أبو عمر النفيس
11-27-2015, 01:42 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، و الصلاة و السّلام على من لا نبيّ بعده ، و بعد ...
عندما ننظر إلى الملحدين نجد أنّهم يختلفون حين يتكلّمون عن أسباب إلحادهم ، إلى الدرجة التي تجعل البعض يشعر بأنّ لكلّ ملحد تجربته الخاصّة و أسبابه الشخصيّة الخاصّة به. ممّا قد يدفع بعض المؤمنين للحكم على الملحدين بأنّ إلحادهم لأسباب نفسيّة أو من أجل تبرير ارتكاب الشهوات بلا وازع و لا ضمير . و هذا التعميم خاطئ بطبيعة الحال ، مما يجعل الملحد ينفر أكثر من المؤمن باعتبار أنّ المؤمن يتّهمه بما ليس فيه.
و حيث أنّ أيّ حوار مثمر بين طرفين لن يتحقّق إلّا بفهم كلّ طرف للآخر ، فمن المهمّ جدا على كلّ المؤمنين أن يعلموا و يفهموا الأسباب التي تدفع البعض إلى الإلحاد . و حين إدراك تلك الأسباب يسهل جدا تفنيدها و تحليلها و تقريب المسافة بين الطرفين.أمّا الحوار بلا فهم للآخر فهو صراع لا طائل منه ، و لن يزداد الملحد إلا إلحادا ، لتأكّده أنّ المؤمن يدافع عن معتقده دون فهم لحال الطرف الآخر المخالف له. و بالمثل ، يجب على الملحد كذلك أن يحاول معرفة و فهم أسباب الإيمان ، لكي يستطيع أن يفهم المؤمن حين يتكلّم عن أسباب إيمانه.
لقد قمت قبل سنوات بحوارات عديدة مع الملحدين ، أحاول من خلال تلك الحوارات أن أفهمهم و أعرف الأسباب الجوهريّة التي تقف وراء إلحادهم . فتوصّلت إلى أنّ هناك نوعين من الأسباب تقف وراء الإلحاد.
النّوع الأوّل : أسباب شخصيّة . و هذه الأسباب تختلف من ملحد إلى آخر ، و ترجع لعوامل نفسيّة و مجتمعيّة و بيئيّة كوّنت الشخصيّة القابلة للإلحاد و النّافرة من الدين. و يصعب حصر هذه الأسباب لكونها كثيرة و تمثّل تجارب شخصيّة لكلّ ملحد. و تعتبر الأسباب الشخصيّة هي المفتاح الحقيقي لفتح باب الإلحاد ، فلولاها لما توجّه الإنسان إلى النّوع الثّاني من أسباب الإلحاد.
النّوع الثّاني : أسباب تنظيريّة . و هذه الأسباب هي التي ينظّر لها الملحدون و يكتبون لأجلها الكتب ، في محاولة للقول بأنّها هي الأسباب الحقيقيّة للإلحاد ، متجاهلين النّوع الأوّل و تأثيرها في تقبّل النّوع الثّاني. و لا يشترك جميع الملحدين في الاعتماد على هذه الأسباب ، بل يختلف كلّ ملحد عن الآخر في مدى اعتماده على هذه الأسباب . و لكن لكلّ سبب من هذه الأسباب مجموعة من الملحدين يعتمدون عليه.
سأتحدّث في هذا الموضوع عن النّوع الثّاني فقط من أسباب الإلحاد . و هذا النّوع يحتوي على أسباب كثيرة لكنّي أرى أنّ أهمّ هذه الأسباب يمكن حصرها في سبعة أسباب.
الأسباب التنظيريّة السّبعة للإلحاد :-
السبب الأوّل : عدم وجود دليل على وجود خالق.
و هذا يعتبّر أكبر و أهمّ دليل يعتمد عليه معظم الملحدين في مختلف العصور ، و هو أكثر سبب مشترك بين الملحدين. فالملحد يقول بأنّه لا يجد الدليل على وجود خالق ، فكلّ المؤمنين يزعمون أنّ هناك إله أو آلهة ، و لكنّ جميعهم لا يملكون دليلا على هذه الآلهة . و أيّ ادّعاء يأتي بلا دليل ، يُرفض بلا دليل. و حيث أنّ البيّنة على من ادّعى ، فيجب على المؤمنين تقديم الدليل على وجود خالق ، لا أنّ الملحد يقدّم الدليل على عدم وجود خالق ، فالمؤمن هو المدّعي و ليس الملحد.
السبب الثّاني : بطلان جميع الأديان و ثبوت أنّها بشريّة.
و هذا ثاني أكبر دليل يعتمد عليه الملحد ، فلا يوجد ملحد يبرّر إلحاده دون أن يقوم بالهجوم على دينه السّابق. فالملحد من الخلفيّة الإسلاميّة يبرّر إلحاده بالهجوم على الإسلام و إثبات أنّه دين بشري ، و الملحد من الخلفيّة المسيحيّة يقوم بإثبات أنّ المسيحيّة دين بشري ، و بالمثل الملحد من الديانات الأخرى . و من خلال ثبوت بطلان الدين السابق ، و بطلان الأديان الأخرى ، يخرج الملحد بنتيجة أنّ جميع الأديان باطلة و بشريّة . و حيث أنّ الأديان هي التي تزعم وجود إله ، فإنّ بطلان الأصل يؤدّي إلى بطلان الفرع. فإذا كان الدين باطل ، فعقائد الدين باطلة ، و أهمّ هذه العقائد وجود الإله . و بالتالي تصبح فكرة وجود الإله فكرة باطلة لبطلان الدين القائل بذلك. كما أنّ الملحدين يعتمدون على فكرة تعدّد الأديان و استحالة أن تكون جميع الأديان صحيحة . فإن كان هناك دين واحد فقط صحيح أمام هذه الآلاف من الأديان ، فإنّ نسبة اختيار الدين الصحيح تقترب من الصفر ، و بالتالي فالأقرب للمنطق هو أنّ جميع الأديان باطلة ؛ لصعوبة معرفة الدين الصحيح من كلّ هذه الآلاف من الأديان . و إذا كانت الأديان باطلة ، فهذا معناه أنّ فكرة الإله باطلة.
السّبب الثّالث : العلم ينفي الحاجة لوجود الخالق و يجيب على الأسئلة.
يعتقد الملحد أنّ العلم هو البديل للدين . فالأديان حاولت طيلة السنين الماضية تفسير الظواهر الطبيعيّة التي تحيط بنا ، فقدّمت الأديان تفسيرات ميتافيزيقيّة للظواهر الطبيعيّة و أرجعت هذه الأسباب إلى وجود الآلهة . بينما جاء العلم و فسّر تلك الظواهر بأسباب ماديّة و أثبت صحّة التفسير و أقام تطبيقات عمليّة عليها . و في قمّة النظريّات العلميّة التي يعتمد عليها الملحدون : نظريّة التطوّر ، و قانون بقاء الطاقة ، و فيزياء الكمّ . و بالتّالي يرى الملحد أنّ العلم قد قضى على إله الفجوات ، فقد كان الإنسان القديم يسدّ فجوة جهله بفكرة الإله ، بأنّ الإله هو الذي ينزل المطر و يسبّب الزالزل و البراكين ، فجاء العلم و فسّر المطر و الزلازل و البراكين بدون فكرة الإله. و حيث أنّ العلم ينفي الحاجة لوجود خالق و يجيب على الأسئلة ، لم يعد هناك مبرّر للاعتقاد بوجود خالق ، فلم تعد هناك فجوات ليسدّها الإله .
السّب الرابع : وجود الشّر في الكون.
يرى الملحدون أنّ هناك أربعة أشياء لا يمكن أن تجتمع معا ، و لا بدّ من رفض أحد الأمور الأربعة . الأوّل : الخالق رحيم. الثّاني : الخالق عليم. الثّالث : الخالق قادر . الرّابع : الشّر موجود. و حيث أنّ هناك شرّ في العالم ، متمثّل في الأمراض و الأوبئة و الفياضانات و القتل و الحروب و الفقر و غيرها من الشرور التي لا مجال لإنكار وجودها . فإنّ وجود الشّر يلزم أحد هذه الأمور : إمّا أنّ الخالق غير رحيم ، لأنّه لا يريد تغيير الشرّ في العالم. أو أنّ الخالق غير عليم ، لأنّه لا يدري بما يحدث في كوكب الأرض من شرور لانشغاله بخلق كواكب أخرى. أو أنّ الخالق غير قادر ، لأنّه يعلم بوجود الشّر و يريد تغييره و لكن لا يستطيع تغييره. و بغض النظر عن الصفة التي ننفيها عن الخالق ، فإنّ هذا يعني أنّ الخالق غير موجود ، لأنّ الإله المفترض وجوده ، تمّ وصفه بالصفات الثلاثة بالرحمة و العلم و القدرة معا ، فذهاب صفة من الصفات الثلاثة هو ذهاب للإله نفسه ، و دليل على عدم وجوده.
السّبب الخامس : التشوّهات الخَلقيّة و العشوائيّة الكونيّة.
حين ينظر الملحد إلى الأطفال الذين يولدون سيجد أعدادا كبيرة من الأطفال المشوّهين و المشلولين . فهذا بعين واحدة ، و الآخر برأسين ، و الثالث بدون يدين و لا رجلين . فهل هذا الطفل المشوّه جاء عن طريق خالق بديع متقن ؟ و بالتالي فالأطفال المشوّهين دليل أنّهم جاؤوا نتيجة لتفاعلات طبيعيّة و أسباب مبنيّة على الاحتمالات و الصدفة ، فقد تصيب أحيانا فيخرج الطفل سليما ، و قد تخطئ أحيانا فيخرج الطفل مشوّها . و لا يوجد خالق بديع يقف وراء إخراج الطفل ، و إلّا لما خرج مشوّها هكذا . كما أنّنا عندما ننظر إلى الكون سنجد أنّ هناك نجوم تتصادم بل مجرّات تتصادم و تهدم بعضها البعض ، مما يدلّ أنّ الكون محاط بالعشوائيّة . و لو كان هناك خالق يقف وراء تكوّن المجرّات و النجوم ، لما حدث بينها تصادم و انهيارات متكرّرة.
السّبب السادس : لا أثر لوجود خالق.
عندما ينظر الملحد إلى العالم فإنّه لا يجد أثرا للخالق . فالمؤمنون بالخالق يدعونه صباح مساء و يعبدونه و يقرّبون له القرابين ، و رغم ذلك يموتون جوعا و عطشا و تفتك بهم الأمراض و الأوبئة دون تفريق بين المؤمن و الملحد . فما هو أثر الخالق في حياة الإنسان ؟ فالكهرباء موجود من آثاره حيث ينير المصباح ، و الحرارة موجودة من آثار السخونة ، و الجاذبيّة موجودة من آثار سقوط الأشياء ، و لكنّنا لا نجد آثار الخالق.
السّبب السابع : لا فائدة من الإيمان بوجود خالق.
الملحد يرى أنّ الإيمان بوجود خالق لا فائدة منه بل على العكس يضرّه . فالمؤمن عندما يمرض يجلس في بيته يدعو إلهه ، بينما الملحد يبحث عن طبيب ليعالجه . و المؤمن يفجّر نفسه و يبيع حياته من أجل الجنّة الموعودة بعد الموت ، بينما الملحد يحبّ الحياة و يستمتع بكلّ دقيقة فيها . فيخسر المؤمن حياته الدنيا ثم يكتشف أنّه لا حياة بعد الموت ، فسبّب إيمانه له خسارة كبيرة. و حتّى لو كانت هناك حياة بعد الموت ، فإنّ المؤمن يكون قد ارتكب المعاصي و الذنوب التي تجعله يدخل النّار مع الملحدين . فحتى يكون الإيمان بالخالق مفيدا يجب أن تضمن وجود حياة بعد الموت ، و تضمن أنّك لن ترتكب معاصي ، و تضمن أنّ الإله سيسامحك على المعاصي بعد أن ارتكبتها . و حيث أنّك يا مؤمن لا تضمن كلّ ذلك ، فإيمانك بالخالق لا فائدة منه.
هذه هي أهمّ الأسباب التنظيريّة للإلحاد ، و كما تلاحظون فقد صغت هذه الأسباب بأفضل ما يكون ، وحسّنت من فكرة الملحدين إلى أبعد حدّ ممكن . و كلّي يقين أنّ أيّ ملحد يقرأ هذا الموضوع سيشهد أنّي نقلت عنهم فكرتهم كما هي بل و أفضل . لذا أتمنّى من الملحدين أن يحاولوا فهمنا نحن المؤمنون ، كما نحاول نحن المؤمنون فهمهم . و يجب التأكيد هنا أنّ الأسباب الشخصيّة هي التي تؤدّي إلى اتّجاه الإنسان نحو الأسباب التنظيريّة . كما لا يمكن إنكار أنّ هناك ملحدين يتمنّون أن لا يكون هناك خالق ، لكي يقوموا بشهواتهم كما يريدون ، و لا يتمّ سؤالهم عن جرائمهم و أخطائهم . فينطلقون من هذا التمنّي ليجعلوها حقيقة من خلال طرح أحد الأسباب السبعة للإلحاد . فيجعلون السبب هو الدافع في حين أنّ السبب المذكور هو مجرّد تبرير لقرار تمّ اتّخاذه مسبقا بدافع الرغبة الداخليّة و التمنّي. و لكن و لأنّ معظم الملحدين ينكرون هذه الحقيقة ، فيجب على المؤمن أن يعاملهم على الظاهر. و هو أنّ الأسباب السبعة هي التي تدفع الإنسان للإلحاد ، و ليست الأسباب الشخصيّة.
و سأقوم في هذا الموضوع بإذن الله تعالى بتفنيد و الردّ على جميع الأسباب السّبعة للإلحاد . و سيظهر للجميع مكامن الخلل في كلّ سبب من الأسباب المذكورة . و حين نتأكّد أنّ أسباب الإلحاد واهية و باطلة ، لم يعد هناك سبب وجيه للإلحاد ، و حينها يكون قرار الإلحاد قرار خاطئ ، لعدم وجود المبرّر الصحيح الدافع إليه.
فممّا لا يخفى على أيّ عاقل أنّ أيّ قرار يتّخذه الإنسان ، يجب أن يكون لأحد هدفين : إمّا لأنّ الأمر الثاني أكثر فائدة من الأمر الأوّل . أو يكون الأمر الثّاني أقلّ ضررا من الأمر الأوّل . فإن تبيّن أنّ الإلحاد ليس أفضل من الإيمان ، فسيكون من الخطأ انتقال الإنسان من الإيمان إلى الإلحاد.
و أتمنّى أن يكون هذا الموضوع قد ساهم في توضيح الصورة الكاملة للإلحاد ، لكي يعرف المؤمن حقيقة الإلحاد و أسبابه ، فيسهل على المؤمنين و الملحدين تقليل مسافة التباعد بينهما ، للوصول إلى كلمة سواء.
)( ... أبو عمر النفيس ... )(
الحمد لله وحده ، و الصلاة و السّلام على من لا نبيّ بعده ، و بعد ...
عندما ننظر إلى الملحدين نجد أنّهم يختلفون حين يتكلّمون عن أسباب إلحادهم ، إلى الدرجة التي تجعل البعض يشعر بأنّ لكلّ ملحد تجربته الخاصّة و أسبابه الشخصيّة الخاصّة به. ممّا قد يدفع بعض المؤمنين للحكم على الملحدين بأنّ إلحادهم لأسباب نفسيّة أو من أجل تبرير ارتكاب الشهوات بلا وازع و لا ضمير . و هذا التعميم خاطئ بطبيعة الحال ، مما يجعل الملحد ينفر أكثر من المؤمن باعتبار أنّ المؤمن يتّهمه بما ليس فيه.
و حيث أنّ أيّ حوار مثمر بين طرفين لن يتحقّق إلّا بفهم كلّ طرف للآخر ، فمن المهمّ جدا على كلّ المؤمنين أن يعلموا و يفهموا الأسباب التي تدفع البعض إلى الإلحاد . و حين إدراك تلك الأسباب يسهل جدا تفنيدها و تحليلها و تقريب المسافة بين الطرفين.أمّا الحوار بلا فهم للآخر فهو صراع لا طائل منه ، و لن يزداد الملحد إلا إلحادا ، لتأكّده أنّ المؤمن يدافع عن معتقده دون فهم لحال الطرف الآخر المخالف له. و بالمثل ، يجب على الملحد كذلك أن يحاول معرفة و فهم أسباب الإيمان ، لكي يستطيع أن يفهم المؤمن حين يتكلّم عن أسباب إيمانه.
لقد قمت قبل سنوات بحوارات عديدة مع الملحدين ، أحاول من خلال تلك الحوارات أن أفهمهم و أعرف الأسباب الجوهريّة التي تقف وراء إلحادهم . فتوصّلت إلى أنّ هناك نوعين من الأسباب تقف وراء الإلحاد.
النّوع الأوّل : أسباب شخصيّة . و هذه الأسباب تختلف من ملحد إلى آخر ، و ترجع لعوامل نفسيّة و مجتمعيّة و بيئيّة كوّنت الشخصيّة القابلة للإلحاد و النّافرة من الدين. و يصعب حصر هذه الأسباب لكونها كثيرة و تمثّل تجارب شخصيّة لكلّ ملحد. و تعتبر الأسباب الشخصيّة هي المفتاح الحقيقي لفتح باب الإلحاد ، فلولاها لما توجّه الإنسان إلى النّوع الثّاني من أسباب الإلحاد.
النّوع الثّاني : أسباب تنظيريّة . و هذه الأسباب هي التي ينظّر لها الملحدون و يكتبون لأجلها الكتب ، في محاولة للقول بأنّها هي الأسباب الحقيقيّة للإلحاد ، متجاهلين النّوع الأوّل و تأثيرها في تقبّل النّوع الثّاني. و لا يشترك جميع الملحدين في الاعتماد على هذه الأسباب ، بل يختلف كلّ ملحد عن الآخر في مدى اعتماده على هذه الأسباب . و لكن لكلّ سبب من هذه الأسباب مجموعة من الملحدين يعتمدون عليه.
سأتحدّث في هذا الموضوع عن النّوع الثّاني فقط من أسباب الإلحاد . و هذا النّوع يحتوي على أسباب كثيرة لكنّي أرى أنّ أهمّ هذه الأسباب يمكن حصرها في سبعة أسباب.
الأسباب التنظيريّة السّبعة للإلحاد :-
السبب الأوّل : عدم وجود دليل على وجود خالق.
و هذا يعتبّر أكبر و أهمّ دليل يعتمد عليه معظم الملحدين في مختلف العصور ، و هو أكثر سبب مشترك بين الملحدين. فالملحد يقول بأنّه لا يجد الدليل على وجود خالق ، فكلّ المؤمنين يزعمون أنّ هناك إله أو آلهة ، و لكنّ جميعهم لا يملكون دليلا على هذه الآلهة . و أيّ ادّعاء يأتي بلا دليل ، يُرفض بلا دليل. و حيث أنّ البيّنة على من ادّعى ، فيجب على المؤمنين تقديم الدليل على وجود خالق ، لا أنّ الملحد يقدّم الدليل على عدم وجود خالق ، فالمؤمن هو المدّعي و ليس الملحد.
السبب الثّاني : بطلان جميع الأديان و ثبوت أنّها بشريّة.
و هذا ثاني أكبر دليل يعتمد عليه الملحد ، فلا يوجد ملحد يبرّر إلحاده دون أن يقوم بالهجوم على دينه السّابق. فالملحد من الخلفيّة الإسلاميّة يبرّر إلحاده بالهجوم على الإسلام و إثبات أنّه دين بشري ، و الملحد من الخلفيّة المسيحيّة يقوم بإثبات أنّ المسيحيّة دين بشري ، و بالمثل الملحد من الديانات الأخرى . و من خلال ثبوت بطلان الدين السابق ، و بطلان الأديان الأخرى ، يخرج الملحد بنتيجة أنّ جميع الأديان باطلة و بشريّة . و حيث أنّ الأديان هي التي تزعم وجود إله ، فإنّ بطلان الأصل يؤدّي إلى بطلان الفرع. فإذا كان الدين باطل ، فعقائد الدين باطلة ، و أهمّ هذه العقائد وجود الإله . و بالتالي تصبح فكرة وجود الإله فكرة باطلة لبطلان الدين القائل بذلك. كما أنّ الملحدين يعتمدون على فكرة تعدّد الأديان و استحالة أن تكون جميع الأديان صحيحة . فإن كان هناك دين واحد فقط صحيح أمام هذه الآلاف من الأديان ، فإنّ نسبة اختيار الدين الصحيح تقترب من الصفر ، و بالتالي فالأقرب للمنطق هو أنّ جميع الأديان باطلة ؛ لصعوبة معرفة الدين الصحيح من كلّ هذه الآلاف من الأديان . و إذا كانت الأديان باطلة ، فهذا معناه أنّ فكرة الإله باطلة.
السّبب الثّالث : العلم ينفي الحاجة لوجود الخالق و يجيب على الأسئلة.
يعتقد الملحد أنّ العلم هو البديل للدين . فالأديان حاولت طيلة السنين الماضية تفسير الظواهر الطبيعيّة التي تحيط بنا ، فقدّمت الأديان تفسيرات ميتافيزيقيّة للظواهر الطبيعيّة و أرجعت هذه الأسباب إلى وجود الآلهة . بينما جاء العلم و فسّر تلك الظواهر بأسباب ماديّة و أثبت صحّة التفسير و أقام تطبيقات عمليّة عليها . و في قمّة النظريّات العلميّة التي يعتمد عليها الملحدون : نظريّة التطوّر ، و قانون بقاء الطاقة ، و فيزياء الكمّ . و بالتّالي يرى الملحد أنّ العلم قد قضى على إله الفجوات ، فقد كان الإنسان القديم يسدّ فجوة جهله بفكرة الإله ، بأنّ الإله هو الذي ينزل المطر و يسبّب الزالزل و البراكين ، فجاء العلم و فسّر المطر و الزلازل و البراكين بدون فكرة الإله. و حيث أنّ العلم ينفي الحاجة لوجود خالق و يجيب على الأسئلة ، لم يعد هناك مبرّر للاعتقاد بوجود خالق ، فلم تعد هناك فجوات ليسدّها الإله .
السّب الرابع : وجود الشّر في الكون.
يرى الملحدون أنّ هناك أربعة أشياء لا يمكن أن تجتمع معا ، و لا بدّ من رفض أحد الأمور الأربعة . الأوّل : الخالق رحيم. الثّاني : الخالق عليم. الثّالث : الخالق قادر . الرّابع : الشّر موجود. و حيث أنّ هناك شرّ في العالم ، متمثّل في الأمراض و الأوبئة و الفياضانات و القتل و الحروب و الفقر و غيرها من الشرور التي لا مجال لإنكار وجودها . فإنّ وجود الشّر يلزم أحد هذه الأمور : إمّا أنّ الخالق غير رحيم ، لأنّه لا يريد تغيير الشرّ في العالم. أو أنّ الخالق غير عليم ، لأنّه لا يدري بما يحدث في كوكب الأرض من شرور لانشغاله بخلق كواكب أخرى. أو أنّ الخالق غير قادر ، لأنّه يعلم بوجود الشّر و يريد تغييره و لكن لا يستطيع تغييره. و بغض النظر عن الصفة التي ننفيها عن الخالق ، فإنّ هذا يعني أنّ الخالق غير موجود ، لأنّ الإله المفترض وجوده ، تمّ وصفه بالصفات الثلاثة بالرحمة و العلم و القدرة معا ، فذهاب صفة من الصفات الثلاثة هو ذهاب للإله نفسه ، و دليل على عدم وجوده.
السّبب الخامس : التشوّهات الخَلقيّة و العشوائيّة الكونيّة.
حين ينظر الملحد إلى الأطفال الذين يولدون سيجد أعدادا كبيرة من الأطفال المشوّهين و المشلولين . فهذا بعين واحدة ، و الآخر برأسين ، و الثالث بدون يدين و لا رجلين . فهل هذا الطفل المشوّه جاء عن طريق خالق بديع متقن ؟ و بالتالي فالأطفال المشوّهين دليل أنّهم جاؤوا نتيجة لتفاعلات طبيعيّة و أسباب مبنيّة على الاحتمالات و الصدفة ، فقد تصيب أحيانا فيخرج الطفل سليما ، و قد تخطئ أحيانا فيخرج الطفل مشوّها . و لا يوجد خالق بديع يقف وراء إخراج الطفل ، و إلّا لما خرج مشوّها هكذا . كما أنّنا عندما ننظر إلى الكون سنجد أنّ هناك نجوم تتصادم بل مجرّات تتصادم و تهدم بعضها البعض ، مما يدلّ أنّ الكون محاط بالعشوائيّة . و لو كان هناك خالق يقف وراء تكوّن المجرّات و النجوم ، لما حدث بينها تصادم و انهيارات متكرّرة.
السّبب السادس : لا أثر لوجود خالق.
عندما ينظر الملحد إلى العالم فإنّه لا يجد أثرا للخالق . فالمؤمنون بالخالق يدعونه صباح مساء و يعبدونه و يقرّبون له القرابين ، و رغم ذلك يموتون جوعا و عطشا و تفتك بهم الأمراض و الأوبئة دون تفريق بين المؤمن و الملحد . فما هو أثر الخالق في حياة الإنسان ؟ فالكهرباء موجود من آثاره حيث ينير المصباح ، و الحرارة موجودة من آثار السخونة ، و الجاذبيّة موجودة من آثار سقوط الأشياء ، و لكنّنا لا نجد آثار الخالق.
السّبب السابع : لا فائدة من الإيمان بوجود خالق.
الملحد يرى أنّ الإيمان بوجود خالق لا فائدة منه بل على العكس يضرّه . فالمؤمن عندما يمرض يجلس في بيته يدعو إلهه ، بينما الملحد يبحث عن طبيب ليعالجه . و المؤمن يفجّر نفسه و يبيع حياته من أجل الجنّة الموعودة بعد الموت ، بينما الملحد يحبّ الحياة و يستمتع بكلّ دقيقة فيها . فيخسر المؤمن حياته الدنيا ثم يكتشف أنّه لا حياة بعد الموت ، فسبّب إيمانه له خسارة كبيرة. و حتّى لو كانت هناك حياة بعد الموت ، فإنّ المؤمن يكون قد ارتكب المعاصي و الذنوب التي تجعله يدخل النّار مع الملحدين . فحتى يكون الإيمان بالخالق مفيدا يجب أن تضمن وجود حياة بعد الموت ، و تضمن أنّك لن ترتكب معاصي ، و تضمن أنّ الإله سيسامحك على المعاصي بعد أن ارتكبتها . و حيث أنّك يا مؤمن لا تضمن كلّ ذلك ، فإيمانك بالخالق لا فائدة منه.
هذه هي أهمّ الأسباب التنظيريّة للإلحاد ، و كما تلاحظون فقد صغت هذه الأسباب بأفضل ما يكون ، وحسّنت من فكرة الملحدين إلى أبعد حدّ ممكن . و كلّي يقين أنّ أيّ ملحد يقرأ هذا الموضوع سيشهد أنّي نقلت عنهم فكرتهم كما هي بل و أفضل . لذا أتمنّى من الملحدين أن يحاولوا فهمنا نحن المؤمنون ، كما نحاول نحن المؤمنون فهمهم . و يجب التأكيد هنا أنّ الأسباب الشخصيّة هي التي تؤدّي إلى اتّجاه الإنسان نحو الأسباب التنظيريّة . كما لا يمكن إنكار أنّ هناك ملحدين يتمنّون أن لا يكون هناك خالق ، لكي يقوموا بشهواتهم كما يريدون ، و لا يتمّ سؤالهم عن جرائمهم و أخطائهم . فينطلقون من هذا التمنّي ليجعلوها حقيقة من خلال طرح أحد الأسباب السبعة للإلحاد . فيجعلون السبب هو الدافع في حين أنّ السبب المذكور هو مجرّد تبرير لقرار تمّ اتّخاذه مسبقا بدافع الرغبة الداخليّة و التمنّي. و لكن و لأنّ معظم الملحدين ينكرون هذه الحقيقة ، فيجب على المؤمن أن يعاملهم على الظاهر. و هو أنّ الأسباب السبعة هي التي تدفع الإنسان للإلحاد ، و ليست الأسباب الشخصيّة.
و سأقوم في هذا الموضوع بإذن الله تعالى بتفنيد و الردّ على جميع الأسباب السّبعة للإلحاد . و سيظهر للجميع مكامن الخلل في كلّ سبب من الأسباب المذكورة . و حين نتأكّد أنّ أسباب الإلحاد واهية و باطلة ، لم يعد هناك سبب وجيه للإلحاد ، و حينها يكون قرار الإلحاد قرار خاطئ ، لعدم وجود المبرّر الصحيح الدافع إليه.
فممّا لا يخفى على أيّ عاقل أنّ أيّ قرار يتّخذه الإنسان ، يجب أن يكون لأحد هدفين : إمّا لأنّ الأمر الثاني أكثر فائدة من الأمر الأوّل . أو يكون الأمر الثّاني أقلّ ضررا من الأمر الأوّل . فإن تبيّن أنّ الإلحاد ليس أفضل من الإيمان ، فسيكون من الخطأ انتقال الإنسان من الإيمان إلى الإلحاد.
و أتمنّى أن يكون هذا الموضوع قد ساهم في توضيح الصورة الكاملة للإلحاد ، لكي يعرف المؤمن حقيقة الإلحاد و أسبابه ، فيسهل على المؤمنين و الملحدين تقليل مسافة التباعد بينهما ، للوصول إلى كلمة سواء.
)( ... أبو عمر النفيس ... )(