المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباتلي ومحمد عبده !



أحمد بن مسفر العتيبي
02-01-2016, 07:32 PM
استمعتُ إلى مادة مُسجَّلة ومنشورة ، منسوبة للشيخ الباتلي وفقه الله تعالى وسدَّده حول عجوة المدينة ، وقد ورد في كلامه ما معناه أن عجوة المدينة المباعة حالياً في الأسواق ليست هي العجوة بعينها التي رغَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكلها على الريق سبع تمرات . وجزى الله فضيلته خيراً على إجتهاده وتمحيصه .

ولما سمعتُ كلامه تذكرتُ قصة قديمة وقعت تقريباً في عشرينيات القرن الهجري الماضي ، أيام الشيخ محمد عبده ( ت: 1323هـ) العالم المصري الإصلاحي. رحمه الله تعالى .

فقد زار مِصر آنذاك أحدُ المستشرقين النصارى وأراد الإسلام في بلد الأزهر ، وبسبب حظِّه العاثر فقد دلَّه بعض الأدباء على فقيه أزهري مُتشدِّد ، فجلس في حلقته ليتعلَّم منه الوضوء ونوع الماء الطهور فيه .

فأخذ الأزهري يشرح له أنواع المياه : مياه الآبار ومياه الأنهار ومياه الأمطار ، والفروق بينها إذا خالطتها نجاسة ، وحكم الوضوء بماء الباقلاء وحكم ماء العدس ،ونحوها من الفروع الفقهية الدقيقة ، حتى كره المستشرق الإسلام ونفر من جواب الأزهري .
وفطن بعض العوام لحاله ، فدلًّه على الشيخ محمد عبده ، فلما حضر إليه وسمع قصته منه وحبِّه للإسلام قال له بهدوء : الماء الذي تشربه توضأ منه ! . فحبَّبه للإسلام ودخل فيه من ساعته .

فالذي ترجَّح عندي – في موضوع العجوة – أن الشيخ الباتلي يُقرُّ بأن المعروض تمرٌ من تمر المدينة ، من بين لابتيها ، أي الحرَّتان ، فنفي العجوة بالكلية إثبات بلا قرينة مُسكتة ودعوى عريضة ضعيفة. فيلزم من هذا سقوط دعواه.

فإن قال إن المعروض ليس من تمر المدينة مطلقا ً، فيلزمه اليمين شرعاً ، ولو قال بالعكس لبطلت الدعوى . فهذه قاعدة يجب التسليم بها قبل المناقشة والحِجاج .

• وفي رأيي أن كلام الباتلي غير دقيق من وجوه عشرة :

1- التمر النبوي لا يُمكن نفاده أو كساده بدليل وجود البركة في المدينة النبوية ، من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، ودعاء الرسول لصاع أهلها ومُدِّهم ، وهذا يسري في الأطعمة والأشربة ونحوها من طيبات الأرض .
فلا يجوز كسر هذه البركة بالقول بنفاد العجوة أو ندرتها ، لأن ذلك نقيض لأصلها ، ولأنه إعتداء على تكريم النبي صلى الله عليه وسلم لأهلها . وهذا أدبٌ قلَّ من يتفطَّن له من الناس .

2- العرف مُعتبر في أرزاق الناس . وقد صح في الحديث : ” دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ” أخرجه مسلم . والعجوة ليست بضاعة كاسدة أو مجهولة الوصف والمقدار ، فأهل الزرع وأهل الحديث وأهل الطِّب يعرفونها بالحدِّ والوصف ، وهي سوداء اللون وقد يخالطها حُمرة أحياناً بحسب الهواء وشدة الحرّ ، وقد يختلف طعمها وحجمها بحسب التربة وعذوبة الماء. ولا ريب أن العرف قرينة مُرجِّحة عند الأصوليين .

3- كل شيء يتغير بتغير الزمان والمكان ، فالهواء والماء والتربة لا تبقى على حال واحدٍ على مرِّ الأيام والسنين .
والأطعمة يلحقها من ذلك بحسب قدرة الله وسننه في الخلق ، لبيان بديع صنعه وكمال قدرته. فربما تنقص تارةً وربما تزيد تارةً ، وربما ترخص أحياناً وربما تغلى أحياناً أخرى ، فيظن بعض الناس أنها فانية أو كاسدة ، كعجوة المدينة .

4- النخيل تمرض وتضعف . وهذا يعرفه أهلُ الفلاحة والزرع ، فالرطوبة والتعفُّن – أو نزول المطر في غير وقته النافع ، أو التلقيح الخاطىء ، وهذا من قدر الله – سببٌ للآفات على المحاصيل ، فَتُهلكها أو تُعدم ثمارها ، فيؤثِّر ذلك على وصفها ولونها ، فيستغربها من لا خِبرة له في حال النخيل والثمار . وقد صحَّ في الأثر :” أنتم أعلم بِدُنياكم “. أخرجه مسلم .
فإطلاق حكم أغلبي على العجوة يجب أن يكون مقيداً بضابط يعرفه أهل الخبرة حتى لا يقع الإنكار عليه . وحتى لا يفهمه بعض الناس على غيره وجهه فيُشكِّك في بركة المدينة النبوية .

5- النِّزاع في المسائل الدنيوية يحكم فيه المُجرِّبون وأهل المِهن والحِرف .
فمثل هذه المسألة نُدرة عجوة المدينة أو إنعدامها في الثمار، لا عبرة بحكم غير أهل الإختصاص كائناً من كانوا .
فيوجد الآن في العالم حوالي (2000 ) ألفان من أصناف التمور ، لا يُميِّز بين أنواعها إلا أهلها الذين عرفوها وتوارثوا العمل فيها .

6- العجوة من ثمر الجنة ، فيمتنع شرعاً انعدامها . وفي الحديث : ” العجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السُّم” . أخرجه الترمذي بإسناد حسن .

7- صفة العجوة ثابتة على مرِّ التاريخ وهي : أنها سوداء اللون ،صغيرة النَّوى ، كأنها لسان طائر ، وأن طعمها يختلف باختلاف أنواعها.
ولعل هذه الرواية توضِّح المراد : وهي أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم نزلوا بالرجيع سَحراً، فأكلوا تمر عجوةٍ ، فسقط نواة في اﻻ‌رض ، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون النهار.فجاءت امرأةٌ من هُذيل تَرعى غنماً فرأت النوى فأنكرت صغرهن،وقالت هذا تمر يثرب ، فصاحت في قومها: قد أُتيتم. فاقتصوا آثارهم حتى نزلوا منزﻻً،‌ فوجدوا فيه نوى تمرٍ تزوَّدوه من المدينة ، فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد ركنوا في الجبل. رواه السُّهيلي في الروض الأنف.

8- بعض الناس يظن أن العجوة نوع واحد وهذا خطأ . والصحيح أنها أنواع عديدة منها ” الصيحاني ” كما أفاده العلامة الأزهري.
وقد قال بعض الأعراب: ” إن عجوة المدينة خُنس فُطس يَغيب فيها الضرس”.
فلا يجوز الإنكار على إنعدامها أو ندرتها بدون حصر جميع أنواعها . وهذا يحتاج إلى وقت وجهد كبير .

9- لو كانت العجوة اليوم نادرة أو معدومة مطلقاً ،لنبَّه على ذلك المحدِّثون والمؤرِّخون ، أو أهل النخيل الثقات. وهذا لم يقل به أحدٌ لا قديماً ولا حديثا ً.

10- الحكم الشرعي في مثل هذه المنازعات – في باب الأطعمة – يكون لأهل البلد لا لغيرهم ، الذين يعرفون التربة وما يُزرع فيها . وكما قيل أهل مكة أدرى بشعابها! .

فعجوة المدينة يحكم فيها أهل المدينة : علماؤهم وزُرُّاعهم وخواصهم .
والخلاصة أن من اعتقد أن عجوة المدينة نادرة أو معدومة ، فقد أخطأ لأنه خالف الإجماع الإستقرائي – وهو قرينة ملزمة عند الأصوليين – الذي تواتر عليه الناس من مئات السِّنين عبر قرون طويلة .

وللشيخ عبد الرحمن السِّعدي( ت: 1376هـ) رحمه الله تعالى تقرير في بعض مؤلفاته ، يُفيد أن تخصيص العجوة للشفاء وللوقاية من السحر ، ليس على الحصر، بل للتمثيل ، فمطلق تمر المدينة نافع لأنه من أرض مباركة .
والعلامة ابن باز ( ت: 1420هـ ) رحمه الله تعالى ، يرى عُموم بركة التمر كُّله استدلالًا بآية مريم :” وهُزِّي إليك بجذع النخلة .. “( مريم : 25 ) .

والمقصود أن الشك والظن والإختلاط والإلتباس لا يؤخذ بها عند الأُصوليين لإثبات حكم عقلي ولا شرعي ، فيلزم نبذها وهجرها.
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

د/ أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بمعاهد القوات البرية

__________________

مؤسِّس مُدوَّنة المتوقِّد التأصيلية
http://ahmad-mosfer.com/