المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إبتلاء العبد بالشيطان والشهوات ولمن الغلبة؟



السعادة في العبادة
01-19-2021, 11:01 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وأله وصحبه وسلم أما بعد::
قال الإمام ابن القيم فى زاد المعاد

هُنَاكَ جِهَادٌ ثَالِثٌ هُوَ جِهَادُ الشّيْطَانِ:
فَهَذَانِ عَدُوّانِ قَدْ اُمْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا [ يعنى جهاد النفس والعدو الخارجى ] وَبَيْنَهُمَا عَدْوٌ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إلّا بِجِهَادِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا وَيَخْذُلُهُ وَيَرْجُفُ بِهِ وَلَا يَزَالُ يُخَيّلُ لَهُ مَا فِي جِهَادِهِمَا مِنْ الْمَشَاقّ وَتَرْكِ الْحُظُوظِ وَفَوْتِ اللّذّاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَاهِدَ ذَيْنِكَ الْعَدُوّيْنِ إلّا بِجِهَادِهِ فَكَانَ جِهَادُهُ هُوَ الْأَصْلُ لِجِهَادِهِمَا وَهُوَ الشّيْطَانُ قَالَ تَعَالَى: {إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتّخِذُوهُ عَدُوّا} [فَاطِرٌ 6] وَالْأَمْرُ بِاِتّخَاذِهِ عَدْوًا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مُحَارَبَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ كَأَنّهُ عَدُوّ لَا يَفْتُرُ وَلَا يُقَصّرُ عَنْ مُحَارَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَدَدِ الْأَنْفَاسِ.



فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْدَاءٍ أُمِرَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَتِهَا وَجِهَادِهَا وَقَدْ بُلِيَ بِمُحَارَبَتِهَا فِي هَذِهِ الدّارِ وَسُلّطَتْ عَلَيْهِ امْتِحَانًا مِنْ اللّهِ لَهُ وَابْتِلَاءً



إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:
جِهَادُ النّفْسِ وَجِهَادُ الشّيْطَانِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ.


نكمل

السعادة في العبادة
01-19-2021, 11:04 PM
قال
مَرَاتِبُ جِهَادِ النّفْسِ:
فَجِهَادُ النّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ أَيْضًا: إحْدَاهَا: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ الّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إلّا بِهِ وَمَتَى فَاتَهَا عَلِمَهُ شَقِيَتْ فِي الدّارَيْنِ.
الثّانِيةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَإِلّا فَمُجَرّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرّهَا لَمْ يَنْفَعْهَا.
الثّالِثَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدّعْوَةِ إلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وَإِلّا كَانَ مِنْ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللّهِ.
الرّابِعَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصّبْرِ عَلَى مَشَاقّ الدّعْوَةِ إلَى اللّهِ وَأَذَى الْخَلْقِ وَيَتَحَمّلُ ذَلِكَ كُلّهُ لِلّهِ. فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرّبّانِيّينَ فَإِنّ السّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُسَمّى رَبّانِيّا حَتّى يَعْرِفَ الْحَقّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلّمَهُ فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ.

http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.فصل مَرَاتِبُ جِهَادِ الشّيْطَانِ:

الشّيْطَانِ فَمَرْتَبَتَانِ إحْدَاهُمَا: جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَى الْعَبْدِ مِنْ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِيمَانِ.
الثّانِيةُ جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَيْهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشّهَوَاتِ فَالْجِهَادُ الْأَوّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ وَالثّانِي يَكُونُ بَعْدَهُ الصّبْرُ. قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السّجْدَةُ 24] فَأَخْبَرَ أَنّ إمَامَةَ الدّينِ إنّمَا تُنَالُ بِالصّبْرِ وَالْيَقِينِ فَالصّبْرُ يَدْفَعُ الشّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةَ وَالْيَقِينُ يَدْفَعُ الشّكُوكَ وَالشّبُهَاتِ.

http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.فصل مَرَاتِبُ جِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ:

وَأَمّا جِهَادُ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَأَرْبَعُ مَرَاتِبَ بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ وَالْمَالِ وَالنّفْسِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ أَخُصّ بِالْيَدِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَخُصّ بِاللّسَانِ.

السعادة في العبادة
01-19-2021, 11:06 PM
قال
وَقَوْلُهُ: {الم أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنّهُمْ فِي الصّالِحِينَ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [الْعَنْكَبُوتُ 1- 11].


ذِكْرُ الِابْتِلَاءِ فِي أَوّلِ الدّعْوَةِ:
فَلْيَتَأَمّلْ الْعَبْدُ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْعِبَرِ وَكُنُوزِ الْحِكَمِ فَإِنّ النّاسَ إذَا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ الرّسُلُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ آمَنّا وَإِمّا أَلّا يَقُولَ ذَلِكَ بَلْ يَسْتَمِرّ عَلَى السّيّئَاتِ وَالْكُفْرِ فَمَنْ قَالَ آمَنّا امْتَحَنَهُ رَبّهُ وَابْتَلَاهُ وَفَتَنَهُ وَالْفِتْنَةُ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ لِيَتَبَيّنَ الصّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ آمَنّا فَلَا يَحْسِبْ أَنّهُ يُعْجِزُ اللّهَ وَيَفُوتُهُ وَيَسْبِقُهُ فَإِنّهُ إنّمَا يَطْوِي الْمَرَاحِلَ فِي يَدَيْهِ. وَكَيْفَ يَفِرّ الْمَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ إذَا كَانَ تُطْوَى فِي يَدَيْهِ الْمَرَاحِلُ فَمَنْ آمَنَ بِالرّسُلِ وَأَطَاعَهُمْ عَادَاهُ أَعْدَاؤُهُمْ وَآذَوْهُ فَابْتُلِيَ بِمَا يُؤْلِمُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يُطِعْهُمْ عُوقِبَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَحَصَلَ لَهُ مَا يُؤْلِمُهُ وَكَانَ هَذَا الْمُؤْلِمُ لَهُ أَعْظَمَ أَلَمًا وَأَدُومَ مِنْ أَلَمِ اتّبَاعِهِمْ فَلَا بُدّ مِنْ حُصُولِ الْأَلَمِ لِكُلّ نَفْسٍ آمَنَتْ أَوْ رَغِبَتْ عَنْ الْإِيمَانِ لَكِنّ الْمُؤْمِنَ يَحْصُلُ لَهُ الْأَلَمُ فِي الدّنْيَا ابْتِدَاءً ثُمّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمُعْرِضُ عَنْ الْإِيمَانِ تَحْصُلُ لَهُ اللّذّةُ ابْتِدَاءً ثُمّ يَصِيرُ إلَى الْأَلَمِ الدّائِمِ.

وَسُئِلَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ أَيّمَا أَفْضَلُ لِلرّجُلِ أَنْ يُمَكّنَ أَوْ يُبْتَلَى؟ فَقَالَ لَا يُمَكّنُ حَتّى يُبْتَلَى وَاللّهُ تَعَالَى ابْتَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ فَلَمّا صَبَرُوا مَكّنَهُمْ فَلَا يَظُنّ أَحَدٌ أَنّهُ يَخْلُصُ مِنْ الْأَلَمِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ فِي الْعُقُولِ فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا مُسْتَمِرّا عَظِيمًا بِأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيرٍ وَأَشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الْأَلَمَ الْمُنْقَطِعَ الْيَسِيرَ بِالْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرّ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَخْتَارُ الْعَاقِلُ هَذَا؟ قِيلَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النّقْدُ وَالنّسِيئَةُ. وَالنّفْسُ مُوَكّلَةٌ بِحُبّ الْعَاجِلِ.
.مَنْ أَرْضَى النّاسَ بِسَخَطِ اللّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللّهِ شَيْئًا:

قال تعالى {كَلّا بَلْ تُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [الْقِيَامَةُ 20] {إِنّ هَؤُلَاءِ يُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الدّهْرُ 27] وَهَذَا يَحْصُلُ لِكُلّ أَحَدٍ فَإِنّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيّ بِالطّبْعِ لَابُدّ لَهُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ النّاسِ وَالنّاسُ لَهُمْ إرَادَاتٌ وَتَصَوّرَاتٌ فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ آذَوْهُ وَعَذّبُوهُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْأَذَى وَالْعَذَابُ تَارَةً مِنْهُمْ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَنْ عِنْدَهُ دِينٌ وَتُقًى حَلّ بَيْنَ قَوْمٍ فُجّارٍ ظَلَمَةٍ وَلَا يَتَمَكّنُونَ مِنْ فُجُورِهِمْ وَظُلْمِهِمْ إلّا بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ أَوْ سُكُوتِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ وَافَقَهُمْ أَوْ سَكَتَ عَنْهُمْ سَلِمَ مِنْ شَرّهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمّ يَتَسَلّطُونَ عَلَيْهِ بِالْإِهَانَةِ وَالْأَذَى أَضْعَافَ مَا كَانَ يَخَافُهُ ابْتِدَاءً لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَخَالَفَهُمْ وَإِنْ سَلِمَ مِنْهُمْ فَلَا بُدّ أَنْ يُهَانَ وَيُعَاقَبَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِمْ فَالْحَزْمُ كُلّ الْحَزْمِ فِي الْأَخْذِ بِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ لِمُعَاوِيَةَ: مَنْ أَرْضَى اللّهَ بِسَخَطِ النّاسِ كَفَاهُ اللّهُ مُؤْنَةَ النّاسِ وَمَنْ أَرْضَى النّاسَ بِسَخَطِ اللّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللّهِ شَيْئًا وَمَنْ تَأَمّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ رَأَى هَذَا كَثِيرًا فِيمَنْ يُعِينُ الرّؤَسَاءَ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَفِيمَنْ يُعِينُ أَهْلَ الْبِدَعِ عَلَى بِدَعِهِمْ هَرَبًا مِنْ عُقُوبَتِهِمْ فَمَنْ هَدَاهُ اللّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ وَوَقَاهُ شَرّ نَفْسِهِ امْتَنَعَ مِنْ الْمُوَافَقَةِ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرّمِ وَصَبَرَ عَلَى عِدْوَانِهِمْ ثُمّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا كَانَتْ لِلرّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَصَالِحِي الْوُلَاةِ وَالتّجّارِ وَغَيْرِهِمْ.
تَعْزِيَةُ اللّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ الْحَيَاةَ الدّنْيَا قَصِيرَةٌ:

وَلَمّا كَانَ الْأَلَمُ لَا مَحِيصَ مِنْهُ الْبَتّةَ عَزّى اللّهُ- سُبْحَانَهُ- مَنْ اخْتَارَ الْأَلَمَ الْيَسِيرَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى الْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرّ بِقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الْعَنْكَبُوتُ 5] فَضَرَبَ لِمُدّةِ هَذَا الْأَلَمِ أَجَلًا لَابُدّ أَنْ يَأْتِيَ وَهُوَ يَوْمُ لِقَائِهِ فَيَلْتَذّ الْعَبْدُ أَعْظَمَ اللّذّةِ بِمَا تَحَمّلَ أَجْلِهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ وَتَكُونُ لَذّتُهُ وَسُرُورُهُ وَابْتِهَاجُهُ بِقَدْرِ مَا تَحَمّلَ مِنْ الْأَلَمِ فِي اللّهِ وَلِلّهِ وَأَكّدَ هَذَا الْعَزَاءَ وَالتّسْلِيَةَ بِرَجَاءِ لِقَائِهِ لِيَحْمِلَ الْعَبْدُ اشْتِيَاقَهُ إلَى لِقَاءِ رَبّهِ وَوَلِيّهِ عَلَى تَحَمّلِ مَشَقّةِ الْأَلَمِ الْعَاجِلِ بَلْ رُبّمَا غَيّبَهُ الشّوْقُ إلَى لِقَائِهِ عَنْ شُهُودِ الْأَلَمِ وَالْإِحْسَاسِ بِهِ وَلِهَذَا سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَبّهُ الشّوْقَ إلَى لِقَائِهِ فَقَالَ فِي الدّعَاءِ الّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبّانَ: اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقّ فِي الْغَضَبِ وَالرّضَى وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذّةَ النّظَرِ إلَى وَجْهِك وَأَسْأَلُكَ الشّوْقَ إلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرّاءَ مُضِرّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلّةٍ اللّهُمّ زَيّنّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ

فَالشّوْقُ يَحْمِلُ الْمُشْتَاقَ عَلَى الْجِدّ فِي السّيْرِ إلَى مَحْبُوبِهِ وَيُقَرّبُ عَلَيْهِ الطّرِيقَ وَيَطْوِي لَهُ الْبَعِيدَ وَيُهَوّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ وَالْمَشَاقّ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللّهُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ وَلَكِنْ لِهَذِهِ النّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هُمَا السّبَبُ الّذِي تُنَالُ بِهِ وَاللّهُ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ لِتِلْكَ الْأَقْوَالِ عَلِيمٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذِهِ النّعْمَةِ وَيَشْكُرُهَا وَيَعْرِفُ قَدْرَهَا وَيُحِبّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} [الْأَنْعَامُ 53] فَإِذَا فَاتَتْ الْعَبْدَ نَعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ رَبّهِ فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ: {أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ}
{مَنْ جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}:

ثُمّ عَزّاهُمْ تَعَالَى بِعَزَاءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنّ جِهَادَهُمْ فِيهِ إنّمَا هُوَ لِأَنْفُسِهِمْ وَثَمَرَتُهُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَأَنّهُ غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَمَصْلَحَةُ هَذَا الْجِهَادِ تَرْجِعُ إلَيْهِمْ لَا إلَيْهِ سُبْحَانَهُ ثُمّ أَخْبَرَ أَنّهُ يُدْخِلُهُمْ بِجِهَادِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ فِي زُمْرَةِ الصّالِحِينَ.
.مَعْنَى فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ:

ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الدّاخِلِ فِي الْإِيمَانِ بِلَا بَصِيرَةٍ وَأَنّهُ إذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ لَهُ كَعَذَابِ اللّهِ وَهِيَ أَذَاهُمْ لَهُ وَنَيْلُهُمْ إيّاهُ بِالْمَكْرُوهِ وَالْأَلَمِ الّذِي لَابُدّ أَنْ يَنَالَهُ الرّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِمّنْ خَالَفَهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي فِرَارِهِ مِنْهُمْ وَتَرْكِهِ السّبَبَ الّذِي نَالَهُ كَعَذَابِ اللّهِ الّذِي فَرّ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْإِيمَانِ فَالْمُؤْمِنُونَ لِكَمَالِ بَصِيرَتِهِمْ فَرّوا مِنْ أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ إلَى الْإِيمَانِ وَتَحَمّلُوا مَا فِيهِ مِنْ الْأَلَمِ الزّائِلِ الْمُفَارِقِ عَنْ قَرِيبٍ وَهَذَا لِضَعْفِ بَصِيرَتِهِ فَرّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِ أَعْدَاءِ الرّسُلِ إلَى مُوَافَقَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ فَفَرّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِهِمْ إلَى أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ فَجَعَلَ أَلَمَ فِتْنَةِ النّاسِ فِي الْفِرَارِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ وَغُبِنَ كُلّ الْغَبْنِ إذْ اسْتَجَارَ مِنْ الرّمْضَاءِ بِالنّارِ وَفَرّ مِنْ أَلَمِ سَاعَةٍ إلَى أَلَمِ الْأَبَدِ وَإِذَا نَصَرَ اللّهُ جُنْدَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ قَالَ إنّي كُنْتُ مَعَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ صَدْرُهُ مِنْ النّفَاقِ. وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنّهُ لَابُدّ أَنْ يَمْتَحِنَ النّفُوسَ وَيَبْتَلِيَهَا فَيُظْهِرُ بِالِامْتِحَانِ طَيّبَهَا مِنْ خَبِيثِهَا وَمَنْ يَصْلُحُ لِمُوَالَاتِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ وَلْيُمَحّصْ النّفُوسَ الّتِي تَصْلُحُ لَهُ وَيُخَلّصُهَا بِكِيرِ الِامْتِحَانِ كَالذّهَبِ الّذِي لَا يَخْلُصُ وَلَا يَصْفُو مِنْ غِشّهِ إلّا بِالِامْتِحَانِ إذْ النّفْسُ فِي الْأَصْلِ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ وَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالْجَهْلِ وَالظّلْمِ مِنْ الْخُبْثِ مَا يَحْتَاجُ خُرُوجُهُ إلَى السّبْكِ وَالتّصْفِيَةِ فَإِنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الدّارِ وَإِلّا فَفِي كِيرِ جَهَنّمَ فَإِذَا هُذّبَ الْعَبْدُ وَنُقّيَ أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنّةِ.

السعادة في العبادة
10-02-2022, 10:00 PM
https://majles.alukah.net/t122561/

السعادة في العبادة
10-02-2022, 10:08 PM
https://majles.alukah.net/t122561/