريح خال من معارض معتبر ،و لا يوجد حديث صحيح صريح خال من معارض معتبر يدل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا فتعين أنه لم يولد مختونا بل ختنه جده على عادة العرب و عموم هذه السنة للعرب يغني عن نقل معين فيها [9].
الثاني : لو ولد النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مختونا لنقل ذلك نقلا مستفيضا ؛ لأنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فهو خلاف العادة ،ولما لم ينقل ذلك نقلا صحيحا علم أن ذلك لم يحدث .
الثالث : من النقائص عند العرب أن يولد الإنسان مختونا ،والأنبياء والرسل سلمهم الله من كل نقص في الخلقة أو الخلق فتعين أنه لم يولد مختونا .
الرابع : لو كان القول بأنه ولد مختونا قولا صحيحا معروفا لعايره أعدائه و هجوه بذلك فمن النقائص عند العرب أن يولد الإنسان مختونا ،وأعدائه كانوا يبذلون كل جهودهم في صد الناس عن دعوته .
الخامس : الْخِتَان من الْكَلِمَات الَّتِي ابتلى الله بهَا خَلِيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأتمهن وأكملهن وَأَشد النَّاس بلَاء الْأَنْبِيَاء ثمَّ الأمثل فالأمثل وَقد عد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخِتَان من الْفطْرَة[10]، وَمن الْمَعْلُوم أَن الِابْتِلَاء بِهِ مَعَ الصَّبْر مِمَّا يُضَاعف ثَوَاب الْمُبْتَلى بِهِ وأجره والأليق بِحَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا يسلب هَذِه الْفَضِيلَة وَأَن يُكرمهُ الله بهَا كَمَا أكْرم خَلِيله فَإِن خَصَائِصه أعظم من خَصَائِص غَيره من النَّبِيين وَأَعْلَى [11].



[1] - مختونا أي لا قلفة له أو مقطوع القلفة
[2] - مسرورا أي مقطوع حبل السرة
[3] - قال ابن رجب قد روي: أنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مسرورا ولم يجترىء أبو عبد الله – أي أحمد بن حنبل - على تصحيح هذا الحديث ( لطائف المعارف لابن رجب ص 93 ).
[4] - قال الحاكم فى المستدرك: تواترت الأخبار أنه- عليه السّلام- ولد مختونا انتهى وتعقبه الحافظ الذهبى فقال: ما أعلم صحة ذلك؟! فكيف يكون متواترا؟ وأجيب: باحتمال أن يكون أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها فى السير – مع أنها ضعيفة - ، لا من طريق السند المصطلح عليه عند أئمة الحديث ( المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلاني 1/81 ) و قال ابن الجزري منتقدا لكلام الحاكم : أما كونه صلّى الله عليه وسلّم ولد مختونا مسرورا فالخلاف فيه مشهور بين العلماء ( غاية النهاية في طبقات القراء 2/185 ).
[5] - ظئره أي مرضعته
[6] - قَالَ ابْن العديم وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات أَن جده عبد الْمطلب ختنه فِي الْيَوْم السَّابِع قَالَ وَهُوَ على مَا فِيهِ أشبه بِالصَّوَابِ وَأقرب إِلَى الْوَاقِع ( زاد المعاد لابن القيم 1/206 )
[7] - هذه المسألة أي مسألة ختان النبي صلى الله عليه وسلم
[8] - زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 1/81 و انظر تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم ص 201 - 207 و معارف الإنعام لابن عبد الهادي ص 226
[9] - الأصل أن العادات لا تحتاج لإثبات أما نفيها فهو الذي يحتاج لإثبات ؛ لأن نفي العادة المستقرة مما تتوافر الدواعي والهمم على نقلها
[10] - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الفطرة خمس - أو خمس من الفطرة - الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب» رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 5889 و رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 257
[11] - تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم ص 205-206

د.ربيع أحمد
01-13-2017, 01:04 AM
على التسليم الجدلي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا

على التسليم الجدلي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا أي ولد بلا قلفة فانعدام القلفة أو غياب القلفة Aposthia لا يفقد الخصوبة و القدرة على الإنجاب [1]،و انعدام القلفة شيء والمبال التحتاني[2] Hypsospadias شيء آخر ، وحتى مرض المبال التحتاني عادة لا يفقد الرجل خصوبته و قدرته على الإنجاب[3] ،وبالتالى الزعم أن المريض بالمبال التحتاني يكون عنده عقم وضعف جنسي زعم باطل .

و لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم عقيما بدليل أن القرآن الكريم صرح بأن للنبي صلى الله عليه وسلم بناتا قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب : 59 ] و قوله تعالى : ﴿ وَبَنَاتِكَ ﴾ يدل أن للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من بنت و لو لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بنات فكيف يقول تعالى له : ﴿ وَبَنَاتِكَ ﴾ ،و لو كان للنبي بنت واحدة لم يخاطبه بالجمع بقوله تعالى : ﴿ وَبَنَاتِكَ ﴾ .

و من المعروف والمشهور عند علماء الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أولاد[4] ، و علماء الإسلام أدرى بنبيهم من غيرهم ،و من المعروف عند العقلاء أن الرجوع في كل مجال وكل فن من الفنون يكون إلى أهل هذا المجال و أهل هذا الفن ،و أن المتخصص في علم من العلوم أدرى به من غيره ،و أن صاحب الدار أدرى بما فيه ،و أن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب ،ولذلك إن اختلف في مسألة طبية فإنه يرجع فيها إلى أهل الطب ، وإن اختلف في مسألة هندسية يرجع فيها إلى أهل الهندسة ،وإن اختلف في مسألة نحوية يرجع فيها إلى أهل النحو و إن اختلف في مسألة دينية فإنه يرجع فيها إلى أهل الدين .


حديث من السنة يبطل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضا بالمبال التحتاني

و من السنة وجدت حديثا يكذب ما قاله الملاحدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مريضا بالمبال التحتاني فعن حذيفة، قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم، فبال قائما» فتنحيت فقال: «ادنه» فدنوت حتى قمت عند عقبيه «فتوضأ فمسح على خفيه » [5] ،والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه حذيفة رضي الله عنه ،و هو يتبول واقفا ،و مريض المبال التحتاني يتبول جالسا و لا يتبول واقفا و إلا ستتلوث ملابسه و أقدامه بالبول .

وقد سئلت منذ أكثر من عشر سنوات ما الحكمة في أن يرى شخص النبي صلى الله عليه وسلم ،وهو يتبول واقفا ؟ فقلت لرفع الحرج عمن يتبول قائما بشرط أن يأمن نظر الناس إليه ،و يأمن أن يصيبه شيء من رشاش بوله ثم بدى لي أن فعله صلى الله عليه وسلم من حكمه أيضا أن فيه ردا مفحما على من يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضا بالمبال التحتاني .

ولا يلزم من قول حذيفة رضي الله عنه أنه اطلع على فعل النبي صلى الله عليه وسلم بتفاصيله فهو كان متنحيا عنه ،ودنى منه عندما انتهى من فعله ،وفي عصرنا الحالي مراحيض معدة للتبول واقفا يتبول الشخص قائما ،ولا يرى من بجانبه تفاصيل فعله .

تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يكذب دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مصابا بالعجز الجنسي

أيها الأخوة إن تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم دليل على فحولته و كذب من يفتري عليه أنه عاجز جنسيا فهل الرجل العاجز جنسيا يتزوج بأكثر من امرأة ثم لا تطلب امرأة منهن الطلاق و لا تذكر عنه امرأة مثل هذا الأمر ؟!! و لو كان النبي صلى الله عليه وسلم عاجزا جنسيا كما يقول المبطلون لما أقدم على الزواج بأكثر من امرأة ،ولذلك كان من حكم تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - الرد على جهال العصر الذين يتهمون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعجز الجنسي .

هذا و الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات




[1] - غياب الجلد الذي يغطي مقدمة القضيب لا يمنع من الجماع ، و لا يمنع من قذف السائل المنوي في المهبل أثناء الجماع أي لا يمنع من إيصال السائل المنوي إلى المهبل أثناء الجماع ،وبالتالي لا يفقد الرجل خصوبته و قدرته على الإنجاب .
[2] -- المبال التحتاني أو الإحليل التحتي هو تشوه خلقي في مجرى البول ،وقد يترافق معه إنحناء القضيب chordee وتشوه القلفة حسب شدة الحالة ،و ينتهي مجرى البول meatus في مكان ما على طول الجانب السفلي من القضيب (تحتاني = تحت) بدلاً من طرفه بمعنى أن فتحة خروج البول أسفل المكان الطبيعى فى نهاية القضيب .
[3] - إذا كان الانتصاب جيدا وإذا كانت فتحة مجرى البول واسعة بدرجة كافية فلايوجد ما يمنع الجماع أو ما يمنع من قذف السائل المنوي في المهبل أثناء الجماع ،و إن كان يؤثر على الإطلاق الأمثل للحيوانات المنوية في المهبل لكن لا يمنع من الإنجاب .
[4] - انظر السيرة لابن إسحاق ص 245 ، و الطبقات الكبرى لابن سعد 3/4 و المعجم الكبير للطبراني 22/444 و السيرة النبوية لابن حبان 1/62
[5] - رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 273 ،و رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 224

د.ربيع أحمد
01-13-2017, 01:13 AM
التحميل من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=365118) أو هنا (https://islamselect.net/mat/116346) أو هنا (http://www.alukah.net/sharia/0/102568/)

د.ربيع أحمد
01-13-2017, 01:15 AM
شكرا دكتور على هذاالموضوع المميز
جزاكم الله خيرا