Mahmoud Muhammad
09-01-2023, 07:00 PM
على من يقع عبء الإثبات؟ نظرية المعرفة المعدلة والعقيدة الإسلامية
يهدف الباحث جيمي ترنر في هذا المقال إلى رسم ملامح نظرية معرفية متماسكة وبيان العلاقة بينها وبين العقيدة الإسلامية. ومن خلال ذلك يسوق الدلائل على أن شروط المعرفة مستوفاة في العقيدة الإسلامية دون اللجوء إلى دلائل فلسفية. وكذلك يهدف إلى بيان أن المؤمنين بالعقيدة الإسلامية فيما يخص الإيمان بوجود الله لا يتحملون عبء الإثبات.
هناك فرضية قائلة بأن من يؤمنون بوجود الله هم من يقع على عاتقهم عبء الإثبات حتى تكون لديهم معرفة او علم بصحة ما يؤمنون به. ولأن المؤمنين لا يتوفر لديهم ذلك الإثبات فليس لديهم معرفة أو علم بصحة ما يعتقدون. ودعونا نطلق على تلك الفرضية " الاعتراض الإثباتي على وجود الله" evidential objection.
المؤيدون لهذا الفرضية يتصورون أن الدلائل الفلسفية على وجود الله وحدها تشكل الأساس السليم أو الأرضية التي يبنى عليها الإيمان بوجود الله. ودعونا لا نتطرق إلى كون الأدلة الفلسفية التي تساق للدلالة على وجود الله كافية لتسويغ الاعتقاد في وجوده.
لكن حري بنا أن نتوقف للحظات لنتأمل السؤال التالي: ألا توجد معتقدات نتمسك بها دون أن تكون مبنية على حجج فلسفية ولدينا المسوغات للاعتقاد فيها ولدينا القناعة التامة في اعتبارها تشكل علما أو معرفة صحيحة؟.
على سبيل المثال الاعتقاد في وجود أشخاص غيرنا يتمتعون بالوعي والإدراك. فنحن نعتقد أنه يوجد من حولنا أناس لديهم إدراك ووعي، وليس أن كل من حولنا مجرد ألات عبارة عن ربوتات في هيئة آدمية.
أيضا مثال وجود العالم في الخارج عن الأذهان، فنحن جميعا نؤمن بوجوده مالم يكن لدينا خلل في قوانا العقلية، وليس أن ما نظنه عالما خارجيا هو في حقيقته مجرد محاكاة حاسوبية، وأننا لسنا سوى أدمغة في أوعية brain-in –a vat يتصل بها بعض الأسلاك التي تمدها بالإثارات العصبية المناسبة التي بدورها تولد في أذهاننا صورة ذلك العالم الافتراضي.
كذلك مثال المعرفة بالأحداث الماضية. فنحن نعتمد على الذاكرة في الاعتقاد في وجود أحداث ماضية وليس أننا لم نخلق منذ خمس دقائق مثلا وهناك من قام بتلقيننا ذكريات مختلقة. لدينا أيضا معتقدات أخرى مثل الاعتقاد في سلامة ملكاتنا الذهنية وأنها تعمل من أجل أو على الأقل لديها القدرة الكامنة على تكوين تصورات صحيحة عن الواقع. فإن لم نفعل فلن نتمكن حتى من الثقة بكونا نتشكك في ملكاتنا الذهنية، إذ إن لم نثق بملكاتنا الذهنية كيف يمكن الاعتقاد في موضوعية الشكوك التي تساورنا حيالها دون الاستناد إلى نفس تلك الملكات التي نتشكك فيها.
إن لم تتضح الصورة بعد فدعوني أقدم مزيدا من الإيضاح. هيا بنا الآن نرجع إلى الفرضية السابقة (الاعتراض الإثباتي)، على وجه التحديد المقدمة الأولى منها ألا وهي: إن عبء الإثبات من خلال حجج فلسفية يقع على عاتق المؤمنين حتى تكون لديهم معرفة أو علم صحيح باعتقادهم في وجود الله.
فهل المعتقدات السابقة التي عرضناها يمكن إقامة حجج فلسفية على صحتها؟ وإذا افترضنا أنه يمكن ذلك هل نحن نعتقد في صحتها استنادا لتلك الحجج المفترضة؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال هي بالنفي بشكل أو بآخر.
فليس لدي حجة مقنعة على أن ذكرياتي عن الأحداث الماضية صحيحة دون الاستناد إلى نفس الملكة الذهنية التي هي محل نظر وتساؤل ألا وهي الذاكرة. ولنستثن ههنا الأحداث التي يمكن الاستدلال على حصولها بطريق غير مباشر (وإن كان من قام بتلقيننا تلك الذكريات يمكنه أن يلفق كل الدلائل المادية التي تتسق مع تلك الذكريات).
فإن جاز لنا التمسك بتلك التصورات بلا حاجة بنا لإقامة دلائل فلسفية على صحتها باعتبار أنها مسائل بديهية، ففي أي شيء يختلف الإيمان بوجود الله عن تلك المعتقدات بالرغم من كونه أمر بديهي بحد ذاته. لماذا ينظر لقضية الإيمان بوجود الله بتلك نظرة دونية باعتبارها غير محصنة من الشك شأنها شأن تلك التصورات البديهية؟!.
لمعالجة تلك المسائل يسعى هذا المقال إلى تقديم الدلائل على صحة "نظرية المعرفة المعدلة" reformed epistemology والتي يقصد بها أن قضايا الإيمان قد تكون صحيحة دون الحاجة إلى حجج فلسفية. وهذا بالنظر بشكل خاص إلى فكر ابن تيمية، ومن خلال توظيف مفهوم الفطرة والاستدلال بالآيات لديه ورؤيته المعرفية بوجه عام. لكن صياغة نموذج خاص من تلك النظرية يستند إلى رؤية ابن تيمية يقتضي منا أن يصاغ ذلك النموذج من الألف إلى الياء.
لكن قبل المضي قدما علينا أن نتسلح أولا ببعض المفاهيم الأساسية والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بنظرية المعرفة. ويمكن حصر تلك المفاهيم فيما يلي:
أولا: نظرية المعرفة الثلاثية (الأجزاء) tripartite theory of knowledge وإشكالية غيتييه Gettier problem
ثانيا: مفهوم التسويغ والمسوغ justification and warrant
ثالثا: مفهوم الوظيفية الملائمة proper functionalism
رابعا: المعتقدات الأساسية وغير الأساسية
ولنبدأ بمفهوم نظرية المعرفة الثلاثية. لنفترض أن لديك اعتقادا في أن الأفيال في قارة أفريقيا لونها قرنفلي، فهل اعتقادك هذا يمثل يصنف على أنه علم أو معرفة؟ يبدو أن اعتقادك هذا يفتقد لمكون جوهري في مفهوم المعرفة ألا وهو مطابقة الاعتقاد لواقع الأمر. فواقع الأمر أن الأفيال في أفريقيا لونها ليس قرنفليا. لكن هل مطابقة الاعتقاد لواقع الأمر يكفي للعلم بالشيء أو معرفته؟.
تخيل أنك اعتقدت في فوز نادي "أكرنجتون ستانلي" على "مانشترد يونايد" بنتيجة 5 إلى 1 على ملعب الخصم في دور ربع النهائي. ولنفترض أن النتيجة جاءت كما توقعت، ففي هذه حالة تطابق اعتقادك مع واقع الأمر لكن هل بالفعل كانت لديك معرفة بهذه النتيجة أو هل يصنف اعتقادك في تلك الحالة على أنه علم أو معرفة خاصة بالنظر إلى البون الشاسع بين مستوى الفريقين؟.
أغلب الناس على الأرجح سيميل للقول بالنفي. فيبدو أن الحظ قد حالفك في هذا الأمر، إذ ليس لديك أرضية تبني عليها ذلك الاعتقاد وتفتقد عنصرا ما مهم لتكون لديك معرفة بهذا الأمر. ربما يكون هذا العنصر هو وجود المسوغ.
الآن افترض أنك تعتقد أن السماء تمطر وكان الأمر كما تعتقد فعلى خلاف نتيجة المبارة فأنت لديك أرضية تبني عليها اعتقادك في أنها تمطر كأن تكون رأيت المطر من خلال النافذة أو سمعت صوت قطرات المطر لدى اصطدامها بالأرض. فالآن أنت لديك المكونات الثلاثة لمفهوم نظرية المعرفة الثلاثية وهي الاعتقاد و مطابقة الاعتقاد للواقع ووجود المسوغ لهذا الاعتقاد. وما نعنيه بالمسوغ هو الدليل الذي يربط ما بين الاعتقاد وواقع الأمر. أو الدليل الذي يجعل اعتقادك سائغا في أن الشيء الفلاني هو واقع الأمر.
إذا هل من الصواب أن نقول أن المعرفة هي الاعتقاد المطابق للواقع الذي له مسوغاته؟. أغلب الفلاسفة لا يرى ذلك. والسبب في ذلك يرجع إلى "إشكالية غتييه" نسبة إلى إدموند غتييه الذي قام بنشر ورقة بحثية قصيرة في يونيو من العام 1963 عرض فيها إشكاليته بخصوص نظرية المعرفة الثلاثية. وجوهر تلك الإشكالية أنه قد تتوفر لديك المكونات الثلاثة ولكن مطابقة اعتقادك للواقع كانت نتيجة لمحالفة الحظ لك لا أكثر.
ولنضرب مثالا لإشكالية غتييه. تخيل أن لديك موعدا في عيادة الأسنان، ولدى دخولك إلى صالة الاستقبال وأنت تخشي أن يكون قد فاتك الموعد فبينما أنت تجلس، ودعنا نفترض أن ساعتك بها عطل واضطررت أن تتركها للساعاتي كي يقوم بإصحالها، نظرت للساعة المعلقة على الحائظ فوجدت أن عقاربها تشير للساعة الثانية عشرة ظهرا فتولدت لديك القناعة أنه لا تزال هناك خمس عشرة دقيقة على موعدك (على افتراض أن موعدك في الثانية عشرة وخمس عشرة دقيقة). لكن في نفس الأمر ساعة الحائط لا تعمل واتفق أن عقاربها كانت تشير للساعة الثانية عشرة عند حدوث العطل. فهنا أنت لديك المكونات الثلاثة بما في ذلك الموسغ لاعتقادك في أنك وصلت إلى العيادة في تلك الساعة لكن لا يبدو أنك في واقع الأمر عرفت أنك وصلت في تلك الساعة لأن المسوغ في هذه الحالة ليس دليلا على مطابقة اعتقادك لواقع الأمر حتى وإن طابق اعتقادك واقع الأمر لأنك لم تعتقد في ذلك الأمر لسبب صحيح (فالسبب في المثال هو إشارة عقارب الساعة، التي لا تعمل، بمحض الصدفة للساعة الثانية عشرة)
لذا يبدو أن نظرية المعرفة الثلاثية ليست وسيلة مناسبة لضبط شروط المعرفة، ولكن مرة أخرى يبدو أن هناك شيئًا غائبا. لقد جرت ولا تزال تجري محاولات متنوعة لبيان الشكل الذي تبدو عليه تلك الشروط، ولكن يمكن القول أن أفضل رؤية للمعرفة والتي تذهب بـ "إشكالية غتييه"، وتغير بشكل جذري الطريقة التي يُنظر بها إلى التوصيف الفلسفي للمعرفة و المفاهيم المرتبطة بها، هي أطروحة أُطلق عليها "الوظيفية الملائمة" proper functionalism .
يتبع ...
يهدف الباحث جيمي ترنر في هذا المقال إلى رسم ملامح نظرية معرفية متماسكة وبيان العلاقة بينها وبين العقيدة الإسلامية. ومن خلال ذلك يسوق الدلائل على أن شروط المعرفة مستوفاة في العقيدة الإسلامية دون اللجوء إلى دلائل فلسفية. وكذلك يهدف إلى بيان أن المؤمنين بالعقيدة الإسلامية فيما يخص الإيمان بوجود الله لا يتحملون عبء الإثبات.
هناك فرضية قائلة بأن من يؤمنون بوجود الله هم من يقع على عاتقهم عبء الإثبات حتى تكون لديهم معرفة او علم بصحة ما يؤمنون به. ولأن المؤمنين لا يتوفر لديهم ذلك الإثبات فليس لديهم معرفة أو علم بصحة ما يعتقدون. ودعونا نطلق على تلك الفرضية " الاعتراض الإثباتي على وجود الله" evidential objection.
المؤيدون لهذا الفرضية يتصورون أن الدلائل الفلسفية على وجود الله وحدها تشكل الأساس السليم أو الأرضية التي يبنى عليها الإيمان بوجود الله. ودعونا لا نتطرق إلى كون الأدلة الفلسفية التي تساق للدلالة على وجود الله كافية لتسويغ الاعتقاد في وجوده.
لكن حري بنا أن نتوقف للحظات لنتأمل السؤال التالي: ألا توجد معتقدات نتمسك بها دون أن تكون مبنية على حجج فلسفية ولدينا المسوغات للاعتقاد فيها ولدينا القناعة التامة في اعتبارها تشكل علما أو معرفة صحيحة؟.
على سبيل المثال الاعتقاد في وجود أشخاص غيرنا يتمتعون بالوعي والإدراك. فنحن نعتقد أنه يوجد من حولنا أناس لديهم إدراك ووعي، وليس أن كل من حولنا مجرد ألات عبارة عن ربوتات في هيئة آدمية.
أيضا مثال وجود العالم في الخارج عن الأذهان، فنحن جميعا نؤمن بوجوده مالم يكن لدينا خلل في قوانا العقلية، وليس أن ما نظنه عالما خارجيا هو في حقيقته مجرد محاكاة حاسوبية، وأننا لسنا سوى أدمغة في أوعية brain-in –a vat يتصل بها بعض الأسلاك التي تمدها بالإثارات العصبية المناسبة التي بدورها تولد في أذهاننا صورة ذلك العالم الافتراضي.
كذلك مثال المعرفة بالأحداث الماضية. فنحن نعتمد على الذاكرة في الاعتقاد في وجود أحداث ماضية وليس أننا لم نخلق منذ خمس دقائق مثلا وهناك من قام بتلقيننا ذكريات مختلقة. لدينا أيضا معتقدات أخرى مثل الاعتقاد في سلامة ملكاتنا الذهنية وأنها تعمل من أجل أو على الأقل لديها القدرة الكامنة على تكوين تصورات صحيحة عن الواقع. فإن لم نفعل فلن نتمكن حتى من الثقة بكونا نتشكك في ملكاتنا الذهنية، إذ إن لم نثق بملكاتنا الذهنية كيف يمكن الاعتقاد في موضوعية الشكوك التي تساورنا حيالها دون الاستناد إلى نفس تلك الملكات التي نتشكك فيها.
إن لم تتضح الصورة بعد فدعوني أقدم مزيدا من الإيضاح. هيا بنا الآن نرجع إلى الفرضية السابقة (الاعتراض الإثباتي)، على وجه التحديد المقدمة الأولى منها ألا وهي: إن عبء الإثبات من خلال حجج فلسفية يقع على عاتق المؤمنين حتى تكون لديهم معرفة أو علم صحيح باعتقادهم في وجود الله.
فهل المعتقدات السابقة التي عرضناها يمكن إقامة حجج فلسفية على صحتها؟ وإذا افترضنا أنه يمكن ذلك هل نحن نعتقد في صحتها استنادا لتلك الحجج المفترضة؟ يبدو أن الإجابة على هذا السؤال هي بالنفي بشكل أو بآخر.
فليس لدي حجة مقنعة على أن ذكرياتي عن الأحداث الماضية صحيحة دون الاستناد إلى نفس الملكة الذهنية التي هي محل نظر وتساؤل ألا وهي الذاكرة. ولنستثن ههنا الأحداث التي يمكن الاستدلال على حصولها بطريق غير مباشر (وإن كان من قام بتلقيننا تلك الذكريات يمكنه أن يلفق كل الدلائل المادية التي تتسق مع تلك الذكريات).
فإن جاز لنا التمسك بتلك التصورات بلا حاجة بنا لإقامة دلائل فلسفية على صحتها باعتبار أنها مسائل بديهية، ففي أي شيء يختلف الإيمان بوجود الله عن تلك المعتقدات بالرغم من كونه أمر بديهي بحد ذاته. لماذا ينظر لقضية الإيمان بوجود الله بتلك نظرة دونية باعتبارها غير محصنة من الشك شأنها شأن تلك التصورات البديهية؟!.
لمعالجة تلك المسائل يسعى هذا المقال إلى تقديم الدلائل على صحة "نظرية المعرفة المعدلة" reformed epistemology والتي يقصد بها أن قضايا الإيمان قد تكون صحيحة دون الحاجة إلى حجج فلسفية. وهذا بالنظر بشكل خاص إلى فكر ابن تيمية، ومن خلال توظيف مفهوم الفطرة والاستدلال بالآيات لديه ورؤيته المعرفية بوجه عام. لكن صياغة نموذج خاص من تلك النظرية يستند إلى رؤية ابن تيمية يقتضي منا أن يصاغ ذلك النموذج من الألف إلى الياء.
لكن قبل المضي قدما علينا أن نتسلح أولا ببعض المفاهيم الأساسية والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بنظرية المعرفة. ويمكن حصر تلك المفاهيم فيما يلي:
أولا: نظرية المعرفة الثلاثية (الأجزاء) tripartite theory of knowledge وإشكالية غيتييه Gettier problem
ثانيا: مفهوم التسويغ والمسوغ justification and warrant
ثالثا: مفهوم الوظيفية الملائمة proper functionalism
رابعا: المعتقدات الأساسية وغير الأساسية
ولنبدأ بمفهوم نظرية المعرفة الثلاثية. لنفترض أن لديك اعتقادا في أن الأفيال في قارة أفريقيا لونها قرنفلي، فهل اعتقادك هذا يمثل يصنف على أنه علم أو معرفة؟ يبدو أن اعتقادك هذا يفتقد لمكون جوهري في مفهوم المعرفة ألا وهو مطابقة الاعتقاد لواقع الأمر. فواقع الأمر أن الأفيال في أفريقيا لونها ليس قرنفليا. لكن هل مطابقة الاعتقاد لواقع الأمر يكفي للعلم بالشيء أو معرفته؟.
تخيل أنك اعتقدت في فوز نادي "أكرنجتون ستانلي" على "مانشترد يونايد" بنتيجة 5 إلى 1 على ملعب الخصم في دور ربع النهائي. ولنفترض أن النتيجة جاءت كما توقعت، ففي هذه حالة تطابق اعتقادك مع واقع الأمر لكن هل بالفعل كانت لديك معرفة بهذه النتيجة أو هل يصنف اعتقادك في تلك الحالة على أنه علم أو معرفة خاصة بالنظر إلى البون الشاسع بين مستوى الفريقين؟.
أغلب الناس على الأرجح سيميل للقول بالنفي. فيبدو أن الحظ قد حالفك في هذا الأمر، إذ ليس لديك أرضية تبني عليها ذلك الاعتقاد وتفتقد عنصرا ما مهم لتكون لديك معرفة بهذا الأمر. ربما يكون هذا العنصر هو وجود المسوغ.
الآن افترض أنك تعتقد أن السماء تمطر وكان الأمر كما تعتقد فعلى خلاف نتيجة المبارة فأنت لديك أرضية تبني عليها اعتقادك في أنها تمطر كأن تكون رأيت المطر من خلال النافذة أو سمعت صوت قطرات المطر لدى اصطدامها بالأرض. فالآن أنت لديك المكونات الثلاثة لمفهوم نظرية المعرفة الثلاثية وهي الاعتقاد و مطابقة الاعتقاد للواقع ووجود المسوغ لهذا الاعتقاد. وما نعنيه بالمسوغ هو الدليل الذي يربط ما بين الاعتقاد وواقع الأمر. أو الدليل الذي يجعل اعتقادك سائغا في أن الشيء الفلاني هو واقع الأمر.
إذا هل من الصواب أن نقول أن المعرفة هي الاعتقاد المطابق للواقع الذي له مسوغاته؟. أغلب الفلاسفة لا يرى ذلك. والسبب في ذلك يرجع إلى "إشكالية غتييه" نسبة إلى إدموند غتييه الذي قام بنشر ورقة بحثية قصيرة في يونيو من العام 1963 عرض فيها إشكاليته بخصوص نظرية المعرفة الثلاثية. وجوهر تلك الإشكالية أنه قد تتوفر لديك المكونات الثلاثة ولكن مطابقة اعتقادك للواقع كانت نتيجة لمحالفة الحظ لك لا أكثر.
ولنضرب مثالا لإشكالية غتييه. تخيل أن لديك موعدا في عيادة الأسنان، ولدى دخولك إلى صالة الاستقبال وأنت تخشي أن يكون قد فاتك الموعد فبينما أنت تجلس، ودعنا نفترض أن ساعتك بها عطل واضطررت أن تتركها للساعاتي كي يقوم بإصحالها، نظرت للساعة المعلقة على الحائظ فوجدت أن عقاربها تشير للساعة الثانية عشرة ظهرا فتولدت لديك القناعة أنه لا تزال هناك خمس عشرة دقيقة على موعدك (على افتراض أن موعدك في الثانية عشرة وخمس عشرة دقيقة). لكن في نفس الأمر ساعة الحائط لا تعمل واتفق أن عقاربها كانت تشير للساعة الثانية عشرة عند حدوث العطل. فهنا أنت لديك المكونات الثلاثة بما في ذلك الموسغ لاعتقادك في أنك وصلت إلى العيادة في تلك الساعة لكن لا يبدو أنك في واقع الأمر عرفت أنك وصلت في تلك الساعة لأن المسوغ في هذه الحالة ليس دليلا على مطابقة اعتقادك لواقع الأمر حتى وإن طابق اعتقادك واقع الأمر لأنك لم تعتقد في ذلك الأمر لسبب صحيح (فالسبب في المثال هو إشارة عقارب الساعة، التي لا تعمل، بمحض الصدفة للساعة الثانية عشرة)
لذا يبدو أن نظرية المعرفة الثلاثية ليست وسيلة مناسبة لضبط شروط المعرفة، ولكن مرة أخرى يبدو أن هناك شيئًا غائبا. لقد جرت ولا تزال تجري محاولات متنوعة لبيان الشكل الذي تبدو عليه تلك الشروط، ولكن يمكن القول أن أفضل رؤية للمعرفة والتي تذهب بـ "إشكالية غتييه"، وتغير بشكل جذري الطريقة التي يُنظر بها إلى التوصيف الفلسفي للمعرفة و المفاهيم المرتبطة بها، هي أطروحة أُطلق عليها "الوظيفية الملائمة" proper functionalism .
يتبع ...