المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هذه حجة الله الكبرى على المنكرين في كل زمان و مكان



ابن سلامة القادري
02-26-2016, 02:47 PM
من مآخذ الملاحدة و اللادينيين في الإنتصار لتكذيبهم بالله و رسله أنهم لا يبحثون عن آيات وجود الله و ربوبيته و دلائل النبوات ابتداء على كثرتها و وفرتها و تظافرها و إنما يبحثون عما ينقضها و لا يبذلون الجهد إلا في التكذيب و السخرية ممن آمن و اهتدى كدأب المشركين من قبلهم، و هم يعلمون جيدا أن تكذيبهم و إعراضهم ليس لعلمهم التام و تأكدهم من استحالة وجود الله و لا باستحالة وجود نبي مرسل من عند الله و لا لأنهم دحضوا حجج الإيمان. و إنما فقط عن هوى و مكابرة لأن هذه الأمور إلى حد ما غيبية و خارجة عن حدود مداركهم أو لأنها لا توافق أهوائهم و طبائع نفوسهم المتشبعة بالماديات و الشهوات و إطلاق العنان لحرية الفكر و الهوى و التعبير يمينا و شمالا إلى درجة التهكم و السخرية من كل أمر جدي و لو كان أمر الوجود و المصير. حتى يصير ذلك طبعا فيهم لا لغياب الدليل أو الافتقار إلى حجة ظاهرة و آية محكمة هي العروة الوثقى و الحبل المتين الذي يربطهم بالإيمان و يحول بينهم و بين الكفر و الجحود.

نعم نحن بالفعل لسنا في زمن النبوة و لا عاصرنا المعجزات و لا يمكننا التواصل مع نبي الله محمد صلى الله عليه و سلم خاتم أنبيائه و رسله و لا حتى مع من أدركه من الناس لكن الله الذي أرسل محمدا تكفل بإيصال حجته إلى من بعده إلى قيام الساعة متمثلة في كتاب الله الذي أنزله عليه و فيه كلامه المعجز الذي لا يحرف و لا يتطرق إليه التحريف أبدا بحفظ الله له و هو معجز من جميع الأوجه بحيث لا يمكن نسبته إلى رجل أي رجل مهما بلغ علما و بلاغة لما تضمنه من المعاني الفائقة لعلوم البشر و الأساليب المباينة لأسلوب البشر و بهذا القرآن اهتدى المشركون و أهل الكتاب على عهد النبي صلى الله عليه و سلم و به اهتدى و لا يزال يهتدي من بعدهم إلى ما شاء الله.

نعم كان هناك من عارض و اعترض في زمن النبي صلى الله عليه و سلم فلم يقنع بهذه الحجة البالغة رغم وضوحها و جلائها و طلب من النبي صلى الله عليه و سلم آية مشهودة من قبيل الآيات و المعجزات التي أيد الله بها بعض رسله السابقين كموسى و عيسى و صالح و سليمان حجة على أقوامهم و كانت سبب هلاك أكثرهم إذ أصروا على كفرهم و تظاهروا على التكذيب بها.
لكن من كان المعترض على القرآن و على ماذا اعترض و هل كان اعتراضه كافيا لرد حجة هذا النص المقدس العظيم الذي هو أصدق كلام و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلقه و يعلو كل كلام و يأخذ أسلوبه و منطقه بمجامع العقول و القلوب ؟
هذا الكلام الذي أذعن له جميع الفلاسفة و البلغاء و لا يزال ينتهى إليه كل فكر و إبداع أدبي أو أخلاقي أو اجتماعي أو اقتصادي أو تشريعي ... مع ما تضمنه من أخبار بالغيب التي لا يمكن التنبؤ بها أو التكهن.
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدِ اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَوْله : ( مَا مِنْ الْأَنْبِيَاء نَبِيّ إِلَّا أُعْطِيَ ) : هَذَا دَالّ عَلَى أَنَّ النَّبِيّ لَا بُدّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَة تَقْتَضِي إِيمَان مَنْ شَاهَدَهَا بِصِدْقِهِ , وَلَا يَضُرّهُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمُعَانَدَة .
وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ آيَة أَوْ أَكْثَر ، مِنْ شَأْن مَنْ يُشَاهِدهَا مِنْ الْبَشَر أَنْ يُؤْمِن بِهِ لِأَجْلِهَا , وَالْمُرَاد بِالْآيَاتِ : الْمُعْجِزَات ، وكُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ مُعْجِزَة خَاصَّة بِهِ ، لَمْ يُعْطَهَا بِعَيْنِهَا غَيْره ، تَحَدَّى بِهَا قَوْمه, وَكَانَتْ مُعْجِزَة كُلّ نَبِيّ تَقَع مُنَاسِبَة لِحَالِ قَوْمه"
انتهى مختصرا من " فتح الباري لابن حجر (9/ 6) " .

ثم لقد كانت معجزة القرآن مناسبة للعرب بل لكل أمم العالم و الذين بُعث إليهم النبي صلى الله عليه و سلم لأنها معجزة الكلمة التي تصل إلى أبعد مما يمكن أن تصله المعجزات المرئية.

ثم من كان المعترض على معجزة القرآن في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم أو حتى بعده سوى شرار القوم و سفهائهم كأبي جهل و الوليد بن المغيرة و أبو سفيان قبل أن أسلم و أبو لهب و امرأته و نظرائهم ممن عز عليه مكانه من العرب و شهرته فيهم و ماله و جاهه فأبى أن ينزل إلى مستوى يشاركه فيه العبيد و الفقراء و ضعاف الناس ؟
فبإمكان أي أحد أن يجحد الحق لكن ليس بإمكانه أن يدحضه بالباطل فدعاوى الكذب أو التكذيب بالحق لا تقوم لها قائمة و لا يتبعها إلا أهلها. أما الصادق فيبحث عن الصدق و لا يجد لذلك أصدق من كتاب الله و لا من رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و لذلك كانت حجج القوم كلها واهية و قد نقضها القرآن واحدة واحدة .. إذ كان يتنزل من عند الله وحيا لرسوله للرد عليهم فكانت الردود تصلهم لكن بعضهم ما ازداد إلا غيا و مكابرة نفس و هذا لا يغني من الحق شيئا لأن الحجة قامت و لم يستطيعوا دحضها بشيء مبين.
و كان مما احتجوا به على نبيهم ما حكاه الله عنهم بقوله و قد وصف هنا جحودهم و عنادهم :
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)

قوله تعالى : وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه.
قال القرطبي :
وكان هذا منهم تعنتا بعد ظهور البراهين ; وإقامة الحجة بالقرآن الذي عجزوا أن يأتوا بسورة مثله ، لما فيه من الوصف وعلم الغيوب ولكن أكثرهم لا يعلمون أي : لا يعلمون أن الله عز وجل إنما ينزل من الآيات ما فيه مصلحة لعباده ; وكان في علم الله أن يخرج من أصلابهم أقواما يؤمنون به ولم يرد استئصالهم .اهـ

أي أن الله لو أجابهم إلى آية مبصرة يرفع بها حجب الغيب عنهم كما أجاب أقواما سابقين لكان منهم مكذبين بها و معاندين مكابرين كما كان في الأقوام السابقين و لازدادوا شرا و بطرا و طغيانا و كان هذا داعيا إلى استئصالهم لاستحقاق العذاب و بذلك سيحرم من كان سيؤمن منهم لاحقا و كذا ستحرم ذرياتهم من الإيمان و نصرة هذا الدين و ربما كان العذاب أعم و أشمل فيقل أهل الإيمان و يتباطئ انتشار هذا الدين و لا يبلغ المدى الذي بلغه اليوم.

و في القرآن الكريم الرد على كل مزاعم الإلحاد و إبطال شبهاتهم لمن قرأه و تدبره.

فيه إثبات أن الله حق و أنه خالق كل شيء و أن لا شيء خلق نفسه و لا شيء يتصف بصفة الحياة من عند نفسه و لا القيومية و لا الربوبية بل كل شيء فطره الله و ابتدأه و خلقه و سواه و قدره و هداه و لم يترك شيئا لنفسه، فلو ترك شيئا لنفسه ما ملك لنفسه نفعا و لا ضرا ، و لو على سبيل المثال وكل الله إنسانا إلى نفسه ما رد نفَساً خرج من صدره و لا استطاع أن ينشر دما في عروقه و لا أن يهضم طعاما و لا أن يخرجه بل لما استطاع وقوفا و لا مشيا و لا حراكا و لا فكرا و لا شعورا و لا و لا و لا أي شيء فكل شيء من عند الله.

والقرآن أثبت أن كل المعبودات من دون الله زائفة و أنها مجرد أوهام اخترعها البشر و لا زالوا يخترعون حتى اعتقدوا أن الطبيعة طورت ذاتها بذاتها و أنشأت صفاتها و تعقيداتها و هي الصماء العمياء التي لم يكن بها حياة في البدء بعد الانفجار الكوني.

و القرآن أثبت صدق الرسول و أنه لم يكن يعلم ما نزل عليه و تحدى الكافرين أن يثبتوا نسبة القرآن إلى غير الله و أن يكون أحد من البشر هو مصدر القرآن بلاغة و علماً. حتى اليهود و النصارى شهدوا بأنه الحق و وجدوا ما فيه تصحيحا لكثير مما عندهم من ضلالات و افتراءات على الله و أنبيائه و تصديقا أيضا لتفاصيل كثيرة لم يدعي احد من اليهود و النصارى أنه أوصلها قصدا أو غير قصد إلى النبي صلى الله عليه و سلم و لو فعل أحدهم ذلك لكان حجة للعرب على نبيهم.

و أثبت القرآن كذلك أنه كلام من عند الله بأثره العظيم و الإيجابي في النفوس و بدعوته إلى ما أجمعت الفطر النقية و العقول السليمة على قبوله و هو توحيد الله بالأسماء الحسنى و الصفات العلى و بالعبادة التي لا تنبغي إلا له لأنه خالق البشر و دعوته إلى العدل و الإحسان و البر مع كل الكائنات و نهيه و تحذيره من كل شر فجاء بأحسن دين للبشرية إلى قيام الساعة.