أبو عمر النفيس
12-06-2015, 01:17 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، و الصلاة و السّلام على من لانبيّ بعده ، و بعد ،،،
إنّ من أهمّ الأسئلة التي يتمّ طرحها حول القرآن الكريم ، هو السؤال القائل : هل القرآن الكريم متواتر ؟؟
و ينقسم النّاس في الإجابة على هذا السؤال إلى مجموعتين أساسيّتين :
المجموعة الأولى تقول : نعم ، القرآن الكريم متواتر . و لأنّه متواتر فهذا دليل يقيني أنّه كلام الله.
المجموعة الثانية تقول : لا ، القرآن الكريم ليس متواترا . و لأنّه ليس متواتر فهذا دليل يقيني أنّه ليس كلام الله.
و من خلال النظرة العامّة للمجموعتين ، نجد أنّ المجموعتين يتّفقان على فكرة واحدة و هي أنّ التواتر يفيد اليقين . و المجموعة الأولى تدافع عن القرآن من خلال إثبات تواتره ، بينما المجموعة الثانية تهاجم القرآن من خلال نفي تواتره.
و المثير للاستغراب و الذي أصابني بالاستفزاز الشديد هو ظهور مجموعة ثالثة ! و المجموعة الثالثة ظهرت في السّاحة بحجّة الدّفاع عن السنّة النبويّة في وجه من يسمّون أنفسهم بالقرآنيين أو من له اعتراضات على بعض الأحاديث . و حيث أنّ أكبر حجّة يطرحها المستشكلون على الأحاديث الشريفة هي أنّ السّواد الأعظم من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول ليست متواترة ، بل هي رويات آحاد . و حيث أنّ الأحاديث النبويّة ليست متواترة ، فهي بالتّالي لا تفيد اليقين ، و بالتّالي فهي ليست بحجّة !
فكان جواب المجموعة الثّالثة هو : حتّى القرآن الكريم هو عبارة عن رواية آحاد ! فالقرآن وصل إلى الرسول عن طريق راوي واحد هو جبريل عليه السّلام ، و نقل القرآن من جبريل إلى النّاس راوي واحد هو الرسول محمّد صلى الله عليه و سلّم . و بالتالي فالرسول هو الراوي الوحيد للقرآن ، فيكون القرآن رواية آحاد حاله من حال الأحاديث النبويّة. فإن كانت روايات الآحاد لا تفيد اليقين و ليست بحجّة ، فالقرآن الكريم أيضا لا يفيد اليقين و ليس بحجّة . و بالتالي فهدم السنّة هو هدم للقرآن نفسه ، إذ هما من نفس المصدر و هو عدم التواتر !!!
و حقيقة ، لا أعلم كيف يقول هذا الكلام إنسان مسلم عاقل يعي تبعات هذا الكلام ؟؟!! فأصحاب هذه المقولة مستعدّون لإسقاط حجيّة القرآن بحجّة الدّفاع عن الأحاديث !! و يصرّون على جعل مصير القرآن من مصير السنّة ، بحيث إن سقط الثّاني فيجب أن يسقط الأول لزوما !!!
و لو قال هذا الكلام طويلب علم متحمّس ، لما أصابتني حالة الاستفزاز و الغضب ! و لو قال هذا الكلام إنسان كافر يريد هدم الإسلام ، لفهمنا مبرّرات هذا الكلام ..
و لكن المثير للغضب و الاستفزاز و الاشمئزاز في القضيّة هو أنّ من يقول هذا الكلام هم أناس يضعون على رؤوسهم عمامة العلم و يعلّمون النّاس الدين و يفتون لهم بالحلال و الحرام ، و لا حول و لا قوّة إلّا بالله ...!
من هنا أجد أنّ قضيّة تواتر القرآن تحتاج إلى تشريح و توضيح ، و تأصيل و تفصيل...
المحور الأوّل : مفهوم التواتر و دلالته
و في بادئ البدء ، لا بدّ من تعريف التواتر حسب اصطلاح علماء الحديث ..
و تعريف التواتر كالتالي : مارواه عددٌ كثير تحيل العادة تواطؤهم علي الكذب.و روَوا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء ، و كان مستند انتهائهم الحسّ ، و أفاد العِلم لسامعه.
و السؤال الفلسفي الأوّل في القضيّة هو : هل التواتر يفيد اليقين فعلا ؟!
هذا السؤال حين عالجه العلماء ، عالجوه بشكل خاطئ حسب وجهة نظري ... إذ انقسموا في الإجابة على هذا السؤال إلى قسمين :
القسم الأوّل : نعم ، التواتر يفيد اليقين ؛ لأنّ العقل يُحيل تواطؤ عدد كبير من النّاس على الكذب !
القسم الثّاني : لا ، التواتر لا يفيد اليقين ؛ لأنّه في كلّ دين هناك أخبار متواترة عندهم . فللهندوس أخبار متواترة عندهم ، و للمسيحييّن أخبار متواترة عندهم ، و هي أخبار كاذبة !
و حقيقة جواب القسمين خاطئ ؛ لأنّ السؤال في أصله غير دقيق ..
فهناك فرق بين سؤالين :
السؤال الأوّل : هل التواتر يفيد اليقين بأنّ الكلام المنسوب إلى المتكلّم ، قد صدر من المتكلّم ؟
السؤال الثّاني : هل التواتر يفيد اليقين بأنّ الكلام الصادر من المتكلّم صحيح ؟
و لا شكّ أنّ الفرق بين السؤالين كفرق السمّاء و الأرض ! و الفرق بين الجنّة و النّار ... !
فالسؤال الأول ، يبحث في صحّة ما نُسب إلى المتكلّم من كونه قد قال .. فعندما يقول النّاس بأنّ الرسول محمد قال : " كذا و كذا " .. و تواتر النّاس في إسناد هذه المقولة إلى ذلك الشخص .. فالمبحث الأول هو في صحّة ذلك الإسناد ، من كونه قد قال أو لم يقل !
بينما السؤال الثاني ، يبحث في صحّة ما قاله الرسول محمّد ، في حال قال : " كذا و كذا " .. هل مقولته هذه صحيحة أو غير صحيحة !
فالمبحث الثّاني هو في صحّة المقولة نفسها ، من كونها مقولة توافق الواقع أو تخالفه !
و للأسف الشديد الفلاسفة و العلماء حين بحثوا هذه القضيّة تجاهلوا الفرق بين السؤالين ، فوقعوا في مغالطة استمرّت إلى يومنا هذا . فأدّى إلى ظهور المجموعة الثّالثة التي كانت سببا في كتابتي لهذا المقال .. !
و بعد ظهور الفرق بين السؤالين ، لنا أن نعيد طرح السؤالين من جديد ، و نجيب عليهما :
السؤال الأوّل : هل التواتر يفيد اليقين بصدور الكلام المسنَد إلى المسنَد إليه ؟!
الجواب : نعم ، التواتر يفيد اليقين بصدور الكلام المسنَد إلى المسنَد إليه . فالعقل يُحيل تواطؤ عدد كبير من النّاس ، مختلفوا الأزمنة و الأمكنة ، على تقويل شخص واحد مقولة لم يقلها .
السؤال الثّاني : هل التواتر يفيد صحّة المقولة الصادة من قائلها ؟!
الجواب : لا .. التواتر مهمّته إسناد الكلام إلى صاحبه ، لا تأكيد صحّة المقولة نفسها . فقد يكون ذلك الشخص المتكلّم صادقا في مقولته أو غير صادق.
وعليه ،، فالتواتر مهمّته إيصال الكلام من السّامع إلى المتكلّم ، و إثبات أنّ الكلام قد صدر فعلا من المتكلّم ، وليس تقوّلا من الرواة و النقلة ...
و بهذا نخرج بنتيجة هامّة جدا و هي : ثبوت تواتر القرآن لا يعني صحّة القرآن ، بل ثبوت تواتر القرآن يعني أنّ القرآن الذي بين يدينا هو نفسه القرآن الذي صدر من فم الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم . أما مسألة أن يكون الرسول صادقا في كون القرآن كلام الله أو كلام من عند محمّد ، فالتواتر لا دخل له في إثبات هذا الادعاء أو نفيه.
و عليه ، فنفي التواتر عن القرآن لا يعني أنّه ليس كلام الله ، و إثبات التواتر إلى القرآن لا يعني أنّه كلام الله ...
المحور الثّاني : تواتر القرآن من عدمه
و الآن ننتقل إلى المحور الثّاني في الموضوع ، و هو سؤال الموضوع : هل القرآن الكريم متواتر ؟؟!!
الجواب : من خلال استقراء الماضي نجد أنّ المسلمين تواتروا على نقل هذا القرآن جيلا بعد جيل ، بما يفيد اليقين بأنّ القرآن الذي بين يدينا في هذا العام 1437 للهجرة ، هو نفسه القرآن الذي جمعه عثمان في عام 25 للهجرة .
بعد ذلك يأتي سؤال و هو : هل القرآن الكريم الذي جمعه عثمان هو نفسه القرآن الكريم الذي صدر من الرسول ؟؟!!
الجواب : من خلال استقراء الماضي ، نجد أنّه بين موت الرسول و شروع عثمان بعمليّة الجمع مدّة زمنيّة و قدها 14 سنة فقط ، إذ الرسول مات في عام 11 للهجرة ! و بالتالي الجيل الذي جمع القرآن هو نفسه الجيل الذي عاصر الرسول و سمع القرآن منه . و بالتالي فاجتماعهم على مصحف عثمان دليل عقلي أنّه هو نفسه القرآن الذي صدر من الرسول .
و عليه ، نخرج بالنتيجة الثانية الهامة في الموضوع و هو : القرآن الكريم الذي بين يدينا هو نفسه القرآن الذي صدر من الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم . فقد تواتر النّاس على نقل هذا القرآن بدءا مع جيل الصحابة و صولا إلى زماننا هذا . و هذا التواتر يفيد اليقين بأنّ القرآن الكريم الذي لدينا هو نفسه الذي كان بيد الرسول.
المحور الثّالث : الفرق بين القرآن و بين حديث الآحاد
و الآن ، ننتقل إلى المحور الثّالث في الموضوع و هو : هل تفرّد الرسول بنقل القرآن عن جبريل ، يجعل القرآن رواية آحاد من نوع حديث غريب ؟!
الجواب : لا مجال للمقارنة بين الحديث الغريب و بين القرآن الكريم ! فالقرآن الكريم صحيح لصحّة متنه و إعجاز المتن ، و ليس صحيحا لصحّة سنده ! بينما الحديث الغريب يصحّ إذا صحّ الإسناد و صحّ المتن معا ..
فالقرآن الكريم كلام منسوب إلى الله خالق الكون ، فيكون الرسول قد أسند هذا الكلام إلى الله ! فإمّا أن يكون الرسول صادقا في إسناده أو كاذبا في إسناده !
فإن كان الرسول كاذبا في هذا الإسناد فبالضرورة ، ليس لأحاديثه النبويّة حجّة . فمن يكذب على الله لا يؤخذ منه شيء !
بينما الحديث الغريب هو كلام أسنده شخص إلى الرسول ، فإن كذب هذا الشخص في إسناده ، فلا يعني كذب الرسول ، بل يعني كذب ذلك الشّخص ! و بالتالي لاوجه لجعل مصير القرآن من مصير الأحاديث الغريبة !
و عليه نخرج بالنتيجة الهامّة الثّالثة في الموضوع و هي : القرآن الكريم هو متن محض ، فلا قيمة للسند أمام التواتر . فإذا صحّ متن القرآن و خلا من التناقض و حوى على الإعجاز و لم يخالف الواقع ، دلّ ذلك على صدق إسناد الرسول هذا الكلام إلى الله ، و بالتالي يكون القرآن الكريم كلام الله يقينا . أمّا إذا احتوى متن القرآن على تناقضات و خالف الواقع و خلا من أيّ إعجاز ، دلّ ذلك على كذب إسناد الرسول هذا الكلام إلى الله ، و دلّ أنّ هذا الكلام هو كلام محمّد نفسه ، و بالتالي يكون القرآن مجرد حديث نبوي .. و تسقط حجيّته لكذب المتكلّم على الله ! بينما الحديث النبوي كلام أسنده النّاس إلى الرسول ، إذا تبيّن أنّ متنه باطل ، دلّ على كذب من أسند هذا الكلام إلى الرسول ، و لم يدلّ على كذب الرسول نفسه.
أدعو الله الكريم أن يكون هذا الموضوع قد ساهم في إزالة اللبس أمام كلّ من استشكل عليه موضوع التواتر ، سواء من المجموعة الأولى أو الثانية أو الثالثة ..
و الله الهادي إلى سواء السبيل ...
)( ... أبو عمر النفيس ... )(
الحمد لله وحده ، و الصلاة و السّلام على من لانبيّ بعده ، و بعد ،،،
إنّ من أهمّ الأسئلة التي يتمّ طرحها حول القرآن الكريم ، هو السؤال القائل : هل القرآن الكريم متواتر ؟؟
و ينقسم النّاس في الإجابة على هذا السؤال إلى مجموعتين أساسيّتين :
المجموعة الأولى تقول : نعم ، القرآن الكريم متواتر . و لأنّه متواتر فهذا دليل يقيني أنّه كلام الله.
المجموعة الثانية تقول : لا ، القرآن الكريم ليس متواترا . و لأنّه ليس متواتر فهذا دليل يقيني أنّه ليس كلام الله.
و من خلال النظرة العامّة للمجموعتين ، نجد أنّ المجموعتين يتّفقان على فكرة واحدة و هي أنّ التواتر يفيد اليقين . و المجموعة الأولى تدافع عن القرآن من خلال إثبات تواتره ، بينما المجموعة الثانية تهاجم القرآن من خلال نفي تواتره.
و المثير للاستغراب و الذي أصابني بالاستفزاز الشديد هو ظهور مجموعة ثالثة ! و المجموعة الثالثة ظهرت في السّاحة بحجّة الدّفاع عن السنّة النبويّة في وجه من يسمّون أنفسهم بالقرآنيين أو من له اعتراضات على بعض الأحاديث . و حيث أنّ أكبر حجّة يطرحها المستشكلون على الأحاديث الشريفة هي أنّ السّواد الأعظم من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول ليست متواترة ، بل هي رويات آحاد . و حيث أنّ الأحاديث النبويّة ليست متواترة ، فهي بالتّالي لا تفيد اليقين ، و بالتّالي فهي ليست بحجّة !
فكان جواب المجموعة الثّالثة هو : حتّى القرآن الكريم هو عبارة عن رواية آحاد ! فالقرآن وصل إلى الرسول عن طريق راوي واحد هو جبريل عليه السّلام ، و نقل القرآن من جبريل إلى النّاس راوي واحد هو الرسول محمّد صلى الله عليه و سلّم . و بالتالي فالرسول هو الراوي الوحيد للقرآن ، فيكون القرآن رواية آحاد حاله من حال الأحاديث النبويّة. فإن كانت روايات الآحاد لا تفيد اليقين و ليست بحجّة ، فالقرآن الكريم أيضا لا يفيد اليقين و ليس بحجّة . و بالتالي فهدم السنّة هو هدم للقرآن نفسه ، إذ هما من نفس المصدر و هو عدم التواتر !!!
و حقيقة ، لا أعلم كيف يقول هذا الكلام إنسان مسلم عاقل يعي تبعات هذا الكلام ؟؟!! فأصحاب هذه المقولة مستعدّون لإسقاط حجيّة القرآن بحجّة الدّفاع عن الأحاديث !! و يصرّون على جعل مصير القرآن من مصير السنّة ، بحيث إن سقط الثّاني فيجب أن يسقط الأول لزوما !!!
و لو قال هذا الكلام طويلب علم متحمّس ، لما أصابتني حالة الاستفزاز و الغضب ! و لو قال هذا الكلام إنسان كافر يريد هدم الإسلام ، لفهمنا مبرّرات هذا الكلام ..
و لكن المثير للغضب و الاستفزاز و الاشمئزاز في القضيّة هو أنّ من يقول هذا الكلام هم أناس يضعون على رؤوسهم عمامة العلم و يعلّمون النّاس الدين و يفتون لهم بالحلال و الحرام ، و لا حول و لا قوّة إلّا بالله ...!
من هنا أجد أنّ قضيّة تواتر القرآن تحتاج إلى تشريح و توضيح ، و تأصيل و تفصيل...
المحور الأوّل : مفهوم التواتر و دلالته
و في بادئ البدء ، لا بدّ من تعريف التواتر حسب اصطلاح علماء الحديث ..
و تعريف التواتر كالتالي : مارواه عددٌ كثير تحيل العادة تواطؤهم علي الكذب.و روَوا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء ، و كان مستند انتهائهم الحسّ ، و أفاد العِلم لسامعه.
و السؤال الفلسفي الأوّل في القضيّة هو : هل التواتر يفيد اليقين فعلا ؟!
هذا السؤال حين عالجه العلماء ، عالجوه بشكل خاطئ حسب وجهة نظري ... إذ انقسموا في الإجابة على هذا السؤال إلى قسمين :
القسم الأوّل : نعم ، التواتر يفيد اليقين ؛ لأنّ العقل يُحيل تواطؤ عدد كبير من النّاس على الكذب !
القسم الثّاني : لا ، التواتر لا يفيد اليقين ؛ لأنّه في كلّ دين هناك أخبار متواترة عندهم . فللهندوس أخبار متواترة عندهم ، و للمسيحييّن أخبار متواترة عندهم ، و هي أخبار كاذبة !
و حقيقة جواب القسمين خاطئ ؛ لأنّ السؤال في أصله غير دقيق ..
فهناك فرق بين سؤالين :
السؤال الأوّل : هل التواتر يفيد اليقين بأنّ الكلام المنسوب إلى المتكلّم ، قد صدر من المتكلّم ؟
السؤال الثّاني : هل التواتر يفيد اليقين بأنّ الكلام الصادر من المتكلّم صحيح ؟
و لا شكّ أنّ الفرق بين السؤالين كفرق السمّاء و الأرض ! و الفرق بين الجنّة و النّار ... !
فالسؤال الأول ، يبحث في صحّة ما نُسب إلى المتكلّم من كونه قد قال .. فعندما يقول النّاس بأنّ الرسول محمد قال : " كذا و كذا " .. و تواتر النّاس في إسناد هذه المقولة إلى ذلك الشخص .. فالمبحث الأول هو في صحّة ذلك الإسناد ، من كونه قد قال أو لم يقل !
بينما السؤال الثاني ، يبحث في صحّة ما قاله الرسول محمّد ، في حال قال : " كذا و كذا " .. هل مقولته هذه صحيحة أو غير صحيحة !
فالمبحث الثّاني هو في صحّة المقولة نفسها ، من كونها مقولة توافق الواقع أو تخالفه !
و للأسف الشديد الفلاسفة و العلماء حين بحثوا هذه القضيّة تجاهلوا الفرق بين السؤالين ، فوقعوا في مغالطة استمرّت إلى يومنا هذا . فأدّى إلى ظهور المجموعة الثّالثة التي كانت سببا في كتابتي لهذا المقال .. !
و بعد ظهور الفرق بين السؤالين ، لنا أن نعيد طرح السؤالين من جديد ، و نجيب عليهما :
السؤال الأوّل : هل التواتر يفيد اليقين بصدور الكلام المسنَد إلى المسنَد إليه ؟!
الجواب : نعم ، التواتر يفيد اليقين بصدور الكلام المسنَد إلى المسنَد إليه . فالعقل يُحيل تواطؤ عدد كبير من النّاس ، مختلفوا الأزمنة و الأمكنة ، على تقويل شخص واحد مقولة لم يقلها .
السؤال الثّاني : هل التواتر يفيد صحّة المقولة الصادة من قائلها ؟!
الجواب : لا .. التواتر مهمّته إسناد الكلام إلى صاحبه ، لا تأكيد صحّة المقولة نفسها . فقد يكون ذلك الشخص المتكلّم صادقا في مقولته أو غير صادق.
وعليه ،، فالتواتر مهمّته إيصال الكلام من السّامع إلى المتكلّم ، و إثبات أنّ الكلام قد صدر فعلا من المتكلّم ، وليس تقوّلا من الرواة و النقلة ...
و بهذا نخرج بنتيجة هامّة جدا و هي : ثبوت تواتر القرآن لا يعني صحّة القرآن ، بل ثبوت تواتر القرآن يعني أنّ القرآن الذي بين يدينا هو نفسه القرآن الذي صدر من فم الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم . أما مسألة أن يكون الرسول صادقا في كون القرآن كلام الله أو كلام من عند محمّد ، فالتواتر لا دخل له في إثبات هذا الادعاء أو نفيه.
و عليه ، فنفي التواتر عن القرآن لا يعني أنّه ليس كلام الله ، و إثبات التواتر إلى القرآن لا يعني أنّه كلام الله ...
المحور الثّاني : تواتر القرآن من عدمه
و الآن ننتقل إلى المحور الثّاني في الموضوع ، و هو سؤال الموضوع : هل القرآن الكريم متواتر ؟؟!!
الجواب : من خلال استقراء الماضي نجد أنّ المسلمين تواتروا على نقل هذا القرآن جيلا بعد جيل ، بما يفيد اليقين بأنّ القرآن الذي بين يدينا في هذا العام 1437 للهجرة ، هو نفسه القرآن الذي جمعه عثمان في عام 25 للهجرة .
بعد ذلك يأتي سؤال و هو : هل القرآن الكريم الذي جمعه عثمان هو نفسه القرآن الكريم الذي صدر من الرسول ؟؟!!
الجواب : من خلال استقراء الماضي ، نجد أنّه بين موت الرسول و شروع عثمان بعمليّة الجمع مدّة زمنيّة و قدها 14 سنة فقط ، إذ الرسول مات في عام 11 للهجرة ! و بالتالي الجيل الذي جمع القرآن هو نفسه الجيل الذي عاصر الرسول و سمع القرآن منه . و بالتالي فاجتماعهم على مصحف عثمان دليل عقلي أنّه هو نفسه القرآن الذي صدر من الرسول .
و عليه ، نخرج بالنتيجة الثانية الهامة في الموضوع و هو : القرآن الكريم الذي بين يدينا هو نفسه القرآن الذي صدر من الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم . فقد تواتر النّاس على نقل هذا القرآن بدءا مع جيل الصحابة و صولا إلى زماننا هذا . و هذا التواتر يفيد اليقين بأنّ القرآن الكريم الذي لدينا هو نفسه الذي كان بيد الرسول.
المحور الثّالث : الفرق بين القرآن و بين حديث الآحاد
و الآن ، ننتقل إلى المحور الثّالث في الموضوع و هو : هل تفرّد الرسول بنقل القرآن عن جبريل ، يجعل القرآن رواية آحاد من نوع حديث غريب ؟!
الجواب : لا مجال للمقارنة بين الحديث الغريب و بين القرآن الكريم ! فالقرآن الكريم صحيح لصحّة متنه و إعجاز المتن ، و ليس صحيحا لصحّة سنده ! بينما الحديث الغريب يصحّ إذا صحّ الإسناد و صحّ المتن معا ..
فالقرآن الكريم كلام منسوب إلى الله خالق الكون ، فيكون الرسول قد أسند هذا الكلام إلى الله ! فإمّا أن يكون الرسول صادقا في إسناده أو كاذبا في إسناده !
فإن كان الرسول كاذبا في هذا الإسناد فبالضرورة ، ليس لأحاديثه النبويّة حجّة . فمن يكذب على الله لا يؤخذ منه شيء !
بينما الحديث الغريب هو كلام أسنده شخص إلى الرسول ، فإن كذب هذا الشخص في إسناده ، فلا يعني كذب الرسول ، بل يعني كذب ذلك الشّخص ! و بالتالي لاوجه لجعل مصير القرآن من مصير الأحاديث الغريبة !
و عليه نخرج بالنتيجة الهامّة الثّالثة في الموضوع و هي : القرآن الكريم هو متن محض ، فلا قيمة للسند أمام التواتر . فإذا صحّ متن القرآن و خلا من التناقض و حوى على الإعجاز و لم يخالف الواقع ، دلّ ذلك على صدق إسناد الرسول هذا الكلام إلى الله ، و بالتالي يكون القرآن الكريم كلام الله يقينا . أمّا إذا احتوى متن القرآن على تناقضات و خالف الواقع و خلا من أيّ إعجاز ، دلّ ذلك على كذب إسناد الرسول هذا الكلام إلى الله ، و دلّ أنّ هذا الكلام هو كلام محمّد نفسه ، و بالتالي يكون القرآن مجرد حديث نبوي .. و تسقط حجيّته لكذب المتكلّم على الله ! بينما الحديث النبوي كلام أسنده النّاس إلى الرسول ، إذا تبيّن أنّ متنه باطل ، دلّ على كذب من أسند هذا الكلام إلى الرسول ، و لم يدلّ على كذب الرسول نفسه.
أدعو الله الكريم أن يكون هذا الموضوع قد ساهم في إزالة اللبس أمام كلّ من استشكل عليه موضوع التواتر ، سواء من المجموعة الأولى أو الثانية أو الثالثة ..
و الله الهادي إلى سواء السبيل ...
)( ... أبو عمر النفيس ... )(