المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخطر كتاب ينقض الإلحاد لـ علي عزت بيكوفيتش (الإسلام بين الشرق والغرب)



سعيد النورسي
07-10-2016, 03:15 AM
هذا الكتاب قوي جداً لأنه تم تأليفه بجوار روسيا الشيوعية، وبلاد البلقان نفسها عانى المسلمون فيها من هذا الفكر المدمر سنين طويلة، وجاء كتاب علي عزت بيكوفيتش يرد بأسلوب علمي منطقي ويفند الأسس والقواعد التي بنى عليها هؤلاء فلسفتهم ونظرتهم المادية للحياة، ليوقظ فيهم صوت الضمير ومعنى الإنسان الذي كرمه الله.

وأسوق كلام المترجم د. يوسف عدس في عرض أفكار الكتاب حتى نُلم به ونأخذ عنه فكرة عامة قبل قرائته.. يقول :

كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» يكشف عن سمات شخصية مؤلفه ويبرز ملامحها وتبدو فيه تجربته الخاصة في الحياة. فإذا صح منهج عباس محمود العقاد في دراسته للعبقريات من أن لكل شخصية عبقرية مفتاح ندخل به إليها، فإنني أقترح بالنسبة لعلي عزت عشقه للحرية وتقديسه للمسئولية في آن واحد. وسنجد أنه يزاوج في كتابه بين حرية الإنسان ومسئوليته من ناحية وبين الخلق الإلهي من ناحية أخرى. فهو يرى أن قضية الخلق في الحقيقة هي قضية الحرية الإنسانية، فإذا قبلنا فكرة أن الإنسان لا حرية له وأن أفعاله محددة سابقًا كما يزعم الماديون، ففي هذه الحالة لا تكون الألوهية ضرورية لتفسير الكون وفهمه، ولكن إذا سلمنا بحرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف صراحة أو ضمنًا بوجود الله. فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقًا حرًا، ولا يمكن أن توجد الحرية إلا بفعل الخلق.
لم يتساهل علي عزت في أمر حريته ولم يفرط فيها لأنه يرى في الحرية جوهر الإنسان وقوامه، ويؤمن بأن الحرية منحة من عند الله وأمانة استودعها إياه لا يصح التفريط فيها.

ولأن هذا الموقف يتصادم مع النظام الدكتاتوري الحاكم في يوغسلافيا الشيوعية، كان قدر صاحبه أن يمضي سنوات طويلة من شبابه وكهولته مغيبًا في سجون الدولة بتهم ملفقة. وسنجد أن فكرة الحرية الإنسانية محور أساسي من محاور كتابه، عالجها في مجالات متعددة. ففي علاقتها بالنظم الشمولية انتهى في تحليلاته إلى أن هذه النظم يستحيل أن تستمر في الوجود لأنها تنظر إلى الإنسان نظرة أحادية الجانب، وبذلك تصطدم بأعمق ما في طبيعته، وكأن علي عزت ـ في ذلك الوقت المبكر ـ كان يتنبأ بانهيار النظم الشيوعية قبل أن يبدأ الزلزال الذي اكتسحها بعشرين سنة على الأقل.

ويمضي علي عزت ليكشف لنا عن طبيعة العلاقة التي تربط بين السلطة المستبدة وبين نوعين مختلفين من الناس يطلق عليهم «الأتباع والهراطقة»، ويرى أن هناك علاقة توافق بين الذين يعشقون التبعية والخضوع وبين السلطة التي تحب أن يكون لها أتباع يصفقون لها ويستحسنون أعمالها سواء أصابت أم أخطأت. أما الهراطقة فهم أناس خارجون على النظام أشقياء لا يحبون السلطة ولا تحبهم.. يتحدثون كثيرًا عن الحرية وعن التغيير ولا يتحدثون عن الخبز، ولا يقبلون فكرة أن الملك هو الذي يطعمهم وإنما يعتقدون أنهم هم الذين يطعمون الملك. ثم يقول: «في الأديان يوقر الإمعات الأشخاص والسلطات والأوثان، أما عشاق الحرية فإنهم لا يمجدون إلا الله».

العدمية احتجاج على غياب الألوهية
لقد استوعب علي عزت الفكر الغربي ولكنه لم يغرق فيه ولم يجهل أو يتجاهل ما فيه من جوانب القوة، ولكنه في نفس الوقت استطاع أن يدرك فيه مواطن الضعف والقصور والتناقض. كما استطاع بمنهجه التحليلي المقتدر أن يكشف لنا عن عناصر دينية كامنة في بعض المذاهب الفلسفية، حتى تلك التي نظن ـ بل يظن أصحابها ـ أنها أبعد ما تكون عن الدين مثل فلسفات العدميين والوجوديين والعبثيين. فعلي عزت يرى أن العدمية تمرد على الحضارة ذات البعد الواحد التي أخرجت الإنسان من حسابها فلم يعد له مكان فيها؛ فالقلق البدائي والنظر فيما وراء الموت والبحث المضني عن طريق خارج هذه الضائقة المحيطة كلها هموم مشتركة بين العدمية والدين. يقول علي عزت: «إن العدمية ليست إنكارًا للألوهية بقدر ما هي احتجاج على حقيقة أن الإنسان غير ممكن وغير متحقق.. هذا الموقف ينطوي على فكرة دينية لا فكرة علمية عن الإنسان وعن العالم. فالعلم يزعم أن الإنسان ممكن ومتحقق ولكننا في التحليل النهائي نجد أن ما هو متحقق في نظر العلم شيء لا إنسانية فيه». ثم يمضي قائلاً: «لأن المادية ترفض الغائية في العلم فإنها تتخلص بذلك من مخاطر العبثية والتفاهة.. فعالم المادية وإنسانها لهما غايات عملية ووظيفة.. لتكن وظيفة حيوانية.. لا يهم». ويعلق علي عزت على عبارة «سارتر» التي يصف فيها الإنسان بأنه عاطفة تافهة فيقول: «إنها عبارة دينية بمنطقها وبروحها معًا.. إنها تتضمن أن الإنسان والعالم ليس بينهما تناغم أو تطابق.. وهذا الموقف المتطرف تجاه العالم المادي كان هو بداية جميع الأديان». ثم يمضي قائلاً: «إن التفاهة عند «سارتر» والعدمية عند «كامي» يفترضان البحث عن هدف ومعنى، وهو بحث يختلف عن البحث الديني في أنه ينتهي عندهما بالفشل.. فالعدمية خيبة أمل بسبب غياب الخير من العالم، فكل شيء تافه وعدم ما دام الإنسان يموت إلى الأبد.. إن الفلسفة العدمية تعبر عن القلق، والقلق بجميع درجاته ـ فيما عدا نتيجته ـ هو قلق ديني.. الإنسان غريب في هذا العالم سواء عند العدمية أو في نظر الدين.. والفرق أن العدمية تعتبر الإنسان ضائعًا بلا أمل وأما الدين فإنه ينطوي على أمل في الخلاص».
ويؤكد علي عزت أن أفكار «ألبير كامي» لا يمكن فهمها إلا إذا اعتبرنا صاحبها مؤمنًا مُخيّب الرجاء، ويستشهد على ذلك بفقرة مقتبسة من «كامي» يقول فيها: «في عالم خبا فيه الوهم فجأة وانطفأ الضياء يشعر الإنسان بالاغتراب.. فلا ذكريات هنالك ولا وطن مفقود.. ولا أمل في الوصول إلى أرض موعودة.. كل شيء جائز طالما أن الإنسان يموت وأن الله غير موجود». يقول علي عزت: «إن هذه العبارة الأخيرة ليس بينها شيء مشترك وبين الإلحاد القاطع اليقيني الذي تصادفه عند المفكرين العقلانيين، إنما على العكس هو صرخة صامتة لروح أجهدها البحث عن الله ولم تجده.. إنها إلحاد اليائس».
هذا موقف إنساني يتكرر على مر العصور والدهور كلما أمعن الإنسان النظر في سر حياته ومصيره دون أن يتصل بمصدر هداية يدله على طريق الخلاص، وفي هذا تكمن الحكمة في الآية القرآنية التي ساقها علي عزت لتلقي ضوءًا على هذا المأزق وتوجه النظر إلى طريق الخروج منه: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾ .

يتألف كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» من أحد عشر فصلاً منقسمة إلى قسمين، يشتمل القسم الأول على ستة فصول ويحمل عنوانًا عامًا هو (نظرات حول الدين)، ولكنه يتناول موضوعات وقضايا أساسية في الفكر الإنساني: كالخلق والتطور، والثقافة والحضارة، والظاهرة الفنية، والأخلاق، والتاريخ، والدراما والطوبيا. ويَدْهش القارئ: لـِمَ إذن اختار المؤلف لهذه الفصول عنوانًا جامعًا كهذا..؟!

التمييز بين الثقافة والحضارة
يبدو من دراسة علي عزت لموضوع الثقافة والحضارة أن هناك تصادمًا بينهما وأن الحضارة الرأسمالية والحضارة الشيوعية كلاهما معادٍ للثقافة بطبيعتهما وبدرجات مختلفة، ذلك لأن الثقافة في جذورها الأولى صدرت من أصل ديني، وأن هذه الجذور تمتد من الماضي السحيق إلى ما يسميه علي عزت «بالتمهيد السماوي» ويشير إلى ذلك السناريو القرآني الذي جمع الله فيه الأرواح التي قدر لها أن تولد، كما يقول الفلاسفة المسلمون «في عالم الذر»، وسألهم: ﴿ألست بربكم.. قالوا بلى..﴾ هنالك علم الإنسان أنه مختلف عن بقية الكائنات وأنه صاحب مسئولية وأنه حر الاختيار.
ويطور المؤلف موضوع الصدام بين الثقافة والحضارة بطرق مختلفة. فالثقافة عنده «هي تأثير الدين على الإنسان وتأثير الإنسان على الإنسان»، بينما الحضارة هي تأثير العقل على الطبيعة.. تعني الثقافة الفن الذي يكون به الإنسان إنسانًا، أما الحضارة فهي فن يتعلق بالوظيفة والسيطرة وصناعة الأشياء، تامة الكمال.. الحضارة هي استمرارية التقدم التقني وليس التقدم الروحي.. كما أن التطور الداروني هو استمرارية للتقدم البيولوجي وليس التقدم الإنساني.
الثقافة شعور دائم الحضور بالاختيار وتعبير عن الحرية الإنسانية، وخلافًا لما تذهب إليه الحكمة الإسلامية بضرورة كبح الشهوات، يحكم الحضارة منطق آخر جعلها ترفع شعارًا مضادًا: «أخلق شهوات جديدة دائمًا وأبدًا». الحضارة تُعلم أما الثقافة فتنور، تحتاج الأولى إلى تعليم والثانية إلى التأمل.
هذه هي مجمل المجالات التي ناقش فيها علي عزت موضوع الاختلاف بين الثقافة والحضارة، حيث ينتهي من مناقشاته وتحليلاته إلى أن الحضارة الحديثة قد أخفقت إخفاقًا بينًا في سعيها لتحقيق السعادة الإنسانية المنشودة من خلال العلم والقوة والثروة. ويؤكد أنه لا بد من فهم هذه الحقيقة والاعتراف بها حتى يتسنى لنا مراجعة أفكارنا الأساسية التي لا تزال موضع قبول عام إلى الآن.. ويرى أن «أول فكرة يجب مراجعتها هي فكرة العلم الخاطئة عن الإنسان».
ولكن يحذرنا علي عزت أن نفهم أن نقده للحضارة دعوة لرفضها والانعزال عنها، فالحضارة على حد قوله «لا يمكن رفضها حتى لو رغبنا في ذلك.. إنما الشيء الوحيد والضروري والممكن هو أن نحطم الأسطورة التي تحيط بها.. فإن تحطيم الأسطورة سيؤدي إلى مزيد من أنسنة هذا العالم.. وهي مهمة تنتمي بطبيعتها إلى الثقافة».

إخفاق الأيديولوجيات الكبری
ويرجع المؤلف إخفاق الأيديولوجيات الكبری في العالم إلى نظرتها إلى الإنسان والحياة نظرة أحادية الجانب شطرت العالم شطرين متصادمين بين مادية ملحدة وكاثوليكية مغرقة في الأسرار «ينكر كل منهما الآخر ويدينه بلا أمل في لقاء»، وهكذا وجدنا الحضارة القائمة على العلم المادي في جانب، والدين القائم على الغيبيات في جانب آخر مضاد.
ولكن الإسلام ـ كما يعرضه علي عزت ـ لا يخضع لهذه القسمة الجائرة، وتلك هي القضية الكبری التي يعالجها علي عزت في كتابه: «الإسلام بين الشرق والغرب»، حيث خصص لها القسم الثاني من هذا الكتاب.

الإسلام وحدة ثنائية القطب
يرى علي عزت أنه يستحيل تطبيق الإسلام تطبيقًا صحيحًا في مجتمع متخلف.
ففي اللحظة التي يتم فيها التطبيق الحقيقي للإسلام في مجتمع ما يكون هذا المجتمع قد بدأ يتخلى عن تخلفه ويدخل في مجال الحضارة.
ومن ثم يؤكد القرآن أن الله خلق الإنسان ليكون سيدًا في الأرض وخليفة له عليها.. وأن الإنسان في إمكانه تسخير الطبيعة والعالم من خلال العلم والعمل.
ويقول علي عزت في موضع آخر: «إن إصرار القرآن على حق محاربة الشر والظلم ليس من قبيل التدين بمعناه الضيق، فمبادئ اللاعنف واللامقاومة أقرب إلى الدين المجرد.. وعندما أقر القرآن القتال ـ بل أمر به بدلاً من الرضوخ للظلم والمعاناة ـ لم يكن يقرر مبادئ دين مجرد أو أخلاق وإنما كان يضع قواعد سياسية واجتماعية».
ويعلق على تحريم الخمر في الإسلام بقوله: «كان تحريم الخمر بالدرجة الأولى معالجة لشر اجتماعي وليس في الدين المجرد شيء ضد الخمر، بل إن بعض الأديان استخدمت الكحول كعامل صناعي لاستحضار النشوة الروحية، كالإظلام والبخور المعطرة، وكلها وسائل تؤدي إلى هذا النوع من الخدر المطلوب للتأمل الخالص، ولكن الإسلام عندما حرم الخمر سلك مسلك العلم لا مسلك الدين المجرد».

سر انحطاط المسلمين
ويتساءل علي عزت: ما الذي أدى إذن بالمسلمين إلى الانحطاط بالصورة التي نراها اليوم؟
ويجيب على تساؤله بقوله: «لقد انشطرت وحدة الإسلام ثنائية القطب على يد أناس قصروا الإسلام على جانبه الديني المجرد فأهدروا وحدته وهي خاصيته التي ينفرد بها دون سائر الأديان، لقد اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد فتدهورت أحوال المسلمين، وذلك لأن المسلمين عندما يضعف نشاطهم وعندما يهملون دورهم في هذا العالم ويتوقفون عن التفاعل معه تصبح السلطة في الدولة المسلمة عارية لا تخدم إلا نفسها، ويبدأ الدين الخامل يجر المجتمع نحو السلبية والتخلف، ويشكل الملوك والأمراء والعلماء الملحدون ورجال الكهنوت، والشعراء السكارى، يشكلون جميعًا الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام».

العداء الغربي للإسلام
وفي هذا المجال يلفت علي عزت النظر إلى أن عداء الغرب الحالي للإسلام ليس مجرد امتداد للعداء التقليدي والصدام الحضاري - الذي وصل إلى صراع عسكري بين الإسلام والغرب، منذ الحملات الصليبية حتى حروب الاستقلال - وإنما يرجع هذا العداء بصفة خاصة إلى تجربة الغرب التاريخية مع الدين وإلى عجزه عن فهم طبيعة الإسلام المتميزة، وهو يطرح لذلك سببين جوهريين وراء هذا العجز وهما:
طبيعة العقل الأوربي أحادي النظرة
وإلى قصور اللغات الأوربية عن استيعاب المصطلحات الإسلامية
وضرب لذلك مثلاً بمصطلحات: الصلاة والزكاة والصيام والوضوء والخلافة والأمة، حيث لا يوجد ما يقابلها في المعنى باللغات الأوربية، فالمصطلحات الإسلامية ـ كما يراها علي عزت ـ كالإسلام نفسه تنطوي على وحدة ثنائية القطب، ولهذين السببين ـ كما يقرر علي عزت ـ «أنكر الماديون الغربيون الإسلام باعتباره دين غيبيات أي (اتجاه يميني)، بينما أنكره المسيحيون الغربيون لأنهم يرون فيه حركة اجتماعية سياسية أي (اتجاه يساري)، وهكذا أنكر الغربيون الإسلام لسببين متناقضين».
ويرى المؤلف بحق أن الغرب إذا كان يريد فهم الإسلام فهمًا صحيحًا فعليه أن يعيد النظر في مصطلحاته التي تتعلق بالإسلام.

بهذا المنطق القوي والمنهج التحليلي المقتدر يكشف علي عزت عن تهافت الفكر الغربي وقصوره، بل تناقضه في معالجته لموضوع الإنسان والحياة، ويرتفع بالفكر الإسلامي إلى مستواه العالمي الذي يليق به.
ولا أجد في هذا المجال أصدق من شهادة «وودز ورث كارلسن»، وهو مفكر أوربي محايد لا ينتمي إلى دين المؤلف ولا وطنه، حيث يقول معلقًا على كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب»: «إن تحليله للأوضاع الإنسانية مذهل وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعورًا متعاظمًا بجمال الإسلام وعالميته».

سعيد النورسي
07-11-2016, 12:31 AM
جزء من مقدمة الطبعة الإنجليزية
بقلم
حـسن قرشي
لقد وجد الإنسان نفسه على حد نَصْل تاريخي منقسمًا انقسامًا إلى روح في نظر المسيحية، وإلى مادة من ناحية الممارسة العملية للإلحاد. وقد أثبت الفكر الإسلامي، الذي يؤلف بين الاتجاهين في مُركب واحد، أنه النموذج الوحيد الممكن الذي يرتفع إلى مستوى الموقف. ومن أجل هذا يعتبر الإسلام ضرورة أكثر من كونه مسألة اختيار.

سعيد النورسي
07-11-2016, 01:12 AM
الدكتور الكبير الرحل عبد الوهاب المسيري كان من المعجبين بفكر علي عزت بيكوفيتش، واستفاد منه كثيراً، وكان ممن استضافه في القاهرة وعقدوا مؤتمرات عدة سوياً في مصر..
ولدكتور المسري مقدمة حافلة للكتاب اقتطعت منه أكثر من ثلاثين صفحة.. ولن أسوقها كلها لطولها ولكن حسبي أن أسوق جزءاً منها لكي نلمس مدى إعجاب الدكتور بالكتاب، وقوة فكره في غزو الإلحاد وتعريته من لبوس الفخر الزائف الذي ألبسه إياه اليهود لتتخلى الأمم عن الفضيلة والمقدس ويتحولوا إلى حيوانات أقل درجة ورتبة عن الإنسان، ولا يبقى دين ولا إنسان إلا اليهود.. ويصير الكل عبيداً لليهود.


مقدمة لقراءة فكر علي عزت بيجوڤيتش
د. عبد الوهاب المسيري

الرئيس علي عزت بيجوڤيتش (الرئيس السابق للبوسنة، وقائدها السياسي، وزعيمها الفكري والروحي) صاحب اجتهادات مهمة في تفسير ظاهرة الإنسان في كل تركيبيتها. وهذه التركيبية، المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، هي نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي. ولكن قبل أن نحاول أن نصنف إشراقاته وأفكاره المختلفة، وقبل أن نتكشف عالمه الفكري لا بد أن نشير إلى أنه ليس «مجتهدًا» وحسب، وإنما هو «مجاهد» أيضًا، فهو مفكر ورئيس دولة، يحلل الحضارة الغربية ويبيِّن النموذج المعرفي المادي العدمي الكامن في علومها وفي نموذجها المهيمن، ثم يتصدى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه. ولكنه في ذات الوقت يستفيد من اجتهادات المفكرين الغربيين المدافعين عن الإنسان، ولعل إيمانه بالإنسان (الذي ينبع من إيمانه بالله وإدراكه لثنائية الطبيعة البشرية) هو الذي شد من أزره إلى أن كتب الله له ولشعبه النجاة، وهو الذي مكنه من أن يلعب هذا الدور المزدوج، دور المجاهد والمجتهد، ودور الفارس والراهب.
وتتميز كتابات علي عزت بيجوڤيتش بالوضوح والتبلور (وقد قام الأستاذ محمد يوسف عدس بترجمة أهم كتبه «الإسلام بين الشرق والغرب» إلى العربية بلغة فصيحة وخطاب فلسفي مركب، فجاءت ترجمته عملا فلسفيا راقيا يتسم بالدقة والجمال).
وتجربة بيجوڤيتش فريدة، فقد درس العالم الغربي الرأسمالي عن كثب، ولذا نجد في دراسته ـ على سبيل المثال ـ إحصاءات عن دور السينما التي تعرض أفلاما إباحية في ألمانيا، وعن نسبة الجريمة وتصاعدها في الولايات المتحدة الأمريكية، وعن معدلات الانتحار في الدول التي توصف بأنها «متقدمة».
وهو قادر على استيعاب كل هذه المعلومات وتصنيفها وتوظيفها لأن لديه إلماما غير معتاد بالفلسفات الغربية، وهو ليس كإلمام أساتذة الفلسفة الذين يعرضون للأفكار الفلسفية المختلفة عرضًا محايدًا، بل هو إلمام المتفلسف الحقيقي الذي يقف على أرضية فلسفية راسخة.. فنراه يتحدث بطلاقة غير معتادة عن «نيتشه» و«ياسبرز» و«كيركجارد»، وذلك في سطور قليلة تبين مدى استيعابه لرؤاهم الفلسفية، وكذا مدى وصوله إلى أعماقها وبنيتها المادية العدمية المدمرة، أو بنيتها الإيمانية الكامنة.
ومعرفة النظام الرأسمالي بعمق جزء من تجربة كثيرين من مثقفي العالم، لكن الذي يميز علي عزت بيجوڤيتش هو أنه إلى جانب معرفته هذه عاش تحت ظلال الماركسية والاشتراكية، فأدرك منذ البداية أننا لا نتحدث عن نظامين مختلفين، واحد رأسمالي والآخر اشتراكي، وإنما نتحدث في واقع الأمر عن نموذج معرفي واحد كامن يأخذ شكـلا اشتراكيـا في حالة الاشـتراكية، وشـكلا رأسماليا في حالة الرأسمالية، وأن هناك - من ثَم - رؤية واحدة وراء كل تلك المنظومات المتصارعة المتنازعة.
والتجربة الرأسمالية هنا لا تختلف على الإطلاق عن التجربة الاشتراكية، إذ يصدر النمطان عن مقولة (الإنسان الطبيعي)، أي: الإنسان ذي الأصول المادية الطبيعية الكامنة وراء كل من النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
وقد توصل علي عزت بيجوڤيتش إلى إدراك هذه الوحدة الكامنة وراء التنوع.. فقد أدرك البعد المعرفي الكلي والنهائي للظواهر التي يدرسها، سواء أكانت نظرية التطور أم الفلسفة العدمية أم العقيدة الإسلامية. ودراسة البعد المعرفي والنهائي الكلي هو في نهاية الأمر إجابة عن سؤال أساسي وهو: ما الإنسان؟ والإجابة عن هذا السؤال هي التي تحدد طبيعة النموذج الحاكم..
ومن النقاط الأساسية المنهجية التي يجب أن نتنبه إليها: أن علي عزت بيجوڤيتش في استخدامه النموذج كأداة تحليلية لم يشيّئه، أي لم يتصور أن له وجودًا ماديًّا مستقلًا وكأنه مقياس جاهز يقيس به الدارس كل شيء.. فيقول: إن الإنسان الذي يهيمن عليه النموذج المادي أو الإلحادي لا يمكن أن يكون ماديًّا ملحدًا تمامًا حتى ولو أراد ذلك من أعماق قلبه. ثم يضرب مثلا بماركس والماركسية فيقول: إن ماركس رغم أنه ملحد، لكنه - على حد قول برتراند رسل - بشّر بأمل كوني لا يمكن تبريره إلا إذا كان صاحبه من المؤمنين بالألوهية، أي بشيء متجاوز للواقع المادي المباشر. بل إن ماركس حول الرأسمالية والطبقة البروليتارية إلى رموز حية للشر والخير..

الإنسان الطبيعي/المادي
يتضح تمييز علي عزت بيجوڤيتش بين النموذج المجرد والتجربة المعيشة في أنه يصوغ السؤال المعرفي «ما هو الإنسان..؟» بطريقة خاصة تجمع بين المجرد والمتعين إذ يقول: «قضية أصل الإنسان هي حجر الزاوية لكل أفكار العالم، فأي مناقشة تدور حول: كيف ينبغي أن يحيا الإنسان؟ تأخذنا إلى الوراء حيث مسألة أصل الإنسان»، أي أنه بدلًا من أن.. يناقش الرؤية المادية المتمثلة في نظرية داروين في التطور، وبدلًا من أن يحاول تفنيدها من خلال علم البيولوجيا والعلوم الطبيعية.. فإنه يلجأ لإستراتيجية مختلفة تماما، إذ يحاول أن يبين عجز النظريات المادية - بما في ذلك نظرية التطور الداروينية - عن تفسير البعد الإنساني في ظاهرة الإنسان.

أصل الإنسان
يطرح علي عزت بيجوڤيتش التصور الدارويني (المادي) للإنسان، فيتحدث عن إشكالية الأصل. فكل المخلوقات حسب التصور الدارويني المادي ترجع إلى الأشكال البدائية للحياة (الأميبا)، والتي ظهرت بدورها نتيجة عملية طبيعية كيميائية [مادية]. إن الإنسان في الحقيقة (من هذا المنظور) إنْ هو إلا حيوان تطور من المادة إلى الأميبا، والأميبا تطورت حتى وصلت إلى القردة العليا، ومنها إلى الإنسان «الذي اتجه نحو الكمال الجسمي والفكري ومنه إلى الذكاء الخارق. فالتطور من حيث هو حيواني وخارجي في جوهره بسيط ومنطقي أو نفعي ووظيفي، لأنه ظل محدودًا في نطاق الطبيعة/المادة».
إن «التطور» بطبيعته (وبغض النظر عن درجته في التعقيد أو الحقبة الزمنية التي استغرقها) لم يستطع أن ينتج إنسانا، وإنما مجرد حيوان مثالي، قادر على التحرك داخل الجماعة بكفاءة عالية لتحقيق هدف البقاء المادي. فثمة أشياء مشتركة أكيدة بين الإنسان والحيوان، «فهناك شعور وذكاء ووسيلة أو أكثر من وسائل الاتصال، وهناك الرغبة في إشباع الحاجات، والالتحاق بمجتمع، وبعض أشكال الاقتصاد». بالنظر من هذه الزاوية.. فليس في الإنسان شيء لا يوجد أيضا في المستويات العليا من الحيوانات الفقارية والحشرات. والفرق بين الإنسان والحيوان، حتى بعد «تطور» الإنسان، إنما هو فرق في الدرجة والمستوى والتنظيم وليس في النوع، فليس هناك (حسب هذه النظرية المادية) جوهر إنساني متميز.
ولكن الإنسان في واقع الأمر مختلف بشكل جوهري عن هذا الإنسان الطبيعي/المادي، فهو ليس مجرد وظائفه البيولوجية، إذ إن فيه «شيئًا» ينقله من عالم الضرورة والحتميات الطبيعية والسببية المطلقة والمنفعة المادية، إلى عالم الحرية والاختيار والقلق والتركيب والتضحية.

الدّوَار الميتافيزيقي واللحظة الفارقة
يرى علي عزت بيجوڤيتش أن ثمة شيئًا ما حدث للإنسان جعله لا يقنع بجانبه الطبيعي المادي الحيواني، ودفعه إلى أن يبحث دائما «عن شيء آخر غير السطح المادي الذي تدركه الأسماع والأبصار وصولًا إلى ما لا تدركه الأسماع والأبصار» (ولنسمه «المقدس»)، بحيث بدأ يفكر في معنى حياته وفيما وراء الطبيعة، «فيما وراء القبور».
ما هذا الشيء الذي جعل الإنسان لا يكتفي «بصنع الآلات التي تحسّن من مقدرته على البقاء المادي، وبدلا من ذلك بدأ في صنع العبادات والأساطير والمعتقدات الخرافية والغريبة والرقصات والأوثان والسحر وأفكاره عن الطهارة والنجاسة والسمو واللعنة والبركة والقداسة والمحرمات والمحظورات الأخلاقية التي تشمل حياته بأسرها..؟ ما الذي جعل الإنسان لا يقنع بالدلالة المباشرة للأشياء، وإنما يضيف لها دلالة متخيّلة تكون أكثر أهمية في نظره من دلالتها الواقعية؟»، فبينما يذهب الحيوان للصيد مباشرة ويوظف كل ذكائه في اصطياد الفريسة ويستجيب للمثيرات المادية التي من حوله بشكل مباشر «يحيط الإنسانُ مثل هذا الفعل بطقوس وأحلام وصلوات. وبينما كان الحيوان يتابع فريسته بمنطق صارم، كان الإنسان يقدم الضحايا والقرابين ويقيم الصلوات والشعائر (الصوم مثلا). وبينما كان النحل يقضي على كل أعضاء جنسه ممن لا فائدة لهم ولا نفع، كان الإنسان يكرّم المسنين والموتى ويقيم الشعائر الجنائزية..
وبينما تؤدي الحيوانات وظائفها في حتمية بالغة: تتقدم نحو فريستها حينما تسنح الفرصة، وتفرّ حينما تحس بالخطر، وتعيش في القطيع أو السرب أو الخلية دون فزع أو اكتئاب، فإن الإنسان دائم التردد، وسلوكه مرتبط بحريته واختياراته المتنوعة، فهو لا يمكن أن يكون جزءًا من آلية وظيفية اجتماعية مقررة مسبقا. ثم هناك هذا الخوف والقلق الذي يشعر به الإنسان من خلال تأمله الدائم في الكون ومعضلاته، وهو ليس مجرد خوف بيولوجي (مثل ذلك الذي يستشعره الحيوان)، إنما هو خوف روحي كوني بدائي، موصول بأسرار الوجود الإنساني وألغازه، وممتزج بحب الاستطلاع والإعجاب والدهشة والنفور.
تلك المشاعر المختلطة هي العامل الخالد الأزلي المحدد لوجود الإنساني (هايدجر)، وهي تكمن في أعماق الثقافة الإنسانية.
يرى علي عزت بيجوڤيتش أن الإنسان أصيب بدوار مجهول الأصل ليس له سبب مادي ملموس، ولذا يسميه «الدوار الميتافيزيقي»، وهو دوار يشكل لحظة فارقة في تاريخ البشرية، ذلك أنه إلى جانب الإنسان الصانع (باللاتينية: «هومو فابر» homo Faber) الذي أدت إليه عملية التطور، وجد الإنسان العاقل (باللاتينية: «هومو سابين» homo sapiens) وهو إنسان مختلف عن الحيوان وعن إنسان داروين الطبيعي، فهو إنسان ذو عقل وخيال ووجدان، يحس بأنه جزء من الطبيعة وغريب عنها في ذات الوقت، إذ توجد مسافة تفصله عنها. ولذا فهو يشعر بأن ثمة عالما آخر يحتاج للتعبير عنه والتواصل معه، فيميل الإنسان (بغض النظر عن مستوى تقدمه أو تخلفه التكنولوجي) نحو الرسم والغناء وتقديم القرابين ولإقامة شواهد القبور. فهو يشعر بأن هناك في داخله ما يميزه عن الحيوانات التي قد تصنع الآلات (كالقردة التي تستخدم العصا للوصول إلى الموز في أعلى الشجرة، أو الدب الذي يستخدم الحجر لقتل أعدائه)، ولكنها لا يمكن أن تقدم أي قرابين أو ترسم أي لوحات ولا تشعر بوخز الضمير.
ومن الواضح أن الدوار الميتافيزيقي فصل الإنسان عن عالم الطبيعة/المادة، ولذا فهو يقف متعاليا عليها رغم وجوده فيها، ومن هنا نشأت ثنائية الطبيعي/المادي من جهة والإنساني/الروحي من جهة أخرى.

وحتى ندرك أبعاد هذا المفهوم المحوري في فكر علي عزت بيجوڤيتش لا بد أن نميز بين كل من التوحيد والواحدية، إذ إنهما يقفـان على طرفي نقيض. فالتوحيد هو الإيمان بإله واحد منزه عن الطبيعة والتاريخ ﴿ليس كمثله شيء﴾، مما يعني ثنائية الخالق والمخلوق، وهذا مقتضى النموذج الإيماني الذي يقول إن الله خلق العالم ولم يحل فيه، بمعنى أن الخالق غير متعادل مع مخلوقاته. بعكس المنظومات المادية التي لا يوجد فيها إلا جوهر واحد هو الجوهر المادي، ولذا فهي منظومات واحدية. ولو افترض أنْ آمَن ماديّ بإله، فهذا الإله لا بد أن يكون حالّا في المادة.. إن ثنائية الوجود الإنساني (ثنائية المادي والروحي) لا يمكن تفسيرها وضمان بقائها واستمرارها إلا بافتراض ثنائية أخرى، هي ثنائية الخالق والمخلوق، ثنائية تأسيسية لا يمكن ردها إلى ما هو خارجها. ومن هنا يرى علي عزت بيجوڤيتش أن «الإنسان» بصفة أساسية لا يوجد «إلا بفعل الخلق الإلهي». ومن ثم، إذا لم يكن هناك إله فلن يوجد «إنسان».

أسطورة الصدفة
وهنا يمكن أن ننتقل إلى السؤال المعرفي الذي طرحه علي عزت بيجوڤيتش وهو السؤال المتعلق بأصل الإنسان. عادة ما يلجأ الإيمانيون إلى الهجوم على نظرية التطور الداروينية التي تؤكد الأصل المادي للإنسان، محاولين تفنيدها وإثبات «عدم علميتها» ووجود ثغرات فيها، من خلال الإشارة إلى دلائل مادية ونظريات علمية عديدة. وهذا الأسلوب في التفنيد مهم، ولكنه ليس حاسما؛ لأن دعاة النظرية الداروينية سيأتون هم أيضا بأدلة مادية، مما يجعل من المستحيل حسم القضية.
أما علي عزت بيجوڤيتش فيلجأ لأسلوب مختلف تماما. فهو يحاول أن يثبت عجز النموذج الدارويني في التطور عن تفسير ظاهرة "الإنسان" في سياق الثنائية الجوهرية التي أشرنا إليها، أي ثنائية الإنساني والطبيعي.
يبدأ علي عزت بيجوڤيتش تقويضه النظريات المادية بأن يبين أن من المستحيل تصديق فكرة أن العالم قد ظهر نتيجة تفاعلات كيمائية تمت بالصدفة وأدت إلى ظهور خلايا بسيطة ثم تطورت إلى أن أصبحت «الإنسان». وفرضية الصدفة هذه تقع في صميم نظرية التطور وكل النظريات المادية. يبين علي عزت بيجوڤيتش أن خلق العالم بالصدفة هو مجرد افتراض وتخمين وليس حقيقة. ومن أشهر الاعتراضات على هذه الفرضية أن الإيمان بها يعادل الإيمان باحتمال أن يقوم فرد بالخبط على آلة كاتبة فيكتب لنا قصيدة رائعة أو باحتمال أن يلقي إنسان (أو قرد) بالنرد ويحالفه الحظ ويأتي 6/6 ليس مرة واحدة ولا ألف مرة وإنما 44 ألف مرة متتالية! كما أن المصادفة وحدها لا تجدي في تفسير الخلق، فإن تكوين الكائنات من تلك الذرات الهائمة يعني أنها كانت مصممة، بحيث إنها إذا اجتمعت بهذه الطريقة تكوَّن منها ذهب، وإذا اجتمعت بتلك الطريقة يتكون منها ماء، وهكذا.. أي أن التصميم لا بد أن يسبق الصدفة.
ثم يضرب علي عزت بيجوڤيتش مثالًا آخر يبيّن مدى لاعقلانية المؤمنين بنظرية النُّشوء من خلال الصدفة فيقول: «إذا وجدنا في اكتشاف أثري حجرين موضوعين في نظام معين أو قُطعا لغرض معين، فإننا جميعا نستنتج بالتأكيد أن هذا من عمل إنسان ما في الزمان القديم. فإذا وجدنا بالقرب من الحجر جمجمة بشرية أكثر كمالا وأكثر تعقيدًا من الحجر بدرجة لا تقارن، فإن بعضا منا لن يفكر في أنها من صنع كائن واع، بل ينظرون إلى هذه الجمجمة الكاملة أو الهيكل الكامل كأنهما قد نشآ بذاتيهما أو بالصدفة هكذا.. بدون تدخل عقل أو وعي!».
«أما هؤلاء الذين يرون أن المادة (من خلال الصدفة وحدها) قد أدت إلى ظهور عناصر متجاوزة للمادة مثل الإنسان والوعي والعقل والغائية، فهم ـ في نهاية الأمر ـ ينسبون للمادة قُدرات غير مادية، ومن ثم فإنهم يكونون قد خرجوا بذلك عن مقاصد الفلسفة المادية، خصوصا أن فرضياتهم لا تعدو كونها تكهنات عنيدة طفولية تضمن لهم الاستمرار في ماديتهم البسيطة، وتضمن لهم في الوقت نفسه تفسير ما حولهم من تركيب ووعي وغائية».

الإنسان والمقدس
ولا يكتفي علي عزت بيجوڤيتش بالتأكيد على أن فكرة الصدفة ليست فكرة من الصعب تصديقها وأنها ليست فكرة علمية أكيدة كما يدّعون، وإنما فكرة تخمينية. ليست نتيجة عملية تجريبية أو ملاحظة علمية، وإنما نتيجة عملية عقلية محضة تحاول سد ثغرة في النظام المادي وتدعي أنها علم.
لا يكتفي علي عزت بيجوڤيتش بذلك، بل يلجأ إلى طريقة أكثر حسما وهي توضيح العجز التفسيري الكامل لنظرية التطور في تناولها الظواهر الإنسانية. وهو ينجز ذلك عن طريق استخدام نموذج مركب يأخذ في الاعتبار كلا من العناصر المادية والإنسانية.
ولذا نجده يشير إلى أن النظرية الداروينية لم تكرس اهتماما كافيا للظواهر الثقافية، لسبب بسيط: وهو أن هذه الظواهر ليست نتاج التطور (فهي تقف متعالية عليها، مفارقة لها)، ولذا يركز عليها علي عزت بيجوڤيتش، لأنها تحمل في ثناياها إجابات عن بعض الأسئلة الحاسمة عن الوجود الإنساني.
فإذا كان هناك خط متصل «للتطور المادي» يؤكد على الكفاءة والمنفعة وتسخير الطبيعة والآلات، فهناك خط مواز للثقافة الإنسانية يؤكد على قيم مختلفة تماما لم يحدث فيها تقدم أو تطور (التضحية والضمير والخوف من الموت والمجهول)، وعلى نشاطات إنسانية مختلفة (الفن والدين والأخلاق والفلسفة). وهذه القيم والنشاطات الإنسانية فرع سلالة واحدة تشير إلى وجود عالم آخر (نظام آخر) إلى جانب عالم الطبيعة وهي لا تعرف التقدم أو التطور.
إن نظرية التطور الداروينية لا تفسر كيف لم يتغير تاريخ البشر الجُوّانيّ كثيرًا، فالإنسان (بأخطائه، وفضائله، وشكوكه، وخطاياه، وكل ما يشكل وجوده الجُوّانيّ) يبرهن على عدم قابليته للتغيير. فدراسة رسوم إنسان «نياندرتال» في فرنسا تبين أن الحياة النفسية للإنسان البدائي لا تختلف إلا قليلا جدًا عن الحياة النفسية للإنسان المعاصر.
لماذا أصيب الإنسان بالدوار الميتافيزيقي؟ لماذا توقف عن تحسين كفاءته في الصيد ليقوم ببعض الشعائر التي لا معنى لها من منظور مادي نفعي؟ كان الإنسان يسأل عن كيفية البقاء وعن آليات الاستمرار، ثم بدأ يسأل فجأة عن المعنى والهدف من وجوده، أي أنه بدأ يسأل لماذا؟
لو كنا حقا من أبناء هذا العالم، فلن يبدو لنا فيه شيء نجسًا أو مقدسًا، فهذه أفكار مناقضة للعالم الذي نعرفه. نحن لا نستطيع أن نجد أثرًا لعبادات أو محرمات أو مقدسات في أكثر أنواع الحيوانات تطورًا.
إن ظاهرة الحياة الجُوّانية أو التطلع إلى السماء ظاهرة ملازمة للإنسان، غريبة عن الحيوان. هذا الجانب من الإنسانية، وهذه الظواهر [الخير والشر، المقدس والمدنس، الشعور بالفجيعة، الصراع الدائم بين المصلحة والضمير، التساؤل عن وجودنا] تظلّ جميعها مستعصية على أي تفسير منطقي. ولكن إنطلاقا من الإيمان بثنائية الإنسان والطبيعة، والاختلاف الجوهري بين الاثنين، وثنائية الطبيعة البشرية، يبين علي عزت بيجوڤيتش أن أصل الإنسان لا يمكن أن يكون ماديًّا.. فهو ليس نتيجة تطور مادي، فالعنصر الروحي في الإنسان الذي يستعصي على التفسيرات المنطقية المادية لا يمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهي، والخلق ليس عملية مادية وإنما فعل إلهي. ليس شيئًا متطورًا، وإنما هو فعل فجائي (كن.. فيكون). «فمنذ تلك اللحظة المشهودة، لم يعد ممكنا لإنسان أن يختار بين أن يكون حيوانا أو إنسانا، إنما اختياره الوحيد أن يكون إنسانا أو لاإنسان». وبذلك ربط علي عزت بيجوڤيتش بين الإنسان وبين الله، بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانا إلا بوجود الله، فإن مات الله (كما يزعمون في الحضارة الغربية) مات الإنسان، أو إن نسينا الله (كما نقول نحن) فإننا ننسى أنفسنا.