المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إعجاز القرآن ونظرية النظم



Mahmoud Muhammad
07-28-2023, 11:48 AM
إعجاز القرآن
أتناول في هذا المقال بالترجمة أحد فصول كتاب "نظرية الشعر العربية: التجربة الجمالية في الأدب العربي الكلاسيكي" للأستاذ المشارك بقسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون "لارا حرب" وقد عقدت فيه فصلا للحديث عن نظرية النظم وإعجاز القرآن. *

بالنسبة للمجتمع الإسلامي الأول، فقد كان القرآن هو المعجزة الرئيسية التي أثبتت نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، وكان ذلك بمثابة شق البحر على يد موسى وإحياء الموتي لعيسى. لقد كان أثره على الذين استمعوا إليه عظيماً لدرجة أنه كان يتمتع بقدرة ذاتيه على حملهم على اعتناق الإسلام كما يتجلى ذلك من القصة التي رويت في مناسبة إسلام عمر بن الخطاب الذي أصبح فيما بعد الخليفة الثاني بعد وفاة محمد(صلى الله عليه وسلم).
لقد شكل مصدر هذا التأثير القوي لغزاً بالنسبة للناس في حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وجر عليه ذلك من جهة خصومه ادعاءات من قبيل أنه كان مجنونًا ، أو شاعرًا به مس، أو كاهنًا أو ساحرًا. وقد نفى القرآن تلك الإدعاءات التي اختزلته في صورة كلام يمكن للبشر أن يأتوا بمثله، فقال: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وفقًا للمصادر الإسلامية المبكرة، فإن طبيعة القرآن المتجاوزة للعادة كانت أمرا واضحًا بالنسبة إلى مستمعيه المعاصرين في مكة، والذين كانوا في الفصاحة والبلاغة أدنى الناس منزلة من بلاغة القرآن. بل يجد المرء روايات عن غير المؤمنين بدعوته ينصحون ذويهم بعدم الاستماع إليه لكي لا يخضعوا لتأثيره.
في مرحلة لاحقة، مع توسع الإسلام في الأقاليم غير الناطقة بالعربية، وبمضي الزمن على فترة نزول الوحي وجد علماء المسلمين أنه بات من الضروري إقامة الدلائل على إعجاز القرآن بصورة منهجية بالنسبة لأولئك الذين لم تكن لديهم القدرة على إدراك إعجاز القرآن وتقديره على نحو بديهي.
وإعجاز القرآن باختصار يكمن في مخالفته لطبائع الأمور على نحو لا يمكن استنساخه من قبل البشر. فعجز جميع الناس عن يأتوا بمثله، والذي أشار إليه النص القرآني نفسه، كان دليلا كافيا بالنسبة للجماعة المسلمة الأولى على مصدره الإلهي. أما السبب وراء عجز الناس عن أن يأتوا بمثله فقد كان مادة للجدل في القرون التي تلت ظهور الإسلام. فاحدى تلك النظريات التي طُرحت من قبل المؤلفين في إعجاز القرآن لتفسير ذلك هو القول بالصرفة (وهو قول إبراهيم بن سيَّار النظَّام)، وهو بمعنى أن النص القرآني ليس بنفسه غير قابل للاتيان بمثله ولكن الله صرف الناس عن الاتيان بمثله. وفي رأي آخر أن إعجازه يكمن في التنبؤ بدقة بأمور مستقبلية ( وهو أحد وجوه الإعجاز عند الباقلاني على سبيل المثال).
في حين ذهب آخرون إلى أن إعجاز القرآن يكمن في بلاغته وفصاحته. ويرى أصحاب هذا الرأي أن القرآن بلغ من الفصاحة والبلاغة منزلة أعيت البشر أن يبلغوها. وهذا الرأي في نهاية المطاف بات هو الرأي السائد لدى جماهير علماء المسلمين وهو الذي يعنينها ههنا. وقد ذهبت عائشة عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطيء إلى أن هناك اتفاق في الرأي على أن الإعجاز البلاغي هو أحد وجود الإعجاز وإن اختلفوا في وجوه الإعجاز الأخرى. بل حتى مع القول بالصرفة يلزم معه كما قال ابن سنان الخفاجي (في كتابه سر الفصاحة) النقد البلاغي الاستقصائي الدقيق لاثبات أن صرف الناس عن الإتيان بمثل القرآن هو أمر واقع بالفعل.
وقد ذكر آخرون وجوها أخرى للإعجاز كالإعجاز التاريخي وشمولية الشريعة التي جاء بها ( محمود شيخون في كتاب الإعجاز في نظم القرآن) وكذلك الإعجاز العلمي ( راجع كتاب "فكرة إعجاز القرآن" لنعيم الحمصي والذي ينسب لأبي حامد الغزالي أنه أول من قال بالإعجاز العلمي).
لقد أدى الاهتمام ببلاغة القرآن إلى نشأة مشروع بحثي مختص بالقيم الجمالية يتعلق خصيصا بمسألة الجمال اللغوي. وسعى العلماء المشاركون في هذا المشروع البحثي إلى تفصيل و تصنيف السمات اللغوية التي تساهم في إضفاء الجمال على نصوص اللغة، وهذا بغرض الكشف عن وجوه الإعجاز القرآني. فإعجاز القرآن لا يكمن في مضمونه بل في الطريقة التي يوصل بها هذا المضمون ( قلت: وهذا لا يعني نفي الإعجاز عن المضمون مطلقا كما قد يتوهم البعض بل المقصود قصر التحدي على الإعجاز البلاغي دون المضمون لأن القرآن لم يتحداهم بإعجاز المضمون وإن كان معجزا في نفس الأمر وهذه مسألة فيها كثير من التفصيل ليس هذا موضع بسطه).
لقد حاول علماء الإعجاز أن يطرحوا تصورا موحدا شاملا عن قيمة الجمال الأدبي والذي يصلح أن يكون بمثابة معيار لنقد النص سواءا كان هذا النص كلاما بشريا أو كلام الوحي. وقد ذهبتُ في هذا الفصل للقول بأن هذا المعيار اعتمد أيضا على القدرة على إثارة العجب والروعة في نفس المستمع.
و إثارة ذلك الشعور بالعجَب والروعة في نفس المستمع من النص القرآني يرجع بشكل أساسي إلى الطريقة التي صيغت بها العبارات القرانيةوهو ما يعرف بالنظم.
ففضلا عن العجز عن معارضة القرآن فإن إعجازه يشهد له تأثيره غير المعتاد على مستمعيه. بل ذهب أبو سليمان الخطابي (في "بيان إعجاز القرآن") وهو من أوائل المصنفين في إعجاز القرآن إلى أن تأثير القرآن على مستمعيه بمفرده يدل على إعجازه.
فالقرآن نفسه يصف تأثيره على مستمعيه بأنه تقشعر منه الجلود فقال: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم. وذكر أن الجن الذين سمعوا القرآن وصفوه بأنه عجب فقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا.
وكون ذلك الأثر نابع من فصحاته وبلاغته يشهد له ما قيل ( من قبل المؤلفين في الإعجاز القرآني) عن التجربة الشعورية الجمالية التي يحدثها الكلام البليغ في النفس. فعلى سبيل المثال يقول الباقلاني (توفي 403 هـ) في كتابه "إعجاز القرآن": وإذا علا الكلام في نفسه، كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس، ما يذهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويضحك ويبكي، ويحزن ويفرح، ويسكن ويزعج، ويشجي ويطرب. ويهز الأعطاف، ويستميل نحوه الأسماع ... وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة. وبحسب ما يترتب في نظمه، ويتنزل في موقعه، ويجري على سمت مطلعه ومقطعه - يكون عجيب تأثيراته، وبديع مقتضياته.
وقد استخدم عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز" مفردات شبيهة في وصف الكلام البليغ ككونه يبهر النفس ويملأ المرء بالهيبة و الروعة.
وبالنظر لرؤيتهم في إعجاز القرآن أنه يكمن في نظمه فلنا أن نفترض أن النظم هو ما يبهر المرء ويملأ النفس بالعجب.
وفيما يلي من صفحات الكتاب سأبدأ أولا بالنظر إلى معالجة الجرجاني لمسألة النظم في كتابه "دلائل الإعجاز". ثم سأتناول تطور فكرة النظم في كتابات " يوسف بن أبي بكر السكَّاكي" و "الخطيب القزويني" حيث باتت دراسة النظم أحد فروع علم البلاغة الثلاثة الذي يعرف بعلم المعاني. وبينما ينصب علم البيان على كيفية دلالة الألفاظ المفردة أو مجموعة من الألفاظ على معانيها المرادة، فعلم المعاني ينصب على كيفية توصيل المعنى من خلال بنية الجملة وطريقة صياغتها. وبناءا على مبدأ الاكتشاف الذي نوقش في الفصل الثالث من هذا الكتاب والذي بينه الجرجاني في كتاب "أسرار البلاغة" سأفترض أن القيمة الجمالية للنظم مدارها حول التصرف في بنية وصياغة الجُمل بحيث يصبح اكتشاف معناها ليس بطريقة مباشرة. فكلما زاد الجهد والوقت والتدبر الذي يستعمله المرء في استيعاب المعنى كلما كان اكتشافه لذلك المعنى أكثر لذة وإثارةً للعحب.
إذا كيف تمكن علماء البلاغة من التفريق بين العجب الذي يُورِثه القرآن وذاك الذي يورثه بيت جيد من الشعر. فلابد من رسم خط دقيق بين ما هو عجيب، وهو وإن كان ليس أمرا معتادا ولكنه لا يزال في استطاعة البشر، وبين ما هو معجز، أي ما هو خارج عن نطاق قدرة البشر ويمكن لمثله أن يكون نابعًا فقط من مصدر إلهي.
لكن هدفي ههنا ليس هو تحديد أين رسموا ذلك الخط أو إلى أي حد تكللت جهودهم بالنجاح، بل ما يهمني في هذا المقام هو فهم طريقة تفكيرهم وتحديد المعايير الجمالية التي شكلت حافزا لاستدلالهم على إعجاز القرآن. واقتناع القارىء أو عدمه بما قدموا من دلائل ليس هو موضوعنا. ما يهمنا هو العلاقة بين البلاغة والفصاحة والتجربة الشعورية الجمالية التي تورثها في النفس.
ما يهمني في هذا المقام هو فهم كيفية تحقيق العلاقة بين البلاغة والروعة أو العجب الذي يورثه الكلام البليغ في النفس. بعبارة أخرى، أنا أنظر إلى ذلك التنظير لقضية الإعجاز من منظور جمالي بحت، وأنحي السجالات الدينية والعقائد جانبا.
إن مفهوم النظم لم يتلق نفس القدر من الاهتمام، من جانب الدراسات الحديثة في مجال النظرية الأدبية العربية التقليدية، الذي تلقته جوانب أخرى من البلاغة كعلم البديع. وفي حين أن محط اهتمام النقد الشعري هو علم البديع، فقد كمّل النقد القرآني ذلك بإضافة مكون النظم اللغوي.
ولذلك من المهم أن يتضمنه البحث في مسألة نظرية الجمال والذوق في نسختها العربية. والباحثون الذين درسوا مسألة النظم وعلم المعاني في العصر الحديث قد عالجوا تلك المسألة، وقد أحسنوا صنعا، من منظور علم اللسانيات linguistics وعلم التداولية pragmatics وعلم النحو. وببساطة فإن فك رموز هذا الحقل الدراسي الذي يتسم بقدر كبير من الاصطلاح الفني لهو انتصار بحد ذاته.
وفي هذا الفصل من الكتاب، أسعى إلى البناء على جهود هؤلاء الباحثين الذين تناولوا هذا الحقل بالدراسة، لبحث الصلة بين هذه النقاشات الفنية من جهة والبلاغة من جهة، وبشكل أكثر تحديدًا، العجب أو الروعة. ولا أحاول ههنا أن أقدم ملخصا شاملا لمختلف المكونات اللغوية لمفهوم النظم وتطوره لاحقًا إلى علم المعاني.
ومع ذلك، فمن خلال أمثلة مختارة، أسعى لإظهار أن تصورهم للبلاغة في صياغة الجُمل ناتج عن تراكيب لغوية ونحوية تسمح بخوض تجربة اكتشاف لولا تلك التراكيب لم تكن تلك التجربة ممكنة. لقد بين الجرجاني كيف أن الانتباه إلى مقتضيات الاختيارات المتعلقة ببناء الجمل يضيف فارقًا دقيقًا ومعنى للجملة. فهذا المعنى الإضافي، الذي يُنقل على نحو غير مباشر من خلال التصرف الدقيق في بناء الجملة يقوي من بلاغة العبارة لأنه بحاجة إلى تأويل واستنباط. وذلك المعنى الإضافي اعتُبر لاحقا في علم المعاني مطابقةً لمقتضى الحال.
وهذا بمعنى أن الكيفية التي تصاغ بها الجملة يمكن أن تخبر عن الحال أو السياق الذي قيلت فيه. بل أحيانا صياغة الجملة على نحو يخالف ما يقتضيه الحال يقوي من بلاغة العبارة كما سنرى. لقد اقتُرحت تعريفات متنوعة للبلاغة وفروعها من قِبَل العلماء المشتغلين بمسألة إعجاز القرآن ابتداءًا من القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي. ومن الواضح أن بعضها استُمد من مجال النقد الشعري، الذي كان لايزال وقتها في طور النشوء ... لكن ما استجد كشأن خاص بمسألة الإعجاز هو مفهوم النظم.
البناء اللغوي الخاص بالقرآن يبدو أنه كان الركيزة التي أسس عليها الجاحظ برهانه على إعجاز القرآن. وبالرغم من أن هذا الكتاب مفقودٌ الآن إلا أنه عنوانه " في الاحتجاج لنظم القرآن وسلامته من الزيادة والنقصان " يدل على ذلك.
وهذا يؤكده عبارات أخرى واردة في كتابات الجاحظ التي لا تزال متاحة في وقتنا الحاضر مثل قوله: "وفي كتابنا المنزّل الذي يدلّنا على أنّه صدق، نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد، مع ما سوى ذلك من الدّلائل التي جاء بها من جاء به".
وكذلك أقدم الرسائل المتاحة التي تناولت مسألة الإعجاز من القرن العاشر الميلادي أعطت الأولوية لمسألة النظم وإن اختلفت طرق تناولها للمسألة. قسّم أبو الحسن الرماني في كتابه" النكت في إعجاز القرآن" البلاغة إلى عشرة أقسام متضمنا ذلك المحسنات البديعية، كالجناس، والاستعارة والتشبيه كمكونات رئيسية للبلاغة.
إلا أنه في نهاية الأمر جعل إعجاز القرآن في تأليفه أو نظمه. ذهب الباقلاني في فترة لاحقة إلى أن البديع وإن كان من شأنه أن يضيف إلى جمال النص القرآني إلا أنه ليس هو ما يجعله معجزا. وهذا لسببين أولهما أنه بالرغم من أن كل القرآن معجز إلا أنه ليس كل آياته تستعمل المحسنات البديعية. ثانيهما أن المحسنات البديعية هي مهارة فنية يكتسبها الناس ويبرعون فيها بالممارسة.
في المقابل فقد جعل إعجاز القرآن في النظم والتأليف والاتساق في جودة النظم الفائقة في النص القرآني بأجمعه. وقد شكل النظم أيضا جزئية رئيسية في حجة الخطابي على إعجاز القرآن في كتابه "بيان إعجاز القرآن" فيقول: "واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأَنه جاءَ بأَفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصح المعاني". لقد حدد الخطابي ثلاثة جوانب للكلام: اللفظ، والمعنى، والشيء الذي يربط بينهما في نسق (أي النظم). وقد ناقش كل جانب من هذه الجوانب، لكنه أكد بشكل خاص على النظم فيقول: "وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني وبه تنتظم أجزاء الكلام , ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان". وفي حين اعتمدت حجج الإعجاز على النقاشات الدائرة حول الشعر في القرنين الثالث والرابع، فإن الدلائل التي ساقها العلماء القدامى استندت في النهاية إلى النظم بدلاً من البديع. وهكذا أضاف الاهتمام بإعجاز القرآن جانبًا جديدًا من البلاغة إلى قائمة المكونات التي تناولها بالتحليل نقاد الأدب. ومع ذلك ، فإن الوصف الأكثر شمولاً لمفهوم النظم لم يظهر حتى حلول القرن التالي مع أطروحة عبد القاهر الجرجاني عن إعجاز القرآن في كتاب "دلائل الإعجاز".

عبد القاهر الجرجاني
جعل الجرجاني منبع جمال الكلام في ثلاثة عناصر الأول: الفكرة التي يراد التعبير عنها، الثاني: الألفاظ المفردة المستعملة في التعبير عن المعنى، والثالث: كيفية تأليف تلك الألفاظ في عبارة (النظم). تجتمع كل هذه العناصر معًا لتكوين صورة فريدة لفكرة معينة، شيء يسميه (صورة المعنى). عندما يتعلق الأمر بإعجاز القرآن ، يرى الجرجاني صراحة أنه لا يكمن في محتواه. ليست مضامين القرآن نفسها هي ما يجعله خارقا للعادة، إذ يمكن للناس في النهاية أن يعيدوا صياغة تلك المضامين التي عُبّر عنها في القرآن بألفاظهم الخاصة، وهو يرى بدلاً من ذلك أن إعجاز القرآن يكمن في الطريقة التي يعبر بها عن المضامين ، أي صورتها. وبالتالي، فإن التحدي المتمثل في الإتيان بشيء مثله يمثل تحديًا لمضاهاة صورته وشكله. وبالنظر إلى أن المضمون خارج المعادلة (1)، فإن العناصر المتبقية التي تضفي الجمال على الخطاب هي الألفاظ المفردة والنظم. تساهم الألفاظ المفردة أو الألفاظ المركبة، كما رأينا في الفصل الرابع، في بلاغة العبارة عندما تشير إلى معناها بشكل غير مباشر.
لذلك، فإن الألفاظ المفردة لديها القدرة على التأثير في "صورة المعنى" النهائية عندما تعبر عن هذا المعنى من خلال الاستعارة أو المجاز والكناية. ومع ذلك، فإن النظم له الأولوية كمكون من مكونات البلاغة لا غنى عنه والذي تعتمد عليه الاستعارة والكناية. وبالرغم من أن إعجاز القرآن يكمن أيضًا في استخدامه للاستعارات، والمجاز بوجه عام (2)، والمعاني التي يعبر عنها بطريق غير مباشر من خلال الكناية بدلًا من التعبير المباشر، فإن النظم هو الجانب الأساسي الذي يجعل القرآن معجزا. الجرجاني أوضح بشكل مبدئي أن النظم ليس إلا أن تضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو ومع ذلك، كما بين الجرجاني، فإن الأمر ينطوي على ما هو أكثر من مجرد استعمال القواعد بشكل صحيح فقال: "فليس الفضْلُ للعلم بأنَّ "الواو" للجمع، و"الفاء" للتعقيب بغير تَراخٍ، و"ثم" له بشرطِ التَراخي، و"إنْ" لكذا و"إذا" لكذا، ولكنْ لأَنْ يتأتَّى لكَ إِذا نظَمْتَ شعراً وألَّفْتَ رسالةً أنْ تُحْسِنَ التخيُّرَ، وأن تَعْرِفَ لكلٍّ مِنْ ذلك مَوضِعَه". ويعرف النظم في موضع آخر بالقول: وذلك أن "النظم"، كما بينا، إنما هو توخّي معاني النحو وأحكامِه وفروقِه ووُجوهه، والعملُ بقوانينه وأُصولِه.
لذلك، فإن النظم ينطوي على إدراك كيف أن بناء الجملة وفق قواعد النحو يؤثر على معناها العام. إن بلاغة النظم ليست مجرد توخي قواعد النحو، بل هي استعماله بطريقة تتطلب الاستنتاج. وكما أن الألفاظ المفردة التي تستعمل في معانها الحرفي لا تلعب أي دور في البلاغة كما رأينا لأنها لا تتطلب الاستنباط أو التأويل، قكذلك لا يمكن نسبة البلاغة على مستوى الجملة إلى مجرد السلامة من الأخطاء النحوية. و ذلك لأنه كما قال الجرجاني: " لا يكونُ تَرْكُ خطأٍ تَرْكاً ( أي يعتد به) حتى يُحتاجَ في التحفُّظِ منه إِلى لُطْف نظَرٍ، وفَضْل رويةٍ، وقوةِ ذهنٍ، وشدةِ تيقظٍ."
فالجرجاني يؤكد أَنَّ المزيّةَ (أي ما يمتاز ويفضُل به الكلام)، هي ما يتطلب الفكْرُ والنظَرُ. ويفصل الجرجاني ذلك في موضع آخر قائلا: "ومِنْ ههنا لم يَجُزْ، إذا عُدَّ الوجوهُ التي تَظهر بها المزيةُ، أنْ يُعَدَّ فيها الإعرابُ؛ وذلك أنَّ العِلْم بالإِعرابِ مشترَكٌ بينَ العَربِ كلِّهم، وليس هو مما يُسْتنبَط بالفكْرِ، ويُسْتعانُ عليه بالرويَّة؛ فليسَ أحدُهم، بأنَّ إعرابَ الفاعل الرفعُ أو المفعولِ النصبُ، والمضاف إليه الجرُّ، بأعلم من غيره ولا ذاك مما يَحتاجون فيه إلى حِدَّةِ ذهنٍ وقوةِ خاطرِ، إنما (الوضع أو الحال) الذي تقَعُ الحاجةُ فيه إلى ذلك ( أي حدة الذهن وقوة الخاطر) هو العلم بما يُوجِبُ الفاعليةَ (أي صفة الفاعل) للشيءِ إذا كان إيجابُها ( لذلك الشيء) من طريقِ المجازِ، كقولهِ تعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم. (حيث أسند فعل الربح للتجارة وليس التاجر) وكقولِ الفرزْدق: سقْتها خروقٌ في المسامِعِ (حيث أسند فعل سقي الإبل إلى الثقوب التي في الآذان). وأشباهِ ذلِكَ، مما يَجعلُ الشيءَ فيه فاعلاً (بناءا) على تأويل ... وليس يكونُ هذا علماً بالإِعراب، ولكن بالوصْفِ الموجبِ للإِعراب ( بمعنى أي شيء أوجب هذه الصفة الإعرابية أو تلك لهذا اللفظ أو ذاك".
سأناقش الأمثلة التي أوردها هنا بعد قليل، لكن يمكننا بوجه عام أن ندرك من هذا المقطع أن النظم، على خلاف مجرد توخي قواعد النحو ، يتضمن تراكيب للعبارات تتطلب جهدًا فكريًا معينًا لتأويلها. فتوخي القواعد النحوية يوصل الفكرة بشكل كاف، ولكن ما يعطي الكلام مزية هو الاهتمام والوعي بخصائص ومقتضيات بعض التراكيب النحوية، والتي تتطلب تأويلا. فهذه هي الوسيلة التي تنشأ بها الفوارق في الجودة النهائية لصورة المعنى ( أي القالب الذي يصاغ فيه المعني).
يتبع
--------------------------
(1) قلت: كون المضمون لا دخل له بإعجاز القرآن اللغوي فيه نظر لأن المعنى الذي يراد التعبير عنه لاريب له أثر في الناتج النهائي. وأضرب لذلك مثلا بالقطع الفنية فلو قلنا أن المعنى هو المادة الخام التي يراد صياغتها في صورة معينة لقلنا أن الحلي التي تصاغ على صورة معينة من الذهب بمنزلة التي تصاغ من الخشب على نفس الصورة!. ولذلك تجد الشعر الذي يتضمن حكمة ويكون على درجة معينة من الإتقان في الصياغة أكثر جمالا وأشد أثرا في النفس من الشعر المجرد من الحكمة أو الذي يتناول سفاسف الأمور ويكون على نفس الدرجة من الإتقان في الصياغة. وهذا يفسر لماذا بعض القرآن أفضل من بعض، في أحد قولي العلماء، وعليه تدل ظواهر الآيات كقوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"، وقوله تعالى: "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم". ولأن الآية اسم للمعنى والصورة جميعا ولأنه لا يجوز أن يتفاوت القرآن في حسن الصياغة فالتفاضل في الآيات يرجع إلى المعنى)
(2) سأفهم المجاز في هذا السياق بمعنى استعمال اللفظ في غير الاستعمال الشائع (بخلاف استعماله في غير المعنى الذي وضع له) إعمالا لنظرية المعنى عن ابن تيمية رحمه الله وخروجا من الخلاف حول وجود المجاز في القرآن.

* Naẓm, Wonder, and the Inimitability of the Quran in Arabic Poetics: Aesthetic Experience in Classical Arabic Literature

Mahmoud Muhammad
08-01-2023, 09:51 PM
يمكن للتراكيب النحوية نفسها أن تكون مجازية، كما سنرى في القسم التالي، ومن ثم تقتضي الاستنباط لفهم معانيها. وهذا التركيب المجازي يختلف عن المجاز في الألفاظ المفردة التي واجهناها في الفصل الرابع عند الحديث عن علم البيان، كما سأوضح فيما يلي. خلافًا لذلك، يمكن أن يعطي بناء الجملة معاني ويضفي فارقًا دقيقا من خلال التصرف في التراكيب النحوية، مثل: (أ) تغيير موضع الكلمة في الجملة ، (ب) حذف بعض الألفاظ التي كان ينبغي أن تُضمّن في غير هذا السياق، (ج) استعمال اسم معرفة بدلا من النكرة ، (د) استعمال العطف أو إهماله ، و (هـ) واستعمال الحروف العاملة مثل إن ، وهو حرف توكيد يأتي بمعنى "حقا" أو "في الحقيقة". كل هذا التصرف يضفي معنى إضافيًا يقتضي الاستنباط ، كما سنرى في ما يلي.

المجاز في النظم
في المقطع المقتبس أعلاه، من بين الأمثلة التي قدمها الجرجاني للتراكيب النحوية التي تتطلب "استنباطا دقيقا" هو الإسناد المجازي لفعل ما إلى فاعل ما ، وهو ما يسميه المجاز الحكمي. يستشهد الجرجاني في المقطع المذكور كمثال على هذا الإسناد المجازي بالآية القرآنية "فما ربحت تجارتهم" لأن الفعل "ربح" أسند مجازا للتجارة.
وهذا بمعنى أنه بالرغم من أن التجارة جُعلت فاعلا في الجملة من الناحية النحوية إلا أنه في واقع الأمر من لم يربح هم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى المذكورين من قبل في سياق الآية. وفي موضع آخر يتساءل الجرجاني: "ومَنْ الذي يَخْفى عليه مكانُ العُلُوِّ وموضِعُ المزية وصورةُ الفُرقان (أي الفارق) بينَ قولِه تعالى {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، وبينَ أنْ يُقال: "فما رَبحوا في تجارتِهم؟". ولمزيد من الإيضاح يستشهد الجرجاني بهذا البيت من شعر الفرزدق: "يحمي إذا اختُرط السيوفُ نساءنا .... ضربٌ تطير له السواعد أرْعَلُ". ((أي ضرب أرعل (شديد) تطير له السواعد (أي تتطاير بسببه) هو ما يحمي النساء إذا استلت السيوف من أغمادها)).
فالجرجاني يثني بشدة على وضوح رونق هذا البيت مقارنة بالصياغة الحرفية لمعناه والتي ستجعل الفاعل صراحة هو الضمير "نحن" بدلا من إسناد الفعل إلى الضربات القوية إسنادا مجازيا كأن يقول: نحن نحمي نساءنا إذا اخترطت السيوف بضرب أرعل تطير له السواعد. فالفضل يرجع للتركيب النحوي، الذي يسند فعل الحماية إسنادا مجازيا للضرب الشديد، في إضفاء ذلك الرونق على البيت الشعري وليس استعمال ألفاظ مفردة على نحو مجازي. فلفظ الحماية استعمل في معناه الحقيقي على كل حال. ونفس الأسلوب استعمل في البيت الآخر للفرزدق الذي أشار إليه في تناوله لمسألة النظم في المقطع المقتبس من كتابه سابقا. والبيت بتمامه على النحو التالي: سقتها خروق في المسامع ... لم تكن علاطا ولا مخبوطة في الملاغم.(وخروق أي ثقوب والمسامع أي الآذان والعلاط خط يوضع كعلامة على جانب العنق والمخبوطة من خبط البعير أي وسمه بالخباط أي سمة أو علامة والملاغم أي الأفواه وما حولها مما يدركه لسان البعير).
وإذا أخذنا بشرح "المُبَرَّد" (أبو العباس محمد بن يزيد)، الفقيه اللغوي الذي عاش في القرن الثالث الهجري، لهذا البيت فالمقصود أن أصحاب البئر يعلمون إلى من تنتمي تلك الإبل وما يعلمونه عن أصحابها من قوة وسطوة كاف وحده ليؤمن مياه البئر لتلك الإبل دون الحاجة إلى وضع علامات عليها. فالشاعر يسند فعل السُقيا مجازا إلى سمعة الإبل وأصحابها في حين أن من سقى الإبل في الحقيقة هم أصحاب البئر. فالجرجاني يؤكد على أن إسناد صفة الفاعل للسمعة هو ما يقتضي إعمالًا للذهن وليس الاستعمال المجازي للفظ سقى والذي استعمل في معناه الحقيقي.

معنى النحو في مقابل معنى المعنى
ما هو الفرق بين هذا النوع من المجاز، والذي ينشأ عن التركيب النحوي المجازي (أي معنى النحو)، ونوع المجاز الذي واجهناه في الفصل 4 ، والذي ينشأ عن دلالات الألفاظ المفردة (أي معنى المعنى)؟ كلاهما يستلزم نقل المعنى بطريقة مجازية. ومع ذلك ، فإن النظير الحرفي لكل منها مختلف. في حالة النظم، المعنى الحرفي الذي يجب تفسيره بطريقة مجازية ناتج عن تفسير التراكيب النحوية التي ينشئها المؤلف. ولذلك، يصفه الجرجاني بـالمجاز العقلي لأن نفس المعنى الحرفي للتركيب النحوي يقتضي التأويل. في الألفاظ المفردة، من ناحية أخرى، فإن المعنى الحرفي الذي يجب تأويله على نحو مجازي يُحدد من خلال اصطلاح الناس على ذلك المعنى (أي اصطلاحهم على استعمال ذاك اللفظ في ذلك المعنى). ونتيجة لذلك، يصفه الجرجاني بأنه "مجاز لغوي" لأن المعنى الحرفي تحدده المعاجم اللغوية. وكمثال على النوع العقلي من المجاز هو عبارة "وشَّى الربيعُ (الحدائق)" (وشَّى أي زيّن). فالمعنى الحرفي الذي ينبغي تأويله بطريقة مجازية هو إسناد فعل التوشية أو التزيين لفاعل لا يمكنه في في الواقع أن يكون فاعلا لذلك الأمر ألا وهو الربيع. فهذا الإسناد في البداية لابد أن يُعقل بناءا على العلاقة النحوية بين الألفاظ في الجملة.
فهذا الإسناد لا يمليه أي عرف او اصطلاح لغوي بل جُعل كذلك في تلك الجملة المعينة من خلال وقوع الربيع فاعلا في الجملة. فالمعنى الحرفي للجملة يجب أن يُعقل أولا ثم يمضي المستمع قدما في تفسير المقصود منه على أن الربيع هو سبب وجود الأزهار التي تبدو وكأنها زينة. ولذا فالجرجاني يصف هذا النوع من المجاز الذي ينشأ في سياق جملة بالمجاز العقلي لأن المعنى الحرفي يجب أن يعقل أولا.
اختلف الشراح اللاحقون حول تصنيف المجاز العقلي ضمن علم المعاني أو ضمن علم البيان كسائر أنواع المجاز. فقد ذهب السكَّاكي إلى تصنيفه ضمن علم البيان، بينما انتقده الخطيب القزويني بهذا الخصوص وصنف المجاز العقلي ضمن علم المعاني حيث أضاف بعض النقاش حول الحقيقة العقلية، والتي تقتضي تراكيب نحوية تُراد وفق معناها الحرفي، والمجاز العقلي الذي يقتضي علاقات نحوية مجازية كما هو الحال في الأمثلة المضروبة من قبل. وبصرف النظر عن التصنيف اللاحق فإن تمييز الجرجاني بين نوعي المجاز يلقي بالضوء على الفارق بين وظيفة اللفظ المفرد كدلالة على المعنى وبين وسائل نقل المعنى من خلال بناء الجملة. فالمعنى الغير مباشر في المجاز اللغوي يعتمد على الدلالة غير المباشرة للألفاظ المفردة بينما في حالة المجاز العقلي يعتمد على التركيب النحوي.

يتبع
--------
شراء الضلالة بالهدى قد يكون من باب " تكلفة الفرصة البديلة" في علم الاقتصاد. فالإنسان إما أن يبذل ماله ويفني عمره في طريق الهداية أو الضلال فعليه أن يختار بينهما وتكلفة الاختيار الحقيقية هي البديل الذي كان من الممكن أن يبذل فيه ما يملك من مال وعمر وشباب وعلم. ولذا فمن اختار الضلالة فقد اشتراها بالهدى.

Mahmoud Muhammad
08-07-2023, 01:27 AM
النظم والبلاغة
قد علمنا أن بناء الجملة هو أحد السبل التي يمكن من خلالها إسناد الفعل مجازا إلى فاعل ما، ولذا فهو أحد الطرق التي يقتضي بها الكلام الفكر والنظر لفهم المراد به. إلا أن هناك وسائل أخرى عديدة لإيصال معان إضافية بوجوه تقتضي الاستنباط والتأويل مثل ترتيب الألفاظ والحذف واستعمال الأحرف و الأدوات المختلفة. وفيما يلي سنلقي بالضوء على مجموعة مختارة من تلك الوسائل التي ناقشها الجرجاني في "دلائل الإعجاز".

التقديم والتأخير
التقديم والتأخير يقتضي تغيير ترتيب أجزاء الكلام مثل وضع الخبر قبل المبتدأ أو المفعول به قبل الفاعل. أشار الجرجاني إلى أنه في كثير من الأحيان عندما "تَرى شِعراً يروقُك مسْمَعُه، ويَلْطُف لديك موقعُه، ثم تنظرُ فتجدُ سببَ أَنْ راقكَ ولطفَ عندك، أن قُدِّم فيه شيءٌ، وحُوِّل اللفظُ عن مكانٍ إلى مكان".
تأثير هذه الظاهرة على معنى الجملة نوقش في مرحلة مبكرة من قبل علماء النحو حيث نجده في كتاب سيبويه. وهو أول من وضع كتابا في علم النحو في القرن الثاني الهجري. فعل سبيل المثال جملة "قتل زيدٌ الخارجيَّ" في مقابل "قتل الخارجيَّ زيدٌ" هو اختلاف يحدث نتيجة تقديم المفعول به على الفاعل مع الإبقاء على الحركات الإعرابية التي تدل على الموقع الإعرابي لكل لفظ في الجملة.
فغرض العبارة الأولى الإخبار أن من قام بفعل القتل هو زيد. فعنصر المفاجأة كما يقول فخر الدين الرازي هو صدور فعل القتل عن زيد وليس وقوعه على الخارجي. بينما غرض الجملة الثانية هو التأكيد على أن من وقع عليه القتل هو الخارجي. أشار الجرجاني إلى أن كثير من الناس يظن أن غرض التقديم هو التوكيد إلا أنه يلفت النظر إلى أن تغيير ترتيب الألفاظ في الجملة له آثار على المعنى.
يقول الجرجاني: "فإِذا قلْتَ: "أزيداً تضربُ؟ "، كنتَ قد أَنكرْتَ أن يكونَ "زيدٌ" بمثابة أن يُضرَبَ، أَو بموضعٍ أن يُجْترأَ عليه ويُسْتَجازَ ذلك فيه، ومِن أَجْل ذلك قُدِّمَ "غير" في قولهِ تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: ١٤] وقولهِ عزَّ وَجَلَ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: ٤٠]، وكان له من الحُسْن والمزيَّة والفخامة، ما تَعلمُ أنه لا يكونُ لو أُخِّرَ فقيلَ: "قلْ أأتخذ غير الله وليًا" و"أتدعون غيرَ الله؟ "وذلك لأنه قد حصَل بالتقديم معنى قولك: "أيكون غير الله بمثابة أن يتخذ ولياً؟ وأَيرْضى عاقلٌ مِنْ نفسهِ أنْ يفعلَ ذلك؟ وأيكونُ جهلٌ أجهلَ وعمّى أعمى من ذلك؟ "، ولا يكونُ شيءٌ مِن ذلك إِذا قيلَ: "أأتَّخِذُ غيرَ الله ولياً"...وكذلك الحكْمُ في قولِهِ تَعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: ٢٤] ، وذلك لأنهم كُفْرَهم على أَنَّ مَنْ كان مثْلَهم بَشَراً، لم يكُن بمثابةِ أنْ يُتَّبع ويُطاع، ويُنْتَهَى إِلى ما يَأْمر، ويُصدَّقَ أَنه مبعوثٌ منَ الله تعالى، وأنهم مأمورون بطاعتهِ".
فتغيير ترتيب الكلمات في الجملة من شأنه أن يضفي معنى إضافيا غير مجرد التوكيد. ومع ذلك، ما الذي يجعل إضافة المعنى من خلال تغيير ترتيب الكلمات أكثر تميزا وبلاغة من ذكره بطريقة مباشرة؟. في مناقشته لآية قرآنية أخرى ، يشير الجرجاني إلى "فخامة" ذكر كلمة "شركاء" قبل "الجن":" وجعلوا لله شركاءَ الجنَّ". فلو ذكرت كلمة شركاء بعد الجن فقيل "وجعلوا الجن شركاء لله" لفقدت الجملة جمالها ورونقها. وسبب ذلك كما يقول الجرجاني: "هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلاً لا سبيلَ إِليه مع التأخير. بيانه، أنَّا وإنْ كنَّا نرى جملةَ المعنى ومحصولَه أنَّهم جعلوا الجنَّ شركاءَ وعبدوهُمْ مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يَحصُلَ مع التأخيرِ حصولَه مع التقديمِ، فإِنَّ تقديمَ "الشركاءِ" يفيدُ هذا المعنى، ويفيدُ معه معنى آخر، وهو أنه ما كانَ يَنبغي أن يكونَ لله شريكٌ، لا من الجن ولا غير الجن".
كلتا العبارتين تنقلان المعنى العام أنهم جعلوا الجن شركاء لله وعبدوهم. ومع ذلك ، فإن تقديم "شركاء" ينقل المعنى الإضافي الذي مفاده أنه "لا ينبغي أن يكون هناك شركاء لله، سواء من الجن أو من غيرهم". تأخير "شركاء"، من ناحية أخرى، يعطي الانطباع بأن كون الجن بالتحديد جُعلوا شركاء هو المشكل، وليس الشرك بحد ذاته. فإن أردت أن تضيف المعنى الذي حققه النظم القرآني للعبارة السابقة فعليك أن تقول: "وجعلوا الجن شركاء لله ولا ينبغي أن يكون هناك شركاء لله من الجن ولا من غيرهم". إن الفرق في البلاغة بين هذه العبارة الطويلة وبين ما استطاعت الآية القصيرة أن تنقله بإيجاز من خلال بنائها الخاص هو أمر واضح ، كما يقول الجرجاني. وبالتالي ، فإن ميزة بناء الآية القرآنية تكمن في حقيقة أنه يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ. بمعنى آخر، يُنقل المعنى الإضافي ضمنيًا ببساطة من خلال التصرف في ترتيب الألفاظ في الجملة، ما يجعل المستمع يخطو خطوات إضافيه في الفكر والنظر للوصول إلى المعنى بدلاً من التصريح له به.
((ذكر الجرجاني أنه مع تقديم لفظ الشركاء يكون الشركاء مفعول به أول و"الله" في موضع المفعول الثاني ويكون "الجن" منصوبا على تقدير كلام ثانٍ و على تقدير كأنه قيل: فمن جعلوا لله شركاء (أي في هذه الحالة المعينة)؟ فقيل "الجنَّ". وعلى هذا التقدير فالإنكار وقع على كون هناك شركاء لله من غير اختصاص شيء دون شيء، وحصل من ذلك أن اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار كما دخل اتخاذه من الجن))
فضلا عن ذلك فإن جذب الانتباه إلى شيء ما في بداية الجملة قبل إيضاح ما الذي يُراد به له أثر "الإضمار". فعلى سبيل المثال الآية القرآنية: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". أوضح الجرجاني أن تقديم ذكر الفاعل في صورة مبهمة بقوله "فإنها" يضفي فخامة ورونق على العبارة وهو الشيء الذي ما كنا لنجده لو قيل: "فإن الأبصار لا تعمى". في حين أنه في المثال السابق أثير ذهن المستمع لأن تغيير ترتييب الألفاظ يضيف معنى بطريقة غير مباشرة، ففي هذا المثال فإن اهتمام وفضول المستمع أثير من خلال الإبهام في البداية عن طريق استعمال "إنها".
والأمر يتضح أكثر بمثال آخر ناقشه الجرجاني وهو بيت من شعر أبي تمام يصف فيه مداد قلمه:
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه وأري الجنى اشتارته أيد عواسل
فلو فُسِّر هذا البيت على ظاهره وجعلنا لعاب الأفاعي مبتدأ و لفظ "لعابه" خبرًا لأفسدنا معنى البيت، لأن المقصود حينها سيكون تشبيه لعاب الأفاعي بالعسل الذي جُني أو جُمع ( أري أي عسل واشتارته أي جمعته وعواسل أي تجمع العسل). فالمقصود هو تشبيه مداد القلم وأثره تارة بسم الأفعى وتارة بالعسل. وهذا يمكن فقط من خلال اعتبار لفظ "لعابه" (يقصد به مداد القلم) مبتدأ مؤخرا فيكون أصل الكلام: لعابه لعاب الأفاعي وأري الجنى. فالمستمع عليه أن يعمل فكره ويستنبط ما الذي يُشَبَّه بماذا. وهو أمر لا يقتضيه بناء الجملة بناءها المعتاد بأن يأتي المبتدأ أولا. يقول الجرجاني: "واعلمْ أنه ليس مِن كلام يعمدُ واضِعُه فيه إلى معرِفَتَيْنِ فيجعلُهما مبتدأً وخبراً، ثم يقدِّمُ الذي هو الخبرُ، إلاَّ أشكلَ الأمرُ عليكَ فيه، فلَمْ تَعْلَمْ أنَّ المقدَّمَ خبرٌ، حتى ترجِعَ إلى المعنى وتُحْسِن التدبُّرَ".
يتبع

Mahmoud Muhammad
08-16-2023, 11:33 AM
الحذف
أحد ملامح بناء الجملة الذي من شأنه أن يثير الفكر والنظر هو الحذف. وهو يقتضي إزالة أجزاء من الكلام تتألف منها العبارة عادة مثل الفاعل والمفعول به. فالحذف أحد ملامح النظم وفي ذلك يقول الجرجاني: "هو بابٌ دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ بالسِّحْر، فإنكَ ترى به تَرْكَ الذِكْر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تُبن".
ذكر الجرجاني أن اختيار عدم ذكر أجزاء من العبارة من شأنه أن يوجه الانتباه إلى الجزئية من المعنى التي ينبغي صرف الذهن إليها. فعلى سبيل المثال إذا قلت "ضرب زيدٌ عمرو" و "ضرب زيدٌ" و "وقع ضرب". ففي الحالة الأولي فأنت تؤكد وقوع الضرب على عمرو، أما في الحالة الثانية فقد أسندت فعل الضرب للفاعل زيد لتؤكد على أنه من قام بالفعل، أما في الحالة الثالثة أُريد الإخبارُ بوقوعِ الضرْبِ ووجودِه في الجملة من غير أن يُنْسَب إلى فاعلٍ أو مفعولٍ، أو يتعرَّضَ لبيان ذلك.
فعل سبيل المثال في الآيتين القرآنيتين اللتين تذكران جانبا من قصة موسى في مدين فقد حذف المفعول به والذي تقديره "قطيع من الغنم" أو نحو ذلك في أربعة مواضع: "وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِى حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌفَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ".
فالمعنى أن يقال :"وجدَ عليه أمةَ منَ الناس يَسْقون" أغنامهم أو مواشيهم" و امرأتين تذودان"غنمهما" و قالتا لا نَسْقِي" غنمَنَا " فسقى لهما "غنمَهَما".
"ثم إنَّه لا يَخْفى على ذي بَصَرٍ أنه ليس في ذلك كلِّه (أي ما بين علامات التنصيص في العبارة السابقة) إلاَّ أن يُتْرَكَ ذِكْرُه ويُؤْتى بالفعل مطْلقاً، وما ذاك إلاَّ أنَّ الغرضَ أن يُعلَم أَنه كان منَ الرعاء في تلك الحال سَقْيٌ، ومن المرأتينِ ذَوْدٌ، وأنهما قالتا: لا يكونُ منَّا سقْيٌ حتى يُصْدِرَ الرعاءُ، وأنه كان مِنْ موسى عليه السلام من بعد ذلك سَقْي، فأمَّا ما كان المَسْقيُّ؟ أغَنماً أم إبلاً أم غيرَ ذلك، فخارجٌ عن الغرَض، ومُوْهِمٌ خِلافَه".
فبالرغم من أن الأفعال سقى وتذود (أي تكف الغنم أو الإبل عن بئر الماء كي لا تخلط بغنم الرعاه أو إبلهم) هي أفعال متعدية فخذف المفعول به يوضح المعنى أكثر من حالة عدم حذفه. وأضاف الجرجاني أنه إذ لم يحذف المفعول به فقيل: تذودان أغنامهما جاز أن يكون لا ينكر الزود لا من حيث هو ذود بل لا ينكر (أو يثبت) ذود الغنم تحديدا مثل أن يقال مالك تمنع أخاك؟ فهو لا ينكر المنع مطلقا بل منع الأخ.
ومثال آخر على الحذف إلا أن غرضه قد يبدو مختلفا عما مضى فهو لا يفيد صرف الذهن إلى جزئية معينة بل إلى تعميم المعنى، قول البحتري: إذا بَعُدَتْ أَبلَتْ، وإن قَرُبَتْ شَفَتْ ... فهِجْرانُها يُبْلي، ولُقيانُها يَشْفي. "قد عُلِمَ أنَّ المعنى: إذا بَعُدَتْ عني أَبْلَتني، وإنْ قَرُبَتْ مني شفَتْني إلاَّ أَنك تَجِدُ الشعرَ يأبى ذِكْرَ ذلك ... وذاك لأَنَّه أرادَ أن يَجْعل بِعادها يُوجِبَ البلى ويَجْلبه، وكأَنَّه كالطَّبيعة فِيه، وكذلك حالُ الشفاءِ معَ القُرب، حتى كأنه قال: أتدري ما بِعادُها؟ هو الداءُ المُضْني وما قُرْبُها؟ هو الشفاءُ والبُرْءُ مِنْ كلِّ داءٍ. ولا سبيلَ لك إلى هذا المعنى الدقيق، إلا بحذف المفعول". فالحذف إذا أضفى معنى إضافيا ما كان ليُضفى لولا الخذف. يقول الجرجاني: وليس لِنَتائجِ هذا الحذفِ، أعني حَذْفَ المفعولِ، نهايةٌ، فإنه طريقٌ إلى ضروبٍ من الصَّنْعة، وإلى لطائف لا تحصى.
أحد أكثر الشروح تفصيلا لفكرة الإبهام وما له من أثر في إثارة الفضول من خلال الحذف نجدها في كتاب البرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشي. فمن جملة فوائد الحذف ذكر الزركشي فائدة التفخيم والإعظام " لِمَا فِيهِ (أي الحذف) مِنَ الْإِبْهَامِ وذلك لِذَهَابِ الذِّهْنِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ وَتَشَوُّفِهِ إِلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ فَيَرْجِعُ قَاصِرًا عَنْ إِدْرَاكِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْظُمُ شَأْنُهُ وَيَعْلُو فِي النَّفْسِ مَكَانُهُ". كما أن إعمال الفكر والنظر في استنباط المحذوف له لذة وذلك لأنه "كلَّمَا كَانَ الشُّعُورُ بِالْمَحْذُوفِ أَعْسَرَ كَانَ الِالْتِذَاذُ بِهِ أَشَدَّ وَأَحْسَنَ".
ثم يورد الزركشي الاقتباس التالي من كتاب " منهاج البلاغة" لحازم القرطاجَنِّي: "إنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ مَا لَمْ شكل بِهِ الْمَعْنَى ( أي يصير مشكلا بسببه) لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. أَوْ يُقْصَدُ بِهِ تَعْدِيدُ أَشْيَاءَ فَيَكُونُ فِي تَعْدَادِهَا طُولٌ وَسَآمَةٌ فَيَحْذِفُ وَيَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَتُتْرَكُ النَّفْسُ تَجُولُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُكْتَفَى عَنْ ذِكْرِهَا بِدلالة الْحَالِ. قَالَ: وَبِهَذَا الْقَصْدِ يُؤْثَرُ (أي تجد الحذف) فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّعَجُّبُ وَالتَّهْوِيلُ على النفوس وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: "حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها " فَحَذَفَ الْجَوَابَ، إِذْ كَانَ وَصْفُ مَا يَجِدُونَهُ وَيَلْقَوْنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى فَجَعَلَ الْحَذْفَ دَلِيلًا عَلَى ضِيقِ الْكَلَامِ عَنْ وَصْفِ مَا يُشَاهِدُونَهُ وَتُرِكَتِ النُّفُوسُ تُقَدِّرُ مَا شَأْنُهُ وَلَا يُبْلَغُ مَعَ ذَلِكَ كُنْهُ مَا هُنَالِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ".
يعتبر هذا المقطع المقتبس من كتاب الزركشي ذا أهمية خاصة لأنه يروي صراحةً تجربة المستمع عند مواجهة الإبهام في العبارة ويربط صعوبة البحث عن المحذوف بدرجة اللذة الناتجة عن اكتشافه، بما يتماشى مع "مبدأ الاكتشاف" للجرجاني، الذي ذُكر من قبل. والأكثر دلالة هو اقتباسه من كتاب المنهاج للقرطاجني، والذي من المؤكد أنه يأتي من الجزء الأول المفقود من الكتاب. فها هو يربط هذه التجربة مباشرةً بالتعجب والتهويل.
إلا أن القرطاجني يؤكد على أن هذا الأثر ممكن فقط عندما يوفر السياق دلالة كافية على المحذوف وإلا فلا ينبغي الحذف كما هو الحال في البيت الشعري التالي لأبي الحسن الجوهري والذي ناقشه الجرجاني: فلم يُبقي مني الشوقُ غير تفكري ... فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا. ففي هذه الحالة فقد ذكر الشاعر المفعول به الذي وقع عليه فعل المشيئة وهو البكاء مطلقا. فهو لم يقل فلو شئت بكيت تفكرا. فعدم حذف المفعول به وهو البكاء مطلقا (أن أبكي) ينبغي في هذا السياق. فهو "لم يُردِ أَن يقولَ: ولَو شئتُ أن أبكي تفكُّراً بكيتُ كذلك، (فهذا ما سيتوهمه السامع لو حذف المفعول به) ولكنه أرادَ أن يقول .. حتى لو شئت بكاءا... وعصَرْت عيني ليسيلَ منها دمعٌ لم أَجدْه، ولخَرجَ بدلَ الدمع التفكُّرُ. فالبكاءُ الذي أرادَ إيقاعَ المشيئِة عليه مُطْلَقٌ مُبْهم غيرُ مُعَدَّى إلى "التفكُّر" البتَّةَ، و "البكاء" الثاني مقيَّد معدَّى إلى التفكُّر".
وفي مثال آخر على عدم استحسان الحذف أيضا قول الخُرَيمي: ولَوْ شِئتُ أَنْ أبْكي دماً لبَكَيْتُهُ ... عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أوْسَعُ. فتقدير ذلك على حذف المفعول به ( وهو قوله "أن أبكي دما")، وهذا كما في قوله تعالى: "{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (فالمحذوف هنا هو "أن يجمعهم" قد حُذف لدلالة السياق عليه)، أن يقولَ: "لو شئتُ بكيتُ دماً"، ولكنه كأنه تركَ تلك الطريقةَ وعدَلَ إلى هذهِ .. وسببُ حسْنِه أنَّه كأنهُ.. عجيبٌ أنْ يشاءَ الإِنسانُ أن يَبْكي دَماً. فلمَّا كان كذلك، كان الأَوْلى أن يُصرِّحَ بذِكْره ليقرِّرَهُ في نفسِ السِّامع ويُؤنِسَه به".
باختصار، يمكن للحذف - على عكس المتوقع - أن ينقل معنى إضافيًا.و يمكن أيضًا أن يبهم شيئًا للسماح بتجربة اكتشاف لدى المستمع. وهذا يعزز بلاغة العبارة وأثرها على المستمع. ومع ذلك، إذا كان الأمر غريبا أو جديدا، فإن التصريح بذكره يثبته في نفس المستمع ويؤنسه به.
يتبع

Mahmoud Muhammad
08-27-2023, 11:31 PM
أنواع الخبر أو المسند
يناقش الجرجاني أيضًا مختلف الصور التي يمكن أن يتخذها الخبر وتأثيرها على المعنى، بما في ذلك تأثير أن يكون لفظا معرفة أو نكرة.
على سبيل المثال، عن طريق جعل الخبر معرفة، مثل قول "زيد هو الكريم" أو "عمرو هو الشجاع "، يُشير ذلك إلى أن زيد وعمرو يجسدان معاني الكرم والشجاعة.
فأنت بذلك تحوّل الخطاب إلى صورة تجعل المرء يتخيّل أن الكرم والشجاعة لا يوجدان إلا في هؤلاء الأشخاص.
جعل الخبر معرفة يمكن أن يكون أيضًا وسيلة للإشارة إلى أن شيئًا ما معروف بالفعل ومثبت، وعلى أساس ذلك يبدأ الشاعر في بناء فكرة معينة. على سبيل المثال قول ابن الرومي:
هو الرجل المشروك في جل ماله ... ولكنه بالمجد والحمد مفرد
في هذه الحالة، لا ينقل استخدام الخبر المعرفة معنى أن ذلك الرجل يجسد صفة ما أو يتفاضل في تلك الصفة عن غيره، كما هو الحال في المثال السابق. بدلاً من ذلك، يعطي الانطباع بأن الشاعر يتحدث عن شخص مألوف بالفعل لدى المستمع، "كأنه يقولُ للسامع: فكِّرْ في رجلِ لا يتميزُ.. جيرانُه ومعارِفُه عنْهُ في مالِه وأَخْذ ما شاؤوا منه". فمن خلال بناء العبارة على هذا النحو "يُصَوِّر (الشاعر) في خاطرِ(المستمع) شيئاً لم يَره ولم يَعْلمه، ثم يُجْريه مُجْرى ما عَهِد وعَلِم".
ثم يعقد مقارنة بين صفة أن يكون واحدا ضمن العديد فيما يتعلق بالثروة وبين تفرده في عظمته وجلاله وجدارته بالثناء. وفيما يخص هذا الاستخدام للخبر المعرفة، يقول الجرجاني: "وهذا فنٌّ عجيبُ الشأنِ، وله مكانٌ من الفَخامةِ والنُبْل، وهو مِنْ سِحْر البيانِ الذي تَقْصُرُ العبارةُ عن تأديةِ حقِّه. والمُعَوَّلُ فيه على مراجعةِ النفسِ واستقصاءِ التأمُّلِ".
لذلك، فالدلالة الضمنية اللطيفة أو الدقيقة التي يمكن أن تُنقل من خلال استعمال أدوات التعريف والتنكير هي ما يضفي بلاغة على العبارة. وهنا مرة أخرى، ما يؤكد عليه الجرجاني هو حقيقة أن هذا النوع من المعنى الإضافي ليس ظاهرا أو صريحًا، بل يتطلب التفكير والتأمل.
الفصل والوصل
شيء قد يبدو غير ذي بال كإهمال العطف "بالواو" أو استعماله يمكن أن يكون له أثر كبيرٌ على المعنى. وقد نص الجرجاني على أن معرفة متى يجب عطف الجمل على بعضها ومتى يجب إهمال ذلك هو أحد أسرار البلاغة. فلذلك أهميته الكبيرة حتى "أنَّهم جعلوهُ حَدّاً (تعريفا) للبلاغة، فقد جاء عَنْ بعضهم أنه سُئِل عنها فقال: مَعْرِفَةُ الفَصلِ منَ الوصلِ. ذاك لغموضِه ودقِة مَسْلكِه". في الواقع، سينال هذا الموضوع فيما بعد اهتمام خاص لدرجة أن خُصصٍ له فصل ضمن دراسة "علم المعاني". أوضح الجرجاني أن أهميته تكمن في الطبيعة الغامضة والدقيقة لآثاره، و أنه لا يمكن للشخص أن يبلغ التميز في هذا الجانب دون أن يتقن أولاً جوانب البلاغة الأخرى. احدى مزايا فصل الجمل عن بعضها عن طريق حذف أداة العطف هو أنه يمكن أن يخلق تأثيرًا مشابهًا لما نحققه في يومنا باستخدام الفاصلة المنقوطة. وهذا يشير إلى أن الجملة التالية تمثل نوع تفسير لما قبله. فعلى سبيل المثال قول المساور بن هند:
زعمتم أن إخوتكم قريش لهم إلف وليس لكم إلاف
فالشاعر يسخر من قبيلة أسد في هذا البيت لادعائهم أنهم مرتبطون بقبيلة قريش القوية في مكة. ومع ذلك، فحقيقة أن تحالفات قريش لا تسري عليهم تكشف عن عدم صحة ادعائهم. يوضح الجرجاني أنه من خلال فصل الجملتين، فالشاعر يعني ضمنا أن شخصًا ما قد طرح التساؤل التالي: "إذًا ماذا تقول في ادعائهم ومزاعمهم؟"، بعبارة أخرى، الشطر الثاني من البيت يفترض أن شخصًا ما طلب دليلًا على شكه في ادعائهم. إذا كانت العبارتان متصلتين وكان الشاعر قد قال بدلاً من ذلك: "زعمتم أن إخوتكم قريش ولهم إلف وليس لكم إلاف"، فإنه كان قد عنى ببساطة: "ادعيتم أن قريش إخوتكم وكذبتم في زعمكم". في هذه الحالة، لا تتضمن العبارة معنى وجود الشك في قول الشاعر من قبل شخص ما، والذي يمضي في تلك الحالة في الرد عليه.
ولمزيد من الإيضاح نضرب مثالا آخر بقول الشاعر:
قال لي: كيف أنت؟ قلت عليل سهر دائم وحزن طويل
بدء جملة جديدة في الشطر الثاني من البيت بدون عطف يجعل منها إجابة على سؤال ضمني. فالمرء يتخيل أن أحدهم قد طرح في نهاية الشطر الأول من البيت سؤالا مفاده: "ما المشكلة؟ ما هو سبب اضطرابك؟" وهو ما يجيب عنه الشاعر بقوله: "سهر دائم ... إلخ. فمن خلال اختيار بسيط في البنية النحوية للبيت وذلك بإدراج أو عدم إدراج حرف عطف، يمكن أن يضاف معنى ضمني للعبارة دون إضافة ألفاظ.

التوكيد بإن
الملمح الأخير للنظم الذي سأناقشه هنا هو استعمال كلمة "إنَّ"، وهي "أداة توكيد"، كما وصفها إدوارد لين في معجمه، "تؤكد المسند أو الخبر". غالبًا ما تترجم في الإنجليزية إلى "فعلاً" أو "في الواقع". يمكن أن تحمل بعض علامات الترقيم ، مثل النقطتين الرأسيتين :، معنى التوكيد الذي يحمله لفظ "إنَّ". يمكن أيضًا أن يكون للتوكيد من خلال استعمال "إنَّ" مسالك دقيقة للزيادة في المعنى، حتى وإن اعتقد الكثيرون أن مثل هذه الألفاظ الوظيفية لا تضيف شيئًا.
ذكر الجرجاني قصة عن الكِنْدي الفيلسوف تظهر أنه بالرغم من ذكائه وسعة اطلاعه ، لم يكن يعرف الفرق بين استخدام "إنَّ" وعدم استخدامها. وأنا أذكر القصة كاملة هنا لأنها ستكون ذات صلة بنقاشنا لاحقًا فيما يخص "علم المعاني". قال الجرجاني: "رُويَ عن ابن الأنباريِّ أَنه قال: ركبَ الكنْديُّ المتفلسِف إلى أبي العبّاس وقال له: إني لأَجِدُ في كلامِ العَرب حَشْواً! فقال له أبو العباس: في أي وضع وجَدْتَ ذلك؟ فقال: أَجدُ العربَ يقولون: "عبدُ الله قائمٌ"، ثم يقولون "إنَّ عبدَ الله قائمٌ"، ثم يقولونَ: "إنَّ عبدَ اللهَ لقائمٌ"، فالألفاظُ متكررةٌ والمعنى واحدٌ. فقال أبو العباس: بل المعني مختلف لاختلافِ الألفاظِ، فقولُهم: "عبدُ الله قائمٌ"، إخبار عن قيامه وقولهم: "إن عبد عبدَ الله قائمٌ"، جوابٌ عن سؤالِ سائلٍ وقوله: "إنَّ عبدَ اللهِ لقائمٌ"، جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ قيامَهُ".
في حين أن تلك العبارات تبدو في الظاهر أنها تتضمن نفس المعنى، فكل واحدة منها تقدم في الواقع "صورة" أو "شكلا" مختلفًا لذلك معنى. من خلال استخدام الألفاظ التي تبدو حشوا مثل "في الواقع" و"فعلا"، فإن الشخص المتكلم يوصل معلومات ضمنية عن درجة الشك الذي أعرب عنه المخاطب بشأن الدعوى التي تتضمنها عبارة المتكلم. يمكن للمرء أن يتخيل أن استعمال"إن" في الجملة الثانية الواردة في مثال الكِنْدي السابق هو في الرد على السؤال: "هل زيد واقف؟" وفي الجملة الثالثة في الرد على الزعم: "زيد ليس واقفا". لذلك، من الجيد بشكل خاص استعمال "إن" عند رواية أمر مشكوك في صحته أو غير معتاد، كما في البيت التالي لأبي نواس:
عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في الياس
يقول الجرجاني: "فقد تَرى حُسْنَ موقعِها (أي استعمال إن)، وكيف قبولُ النفسِ لها، وليسَ ذلك إلاَّ لأنَّ الغالِبَ على الناس أنهم لا يَحمِلون أنفسَهم على اليأس، ولا يدَعُونَ الرجاءَ والطمَعَ، ولا يعترفُ كلُّ أحدٍ ولا يُسلِّمُ أنَّ الغِنى في اليأس. فلمَّا كان كذلك، كان الموضعُ مَوْضعَ فقرٍ إلى التأكيدِ، فلذلك كان من حُسْنها ما تَرى".
يستشهد الجرجاني بين الفينة والأخرى في كتابه "دلائل الإعجاز" بالأثر الشعوري الذي تتركه العبارة في نفس المستمع كدلالة على بلاغتها ويوضح أن الغرض من دراسة البلاغة (وبالتالي إعجاز القرآن) هو فهم الأسباب التي تجعل عبارة أكثر تأثيرًا في الشعور من عبار أخرى. يقول الجرجاني: "لا يكونُ لإِحدى العبارتين مزيةٌ عَلَى الأُخرى، حتى يكونَ لها في المعنى تأثيرٌ لا يكونُ لصاحبتها". ويقول في موضع آخر: "يصح أن تكون ههنا عبارتان أَصْلُ المعنى فيهما واحدٌ، ثم يكونُ إحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزينه، وإِحداثِ خصوصيةٍ فيه تأثيرٌ لا يكونُ للأُخْرى".
في الوقت ذاته، قد رأينا من خلال الاختيارات السابقة التي ناقشناها من قبل أن "النظم" ينطوي على صياغة العبارة بحيث تنقل معنى إضافيًا بشكل غير مباشر أو على نحو ضمني. يمكن تحقيق ذلك من خلال إسناد الفعل إلى فاعل بصورة مجازية، وكذلك من خلال التقديم والتأخير، واستعمال الحذف، واستخدام أو عدم استخدام أدوات التعريف والكلمات الوظيفية الأخرى مثل واو العطف، و"إن"، وغيرذلك.
فالبلاغة تنبع من إضافة هذه السمات اللغوية معاني دقيقة بطريقة تجعل السامع يعمل الفكر من أجل استيعابها. يتصور الجرجاني إذا آلية القيمة الجمالية للنظم بطريقة تتسق مع "مبدأ الاكتشاف"، الذي طرحه في مناقشته للتشبيه، كما رأينا في الفصل الثالث؛ فيمكن للطريقة التي تصاغ بها العبارة أن تضفي جمالًا على العبارة من خلال نقل معنى إضافي بطريق غير مباشرة، والذي يمكن "اكتشافه" فقط بعد التأمل والنظر. إن إمكانية اكتشاف تلك المعاني الدقيقة هي بالتحديد ما يورث اللذة في نفس السامع.
يتبع ..

Mahmoud Muhammad
09-21-2023, 06:53 PM
النظم بعد الجرجاني

بينما استعمل الجرجاني مزيجا من الأمثلة القرآنية والشعرية لتوضيح وجهات نظره، طبق الكتاب اللاحقون مبادئه بشكل أكثر منهجية على القرآن. أحد أبرز الأمثلة هو الزمخشري (المتوفى ٥٣٨/١١٤٤)، الذي يشير بانتظام في تفسيره القرآني الذي يسمى "الكشاف" إلى الفروق الدقيقة التي تنطوي عليها تراكيب الجمل الخاصة في القرآن. خلاف ذلك، فإن خلفاء الجرجاني أعادوا تنظيم عمله بالكامل في مسألة النظم وطوروا المفهوم بشكل كبير في علم المعاني، كما سنرى في هذا القسم.

لقد أكدت في مناقشتي لمعالجة الجرجاني للنظم أن بنية الجملة يمكن أن تساهم في البلاغة من خلال إضفاء معنى إضافي بشكل غير مباشر على أصل المعنى. ويمضي السكاكي في وصف طابع هذا "المعنى المضاف" بشكل أكثر تحديدا، واصفا إياه بأنه "مطابقة لمقتضى الحال" كما سنرى.

وبالتالي فإن مناقشة بلاغة النظم عند السكاكي تصرف الاهتمام عن مجرد إضفاء معنى ثانوي من خلال بناء الجملة إلى طبيعة العلاقة بين العبارة (بأصل معناها فضلا عن المعاني الدقيقة التي تضاف إلى أصل المعنى) والسياق الذي تدل عليه بشكل ضمني.

توسع السكاكي وشراحه في مسألة مطابقة العبارة لمقتضى الحال ، مشيرين إلى أنها يمكن أن تكون إما على مقتضى الظاهر أو على خلاف مقتضى الظاهر من أجل إحداث تأثيرات معينة ، مما يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى نظرية النظم كوسيلة لإثارة العجب والروعة.

في مقدمة كتابه مفتاح العلوم، يوضح السكاكي أن الغرض الأصلي من دراسة الفنون الأدبية هو القدرة على "الاحتراز عن الخطأ في كلام العرب". في محاولة لتحقيق هذا الغرض، يوضح أنه يتعين عليه التعامل مع جوانب اللغة التي هي مظنة ارتكاب الأخطاء. هذه الإخطاء، كما يذكر، يمكن أن تحدث على ثلاثة مستويات: "(1) في اللفظ المفرد، (2) في التأليف، (3) في مطابقة [اللفظ] المركب لما يجب أن يُتكلم له.

ثم يمضي السكاكي في بيان أن علم الصرف هو الذي يبحث في الألفاظ المجردة بينما يبحث علم النحو في التأليف أو التركيب أما علم المعاني والبيان فيبحث في مطابقة اللفظ المركب لمقتضى الحال.
يقول السكاكي في المفتاح: اعلم أن علم المعاني هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره.

ثم يوضح السكاكي ما يقصده بقوله خواص تراكيب الكلام بأنه يقصد به المعنى الذي يفهم من التركيب، ثم يمضي في شرح المقصود بقوله "المعنى الذي يفهم من التركيب" بقوله:" وأعني بالفهم فهم ذي الفطرة السليمة مثل ما يغلب على فهمك من تركيب "إن زيد منطلق"... أن يكون مقصودا به نفي الشك أو رد الإنكار، أو من تركيب "زيد منطلق" من أنه يلزم منه مجرد الاقتصار على الإخبار"( أي مجرد أن تخبر بأن زيد منطلق).

أو بعبارة أبسط كما ذكر الخطيب القزويني في تعريفه لعلم المعاني: هو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي يطابق بها مقتضى الحال.

فما وصفه الجرجاني بقوله "معنى النحو" في معالجته لمسألة النظم هو ما يصفه السكاكي بقوله"مطابقة مقتضى الحال". فضلا عن ذلك فإن مطابقة مقتضى الحال عند السكاكي تضفي معنى دقيقا على المعنى الأساسي أو أصل المعنى الذي يوصله الخطاب. فالسكاكي يفرق بين مستويين من الخطاب ويطلق على المعنى الأساسي للخطاب أو العبارة مصطلح "أصل المعنى".
أو بعبارة أخرى هناك مفهوم توصله الألفاظ وفق معناها الحرفي (وهو أصل المعنى)وهي في هذه الحالة لا تختلف عن الأصوات التي تصدرها الحيوانات إلا بكونها تأتي في تأليفها وفق ترتيب معين. وهذا الترتيب المعين ما هو إلا توخي قواعد النحو.
حيث يقول السكاكي: "اعلم أن علم النحو هو .. معرفة كيفية التأليف (التركيب)فيما بين الكلمات لتأدية أصل المعنى .. بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب وقوانين مبنية عليها ليحترز بها عن الخطأ في التأليف(التركيب).

فهذا، يمكننا القول، ليس بنوع أدبي من التعبير. أحيانا قد يكون هذا كل ما يتطلبه السياق. لكن في أحيان أخرى قد يتطلب السياق معاني إضافية دقيقة من خلال التصرف في بناء العبارة. وهذا ما يجعل الخطاب فصيحا وبليغا.


تصور جديد للنظم

لقد بات علم المعاني على يد الخطيب القزويني مقسما وفق تصنيف ثماني الأجزاء يتألف من تراكيب نحوية وأجزاء من الكلام. وهي على النحو التالي:
الإسناد الخبري
المسند إليه
المسند
متعلقات الفعل (أي الفاعل والمفعول)
أسلوب القصر من خلال استعمال أدوات القصر " إنما" و "إلا"
الإنشاء كالسؤال او الطلب والتمني والأمر
الفصل والوصل
وأخيرا الإيجاز والإطناب
أجزاء الكلام الثمانية هذه يمكن أن تخضع للأحوال التي نجدها في كتب الجرجاني، مثل التقديم والتأخير، والحذف، والتعريف والتنكير، ونحو ذلك، وهو ما من شأنه أن يضيف معنى دقيقا إلى أصل المعنى. هذا الفارق الدقيق له علاقة بالسياق أو الحال الذي تقال العبارة لأجله.

وبالعودة إلى سؤال الكندي حول وجود الحشو في اللغة الذي نوقش من قبل، فإن السكاكي والخطيب القزويني يدرجان القصة ضمن الفصل الأول من تناولهم لعلم المعانى، الذي يتعامل مع "أنواع الإسناد الخبري" المختلفة. فيصفون صياغات الجملة المتنوعة على أنها تمثل طرقًا مختلفة لإيصال المعلومات عن المسند إليه.

فالنوع الأول هو الإسناد الابتدائي كما في قول: عبد الله قائم. فهذا النوع من الإسناد لا يفترض أي شيء عن علم المخاطب بالعبارة.
النوع الثاني كما في قول: إن عبد الله قائم. هو يأتي في الجواب على طلب أو سؤال.
والنوع الثالث كما في قول: إن عبد الله لقائم. وهو يأتي في الرد على المنكر للخبر.
وهذا لا يختلف عن شرح الجرجاني. ومع ذلك فإنه يمثل إعادة تصور. فبينما يناقشه الجرجاني ببساطة تحت بند أثر استخدام إن على معنى الجملة، فإن علم المعاني يدخلها ضمن الفئة العامة التي يطلق عليها "أنواع الإسناد الخبري"، ويحدد هذه الأنواع بالنسبة إلى السياق أو الحال التي تقال فيها العبارة.

فعلم المعاني يشرع في رسم خريطة منتظمة وشاملة للغة العربية وجميع ما تتضمنه أساليب بناء العبارة عن السياق الذي تقال فيه. وقد قورن علم المعاني بعلم التداوليات pragmatics في مجال علم اللسانيات الحديث.
ومع ذلك، فبدلاً من أن يكون مسعى لغوي بحت، فإن الدافع وراء دراسة علم المعاني هو القيمة الجمالية. فعلم المعاني واحد من فروع من علم البلاغة. ومن خلالها نستطيع ان نثمن جودة النص القرآن التي لا نظير لها. فقدرة العبارة على إيصال معلومات عن السياق الذي قيلت فيه، والمخاطبين بها، والغرض من النطق بها من خلال بنائها النحوي هو بالضبط ما يميز الكلام البليغ عن مجرد تركيب الألفاظ.
يتبع ..