المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : على من يقع عبء الإثبات؟ نظرية المعرفة المعدلة والعقيدة الإسلامية



Mahmoud Muhammad
09-01-2023, 07:00 PM
على من يقع عبء الإثبات؟ نظرية المعرفة المعدلة والعقيدة الإسلامية
يهدف الباحث جيمي ترنر في هذا المقال إلى رسم ملامح نظرية معرفية متماسكة وبيان العلاقة بينها وبين العقيدة الإسلامية. ومن خلال ذلك يسوق الدلائل على أن شروط المعرفة مستوفاة في العقيدة الإسلامية دون اللجوء إلى دلائل فلسفية. وكذلك يهدف إلى بيان أن المؤمنين بالعقيدة الإسلامية فيما يخص الإيمان بوجود الله لا يتحملون عبء الإثبات.
هناك فرضية قائلة بأن من يؤمنون بوجود الله هم من يقع على عاتقهم عبء الإثبات حتى تكون لديهم معرفة او علم بصحة ما يؤمنون به. ولأن المؤمنين لا يتوفر لديهم ذلك الإثبات فليس لديهم معرفة أو علم بصحة ما يعتقدون. ودعونا نطلق على تلك الفرضية " الاعتراض الإثباتي على وجود الله" evidential objection.
المؤيدون لهذا الفرضية يتصورون أن الدلائل الفلسفية على وجود الله وحدها تشكل الأساس السليم أو الأرضية التي يبنى عليها الإيمان بوجود الله. ودعونا لا نتطرق إلى كون الأدلة الفلسفية التي تساق للدلالة على وجود الله كافية لتسويغ الاعتقاد في وجوده.
لكن حري بنا أن نتوقف للحظات لنتأمل السؤال التالي: ألا توجد معتقدات نتمسك بها دون أن تكون مبنية على حجج فلسفية ولدينا المسوغات للاعتقاد فيها ولدينا القناعة التامة في اعتبارها تشكل علما أو معرفة صحيحة؟.
على سبيل المثال الاعتقاد في وجود أشخاص غيرنا يتمتعون بالوعي والإدراك. فنحن نعتقد أنه يوجد من حولنا أناس لديهم إدراك ووعي، وليس أن كل من حولنا مجرد ألات عبارة عن ربوتات في هيئة آدمية.
أيضا مثال وجود العالم في الخارج عن الأذهان، فنحن جميعا نؤمن بوجوده مالم يكن لدينا خلل في قوانا العقلية، وليس أن ما نظنه عالما خارجيا هو في حقيقته مجرد محاكاة حاسوبية، وأننا لسنا سوى أدمغة في أوعية brain-in –a vat يتصل بها بعض الأسلاك التي تمدها بالإثارات العصبية المناسبة التي بدورها تولد في أذهاننا صورة ذلك العالم الافتراضي.
كذلك مثال المعرفة بالأحداث الماضية. فنحن نعتمد على الذاكرة في الاعتقاد في وجود أحداث ماضية وليس أننا لم نخلق منذ خمس دقائق مثلا وهناك من قام بتلقيننا ذكريات مختلقة. لدينا أيضا معتقدات أخرى مثل الاعتقاد في سلامة ملكاتنا الذهنية وأنها تعمل من أجل أو على الأقل لديها القدرة الكامنة على تكوين تصورات صحيحة عن الواقع. فإن لم نفعل فلن نتمكن حتى من الثقة بكونا نتشكك في ملكاتنا الذهنية، إذ إن لم نثق بملكاتنا الذهنية كيف يمكن الاعتقاد في موضوعية الشكوك التي تساورنا حيالها دون الاستناد إلى نفس تلك الملكات التي نتشكك فيها.
إن لم تتضح الصورة بعد فدعوني أقدم مزيدا من الإيضاح. هيا بنا الآن نرجع إلى الفرضية السابقة (الاعتراض الإثباتي)، على وجه التحديد المقدمة الأولى منها ألا وهي: إن عبء الإثبات من خلال حجج فلسفية يقع على عاتق المؤمنين حتى تكون لديهم معرفة أو علم صحيح باعتقادهم في وجود الله.
فهل المعتقدات السابقة التي عرضناها يمكن إقامة حجج فلسفية على صحتها؟ وإذا افترضنا أنه يمكن ذلك هل نحن نعتقد في صحتها استنادا لتلك الحجج المفترضة؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال هي بالنفي بشكل أو بآخر.
فليس لدي حجة مقنعة على أن ذكرياتي عن الأحداث الماضية صحيحة دون الاستناد إلى نفس الملكة الذهنية التي هي محل نظر وتساؤل ألا وهي الذاكرة. ولنستثن ههنا الأحداث التي يمكن الاستدلال على حصولها بطريق غير مباشر (وإن كان من قام بتلقيننا تلك الذكريات يمكنه أن يلفق كل الدلائل المادية التي تتسق مع تلك الذكريات).
فإن جاز لنا التمسك بتلك التصورات بلا حاجة بنا لإقامة دلائل فلسفية على صحتها باعتبار أنها مسائل بديهية، ففي أي شيء يختلف الإيمان بوجود الله عن تلك المعتقدات بالرغم من كونه أمر بديهي بحد ذاته. لماذا ينظر لقضية الإيمان بوجود الله بتلك نظرة دونية باعتبارها غير محصنة من الشك شأنها شأن تلك التصورات البديهية؟!.
لمعالجة تلك المسائل يسعى هذا المقال إلى تقديم الدلائل على صحة "نظرية المعرفة المعدلة" reformed epistemology والتي يقصد بها أن قضايا الإيمان قد تكون صحيحة دون الحاجة إلى حجج فلسفية. وهذا بالنظر بشكل خاص إلى فكر ابن تيمية، ومن خلال توظيف مفهوم الفطرة والاستدلال بالآيات لديه ورؤيته المعرفية بوجه عام. لكن صياغة نموذج خاص من تلك النظرية يستند إلى رؤية ابن تيمية يقتضي منا أن يصاغ ذلك النموذج من الألف إلى الياء.
لكن قبل المضي قدما علينا أن نتسلح أولا ببعض المفاهيم الأساسية والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بنظرية المعرفة. ويمكن حصر تلك المفاهيم فيما يلي:
أولا: نظرية المعرفة الثلاثية (الأجزاء) tripartite theory of knowledge وإشكالية غيتييه Gettier problem
ثانيا: مفهوم التسويغ والمسوغ justification and warrant
ثالثا: مفهوم الوظيفية الملائمة proper functionalism
رابعا: المعتقدات الأساسية وغير الأساسية
ولنبدأ بمفهوم نظرية المعرفة الثلاثية. لنفترض أن لديك اعتقادا في أن الأفيال في قارة أفريقيا لونها قرنفلي، فهل اعتقادك هذا يمثل يصنف على أنه علم أو معرفة؟ يبدو أن اعتقادك هذا يفتقد لمكون جوهري في مفهوم المعرفة ألا وهو مطابقة الاعتقاد لواقع الأمر. فواقع الأمر أن الأفيال في أفريقيا لونها ليس قرنفليا. لكن هل مطابقة الاعتقاد لواقع الأمر يكفي للعلم بالشيء أو معرفته؟.
تخيل أنك اعتقدت في فوز نادي "أكرنجتون ستانلي" على "مانشترد يونايد" بنتيجة 5 إلى 1 على ملعب الخصم في دور ربع النهائي. ولنفترض أن النتيجة جاءت كما توقعت، ففي هذه حالة تطابق اعتقادك مع واقع الأمر لكن هل بالفعل كانت لديك معرفة بهذه النتيجة أو هل يصنف اعتقادك في تلك الحالة على أنه علم أو معرفة خاصة بالنظر إلى البون الشاسع بين مستوى الفريقين؟.
أغلب الناس على الأرجح سيميل للقول بالنفي. فيبدو أن الحظ قد حالفك في هذا الأمر، إذ ليس لديك أرضية تبني عليها ذلك الاعتقاد وتفتقد عنصرا ما مهم لتكون لديك معرفة بهذا الأمر. ربما يكون هذا العنصر هو وجود المسوغ.
الآن افترض أنك تعتقد أن السماء تمطر وكان الأمر كما تعتقد فعلى خلاف نتيجة المبارة فأنت لديك أرضية تبني عليها اعتقادك في أنها تمطر كأن تكون رأيت المطر من خلال النافذة أو سمعت صوت قطرات المطر لدى اصطدامها بالأرض. فالآن أنت لديك المكونات الثلاثة لمفهوم نظرية المعرفة الثلاثية وهي الاعتقاد و مطابقة الاعتقاد للواقع ووجود المسوغ لهذا الاعتقاد. وما نعنيه بالمسوغ هو الدليل الذي يربط ما بين الاعتقاد وواقع الأمر. أو الدليل الذي يجعل اعتقادك سائغا في أن الشيء الفلاني هو واقع الأمر.
إذا هل من الصواب أن نقول أن المعرفة هي الاعتقاد المطابق للواقع الذي له مسوغاته؟. أغلب الفلاسفة لا يرى ذلك. والسبب في ذلك يرجع إلى "إشكالية غتييه" نسبة إلى إدموند غتييه الذي قام بنشر ورقة بحثية قصيرة في يونيو من العام 1963 عرض فيها إشكاليته بخصوص نظرية المعرفة الثلاثية. وجوهر تلك الإشكالية أنه قد تتوفر لديك المكونات الثلاثة ولكن مطابقة اعتقادك للواقع كانت نتيجة لمحالفة الحظ لك لا أكثر.
ولنضرب مثالا لإشكالية غتييه. تخيل أن لديك موعدا في عيادة الأسنان، ولدى دخولك إلى صالة الاستقبال وأنت تخشي أن يكون قد فاتك الموعد فبينما أنت تجلس، ودعنا نفترض أن ساعتك بها عطل واضطررت أن تتركها للساعاتي كي يقوم بإصحالها، نظرت للساعة المعلقة على الحائظ فوجدت أن عقاربها تشير للساعة الثانية عشرة ظهرا فتولدت لديك القناعة أنه لا تزال هناك خمس عشرة دقيقة على موعدك (على افتراض أن موعدك في الثانية عشرة وخمس عشرة دقيقة). لكن في نفس الأمر ساعة الحائط لا تعمل واتفق أن عقاربها كانت تشير للساعة الثانية عشرة عند حدوث العطل. فهنا أنت لديك المكونات الثلاثة بما في ذلك الموسغ لاعتقادك في أنك وصلت إلى العيادة في تلك الساعة لكن لا يبدو أنك في واقع الأمر عرفت أنك وصلت في تلك الساعة لأن المسوغ في هذه الحالة ليس دليلا على مطابقة اعتقادك لواقع الأمر حتى وإن طابق اعتقادك واقع الأمر لأنك لم تعتقد في ذلك الأمر لسبب صحيح (فالسبب في المثال هو إشارة عقارب الساعة، التي لا تعمل، بمحض الصدفة للساعة الثانية عشرة)
لذا يبدو أن نظرية المعرفة الثلاثية ليست وسيلة مناسبة لضبط شروط المعرفة، ولكن مرة أخرى يبدو أن هناك شيئًا غائبا. لقد جرت ولا تزال تجري محاولات متنوعة لبيان الشكل الذي تبدو عليه تلك الشروط، ولكن يمكن القول أن أفضل رؤية للمعرفة والتي تذهب بـ "إشكالية غتييه"، وتغير بشكل جذري الطريقة التي يُنظر بها إلى التوصيف الفلسفي للمعرفة و المفاهيم المرتبطة بها، هي أطروحة أُطلق عليها "الوظيفية الملائمة" proper functionalism .
يتبع ...

Mahmoud Muhammad
09-04-2023, 01:15 PM
إن توصيف "الوظيفية الملائمة" للمعرفة هو التوصيف الذي ينسجم مع رؤية وتصور ابن تيمية وهو ما سنستخدمه لمعاجلة القضية التي يتناولها هذا المقال وهي مسألة وجود الله وصحة الإعتقاد الإسلامي بوجه عام. لكن قبل ذلك أود توضيح الفرق بين التسويغ والمسوغ. من الناحية اللغوية الكلمتان لهما نفس المعنى، لكن بحكم الاصطلاح المعنى يختلف. التسويغ هو الأدلة التي يقدمها الشخص لكي يسوغ اعتقاده ويضفي عليه معقولية ويتضمن الرد على الاعتراضات التي يمكن أن تثار ضد هذا التسويغ. لكن القدرة على تقديم دلائل تسوغ هذا الإعتقاد في أمر ما كما تقدم لا يضمن أن هذا الاعتقاد يمثل معرفة، ومن هنا يأتي مفهوم المسوغ الذي يعني اصطلاحا الخاصية التي تحول الاعتقاد المطابق للواقع إلى معرفة. هذا لا يعني أننا نهمل التسويغ، لأن مفاهيم مثل التسويغ والمسوغ كلها تنتمي إلى طائفة من المفاهيم التي يطلق عليها "التقييم المعرفي الإيجابي"، بمعنى أنها كلها لها قيمة بشكل أو آخر في اكتساب المعرفة.

وإذا كان لدينا الكثير من المعتقدات التي نتمسك بها وهي في غاية الأهمية ولا يمكننا أن نقيم حجج مقنعة عليها وبالرغم من ذلك فإننا على يقين من معرفتنا لها، فهذا يعني ضمنا أننا بالفعل نثق ويجب علينا أن نثق في ملكاتنا الذهنية التي صُمِّمنا بها (وفي حالة المؤمن طبعا سيقول أن من خلق هذه الملكات هو الله وليست مجرد نتاج قوى في الطبيعة). ومن ثم فكوننا نعرف شيء أو لدينا مسوغ للمعرفة يعني ضمنا أن ذلك من خلال نواتج و بطريقة عمل تلك الملكات الذهنية. فبالعودة لمثال المطر فأنت عندما تعتقد أن المطر يهطل فهذا نتيجة لملكات إدراكية لديك ينشأ عنها بشكل مباشر وتلقائي هذا الإعتقاد دون الحاجة لعقد استدلال عقلاني في الذهن للوصول إلى اعتقادك في نزول المطر، وأنت لديك المسوغ الصحيح لهذا الاعتقاد، لأنه -ضمن أمور أخرى- لا يبدو لك أن هناك خلل أو شيء من هذا القبيل في حاسة البصر أو السمع، فمنظر قطرات المطر مثلا على زجاج النافذة يبدو بالنسبة لك في غاية الوضوح. لكن مثلا تخيل أن لديك خلل في الملكات الإدراكية، وليكن خلل ينتج عنه هلاوس تجعلك تتخيل وجود سنجاب أمامك، وافترض أنك نظرت للحديقة خارج منزلك ورأيت ما يبدو أنه سنجاب، في هذه الحالة ليس لديك مسوغ للاعتقاد بوجود سنجاب، لأن ملكاتك الإدراكية في هذه الحالة تتلاعب بك كونها لا تتقل لك حقيقة الواقع بسبب هذا الخلل الإدراكي. لكن يمكن أن يعترض البعض بأن هذا مثال غير جيد، لأن سبب عدم اعتبار وجود السنجاب معرفة هو عدم مطابقة الاعتقاد بوجوده للواقع، لكن دعنا نعدل المثال ونفترض أنك عندما اعتقدت بوجود السنجاب كان بمحض الصدفة هناك سنجاب في الحديقة فعلا، ففي هذه الحالة يكون سبب مطابقة اعتقادك للواقع هو أن الحظ حالفك، ومحالفة الحظ هذه تعزى أساسا إلى الخلل في ملكاتك الذهنية. وبالتالي فبالنظر إلى الحاجة لربط المسوغ بملكاتنا الذهنية - حيث أنه لا يوجد أمر آخر يمكن أن نربط به المسوغ- فيجب أن تكون الملكات الذهنية تعمل بشكل سليم.

وبالطبع فإن الملكات الذهنية لا تقتصر على الإدراك الحسي، بل تشمل أيضا القدرة على الاستنتاج والاستدلال ونحو ذلك من الملكات الذهنية كالذاكرة التي تشكل في مجموعها وظائف العقل. لكن كيف يكون الحال لو أن ملكاتك الذهنية هذه مصممة ليس لتصل بك لاعتقاد صحيح عن الواقع لكن لتمكنك من البقاء؟ في هذه الحالة لا يكون لديك مسوغ للاعتقاد بناءا على مخرجات ملكاتك الذهنية، فمثلا إذا تصورت أن المطر يهطل ولكن افترض أن هذا الاعتقاد يعينك على البقاء فمجرد أن يؤدي وظيفة العون على البقاء لا يعني أنه يطابق الواقع. وهذه النتيجة الطبيعية التي تترتب على الدارونية، فالناس تمكنت من البقاء لآلاف السنين ولديها العديد من التصورات غير الصحيحة عن الواقع، وبالتالي المعرفة الصحيحة بالواقع ليست بالضرورة شرطا للبقاء، وإن تقاطعت حاجة البقاء مع المعرفة الصحيحة في بعض الأحيان، بل أحيانا تدفع غريزة البقاء إلى التصرف على عكس ما تمليه المعرفة الصحيحة بالواقع. فالحيوان مثلا، كما يقول عالم النفس الكندي جيمس ألكوك في حوار مع هيئة الإذاعة الكندية، إذا أكل أكلة ومرض على إثرها يتجنب أي أكلة لها نفس المذاق مادام متاحا أصناف أخرى من الطعام لها مذاق مختلف، وبالرغم من كون تلك الأكلة ربما لا يكون لها دخل في مرضه وأن هذا ربما يكون استنتاح خاطيء، إلا أنه من بالنظر إلى البقاء فهو فعال لأنه في أحيان أخرى تكون الأكلة فعلا هي سبب مرضه.

وبالتالي لكي تعتبر نواتج الملكات الذهنية مسوغا يجب ليس فقط أن تعمل بشكل سليم ولكن يجب أن تكون بطبيعتها موجهة نحو تكوين اعتقاد مطابق للواقع .لكن لا يزال هناك حلقة مفقودة، تخيل أنك ذهبت في إجازة لمنطقة شاطئية ونزلت بأحد الفنادق ونظرت من خلال النافذة فوجدت منظرا خلابا للشاطيء، لكن اتفق في تلك المناسبة أن الفندق كان قد وضع شاشة عملاقة بعرض حائط يقف خارج النافذة ذات تقنية عالية جدا بحيث تبدو الصورة واقعية تماما، ففي هذه الحال ليس لديك مسوغ للمعرفة، ليس لأن ملكاتك لا تعمل بكفاءة ولا لأنها ليست موجهة نحو تكوين اعتقاد صحيح، ولكن البيئة التي وضعت فيها لا تتناسب مع ملكاتك الذهنية، وبالتالي يضاف شرط : أن تكون في بيئة صممت الملكات بحيث يمكن أن تعمل في ظلها.

قد يقول قائل أنه من الخطأ ألا تتضمن النظرية شرط اطلاع المرء على حجج ودواعي الاعتقاد في صحة ما يعتقده، لكننا رأينا من قبل كيف أن هناك معتقدات نتمسك بها ونعتبرها علم أو معرف دون الحاجة لدواعي أو حجج تسوغ هذا الاعتقاد لأنه لا يوجد طريقة لتقديم دواعي أو حجج دون الوقوع في الدور للاعتقاد في صحة تلك الأمور.

وبالتالي شروط المسوغ المستندة لتوصيف "الوظيفية الملائمة" منسجمة أكثر مع الكيفية التي نحصل بها على المعرفة، وأننا لسنا بحاجة للاطلاع على دواعي أو حجج على صحة المعرفة التي تتولد لدينا من خلال الملكات الذهنية التي تعمل بشكل سليم.

وقبل أن نتطرق لتطبيق المفاهيم التي تعلمناها، وفق نموذجنا الخاص من نظرية المعرفة المعدلة، يجدر بنا الكلام بإيجاز عن طبيعة المعتقدات والكيفية التي نبني بها معتقداتنا. المعتقدات من الممكن أن تشكل سلاسل. فعلى سبيل المثال، إذا سمعت جرس الباب يدق فإنه تتولد لديك قناعة أن هناك شخص ما واقفا بالباب، ففي هذا الحالة تكون قد شكلت سلسلة صغيرة من الاعتقاد: أ- أن الجرس يدق، ب-أن هناك شخص واقف بالباب.

الاعتقاد أ من النوع الذي يتشكل لديك بطريقة تلقائية مباشرة دون اعتماد على اعتقاد آخر، أما الاعتقاد ب فهو من النوع الذي تتوصل إليه بناءا على اعتقاد آخر. وعليه فالنوع أ يعتبر اعتقاد اساسي، والاعتقاد ب يعتبر اعتقاد غير أساسي نتوصل إليه من خلال الاستدلال. ومن الأمثلة على النوع أ هو المدركات الحسية كرؤية شخص أمامك أو سماع صوت الحرس، وكذلك المعتقدات المنطقية الصريحة مثل استحالة اجتماع الشيء ونقيضه، وكذلك الاعتقادات التي تعتمد على الذاكرة مثل نوع الطعام الذي تناولته في الصباح.

فكل المعتقدات الأساسية هذه تشترك معا في كونها تتولد بشكل تلقائي دون حاجة لاستنباط أو استدلال. وهذه الجزئية مهمة لأننا في ردنا على الإعتراض الإثباتي نقدم الدلائل على أن الإيمان بالله معتقد أساسي كما هو الحال لدى غالب المؤمنين.

بل إن المؤمن لديه المسوغ لهذا الاعتقاد لكونه ناتج ملكات ذهنية تعمل بشكل سليم. بالطبع ليس كل معتقد يطرأ على ذهنك بشكل تلقائي يكون له مسوغ، على سبيل المثال لو خطر ببالك أن السماء ستمطر الأسبوع القادم يوما وتمسك يوما، فأغلب الناس على الأقل لن تجد لديك مسوغا لهذا الاعتقاد كاعتقاد أساسي، بل ستكون بحاجة لبنائه على استدلال ما. أما لو اعتقدت أن السماء تمطر الآن لأنك ترى وتسمع زخات المطر فلن يختلف أحد على أن هذا معتقد أساسي له مسوغ.

لكن ما الذي يشكل فارقا بين الأمرين؟ السبب هو الملكات الذهنية لدينا والتي تتعاضد سويا في سبيل توليد أنواع معينة من المعتقدات بطريقة تلقائية، فنحن لا نحتاج حججا على أننا مثلا نرى شيئا بأعيننا أو أننا أكلنا أكلة بعينها في الصباح أو أننا نشعر بشعور معين الآن كالألم أو الجوع. لكننا في المقابل لا نستطيع أن نكون اعتقادا بشكل أساسي أو تلقائي عن حالة الطقس الأسبوع القادم أوفيما يفكر فيه الآخرون دون الحاجة لبناء ذلك الاعتقاد على استدلال واستنباط، لأننا ببساطة ليس لدينا القدرة على تكوين هذا النوع من المعتقدات بشكل تلقائي أو على نحو أساسي. فطبيعة تكويننا الذهني هي التي تملي علينا ماهي المعتقدات التي نكونها بشكل أساسي وما هي المعتقدات التي تحتاج لاستدلال. فالمعتقدات الأساسية المستندة إلى ملكة ذهنية تعمل بشكل سليم في بيئة مهيأة للعمل فيها بشكل صحيح، وتكون هذه الملكة موجهة بطبيعتها نحو تكوين تصور مطابق للواقع، هي التي تعتبر معتقدات أساسية بشكل سليم.

في هذا الجزء من المقال سنتناول تطبيق تلك المفاهيم المعرفية على قضية الاعتراض الإثباتي وتوظيفها في إنشاء نموذج إسلامي من نظرية المعرفة المعدلة وكيف أن إيمان المؤمن بالله كمعتقد أساسي له مسوغ.

ويمكن تلخيص ذلك النموذج في النقاط التالية:

• الله كخالق، قد غرس في نفس الإنسان ملكات مختلفة من أجل اكتساب معتقدات صحيحة عنه وعن العالم الذي خلقه.

• الله خلق جميع البشر وفق فطرة تحثهم على معرفته، وعبادته.

• الفطرة تعمل جنبًا إلى جنب مع ملكات معرفية أخرى لتكوين معتقدات صحيحة.

• عندما تعمل الفطرة كما ينبغي لها، تثير داخل النفس وعيًا تلقائيا بالله.

• عمل هذه الملكات بطريقة صحيحة، والذي بدوره يؤدي إلى الإيمان بالله، يكون من خلال إدراك "الآيات" في العالم من حولنا، مما يسمح للإنسان بتكوين معرفة بالله على نحو أساسي.

وقد أشار القرآن إلى النقطة الأولى بقوله: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

والفطرة من الفعل "فطر" بمعنى خلق أو ابتدأ أو أنشأ، والفطرة أي الخِلْقَةُ التي خُلِقَ عليها المَوْلودُ في رَحِمِ أمِّهِ. وهي على وزن فِعلة وهي اسم الهيئة من فطر. وفي القرآن: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

وقد ورد مفهوم الفطرة أيضا في السنة النبوية ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه. وهذا يعني أن المولد لديه القدرة الكامنة على تكوين المعتقد الصحيح غير أن البيئة التي ينشأ فيها المولود إن لم تكن بيئة مواتية لعمل تلك الملكات الذهنية فقد ينشأ عنها تصورات أو معتقدات غير صحيحة. ولهذا لا ينطبق عليها مفهوم المعرفة وفق توصيف الوظيفية الملائمة.

وفي شرحه للحديث السابق يقول ابن تيمية: أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ" فَالصَّوَابُ أَنَّهَا فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَهِيَ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى . وَهِيَ السَّلَامَةُ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْقَبُولُ لِلْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ.

والفطرة ببساطة هي الملكات الذهنية والإدراكية في حال السلامة من الخللProperly functioning mental faculties. هذه الملكات كي تولد معرفة صحيحة بحاجة إلى بيئة مناسبة ولذا من ينشأ في بيئة لا تهييء الأسباب لتولد معرفة صحيحة كمن يولد لأبوين كافرين فيهودانه أو ينصرانه أو ينشآنه على مفاهيم خاطئة لا تتولد لديه معرفة صحيحة بالله بشكل تلقائي كمعتقد أساسي.

فالفطرة إذا قدرة كامنة على معرفة الله والإيمان به ومحبته. يقول ابن تيمية: فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع، وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق أو نقضيه؟ والثاني معلوم الفساد قطعاً، فتعين الأول. وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به. وأيضاً فإنه مع الإقرار به، إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته، والثاني معلوم الفساد، وإذا كان الأول أنفع له، كان في فطرته محبة ما ينفعه. وأيضاً فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له أكمل للناس علماً وقصداً، أو الإشراك به، والثاني معلوم الفساد، فوجب أن يكون في فطرته مقتض يقتضي توحيده.

ولهذا فالفطرة ليست ملكة مستقلة كما أن الذاكرة أو الحس ملكات مستقلة ولكنها كما ذكر ابن تيمية هي استعداد لإدراك الحقائق ومعرفتها حيث يقول: فإن الله تعالى ... جعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق، لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام.

والفطرة قدرة كامنة بحاجة للتجربة والاحتكاك بالواقع كي تتولد المعرفة الضرورية فالانسان يولد لا يعلم شيئا وكل المعلومات الضرورية أو المعتقدات الأساسية تتولد نتيجة الاحتكاك بالواقع بما في ذلك المسلمات المنطقية ومفهوم السببية ووجود العالم الخارجي. ومن المعلومات الضرورية أو المعتقدات الأساسية وجود الله.

والدليل التجريبي يشير إلى أن الإيمان بالله هو اعتقاد بديهي. فوفقا لبحث نشرته جمعية علم النفس الأمريكية، في سلسلة من الدراسات، وجد الباحثون في جامعة هارفارد أن الأشخاص الذين لديهم نمط تفكير بديهي لديهم ميل إلى الإيمان بالله على نحو أكثر رسوخا من أولئك الذين لديهم نمط تفكير تأملي. التفكير البديهي يعني اتباع السليقة واتخاذ القرارات بسرعة بناء على العمليات الذهنية التلقائية. ينطوي التفكير التأملي في المقابل على التشكيك في البديهة والنظر في الاحتمالات الأخرى ، مما قد يسمح باتخاذ قرارات تعارض البديهة. ووجدت الدراسة أيضا أن هذه الصلة الواضحة بين أنماط التفكير المختلفة ودرجة الإيمان لا يمكن تفسيرها بالاختلاف في قدرة المشاركين في الدراسة على التفكير أو معدل الذكاء.

راجع:

Journal of Experimental Psychology: General 2012, Vol. 141, No. 3, 423-428

بطبيعة الحال تختلف المعتقدات الأساسية بخصوص طبيعة التجارب التي تولد المعتقد لكن تولد المعتقدات الأساسية والمعرفة الضرورية ليس من قبيل الاستقراء ولكن الاحتكاك بالواقع والتجربة شرط كي تنطبع تلك المعرفة الضرورية في الذهن. التجربة في حالة المعرفة الضرورية بوجود الله هو إدراك الآيات في الآفاق والأنفس، كاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض. وهذا ما نطلق عليه نظرية ابن تيمية في "الاستدلال بالآيات" وهي عينها الطريقة القرآنية التي ينبغي ألا يُعدل عنها في إثبات وجود الله ووحدانيته. فالناس ليسوا بحاجة لاستنباط أو استنتاج فلسفي للاعتقاد في وجود الله وفي ذلك يقول ابن تيمية: وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّسُلِ مَنْ قَالَ أَوَّلَ مَا دَعَا قَوْمَهُ: إنَّكُمْ مَأْمُورُونَ بِطَلَبِ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَانْظُرُوا وَاسْتَدِلُّوا حَتَّى تَعْرِفُوهُ. فَلَمْ يُكَلَّفُوا أَوَّلًا بِنَفْسِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْمَعْرِفَةِ إذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ تَعْرِفُهُ وَتُقِرُّ بِهِ وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ لَكِنْ عَرَضَ لِلْفِطْرَةِ مَا غَيَّرَهَا وَالْإِنْسَانُ إذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ مَا فِي فِطْرَتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ فِي خِطَابِهِ لِمُوسَى "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ" مَا فِي فِطْرَتِهِ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ رَبَّهُ وَيَعْرِفُ إنْعَامَهُ عَلَيْهِ وَإِحْسَانَهُ إلَيْهِ وَافْتِقَارَهُ إلَيْهِ فَذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ "أوْ يَخْشَى" مَا يُنْذِرُهُ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ فَذَلِكَ أَيْضًا يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ.

ويقول أيضا في مجموع الفتاوى: وَلَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ الْكُلِّيُّ فَائِدَتُهُ أَمْرٌ مُطْلَقٌ لَا مُعَيَّنٌ: كَانَ إثْبَاتُ الصَّانِعِ بِطَرِيقِ الْآيَاتِ هُوَ الْوَاجِبَ. كَمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقَةُ الْقِيَاسِيَّةُ صَحِيحَةً، لَكِنَّ فَائِدَتَهَا نَاقِصَةٌ، وَالْقُرْآنُ إذَا اسْتَعْمَلَ فِي الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّاتِ اسْتَعْمَلَ قِيَاسَ الْأَوْلَى لَا الْقِيَاسَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ مَا وَجَبَ تَنْزِيهُ مَخْلُوقٍ عَنْهُ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي لَا كَمَالَ فِيهَا. فَالْبَارِي تَعَالَى أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا آيَاتٌ لِلْخَالِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هِيَ آيَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَيْهِ، فَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ دَلِيلٌ وَآيَةٌ عَلَى الْخَالِقِ نَفْسِهِ، كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ. ثُمَّ الْفِطَرُ تَعْرِفُ الْخَالِقَ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ (قلت: أي تتصوره)، فَإِنَّهَا قَدْ فُطِرَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَهُ، فَإِنَّ كَوْنَهَا آيَةً لَهُ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ: مِثْلَ كَوْنِ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى الْمُسَمَّى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُسَمَّى قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا اسْمٌ لَهُ، فَكَذَلِكَ كَوْنُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى هَذَا يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ، فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَدْلُولُ مُتَصَوَّرًا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، ... وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ لِلْخَالِقِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ؛ حَتَّى يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ دَلَائِلُ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ الْعَقْلِيَّةَ الْفِطْرِيَّةَ هِيَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَاتَّفَقَ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، وَتَلَازَمَ الرَّأْيُ وَالسَّمْعُ.

فالإيمان بالله تنطبق عليه شروط المعرفة وفق توصيف الوظيفية الملائمة. لكن قد يعترض على ذلك بالقول هذا يصح إذا كان وجود الله حقيقة في نفس الأمر كي يكون الاعتقاد مطابقا للواقع الذي هو أحد شروط المعرفة، فيقال في حالة المعتقدات الأساسية الضرورية لا يوجد دليل (مقنع) أو على الأقل لسنا بحاجة لدليل على كونها واقع الأمر كمثال وجود العالم الخارجي ونواتج الذاكرة واستحالة اجتماع الضدين ونحو ذلك من المعلومات بالضرورة.

وهذا بخلاف مثال حال الطقس الأسبوع المقبل فأنت بحاجة لاستنباط تبني عليه اعتقادك في ذلك، لأن ملكاتنا الذهنية لا تمكننا من توليد تلك المعرفة على نحو تلقائي أساسي. ففي حالة المعتقدات الأساسية، في غياب المعارض defeater الإنسان لديه مسوغ لإيمانه بالله كما أن لديه مسوغ للثقة بحواسه وذاكرته وسائر ملكاته الذهنية مالم يكن هناك معارض كأن يكون هناك ما يرجح خلل في أحد الشروط كأن تكون الملكات لا تعمل بشكل سليم مثل خلل الحس والذاكرة كملكات إدراكية أو ذهنية. أو أن البيئة التي تعمل فيها لا تمكنها من تكوين معتقدات صحيحة استنادا لتلك الملكات.

وهذا التصور برمته ينطبق كذلك على العقيدة الإسلامية. فالله فطر الناس على اعتقاد صحة هذا الدين بمعنى أن لديهم الاستعداد والقدرة الكامنة على تقبله. وهذا الاعتقاد في صحته مرتبط بالتعرف عليه من خلال الآيات المقروءة في القرآن. ولذلك كان مجرد سماع القرآن وما يتضمنه ذلك من استيعاب معانيه كافيا لإقامة الحجة. ولذلك قال تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه. وقال: قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.

لكن قد يُعترض على ذلك بأن أهل كل ديانة يمكنهم ببساطة ادعاء أن الناس لديها استعداد فطري لتقبل تلك الأديان وأن اعتقادهم في صحة أديانهم هي معرفة أساسية ضرورية نسجا على نفس المنول. وهذا الاعتراض يسمى مبدأ الأوزان المتساوية equal weight principle.

إلا أن هذا المبدأ ينقض نفسه لأنه بتطبيق المبدأ على نفسه تجد أن المعتقدين في صحته والمعتقدين في بطلانه أيضا ليس لديهم مسوغ الاعتقاد في صحته أو بطلانه وبالتالي المعتقد في صحته ليس لديه معرفة بصحة هذا المبدأ. فوجود أديان متعددة بحد ذاته لا يعني أن الجميع يستوي فيما يخص توفر المسوغ للاعتقاد في صحة تلك الأديان. بل هذا ينطبق على القضايا الضرورية التي طالها الشك مثل السببية ووجود العالم الخارجي ونحو ذلك. فلو كان المثبت للسببية والعالم الخارجي بمنزلة المتشكك لما كان لدينا مسوغ لكوننا نعرف صحة تلك المعتقدات وكونها تمثل معرفة.

وهنا يأتي دور الحجج والاستدلال والتسويغ باعتباره كما تقدم ينتمي لطائفة المفاهيم التي يطلق عليها التقييم المعرفي الإيجابي positive epistemic appraisal.

فمن خلال الحجج الفلسفية يمكن إقناع بعض المخالفين بالتخلي عن تصوراتهم الخاطئة التي كونوها نتيجة لما طرأ على تصوراتهم وفطرهم (طريقة عمل ملكاتهم الذهنية) من فساد (عادة نتيجة للبيئة). أما نحن فلسنا بحاجة لحجج فلسفية لمعرفة صحة ما نعتقد في صحته كمعتقد ضروري أو أساسي كالإيمان بالله. فمن يدعي أنا ما نعتقد فيه ليس معرفة هو المطالب بالدليل أو المعارض defeater فعلى عاتقه يقع عبء الإثبات.