Mahmoud Muhammad
06-29-2023, 01:26 PM
خلق الأجنة في القرآن والأحاديث
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قال: حَدَّثَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -وهو الصَّادِقُ المَصْدُوقُ- قالَ: إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فيُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ويُقَالُ له: اكْتُبْ عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ، فإنَّ الرَّجُلَ مِنكُم لَيَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ الجَنَّةِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ النَّارِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ.
ويلي طور المضغة خلق العظام واكتساء العظم باللحم كما يتضح من قوله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.
ومفهوم الحديث أن المادة التي يخلق منها الجنين تُجمع في رحم الأم والمقصود اجتماع نطفة الرجل والمرأة في نطفة أمشاج وخلق أحدكم يقصد به نفس المخلوق كما في قوله تعالى في الجبال: صنع الله. أي مصنوعه، قال ابن حجر رحمه الله: وَفِي قَوْلِهِ خَلْقُ تَعْبِيرٌ بِالْمَصْدَرِ عَنِ الْجُثَّةِ وَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ هَذَا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُهُ. اهـ
فهذا هو الطور الأول. وقد كانت هناك نظريتان بشأن دور المرأة في خلق الجنين: الأولى وتنسب إلى أرسطو وتسمى نظرية المجال field theory تقول بأنه ليس للمرأة نطفة أو بذرة بل هي مجرد بيئة حاضنة لبذرة الرجل والأخرى قال بها أبقراط ومن بعده جالينوس تقول بأن للمرأة بذرة أو نطفة وتسمي نظرية البذرة المزدوجة dual seed theoryوأن الجنين يخلق من البذرتين. وذهب بعضهم* إلى أن التلمود الأورشاليمي أيد النظرية الأولى والتي تسمى أيضا بنظرية الجبن لأنهم شبهوا أثر منى الرجل في دم الرحم بأثر الأنفحة في اللبن حيث تؤدي إلى تجبنه أو تكون الجبن، والأنفحة هي مادة تستخرج من معدة الرضيع من العجول والجداء بها إنزيم يؤدي إلى تخثر اللبن. بينما أيد التلمود البابلي النظرية الثانية. وقد صحح القرآن والأحاديث هذا القول الأخير وأبطل الأول وهو الصواب في نفس الأمر الموافق للعلم التجريبي وهو يفسر لماذا قد يشبه الولد أباه أو أمه أو أعمامه أو أخواله بخلاف لو كانت النطفة أو البذرة من الرجل فقط وهو ظاهر قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً. الآية و هذا أيضا هو معنى النطفة الأمشاج في قوله: إنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. وأمشاج أن خليط من نطفة الرجل والمرأة.
ثم يأخذ في التحول للطور الثاني خلال الأربعين يوما الأولى وهو طور العلقة لأنه بداهة لا تصير النطفة علقة دفعة واحدة. قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَصَيُّرَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا فَيُخَالِطُ الدَّمُ النُّطْفَةَ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى بَعْدَ انْعِقَادِهَا وَامْتِدَادِهَا وَتَجْرِي فِي أَجْزَائِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى تَتَكَامَلَ عَلَقَةً فِي أَثْنَاءِ الْأَرْبَعِينَ.
وقد ذهب قدماء المفسرين إلى أن العلقة هي قطعة دم جامدة ذلك أن الجنين إذا نشب في بطانة الرحم فإنه يتغذى بدماء الرحم وتتجمع فيه الدماء فيصير في هيئته كقطعة دم جامدة. إلا أن لفظ العلقة دلالته أوسع من ذلك.
ففي خلال الأربعين الأولى يتكون الحبل السري umbilical cord ثم يكتمل بحلول الأسبوع السابع ( أي في عضون الإثنين والأربعين يوما الأولى حيث يبدأ التكون في الأسبوع الثالث) وسمي علقة لأن الجنين يكون ناشبا في بطانة الرحم يقال علق بالشىء أي نشب فيه ولذا يقال للدويبة التي تعلق بحلق الدابة إذا شربت من الماء الآسن فتمتص دماءها علقة ويقال علقت البهيمة: إذا شَرِبَتْ مَاءً فِيهِ عَلَقَةٌ فَنَشَبَتْ فِي حَلْقِهَا وَاسْتَمْسَكَتْ بِهِ.
ثم يأخذ الجنين في التحول إلى الطور الذي يليه في أربعين يوما وهو طور المضغة وفي غضونها تكون التغذية من خلال الحبل السري ولا يكون الجنين ناشبا في الرحم بل يتصل به من خلال الحبل السري والمشيمة placenta . والمضغة لغة هي القطعة الصغيرة التي تمضغ من اللحم وغيره وهي على وزن فُعْلة مثل نطفة وهى بمعنى مفعول أي ممضوع ومنطوف (يقال نطف الماء أي قطر أو سال قليلا قليلا ونطفة أي قطرة).
ثم تأخذ المضغة في التحول إلى عظام وهذا بحلول الأسبوع الثاني عشر أي بعد مضي 84 يوما. ومن ناحية علم الأجنة فالأطراف تتشكل من خلال ظهور نتوءات limb buds من جذع الجنين ثم تأخذ في الاستطالة ويتكون في داخلها نماذج غضروفية cartilage models أولا (هذه بدورها تكون في الأصل من نسيج يسمى mesenchyme وهو نوع من الأنسجة الضامة) على هيئة العظام كأنها مشروع عظام.
ثم تبدأ مراكز تخليق العظم ossification centersفي الظهور في تلك النماذج في الأسبوع السابع وبحلول الأسبوع 12 تكون مراكز تخليق العظم قد ظهرت في كل النماذج الغضروفية . وفي عضون ذلك تهاجر الخلايا المنتجة للعضلات في صورة أولية myogenic precursor cells غير متمايزة من على جانبي محور الجنين (من كتل من الخلايا تسمى somites) إلى الأطراف وتتجمع حول نماذج الغضاريف ثم تتحول إلى خلايا عضلية أولية myoblasts تأخذ بدورها في التمايز إلى خلايا عضلية myocytes والإندماج لتكون أنابيب عضلية myotuble ما بين الأسبوعين 10 و 12 ثم تتحول إلى الألياف العضلية muscle fibres فيما بين الأسبوعين 15 و 18.
ثم تٌحاط حزم bundles من الألياف العضلية بواسطة الغشاء العضلي perimysium بحلول الأسبوع 24 والتي تكون بدورها العضلات muscles (اللحم) والتي تنضج بحلول الأسبوع 33 وعلامة ذلك ظهور إنزيم الأدينوسين ثلاثي الفوسفات ATPase المسئول عن تحرير الطاقة من جزئيات الأدينوسين ثلاثي الفوسفات واستخدامها في إجراء التفاعلات الخلوية كانقباض العضلات وانبساطها.
فقوله تعالى" فكسونا العظام لحما" إن كان للتعقيب فالمعنى أنها لا تصير عضلات مؤلفة من حزم من ألياف عضلية مكتملة التكوين إلا بعد ظهور العظم وأصلها كما تقدم خلايا تهاجر إلى الأطراف فكأنها كساء تكتسى به العظام.
متى يتحدد الجنس
في الحديث عند مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك قال زهير حسبته قال الذي يخلقها فيقول يا رب أذكر أو أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا رب أسوي أو غير سوي فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول يا رب ما رزقه ما أجله ما خلقه ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا.
وفي الحديث الآخر عن ابن مسعود: فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: إذَا مَرَّ بالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ قالَ: يا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ ما شَاءَ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يقولُ: يا رَبِّ، أَجَلُهُ؟ فيَقولُ رَبُّكَ ما شَاءَ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يقولُ: يا رَبِّ، رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ ما شَاءَ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ المَلَكُ بالصَّحِيفَةِ في يَدِهِ، فلا يَزِيدُ علَى ما أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ.
وتأخير السؤال عن الذكورة والأنوثة في هذه الرواية ورواية أنس (إلى ما بعد طور المضغة)فيه نظر فهو لم يذكر في الحديث الأول بل يأمرالملك بعد الخلق وقبل نفخ الروح بأربع كلمات وهي عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ. كما أن السؤال عن الذكورة والأنوثة بعد خلقه لا معنى له. أما في حديث حذيفة فالأنوثة والذكورة قبل أن يسوي خلقه ثم بعد التسوية سأل عن الرزق والأجل والعمل (الخُلُق) وشقي أو سعيد. والتسوية كما في قوله تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي. الآية، أي: عدلت صورته ، وأتممت خلقه (تفسير البغوي)
وهذا موافق لما هو معلوم في علم الأجنة من أن أول ظهور لعلامات التمييز بين الذكر والأنثى لا يكون إلا بعد مضي ستة أسابيع. فحتى وإن كان يتحدد مسبقا بحسب نوع الحيوان المنوي إلا أن ذلك لا يظهر أثره إلا بعد مرور أربعين ليلة.
--------------
المصادر
The Developing Human: Clinically Oriented Embryology, 10th edition (2015), p. 367
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK279001/
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK557490/
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/23622355/
https://www.academia.edu/38669068/_Three_Partners_in_a_Person_The_Metamorphoses_of_a _Tradition_and_the_History_of_an_Idea_edited_and_u pdated_version_?email_work_card=title
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قال: حَدَّثَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -وهو الصَّادِقُ المَصْدُوقُ- قالَ: إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فيُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ويُقَالُ له: اكْتُبْ عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ، فإنَّ الرَّجُلَ مِنكُم لَيَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ الجَنَّةِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ النَّارِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ.
ويلي طور المضغة خلق العظام واكتساء العظم باللحم كما يتضح من قوله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.
ومفهوم الحديث أن المادة التي يخلق منها الجنين تُجمع في رحم الأم والمقصود اجتماع نطفة الرجل والمرأة في نطفة أمشاج وخلق أحدكم يقصد به نفس المخلوق كما في قوله تعالى في الجبال: صنع الله. أي مصنوعه، قال ابن حجر رحمه الله: وَفِي قَوْلِهِ خَلْقُ تَعْبِيرٌ بِالْمَصْدَرِ عَنِ الْجُثَّةِ وَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِمْ هَذَا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الْأَمِيرِ أَيْ مَضْرُوبُهُ. اهـ
فهذا هو الطور الأول. وقد كانت هناك نظريتان بشأن دور المرأة في خلق الجنين: الأولى وتنسب إلى أرسطو وتسمى نظرية المجال field theory تقول بأنه ليس للمرأة نطفة أو بذرة بل هي مجرد بيئة حاضنة لبذرة الرجل والأخرى قال بها أبقراط ومن بعده جالينوس تقول بأن للمرأة بذرة أو نطفة وتسمي نظرية البذرة المزدوجة dual seed theoryوأن الجنين يخلق من البذرتين. وذهب بعضهم* إلى أن التلمود الأورشاليمي أيد النظرية الأولى والتي تسمى أيضا بنظرية الجبن لأنهم شبهوا أثر منى الرجل في دم الرحم بأثر الأنفحة في اللبن حيث تؤدي إلى تجبنه أو تكون الجبن، والأنفحة هي مادة تستخرج من معدة الرضيع من العجول والجداء بها إنزيم يؤدي إلى تخثر اللبن. بينما أيد التلمود البابلي النظرية الثانية. وقد صحح القرآن والأحاديث هذا القول الأخير وأبطل الأول وهو الصواب في نفس الأمر الموافق للعلم التجريبي وهو يفسر لماذا قد يشبه الولد أباه أو أمه أو أعمامه أو أخواله بخلاف لو كانت النطفة أو البذرة من الرجل فقط وهو ظاهر قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً. الآية و هذا أيضا هو معنى النطفة الأمشاج في قوله: إنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. وأمشاج أن خليط من نطفة الرجل والمرأة.
ثم يأخذ في التحول للطور الثاني خلال الأربعين يوما الأولى وهو طور العلقة لأنه بداهة لا تصير النطفة علقة دفعة واحدة. قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَصَيُّرَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا فَيُخَالِطُ الدَّمُ النُّطْفَةَ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى بَعْدَ انْعِقَادِهَا وَامْتِدَادِهَا وَتَجْرِي فِي أَجْزَائِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى تَتَكَامَلَ عَلَقَةً فِي أَثْنَاءِ الْأَرْبَعِينَ.
وقد ذهب قدماء المفسرين إلى أن العلقة هي قطعة دم جامدة ذلك أن الجنين إذا نشب في بطانة الرحم فإنه يتغذى بدماء الرحم وتتجمع فيه الدماء فيصير في هيئته كقطعة دم جامدة. إلا أن لفظ العلقة دلالته أوسع من ذلك.
ففي خلال الأربعين الأولى يتكون الحبل السري umbilical cord ثم يكتمل بحلول الأسبوع السابع ( أي في عضون الإثنين والأربعين يوما الأولى حيث يبدأ التكون في الأسبوع الثالث) وسمي علقة لأن الجنين يكون ناشبا في بطانة الرحم يقال علق بالشىء أي نشب فيه ولذا يقال للدويبة التي تعلق بحلق الدابة إذا شربت من الماء الآسن فتمتص دماءها علقة ويقال علقت البهيمة: إذا شَرِبَتْ مَاءً فِيهِ عَلَقَةٌ فَنَشَبَتْ فِي حَلْقِهَا وَاسْتَمْسَكَتْ بِهِ.
ثم يأخذ الجنين في التحول إلى الطور الذي يليه في أربعين يوما وهو طور المضغة وفي غضونها تكون التغذية من خلال الحبل السري ولا يكون الجنين ناشبا في الرحم بل يتصل به من خلال الحبل السري والمشيمة placenta . والمضغة لغة هي القطعة الصغيرة التي تمضغ من اللحم وغيره وهي على وزن فُعْلة مثل نطفة وهى بمعنى مفعول أي ممضوع ومنطوف (يقال نطف الماء أي قطر أو سال قليلا قليلا ونطفة أي قطرة).
ثم تأخذ المضغة في التحول إلى عظام وهذا بحلول الأسبوع الثاني عشر أي بعد مضي 84 يوما. ومن ناحية علم الأجنة فالأطراف تتشكل من خلال ظهور نتوءات limb buds من جذع الجنين ثم تأخذ في الاستطالة ويتكون في داخلها نماذج غضروفية cartilage models أولا (هذه بدورها تكون في الأصل من نسيج يسمى mesenchyme وهو نوع من الأنسجة الضامة) على هيئة العظام كأنها مشروع عظام.
ثم تبدأ مراكز تخليق العظم ossification centersفي الظهور في تلك النماذج في الأسبوع السابع وبحلول الأسبوع 12 تكون مراكز تخليق العظم قد ظهرت في كل النماذج الغضروفية . وفي عضون ذلك تهاجر الخلايا المنتجة للعضلات في صورة أولية myogenic precursor cells غير متمايزة من على جانبي محور الجنين (من كتل من الخلايا تسمى somites) إلى الأطراف وتتجمع حول نماذج الغضاريف ثم تتحول إلى خلايا عضلية أولية myoblasts تأخذ بدورها في التمايز إلى خلايا عضلية myocytes والإندماج لتكون أنابيب عضلية myotuble ما بين الأسبوعين 10 و 12 ثم تتحول إلى الألياف العضلية muscle fibres فيما بين الأسبوعين 15 و 18.
ثم تٌحاط حزم bundles من الألياف العضلية بواسطة الغشاء العضلي perimysium بحلول الأسبوع 24 والتي تكون بدورها العضلات muscles (اللحم) والتي تنضج بحلول الأسبوع 33 وعلامة ذلك ظهور إنزيم الأدينوسين ثلاثي الفوسفات ATPase المسئول عن تحرير الطاقة من جزئيات الأدينوسين ثلاثي الفوسفات واستخدامها في إجراء التفاعلات الخلوية كانقباض العضلات وانبساطها.
فقوله تعالى" فكسونا العظام لحما" إن كان للتعقيب فالمعنى أنها لا تصير عضلات مؤلفة من حزم من ألياف عضلية مكتملة التكوين إلا بعد ظهور العظم وأصلها كما تقدم خلايا تهاجر إلى الأطراف فكأنها كساء تكتسى به العظام.
متى يتحدد الجنس
في الحديث عند مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك قال زهير حسبته قال الذي يخلقها فيقول يا رب أذكر أو أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا رب أسوي أو غير سوي فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول يا رب ما رزقه ما أجله ما خلقه ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا.
وفي الحديث الآخر عن ابن مسعود: فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: إذَا مَرَّ بالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ قالَ: يا رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ ما شَاءَ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يقولُ: يا رَبِّ، أَجَلُهُ؟ فيَقولُ رَبُّكَ ما شَاءَ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يقولُ: يا رَبِّ، رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ ما شَاءَ، وَيَكْتُبُ المَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ المَلَكُ بالصَّحِيفَةِ في يَدِهِ، فلا يَزِيدُ علَى ما أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ.
وتأخير السؤال عن الذكورة والأنوثة في هذه الرواية ورواية أنس (إلى ما بعد طور المضغة)فيه نظر فهو لم يذكر في الحديث الأول بل يأمرالملك بعد الخلق وقبل نفخ الروح بأربع كلمات وهي عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ. كما أن السؤال عن الذكورة والأنوثة بعد خلقه لا معنى له. أما في حديث حذيفة فالأنوثة والذكورة قبل أن يسوي خلقه ثم بعد التسوية سأل عن الرزق والأجل والعمل (الخُلُق) وشقي أو سعيد. والتسوية كما في قوله تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي. الآية، أي: عدلت صورته ، وأتممت خلقه (تفسير البغوي)
وهذا موافق لما هو معلوم في علم الأجنة من أن أول ظهور لعلامات التمييز بين الذكر والأنثى لا يكون إلا بعد مضي ستة أسابيع. فحتى وإن كان يتحدد مسبقا بحسب نوع الحيوان المنوي إلا أن ذلك لا يظهر أثره إلا بعد مرور أربعين ليلة.
--------------
المصادر
The Developing Human: Clinically Oriented Embryology, 10th edition (2015), p. 367
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK279001/
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK557490/
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/23622355/
https://www.academia.edu/38669068/_Three_Partners_in_a_Person_The_Metamorphoses_of_a _Tradition_and_the_History_of_an_Idea_edited_and_u pdated_version_?email_work_card=title