Mahmoud Muhammad
08-27-2023, 01:48 AM
منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في قضية وجود الله
الإلحاد والشك الجذري: النقد المعرفي عند ابن تيمية
هذا الموضوع هو ترجمة لمقال كتبه" د. نظير خان" أستاذ الأشعة التشخيصية بجامعة ماكمستر، مع بعض التصرف
علم المعرفة epistemology هو العلم الذي يتناول مسألة "ما هو السبيل إلى المعرفة؟" وبعبارة أخرى، يدرس كيفية تأصيل المعرفة، وما الذي يجعل الاعتقاد سائغًا، وما الذي يشكل دليلًا، ونحو ذلك. غالبًا ما تكون الجدالات الكلامية في الظاهر هي انعكاس في حقيقة الأمر لقضايا معرفية أعمق. وهذا هو الحال بالتأكيد فيما يخص الجدل حول وجود الله. قبل الجواب على مسألة "البرهان على وجود الله"، يجب على المرء أولاً استقصاء المسائل التالية: ما الذي يُعد دليلًا، وما هو الشيء الذي بحاجة إلى إثبات، وما إذا كان لدى من يطلب البرهان تصور منطقي متماسك بداية عن مفهوم البرهان.
يستخلص هذا المقال ويحلل السمات المعرفية المشتركة بين ثلاثة نقاشات قد تبدو متباينة ألا وهي: مشكلة الشك الفلسفي في الحقبتين الهيلينية والهيلنستية في اليونان القديمة، ونقد السفسطة فيما يتعلق بالدلائل الفلسفية على وجود الله في كتب ابن تيمية (توفي 728 هـ / 1328 م)، وموطن الخلاف المعرفي في النقاشات الدائرة بين المؤمنين بوجود الله والملاحدة.
العيش في ما وُصِفَ بأنه عصر الشك أو "عصر الإلحاد"، قد يجعل الناس أكثر تشككا تجاه الدين و يجعلهم ينظرون إلى الإيمان نظرة ساخرة على أنه "اعتقاد بلا دليل"، أو معتقدات تفتقر إلى مسوغ.
لكن المسوغ الحقيقي للعقيدة يكمن في مغزى الرسالة التي تتضمنها ولا يتأتى من خلال الجدل الفلسفي. الفكرة الأساسية في هذا المقال هي: ليس هناك حاجة لبرهان فلسفي للإيمان بالله، ولا لتسويغ الإيمان به. غير أن ذلك لا يعني أنه لا يمكن إقناع الناس من خلال شيء من البيان أو الإيضاح أو تقديم بعض المسوغات، ولكن يجب أن يستند المسوغ بشكل أساسي إلى رسالة الإسلام، والتي مدارها على الإيمان بالله، فيما يخص الغرض والمعنى من الحياة بدلاً من الأقيسة الوجودية أو الكونية أو الغائية. فالناس قد تعتريها الشكوك في أي شيء، لكن كما أنه لا حاجة بالمرء إلى دليل فلسفي للخلاص من هاجس أن "العالم المادي لا وجود له" أو أن "القيم الأخلاقية لا حقيقة لها"، كذلك لا حاجة به إلى دليل فلسفي للفكاك من الإلحاد.
فهناك مغالطة إذا في تصور أنه ينبغي لنا بالضرورة الشك في الشيء وأنه تلزم المطالبة بالبرهان على ذلك الشيء قبل أن نُقِرُّه كحقيقة واقعة - وهذا يمكن أن نطلق عليه "المغالطة البيرونية" pyrrhonian fallacy نسبة إلى مذهب الشك الجذري الذي أسسه الفيلسوف اليوناني بيرّو (ت. 270 قبل الميلاد)، والذي سوف نناقشه بالتفصيل لاحقا في هذا المقال.
استخدام البراهين الفلسفية في نصرة المعتقد كان شائعًا في علم الكلام ، وبات ملمحا أساسيا في الطرق الكلامية. ومع ذلك، فقد أوضح عالم الدين البارز، أبو حامد الغزالي (ت. 505 هـ)، أنه لم يكن وسيلة لتحقيق اليقين بالنسبة للكثيرين، حيث لم يكن هذا هو الغرض الأصلي منه. بل، بالنسبة للغزالي، كان غرض علم الكلام هو الدفاع عن العقيدة استنادا للعقل، والذي كشف عن التناقضات المنطقية في مناهج أهل البدع. ففي كتاب "المنقذ من الضلال" والذي هو عبارة عن سيرة ذاتية روحية، يصف الغزالي كيف تغلب على نزاعه الشخصي مع الشك البيروني من خلال التجربة والتنوير الروحاني بدلاً من الجدل الفلسفي.
أشد المعارضات الفكرية حجما وأعلاها صوتا ضد استخدام الجدل الفلسفي في إثبات العقائد الدينية كانت في كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية. وكما لاحظ العديد من الأكاديميين، تُظهر كتابات ابن تيمية أنه ليس برجل الدين المناهض للعقلانية القائل بحرفية النص، بل هو مفكر عقلاني يتسم بالمنهجية والعمق، وملم بالتقليد الفلسفي الواسع الذي استند إليه خصومه. دعا ابن تيمية إلى نظرية معرفية منطقية متماسكة تُعطي النص ما يستحق من التوقير بدلاً مما رآه تطويعا للنص لصالح المذاهب البشرية التي تصيب وتخطىء.
ربما كان أكبر إسهام لابن تيمية هو رد النزاع حول تفسير النصوص إلى جذوره المعرفية، أي الافتراض بأن العقائد الدينية يجب أن تؤصل من خلال حجج فلسفية حتى تُعتبر صالحة. بحسب أسس المعرفة في القرآن والتي أفاض ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (توفي 751 هـ) في شرحها وإيضاحها، فإن إيمان المرء بالله له تأصيله ومسوغاته التامة دون الحاجة إلى حجج منطقية استنتاجية.
فالإيمان بالله له مسوغاته بدليل أنه الرؤية الوحيدة ذات المغزى التي تنبثق بشكل تلقائي من فطرة الإنسان - تمامًا كما هو الحال في الاعتقاد في وجود الخير والشر، والسببية، والأعداد، والحقيقة، والوجود بحد ذاته، ونحو ذلك.
فإنكار احدى دعائم الفطرة الأساسية يترك الإنسان بلا رؤية منسجمة لتفسير الوجود بحيث تعطي للوجود معنى أو مغزى، والنتيجة المنطقية التي يصل إليها المرء إذا سلك هذه السبيل إلى منتهاها هو حالة من الشك اللانهائي كما هو الحال في "السفسطة"، وهو مصطلح استعمل في التقليد الإسلامي للدلالة على الشك الجذري. وسوف نتناول هذه المصطلحات بمزيد من التفصيل والإيضاح في سياق هذا المقال.
لابن تيمية ثلاثة مؤلفات ذات أهمية خاصة في التعرف إلى وجهات نظره بخصوص التسويغ الفلسفي أولها المؤلف الضخم المكون من عشرة مجلدات بعنوان "درء تعارض العقل والنقل"، وكتابه في نظرية المعرفة الأرسطية بعنوان " الرد على المنطقيين"، وكتابه المعنون بـ نقد المنطق (الانتصار لأهل الأثر).
فمن خلال عملية نقد معرفي متواصل، أرجع ابن تيمية طريقة خصومه في الجدال إلى منهج فلسفي يجنح إلى الارتياب والشك الجذري، وكان ذلك في سبيل الانتصار لقضية العقيدة المستندة للنص والأثر.
ويرى أن أولئك الذين سلكوا طريق الجدال الفلسفي للوصول إلى اليقين كانوا في كثير من الأحيان هم الأكثر تضررا من عدم اليقين والارتباك والشكك، وفي كثير من الحالات، انتهى بهم الأمر إلى الاعتراف بأنهم وصلوا إلى طريق مسدود.
في سبيل استيعاب أهمية قضية الشك الجذري radical (pyrrhonian) skepticism في مجال علم المعرفة نضرب مثالا بحوار مع أحد القائلين بمذهب "الذاتوية" solipsism وهو المذهب القائل بأنه لا يمكن التحقق من وجود أي شيء خارج الذهن. فقد يزعم أن كل شيء في الخارج عن ذهنه لا حقيقية له وكل ما هنالك أن ذهنه يخيل إليه وجود أشياء في الخارج. فبدلا من السؤال عن البرهان على وجود الله سيطلب ذلك "الذاتوي" solipsist البرهان على وجود أشياء في الخارج عن الأذهان. وبلا شك لا يوجد دليل فلسفي يمكن أن يقنع ذلك الذاتوي بالتخلي عن وجهة النظر تلك. فلو حاول أحدهم الاستناد إلى الشعور بوجود أشياء في الخارج في تسويغ الاعتقاد في وجودها في الخارج عن الأذهان فسيجيب ذلك الذاتوي بالقول أن ذلك الإحساس ما هو إلا مجرد أوهام اختلقها الذهن وربما ضرب مثالا من علم فسيولوجيا الأعصاب بإحساس من بتر ساقه بوجود الساق بالرغم من أنها بترت بالفعل ولم تعد موجودة. ولقد أثبتت التجربة الذهنية الشهيرة في علم المعرفة والتي تسمى "دماغ في وعاء" brain in a vat أنه لا يوجد حجة فلسفية يمكنها أن تبدد شكوكا من هذا النوع. فلا يوجد طريقة للتحقق من كونك لست مجرد دماغ موضوع في وعاء يتصل به أسلاك تمده بالنوع المناسب من الإثارات العصبية بحيث تخلق في عقلك تجربة عيش في الواقع المادي لا حقيقية لها في نفس الأمر. بل إن أحد الفلاسفة وهو السويدي نك بوستروم زعم أنه بالنظر إلى احتمالية وجود حضارة متقدمة يمكنها بناء المليارات من عمليات المحاكاة الحاسوبية للأدمغة فاحتمالية أنك تعيش مجرد عملية محاكاة حاسوبية مقارنة بكونك تعيش حياة واقعية في العالم المادي هي أرجح بكثير. وقد عبر إلون ماسك الملياردير الشهير عن وجهة نظر من هذا القبيل.
فكما تقدم هذا النوع من الشكوك لا يمكن أن يبدده أي حجة فلسفية، لكن هل هناك حاجة بآحاد الناس لأن يعيروا هذا الصنف من الشكوك أي اهتمام فضلا عن الحاجة لجواب منطقي عليها؟. فالغالبية لا تعير هذا النوع من الشك الذي يقوض الأسس المعرفية التي نبني عليها فهم الواقع من حولنا أي اهتمام. فكما أن مطابقة تصوراتنا المنطقية و إدراكنا الحسي للواقع من حولنا يمكن أن تكون موضعا للشك فكذلك هناك عدد لا نهائي من الشكوك التي قد تعتري المرء بخصوص ما لديه من معرفة مهما بلغت من قوة في التأصيل على أسس موضوعية. وفي ذلك يقول ابن تيمية في كتاب "درء التعارض": بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية، وما يبنى عليها من العلوم العقلية، قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل، وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس - أو أكثرهم - حلها، وبيان وجه فسادها، وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب، فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه، فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة، وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل. ولو قال قائل: هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية، لم يثبت لأحد علم بشيء من الأشياء، إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية. اهـ
فالذاتوية هي احدى صور الشك الجذري التي تشكك في وجود العالم المادي. وإن كان أغلب الناس لا يساروهم الشك في وجود العالم المادي ولا يسعون خلف أدلة على وجوده. إلا أن هناك وفرة من الأشياء التي قد تصبح موطنا للشك. فعلى سبيل المثال هناك من يشكون في الأحداث التاريخية مثل وجود الديناصورات والهبوط على القمر أو يشككون في العلم التجريبي مثل جماعة الأرض المسطحة أو تساورهم الشكوك في مجريات الأحداث ويؤمنون بنظرية المؤامرة وأن العالم تتحكم به مجموعة من الكائنات الفضائية التي تتخذ هيئة الآدميين وهم في الأصل يشبهون الزواحف Reptilian conspiracy theory ( نظرية مؤامرة الزاحفين). وبعض الناس تساوره الشكوك في الأخلاق ويزعم أنه لا وجود للخير والشر وأن ذلك مجرد إنشاء ذهني لا وجود له في نفس الأمر، كما يقول الفيلسوف المعاصر "ريتشارد جرنر" (وهو من القائلين بالشكوكية الأخلاقية Moral error theory ) في" كتاب الأخلاق: الوهم الأخير؟": فكما يقول الملحدون أن معتقدات المؤمنين بخصوص الوجود الواقعي للإله خاطئة، فإن منظري "الشكوكية الأخلاقية" يقولون أن القائلين بالواقعية الأخلاقية moral realism الخاصة بالوجود الموضوعي للقواعد الأخلاقية والمحظورات والفضائل والرذائل والقيم والحقوق والواجبات هم أيضًا مخطئون، ولنفس السبب; ما يتحدثون عنه لا وجود له. اهـ
بل إن قواعد المنطق بذاتها قد تكون موضعا للشك إذ لا توجد طريقة منطقية لإثبات صحة قواعد المنطق دون الوقوع في الدور circularity أو المصادرة على المطلوب. والأمر كذلك بالنسبة للمسلمات الرياضية حيث يقول "هارتري فيلد": "ما لدينا من معتقدات أو قواعد استدلال في الرياضيات والمنطق .. الكثير منه يمكن الاستدلال عليه من خلال معتقدات وقواعد أبسط هي بمثابة الأساس، دون الوقوع في الدور (المنطق الدائري أو مغالطة المصادرة على المطلوب). ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لتلك المعتقدات والقواعد الأساسية، فلا مفر من جواز الاستناد إليها دون الحاجة إلى ما يسوِّغ تلك القواعد".
إن مفهوم السببية أو بعبارة بسيطة تصور أن لكل حادث مُحدِث، هو شيء نفترضه دون التفكير فيه. ليس لدينا تسويغ فلسفي محدد لإثبات أن هذه العلاقة بين السبب والنتيجة موجودة دائمًا، لكننا بحاجة إلى هذا المفهوم لفهم الكيفية التي يعمل بها العالم المادي من حولنا. إنها بمثابة لبنة البناء الأساسية في فهمنا للعالم المادي.
إذا حاولت أن تطرد من ذهنك التصورات التي من قبيل أن الأشياء تحدث لسبب، وأن المقدمة الفلانية تقتضي النتيجة الفلانية ... فلن تتمكن من استيعاب شيء أصلا، فضلا عن أن تتمكن من تكوين تصور معقول عن الواقع بوجه عام. تحدث "لودفيج فيتجنشتاين" عن هذه المفاهيم باعتبارها أساس تستند إليه تصورتنا، أو قطب رحى عليه مدار المعرفة الإنسانية، حيث يقول: "إذا حاولت أن تشكك في كل شيء، فلن تبلغ حتى مرحلة الشك في أي شيء. فلعبة الشك في حد ذاتها تفترض اليقين". والمعنى أنك بمجرد التشكيك فأنت تفترض بعض المفاهيم وتعتبرها أمرا مسلما به، فعلى سبيل المثال من يشكك يدعي أن النتيجة الفلانية لا تقتضيها المقدمة الفلانية فهو بذلك ضمنا يسلم بمفهوم الضرورة العقلية أو أن شيئا قد يقتضي شيئا.
إن إنكار الحقائق الثابتة من خلال الأسلوب الخطابي والحجج المضللة يمثل جوهر الشك الجذري كما يراه ابن تيمية. ويؤكد أن الكفر بوجود الله هو أشنع أنواع السفسطة بالرغم من ندرته. وسوف نتناول هذا المصطلح بمزيد من الإيضاح فيما يلي. ويرى ابن تيمية أن عامة من يعتنق السفسطة لا يعتنقها في جميع أمره، كما قد يفعل المتشككة البيرونيون Pyrrhonian skeptics، بل إنها تعرض لبعضهم أو كثير منهم في جوانب محددة. وبالتالي، يمكن ملاحظة أن الناس لديهم القدرة على تجزئية الشكوك الجذرية. على سبيل المثال، قد لا يعتقد من ينادي بإلغاء الأخلاق في صحة نظريات المؤامرة، وقد لا يؤيد مناهضوا اللقاحات نظرية الأرض المسطحة، وقد لا يلتزم الملحد بمذهب الذاتوية.
أحد مظاهر الشك الجذري هو ما يُطلق عليه "العلموية" scientism، التي تنكر وجود أي شيء يتجاوز الإدراك الحسي. وكما يوضح ابن تيمية، فمن غير المنطقي الزعم أنه لا يوجد شيء خارج نطاق إدراك الحس، لأن الجميع يعتمد على معلومات يتلقاها من الآخرين كما يعتمد على الاستنباط العقلي لاكتساب المعرفة الخاصة بالأمور التي تتجاوز الإدراك الحسي المباشر. علاوة على ذلك لا يوجد أمة من الأمم إلا و تتلقى تاريخها من خلال الروايات وليس من خلال الملاحظة المباشرة. ومن ثم، يخلص ابن تيمية إلى أنه يمكن أيضًا تصنيف مذهب "العلموية" على أنه صورة من صور السفسطة.
يتبع ...
الإلحاد والشك الجذري: النقد المعرفي عند ابن تيمية
هذا الموضوع هو ترجمة لمقال كتبه" د. نظير خان" أستاذ الأشعة التشخيصية بجامعة ماكمستر، مع بعض التصرف
علم المعرفة epistemology هو العلم الذي يتناول مسألة "ما هو السبيل إلى المعرفة؟" وبعبارة أخرى، يدرس كيفية تأصيل المعرفة، وما الذي يجعل الاعتقاد سائغًا، وما الذي يشكل دليلًا، ونحو ذلك. غالبًا ما تكون الجدالات الكلامية في الظاهر هي انعكاس في حقيقة الأمر لقضايا معرفية أعمق. وهذا هو الحال بالتأكيد فيما يخص الجدل حول وجود الله. قبل الجواب على مسألة "البرهان على وجود الله"، يجب على المرء أولاً استقصاء المسائل التالية: ما الذي يُعد دليلًا، وما هو الشيء الذي بحاجة إلى إثبات، وما إذا كان لدى من يطلب البرهان تصور منطقي متماسك بداية عن مفهوم البرهان.
يستخلص هذا المقال ويحلل السمات المعرفية المشتركة بين ثلاثة نقاشات قد تبدو متباينة ألا وهي: مشكلة الشك الفلسفي في الحقبتين الهيلينية والهيلنستية في اليونان القديمة، ونقد السفسطة فيما يتعلق بالدلائل الفلسفية على وجود الله في كتب ابن تيمية (توفي 728 هـ / 1328 م)، وموطن الخلاف المعرفي في النقاشات الدائرة بين المؤمنين بوجود الله والملاحدة.
العيش في ما وُصِفَ بأنه عصر الشك أو "عصر الإلحاد"، قد يجعل الناس أكثر تشككا تجاه الدين و يجعلهم ينظرون إلى الإيمان نظرة ساخرة على أنه "اعتقاد بلا دليل"، أو معتقدات تفتقر إلى مسوغ.
لكن المسوغ الحقيقي للعقيدة يكمن في مغزى الرسالة التي تتضمنها ولا يتأتى من خلال الجدل الفلسفي. الفكرة الأساسية في هذا المقال هي: ليس هناك حاجة لبرهان فلسفي للإيمان بالله، ولا لتسويغ الإيمان به. غير أن ذلك لا يعني أنه لا يمكن إقناع الناس من خلال شيء من البيان أو الإيضاح أو تقديم بعض المسوغات، ولكن يجب أن يستند المسوغ بشكل أساسي إلى رسالة الإسلام، والتي مدارها على الإيمان بالله، فيما يخص الغرض والمعنى من الحياة بدلاً من الأقيسة الوجودية أو الكونية أو الغائية. فالناس قد تعتريها الشكوك في أي شيء، لكن كما أنه لا حاجة بالمرء إلى دليل فلسفي للخلاص من هاجس أن "العالم المادي لا وجود له" أو أن "القيم الأخلاقية لا حقيقة لها"، كذلك لا حاجة به إلى دليل فلسفي للفكاك من الإلحاد.
فهناك مغالطة إذا في تصور أنه ينبغي لنا بالضرورة الشك في الشيء وأنه تلزم المطالبة بالبرهان على ذلك الشيء قبل أن نُقِرُّه كحقيقة واقعة - وهذا يمكن أن نطلق عليه "المغالطة البيرونية" pyrrhonian fallacy نسبة إلى مذهب الشك الجذري الذي أسسه الفيلسوف اليوناني بيرّو (ت. 270 قبل الميلاد)، والذي سوف نناقشه بالتفصيل لاحقا في هذا المقال.
استخدام البراهين الفلسفية في نصرة المعتقد كان شائعًا في علم الكلام ، وبات ملمحا أساسيا في الطرق الكلامية. ومع ذلك، فقد أوضح عالم الدين البارز، أبو حامد الغزالي (ت. 505 هـ)، أنه لم يكن وسيلة لتحقيق اليقين بالنسبة للكثيرين، حيث لم يكن هذا هو الغرض الأصلي منه. بل، بالنسبة للغزالي، كان غرض علم الكلام هو الدفاع عن العقيدة استنادا للعقل، والذي كشف عن التناقضات المنطقية في مناهج أهل البدع. ففي كتاب "المنقذ من الضلال" والذي هو عبارة عن سيرة ذاتية روحية، يصف الغزالي كيف تغلب على نزاعه الشخصي مع الشك البيروني من خلال التجربة والتنوير الروحاني بدلاً من الجدل الفلسفي.
أشد المعارضات الفكرية حجما وأعلاها صوتا ضد استخدام الجدل الفلسفي في إثبات العقائد الدينية كانت في كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية. وكما لاحظ العديد من الأكاديميين، تُظهر كتابات ابن تيمية أنه ليس برجل الدين المناهض للعقلانية القائل بحرفية النص، بل هو مفكر عقلاني يتسم بالمنهجية والعمق، وملم بالتقليد الفلسفي الواسع الذي استند إليه خصومه. دعا ابن تيمية إلى نظرية معرفية منطقية متماسكة تُعطي النص ما يستحق من التوقير بدلاً مما رآه تطويعا للنص لصالح المذاهب البشرية التي تصيب وتخطىء.
ربما كان أكبر إسهام لابن تيمية هو رد النزاع حول تفسير النصوص إلى جذوره المعرفية، أي الافتراض بأن العقائد الدينية يجب أن تؤصل من خلال حجج فلسفية حتى تُعتبر صالحة. بحسب أسس المعرفة في القرآن والتي أفاض ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (توفي 751 هـ) في شرحها وإيضاحها، فإن إيمان المرء بالله له تأصيله ومسوغاته التامة دون الحاجة إلى حجج منطقية استنتاجية.
فالإيمان بالله له مسوغاته بدليل أنه الرؤية الوحيدة ذات المغزى التي تنبثق بشكل تلقائي من فطرة الإنسان - تمامًا كما هو الحال في الاعتقاد في وجود الخير والشر، والسببية، والأعداد، والحقيقة، والوجود بحد ذاته، ونحو ذلك.
فإنكار احدى دعائم الفطرة الأساسية يترك الإنسان بلا رؤية منسجمة لتفسير الوجود بحيث تعطي للوجود معنى أو مغزى، والنتيجة المنطقية التي يصل إليها المرء إذا سلك هذه السبيل إلى منتهاها هو حالة من الشك اللانهائي كما هو الحال في "السفسطة"، وهو مصطلح استعمل في التقليد الإسلامي للدلالة على الشك الجذري. وسوف نتناول هذه المصطلحات بمزيد من التفصيل والإيضاح في سياق هذا المقال.
لابن تيمية ثلاثة مؤلفات ذات أهمية خاصة في التعرف إلى وجهات نظره بخصوص التسويغ الفلسفي أولها المؤلف الضخم المكون من عشرة مجلدات بعنوان "درء تعارض العقل والنقل"، وكتابه في نظرية المعرفة الأرسطية بعنوان " الرد على المنطقيين"، وكتابه المعنون بـ نقد المنطق (الانتصار لأهل الأثر).
فمن خلال عملية نقد معرفي متواصل، أرجع ابن تيمية طريقة خصومه في الجدال إلى منهج فلسفي يجنح إلى الارتياب والشك الجذري، وكان ذلك في سبيل الانتصار لقضية العقيدة المستندة للنص والأثر.
ويرى أن أولئك الذين سلكوا طريق الجدال الفلسفي للوصول إلى اليقين كانوا في كثير من الأحيان هم الأكثر تضررا من عدم اليقين والارتباك والشكك، وفي كثير من الحالات، انتهى بهم الأمر إلى الاعتراف بأنهم وصلوا إلى طريق مسدود.
في سبيل استيعاب أهمية قضية الشك الجذري radical (pyrrhonian) skepticism في مجال علم المعرفة نضرب مثالا بحوار مع أحد القائلين بمذهب "الذاتوية" solipsism وهو المذهب القائل بأنه لا يمكن التحقق من وجود أي شيء خارج الذهن. فقد يزعم أن كل شيء في الخارج عن ذهنه لا حقيقية له وكل ما هنالك أن ذهنه يخيل إليه وجود أشياء في الخارج. فبدلا من السؤال عن البرهان على وجود الله سيطلب ذلك "الذاتوي" solipsist البرهان على وجود أشياء في الخارج عن الأذهان. وبلا شك لا يوجد دليل فلسفي يمكن أن يقنع ذلك الذاتوي بالتخلي عن وجهة النظر تلك. فلو حاول أحدهم الاستناد إلى الشعور بوجود أشياء في الخارج في تسويغ الاعتقاد في وجودها في الخارج عن الأذهان فسيجيب ذلك الذاتوي بالقول أن ذلك الإحساس ما هو إلا مجرد أوهام اختلقها الذهن وربما ضرب مثالا من علم فسيولوجيا الأعصاب بإحساس من بتر ساقه بوجود الساق بالرغم من أنها بترت بالفعل ولم تعد موجودة. ولقد أثبتت التجربة الذهنية الشهيرة في علم المعرفة والتي تسمى "دماغ في وعاء" brain in a vat أنه لا يوجد حجة فلسفية يمكنها أن تبدد شكوكا من هذا النوع. فلا يوجد طريقة للتحقق من كونك لست مجرد دماغ موضوع في وعاء يتصل به أسلاك تمده بالنوع المناسب من الإثارات العصبية بحيث تخلق في عقلك تجربة عيش في الواقع المادي لا حقيقية لها في نفس الأمر. بل إن أحد الفلاسفة وهو السويدي نك بوستروم زعم أنه بالنظر إلى احتمالية وجود حضارة متقدمة يمكنها بناء المليارات من عمليات المحاكاة الحاسوبية للأدمغة فاحتمالية أنك تعيش مجرد عملية محاكاة حاسوبية مقارنة بكونك تعيش حياة واقعية في العالم المادي هي أرجح بكثير. وقد عبر إلون ماسك الملياردير الشهير عن وجهة نظر من هذا القبيل.
فكما تقدم هذا النوع من الشكوك لا يمكن أن يبدده أي حجة فلسفية، لكن هل هناك حاجة بآحاد الناس لأن يعيروا هذا الصنف من الشكوك أي اهتمام فضلا عن الحاجة لجواب منطقي عليها؟. فالغالبية لا تعير هذا النوع من الشك الذي يقوض الأسس المعرفية التي نبني عليها فهم الواقع من حولنا أي اهتمام. فكما أن مطابقة تصوراتنا المنطقية و إدراكنا الحسي للواقع من حولنا يمكن أن تكون موضعا للشك فكذلك هناك عدد لا نهائي من الشكوك التي قد تعتري المرء بخصوص ما لديه من معرفة مهما بلغت من قوة في التأصيل على أسس موضوعية. وفي ذلك يقول ابن تيمية في كتاب "درء التعارض": بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية، وما يبنى عليها من العلوم العقلية، قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل، وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس - أو أكثرهم - حلها، وبيان وجه فسادها، وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب، فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه، فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة، وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل. ولو قال قائل: هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية، لم يثبت لأحد علم بشيء من الأشياء، إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية. اهـ
فالذاتوية هي احدى صور الشك الجذري التي تشكك في وجود العالم المادي. وإن كان أغلب الناس لا يساروهم الشك في وجود العالم المادي ولا يسعون خلف أدلة على وجوده. إلا أن هناك وفرة من الأشياء التي قد تصبح موطنا للشك. فعلى سبيل المثال هناك من يشكون في الأحداث التاريخية مثل وجود الديناصورات والهبوط على القمر أو يشككون في العلم التجريبي مثل جماعة الأرض المسطحة أو تساورهم الشكوك في مجريات الأحداث ويؤمنون بنظرية المؤامرة وأن العالم تتحكم به مجموعة من الكائنات الفضائية التي تتخذ هيئة الآدميين وهم في الأصل يشبهون الزواحف Reptilian conspiracy theory ( نظرية مؤامرة الزاحفين). وبعض الناس تساوره الشكوك في الأخلاق ويزعم أنه لا وجود للخير والشر وأن ذلك مجرد إنشاء ذهني لا وجود له في نفس الأمر، كما يقول الفيلسوف المعاصر "ريتشارد جرنر" (وهو من القائلين بالشكوكية الأخلاقية Moral error theory ) في" كتاب الأخلاق: الوهم الأخير؟": فكما يقول الملحدون أن معتقدات المؤمنين بخصوص الوجود الواقعي للإله خاطئة، فإن منظري "الشكوكية الأخلاقية" يقولون أن القائلين بالواقعية الأخلاقية moral realism الخاصة بالوجود الموضوعي للقواعد الأخلاقية والمحظورات والفضائل والرذائل والقيم والحقوق والواجبات هم أيضًا مخطئون، ولنفس السبب; ما يتحدثون عنه لا وجود له. اهـ
بل إن قواعد المنطق بذاتها قد تكون موضعا للشك إذ لا توجد طريقة منطقية لإثبات صحة قواعد المنطق دون الوقوع في الدور circularity أو المصادرة على المطلوب. والأمر كذلك بالنسبة للمسلمات الرياضية حيث يقول "هارتري فيلد": "ما لدينا من معتقدات أو قواعد استدلال في الرياضيات والمنطق .. الكثير منه يمكن الاستدلال عليه من خلال معتقدات وقواعد أبسط هي بمثابة الأساس، دون الوقوع في الدور (المنطق الدائري أو مغالطة المصادرة على المطلوب). ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لتلك المعتقدات والقواعد الأساسية، فلا مفر من جواز الاستناد إليها دون الحاجة إلى ما يسوِّغ تلك القواعد".
إن مفهوم السببية أو بعبارة بسيطة تصور أن لكل حادث مُحدِث، هو شيء نفترضه دون التفكير فيه. ليس لدينا تسويغ فلسفي محدد لإثبات أن هذه العلاقة بين السبب والنتيجة موجودة دائمًا، لكننا بحاجة إلى هذا المفهوم لفهم الكيفية التي يعمل بها العالم المادي من حولنا. إنها بمثابة لبنة البناء الأساسية في فهمنا للعالم المادي.
إذا حاولت أن تطرد من ذهنك التصورات التي من قبيل أن الأشياء تحدث لسبب، وأن المقدمة الفلانية تقتضي النتيجة الفلانية ... فلن تتمكن من استيعاب شيء أصلا، فضلا عن أن تتمكن من تكوين تصور معقول عن الواقع بوجه عام. تحدث "لودفيج فيتجنشتاين" عن هذه المفاهيم باعتبارها أساس تستند إليه تصورتنا، أو قطب رحى عليه مدار المعرفة الإنسانية، حيث يقول: "إذا حاولت أن تشكك في كل شيء، فلن تبلغ حتى مرحلة الشك في أي شيء. فلعبة الشك في حد ذاتها تفترض اليقين". والمعنى أنك بمجرد التشكيك فأنت تفترض بعض المفاهيم وتعتبرها أمرا مسلما به، فعلى سبيل المثال من يشكك يدعي أن النتيجة الفلانية لا تقتضيها المقدمة الفلانية فهو بذلك ضمنا يسلم بمفهوم الضرورة العقلية أو أن شيئا قد يقتضي شيئا.
إن إنكار الحقائق الثابتة من خلال الأسلوب الخطابي والحجج المضللة يمثل جوهر الشك الجذري كما يراه ابن تيمية. ويؤكد أن الكفر بوجود الله هو أشنع أنواع السفسطة بالرغم من ندرته. وسوف نتناول هذا المصطلح بمزيد من الإيضاح فيما يلي. ويرى ابن تيمية أن عامة من يعتنق السفسطة لا يعتنقها في جميع أمره، كما قد يفعل المتشككة البيرونيون Pyrrhonian skeptics، بل إنها تعرض لبعضهم أو كثير منهم في جوانب محددة. وبالتالي، يمكن ملاحظة أن الناس لديهم القدرة على تجزئية الشكوك الجذرية. على سبيل المثال، قد لا يعتقد من ينادي بإلغاء الأخلاق في صحة نظريات المؤامرة، وقد لا يؤيد مناهضوا اللقاحات نظرية الأرض المسطحة، وقد لا يلتزم الملحد بمذهب الذاتوية.
أحد مظاهر الشك الجذري هو ما يُطلق عليه "العلموية" scientism، التي تنكر وجود أي شيء يتجاوز الإدراك الحسي. وكما يوضح ابن تيمية، فمن غير المنطقي الزعم أنه لا يوجد شيء خارج نطاق إدراك الحس، لأن الجميع يعتمد على معلومات يتلقاها من الآخرين كما يعتمد على الاستنباط العقلي لاكتساب المعرفة الخاصة بالأمور التي تتجاوز الإدراك الحسي المباشر. علاوة على ذلك لا يوجد أمة من الأمم إلا و تتلقى تاريخها من خلال الروايات وليس من خلال الملاحظة المباشرة. ومن ثم، يخلص ابن تيمية إلى أنه يمكن أيضًا تصنيف مذهب "العلموية" على أنه صورة من صور السفسطة.
يتبع ...