المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرد على من يسأل " من خلق الله ؟"



abou3esa
08-17-2006, 01:23 AM
قال العلامة بن باز : الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق




الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فقد كتب إليّ بعض الإخوان يذكر أنه ألقى عليه بعض زملائه شبهة قائلا: إنه يعترف أن الله سبحانه هو خالق السماوات والأرض، والعرش والكرسي وكل شيء، ولكنه يسأل قائلا: الله ممن يكون ؟

فأجابه بقوله له: كلامك الأول صحيح لا تعليق عليه، أما قولك الثاني وهو قولك: الله ممن يكون؟، فلا يقوله مسلم، وينبغي أن يسعك ما وسع الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لم يسألوا مثل هذا السؤال، وهم الفطاحل في العلم، وقال له أيضا: إن الله سبحانه قال عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وقال: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إلى آخر ما ذكره. ورغب إليّ في الإجابة عن هذه الشبهة فأجبته عن ذلك بما نصه:

اعلم وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه: أن شياطين الإنس والجن لم يزالوا ولن يزالوا يوردون الكثير من الشبه على أهل الإسلام وغيرهم، للتشكيك في الحق وإخراج المسلم من النور إلى الظلمات، وتثبيت الكافر على عقيدته الباطلة، وما ذاك إلا لما سبق في علم الله وقدره السابق، من جعل هذه الدار دار ابتلاء وامتحان وصراع بين الحق والباطل، حتى يتبين طالب الهدى من غيره، وحتى يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، كما قال سبحانه: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ وقال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ وقال سبحانه: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ فأوضح سبحانه في الآية الأولى والثانية والثالثة: أنه يبتلي مدعي الإيمان بشيء من الفتن ليتبين صدقه في إيمانه وعدمه.

وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك بمن مضى ليعلم سبحانه الصادقين من الكاذبين، وهذه الفتنة تشمل فتنة المال والفقر والمرض والصحة والعدو، وما يلقي الشياطين من الإنس والجن من أنواع الشبه وغير ذلك من أنواع الفتن، فيتبين بعد ذلك الصادق في إيمانه من الكاذب، ويعلم الله ذلك علما ظاهرا، موجودا في الخارج بعد علمه السابق. لأنه سبحانه قد سبق في علمه كل شيء كما قال عز وجل: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء خرجه مسلم في صحيحه. ولكنه عز وجل لا يؤاخذ العباد بمقتضى علمه السابق، وإنما يؤاخذهم ويثيبهم على ما يعلمه منهم، بعد عملهم إياه، ووجوده منهم في الخارج،

وذكر في الآيات الرابعة والخامسة والسادسة: أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من أنواع الشبه وزخرف القول ما يغرونهم به ليجادلوا به أهل الحق، ويشبهوا به على أهل الإيمان، ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ليرضوا به، فيصولوا ويجولوا ويلبسوا الحق بالباطل، ليشككوا الناس في الحق، ويصدوهم عن الهدى، وما الله بغافل عما يعملون، لكن من رحمته عز وجل أن قيض لهؤلاء الشياطين وأوليائهم من يكشف باطلهم، ويزيح شبهتهم، بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة، فيقيموا بذلك الحجة، ويقطعوا المعذرة، وأنزل كتابه سبحانه تبيانا لكل شيء، كما قال عز وجل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وقال سبحانه: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا قال بعض السلف: هذه الآية عامة لكل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال وقد وجدتموه؟" قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان قال بعض أهل العلم في تفسير ذلك: إن الإنسان قد يوقع الشيطان في نفسه من الشكوك والوساوس ما يصعب عليه أن ينطق به لعظم بشاعته ونكارته، حتى أن خروره من السماء أهون عليه من أن ينطق به، فاستنكار العبد لهذه الوساوس، واستعظامه إياها ومحاربته لها هو صريح الإيمان؛ لأن إيمانه الصادق بالله عز وجل وبكمال أسمائه وصفاته، وأنه لا شبيه له، ولا ند له، وأنه الخلاق العليم الحكيم الخبير، يقتضي منه إنكار هذه الشكوك والوساوس ومحاربتها، واعتقاد بطلانها، ولا شك أن ما ذكره لك هذا الزميل من جملة الوساوس، وقد أحسنت في جوابه ووفقت للصواب فيما رددت به عليه زادك الله علما وتوفيقا.

نشرت في مجلة البحوث الإسلامية (العدد) الصادر في الأشهر: ذي القعدة وذي الحجة 1403 هـ ومحرم وصفر 1404 هـ.

وأنا أذكر لك إن شاء الله في هذا الجواب بعض ما ورد في هذه المسألة من الأحاديث، وبعض كلام أهل العلم عليها لعله يتضح لك من ذلك وللزميل المبتلى بالشبهة التي ذكرت، ما يكشف الشبهة ويبطلها ويوضح الحق، ويبين ما يجب على المؤمن أن يقوله ويعتمده عند ورود مثل هذه الشبهة، ثم أختم ذلك بما يفتح الله علي في هذا المقام العظيم، وهو سبحانه ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.

قال الإمام البخاري رحمه الله في كتابه (الجامع الصحيح) ص 336 من المجلد السادس من فتح الباري - طبعة المطبعة السلفية - في باب صفة إبليس وجنوده: حدتنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ثم رواه في كتاب (الاعتصام) ص 264 من المجلد الثالث عشر من (فتح الباري) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟ انتهى.

وأخرج مسلم في صحيحه اللفظ الأول من حديث أبي هريرة ص 154 من الجزء الثاني من المجلد الأول من شرح مسلم للنووي رحمه الله، وأخرجه مسلم أيضا بلفظ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ورسله ثم ساقه بألفاظ أخر. ثم رواه من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا ما كذا؟ حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ وخرج مسلم أيضا رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال "وقد وجدتموه؟" قالوا نعم قال "ذلك صريح الإيمان ثم رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سئل النبي عن الوسوسة قال "تلك محض الإيمان
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم لما ذكر هذه الأحاديث ما نصه: (أما معاني الأحاديث وفقهها، فقوله صلى الله عليه وسلم: ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان، معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك، واعلم أن الرواية الثانية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد، وهي مختصرة من الرواية الأولى، ولهذا قدم مسلم رحمه الله الرواية الأولى، وقيل معناه: أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه.

وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة، بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا المعنى الحديث: سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة علامة محض الإيمان، وهذا القول اختيار القاضي عياض .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله وفي الرواية الأخرى: فليستعذ بالله ولينته فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه، قال الإمام المازري رحمه الله: ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها، من غير استدلال ولا نظر في إبطالها. وقال: والذي يقال في هذا المعنى: أن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: فليستعذ بالله ولينته فمعناه: إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته، وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها، والله أعلم) انتهى كلام النووي رحمه الله ص 156.

وقال الحافظ في الفتح في الكلام على حديث أبي هريرة المذكور في أول هذا الجواب ما نصه: (قوله: من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته أي: عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها، قال الخطابي : وجه هذا الحديث: أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه، وكف عن مطاولته في ذلك اندفع، قال: وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان، قال: والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه كلام بالسؤال والجواب، والحال معه محصور، فإذا راعى الطريقة وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك.

قال الخطابي : (على أن قوله: "من خلق ربك" كلام متهافت ينقض آخره أوله. لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا، ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل، وهو محال، وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث، فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات) انتهى.

والذي نحا إليه من التفرقة بين وسوسة الشيطان ومخاطبة البشر فيه نظر؛ لأنه ثبت في مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله فسوى في الكف عن الخوض في ذلك بين كل سائل عن ذلك من بشر وغيره.

وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة قال: سألني عنها اثنان، وكان السؤال عن ذلك لما كان واهيا لم يستحق جوابا. أو الكف عن ذلك نظير الأمر بالكف عن الخوض في الصفات والذات، قال المازري : (الخواطر على قسمين: فالتي لا تستقر ولا يجلبها شبهة هي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا ينزل الحديث، وعلى مثلها يطلق اسم وسوسة، وأما الخواطر المستقرة الناشئة عن الشبهة فهي التي لا تندفع إلا بالنظر والاستدلال).

وقال الطيبي : (إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج؛ لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة؛ ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلا حيرة، ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله تعالى، والاعتصام به، وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال عما لا يعني المرء وعما هو مستغن عنه، وفيه علم من أعلام النبوة لإخباره بوقوع ما سيقع فوقع).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول): ولفظ (التسلسل) يراد به التسلسل في المؤثرات، وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: (آمنت بالله)، كما في الصحيحين عن أبي هريرة ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته .

وفي رواية: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟" قال فبينما أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال فأخذ حصى بكفه فرماهم به ثم قال قوموا صدق خليلي وفي الصحيح أيضا عن أنس بن مالك عن رسول الله قال: قال الله: إن أمتك لا يزالون يسألون ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله.

ولعله يتضح لك أيها السائل ولزميلك الذي أورد عليك الشبهة، مما ذكرنا من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم ما يزيل الشبهة ويقضي عليها من أساسها ويبين بطلانها؛ لأن الله سبحانه لا شبيه له، ولا كفؤ له، ولا ند له، وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو الخالق لكل شيء وما سواه مخلوق،

وقد أخبرنا في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، بما يجب اعتقاده في حقه سبحانه، وبما يعرفنا به ويدلنا عليه من أسمائه وصفاته وآياته المشاهدة، من سماء وأرض وجبال وبحار وأنهار وغير ذلك من مخلوقاته عز وجل، ومن جملة ذلك نفس الإنسان فإنها من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته وكمال علمه وحكمته، كما قال عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
وقال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ، أما كنه ذاته وكيفيتها وكيفية صفاته فذلك من علم الغيب الذي لم يطلعنا عليه، فالواجب علينا فيه: الإيمان والتسليم وعدم الخوض في ذلك، كما وسع ذلك سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، فإنهم لم يخوضوا في ذلك ولم يسألوا عنه، بل آمنوا بالله سبحانه، وبما أخبر به عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يزيدوا، مع إيمانهم بأنه سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
وعلى كل من وجد شيئا من هذه الوساوس، أو ألقي إليه شيء منها أن يستعظمها وينكرها من أعماق قلبه إنكارا شديدا، وأن يقول: آمنت بالله ورسله، وأن يستعيذ بالله من نزغات الشيطان، وأن ينتهي عنها ويطرحها كما أمر الرسول بذلك في الأحاديث السابقة، وأخبر أن استعظامها وإنكارها هو صريح الإيمان، وعليه أن لا يتمادى مع السائلين في هذا الباب؛ لأن ذلك قد يفضي إلى شر كثير وإلى شكوك لا تنتهي،

فأحسن علاج للقضاء على ذلك والسلامة منه هو امتثال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، والتمسك به والتعويل عليه، وعدم الخوض فيه، وهذا هو الموافق لقول الله عز وجل: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
فالاستعاذة بالله سبحانه، واللجوء إليه وعدم الخوض فيما أحدثه الموسوسون وأرباب الكلام الباطل من الفلاسفة ومن سلك سبيلهم، من الخوض في باب أسماء الله وصفاته وما استأثر الله بعلمه، من غير حجة ولا برهان - هو سبيل أهل الحق والإيمان، وهو طريق السلامة والنجاة والعافية من مكايد شياطين الإنس والجن، وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للسلامة من مكائدهم،

ولهذا لما سأل بعض الناس أبا هريرة رضي الله عنه عن هذه الوسوسة: حصبهم بالحصى ولم يجبهم على سؤالهم، وقال: صدق خليلي.

ومن أهم ما ينبغي للمؤمن في هذا الباب: أن يكثر من تلاوة القرآن الكريم وتدبره؛ لأن فيه من بيان صفات الله وعظمته وأدلة وجوده، ما يملأ القلوب إيمانا ومحبة وتعظيما، واعتقادا جازما بأنه سبحانه هو رب كل شيء ومليكه وأنه الخالق لكل شيء والعالم بكل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه،

كما ينبغي للمؤمن أيضا أن يكثر من سؤال الله المزيد من العلم النافع، والبصر النافذ، والثبات على الحق، والعافية من الزيغ بعد الهدى، فإنه سبحانه قد وجَّه عباده إلى سؤاله، ورغبهم في ذلك ووعدهم الإجابة، كما قال عز وجل: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأسأل الله أن يوفقنا وإياك وزميلك وسائر المسلمين للفقه في الدين، والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، ومن مكايد شياطين الإنس والجن ووساوسهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.


فتاوى ومقالات بن باز

مجدي
08-17-2006, 12:00 PM
جزاكم الله خيرا .

اسلام الصالح
08-17-2006, 03:24 PM
السلام عليكم ورحة الله وبركاته

جزاك الله خيرا

يوجد رد على هذا الافتراء الشيطانى وان شاء الله يكون رد مقنع وقاسم

اولا يقول الملحد :
من خلق الله اى (من خلق الخالق)

وكلمة خلق على وزن (فعل)

وكلمة خالق على وزن (فاعل)

فكيف ياتى بالفعل على فاعل هذا الشىء؟؟؟؟؟

الله هو الفاعل لهذ الخلق فكيف تجوز عليه هذه الصفه؟؟

اذا هذا السؤال فاسد عقلا ولا يحتمل الجدال فيه لانها افتراء شيطانى

والسلام عليكم

abou3esa
08-17-2006, 05:55 PM
يوجد رد على هذا الافتراء الشيطانى وان شاء الله يكون رد مقنع وقاسم

اولا يقول الملحد :
من خلق الله اى (من خلق الخالق)

وكلمة خلق على وزن (فعل)

وكلمة خالق على وزن (فاعل)

فكيف ياتى بالفعل على فاعل هذا الشىء؟؟؟؟؟

الله هو الفاعل لهذ الخلق فكيف تجوز عليه هذه الصفه؟؟

اذا هذا السؤال فاسد عقلا ولا يحتمل الجدال فيه لانها افتراء شيطانى

لم أكتب الموضوع لذالك ، هل أخى أحسنتَ قرأة ما أوردتُه .

أم انك قرات العنوان فدخلت لتجيب.

اسلام الصالح
08-17-2006, 09:35 PM
نعم انا قراءت العنوان

فدخلت فى ردى على هذا الافتراء ولكن انا لا اعلم ان الموضوع يختلف!

حاتم ناصر الشرباتي
09-25-2006, 12:11 AM
طريقُ الإيمانِ


ينهَضُ الإنسانُ بما عندَهُ مِن فكرٍ عَنِ الحياةِ والكونِ والإنسانِ، وَعَن عَلاقَتِهَا جميعِها بما قبلَ الحياةِ الدُنيا وما بعدَها. فكانَ لا بُدَّ مِن تغييرِ فكرِ الإنسانِ الحاضرِ تغييراً أساسياً شاملاً، وإيجادِ فكرٍ آخرَ لَهُ حتّى ينهَضَ، لأَنَّ الفكرَ هو الذي يوجِدُ المفاهيمَ عنِ الأشياءِ، ويركِّزُ هذِهِ المفاهيمَ. والإنسانُ يُكَيِّفُ سلوكَهُ في الحياةِ بِحَسَبِ مفاهيمِهِ عَنْهَا، فمفاهيمُ الإنسانِ عَنْ شخصٍ يُحِبُّهُ تُكيِّفُ سلوكَه نَحْوَه، على النَّقِيضِ مِنْ سلوكِهِ مَعَ شَخْصٍ يُبْغِضُهُ وعندَهُ مفاهيمُ البُغْضِ عَنْهُ، وعلى خِلافِ سلوكِهِ مع شخصٍ لا يعرفُهُ ولا يُوجَدُ لَدَيْهِ أيُّ مفهومٍ عَنْه، فالسلوكُ الإنسانيُّ مربوطٌ بمفاهيمِ الإنسانِ، وعندَ إرادتِنَا أَنْ نغيِّرَ سلوكَ الإنسانِ المنخفِضِ ونجعلَهُ سلوكاً راقياً لابدَّ أَنْ نغيِّرَ مــفــهـــومَــهُ أَوّلا}إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ{.



والطريقُ الوحيدُ لتغييِر المفاهيمِ هُوَ إيجادُ الفكرِ عَنِ الحياةِ الدنيا حتَّى تُوجَدَ بواسطتِهِ المفاهيمُ الصحيحةُ عَنْهَا. والفكرُ عَنِ الحياةِ الدنيا لا يتركَّزُ تَرَكُّزاً مُنْتِجاً إِلاّ بعدَ أَنْ يُوجَدَ الفكرُ عَنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وعمَّا قبلَ الحياةِ الدنيا وعمَّا بعدَها، وعَنْ عَلاقتِها بما قبلَهَا وما بعدَهَا، وذَلِكَ بإِعطاءِ الفكرةِ الكُلِّيَةِ عمَّا وراءَ هذَا الكونِ والإنسانِ والحياةِ. لأنَّها القاعدةُ الفكريةُ التي تُبْنَى عليْهَا جَميعُ الأفكارِ عَنِ الحياةِ. وإِعطاءُ الفكرةِ الكليةِ عَنْ هذِهِ الأَشْيَاءِ هُوَ حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرى عِندَ الإنسانِ. ومتى حُلَّتْ هذه العقدةُ حُلَّت باقِي العُقَدِ، لأنها جزئيةٌ بالنِسْبَةِ لَهَا، أَوْ فُروعٌ عَنْها. لَكِنَّ هذا الحلَّ لا يُوصِلُ إِلى النَّهضةِ الصحيحةِ إلا إذا كانَ حلاً صحيحاً يوافِقُ فِطْرَةَ الإنسانِ، ويُقْنِعُ العقلَ، فَيَمْلأُ القَلبَ طُمَأْنِينَةً.



ولا يمكنُ أنْ يوجدَ هذا الحلُّ الصحيحُ إلا بالفكرِ المستنيِر عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ. لذلك كان على مُرِيدِي النهضةِ والسيرِ في طريقِ الرُّقِيِّ أَنْ يَحُلُّوا هذِهِ العقدةَ أولاً، حلاً صحيحاً بواسطةِ الفكرِ المستنيرِ، وهذا الحلُّ هو العقيدةُ، وهو القاعدةُ الفكريةُ التي يُبنى عليها كلُّ فكرٍ فَرْعِيٍ عَنِ السلوكِ في الحياةِ وعنْ أنظمةِ الحياةِ.



والإسلامُ قَد عمَد إِلى هذه العقدةِ الكبرى فَحَلَّها للإنسانِ حلاً يوافِقُ الفِطرةَ، ويَمْلأُ العقلَ قَناعةً، والقلبَ طُمأنينةً، وجعَلَ الدخولَ فِيه متوقِّفاً على الإقرارِ بهذا الحلِّ إقراراً صادراً عنِ العقلِ، ولذلك كان الإسلام مبنياً على أساسٍ واحدٍ هو العقيدةُ. وهي أنَّ وراءَ هذا الكونِ والإنسانِ والحياةِ خالقاً خلقَها جميعاً، وخلقَ كلَّ شيءٍ، وهو اللهُ تعالى. وأَنَّ هذا الخالقَ أَوْجَدَ الأشياءَ مِن العدمِ، وهو وَاجِبُ الوجودِ، فهو غيرُ مخلوقٍ، وإلا لما كان خالقاً، واتصافُهُ بكونِهِ خالقاً يَقْضِي بكونِهِ غيرَ مخلوقٍ، ويَقْضِي بأنَّهُ واجبُ الوجودِ، لأنَّ الأشياءَ جميعَهَا تستَنِدُ في وجودِها إِلَيْهِ ولا يستندُ هو إلى شيءٍ.



أمَّا أنَّهُ لا بدَّ للأشياءِ مِن خالقٍ يخلُقُها فذلك أنَّ الأشياءَ التي يُدرِكُها العقلُ هي الإنسانُ والحياةُ والكونُ، وهذه الأشياءُ محدودةٌ، فهي عاجزةٌ وناقصةٌ ومحتاجةٌ إلى غيرِهَا. فالإنسانُ محدودٌ لأنَّهُ ينمُو في كلِّ شيءٍ إلى حَدٍ مَا لا يتجاوَزُهُ، فهو محدودٌ. والحياةُ محدودةٌ، لأنَّ مظهَرها فرديٌ فَقَطْ، والمُشاهَدُ بالحِسِّ أنَّها تَنْتَهِي بالفردِ فهي محدودةٌ. والكونُ محدودٌ لأنه مجموعُ أَجرامٍ وكلُّ جِرْمٍ مِنها محدودٌ، ومجموعُ المحدوداتِ محدودٌ بداهةً، فالكونُ محدودٌ. وعلى ذلك فالانسانُ والحياةُ والكوْنُ محدودةٌ قطعاً.



وحينَ ننظُرُ إلى المحدودِ نجدُهُ ليسَ أَزَلِياً وإلا لمَا كان محدوداً فلا بدَّ أنْ يكونَ المحدودُ مخلوقاً لغيرِهِ، وهذا الغيرُ هو خالقُ الإنسانِ والحياةِ والكونِ، وهو إِمَّا أَنْ يكونَ مخلوقاً لغيرِهِ، أَوْ خالقاً لنفسِهِ، أو أزلياً واجبَ الوجودِ. أمَّا أنَّهُ مخلوقٌ لغيرِهِ فباطلٌ، لأنَّهُ يكونُ محدوداً، وأما أنَّهُ خالقٌ لنفسِهِ فباطلٌ أيضاً، لأنه يكونُ مخلوقاً لنفسِهِ وخالقاً لنفسِهِ في آنٍ واحدٍ، وهذا باطلٌ أيضاً، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ أزلياً واجبَ الوجودِ وهو اللهُ تعالى.



على أنَّ كلَّ مَنْ لَهُ عقلٌ، يُدرِكُ من مجرَّدِ وجودِ الأشياءِ التي يقَعُ عليْها حِسُّهُ، أَنَّ لهَا خالقاً خَلَقَهَا، لأَنَّ المشاهَدَ فيها جميعِهَا أَنَّها ناقصةٌ، وعاجزةٌ ومحتاجةٌ لغيرِهَا، فهي مخلوقةٌ قطعاً. ولذلك يكفِي أنْ يُلْفَتَ النَظَرُ إِلى أَيِّ شيءٍ في الكونِ والحياةِ والإنسانِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ على وجودِ الخالقِ المدبِّرِ. فالنَظَرُ إلى أَيِّ كَوْكَبٍ مِنَ الكواكبِ في الكونِ، والتأَمُّلُ في أَيِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظاهِرِ الحياةِ، وإِدراكُ أَيِّ ناحيةٍ في الإنسانِ، لَيَدُلُّ دِلالةً قطعيةً على وجودِ اللهِ تعالى.



ولذلكَ نَجِدُ القرآنَ الكريمَ يُلْفِتُ النَظَرَ إلى الأشياءِ، ويدعُو الإنسانَ لأَنْ ينظُرَ إِليها وإلى ما حَوْلَهَا وما يتعلَّقُ بِهَا، ويَسْتَدِلُّ بذلك على وجودِ اللهِ تعالى. إِذْ ينظرُ إِلى الأشياءِ كَيْفَ أَنَّهَا محتاجةٌ إلى غيرِها، فَيُدْرِكُ مِنْ ذلك وجودَ اللهِ الخالقِ المدبِّرِ إِدراكاً قطعياً. وَقَدْ وَرَدَتْ مِئَاتُ الآياتِ في هذا المعنــى. قال تعالى : في سورةِ آلِ عمرانَ } إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ{ وقالَ تعالى : في سورةِ الرومِ }وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ{ وقالَ تعالى : في سورةِ الغاشِيةِ } أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ{ وقالَ تعالى : في سورةِ الطارِقِ }فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ{ وَقالَ تعالى : في سورةِ البَقَرَةِ } إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{ وإلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ التي تدعُو الإنسانَ لأَنْ ينظُرَ النَظْرَةَ العميقةَ إلى الأشياءِ وما حولهَا وما يتعلقُ بِهَا،ويَستدِلَّ بذلك على وجودِ الخالقِ المدبِّرِ، حتَّى يكونَ إيمانُهُ باللهِ إيماناً راسخاً عَنْ عَقْلٍ وَبَيِّنَةٍ.

نَعَمْ إِنَّ الإيمانَ بالخالقِ المدبِّرِ فِطْرِيٌ في كلِّ إنسانٍ. إِلا أَنَّ هذا الإيمانَ الفطريَّ يأتِي عن طريقِ الوِجْدَانِ. وهو طريقٌ غيرُ مَأْمُونِ العاقِبَةِ، وغيرُ مُوصِلٍ إِلى تركيزٍ إذا تُرِكَ وَحْدَهُ. فالوِجدانُ كثيراً ما يُضْفِي على ما يُؤْمِنُ بِهِ أَشْيَاءَ لا حقائقَ لهَا، ولكنَّ الوِجدانَ تخَيَّلَهَا صِفاتٍ لازمةٍ لِمَا آمَنَ بِهِ، فَوَقَعَ في الكُفرِ أو الضَّلالِ. وما عبادةُ الأوثانِ، وما الخُرافاتُ والتُرَّهَاتُ إلا نَتيجَةً لخطأِ الوِجدانِ. ولهذا لم يَتْرُكِ الإسلامُ الوجدانَ وحدَهُ طريقةً للإيمانِ، حتى لا يجعلَ للهِ صفاتٍ تَتَنَاقَضُ مَعَ الأُلُوهِيَّةِ، أو يجعلَهُ مُمْكِنَ التَجَسُّدِ في أشياءَ مادِّيَّةٍ، أو يَتَصَوَّرَ إِمكانَ التَقَرُّبِ إلَيْها بعِبادةِ أَشياءَ مادِّيَّةٍ، فيُؤَدِّيَ إمَّا إلى الكفرِ أو الإشراكِ، وإمَّا إلى الأوْهَامِ والخُرافَاتِ الَّتي يَأْبَاها الإيمانُ الصادقُ. ولذلكَ حَتَّمَ الإسلامُ استعمال العَقْلِ مَعَ الوِجدانِ، وأَوْجَبَ على المُسلمِ استعمال عقلِهِ حينَ يُؤْمنُ بِاللهِ تعالى، ونَهى عَنِ التقليدِ في العقيدةِ ولذلكَ جَعَلَ العقلَ حكماً في الإيمانِ باللهِ تعـالى. قالَ تعالى : } إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ{.

ولهذا كانَ واجباً عَلى كلِّ مسلمٍ أَنْ يَجْعَلَ إيمانَهُ صادراً عَنِ تَفْكيرٍ وبَحْثٍ ونَظَرٍ، وأَنْ يُحَكِّمَ العَقلَ تحكيماً مُطلقاً في الإيمانِ باللهِ تعالى. والدعوةُ إلى النَظَرِ في الكونِ لاسْتِنْبَاطِ سُنَنِهِ وللاهْتِدَاءِ إلى الإيمانِ بِبَارِئِهِ، يُكَرِّرُهَا القُرآنُ مِئَاتِ المرَّاتِ في سُوَرِهِ المُخْتَلِفَةِ، وكُلَّهَا مُوَجَّهَةٌ إلى قُوَى الإِنسانِ العاقِلَةِ تَدعُوهُ إلى التَدَبُّرِ والتَأَمُّلِ لِيَكونَ إيمانُهُ عَنْ عقلٍ وبَيِّنَةٍ وتُحَذِّرُهُ الأَخْذَ بما وَجَدَ عَلَيْهِ آبَاءَهُ مِنْ غيِر نَظَرٍ فيه وتَمْحِيصٍ لَهُ وثِقَةٍ ذَاتِيَّةٍ بِمَبْلَغِهِ مِنَ الحقِّ. هذا هوَ الإيمانُ الذي دَعَا الإِسلامُ إِلَيْهِ، وهوَ لَيْسَ هذا الإيمانَ الَّذي يُسَمُّونَهُ إيمانَ العَجَائِزِ، إنَّمَا هوَ إيمانُ المُسْتَنِيرِ المُسْتَيْقِنِ الَّذي نَظَرَ ونَظرَ، ثُمَّ فَكَّرَ وفَكَّرَ، ثُمَّ وَصَلَ مِنْ طَريقِ النَظرِ والتَفْكِيرِ إلى اليَقِينِ بِاللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ.

ورَغْمَ وُجوبِ استعمال العَقْلِ في الوُصولِ إلى الإيمانِ باللهِ تعالى فإنَّهُ لا يُمْكِنُهُ إِدْراكُ ما هوَ فَوْقَ حِسِّهِ وفوقَ عقلِهِ، وذلكَ لأَنَّ العقلَ الإِنسانيَّ محدودٌ، ومحدودةٌ قُوَّتُهُ مَهْمَا سَمَتْ ونَمَتْ بِحُدُودٍ لا تَتَعَدَّاهَا، ولِذلكَ كانَ محدودَ الإدْرَاكِ، ومنْ هنا كانَ لا بُدَّ أَنْ يَقْصُرَ العقلُ دونَ إِدراكِ ذاتِ اللهِ، وأَنْ يَعْجَزَ عنْ إدراكِ حَقِيقَتِهِ، لأَنَّ اللهَ وراءَ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، والعقلُ في الإنسانِ لا يدركُ حقيقةَ ما وراءِ الإنسانِ، ولذلكَ كانَ عاجِزاً عَنْ إدراكِ ذاتِ اللهِ. ولا يقالُ هُنَا: كيفَ آمَنَ الإنسانُ باللهِ عقلاً معْ أَنَّ عقلَهُ عاجِزٌ عنْ إدراكِ ذاتِ اللهِ؟ لأنَّ الإيمانَ إنَّمَا هوَ إيمانٌ بِوجودِ اللهِ وَوُجودُهُ مُدْرَكٌ منْ وجودِ مخلوقاتِهِ، وهيَ الكونُ والإنسانُ والحياةُ. وهذهِ المخلوقاتُ داخلةٌ في حدودِ ما يُدْرِكُهُ العقلُ، فأَدْرَكَهَا، وأدركَ منْ إدراكِهِ لَهَا وجودَ خالقٍ لَهَا، وهوَ اللهُ تعالى. ولذلكَ كانَ الإيمانُ بِوجودِ اللهِ عقلياً في حدودِ العقلِ، بِخِلافِ إدراكِ ذاتِ اللهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ، لأنَّ ذاتَهُ وراءَ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، فهوَ وراءَ العقلِ. والعقلُ لا يمكنْ أنْ يدركَ حقيقة ما وراءَهُ لِقُصورِهِ عنْ هذا الإدراكِ. وهذا القصورُ نفسُهُ يجبُ أنْ يكونَ منْ مُقوياتِ الإيمانِ، وليسَ منْ عواملِ الارتياب والشكِّ .

فإنِّهُ لمَّا كانَ إيمانُنَا باللهِ آتِياً عنْ طريقِ العقلِ كانَ إدراكُنَا لِوُجودِهِ إِدْراكاً تامَّاً، ولمَّا كانَ شعورُنا بِوجودِهِ تعالى مَقْرُوناً بالعقلِ كانَ شُعُورُنَا بوجودِهِ شُعوراً يَقينياً، وهذا كُلُّهُ يجعلُ عِنْدَنَا إِدراكاً تامَّاً وَشُعوراً يقينِياً بجَميعِ صفاتِ الأُلوهيَّةِ.

وَهذا منْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْنِعَنَا أَنَّنا لنْ نَستَطيعَ إدراكَ حقيقةِ ذاتِ اللهِ على شِدَّةِ إيمانِنَا بِهِ، وأنَّنَا يجبُ أنْ نُسَلِّمَ بِما أخبرنَا بِهِ مِمَّا قَصَرَ العقلُ عنْ إدراكِهِ، وذلكَ لِلْعَجْزِ الطَبِيعِيِّ عنْ أنْ يَصِلَ العقلُ الإنْسَانِيُّ بمَقَاييسِهِ النِسْبِيَّةِ المحدودةِ إلى إدراكِ ما فوقَهُ. إذْ يحتاجُ هذا الإدراكُ إلى مقاييسَ ليسَتْ نِسْبِيَّةً وليستْ محدودةً، وهي ممَّا لا يملكُهُ الإنسانُ ولا يستطيعُ أنْ يملِكَهُ.

أمَّا ثبوتُ الحاجةِ إلى الرسُلِ ، فهوَ أنَّهُ ثَبَتَ أنَّ الإنسانَ مخلوقٌ للهِ تعالى، وأنَّ التديُّنَ فِطريٌّ في الإنسانِ، لأنَّهُ غريزةٌ منْ غرائزِهِ، فهوَ في فطرتِهِ يُقَدِّسُ خالِقَهُ، وَهذا التقديسُ هوَ العبادةُ، وهيَ العلاقةُ بينَ الإنسانِ والخالقِ وهذهِ العلاقةُ إِذا تُرِكَتْ دونَ نظامٍ يُؤَدِّي تَرْكُهَا إلى اضْطِّرَابِهَا وإلى عبادةِ غيرِ الخالقِ، فلا بُدَّ منْ تَنْظيمِ هذهِ العلاقةِ بنظامٍ صَحيحٍ، وهذا النِظامُ لا يَأْتِي مِنَ الإنسانِ لأَنَّهُ لا يَتَأَتَّى لَهُ إدراكُ حقيقةِ الخالقِ حَتَّى يضعَ نِظاماً بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، فَلا بُدَّ أنْ يكونَ هذا النظامُ منَ الخالقِ. وبما أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يُبَلِّغَ الخالقُ هذا النظامَ لِلإنسانِ. لذلكَ كانَ لا بُدَّ منَ الرسلِ يُبلِّغونَ الناسَ دينَ اللهِ تعالى.

والدليلُ أيضاً على حاجةِ الناسِ إلى الرسلِ هوَ أنَّ إِشْباعَ الإنسانِ لِغرائزِهِ وحاجاتِهِ العضويَّةِ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ،وهذا الإشباعُ إذا سارَ دونَ نظامٍ يُؤَدِّي إلى الإشْباعِ الخَطَأِ أو الشاذِّ ويُسَبِّبُ شقاءَ الإنسانِ، فَلا بدَّ منْ نظامٍ يُنظِّمُ غَرائِزَ الإنسانِ وَحاجاتِهِ العضوِيَّةَ، وهذا النظامُ لا يأتي منَ الإنسانِ، لأنَّ فهمَهُ لتنظيمِ غرائزِ الإنسانِ وحاجاتِهِ العضويةِ عُرْضَةٌ لِلْتَفَاوُتِ والاخْتِلافِ والتَنَاقُضِ والتَأَثُّرِ بالبيئةِ الَّتي يعيشُ فيها، فإذا تُرِكَ ذلكَ لَهُ كانَ النظامُ عُرْضَةً لِلْتَفَاوُتِ والاخْتِلافِ والتَنَاقُضِ وأَدَّى إلى شَقَاءِ الإنسانِ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ النظامُ منَ اللهِ تعالى.

وأمَّا ثبوتُ كونِ القرآنِ منْ عِنْدِ اللهِ، فَهُوَ أنَّ القرآنَ كتابٌ عَرَبِيٌّ جاءَ بِهِ محمَّدٌ عليهِ الصلاةُ والسلامُ. فهوَ إمَّا أنْ يكونَ منَ العَرَبِ وإمَّا أنْ يكونَ منْ محمَّدٍ، وإمَّا أنْ يكونَ منَ اللهِ تعالى. ولا يمكنُ أنْ يكونَ منْ غيِر واحدٍ منْ هَؤلاءِ الثلاثَةِ، لأنَّه عربيُّ اللُّغةِ والأسلوبِ.

أمَّا أنَّهُ منَ العربِ فَباطلٌ لأنَّهُ تَحَدَّاهُم أنْ يَأْتوا بمثلِهِ } قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ{ ، } قُلْ فَأْتُوا بِسورةٍ مِثْلِهِ{ وقدْ حاولوا أنْ يَأْتُوا بمثلِهِ وعَجِزُوا عنْ ذلكَ. فهوَ إذنْ ليسَ منْ كلامِهِمْ، لِعَجْزِهِمْ عنِ الإتْيانِ بمثلِهِ معْ تحدِّيهِ لَهُمْ ومُحَاوَلَتِهِمُ الإتيانَ بمثلِهِ. وأمَّا أَنَّهُ منْ محمَّدٍ فباطلٌ، لأنَّ محمَّداً عربيٌ منَ العربِ، ومَهْمَا سَمَا العبقرِيُّ فهوَ مِنَ البَشَرِ وواحدٌ مِنْ مُجْتَمَعِهِ وأُمَّتِهِ، ومَا دامَ العربُ لمْ يَأْتُوا بمثلِهِ فَيَصْدُقَ على محمَّدٍ العربيِّ أنَّهُ لا يأتي بمثلِهِ فهوَ ليسَ مِنْهُ، عِلاوةً أنَّ لمحمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ أحاديثَ صحيحةٍ وأُخْرى رُوِيَتْ عنْ طَريقِ التواتُرِ الذي يستحيلُ مَعَهُ إلا الصِدْقُ، وإذا قورِنَ أيُّ حديثٍ بأيِّ آيةٍ لا يوجدُ بَيْنَهُمَا أَيُّ تَشَابُهٍ في الأسلوبِ وكانَ يَتْلُو الآيةَ المنزَّلَةَ ويقولُ الحديثَ في وقتٍ واحدٍ، وبينَهُما اخْتلافٌ في الأسلوبِ، وكلامُ الرجلِ مهما حاولَ أنْ يُنَوِّعَهُ فإِنَّهُ يتشابَهُ في الأسلوبِ لأنَّهُ جزءٌ منهُ. وبما أنَّهُ لا يوجدُ أي تشابُهٌ بينَ الحديثِ والآيةِ في الأسلوبِ فلا يكونَ القرآنُ كلامَ محمَّدٍ مُطْلَقَاً، لِلاختلافِ الواضحِ الصريحِ بَيْنَهُ وبينَ كلامِ محمَّدٍ. على أَنَّ العربَ وهُمْ أعلَمُ الناسِ بأَساليبِ الكلامِ العربيِّ لمْ يَدَّعِ أحَدٌ منهُمْ أنَّهُ كلامُ محمَّدٍ أوْ أَنَّهُ يُشبِهُ كلامَهُ، وكلُّ مَا ادَّعُوهُ أنَّهُ يَأتِي بهِ منْ غُلامٍ نَصْرَانِيٍ اسمُهُ (جَبْر) ولذلكَ رَدَّ عَليهِمُ اللهُ تعالى فقالَ } ولقدْ نَعْلَمُ أنَّهُمْ يَقُولونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌ مُبِينٌ{.

وبِمَا أنَّهُ ثبَتَ أنَّ القرآنَ ليسَ كلامَ العربِ، ولا كلامَ محمَّدٍ، فيكونَ كلامَ اللهِ قطعاً، ويكونَ معجزةً لمن أتَى بِهِ. وبما أَنَّ محمَّداً هوَ الذي أَتى بالقرآنِ، وهوَ كلامُ اللهِ وشَرِيعَتُهُ، ولا يأْتي بشريعةِ اللهِ إلاَّ الأنبياءُ والرسلُ، فيكونَ محمَّدٌ نَبِياً ورسولاً قطعاً بالدليلِ العقليِّ. هذا دليلٌ عقليٌّ على الإيمانِ باللهِ وبرسالةِ محمَّدٍ وبأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ.

وعلى ذلكَ كانَ الإيمانُ باللهِ آتِياً عنْ طريقِ العقلِ، ولا بُدَّ أنْ يكونَ هذا الإيمانُ عنْ طريقِ العقلِ. فكانَ بذلكَ الرَّكيزةَ الَّتي يقومُ عليْهَا الإيمانُ بالمغيباتِ كُلِّهَا وبِكُلِّ ما أَخْبَرَنَا اللهُ بهِ. لأنَّنَا ما دُمْنَا قَدْ آمَنَّا بهِ تعالى وهوَ يَتَّصِفُ بصِفاتِ الألوهيَّةِ يجبُ حتماً أنْ نؤمنَ بكلِّ ما أخبرَ بهِ سواءٌ أدركَهُ العقلُ أو كان من وراءِ العقلِ، لأنَّهُ أخبرَنَا بهِ اللهُ تعالى. ومِنْ هُنا يجبُ الإيمانُ بالبعثِ والنُشورِ والجَنَّةِ والنارِ والحِسابِ والعَذابِ، وبالملائِكَةِ والجِنِّ والشياطينِ وغيرِ ذلك، ممَّا جاءَ بالقرآنِ الكريمِ أو بحَديثٍ قطعيٍ. وهذا الإيمانُ وإنْ كانََ عَنْ طريقِ النقلِ والسمعِ لَكِنَّهُ في أصلهِ إيمانٌ عقليٌ، لأنَّ أصلَهُ ثَبَتَ بالعقلِ. وَلِذَلكَ كانَ لا بُدَّ أن تكونَ العقيدةُ للمسلمِ مُستَنِدَةً إلى العقلِ أو إلى ما ثَبَتَ أَصْلُهُ عنْ طريقِ العقلِ. فالمسلمُ يجبُ أَنْ يعتقدَ ما ثبتَ لَهُ عنْ طريقِ العقلِ أو طريقِ السمعِ اليقينِّي المقطوعِ بِهِ، أي ما ثبتَ بالقرآنِ الكريمِ والحديثِ القطعيِّ وهوَ المتواتِرُ، وما لم يثبُتْ عنْ هاتيْنِ الطريقيْنِ : العقلِ ونصِّ الكتابِ والسُنَّةِ القطعيَّةِ، يَحْرُمْ عليهِ أنْ يعتقدَهُ،لأنَّ العقائدَ لاتؤخذُ إِلا عن يقينٍ.

وعلى ذلك وجبَ الإيمانُ بما قبلَ الحياةِ الدنيا وهو اللهُ تعالى، وبما بعدَها وهو يومُ القيامةِ. وبما أنَّ أوامرَ اللهِ هي صِلةُ مَا قبلَ الحياةِ بالحياةِ بالإضافةِ إلى صِلَةِ الخلْقِ، وأنَّ المحاسبةَ عمَّا عمِلَ الإنسانُ في الحياةِ صلةُ مَا بعدَ الحياةِ بالحياةِ بالإضافةِ إلى صلةِ البعثِ والنشورِ، فإنه لابدَّ أنْ تكونَ لهذِهِ الحياةُ صلةٌ بما قبلَها وما بعدَها، وأنْ تكونَ أحوالُ الإنسانِ فيها مقيَّدةٌ بهذهِ الصلةِ،فالإنسانُ إذن يجبُ أنْ يكونَ سائراً في الحياةِ وِفْقَ أنظمةِ اللهِ، وأنْ يعتقدَ أنَّهُ يحاسِبُهُ يومَ القيامةِ على أعمالِهِ في الحياةِ الدنيا.

وبهذا يكونُ قدْ وُجدَ الفكرُ المستنيرُ عَمَّا وراءَ الكونِ والحياةِ والإنسانِ، ووُجِدَ الفكرُ المستنيرُ أيضاً عمَّا قبلَ الحياةِ وعمَّا بعدَهَا، وأنَّ لها صلةً بما قبلَها وما بعدَهَا. وبهذا تكونُ العقدةُ الكبرى قد حُلَّتْ جميعُها بالعقيدةِ الإسلاميَّةِ.

و متى انتهى الإنسانُ منْ هذا الحلِّ أمكنَهُ أَنْ ينتقِلَ إلى الفكرِ عن الحياةِ الدنيا، وإلى إيجادِ المفاهيمِ الصادقةِ المُنتِجةِ عنها. وكان هذا الحَلُّ نفسَهُ هو الأساسَ الذي يقومُ عليهِ المبدأُ الذي يُتَّخَذُ طريقةً للنُهوضِ، وهو الأساسُ الذي تقومُ عليه حضارةُ هذا المبدأِ، وهو الأساسُ الذي تنبثِقُ عنهُ أنظمتُهُ، وهو الأساسُ الذي تقومُ عليهِ دولتُهُ. ومِنْ هنا كانَ الأساسُ الذي يقومُ عليه الإسلامُ ـ فكرةً وطريقةً ـ هو العقيدةَ الإسلاميَّةَ.

} يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا آمِنُوا باللهِ وَرسُولِهِ والكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ومَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً {.

أمَا وقدْ ثبَتَ هذا وكانَ الإيمانُ بِهِ أَمْرَاً محتوماً كانَ لِزاماً أنْ يُؤْمِنَ كُلُّ مسلمٍ بالشريعةِ الإسلاميَّةِ كُلِّهَا، لأَنَّهَا جاءتْ في القرآنِ الكريمِ، وجاءَ بِهَا الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وإلا كانَ كافراً ولذلكَ كانَ إنكارُ الأحكامِ الشرعيَّةِ بجُمْلَتِهَا، أو القطعيَّةِ منها بتفصيلِها، كفراً، سواءٌ أكانتْ هذه الأحكامُ مُتَّصِلةً بالعباداتِ أَو المعاملاتِ أو العقوباتِ أو المطعوماتِ، فالكفرُ بآيةِ }وأَقِيمُوا الصلاةَ { كالكفرِ بآيةِ } وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِبَا { وكالكفرِ بآيةِ } والسَارِقُ والسَارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا {، وكالكفرِ بآيةِ }حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتَةُ والدَمُ ولحْمُ الخَنْزيرِ ومَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ { الآية. ولا يتوقَّفُ الإيمانُ بالشريعةِ على العقلِ، بلْ لا بدَّ مِنَ التسليمِ المُطلقِ بكلِّ ما جاءَ مِنْ عندِ اللهِ تعالى }فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً {.

منقول : نظام الاسلام - صوت الأمةhttp://www.sawtalummah.com/sawtalummah2/bk1_nidham_al_islam.htm