شريف المنشاوى
08-28-2006, 06:46 PM
الولاء والبراء بين الغلو والجفاء في ضوء الكتاب والسنة
إعداد
د . حاتم بن عارف بن ناصر الشريف
كلية الدعوة - جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وعلى تابعيهم إلى يوم الدين .
أما بعد : فإن أمّتنا تعيش مرحلةً جديدة في تاريخها ، وتقف على مفترق طرق ، وتحتاج إلى تعاون علمائها ومفكّريها وأصحابِ القرار فيها ، ليقوموا بتصحيح أخطاء ماضيها ، وإصلاح حاضرها ، وإضاءة مستقبلها .
وفي هذه المرحلة الحرجة تقع أمّتُنا وعقائدُها تحت ضغوط رهيبة ، تكاد تجتثّها من أساسها ، لولا قوّةُ دينها وتأييدُ ربّها عز وجل .
ومن هذه العقائد التي وُجّهت إليها سهامُ الأعداء ، وانجرَّ وراءهم بعضُ البُسطاء ، واندفع خلفهم غُلاةٌ وجُفاة : عقيدةُ الولاء والبراء .
وزاد الأمر خطورةً ، عندما غلا بعضُ المسلمين في هذا المعتقد إفراطاً أو تفريطاً . وأصبح هذا المعتقدُ مَحَلَّ اتّهام ، وأُلْصِقَتْ به كثيرٌ من الفظائع والاعتداءات .
ولا أحسب أنّ تلك الاتهامات والسهامِ الجائرة كانت كلُّها بسبب تلك الفظائع والاعتداءات ، ولا أظن أن أسباب هذه المعاداة كُلَّها لجهل المُعَادِين بحقيقة (الولاء والبراء) في الإسلام . ولكنهم علموا مكانة هذا المعتقد من الإسلام ، وأنه حصنُ الإسلام الذي يحميه من الاجتياح ، وعِزّةُ المسلمين التي تقيهم من الذوبان في المجتمعات الأخرى بدينها وتقاليدها المخالفة لدين الله تعالى . فوجدوا الفرصة الآن سانحةً للانقضاض على هذا المعتقد ، ومحاولةِ إلغائه من حياة المسلمين وكيانهم .
إننا أمام هجمةٍ تغزونا في الصميم ، وتعرف ما هو المَقْتَلُ منّا . فواجبٌ علينا أن نقدِّرَ الموقفَ قَدْرَه ، وأنْ نعرف أنّ اليومَ يومٌ له ما وراءه ، وأننا نواجه حَرْبَ استئصالٍ حقيقيّة .
ولهذا فقد جاء البحث في بيان حقيقة معتقد (الولاء والبراء) ، ومكانتِه في دين الله ، وعدم معارضته للسماحة والرحمة والوسطيّة التي انفرد بها الإسلام ، وأن هذا المعتقد بريءٌ من غُلوّ الإفراط والتفريط . ولذلك فقد تناولتُ هذا الموضوع في خمسة مباحث:
الأول : حقيقة الولاء والبراء .
الثاني : أدلة الولاء والبراء .
الثالث : علاقته بأصل الإيمان .
الرابع : توافقُه مع سماحة الإسلام .
الخامس : مظاهرُ الغلوّ فيه وبراءتُه منها .
ثم ختمتُ البحث بأهم النتائج والتوصيات .
وقد حرصتُ في كل ما أذكره أن أستدلّ له بالأدلّة الصحيحة من الكتاب وثابت السنّة ، وأن أنقل أقوال أهل العلم في فهم هذه النصوص من أصحابِ المدارس المختلفة ، حتى لا يُتّهم أصحابُ مدرسةٍ أو معتقدٍ ما أنّهم أصحابُ رأيٍ خاصٍّ بهم حول (الولاء والبراء) . مع أنه لا يخفى على أهل العلم أن (الولاء والبراء) محطّ إجماع بين جميع أهل القبلة ، بل هو معتقدٌ لا يخلو منه أتباعُ دين أو مذهب .
وأرجو أن أكون بهذا الطرح قد حقّقتُ شيئاً في سبيل الدفاع عن أُمّتي وعن دينها ووُجودها .
والله أسأل أن يُحسن المقاصد ، وأن يتقبّلَ أعمالنا ويُضاعفَ لنا أجرها ، وأن يرينا ثمارها الطيّبة في الدنيا والآخرة .
والحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتّقى حدَّه .
المبحث الأول حقيقةُ الولاء والبراء تعريف الولاء والبراء في اللغة :
الوَلْيُ في اللغة هو القُرْب (1) ، هذا هو الأصل الذي ترجعُ إليه بقية المعاني المشتقّة من هذا الأصل .
وأما بَرِئ ، فبمعنى : تَنَزَّهَ وتباعَدَ (2) ، فالتباعُدُ من الشيء ومزايلتُه هو أحدُ أَصْلَيْ معنى هذه الكلمة (3) ، والأصل الثاني هو : الخَلْقُ ، ومنه اسمه تعالى (البارئ) (4) . ومن الأصل الأول (وهو التباعُدُ من الشيء ومُزَايلته) : البُرْءُ هو السلامة من المرض ، والبراءةُ من العيب والمكروه (5) .
والبَرَاءُ : مصدر بَرِئتُ (6) ، ولأنه مصدر فلا يُجمع ولا يُثَنَّى ولا يؤنّث ، فتقول : رجُلٌ بَرَاء ، ورجلان بَرَاء ، ورجالٌ بَرَاء ، وامرأةُ بَرَاء (7) . أمّا إذا قُلتَ: بريءٌ ، تجمع ، وتثني ، وتؤنث ، فتقول للجمع : بريؤون وبِراء (بكسر الباء) ، وللمثنى بريئان ، وللمؤنث بريئة وبريئات (8) .
هذا هو معنى الوَلاء والبراء في اللغة .
تعريف الولاء والبراء في الاصطلاح :
النظر في أدّلة الكتاب والسنّة وُجد أن معتقد الولاء والبراء يرجع إلى معنيين اثنين بالتحديد ، هما : الحُبُّ والنُّصْرةُ في الولاء ، وضِدُّهما في البراء . ولا يخفى أن هذِين المعنيين من معانيهما في اللغة ، كما سبق بيانه .
وعلى هذا فالولاء شرعاً ، هو : حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين ، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين .
والبراء هو : بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى (من الأصنام الماديّة والمعنويّة : كالأهواء والآراء) ، وبُغْضُ الكفر (بجميع ملله) وأتباعِه الكافرين ، ومعاداة ذلك كُلِّه .
وبذلك نعلم ، أننا عندما نقول : إن ركني الولاء والبراء هما : الحب والنصرة في الولاء ، والبغض والعداوة في البراء ، فنحن نعني بالنصرة وبالعداوة هنا النصرة القلبيّةَ والعداوةَ القلبيّة ، أي تمنِّي انتصار الإسلام وأهله وتمنِّي اندحار الكفر وأهله . أمّا النصرة العملية والعداوة العمليّة فهما ثمرةٌ لذلك المعتقد ، لا بُدّ من ظهورها على الجوارح ، كما سبق .
أدلّته من الكتاب العزيز
يقول الله تعالى في الولاء : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }{ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة 055-056] .
وقال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة 071] . قال ابن جرير : (( وأمّا المؤمنون والمؤمنات ، وهم المصدّقون بالله ورسوله وآيات كتابه ، فإن صفتهم أن بعضهم أنصارُ بعض وأعوانهم )) (1) .
وأما البراء ، فقال تعالى : { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران 028] . قال ابن جرير في تفسيرها (( ومعنى ذلك : لا تتخذوا أيها المؤمنون الكُفّارَ ظَهْراً وأنصاراً ، توالونهم على دينهم (1) ، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، وتَدُلّونهم على عوراتهم ، فإنه من يفعل ذلك { فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } يعني بذلك : فقد برئ من الله ، وبرئ اللهُ منه ، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر . { إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافونهم على أنفسكم ، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم ، وتُضمروا لهم العداوة ، ولا تُشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ، ولا تعينوهم على مسلم بفعل )) (2) .
والنصوص في ذلك كثيرة ، وسيأتي غيرها في المبحث الآتي :
أدلّته من السنة
أمّا في الولاء ، فيقول صلى الله عليه وسلم : « مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم مَثَلُ الجسد ، إذا اشتكى منه عضو ، تَدَاعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى » (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بَعْضُه بعضاً » (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « المسلم أخو المسلم : لا يظلمه ، ولا يُسْلِمُه . » (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ، لا تدخلون الجنّةَ حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا ، أولا أدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلامَ بينكم » (4) .
وأمّا في البراء ، فيقول صلى الله عليه وسلم ، « في حديث جرير بن عبد الله البجلي ، عندما جاء ليبايعه على الإسلام ، فقال جريرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، اشْترطْ عليَّ ، فقال صلى الله عليه وسلم : ((أُبَايِعُك على أن تعبد الله ولا تُشْرِكَ به شيئاً ، وتُقيمَ الصلاة ، وتؤتيَ الزكاة ، وتنصحَ المسلم ، وتفارقَ المشرك [ وفي رواية : وتبرأ من الكافر])) » (5) .
الاستدلال للولاء والبراء بالإجماع
لا شك أنّ أمراً هذا هو ظهوره في أدلّة الكتاب والسنّة ، اجتمع فيه أن يكون حُكماً مقطوعاً به ، لكونه قطعيَّ الثبوت والدِّلالة ، مع تضافر الأدلّة وتواردها عليه أنه سيكون من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة . ولذلك فإننا لا نحتاج في مثله إلى نصٍّ من عالم على الإجماع فيه ، بل يكفي أن نستحضر أدلّته وحقيقته وعلاقتَه بأصل الإيمان ، لنوقن أن الولاء والبراءَ محلُّ إجماعٍ حقيقيٍّ بين الأُمّة .
ومع ذلك فقد نُقِل الإجماعُ في ذلك :
فقد قال ابن حَزْم (ت456ه) في (المُحَلّى) : (( وصَحَّ أن قول الله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ( إنما هو ظاهره ، بأنه كافر من جملة الكفار فقط ، وهذا حقٌّ ، لا يختلف فيه اثنان من المسلمين )) (1) .
وأنَّى نشك في صحّة هذا الإجماع ، وفي أمّ القرآن : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة 006-007] ، وقد أجمع المفسرون أن : المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالين هم النصارى (2) .
يتبع
إعداد
د . حاتم بن عارف بن ناصر الشريف
كلية الدعوة - جامعة أم القرى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وعلى تابعيهم إلى يوم الدين .
أما بعد : فإن أمّتنا تعيش مرحلةً جديدة في تاريخها ، وتقف على مفترق طرق ، وتحتاج إلى تعاون علمائها ومفكّريها وأصحابِ القرار فيها ، ليقوموا بتصحيح أخطاء ماضيها ، وإصلاح حاضرها ، وإضاءة مستقبلها .
وفي هذه المرحلة الحرجة تقع أمّتُنا وعقائدُها تحت ضغوط رهيبة ، تكاد تجتثّها من أساسها ، لولا قوّةُ دينها وتأييدُ ربّها عز وجل .
ومن هذه العقائد التي وُجّهت إليها سهامُ الأعداء ، وانجرَّ وراءهم بعضُ البُسطاء ، واندفع خلفهم غُلاةٌ وجُفاة : عقيدةُ الولاء والبراء .
وزاد الأمر خطورةً ، عندما غلا بعضُ المسلمين في هذا المعتقد إفراطاً أو تفريطاً . وأصبح هذا المعتقدُ مَحَلَّ اتّهام ، وأُلْصِقَتْ به كثيرٌ من الفظائع والاعتداءات .
ولا أحسب أنّ تلك الاتهامات والسهامِ الجائرة كانت كلُّها بسبب تلك الفظائع والاعتداءات ، ولا أظن أن أسباب هذه المعاداة كُلَّها لجهل المُعَادِين بحقيقة (الولاء والبراء) في الإسلام . ولكنهم علموا مكانة هذا المعتقد من الإسلام ، وأنه حصنُ الإسلام الذي يحميه من الاجتياح ، وعِزّةُ المسلمين التي تقيهم من الذوبان في المجتمعات الأخرى بدينها وتقاليدها المخالفة لدين الله تعالى . فوجدوا الفرصة الآن سانحةً للانقضاض على هذا المعتقد ، ومحاولةِ إلغائه من حياة المسلمين وكيانهم .
إننا أمام هجمةٍ تغزونا في الصميم ، وتعرف ما هو المَقْتَلُ منّا . فواجبٌ علينا أن نقدِّرَ الموقفَ قَدْرَه ، وأنْ نعرف أنّ اليومَ يومٌ له ما وراءه ، وأننا نواجه حَرْبَ استئصالٍ حقيقيّة .
ولهذا فقد جاء البحث في بيان حقيقة معتقد (الولاء والبراء) ، ومكانتِه في دين الله ، وعدم معارضته للسماحة والرحمة والوسطيّة التي انفرد بها الإسلام ، وأن هذا المعتقد بريءٌ من غُلوّ الإفراط والتفريط . ولذلك فقد تناولتُ هذا الموضوع في خمسة مباحث:
الأول : حقيقة الولاء والبراء .
الثاني : أدلة الولاء والبراء .
الثالث : علاقته بأصل الإيمان .
الرابع : توافقُه مع سماحة الإسلام .
الخامس : مظاهرُ الغلوّ فيه وبراءتُه منها .
ثم ختمتُ البحث بأهم النتائج والتوصيات .
وقد حرصتُ في كل ما أذكره أن أستدلّ له بالأدلّة الصحيحة من الكتاب وثابت السنّة ، وأن أنقل أقوال أهل العلم في فهم هذه النصوص من أصحابِ المدارس المختلفة ، حتى لا يُتّهم أصحابُ مدرسةٍ أو معتقدٍ ما أنّهم أصحابُ رأيٍ خاصٍّ بهم حول (الولاء والبراء) . مع أنه لا يخفى على أهل العلم أن (الولاء والبراء) محطّ إجماع بين جميع أهل القبلة ، بل هو معتقدٌ لا يخلو منه أتباعُ دين أو مذهب .
وأرجو أن أكون بهذا الطرح قد حقّقتُ شيئاً في سبيل الدفاع عن أُمّتي وعن دينها ووُجودها .
والله أسأل أن يُحسن المقاصد ، وأن يتقبّلَ أعمالنا ويُضاعفَ لنا أجرها ، وأن يرينا ثمارها الطيّبة في الدنيا والآخرة .
والحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتّقى حدَّه .
المبحث الأول حقيقةُ الولاء والبراء تعريف الولاء والبراء في اللغة :
الوَلْيُ في اللغة هو القُرْب (1) ، هذا هو الأصل الذي ترجعُ إليه بقية المعاني المشتقّة من هذا الأصل .
وأما بَرِئ ، فبمعنى : تَنَزَّهَ وتباعَدَ (2) ، فالتباعُدُ من الشيء ومزايلتُه هو أحدُ أَصْلَيْ معنى هذه الكلمة (3) ، والأصل الثاني هو : الخَلْقُ ، ومنه اسمه تعالى (البارئ) (4) . ومن الأصل الأول (وهو التباعُدُ من الشيء ومُزَايلته) : البُرْءُ هو السلامة من المرض ، والبراءةُ من العيب والمكروه (5) .
والبَرَاءُ : مصدر بَرِئتُ (6) ، ولأنه مصدر فلا يُجمع ولا يُثَنَّى ولا يؤنّث ، فتقول : رجُلٌ بَرَاء ، ورجلان بَرَاء ، ورجالٌ بَرَاء ، وامرأةُ بَرَاء (7) . أمّا إذا قُلتَ: بريءٌ ، تجمع ، وتثني ، وتؤنث ، فتقول للجمع : بريؤون وبِراء (بكسر الباء) ، وللمثنى بريئان ، وللمؤنث بريئة وبريئات (8) .
هذا هو معنى الوَلاء والبراء في اللغة .
تعريف الولاء والبراء في الاصطلاح :
النظر في أدّلة الكتاب والسنّة وُجد أن معتقد الولاء والبراء يرجع إلى معنيين اثنين بالتحديد ، هما : الحُبُّ والنُّصْرةُ في الولاء ، وضِدُّهما في البراء . ولا يخفى أن هذِين المعنيين من معانيهما في اللغة ، كما سبق بيانه .
وعلى هذا فالولاء شرعاً ، هو : حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين ، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين .
والبراء هو : بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى (من الأصنام الماديّة والمعنويّة : كالأهواء والآراء) ، وبُغْضُ الكفر (بجميع ملله) وأتباعِه الكافرين ، ومعاداة ذلك كُلِّه .
وبذلك نعلم ، أننا عندما نقول : إن ركني الولاء والبراء هما : الحب والنصرة في الولاء ، والبغض والعداوة في البراء ، فنحن نعني بالنصرة وبالعداوة هنا النصرة القلبيّةَ والعداوةَ القلبيّة ، أي تمنِّي انتصار الإسلام وأهله وتمنِّي اندحار الكفر وأهله . أمّا النصرة العملية والعداوة العمليّة فهما ثمرةٌ لذلك المعتقد ، لا بُدّ من ظهورها على الجوارح ، كما سبق .
أدلّته من الكتاب العزيز
يقول الله تعالى في الولاء : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }{ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة 055-056] .
وقال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة 071] . قال ابن جرير : (( وأمّا المؤمنون والمؤمنات ، وهم المصدّقون بالله ورسوله وآيات كتابه ، فإن صفتهم أن بعضهم أنصارُ بعض وأعوانهم )) (1) .
وأما البراء ، فقال تعالى : { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران 028] . قال ابن جرير في تفسيرها (( ومعنى ذلك : لا تتخذوا أيها المؤمنون الكُفّارَ ظَهْراً وأنصاراً ، توالونهم على دينهم (1) ، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، وتَدُلّونهم على عوراتهم ، فإنه من يفعل ذلك { فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } يعني بذلك : فقد برئ من الله ، وبرئ اللهُ منه ، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر . { إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافونهم على أنفسكم ، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم ، وتُضمروا لهم العداوة ، ولا تُشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ، ولا تعينوهم على مسلم بفعل )) (2) .
والنصوص في ذلك كثيرة ، وسيأتي غيرها في المبحث الآتي :
أدلّته من السنة
أمّا في الولاء ، فيقول صلى الله عليه وسلم : « مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم مَثَلُ الجسد ، إذا اشتكى منه عضو ، تَدَاعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى » (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بَعْضُه بعضاً » (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « المسلم أخو المسلم : لا يظلمه ، ولا يُسْلِمُه . » (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ، لا تدخلون الجنّةَ حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا ، أولا أدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلامَ بينكم » (4) .
وأمّا في البراء ، فيقول صلى الله عليه وسلم ، « في حديث جرير بن عبد الله البجلي ، عندما جاء ليبايعه على الإسلام ، فقال جريرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، اشْترطْ عليَّ ، فقال صلى الله عليه وسلم : ((أُبَايِعُك على أن تعبد الله ولا تُشْرِكَ به شيئاً ، وتُقيمَ الصلاة ، وتؤتيَ الزكاة ، وتنصحَ المسلم ، وتفارقَ المشرك [ وفي رواية : وتبرأ من الكافر])) » (5) .
الاستدلال للولاء والبراء بالإجماع
لا شك أنّ أمراً هذا هو ظهوره في أدلّة الكتاب والسنّة ، اجتمع فيه أن يكون حُكماً مقطوعاً به ، لكونه قطعيَّ الثبوت والدِّلالة ، مع تضافر الأدلّة وتواردها عليه أنه سيكون من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة . ولذلك فإننا لا نحتاج في مثله إلى نصٍّ من عالم على الإجماع فيه ، بل يكفي أن نستحضر أدلّته وحقيقته وعلاقتَه بأصل الإيمان ، لنوقن أن الولاء والبراءَ محلُّ إجماعٍ حقيقيٍّ بين الأُمّة .
ومع ذلك فقد نُقِل الإجماعُ في ذلك :
فقد قال ابن حَزْم (ت456ه) في (المُحَلّى) : (( وصَحَّ أن قول الله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ( إنما هو ظاهره ، بأنه كافر من جملة الكفار فقط ، وهذا حقٌّ ، لا يختلف فيه اثنان من المسلمين )) (1) .
وأنَّى نشك في صحّة هذا الإجماع ، وفي أمّ القرآن : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة 006-007] ، وقد أجمع المفسرون أن : المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالين هم النصارى (2) .
يتبع