المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللائكــية و المثـقـف



الطلحاوي
06-17-2015, 05:36 PM
السلام عليكم

ثـمة مسلمة غدت مبتســرة و مضطردة تكشف عنهـا الأيام بكل جــلي و يؤكـدها التاريخ المعـاصر، تتـمثل هـذه البديهة في كـون أن أغلب المفردات و المفاهيم المتداولة في الغرب تُـصبح مـادة خـامّـة عند المثقفين العرب يهضمـها مِـنا المتغربون و يعيدون إنتاجها ، فيكفي أن يعرفَ الغربُ ضـمن تاريخـه الخـاص نـقاشا حول تصور مـا حتـى يندفـع المثقف نحو اجتــرار أدبيات النقاش و يصوغ عــلى هديهــا نظريات في الفكـر و السياسة و الاجتمـاع و الاقتـصاد ، يــحدث هــذا المــضغ بدعــاوى هيمنـة الغرب و تحكــمه في المجالات المختلفة و تحت تخاريف " كونية القيم الغربية " التي تــحولت إلــى مرجـع إيديولوجي يستقي منـه المثقف المتغرب بضاعتــه الهــجينة فيزعمَ فيها الخلاص لأزمـة العالم العربي الإسلامي. و لــعل الباحث في معظم كتب مثقفينا يجد حضــورا طاغــيا لمختلف المصطلحات المُــؤدلجة التي أفرزتها تقلبات التاريخ الغربي بملابساته الداخلية ، عــلى أن هــذه الالتقاطات المُعجمية، بما تحملها من خلفياتٍ ،لا تــعكس قـدرة المثقف العروبي علـى النقد و الغربلة بقدر ما تكشف أحــدَ أوجـه الاستلاب الثقافي الذي وصمَ المثقف العروبي اللائكي و ميزت مسيرته الأكاديمية ، فالمثقف " المُعلمَن " لا يشــعر بمدى خضوعــه لنمط الاستهلاك القيمي الغربي و لا يملك الجرأة الأدبية على الاعتراف بهــذه الحقيقية، كمـا أنه قلّمـا نسمع من أحدهـم اعترافا بَــواحا بتبعيتهم الثقافية لمنظومة القيم الغربية بقدر ما نلمس كِــبرا و تعاليا بالذات مستعملين في سبيل ذلك لغــةً خشبية جــافة لا طائــل منها تُــحاول عبثا أن تــدفع التهمة عنهم ، مــدارُ رد التهــمة أسطوانــةٌ مملة لا تــكاد تخــرج عن محفوظات نقد التراث و تحييد الدين و عقلنة التدبير السياسي و التحصن وراء "الحداثة" و" التنوير" و حقوق الأقليات و قيم مواثيق الحقوق " الكونية " و ضرورة تجديد الدين مع التطور و ثقافة المواطنة ... مفردات فــجة لا يبرحها خطاب المثقف المتغرب ما دام يعيش وعيــا مزدوجــا بين تاريخه و تاريخ الغرب المشاكس و المهيمن في الفكر و الواقع ، لـــكن هــل يبرر سيطرة هذا المارد الغربي ما نــشاهــده من فقر شديدٍ في التحليل المستند إلــى الذات لدى هؤلاء المثقفين ؟ هــل يكفي أن تــسود فــئةٌ مــا لنشرعِــنَ تبعية المنهزِم ؟ و لـــماذا أصبح المثقف بالذات ضحية التغريب و التشوه الثقافي ؟ لماذا كلما فتح المثقف العروبي عينيه عــلى كتاب أجنبي يحلل فيه ظاهــرةً مــا حــتى ينبـري في الانتصــار لــه و يصير ذيــلا له في المضغ اللغوي ؟ هــل يكفي أن تــسود الكتب الأجنبية في مكاتبنا حتـى نعلنهـا ولاء لمضامينهــا ؟ لماذا لم تتشــوه فلسفة المعتــزلة مثلا بمفردات تحليل الفكر اليوناني بنفس الحجم التي نلامسهــا عندنا الآن علـى مـا فيهـا من مآخـذ ؟.

صــخبٌ فكري و هذيــان ذهني يعيشـه المثقف العروبي اللائكي يفتــرض في عالمــه الخاص مــا يراه السبيل الأمـثل لتجاوز أزمــة الحكم و استبداد الدولة ، يُــحاول اللائكي أن يجعــل نفســه مُحللا و فيلسوفا و مؤرخــا ليقدم لواقع البؤس السياسي الإسلامي وصفاتٍ جــاهزةٌ مُــعلبة تُــخرِج عـالمنـا من أوصال التمـزق الاجتمــاعي و الاقتصــادي و السياسي ، فــهو إذ ينتــحل عنـاوين الحلول من " الأستاذ الغرب " و يُــكرس عقلـه المسكون بالأليــكـة لا يبالي بكساد بضاعته التي سممت عقول المنخدعين بالحل الاستيرادي و لا يأبــه بالولاء الحضاري للغرب الذي ينحني له إجلالا و ذلا ، و إنــما يواصــل في الحــفر حتــى يــصطدم بأحجار الواقع الصلب ، أحــجار جعلت العديد من مثقفي العصر الحديث و الراهــن يدركون أوهــام الحلول المستوردة و يقفون علــى حجم المكــر السياسي الذي أتــى علــى شريحــة كبيرة من المثقفين ، كمــا أن المثقف اللائكي إذ يمارس إعادة إنتــاج الوصفات الجاهــزة و يتعــاطى " مخدرات " الانتحــال المفاهيمي من " الأستاذ الغرب " و يسعـى في سبيل ذلك إلــى تكريس الهيمــنة اللغوية التغريبية علــى الواقــع المشهــود لــه بالفــراغ الإبداعي فإنــه يضع نفسه كمـا لــو أنــه أحدُ أعــمدة تبليغ طرُق الخــلاص و يطرح كتاباته كمــا لو أنها مشروع النــجاة ، و الــحال كما نعــتقده أن الخطاب الثقافي اللائكي يمثل أحــدَ أهــم مشكلات النهــوض و أبــرزَ مسالك التشوه الفكري و القيمي التي تعيق تجديد الذات و التراث نــظرا لمنسوب الحجب و الزيف الذي تمارسه معظــم الكتب اللائكية حول التراث و التجديد ، و نــظرا لكون معظــم الدارسين للفقــه السياسي من الأقــلام المتغربة لم يكونوا أصــلا متخصصين في قراءة التراث السياسي للأمــة ( كتاب قبل السقوط لفرج فودة نموذج صارخ لمدى التشويه التاريخي لذاكرة الأمــة السياسية ) ، فالعــقل اللائكي لازال يتصور الدين كما يتصوره العقل الدهــري الغربي و لا زال ينظـر إلــى النص كمـا ينظـر إلــيه العقل المتمرد علــى الدين و لازال يفتعـل الصراعات الوهمية داخل التراث بنفس الأدوات اللائكية دون أن ينتبــه إلى واقع الاستيلاب الفكري الذي عصف بمثقفينا و حولهم إلى آليات و جماجـمَ نــاطقة باسم الأليكة الإفرنجية. إنــنا نــرى في التدهــور الفكــري لــدى قطاع من المثقفين اللائكيين و الجمــودِ النظري ( نقصد بالجمود النظري حال الترديد الآلــي لمفردات " الأستاذ الغرب " و النسج علـى إيقاع الفصل المفتعَــل بين الدين كنظام و الدولة كأداة ) تحصــيل حاصل نجــمَ عن عــدم القدرة علــى تحليل الذات و بناءها بناء ذات علاقة بالمجال التداولي ، فيكفي لباحث في مقالات اللائكيين حتــى يقف علــى هــشاشــة التجديد التداولي و يدرك حجم الشرود الذهــني في تناول قضايا التراث و التجديد في مسائل السياسة و الاجتمــاع و الاقتصــاد و التاريخ من دون أن تتمــكن من مقاربة الأزمــة مقاربة تراثية نابعة من الذات ، لــكن ما الذي يجعــل المثقف اللائكي يشكِّــل عقبةً و جزءا من المشكــلة ؟ ما الذي يتحكم بعقل المثقف اللائكي و هــو ينظــر إلــى التاريخ و الواقع ؟ أليس من حــق الإسلامي أن يعتــبر الإنتاج الفكري اللائكي عائقــا ثقافيا يحول دون إكســاب الأمــة المناعــة و القدرة علــى التصدي لكل أشكــال التغريب الفكري و الأخلاقي ؟ ثـم أليس من السذاجة الاعتــبار بهذه الكتب المتمردة علــى الدين كفضاء قيمي و أصحاب معظمِها يشهــدون مراجعات و تراجعات في القناعات كلما زحف سن الشيخوخة عليهم ؟ أتستحــق تلك المقالات قيمة مدادهــا ؟ لماذا لا يستفيد المثقف اللائكي من النتائج الهزيــلة التي حصدهــا إبان المعارك الفكرية مع أنصار الذات و التجديد التداولي بدل العناد و الإصرار الجاف ؟ ( يُــنظَــر المناظرات التي عقدت بين فترات مختلفة بين الإسلاميين و اللائكيين و نترك القارئ النزيه حق الرأي في الحصيلة ، فليُنظَـر مثلا مناظرة المفكر محمد عمارة مع زعيم التغريب الماركسي فؤاد زكريا حول موضوع أزمـة العثل العربي ).

إنــنا نــرى استــحالة فـك الارتباط بين التغريب و الأليــكة مــا دام المثقف العروبي لازال يــتــغــذى بــوفــرة علــى قُـمــامات الفــكر العبثي الوجودي أو عــلى تُــرهات التحــليلات الانطباعاتية حــول الإنــسان و الدين و الوجود بالشــكل الذي نــجده عــند العـديد من التُّـــبــع العرب في ميــدان السياسة و التاريخ ، و نــحن إذ نــرى وحدة التغريب و الألــيكة لا نــسعى من خــلالها إلــى طــرح قضيــة العــمالة الحــضارية في حــق من افتُــتِــنَ بقيم الغرب و أسس نظامــه كــما يــحاول أن يستــنتج من ذلك المثقف العروبي فيشرع بالثرثرة الكــلامية الاستــهلاكية بنعت الإسلاميين بضيقي الأفق ، لــكنـــــنا نُــعيد طــرح جــوهــر المشكــلة من أصولـــها و بــذورهــا و نــود أن نــحلل أســباب التــمــزق الداخلــي في الفكــر و السلــوك ، و إذ نتأمــل في العــقل اللائــكي في عــلاقته بالــدين نــجده محــكومــا بعــقدة المنــظور الغــربي للديــن و مشــحونــا بحالات هيستيــريا الإبــعاد و الفصل مُــسخِّــرا في ذلك اللغــة المجتــثة التــي أنتــجتهــا كشوفات " العلوم الإنسانية " و مــوظفا لشتــى مفردات مخلفات الفكر الدهــري الغربي في صــراعــه المــرير مع الفكــر الديني كمــا تــجلــى في انحــرافات الإكليروس . و مــع شــيوع التــحليلات الدهرية المتسربــلة ب"العلمية" أصــبح في عــالمنا العربي إتــقانُ التقــليد و مــحاكــاة الثــرثرة الكــلامية بــضاعــةَ المثقف اللائــكي يُـقدمــها متخــمــرة بســموم الدهرية إلــى الجــمهــور الغــارقِ في استــبداد النُّــظم فيلتــقطــها كمــا لو أنــه ظــفرَ بالحــل الســحري لأزمــة الوجود ! .

تســتــمر هــذه اللغة الجــافة في الدوران بين المثقفين و أطــفال الثقافة فينظرون إلــى الــتراث كــخطٍّ أســود في تــاريخ الأمــة ثــم تــبدأ بعدها كتابات المحاكمات العلــنية للتراث بين من يرســلها مــادية فينقــب في الأصـول الطبقية ( النزعــات المادية لحسين مروة مــثالٌ بــارز للقراءة اللائكية المادية المؤدلجة للتاريخ ) و بين من يرسلــها لائكية من داخــل الدين نفسِــه فيقــرأ الإســلام قراءةً سطــحية مبتــدعــة تــحاول عبثا أن تــجد لــها مــكانا في الفضاء الإسلامي ( كتاب الإســلام و أصــول الحــكم لعلي عبد الرازق مــثالٌ علــى نموذج الابتــداع الديني للدين ) . بيــن هــذا الفــكر الحربــي علــى الدين و بين الفكــر الابتــداعي تــصول الأزمــة الثقافــية في عُــشاق الثقافة و تتشــوهُ قيمُ الدين فتصبــح غريبة و رِجعــيةً عــند أنــصار الحداثــة اللائكية و أنصافِ الثقافــة ثـــم يُـــصــرَخ في وجــه الفقـــــيــه و تُـــصــكُّ في حــقه كــل أشــكال التخــلف و الانــحطاط فتــجد من ينتــصر للرشــدية " العقلانية " و يُــعادي عقل الفقيــه الذي ارتــبط بالدين و تــحرك في نــطاقِــه التداولــي ، و تــجد من يُـــجمِــعُ كــل بــلاوى التقــهــقر الحــضاري عــلى الــزاهــد العــابد فيرســل شــواظا من نــار علــى الإمــام المتصــوف العابــر للذات و العقل (الغزالي مثلا) ، لــماذا لــم يستطع المثقف اللائكــي الاقتــرابَ من التاريخ و التــراث من الداخــل و البحــث في مكمونات عقــل الفقــيه و هــو يُــجاري الأحــداث و يتعــاطى مع واقعٍ مفعــم بالتقلبات الشــاذة ؟، لــم يــكـــد يطــيق لغــة الدين و قال الله تــعالى و قال الرســول عليه الســلام فتــــجــفــفَ عقلُه مثلما تجفف قلبُــه من الذكــر و لا حول و لا قــوة إلا بالله العظــيم.

إذا كــان المثقف اللائــكي في قــرارة نفســه يعــتبر الخـطاب الجـاف و اللغة الخشبية نتيجــة انفتــاحه علــى كتب التحليل اللائكي الغربي فأصــبح يجاريهــا في الإيقاع البلاغــي فــهذا لا يعفيه من المسؤولية الثقافية التي ينبغــي أن تتلاحــم مع محيطــها التداولية و لا يُـقــدِّم لــه امتيازات فكرية غير التقليد مــا دام غــارقا في التغريب ، فالمثقف اللائكي مــازال يتحرك في فــضاء قيم الغرب و يحسب نفســه متحــررا من الأســر الثقافي الغربي دون أن يــلاحظ مـــدى ارتبــاط معجــمه اللغوي بالــواقع التاريخي الظرفي للغرب الإفرنجي . إنــنا نــرى ازدواجية الايديولوجيات و تلاطمــها في المحــيط الواحــد عــائقا حقيقيا يحول دون إنــضاج العقل الجمعــي التداولي و يعيق إمكانات التحرر من القبضــة الافرنجية ، فتــحت دعــاوى ضرورة الانفتاح علــى قــيم العالم أصـبح واقعـنا مُــختبرا مبتذلا للإيديولوجيات الدهــرية يعــملُ فيه المثقف كوسيــطٍ للشــحن و النــفخ .


يُتبَع بحول الله...

الطلحاوي
06-17-2015, 06:07 PM
إن اختــيار المــرء قطــعةٌ من عقلــه كما قال القدماء إذ لا بــراءة في حــق من احتــرف التحليل الدهــري و كـــرس حياتــه لأجــل التنادي بما نادت بــه كتب اللائكيين في عــصر ما يسمــى بعصر " النهضة " و " الأنــوار " ، و إذ نــشدد النــكير علــى ضرورة الاستــقلال الثقافي في الفــكر و السلوك عن الأطــر الحضارية المغايــرة لا نستــهدف من وراء ذلك التشرنــق علــى الذات و الانغلاق داخل " الأنــا " و القــطع مع قــيم الآخرين و إنــما نقصــد بذلك التــحلي ب " الشخصية الثقافية " في مواجــهة أشــكال الهــيمنــة المصطلحية الغربية التي تــحمل معهــا القيم و أنـــماط العيش ، و نــحن إذ نــقرأ كتب الأقــدمين لا يكــاد يلمــس أحــد منــا أي اغتــراب في التحــليل و التوظيف اللغوي بقدر ما تــجدُ وحدةً ثقافية تداولية رغم أشــكال الاختراق اليوناني ، و هــذا مــا يعزز الاعتقاد بقــوة الاستقلال الحضاري للمسلــمين علــى عِـــلاَّت نــظام العض الذي أعــاقَ المسيرة السياسية و حــالَ دون إنــضاج آليات التدبير السياسي للخلافة الصورية.

لــو نفــذنا إلــى عقل المثقف اللائكــي لوجدنــاه يتصــور المشروع الحضاري عبارة عن عملية التقاطــية يــحاول فيه إدمــاج بعض مكونات الذات الحضارية بالمشروع التحديثي المفصول عن المجال التداولي ، فــهو عــقل لازال يــحلم بالنــهوض العربي و الإســلامي علــى النــمط الغربي الثائــر علــى الدين و الفكر الديني، و لازال يمارس تهــجينــا غريبا و عجيبا يجمــع بين الفلسفــة الإفرنجية في ميدان الإقصاء للدين و بين انتحال عناوين مستوحاة من الذات تُــوهِــــم بمشروع جديد يقطــع مع الاستبداد و حكم القهر و السيف ، و الــواقع في نظرنا أن ثــمة تـــناد قطعي بين الدعــوات المتغربة للمثقفين اللائكين في مقاربتــهم لطبيعة المشروع الحضاري و بين حقيقة البــناء الحضاري الذي أصــله الإسلاميون و حــددوا لــه خصوصياتــه التي ينفــرد به ( يُــنظــر كتابات محمد عمارة و سليم العوا و كمال أبو المجد و الشيخ عبد السلام ياسين و القرضاوي و البوطي و المسيري رحمه الله ....)، و يــعود الفضل في كــشف و تجديد النظر الحضاري إلــى مجهــودات الإسلاميين الذين تصــدوا لعمليات المســخ الفكــري و التــشوه الثقافي الذي طــبع العقلَ اللائكي في عُقــدتــه المستــديمة مع الدين . عــلى أن اللائكــي المثقف و إن كــان يدَّعــي في أكثــر من مــرة حياده و عدم اعتــراضه على الدين كرسالــة روحية فإنــه مــا فتئ يخــلط و يتخبط في التحليل و يستــعير منــاهــج دهرية تختــزل الدين في الشــعائر التــعبدية و تصرف عنــه القيم السياسية و الاجتماعية ، و قــد أصبــح الآن واضحا لكل ذي عينين العداء الســافر الذي يستبطــنه المثقف اللائكي متستــرا تحت خُـــدع الحياد و تنزيه الدين و حفظه من المنازعات و المصالح الذاتية ،هي كــلمة حق يُــراد بها باطــل، فمتــى يدرك المثقف اللائكي أرضــه و يحــل عقدتــه مــع الدين و يعود إلــى الإســلام في مرجعيته العليا ينــهلُ منه و يجدد به لا أن يجدده . أستــغــفر الله من حِــــبــرٍ جــافٍّ لا يُرقِّـقُ القلــب.

انســـجامــا مــع نــغمــة اللائكية و هيجــان المثقف نحو قولبــة قيمــها في واقع المعــطى الإســلامي نُــلاحــظ جلــيا هــوَسا شــديدا و تخــبطا في تــحليل المثقف للمــشاكــل التــي أفــرزتــها أصــلا نظام الــجبر اللائكي ، فــهــو يبــدأ نقاشــه السياسي و التحليل الفلسفي بطــرح أبــجديــات اللائكية و مسارهــا الطويل و يستــعرض محاسنــها في عيون عشاق أوهــامهــا عبر محاكاةٍ آلــية و إسقاطاتٍ تنافــي " العقل الناقد " لينتــهي إلــى ضرورة " الأنســنة " و تجذيــر التربية اللائكية في أنماط التفكــير لحل الإشكالات البنيوية و التمزقات السياسية و إحــلال ثقافــة المساواة و احتــرام الآخــر و تبنــي تعددية في كل شيء ... لا فــائدة من اجتــرار لــغة أصبحت مبتــذلة و عديمــة التأثــير في " العقل الجمعي " للأمــة تُــسَــوّقُ للاستهــلاك الإعلامي و الحفــظ البــلاغي أكــثر مما تُــعبِّــر عن تــأصيل دقيق و شرح موضوعي لواقــع الارتــهان السياسي و الاقتصادي و الاجتمــاعي ، لــقد عــوَّدتــنا الكتابات اللائكــية أسلــوبا واحــدا مُــغلــقا علــى نفــسه منطوٍ علــى نظامــه اللغوي المُــنــتَــحَل لفظًا و معنــىً من اللائكية/ الأم حــتى لَـيُحِــسُّ القارئ المحتــرم و هو يقرأ لمثقف لائكي " مُــزوَّر" أنــه يقرأ لدهــريٍّ خاض تجربــة مريرة مع الدين ، يُــعــصِّــرُ مُخَّــه و يُلــوِّي لغتَــه الهــجينــة بمصطلحاتٍ يحسبُ أنــه قد جــدَّدَ في الفكــر العالمي و أتــى بنظريات ثاقبــة و مــا هي إلا تقليديات جافــة تُــعبِّــر عن أحـد أوجه الأزمــة الفكرية لدى مثقفينــا .

قــد نستــثني من هــذا التكلف و الانتحال التحليلي بعض أقطاب الفكر الدهري الذين احتفظوا باللغة التداولية لكنهم سقطـوا في فــخ المضمون الفلسفي لللائكية و أصبحوا ذيولا مُلحَقـةً بالقيم الغربية التي اعتنقــت الدنــيا و طــلَّقــت الآخرة طلاقا بائنــا : من هــؤلاء طــه حسين قبل أن يــعود إلــى رشــده و يتصــالح مع دينه و عقــله و حضارتــه ( و نــحن نجد ردودَ عميد الأدب مصطفى صادق الرافعي رحمه الله خصوصا في كتابه الموسوم ب"تحت راية القرآن " نموذجــا فريدا للمثقف الناقد الأصيل ) و أيــضا مــحمد سعيد العشمــاوي الذي احتفظ باللغة التداولية و انســاق مع نزعات الفكــر الدهــري في علاقتــه بالدين ( و نحن نجد ردود المجدد محمد عمارة أبرز مثقف تداولي – بمفهوم طه عبد الرحمان - تصدى لتشوهات و مغالطات العشماوي التي سطرها في كتبه كَ " جوهر الإسلام " و " العقل في الإسلام " ، و يظــهر بشكل جلي قدرة المثقف المستنير محمد عمارة في كتابه " سقوط الغلو العلماني " علــى نقد التقليد اللائكي و كشف أوهامه الداخلية ) ، و منهــم أيضا فرج فــودة الذي أبــدع في اللغة و خانتــه القضية و أصبــح رمــزا للفكــر الدهــري يسمونــه الدهرييون بشهيد الفكــر، و لــو كانت الشهادة تُــنالُ بالبحوث الملفقة و التيه التاريخي و عدم التخصص لــكان كل من هب و دب شهيدا يَكذِب و يُــزوِّر فيُــحسَبُ شهيدا ! مـا أروعه . و لــستُ بحاجــة إلــى سرد كتب الردود حول افتراءاته التاريخية و منهــجه العليل في التحليل ، و لمن أراد فليراجع " ما قبل السقوط و سقوط صاحبه" ل عبد المجيد صبحي و كتاب المفكر الوازن منير شفيق في " بين النهوض و السقوط " ...

إذا استثنينا تلك الوجوه المحدودة التي حاولت اللعب بالكلمة و دغدغة العواطف فإنــنا لا نكــاد نجــدُ إلا شرودا غــائرا و تباعــدا سحيقا في اللغة التداولية و التحليل المنطقي لقضايا العصر من قِــبَلِ من نصبوا أنفسهــم مثقفين طوَّحُــوا الكلمة الأصيلة و غــرَّبُــوا البــلاغة و شردوا الفصاحــة و غــردوا خارج السرب ، مثقفون يعجنون الكلمات و يطرحون قماماتها في كتب جافة لا تــسرُّ الناظرين البتة ، و لمــن أراد الاستيقان فليقرأ كتب محمــد أركون و كمال عبد اللطيف و عزيز العظمــة و و جورج طرابيشي و جمال البنا و علي حرب و نصر حامد أبو زيــد ... كتب أصحابها طارت شُهــرة لكنــها لم تحصد إلا التيهان الفكري و التمزق المرجعي و تشجيع قيم الســفور و الانحــلال ، و لا يفــتـنِـنَــنَّ أحــداً بخــطاب المثقفين المُــؤليَكــين فــينــبري جــهلا بخلفياتهم لينتصــبَ شاهــرا بأســـلحة متصــدئــة ليدعــونـا إلــى التعددية و قبــول تأويلات الغير حول الدين و التاريخ و الحضارة ، فتحت عنــاوين الحريات الفكــرية تنــبتُ معيقــات الوحــدة المرجــعية و تــفــتتُ أسباب النــهوض الإسلامي بأوضاع المجتمعات المتعفــنة بحالات البؤس الأخــلاقي و الفســاد الاستبدادي و الانــحطاط الاقتــصادي ، و بكلــمة ، فتحت دعاوى " العقلية التقليدية المؤليكــة " عــواملَ الانــهيار.

لـــــكن مــما يُــبــهــرُ العقلَ و يصرفــه عن حــدود التحليل الحق أن اللائكيين و هــم يمضغـون ادعاءات اتهام الإسلاميين التداوليين بالماضويــة و التــقليد و الأصوليــة و عدم استخدام العقل النــقدي على ضوء التحولات المعاصرة في الحضارة لا يــأبهـون لمنــطوق تقليدهــم الجاف و انحناءهم التعبدي لشيوخ " النهضة و التنوير" و جريان المحاكاة المبتَــسرَة بشكل يــوحي كما لو أنهــم آليات نــاطقة لا تحســن إلا الترديد و نحتَ المفاهــيم و تطويــل الإطنابات المعرفية و انتــحال العنــاوين السياسية و التــخفي وراء " الإسلام المعتدل " و " الحوار " و " قيم التعددية " ، يمــارسون التــقليد التغريبي في أعــلى منسوبــه و يطالبون الآخرين الكف عن التقليد ! و أيُّ تقليد أنجى و أسلم ؟ أن تُلازمَ العقلَ الغربي الشارد و المفصول عن ذاكرتــه الدينية أم تُــحاكي من ينتمي إلــي ذات الحضارة و تحرَّك في إطــارها ؟ قــال الحبيب المصطفــى عليه الــسلام: (( لتبعن سنة من كان قبلكم، باعا بباع، وذراعا بذراع، وشبرا بشبر، حتى لو دخلوا في جحر ضب، لدخلتم فيه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال :فمن، إذا؟)). هــذا مــا يُــلــخِّــصُ أزمــة المثقف اللائكــي في عقدتــهِ المستديمــة مع الدين و يحدد لــنا جُــلّ الصراعات الإيديولوجية التي تشهــدها الســاحة الفكرية خصوصا في شقــها السياسي .

عــلى أن اللائكــي و هــو يحسبُ نـفسـه مجددا و مؤرخــا و عالمَ سياسة مدنية لا يكــاد يــرى في غــيره غير" الظــلامية " و " الرجعية " و العودة للمــاضي و" النصوصية " ، فــهو الحَــكــمُ و القــاضي و المعيار انطــلاقا مما استهــلكــه من ألفاظ و مــعان مؤَدلجة ، و نــحن نرصــد في كثير من الوقائع كيف يمارس العقل اللائكــي أسلوب الابتزاز و التكفير الثقافي بعيدا عن ما يتبجــحُ به من مبادئ قبول الآخــر و تعددية في الأفكــار، فعــلى سبيل المـثال نتــذكــر كيف أجــمعَ المثقفون اللائكيون في مصر علــى سحب وصف " المثقف " على المفكــر المستنير عادل حسين إبــان قومــته الشُجاعــة علــى الإيديولوجية الماركسية و عودته عن اعتناق التحليل المادي الدهري للتاريخ و الحضارة ليجــدَ رحابةَ الإسلام و منطقــه البديع أوسع و أحكم من أن تهزهــا افتراءات فلول الماركسية و أطفال الفكر الليبرالي المتوحش ، حينــما اختـار هذا الفارس انحيازه إلــى رؤية الإسلام في قضايا السياسة و الاقتصــاد و الاجتــماع تحرك اللائكيون في اتجاه اغتيال الثقافة و أبــوا إلا الكشف عن أحد أوجــه اللائكية المتسربلة تحت عناوين الحرية و قبول الآخرين ، لعــلها عُــقدة لازمت هــذا العقل و تحكمت في الذهنية الدهرية لتنعكس علــى مواضيع الزمن المعاصر في دنيا الفكر و السياسة و الاقتصاد ، يقول محمود سلطــان في هــذا الشأن : ( عندمــا أعرض أمين عــام حزب العمل المصري المعارض الكاتب الصحفي الراحل عادل حسين عن الماركسية و اتجـه نحو تبني وجهة النظر الإسلامية في الفكر و الاقتصاد و السياسة كــان من المفترض أن يحترم دعــاة التنوير في مصر رغبة حسين و اختياره، نزولا علــى إعــلاء قيم حرية الاعتقاد ، التي يدَّعي التنويريون أنهم الحرس التقليدي لها ، غير أن إحــدى المجلات المصرية الأسبوعية و الناطقة بلسان حال التنوير و التقدمية في مصر قررت طرد حسين من جنة الاستنارة ، إذ دأبَ صحفيو المجلة و كتابها على أن يطلقوا عليه لقب " مثقف سابــق " ) ( يُــنظر المنار الجديد ، 14 ربيع 2001 ص 86 ).

لا أدرِ لِــمَ لا يستــفيد اللائكيون من الذين كانوا ينافحــون عن شريعة اللائكية و كــرّسوا أعــمارهم لتثبيت جذور هذه النبتــة الغربية ، لا أدرِ لُــمَ تأخذهــم العنجهية الفارغة و تحكمــهم الأهــواء كلمــا أُشير إليهــم بنماذج المراجِعين عن قيم الأليكة و شواهــد ممن انخدعــوا ببريقها السَّـرابي ، فبدل أن يلتــزمــوا بمنطق العقل النقدي الذي يــدَّعون امتلاكــه في التحليل المنهــجي و يبصروا خواتــم معظــم اللائكيين في شأن العلاقة بين الدين و الدولة تــجدهــم يــستأنفون طريق ارتكاب الأخطاء القاتلــة و يجــترون معهــم أسباب الشقاق الإيديولوجي . سبحان الله ! عِــناد في عنــاد ، و لا يستدركنَّ أحدٌ بالاحتجاج علينا بــكون هذا دليل على انفلات اللائكيين من أســر التقليد و شهـادةٍ على الاستقلال العقلي عن اجتــهادات الآخرين ، فالعقــلاء من البشــر تُــهذبهــم التجارب و تردعــهم تكرار الظواهــر و تدفعهــم إلى استنباط الحكم و العِــبر لا إلـى مزيد من التعنت الفكري و التسربل وراء حرية الرأي و تعدد الاجتهادات، و الحــال أن اللائكيين في مُجملهــم ممن كانوا علــى قدر كبير من المطالعة السياسية و الفكرية عــادوا إلــى أصول الفكرة الإسلامية ليجعلوهــا العنوان الوحيد القادر عــلى التصدي و مواجــهة التحديات التي أفرزتــها أنظمــة الجبر اللائكيــة من اختلالات بنيويــة طــالت كــل حقول الأنشطــة الفكرية و الاجتــماعية و السياسية و الاقتصادية . نقولــها بصوت مرتفع لأننا لا نــرى بديلا عن الذات و لسنا بحاجة إلى عسكر الغير كما لسنا بحاجة إلى ثقافة الغير ، و الله أعلم و أحكم