أبو عبد الله محمد
03-24-2020, 11:43 PM
جعلتها جامعة للردود ، و الجواب علي تلك الشبهة من وجوه عدة :
- وهذا من تمام عدل الله تعالى، حيث لم يسو بين المسلم المقر بالتوحيد والنبوات و الذي ممكن أن تقع منه المعاصي وبين الكافر المنكر لاستحقاق ربه الخالق العبودية والمنكر لرسالات رسله ، [1]
-كمال علم الله بالنسبة للمخلوقين : أخي الفاضل، إعلم وفقك الله أن أصل هذه الشبهة باطل من جهة تطلع صاحبها لقياس ما لا يملك له قياسا، وتجاوز مقداره المعرفي بالحكم على ما لا يملك فيه نظرا ولا تقديرا. فمن بابتها اعتراض بعضهم - مثلا - على رجم الزاني في الإسلام وقطع يد السارق ونحوها من الحدود الجنائية. فنحن نقول إن تقدير مقادير العقوبات للجرائم مرده إلى صفة العلم والحكمة لدى الشارع، وليس لمن هو دون ذلك الشارع في العلم أن يعترض على ذلك التقدير عنده، لأنه يشهد على نفسه بأنه دونه في العلم والحكمة! الله جل وعلا هو الغاية وهو صاحب الكمال التام في هاتين الصفتين، سبحانه وتعالى، فمن ذا الذي يملك من مقاييس المعرفة ما يعترض به على عقوبة من عقوباته سبحانه فيقول إنها أشد مما ينبغي أو إنها أخف مما ينبغي؟ من الذي يملك أن يعين مقدار الجريمة ومن ثمّ ما يناسبها من العقوبة، وعلى أي أساس يقوم ذلك التقدير لديه؟
هب أن الجريمة (س) نحن نتفق على أنها أشنع وأشد فسادا في الأرض من الجريمة ( ص). الآن افترض معي أن هاتين الجريمتين هما كل ما يمكن أن يقع من الجرائم من جنس من المخلوقات في حق خالقها في عالم من العوالم الممكنة عقلا، وأن الخالق قد اختار أن يشرع عقوبة لهما (في الدنيا أو في الآخرة). أنت كمخلوق غايتك أن ترى أن إحدى هاتين الجريمتين أشد من الأخرى في حق الخالق (وفي بعض الأحيان لا يمكنك ذلك لخفاء حكمة التشريع نفسه عنك)، ولكن من الذي يملك أن يعين مقدار العقوبة الملائم لها إن وقعت ممن تلبس بها وتحققت فيه شروط استحقاق العقوبة (التي هي العلم بوجود التشريع المانع من الفعل وعدم الإكراه عليه وغير ذلك)؟ من من المخلوقات يملك أن يقول إن (س) عقوبتها تكون التعذيب لشهر، بينما ( ص) تكون عقوبتها نصف ذلك أو دونه؟ العقوبة أمر مكروه للنفس أصلا، فلا ينبغي أن يكون تقديرها إلا من الأحكم والأعلم. لذا فإن الخالق سبحانه يجب بالعقل المجرد أن يُرفع تشريعه في ذلك التقدير (كما في غيره من أبواب التشريع) إن جاءنا على الأنبياء والمرسلين فوق تشريعات المخلوقين، ولا يعترض عليه ولا يسأل في ذلك سبحانه. ونحن نعلم أن بني إسرائيل قد خُففت لهم العقوبات في تشريع عيسى عليه السلام، وأنهم قد عاقبهم الله تعالى على أفعال لم يعاقبنا على كثير منها أصلا. فهو لا شريك له في حقه في التشريع لمخلوقاته، ولا في حقه في تقدير العقوبات لمن يقع في مخالفة ذلك التشريع وتتحقق فيه شروط العقوبة وتنتفي عنه موانعها.
فإذا فرغنا من هذا، فلا شك أن الجريمة الأكبر والأعظم في مقدارها، تكون لها العقوبة الأشد والأثقل، والجريمة الأخف تكون دونها في مقدار العقوبة، وهذا المبدأ في تناسب العقوبات مع الجرائم صحيح عقلا لا يماري فيه إلا سفساط. لذا ففي جميع الأحوال فإن قاعدة أن العقوبة الأشد تكون للجريمة الأشد، لا تتغير من تشريع إلى تشريع لأن العقل يقتضيها.[4]
- الوجه العقلي :فالآن إن قلنا لك إن الجريمة (س) هي أشنع الجرائم الممكنة عقلا من مخلوق من المخلوقات على الإطلاق، فإنه يلزم إذن أن تكون لها أشنع العقوبات الممكنة عقلا لمخلوق من المخلوقات على الإطلاق، أليس كذلك؟
فكيف يكون تقديرك لتلك العقوبة؟ لو قلتَ إنه التعذيب لمئة سنة، فإن العقل يتصور ما هو أشد من ذلك! ولو قلت ألف سنة فثمة ما هو أشد، وهكذا.. فلزم أن يكون أشد العقوبات على الإطلاق = الخلود في العذاب أبدا!
وقد اقتضت حكمة الله وعلمه أنه ما من جريمة أشد وأشنع عنده في حقه من أن يخلق مخلوقا ثم يرسل إليه الرسل بالبشارة بعاقبة التسليم والخضوع، والنذارة من عاقبة العصيان والإباء، ومع ذلك يصر ذلك المخلوق على إهانة خالقه وجحده حقه في طاعته والخضوع له ذلك الخضوع الذي شهد العقل بوجوبه لذلك الخالق. هذه هي أشد الجرائم عنده سبحانه وليس لأحد من المخلوقات أن يجادله في ذلك! ليس لأحد من المخلوقات أن يقول - مثلا - إن قتل مخلوق ما لمئات أو آلاف من المخلوقات مثله أو إفساد الأرض عليهم أو نحو ذلك، هو الجريمة الأشنع على الإطلاق التي كان حقها أن تكون لها أشد العقوبات على الإطلاق عند الخالق، أو يقول إنها أشنع من جريمة الشرك أو الموت على الكفر! لا يمكن لمخلوق يعقل أن يدعي أن ثمة جريمة فيما يمكن تصوره من أفعال المخلوقين، أشنع أو أعظم من سب ذلك المخلوق وإهانته لخالقه جل وعلا! فحسبك أن تقول إن أبشع الجرائم الممكنة عقلا من فعل المخلوقين (كجنس) تستحق أبشع العقوبات الممكنة عقلا لهم (كجنس)! وعليه فلو أمكن في العقل تصور عقوبة أشد من هذه للمخلوق، لاستحقتها - عند الله تعالى - تلك الجريمة لا محالة![4]
- قيام الحجة علي الكافر قبل العذاب : وحتى الكافر ما جعل عقوبته على الكفر الخلود في النار إلاّ بشرط أن تكون الحجة الرسالية قد بلغته بلوغاً تقوم به على مثله الحجة، ثم هو بعد ذلك كافر في حكم الدنيا، وأمره إلى الله في الآخرة، ولهذا كان من نصوص الاعتقاد قولهم: "لا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلاّ من شهد له الله ورسوله".[5]
- الأمر سهل !: دعاه إلى أمر سهل يسير جدا، وهو ألا يشرك به شيئا، فأبى إلا أن يشرك به شيئا. دعاه أن يؤمن به وبرسوله ، فأبى إلا الكفر والعناد ، فاستحق هذا العذاب الأليم الذي لم يكن غافلا عنه، فقد جاءه النذير من ربه أنه إن لم تؤمن فمصيرك هو العذاب الأليم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
وفي المقابل، لو أن رجلا عرض عليه الإيمان ، فآمن، ثم مات من فوره ، كان من أهل الجنة مخلدا فيها أبدا، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) النساء/ .122
ولا يقال: كيف يخلد في الجنة وهو لم يعبد الله إلا لحظة أو لحظات أو خمسين أو ثمانين سنة!
روى أحمد (12289) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ قَالَ فَيَقُولُ نَعَمْ قَالَ فَيَقُولُ قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي) وصححه شعيب في تحقيق المسند.[6]
- وفائدة ذِكر خُلود الكفار في النَّار كفُّهم عَن الكفر : والفسادِ والعناد، والشقاقِ والنفاق[15]، ولو استحضر الكافرُ عاقبةَ كفره، وأن الله عز وجل سيُصليه نارًا خالدًا فيها فقد يَستيقظ ضميره ويؤنِّب نفسه ويتوبُ إلى الله، ومن تاب إلى الله سبحانه وتعالى فإن الله يتوب عليه، وبذلك يكون ذِكر خُلود الكفار في النَّار فيه زجرٌ لمن يريد الكفر، وباعثٌ له على التثبُّت في الأمر، وإصلاحٌ للكافر واستنقاذُه من الكفر، وإرشاده من الضلالة، وكفُّه عن الكفر، وبعثُه على الإيمان.
وفي تَكرار ذِكر خلود الكفار في النار زيادةُ التحذير من الكفر، وهذا من رحمة الله بنا وحبِّه لنا؛ فالله لا يريد لنا الكفر، ولا يَرضى لنا الكفر، ويريد لنا الإيمان والتوحيد والعبادة؛ ولذلك يحذرنا من الكفر والشرك أشدَّ التحذير.
- الكفر جرم عظيم : أما خلود الكافر الذي لم يقم له عذر، فحق وذلك لأن الكفر جرم عظيم، وخطره على المجتمع والأجيال التالية له كبير متصل، فالكافر يتقوى به الكافر، وإنما تقوم شوكة الكفر باجتماع كافر إلى كافر! ثم الكافر يلد كافراً، ويورث الكفر لابنه أو بنته، أو ابن أخيه، أو جماعته أو قريبه، ما بقيت حياة ذلك المجتمع، وأياً ما كان فهو لبنة من لبنات مجتمع الكفر وسبب في تماسكه وما ينتج عنه![5]
إن الكافر يَعيش في مُلك الله، وفي ظل نِعَمه، وتحتَ سمائه، وفوقَ أرضه، ومع ذلك يُنكِر وجودَه سبحانه، أو يتكبر عن عبادته، أو يَصرف العبادة لغيره؛ وهذا غايةُ المعاندة والمشاقَّة لله سبحانه وتعالى! فأيُّ إثم أعظمُ من هذا الإثم؟! وأي جُرم أعظم من هذا الجُرم؟!
وما زال الناس يَعتبرون إساءة الأدب مع كُبَرائهم وسادتهم أكبرَ عيب وأعظمَ خرق، فلمَّا كان تبارك وتعالى أكبرَ من كل كبير، كانت إساءةُ الأدب إليه، والإشراكُ معه عيبًا ليس فوقه عيب، وخرقًا لا يفوقه خرق.[8]
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، والظلم في الأصل: وضعُ الشيء في غيرِ موضعه، والشِّرك معناه: وضعُ العبادة في غير موضعها، وهذا أعظمُ الظلم؛ لأنهم لما وضَعوا العبادة في غير موضعها، أعطَوها لغير مستحقِّها، وسوَّوْا المخلوقَ بالخالق، سوَّوْا الضعيف بالقويِّ الذي لا يُعجزه شيء، وهل بعد هذا ظلم؟![9]
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أكبرُ عند الله؟ قال: ((أن تدعوَ لله ندًّا وهو خلَقَك))[10]، ولا فرق بين مَن كفر بالله ومن أشرك مع الله أحدًا.
ولا أفظعَ ولا أبشع ممن سوَّى المخلوقَ من تُراب بمالك الرِّقاب، وسوَّى الذي لا يملك من الأمر شيئًا بمالك الأمر كلِّه، وسوَّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالربِّ الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوَّى مَن لا يستطيع أن يَنعَم بمثقال ذرة من النِّعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه، ولا يَصرف السُّوء إلا هو؛ فهل أعظمُ من هذا الظلم شيء؟! وهل أعظمُ ظلمًا ممن خلقَه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسِه الشريفة فجعَلها في أخَسِّ المراتب؟! جعلها عابدةً لمن لا يَسوي شيئًا[11]
وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]؛ أي: افترى جُرمًا كبيرًا، وأي ظلم أعظم ممن سوَّى المخلوقَ من ترابٍ، الناقصَ من جميع الوجوه، الفقيرَ بذاته من كل وجه، الذي لا يملك لنفسه - فضلاً عمَّن عبَده - نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا - بالخالق لكلِّ شيء، الكامل من جميع الوجوه، الغنيِّ بذاته عن جميع مخلوقاته، الذي بيده النفعُ والضر، والعطاء والمنع، الذي ما من نعمةٍ بالمخلوقين إلا منه تعالى؛ فهل أعظمُ من هذا الظلم شيء؟![12]
والشرك يتضمَّن ظلمًا؛ لأنه اعتداءٌ على المستحِق للعبادة وحدَه، وهو فسادٌ في النفوس، و(افترى) هنا تضمَّن قولاً كذبًا، وفعلاً ظالمًا، وتضمَّن أعظمَ ذنب في الوجود؛ لأنه اعتداءٌ على ربِّ العالمين[13]، وإذا كان مَن أشرَك مع الله غيرَه رغم أنه مُقرٌّ بوجود الله سبحانه وتعالى قد افترى إثمًا عظيمًا فكيف بمن أنكَر وجوده.
ن الكافر يجحد وجودَ الله سبحانه وتعالى وربوبيته وألوهيته، وهذا أظلمُ الظُّلم؛ ففيه إنكارٌ للحقائق الواضحةِ وضوحَ الشمس؛ إذ دلائلُ وجوده سبحانه قد مَلأَت الكون كلَّه، وفيه إنكارٌ لأعظم حق، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى وأن لا يُشرَكَ به شيء.
ويَجحد الكافرُ نِعمَ الله وفضلَه، وهذا إنكارٌ للجميل، وإنكارٌ لفضل صاحب الفضل، وظلمٌ ما بعدَه ظلم، والنفوس الطيِّبة تشكر مَن أسدى لها معروفًا، وتمتنُّ بمن أسدى لها معروفًا، والنفوس الخبيثة تجحَد فضل صاحب الفضل، وعدمُ عرفان الجميل مِن سوء الخلُق؛ فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!!
نظروا أيُّها الإخوةُ لمدى بَشاعة وشناعة فِعل الكافر؛ فالله قد خلَقَه وأنعم عليه بأجلِّ النِّعم، وسخَّر له ما في الأرض جميعًا؛ كي يَستعين بذلك على عبادته، وبدلاً من أن يَعبده ترَك عبادته وأنكر وجوده.
ولو أن رجلاً جاء إلى بلد ليس معه شيء؛ لا كسوة، ولا طعام، ولا شراب، ولا مال، فوجده شخص، فألبسَه وأطعمه وسقاه وأعطاه المال، ألا يستحقُّ هذا الرجل الاعترافَ له بالجميل والفضل؟!
ولله المثل الأعلى؛ جِئنا الدنيا بلا كسوة ولا طعام ولا شراب ولا مال، ورزَقنا الله من فضله الكسوةَ والطعام والشراب والمال، ألا يستحق الشكر سبحانه وتعالى؟!!
إن الكافر قد تمرَّد على خالقه؛ إذ لا يَعبده ولا يوحِّده ولا يؤدي حقَّه، وينكر وجوده وربوبيَّته وألوهيته، وفي هذا اعتداءٌ على حقه سبحانه وتعالى، وإساءةُ الأدب معه سبحانه وتعالى، فأيُّ جُرم أعظمُ من هذا الجرم؟! وأي ذنب أعظم من هذا الذنب؟!!
- من العدل تخليد الكافر في النار:
من العدل تخليدُ الكافر في النار؛ إذ الكفر اعتداءٌ على حقِّ الله في الربوبية والألوهية، والأسماءِ والصفات، وحقُّ الله من الأمور الواجبة الاحترامِ؛ فهو الخالقُ الملِك الجبَّار، وقد خلق الله الجنَّ والإنس ليَعرفوه ويوحِّدوه ويعبدوه، ويخشَوه ويخافوه، ونصَب لهم دلائلَ وجوده ودلائل توحيده وعظمته وكبريائه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب، ولا يوجد رسولٌ إلا وقد حذَّر قومه من الشرك والكفر، ولا يوجد رسول إلا وقد بيَّن لقومه عقوبة الشرك، وعقوبةَ الكفر، والوعيدَ الشديد على الشرك والكفر
لكن الكافر لم يعبَأ بكلام الله سبحانه وتعالى، ولم يعبأ بكلام رسُلِ الله عليهم الصلوات والتسليم، ولم يَعبأ بالوعيد الشديد، وولَّى ظهره! وهذا استهتار واستهانة، واعتداءٌ على حق الله، وذلك يَستوجب استحقاقه أشدَّ العذاب، ومن لم يعبَأ بكلام الله ووعيده فلا يلومنَّ إلا نفسه!
وليس من العدل في شيء ألاَّ ينال الكافر أشدَّ العقاب؛ جزاءً على كُفره؛ فإن في ذلك إجحافًا في حقِّ الله، واستهانة بحق الله، وتشجيعًا للناس على الكفر، ومن يُشنِّع على خلود الكافر في النار نظَر للعقوبة، ولم ينظر لعِظَم الذنب، وعِظم الجريمة، وعظم مَن عصاه.
- فقد جوز الله العفو عن كثير : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء: 48]، أما فيما عدا ذلك فقد قال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
فانظر هنا إلى مقدار ما تجاوز مما هو منطو في قوله: (ما دون ذلك)، تعرف أن رحمته سبقت غضبه، فقد جوز العفو عن الأكثر، وتوعد على الشرك وحده وما شاكله من الكفر.[5]
- العذاب بسبب الظاهر و الباطن : ثم إن من خصائص الروح البقاء، فإذا اختبرت وتبين أنها خبيثة شريرة غير صالحة، وعلم أن خبثها لم يكن لطارئ أو عارض جهل بل هو ذاتي، فاللائق بها في حكم العدل أن تجازى فتحبس في العذاب أبداً، وبقاء الأرواح وخلودها هو قول أهل الحق، فالروح وإن كانت مخلوقة محدثة فإنها باقية أبدية لها تعلقات بالجسد مختلفة في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة.
والمهم هنا أن تعلم أن العدل الأخذ بحسب الجرم وما يستحقه المجرم، وذلك فرع عن علم بالظاهر والباطن، فقد تكون الجريمة واحدة لكن ارتكبتها نفسية خبيثة لا داعي لها ولا دافع أو قد ضعف داعيها ودافعها إلى الجريمة، وأخرى قوي دافعها وظهر لها نوع عذر، فتتفاوت العقوبة[5]
- إمهال الله للكافر :والفرق هو أن امتحان الآخرة قد أمهل الله تعالى فيه الناس إمهالاً لا يمهل بعضهم بعضاً مثله! أمهلهم ما عاش الممتَحَن، كما قال: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 37]، جعل مدته عمرَه في هذه الدنيا، له أن يسقط ويعيد ويحاول من جديد خلال مدة عمره!
وقد أخبرنا الممتحِن أنه بعد فوات الدنيا فقد مضى وقت الامتحان وأرشدنا إلى أن نعد العدة! فلا دار بعد الموت إلا جنة أو نار.. والمُمْتَحَن على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره! أنت لا تطالب المدرسة أو المؤسسة أن تعيد لكل طالب أو راغب في الوظيفة الاختبار عشرات المرات وتجبره عليه تارات حتى ينجح! وترى أن ذلك جوراً وإلحاقاً للبطّال بالمجتهد المجد! فما بالك هنا قد انقلب معيار عدلك![5]
- تفاوت درجات العذاب : ومن عدل الله تعالى أنه لم يسو بين الكافرين المخلدين في النار في العقوبة، بل هم على دركات، والله حكيم عليم قد أنذر وأعذر، يعلم حال كل أحد وما يستحقه.[5]
- أن الكفار لو عمروا ما عمروا فإنهم سيعيشون على الكفر، بل لو ردوا إلى الحياة رجعوا إلى ما كانوا عليه كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ {الأنعام: 28} ولذلك استحقوا ذلك الجزاء على وجه التأبيد،
"وذكر ابن القيم سفسطةً للدهريين هي قولهم : " إن الله أعدل من أن يعصيه العبد حقباً من الزمن فيعاقبه بالعذاب الأبدي " ، قالوا : " إن الإنصاف أن يعذبه قدر المدة التي عصاه فيها " .
ثم قال – في ردها - : وأما سفسطة الدهريين التي ذكرها – أي : ابن القيم - استطراداً : فقد تولى الله تعالى الجواب عنها في محكم تنزيله ، وهو الذي يعلم المعدوم لو وُجد كيف يكون ، وقد علم في سابق علمه أن الخُبث قد تأصل في أرومة هؤلاء الخبثاء بحيث إنهم لو عُذبوا القدْر من الزمن الذي عصوا الله فيه ثم عادوا إلى الدنيا لعادوا لما يستوجبون به العذاب ، لا يستطيعون غير ذلك ، قال تعالى في سورة الأنعام ( وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) الأنعام/ 27 ، 28
[2][/I
الكافر يعزم على الكفر مهما طالت به حياته الدنيا فاستحق العذاب في حياة الآخرة:
الكافر يَعزم على الكفر مَهما طالت به حياتُه الدنيا، فاستحق العذاب في حياة الآخرة جزاءً وفاقًا، والمؤمن نيَّته دوامُ الإيمان بالله وطاعته مهما طالت به حياته الدنيا، فاستحق الخلود في الجنة فضلاً من الله وكرَمًا.
وسرُّ خلود أهل الجنة في الجنة، وأهلِ النار في النار: أنَّ كلاًّ من الفريقين كان مُصرًّا على ما هو عليه؛ فأهل الجنة كانوا مريدين الإيمانَ والطاعةَ مهما طالت بهم الحياة، وامتدَّ بهم العمر، وأهل النار كانوا مصرِّين على الكفر والعصيان ولو عاشوا ملايينَ السنين، فكان الجزاء للفريقين على الإرادة والنيَّة، وبمقتضى هذه الإرادة والإصرار كان الخلود؛ إذ إن الإيمان والكفر وما يَستتبِعانه من أعمال، قد تمكَّن من النفس تمكُّنًا لا يزول.[7]
مات كافرًا فإنَّه يستمر كافرًا أبدًا:
من مات كافرًا فإنَّه يستمر كافرًا أبدًا؛ بمعنى أنَّه يَبقى حتى في البرزخ والقيامة والنار جاحدًا لبعض الأشياء الذي يُعَدُّ جَحْدها كفرًا، ومُصرًّا على الخلاف والمعصية لو وَجد إليها سبيلاً، ولا يَتوب أبدًا، وإن قال بلسانه فهو معتقِد بقلبه خلافَ ذلك؛ فلذلك - والله أعلم - يُخلَّد في النار... ويظهر لك هذا مما حكاه الله عزَّ وجلَّ عن أهل النار من دعائهم، ولا سيَّما إذا قرَنتَه بما حكاه عن أهل الجنة، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]، ليس ذلك - والله أعلم - من باب الإخبار بالغيب فقط، بل المعنى - والله أعلم - أنَّهم في نفوسهم مُزْمِعون على ذلك؛ أي: إنهم عازمون في أنفسهم أنْ لو رُدُّوا إلى الدنيا لاستمرُّوا على كفرهم وعنادهم، والله أعلم[10].
- الإعلام و التخيير :الله هو الحكم العدل العليم الحكيم الخبير سبحانه لا يُسأل عما يفعل ، يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و يعفو عن من يشاء وقت ما يشاء
أليس الحُكم بعذاب و خلود الكفار فى النار كان مشروطاً مِن الله معلوماً للكفار !؟ ، و كان الكفار مُخيرون بين الخلود فى الجنة و الخلود فى النار ، فالله خيرهم مَن أمن سيخلد فى الجنة و مَن كفر سيخلد فى النار ، فالكفار مَن إختاروا الخلود فى النار عندما خُيروا ، إذن لم يُظلموا بل ظلموا أنفسهم بخيارهم فما يمنعهم من إختيار الخلود فى الجنة !؟[I][3]
- العقاب يتناسب مع عظم الجريمة، وليس مع مدة الجريمة:
مِن الأمور التي يجب معرفتها أن العقاب لا بد أن يتناسب مع عِظَم الجريمة، ولا يُشترط أن يتناسب مع مدة الجريمة؛ فكَم حدَثَت جرائمُ بشعة في مدد وجيزة جدًّا؛ فمثلاً يُمكِن لإنسانٍ في خلال ثوانٍ أن يقوم بقتل رجلٍ وامرأةٍ حامل وطفلٍ ورضيع، فهل نقول: يُعاقَب هذا المجرم مدةً وجيزة؛ لأن جريمته لم تتجاوز الدَّقيقة؟!! وهل مدة عقاب هذا القاتل الذي قتَل رجلاً وامرأة وطفلاً ورضيعًا سيكون أقلَّ مِن مدة عقاب سارقٍ ظَلَّ ساعتين يَسرق منزلاً إذا كان في بلد لا تُطبِّق حكم الإعدام على القاتل العمد؟! بالطبع لا؛ فجريمة القتل أعظمُ كثيرًا من جريمة السرقة.[7]
أما زعمهم بأن العقوبة يجب أن تتناسب مع الجريمة من جهة التأقيت، بمعنى أنه ما دامت الجريمة مؤقتة، فالعقوبة كذلك يجب أن تكون مؤقتة، فمن أين لهم هذا الشرط وما دليله في العقل المجرد؟ هذا باطل، وليس من شروط العدالة في العقوبة (عقلا) في شيء البتة! بل إن سائر القوانين الوضعية تشهد ببطلانه! فإن جريمة السرقة أو القتل - مثلا - قد تستغرق بضع دقائق، ومع ذلك، يعاقب فاعلها بالسجن لشهور وربما لسنوات طويلة، فمن أين لهم الزعم بأن العقوبة يلزم أن تتناسب زمنيا مع الجريمة نفسها؟ العقل لا يوجب ذلك بل يرده كما نرى. [4]
- ملازمة الكفر للكفار سبب في ملازمة العذاب لهم:
الخلود في النار سببه الكفر، والحكم يَدور مع سببه وعلَّته وجودًا وعَدمًا، والكفار يُخلَّدون في النار لأنَّ صفة الكفر ملازمة لهم، فلو رُجِعوا للدنيا لَعادوا لكفرهم، فمسألة الكفر والإيمان ليست متعلقةً بقضية أنَّهم رأَوُا الحقَّ أو لم يرَوُا الحق؛ بل هي مسألةُ استكبار وعنادٍ في نفوس الكفار؛ قال تعالى: ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 28]؛ أي: بل ظهَر لهم يوم القيامة ما كانوا يَعلَمونه في أنفسهم مِن صِدق ما جاءت به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يُظهِرون لأتباعه خِلافَه، ولو فُرض أن أُعيدوا إلى الدنيا فأُمهِلوا لرَجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب، وإنهم لكاذبون في قولهم: لو رُدِدنا إلى الدنيا لم نُكذِّب بآيات ربنا، وكنا من المؤمنين[16]؛ فالله يعلم أن هؤلاء المكذِّبين الذين يتمنَّون في يوم القيامة الرَّجْعة إلى الدنيا أنهم لو عادوا إليها لرجَعوا إلى تكذيبهم وضلالهم[17].
وقال المراغي رحمه الله: "لو رُدُّوا - أي: الكفار - لعادوا لما كانوا فيه؛ لفقد استعدادِهم للإيمان، وأنَّ حالهم بلَغ مبلغًا لا يؤثِّر فيه كشفُ الغطاء ورؤيةُ الفزَع والأهوال"[18]، وقال أيضا: "﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28] مِن الكفر والنفاق، والكيد والمكر والمعاصي؛ فإن ذلك مِن أنفسهم، ثابتٌ فيها لِخُبث طينتهم وسوء استعدادهم، ومن ثَم لا ينفعهم مشاهدةُ ما شاهَدوا ولا سوءُ ما رأَوا"[19].
وقال الحجازي رحمه الله: "ولو رُدُّوا - أي: الكفار - إلى الدنيا لعادوا لما نُهوا عنه من الكفر والعناد وعدم الإيمان، وإنهم لقومٌ طبعُهم الكذب ودَيدنُهم العناد، ولو رُدُّوا إلى الدنيا لقالوا: ما هي إلا حياتُنا الدنيا فقط، وليست لنا حياة أُخرويَّة أبدًا، وما نحن بمبعوثين، وهكذا القوم الماديُّون؛ لا يؤمنون بالغيب، ولا يُرجى منهم خير أبدًا"[20].
وقال الشِّنقيطي رحمه الله في شأن استمرار الكافر في النار: "سببُ هذا الاستمرار هو ملازمة الخبث لذلك الكافر دائمًا، وعدمُ مفارقته له في أيِّ حال من الأحوال؛ فهو مُنطوٍ عليه لا يَزول، وباستمرار السبب الذي هو الخبث استمرَّ المسبب الذي هو العذاب، والدليل على استمرار خبثه قولُه تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 27، 28]؛ فبِدَيمومة السبب الذي هو الكفر؛ دام المسبب الذي هو العذاب"[21].
وقال ابن القيم رحمه الله: "سبب التعذيب لا يَزول إلا إذا كان السبب عارضًا؛ كمَعاصي الموحِّدين، أمَّا إذا كان لازمًا؛ كالكفر والشرك فإن أثره لا يَزول، كما لا يزول السبب، وقد أشار سبحانه إلى هذه المعنى بعَينه في مواضعَ من كتابه؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]؛ فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعَهم لا تَقتضي غيرَ الكفر والشرك، وأنها غير قابلة للإيمان أصلاً.
ومنها قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 72]، فأخبر سبحانه أن ضلالهم وعَماهم عن الهدى دائمٌ لا يَزول، حتى مع مُعاينة الحقائق التي أخبَرَت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يُفارقهم فإن موجِبَه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم.
ومنها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23]، وهذا يدلُّ على أنه ليس فيهم خيرٌ يَقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خيرٌ لما ضيَّع عليهم أثره"[22].
- والأدلة من الله على تأبيد غير المسلمين في النار كثيرة ، من ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا {البينة: 6}
وقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ {المائدة: 72}
وحديث مسلم : والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار،
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن تتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر أو فاجر أو غبرات أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: من تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيرا ابن الله فقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا، فيتساقطون في النار.
ثم يدعى النصارى فيقال لهم من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فكذلك مثل الأول. رواه البخاري ومسلم[1]
أخبر الله سبحانه وتعالى أنَّ مَن مات على الكفر يكون مخلدًا في النار، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 116]، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 68]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 64، 65].[7]
[1]http://https://www.islamweb.net/ar/fatwa/65864/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%84%D9%87%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AE%D9%84%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%81%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B1
[2]مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي " الشيخ أحمد بن محمد الأمين ( ص 59 )
[3]http://www.ebnmaryam.com/vb/t200266.htmlhttp://www.ebnmaryam.com/vb/t200266.html
[4]http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?36031-%CC%E6%C7%C8-%DD%ED-%E3%D3%C3%E1%C9-%CA%DE%CF%ED%D1-%C7%E1%DA%DE%E6%C8%C7%CA-%C7%E1%C3%CE%D1%E6%ED%C9-%E6%CA%C3%C8%ED%CF-%C7%E1%DA%D0%C7%C8-%E1%E1%E3%D4%D1%DF%ED%E4
[5]http://almoslim.net/elmy/289452
[6]https://islamqa.info/ar/answers/255312/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%AE%D9%84%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D9%81%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D9%84%D9%85-%D9%8A%D8%B9%D8%B4-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%88-%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86-%D8%B3%D9%86%D8%A9
[7]https://www.alukah.net/sharia/0/85491/
[8]رسالة التوحيد المسمى بـ "تقوية الإيمان" للدهلوي، ص 90.
[9] إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان، ص 57.
[10]رواه البخاري في صحيحه رقم 4477، ورواه مسلم في صحيحه رقم 86.
[11]تفسير السعدي، ص 648.
[13]تفسير السعدي، ص 181
[14]زهرة التفاسير 4/ 1710.
[15]غاية المرام في علم الكلام للآمدي، ص 231.
[16]التفسير الميسر.
[17]القضاء والقدر لعمر الأشقر، ص 27.
[18]تفسير المراغي 7/ 100.
[19]تفسير المراغي 7/ 102.
[20]التفسير الواضح للدكتور محمد محمود حجازي، ص 602.
[21]معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي، ص258.
[22] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم، ص 368 - 369.
- وهذا من تمام عدل الله تعالى، حيث لم يسو بين المسلم المقر بالتوحيد والنبوات و الذي ممكن أن تقع منه المعاصي وبين الكافر المنكر لاستحقاق ربه الخالق العبودية والمنكر لرسالات رسله ، [1]
-كمال علم الله بالنسبة للمخلوقين : أخي الفاضل، إعلم وفقك الله أن أصل هذه الشبهة باطل من جهة تطلع صاحبها لقياس ما لا يملك له قياسا، وتجاوز مقداره المعرفي بالحكم على ما لا يملك فيه نظرا ولا تقديرا. فمن بابتها اعتراض بعضهم - مثلا - على رجم الزاني في الإسلام وقطع يد السارق ونحوها من الحدود الجنائية. فنحن نقول إن تقدير مقادير العقوبات للجرائم مرده إلى صفة العلم والحكمة لدى الشارع، وليس لمن هو دون ذلك الشارع في العلم أن يعترض على ذلك التقدير عنده، لأنه يشهد على نفسه بأنه دونه في العلم والحكمة! الله جل وعلا هو الغاية وهو صاحب الكمال التام في هاتين الصفتين، سبحانه وتعالى، فمن ذا الذي يملك من مقاييس المعرفة ما يعترض به على عقوبة من عقوباته سبحانه فيقول إنها أشد مما ينبغي أو إنها أخف مما ينبغي؟ من الذي يملك أن يعين مقدار الجريمة ومن ثمّ ما يناسبها من العقوبة، وعلى أي أساس يقوم ذلك التقدير لديه؟
هب أن الجريمة (س) نحن نتفق على أنها أشنع وأشد فسادا في الأرض من الجريمة ( ص). الآن افترض معي أن هاتين الجريمتين هما كل ما يمكن أن يقع من الجرائم من جنس من المخلوقات في حق خالقها في عالم من العوالم الممكنة عقلا، وأن الخالق قد اختار أن يشرع عقوبة لهما (في الدنيا أو في الآخرة). أنت كمخلوق غايتك أن ترى أن إحدى هاتين الجريمتين أشد من الأخرى في حق الخالق (وفي بعض الأحيان لا يمكنك ذلك لخفاء حكمة التشريع نفسه عنك)، ولكن من الذي يملك أن يعين مقدار العقوبة الملائم لها إن وقعت ممن تلبس بها وتحققت فيه شروط استحقاق العقوبة (التي هي العلم بوجود التشريع المانع من الفعل وعدم الإكراه عليه وغير ذلك)؟ من من المخلوقات يملك أن يقول إن (س) عقوبتها تكون التعذيب لشهر، بينما ( ص) تكون عقوبتها نصف ذلك أو دونه؟ العقوبة أمر مكروه للنفس أصلا، فلا ينبغي أن يكون تقديرها إلا من الأحكم والأعلم. لذا فإن الخالق سبحانه يجب بالعقل المجرد أن يُرفع تشريعه في ذلك التقدير (كما في غيره من أبواب التشريع) إن جاءنا على الأنبياء والمرسلين فوق تشريعات المخلوقين، ولا يعترض عليه ولا يسأل في ذلك سبحانه. ونحن نعلم أن بني إسرائيل قد خُففت لهم العقوبات في تشريع عيسى عليه السلام، وأنهم قد عاقبهم الله تعالى على أفعال لم يعاقبنا على كثير منها أصلا. فهو لا شريك له في حقه في التشريع لمخلوقاته، ولا في حقه في تقدير العقوبات لمن يقع في مخالفة ذلك التشريع وتتحقق فيه شروط العقوبة وتنتفي عنه موانعها.
فإذا فرغنا من هذا، فلا شك أن الجريمة الأكبر والأعظم في مقدارها، تكون لها العقوبة الأشد والأثقل، والجريمة الأخف تكون دونها في مقدار العقوبة، وهذا المبدأ في تناسب العقوبات مع الجرائم صحيح عقلا لا يماري فيه إلا سفساط. لذا ففي جميع الأحوال فإن قاعدة أن العقوبة الأشد تكون للجريمة الأشد، لا تتغير من تشريع إلى تشريع لأن العقل يقتضيها.[4]
- الوجه العقلي :فالآن إن قلنا لك إن الجريمة (س) هي أشنع الجرائم الممكنة عقلا من مخلوق من المخلوقات على الإطلاق، فإنه يلزم إذن أن تكون لها أشنع العقوبات الممكنة عقلا لمخلوق من المخلوقات على الإطلاق، أليس كذلك؟
فكيف يكون تقديرك لتلك العقوبة؟ لو قلتَ إنه التعذيب لمئة سنة، فإن العقل يتصور ما هو أشد من ذلك! ولو قلت ألف سنة فثمة ما هو أشد، وهكذا.. فلزم أن يكون أشد العقوبات على الإطلاق = الخلود في العذاب أبدا!
وقد اقتضت حكمة الله وعلمه أنه ما من جريمة أشد وأشنع عنده في حقه من أن يخلق مخلوقا ثم يرسل إليه الرسل بالبشارة بعاقبة التسليم والخضوع، والنذارة من عاقبة العصيان والإباء، ومع ذلك يصر ذلك المخلوق على إهانة خالقه وجحده حقه في طاعته والخضوع له ذلك الخضوع الذي شهد العقل بوجوبه لذلك الخالق. هذه هي أشد الجرائم عنده سبحانه وليس لأحد من المخلوقات أن يجادله في ذلك! ليس لأحد من المخلوقات أن يقول - مثلا - إن قتل مخلوق ما لمئات أو آلاف من المخلوقات مثله أو إفساد الأرض عليهم أو نحو ذلك، هو الجريمة الأشنع على الإطلاق التي كان حقها أن تكون لها أشد العقوبات على الإطلاق عند الخالق، أو يقول إنها أشنع من جريمة الشرك أو الموت على الكفر! لا يمكن لمخلوق يعقل أن يدعي أن ثمة جريمة فيما يمكن تصوره من أفعال المخلوقين، أشنع أو أعظم من سب ذلك المخلوق وإهانته لخالقه جل وعلا! فحسبك أن تقول إن أبشع الجرائم الممكنة عقلا من فعل المخلوقين (كجنس) تستحق أبشع العقوبات الممكنة عقلا لهم (كجنس)! وعليه فلو أمكن في العقل تصور عقوبة أشد من هذه للمخلوق، لاستحقتها - عند الله تعالى - تلك الجريمة لا محالة![4]
- قيام الحجة علي الكافر قبل العذاب : وحتى الكافر ما جعل عقوبته على الكفر الخلود في النار إلاّ بشرط أن تكون الحجة الرسالية قد بلغته بلوغاً تقوم به على مثله الحجة، ثم هو بعد ذلك كافر في حكم الدنيا، وأمره إلى الله في الآخرة، ولهذا كان من نصوص الاعتقاد قولهم: "لا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلاّ من شهد له الله ورسوله".[5]
- الأمر سهل !: دعاه إلى أمر سهل يسير جدا، وهو ألا يشرك به شيئا، فأبى إلا أن يشرك به شيئا. دعاه أن يؤمن به وبرسوله ، فأبى إلا الكفر والعناد ، فاستحق هذا العذاب الأليم الذي لم يكن غافلا عنه، فقد جاءه النذير من ربه أنه إن لم تؤمن فمصيرك هو العذاب الأليم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
وفي المقابل، لو أن رجلا عرض عليه الإيمان ، فآمن، ثم مات من فوره ، كان من أهل الجنة مخلدا فيها أبدا، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) النساء/ .122
ولا يقال: كيف يخلد في الجنة وهو لم يعبد الله إلا لحظة أو لحظات أو خمسين أو ثمانين سنة!
روى أحمد (12289) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ قَالَ فَيَقُولُ نَعَمْ قَالَ فَيَقُولُ قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي) وصححه شعيب في تحقيق المسند.[6]
- وفائدة ذِكر خُلود الكفار في النَّار كفُّهم عَن الكفر : والفسادِ والعناد، والشقاقِ والنفاق[15]، ولو استحضر الكافرُ عاقبةَ كفره، وأن الله عز وجل سيُصليه نارًا خالدًا فيها فقد يَستيقظ ضميره ويؤنِّب نفسه ويتوبُ إلى الله، ومن تاب إلى الله سبحانه وتعالى فإن الله يتوب عليه، وبذلك يكون ذِكر خُلود الكفار في النَّار فيه زجرٌ لمن يريد الكفر، وباعثٌ له على التثبُّت في الأمر، وإصلاحٌ للكافر واستنقاذُه من الكفر، وإرشاده من الضلالة، وكفُّه عن الكفر، وبعثُه على الإيمان.
وفي تَكرار ذِكر خلود الكفار في النار زيادةُ التحذير من الكفر، وهذا من رحمة الله بنا وحبِّه لنا؛ فالله لا يريد لنا الكفر، ولا يَرضى لنا الكفر، ويريد لنا الإيمان والتوحيد والعبادة؛ ولذلك يحذرنا من الكفر والشرك أشدَّ التحذير.
- الكفر جرم عظيم : أما خلود الكافر الذي لم يقم له عذر، فحق وذلك لأن الكفر جرم عظيم، وخطره على المجتمع والأجيال التالية له كبير متصل، فالكافر يتقوى به الكافر، وإنما تقوم شوكة الكفر باجتماع كافر إلى كافر! ثم الكافر يلد كافراً، ويورث الكفر لابنه أو بنته، أو ابن أخيه، أو جماعته أو قريبه، ما بقيت حياة ذلك المجتمع، وأياً ما كان فهو لبنة من لبنات مجتمع الكفر وسبب في تماسكه وما ينتج عنه![5]
إن الكافر يَعيش في مُلك الله، وفي ظل نِعَمه، وتحتَ سمائه، وفوقَ أرضه، ومع ذلك يُنكِر وجودَه سبحانه، أو يتكبر عن عبادته، أو يَصرف العبادة لغيره؛ وهذا غايةُ المعاندة والمشاقَّة لله سبحانه وتعالى! فأيُّ إثم أعظمُ من هذا الإثم؟! وأي جُرم أعظم من هذا الجُرم؟!
وما زال الناس يَعتبرون إساءة الأدب مع كُبَرائهم وسادتهم أكبرَ عيب وأعظمَ خرق، فلمَّا كان تبارك وتعالى أكبرَ من كل كبير، كانت إساءةُ الأدب إليه، والإشراكُ معه عيبًا ليس فوقه عيب، وخرقًا لا يفوقه خرق.[8]
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، والظلم في الأصل: وضعُ الشيء في غيرِ موضعه، والشِّرك معناه: وضعُ العبادة في غير موضعها، وهذا أعظمُ الظلم؛ لأنهم لما وضَعوا العبادة في غير موضعها، أعطَوها لغير مستحقِّها، وسوَّوْا المخلوقَ بالخالق، سوَّوْا الضعيف بالقويِّ الذي لا يُعجزه شيء، وهل بعد هذا ظلم؟![9]
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أكبرُ عند الله؟ قال: ((أن تدعوَ لله ندًّا وهو خلَقَك))[10]، ولا فرق بين مَن كفر بالله ومن أشرك مع الله أحدًا.
ولا أفظعَ ولا أبشع ممن سوَّى المخلوقَ من تُراب بمالك الرِّقاب، وسوَّى الذي لا يملك من الأمر شيئًا بمالك الأمر كلِّه، وسوَّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالربِّ الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوَّى مَن لا يستطيع أن يَنعَم بمثقال ذرة من النِّعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه، ولا يَصرف السُّوء إلا هو؛ فهل أعظمُ من هذا الظلم شيء؟! وهل أعظمُ ظلمًا ممن خلقَه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسِه الشريفة فجعَلها في أخَسِّ المراتب؟! جعلها عابدةً لمن لا يَسوي شيئًا[11]
وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]؛ أي: افترى جُرمًا كبيرًا، وأي ظلم أعظم ممن سوَّى المخلوقَ من ترابٍ، الناقصَ من جميع الوجوه، الفقيرَ بذاته من كل وجه، الذي لا يملك لنفسه - فضلاً عمَّن عبَده - نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا - بالخالق لكلِّ شيء، الكامل من جميع الوجوه، الغنيِّ بذاته عن جميع مخلوقاته، الذي بيده النفعُ والضر، والعطاء والمنع، الذي ما من نعمةٍ بالمخلوقين إلا منه تعالى؛ فهل أعظمُ من هذا الظلم شيء؟![12]
والشرك يتضمَّن ظلمًا؛ لأنه اعتداءٌ على المستحِق للعبادة وحدَه، وهو فسادٌ في النفوس، و(افترى) هنا تضمَّن قولاً كذبًا، وفعلاً ظالمًا، وتضمَّن أعظمَ ذنب في الوجود؛ لأنه اعتداءٌ على ربِّ العالمين[13]، وإذا كان مَن أشرَك مع الله غيرَه رغم أنه مُقرٌّ بوجود الله سبحانه وتعالى قد افترى إثمًا عظيمًا فكيف بمن أنكَر وجوده.
ن الكافر يجحد وجودَ الله سبحانه وتعالى وربوبيته وألوهيته، وهذا أظلمُ الظُّلم؛ ففيه إنكارٌ للحقائق الواضحةِ وضوحَ الشمس؛ إذ دلائلُ وجوده سبحانه قد مَلأَت الكون كلَّه، وفيه إنكارٌ لأعظم حق، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى وأن لا يُشرَكَ به شيء.
ويَجحد الكافرُ نِعمَ الله وفضلَه، وهذا إنكارٌ للجميل، وإنكارٌ لفضل صاحب الفضل، وظلمٌ ما بعدَه ظلم، والنفوس الطيِّبة تشكر مَن أسدى لها معروفًا، وتمتنُّ بمن أسدى لها معروفًا، والنفوس الخبيثة تجحَد فضل صاحب الفضل، وعدمُ عرفان الجميل مِن سوء الخلُق؛ فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!!
نظروا أيُّها الإخوةُ لمدى بَشاعة وشناعة فِعل الكافر؛ فالله قد خلَقَه وأنعم عليه بأجلِّ النِّعم، وسخَّر له ما في الأرض جميعًا؛ كي يَستعين بذلك على عبادته، وبدلاً من أن يَعبده ترَك عبادته وأنكر وجوده.
ولو أن رجلاً جاء إلى بلد ليس معه شيء؛ لا كسوة، ولا طعام، ولا شراب، ولا مال، فوجده شخص، فألبسَه وأطعمه وسقاه وأعطاه المال، ألا يستحقُّ هذا الرجل الاعترافَ له بالجميل والفضل؟!
ولله المثل الأعلى؛ جِئنا الدنيا بلا كسوة ولا طعام ولا شراب ولا مال، ورزَقنا الله من فضله الكسوةَ والطعام والشراب والمال، ألا يستحق الشكر سبحانه وتعالى؟!!
إن الكافر قد تمرَّد على خالقه؛ إذ لا يَعبده ولا يوحِّده ولا يؤدي حقَّه، وينكر وجوده وربوبيَّته وألوهيته، وفي هذا اعتداءٌ على حقه سبحانه وتعالى، وإساءةُ الأدب معه سبحانه وتعالى، فأيُّ جُرم أعظمُ من هذا الجرم؟! وأي ذنب أعظم من هذا الذنب؟!!
- من العدل تخليد الكافر في النار:
من العدل تخليدُ الكافر في النار؛ إذ الكفر اعتداءٌ على حقِّ الله في الربوبية والألوهية، والأسماءِ والصفات، وحقُّ الله من الأمور الواجبة الاحترامِ؛ فهو الخالقُ الملِك الجبَّار، وقد خلق الله الجنَّ والإنس ليَعرفوه ويوحِّدوه ويعبدوه، ويخشَوه ويخافوه، ونصَب لهم دلائلَ وجوده ودلائل توحيده وعظمته وكبريائه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب، ولا يوجد رسولٌ إلا وقد حذَّر قومه من الشرك والكفر، ولا يوجد رسول إلا وقد بيَّن لقومه عقوبة الشرك، وعقوبةَ الكفر، والوعيدَ الشديد على الشرك والكفر
لكن الكافر لم يعبَأ بكلام الله سبحانه وتعالى، ولم يعبأ بكلام رسُلِ الله عليهم الصلوات والتسليم، ولم يَعبأ بالوعيد الشديد، وولَّى ظهره! وهذا استهتار واستهانة، واعتداءٌ على حق الله، وذلك يَستوجب استحقاقه أشدَّ العذاب، ومن لم يعبَأ بكلام الله ووعيده فلا يلومنَّ إلا نفسه!
وليس من العدل في شيء ألاَّ ينال الكافر أشدَّ العقاب؛ جزاءً على كُفره؛ فإن في ذلك إجحافًا في حقِّ الله، واستهانة بحق الله، وتشجيعًا للناس على الكفر، ومن يُشنِّع على خلود الكافر في النار نظَر للعقوبة، ولم ينظر لعِظَم الذنب، وعِظم الجريمة، وعظم مَن عصاه.
- فقد جوز الله العفو عن كثير : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء: 48]، أما فيما عدا ذلك فقد قال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
فانظر هنا إلى مقدار ما تجاوز مما هو منطو في قوله: (ما دون ذلك)، تعرف أن رحمته سبقت غضبه، فقد جوز العفو عن الأكثر، وتوعد على الشرك وحده وما شاكله من الكفر.[5]
- العذاب بسبب الظاهر و الباطن : ثم إن من خصائص الروح البقاء، فإذا اختبرت وتبين أنها خبيثة شريرة غير صالحة، وعلم أن خبثها لم يكن لطارئ أو عارض جهل بل هو ذاتي، فاللائق بها في حكم العدل أن تجازى فتحبس في العذاب أبداً، وبقاء الأرواح وخلودها هو قول أهل الحق، فالروح وإن كانت مخلوقة محدثة فإنها باقية أبدية لها تعلقات بالجسد مختلفة في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة.
والمهم هنا أن تعلم أن العدل الأخذ بحسب الجرم وما يستحقه المجرم، وذلك فرع عن علم بالظاهر والباطن، فقد تكون الجريمة واحدة لكن ارتكبتها نفسية خبيثة لا داعي لها ولا دافع أو قد ضعف داعيها ودافعها إلى الجريمة، وأخرى قوي دافعها وظهر لها نوع عذر، فتتفاوت العقوبة[5]
- إمهال الله للكافر :والفرق هو أن امتحان الآخرة قد أمهل الله تعالى فيه الناس إمهالاً لا يمهل بعضهم بعضاً مثله! أمهلهم ما عاش الممتَحَن، كما قال: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 37]، جعل مدته عمرَه في هذه الدنيا، له أن يسقط ويعيد ويحاول من جديد خلال مدة عمره!
وقد أخبرنا الممتحِن أنه بعد فوات الدنيا فقد مضى وقت الامتحان وأرشدنا إلى أن نعد العدة! فلا دار بعد الموت إلا جنة أو نار.. والمُمْتَحَن على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره! أنت لا تطالب المدرسة أو المؤسسة أن تعيد لكل طالب أو راغب في الوظيفة الاختبار عشرات المرات وتجبره عليه تارات حتى ينجح! وترى أن ذلك جوراً وإلحاقاً للبطّال بالمجتهد المجد! فما بالك هنا قد انقلب معيار عدلك![5]
- تفاوت درجات العذاب : ومن عدل الله تعالى أنه لم يسو بين الكافرين المخلدين في النار في العقوبة، بل هم على دركات، والله حكيم عليم قد أنذر وأعذر، يعلم حال كل أحد وما يستحقه.[5]
- أن الكفار لو عمروا ما عمروا فإنهم سيعيشون على الكفر، بل لو ردوا إلى الحياة رجعوا إلى ما كانوا عليه كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ {الأنعام: 28} ولذلك استحقوا ذلك الجزاء على وجه التأبيد،
"وذكر ابن القيم سفسطةً للدهريين هي قولهم : " إن الله أعدل من أن يعصيه العبد حقباً من الزمن فيعاقبه بالعذاب الأبدي " ، قالوا : " إن الإنصاف أن يعذبه قدر المدة التي عصاه فيها " .
ثم قال – في ردها - : وأما سفسطة الدهريين التي ذكرها – أي : ابن القيم - استطراداً : فقد تولى الله تعالى الجواب عنها في محكم تنزيله ، وهو الذي يعلم المعدوم لو وُجد كيف يكون ، وقد علم في سابق علمه أن الخُبث قد تأصل في أرومة هؤلاء الخبثاء بحيث إنهم لو عُذبوا القدْر من الزمن الذي عصوا الله فيه ثم عادوا إلى الدنيا لعادوا لما يستوجبون به العذاب ، لا يستطيعون غير ذلك ، قال تعالى في سورة الأنعام ( وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) الأنعام/ 27 ، 28
[2][/I
الكافر يعزم على الكفر مهما طالت به حياته الدنيا فاستحق العذاب في حياة الآخرة:
الكافر يَعزم على الكفر مَهما طالت به حياتُه الدنيا، فاستحق العذاب في حياة الآخرة جزاءً وفاقًا، والمؤمن نيَّته دوامُ الإيمان بالله وطاعته مهما طالت به حياته الدنيا، فاستحق الخلود في الجنة فضلاً من الله وكرَمًا.
وسرُّ خلود أهل الجنة في الجنة، وأهلِ النار في النار: أنَّ كلاًّ من الفريقين كان مُصرًّا على ما هو عليه؛ فأهل الجنة كانوا مريدين الإيمانَ والطاعةَ مهما طالت بهم الحياة، وامتدَّ بهم العمر، وأهل النار كانوا مصرِّين على الكفر والعصيان ولو عاشوا ملايينَ السنين، فكان الجزاء للفريقين على الإرادة والنيَّة، وبمقتضى هذه الإرادة والإصرار كان الخلود؛ إذ إن الإيمان والكفر وما يَستتبِعانه من أعمال، قد تمكَّن من النفس تمكُّنًا لا يزول.[7]
مات كافرًا فإنَّه يستمر كافرًا أبدًا:
من مات كافرًا فإنَّه يستمر كافرًا أبدًا؛ بمعنى أنَّه يَبقى حتى في البرزخ والقيامة والنار جاحدًا لبعض الأشياء الذي يُعَدُّ جَحْدها كفرًا، ومُصرًّا على الخلاف والمعصية لو وَجد إليها سبيلاً، ولا يَتوب أبدًا، وإن قال بلسانه فهو معتقِد بقلبه خلافَ ذلك؛ فلذلك - والله أعلم - يُخلَّد في النار... ويظهر لك هذا مما حكاه الله عزَّ وجلَّ عن أهل النار من دعائهم، ولا سيَّما إذا قرَنتَه بما حكاه عن أهل الجنة، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]، ليس ذلك - والله أعلم - من باب الإخبار بالغيب فقط، بل المعنى - والله أعلم - أنَّهم في نفوسهم مُزْمِعون على ذلك؛ أي: إنهم عازمون في أنفسهم أنْ لو رُدُّوا إلى الدنيا لاستمرُّوا على كفرهم وعنادهم، والله أعلم[10].
- الإعلام و التخيير :الله هو الحكم العدل العليم الحكيم الخبير سبحانه لا يُسأل عما يفعل ، يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و يعفو عن من يشاء وقت ما يشاء
أليس الحُكم بعذاب و خلود الكفار فى النار كان مشروطاً مِن الله معلوماً للكفار !؟ ، و كان الكفار مُخيرون بين الخلود فى الجنة و الخلود فى النار ، فالله خيرهم مَن أمن سيخلد فى الجنة و مَن كفر سيخلد فى النار ، فالكفار مَن إختاروا الخلود فى النار عندما خُيروا ، إذن لم يُظلموا بل ظلموا أنفسهم بخيارهم فما يمنعهم من إختيار الخلود فى الجنة !؟[I][3]
- العقاب يتناسب مع عظم الجريمة، وليس مع مدة الجريمة:
مِن الأمور التي يجب معرفتها أن العقاب لا بد أن يتناسب مع عِظَم الجريمة، ولا يُشترط أن يتناسب مع مدة الجريمة؛ فكَم حدَثَت جرائمُ بشعة في مدد وجيزة جدًّا؛ فمثلاً يُمكِن لإنسانٍ في خلال ثوانٍ أن يقوم بقتل رجلٍ وامرأةٍ حامل وطفلٍ ورضيع، فهل نقول: يُعاقَب هذا المجرم مدةً وجيزة؛ لأن جريمته لم تتجاوز الدَّقيقة؟!! وهل مدة عقاب هذا القاتل الذي قتَل رجلاً وامرأة وطفلاً ورضيعًا سيكون أقلَّ مِن مدة عقاب سارقٍ ظَلَّ ساعتين يَسرق منزلاً إذا كان في بلد لا تُطبِّق حكم الإعدام على القاتل العمد؟! بالطبع لا؛ فجريمة القتل أعظمُ كثيرًا من جريمة السرقة.[7]
أما زعمهم بأن العقوبة يجب أن تتناسب مع الجريمة من جهة التأقيت، بمعنى أنه ما دامت الجريمة مؤقتة، فالعقوبة كذلك يجب أن تكون مؤقتة، فمن أين لهم هذا الشرط وما دليله في العقل المجرد؟ هذا باطل، وليس من شروط العدالة في العقوبة (عقلا) في شيء البتة! بل إن سائر القوانين الوضعية تشهد ببطلانه! فإن جريمة السرقة أو القتل - مثلا - قد تستغرق بضع دقائق، ومع ذلك، يعاقب فاعلها بالسجن لشهور وربما لسنوات طويلة، فمن أين لهم الزعم بأن العقوبة يلزم أن تتناسب زمنيا مع الجريمة نفسها؟ العقل لا يوجب ذلك بل يرده كما نرى. [4]
- ملازمة الكفر للكفار سبب في ملازمة العذاب لهم:
الخلود في النار سببه الكفر، والحكم يَدور مع سببه وعلَّته وجودًا وعَدمًا، والكفار يُخلَّدون في النار لأنَّ صفة الكفر ملازمة لهم، فلو رُجِعوا للدنيا لَعادوا لكفرهم، فمسألة الكفر والإيمان ليست متعلقةً بقضية أنَّهم رأَوُا الحقَّ أو لم يرَوُا الحق؛ بل هي مسألةُ استكبار وعنادٍ في نفوس الكفار؛ قال تعالى: ﴿ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 28]؛ أي: بل ظهَر لهم يوم القيامة ما كانوا يَعلَمونه في أنفسهم مِن صِدق ما جاءت به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يُظهِرون لأتباعه خِلافَه، ولو فُرض أن أُعيدوا إلى الدنيا فأُمهِلوا لرَجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب، وإنهم لكاذبون في قولهم: لو رُدِدنا إلى الدنيا لم نُكذِّب بآيات ربنا، وكنا من المؤمنين[16]؛ فالله يعلم أن هؤلاء المكذِّبين الذين يتمنَّون في يوم القيامة الرَّجْعة إلى الدنيا أنهم لو عادوا إليها لرجَعوا إلى تكذيبهم وضلالهم[17].
وقال المراغي رحمه الله: "لو رُدُّوا - أي: الكفار - لعادوا لما كانوا فيه؛ لفقد استعدادِهم للإيمان، وأنَّ حالهم بلَغ مبلغًا لا يؤثِّر فيه كشفُ الغطاء ورؤيةُ الفزَع والأهوال"[18]، وقال أيضا: "﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28] مِن الكفر والنفاق، والكيد والمكر والمعاصي؛ فإن ذلك مِن أنفسهم، ثابتٌ فيها لِخُبث طينتهم وسوء استعدادهم، ومن ثَم لا ينفعهم مشاهدةُ ما شاهَدوا ولا سوءُ ما رأَوا"[19].
وقال الحجازي رحمه الله: "ولو رُدُّوا - أي: الكفار - إلى الدنيا لعادوا لما نُهوا عنه من الكفر والعناد وعدم الإيمان، وإنهم لقومٌ طبعُهم الكذب ودَيدنُهم العناد، ولو رُدُّوا إلى الدنيا لقالوا: ما هي إلا حياتُنا الدنيا فقط، وليست لنا حياة أُخرويَّة أبدًا، وما نحن بمبعوثين، وهكذا القوم الماديُّون؛ لا يؤمنون بالغيب، ولا يُرجى منهم خير أبدًا"[20].
وقال الشِّنقيطي رحمه الله في شأن استمرار الكافر في النار: "سببُ هذا الاستمرار هو ملازمة الخبث لذلك الكافر دائمًا، وعدمُ مفارقته له في أيِّ حال من الأحوال؛ فهو مُنطوٍ عليه لا يَزول، وباستمرار السبب الذي هو الخبث استمرَّ المسبب الذي هو العذاب، والدليل على استمرار خبثه قولُه تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 27، 28]؛ فبِدَيمومة السبب الذي هو الكفر؛ دام المسبب الذي هو العذاب"[21].
وقال ابن القيم رحمه الله: "سبب التعذيب لا يَزول إلا إذا كان السبب عارضًا؛ كمَعاصي الموحِّدين، أمَّا إذا كان لازمًا؛ كالكفر والشرك فإن أثره لا يَزول، كما لا يزول السبب، وقد أشار سبحانه إلى هذه المعنى بعَينه في مواضعَ من كتابه؛ منها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]؛ فهذا إخبار بأن نفوسهم وطبائعَهم لا تَقتضي غيرَ الكفر والشرك، وأنها غير قابلة للإيمان أصلاً.
ومنها قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 72]، فأخبر سبحانه أن ضلالهم وعَماهم عن الهدى دائمٌ لا يَزول، حتى مع مُعاينة الحقائق التي أخبَرَت بها الرسل، وإذا كان العمى والضلال لا يُفارقهم فإن موجِبَه وأثره ومقتضاه لا يفارقهم.
ومنها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23]، وهذا يدلُّ على أنه ليس فيهم خيرٌ يَقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خيرٌ لما ضيَّع عليهم أثره"[22].
- والأدلة من الله على تأبيد غير المسلمين في النار كثيرة ، من ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا {البينة: 6}
وقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ {المائدة: 72}
وحديث مسلم : والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار،
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن تتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر أو فاجر أو غبرات أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: من تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيرا ابن الله فقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا، فيتساقطون في النار.
ثم يدعى النصارى فيقال لهم من كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فكذلك مثل الأول. رواه البخاري ومسلم[1]
أخبر الله سبحانه وتعالى أنَّ مَن مات على الكفر يكون مخلدًا في النار، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 116]، وقال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 68]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 64، 65].[7]
[1]http://https://www.islamweb.net/ar/fatwa/65864/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%84%D9%87%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AE%D9%84%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%81%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B1
[2]مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي " الشيخ أحمد بن محمد الأمين ( ص 59 )
[3]http://www.ebnmaryam.com/vb/t200266.htmlhttp://www.ebnmaryam.com/vb/t200266.html
[4]http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?36031-%CC%E6%C7%C8-%DD%ED-%E3%D3%C3%E1%C9-%CA%DE%CF%ED%D1-%C7%E1%DA%DE%E6%C8%C7%CA-%C7%E1%C3%CE%D1%E6%ED%C9-%E6%CA%C3%C8%ED%CF-%C7%E1%DA%D0%C7%C8-%E1%E1%E3%D4%D1%DF%ED%E4
[5]http://almoslim.net/elmy/289452
[6]https://islamqa.info/ar/answers/255312/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%AE%D9%84%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D9%81%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D9%84%D9%85-%D9%8A%D8%B9%D8%B4-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%88-%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86-%D8%B3%D9%86%D8%A9
[7]https://www.alukah.net/sharia/0/85491/
[8]رسالة التوحيد المسمى بـ "تقوية الإيمان" للدهلوي، ص 90.
[9] إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان، ص 57.
[10]رواه البخاري في صحيحه رقم 4477، ورواه مسلم في صحيحه رقم 86.
[11]تفسير السعدي، ص 648.
[13]تفسير السعدي، ص 181
[14]زهرة التفاسير 4/ 1710.
[15]غاية المرام في علم الكلام للآمدي، ص 231.
[16]التفسير الميسر.
[17]القضاء والقدر لعمر الأشقر، ص 27.
[18]تفسير المراغي 7/ 100.
[19]تفسير المراغي 7/ 102.
[20]التفسير الواضح للدكتور محمد محمود حجازي، ص 602.
[21]معارج الصعود إلى تفسير سورة هود للشنقيطي، ص258.
[22] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم، ص 368 - 369.