المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الانفراط العظيم ( 2 ) الأسباب والآثار



شريف المنشاوى
09-06-2006, 04:47 AM
الانفراط العظيم ( 2 ) الأسباب والآثار

مـا زلـنــا نستعرض بعض ما جاء في كتاب الانفراط العظيم لعالم السياسة الأمريكي الشهير فوكوياما.

الأسباب:

يـبـدأ الكاتب في شرحه للأسباب التي أدت إلى ذلك التمزق في المجتمعات الغربية بمقدمة منهجية معقولة هي أنه ما دامت مظاهر هذا التمزق عامة في كل الدول الغربية الصناعية، ومـــا دامت قد حدثت مجتمعة، وفي فترة زمنية محددة، فإن هذا يدعونا لأن نبحث لها عـن أسباب في أمر أو أمور مشتركة بين هذه الأقطار، لا في الأسباب الخاصة ببعضها دون بعض.

ويــرى تـبـعاً لذلك أن السبب الأساس لها كان تحولاً ثقافياً، تحولاً قيمياً تمثل في اشتداد النزعـــة الفردية، وأن أعظم ما أثرت فيه هذه النزعة الفردية هو العلاقات بين الجنسين، والأسرة على وجـــه الخصوص. وأن مظاهر ذلك الانفراط أو التمزق نشأت كلها تقريباً عن التفكك الذي أصاب الأسرة.

لكنه يعود فيقول: إن الـقـــول بـأن عــــزو سبب الانفراط إلى تغير في الثقافــة -في القيم- مصادرة على المطلوب؛ إذ إن السؤال ما يزال باقياً: لماذا حدث هذا التغير في القيم في كل هذه البلاد المتقدمة صناعياً، وفي فترة معينة من الزمان؟

ويعترف بأن التحولات القيمية لها أسباب كثيرة؛ لكنه يرى أن أهم أسبابها في هذه الفترة التي يدرسها أمران جاء بهما التطور العلمي، هما: حبوب منع الحمل، والإجهاض الآمن.

يقـــول: إن حبوب منع الحمل وتوفُّر الإجهاض أَذِنا للنساء - لأول مرة في التاريخ - بأن يتعاطـين الجنس بلا خوف من العواقب، وأن هذا جعل الذكور يشعرون بالتحرر من القيم التي كانت تفرض عليهم مسؤولية العناية بالنساء اللاتي حملن منهم.

ويقول: إن الذي كان يمنع النساء من استبدال زوج يناسبهن مكان الزوج الذي يعشن معه، ويكتـشـفـن أنه لا يناسبهن هو أنهن لم يكُنَّ قادرات على الإنفاق على أنفسهن بسبب أنهن لم يكن يعـمـلـــن، فلما عمل النساء وصارت دخولهن تزداد باطراد وجدن أنه بإمكانهن أن يربين أطفالهن مــــــــن غير عون من الأزواج، لكن إنجاب الأطفال يقلل من فرص المرأة في العمل؛ فلكي تنجب المرأة فإما أن لا تعمل إطلاقاً، وإما أن تتوقف عن العمل لفترات، فإذا كانت حريصة على العـمــــل فإنها ستلجأ إلى الحد من الإنجاب، ثم إن قلة الأطفال تزيد بدورها من احتمالات الطلاق؛ لأن الأطفال هم (الرأسمال المشترك) بين الزوجين. ويقول: إن هناك دلائل تجريبية كـثـيــرة تـؤكــــد الصلة بين الدخول العالية للنساء وبين الطلاق والإنجاب خارج نطاق الزوجية، ثم إن ازديـــاد معدلات الطلاق يؤدي بدوره إلى عدم ثقة النساء باستمرار الحياة الزوجية، ويدفعهن إلـى تـأهـيـــل أنفـسـهـــن للعـمـل، كي يضمَنَّ مستقبلهن. ثم إن التحول من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات زاد مــن فـرص النساء في العمل؛ وذلك لأن الأعمال ذوات الرواتب العالية لم تعد تلك التي تحتاج إلى جهد جسدي لا يقــــوى عـلـيـه إلا الرجال، بل تلك التي تحتاج إلى جهد عقلي، كالعمل في مجــــال الحاسوبات، وهو أمر ينافس فيه النساءُ الرجالَ.

الآثار:

يذكرنا الكـاتـب بـمـا قال في بداية كتابه من أن الجريمة وانهيار الأسرة وتناقص الثقة هي معايير سلبية لما سمي بالـرأسـمـــال الاجتماعي (معايير سلبية بمعنى أن زيادتها تدل على نقص في رأس المال هذا)، وكيف أثر ذلك التغيير في القيم على رأس المال الاجتماعي هذا؟ وكيف أثر في مقدرة الناس على الاجتماع لتحقيق غايات تعاونية؟ وكيف أثر على مستوى الثقة بينهم؟ يذكر الكاتب آثاراً نوجزها فيما يلي:

1 - إن نصف السكان في أوروبا والـيـابان ستكون أعمارهم أكثر من خمسين عاماً في غضون العقدين القادمين، وسيؤدي هذا - بالإضافة إلى ما يصحبه من نقص في عدد السكان - إلى نقص في الدخل القومي، ثم يؤدي هذا كله إلى ضعف هذه الأقطار وقلة تأثيرها على المسرح العالمي.

2 - وأن الدول الاسكندنافية التي هي الأعلى في نسبة التفكك الأسري، هي الأعلى أيضاً في نسبة التوحد؛ إذ إن خمسين بالمائة من البيوت صارت تتكون من شخص واحد، بل إنه في مدينة أوسلو (عاصمة السويد) بلغت النسبة خمساً وسبعين بالمئة!

3 - أثبتت كثير من الدراسات في الولايـات المـتـحـــدة أن تأثير الأسرة والأقران على أداء الطلاب أعظم مراراً من كل العوامل التي هـــي بيد السـياســــــة التعليمية العامة كرواتب المدرسين، وأحجام الفصول الدراسية، والصرف على التسهيلات الـطـلابية؛ لكنه يرى أن النساء لسن هن المسؤولات عن هذا، وأن الحل لا يكون بعدم خروجهن إلى مكان العمل. لكنه يرى في الوقت نفسه أن قائدات الحركة النسوية قد بالغن في إطراء عمل المرأة، وغفلن عن تأثيره على الأطفال، وهو تأثير لازم وواقع، وسيستمر كذلك حتى يـتـطـــــور الـعـلــم فيريحهن من عبء الحمل والإنجاب!!

4- إن ضرر الجريمة لا يقتصر على من يقع ضحية لها، بل يتعداه إلى المجتمع كـلـــــه، وذلـك أن انـتـشـــــار الـجـريمة يقلل من ثقة الناس بعضهم ببعض، ويعوق أو يحول دون تعاونهم؛ بل إن الجريمة لتؤدي إلـى جـعــل المجتمع مجتمعاً ذرياً يحصر كل إنسان فيه اهتمامه في نفسه وفي أقرب الناس إليه. من ذلـك - مـثـلاً - أن الـجـيـران كانوا يتعاونون جميعاً على تربية أولادهم، وأما الآن - وبعد أن كثر الاعتداء على الأطـفـــال - فإذا رأى والد شخصاً يؤنب ولده فالاحتمال الأقرب أن يتصل بالشرطة.

ما المخرَج؟

هل كان الانفراط هذا ضربة لازب؟ هل كان أمراً حتَّمه التطور التقني، أم أنه كان بملك الـناس أن يـتـفادوه؟ يرى الكاتب أن الوسائل الاختيارية المتاحة للناس للتأثير في سير أحداثهم الاجتماعـية تتمثل في أمرين، هما: السياسات العامة "يعني ذلك التي ترسمها وتنفذها الجهات المسؤولة"، والثقافة الشائعة بين المواطنين وما تتضمنه من قيم، ويقول: إن كوريا واليابان وبـعض الدول الكاثوليكية استطاعت أن تقلل من تأثير التطور التقني بسبب اختلاف ثقافاتها عـــن الـثـقـافة الشائعة في المجتمعات الغربية؛ لكنه يرى أن محاولاتهم هذه إن أخرت حصول تلك الـنـتـائج التي حصلت في البلاد الغربية، فلن تستطيع الحيلولة دون وقوعها، ثم يتساءل: هل مـعـنـى ذلــك أن المجتمـعـات الليبرالية الـمـعاصرة صائرة لا محالة إلى مستويات أدنى فأدنى من الانحطاط الخلقي والفـوضـى الاجتماعية حتى تنفجر من الداخل؟ يرى أن الأمر ليس ميئوساً منه إلى هذه الدرجة وأن هنالك حلاً. فما هو؟ نجيب عن هذا في مقالنا القادم - إن شاء الله -.