المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفطرة في ضوء علم الإدراك



Mahmoud Muhammad
09-14-2023, 11:07 PM
الموضوع عبارة عن ترجمة لمقتطفات من ورقة بحثية بعنون:
Ibn Taymiyya on Human Nature and Belief in God: Using the Cognitive Science of Religion to Study the Fiṭra
by Daniel Jou

تناولت العديد من الأعمال الأكاديمية نظرية المعرفة عند ابن تيمية ومفهومه عن الفطرة، لكن لم يقم أي عمل حتى الآن بتحليل آراءه بالنظر إلى العلوم البيولوجية والنفسية الحديثة. وعلى وجه الخصوص، فإن "علم الإدراك الديني" cognitive science of religion هو ذو أهمية قصوى لأطروحات ابن تيمية. فهو يبحث في كيفية ارتباط الإدراك البشري بالتجربة الدينية.
(Guthrie 1993; Atran 2002; Barrett 2011; Bering 2011; Johnson 2016)
ويقرر علم الإدراك أن جوانب معينة من النفس البشرية، بما في ذلك الإدراك والعواطف والبديهات والسلوكيات وما إلى ذلك، إما أن تكون جبليَّة أو يولد بها الطفل أو تنمو بشكل طبيعي مع نضوج الأطفال على اختلاف الأعراق والثقافات.
(Atran 2002; Barrett 2004; Kelemen 2004; Petrovich 2019)
يشير علم الإدراك الديني إلى أن هذه السمات العامة المتجذرة في الطبيعة البشرية تفسر لماذا تشترك الأديان التي تطورت بشكل مستقل عن بعضها البعض تاريخياً في قواسم مشتركة على نحو مثير للدهشة على الرغم من اختلافاتها العديدة. هذه القواسم المشتركة هي نتاج للآليات البيولوجية والنفسية الأساسية التي يتقاسمها جميع البشر. تشير التجارب النفسية، على سبيل المثال، إلى أن مثل هذه الآليات تولد تصورات بديهية تظهر لدى الأطفال الصغار وتستمر حتى مرحلة البلوغ
(Boyer
2001; Barrett 2011; McCauley 2011; Haidt 2012; Norenzayan 2013; Tomasello 2016)
تتضمن هذه البديهات معتقدات بوجود كائنات روحية، أي كائنات تمتلك عقلًا ولكنها تفتقر إلى أجساد مادية، وأن الله موجود وأنه ليس جسدا، و أنه كلي القدرة وأنه هو خالق الكون، وأن الروح موجودة، وأن هناك حياة بعد الموت، وأن الأشياء السيئة تحدث لأولئك الذين يرتكبون الشر، وأن الأشياء الجيدة تحدث لأولئك الذين يفعلون الخير
(Boyer 2001; Atran 2002; Barrett 2004; Bloom 2007; Bulbulia 2007; McCauley 2011; Johnson 2016)
يمكن القول إن علم الإدراك الديني له تعلق بمنهج ابن تيمية أكثر من غيره من علماء الإلهيات المسلمين على مر التاريخ. وذلك بسبب تركيز ابن تيمية على الفطرة ووضعه للفطرة في المركز من منهجه المعرفي والوجودي.
لقد تناول علماء دين آخرون مفهوم الفطرة أيضًا، لكن ابن تيمية يطرح مفهوم الفطرة بأساليب فريدة تميزه عن غيره. في مذاهب العقيدة الإسلامية الكبرى، على سبيل المثال، الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة، فإن مفهوم العقل، وليس الفطرة، هو محور الاهتمام، وتحديدًا مفهوم العقل الذي يتبدى من خلال الانخراط بقوة وعمق من قبل علماء العقيدة المسلمين في التقليد الفلسفي اليوناني.
(Hallaq 1991; von Kügelgen 2013; El-Tobgui 2018)
بالنسبة لهؤلاء العلماء، العقل هو الملكة التي يستعملها البشر للانخراط في عملية الاستدلال المنهجي المبني على أساس من المعلومات الضرورية والمسبقة، في حين تتعلق الفطرة بالمعرفة البديهية التي لا تتطلب ذلك الاستدلال المنهجي.
(Abrahamov 1993; Hallaq 1993; Nakissa 2020b)
من خلال التأكيد على الفطرة، ينقل ابن تيمية، في الواقع، الجدل العقدي بعيدًا عن نطاق الاستنتاج الفلسفي المنهجي، بكل خصوصياته واعتماده على التقليد الفلسفي اليوناني، وينقله إلى ما يعتبره نطاق الطبيعة البشرية العامة.
وهذا يعني أن الطبيعة البشرية هي مصدر للمعرفة الدينية بحيث أنه حتى الأطفال الصغار وعامة الناس يمكنهم الوصول إلى اليقين بشأن الله وصفاته، في حين رأت المذاهب الأخرى أن اليقين لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الأدلة العقلانية التي لا يستطيع إلا المتمرسون في المنطق، والميتافيزيقا، وتحليل المعرفة الضرورية أو المسبقة - أي النخبة الفلسفية المتمرسة – أن يعالجوها. بالطبع، لا شيء من هذا يعني أن ابن تيمية كان يعتبر أن العقل والفطرة منفصلان تمامًا؛ في الواقع، اعتقد ابن تيمية وغيره من علماء العقيدة، مثل الفقيه الأشعري أبو حامد الغزالي، أن العقل جزء من الفطرة، أو على الأقل منبثق عنها.
(Nakissa 2020b)
وبعبارة أكثر إيجازًا، يقدم علماء العقيدة الآخرون ادعاءات قليلة نسبيًا حول الطبيعة البشرية، في حين يقدم ابن تيمية العديد من الادعاءات حول الطبيعة البشرية التي يمكن تحليلها من خلال علم الإدراك الديني.
من خلال تطبيق علم الإدراك الديني، يمكننا أن نرى أن بعض الملامح الجوهرية لمنظور ابن تيمية العقدي ومفهومه للطبيعة البشرية ترتكز على سمات للإدراك البشري ذات طابع أعمق وأعم. والتي لا تقتصر على خصوصيات تحيزات ابن تيمية، وبيئته، والضغوط السياسية في عصره، ونحو ذلك. إن الغرض من مقارنة رؤية ابن تيمية بنتائج علم الإدراك هو إثبات الدعوى القائلة بأن ملامح العقيدة الإسلامية قد تكون نابعة من الطبيعة البيولوجية والسيكولوجية للبشر، وليس من التأثير الثقافي البحت والسياق التاريخي.
يساعد علم الإدرك في تفسير مصدر بعض الالتزامات العقدية الرئيسية لدى ابن تيمية. على سبيل المثال، يتمسك ابن تيمية بفكرة ميل الأطفال إلى الإيمان بالله. فمن أين جاء ابن تيمية بهذه الفكرة؟ أحد التفسيرات هو أنه ببساطة ورث هذا الاعتقاد من المؤسسات الإسلامية التي تنشر هذا الاعتقاد من خلال السلطة المؤسسية. قد يكون هناك تفسير آخر وهو أن الأطفال، في واقع الأمر، يميلون إلى الإيمان بالله، وقد لاحظ ابن تيمية ذلك بنفسه من خلال ملاحظة الأطفال، أو من خلال الاستبطان أو مطالعة النفس، حيث أدرك ذلك الأمر عن معتقداته في طفولته، ونحو ذلك. وهذا التفسير الأخير - وهو لا يتعارض مع التفسير الأول – قد نجد له سند من خلال أبحاث علم الإدراك التي تعالج مسألة ما إذا كان الأطفال يميلون بشكل طبيعي إلى الإيمان بالله أم لا. فإذا كان الأطفال لديهم هذا الميل، فمن الممكن أن يفسر هذا مصدر رؤية ابن تيمية، أو على الأقل، من شأنه أن يمنحنا فهما أدق لعقيدة ابن تيمية ولماذا يتمسك بالتصورات التي يؤمن بها بشدة.

الفطرة
تعتمد نظرية ابن تيمية المعرفية بوجه عام بشكل كبير على مفهوم الفطرة.
(Vasalou 2016; El-Tobgui 2020)
يتفق ابن تيمية مع علماء العقيدة الآخرين على أن الفطرة هي ملكة يولد بها الإنسان وهبها الله والتي تهييء الإنسان للإيمان بالله وتولد لديه بديهيات قيمية معينة (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 7، ص 426). يقول ابن تيمية صراحةً أن الفطرة ليست محملة بكل دقائق العقيدة الإسلامية. بل إن الفطرة تدفع الإنسان إلى الإيمان بالله والاستسلام له وللحقيقة بوجه عام (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المجلد 4، ص 247). والفطرة ضرورية أيضًا، بحسب ابن تيمية، في تيسير بعض الوظائف المعرفية، مثل القدرة على الاستنتاج أو استعمال اللغة (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 5، ص 62). بالنسبة لابن تيمية، فإن الفطرة هي مرتكز كافة الروافد المعرفية البشرية، أي الحس (الإدراك الحسي)، والخبر (الروايات و الشهادات)، والعقل.
(El-Tobgui 2020, p. 18)
في جوهرها، تسبق الفطرة الروافد المعرفية الأخرى، ولأن الميل إلى الإيمان بالله وعبادته هو جوهر الفطرة، فإن هذا يجعل وجود الله الحقيقة المعرفية الأكثر مباشرة التي يمكن للبشر الوصول إليها. والأهم من ذلك، أن الفطرة هي أيضًا ملكة يمكن أن تفسد، في المقام الأول من خلال العوامل البيئية، وخاصة تنشئة الفرد والظروف الاجتماعية بوجه أعم (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 7، ص 73)


الأخلاق
وفضلا عن الإيمان بالله والدافع العام للبحث عن الحقيقة، أشار علماء العقيدة المسلمين، بما في ذلك ابن تيمية، إلى أن الفطرة تتضمن محتوى أخلاقي.
(Vasalou 2016, p. 36)
وبشكل أكثر تحديدًا، تزود الفطرة البشر بشعور بديهي بالصواب والخطأ إلى جانب الدافع لفعل ما هو صواب وتجنب ما هو خطأ. ووفقاً لابن تيمية، فإن العدل والعمل الصالح "محبب" إلى الفطرة، ويسبب اللذة كلما فُعل. في حين أن الظلم والعمل الفاسد يولّد الألم والمشاعر غير السارة وهذا كله بداعي الفطرة (ابن تيمية، الرد على المنطقيين، ص 423).
يقول ابن تيمية: والنفوس مجبولة على محبة العدل وأهله وبغض الظلم وأهله وهذه المحبة التي في الفطرة هو المعني بكونه حسنا وهذا البغض هو المعني بكونه قبيحا. (ابن تيمية، الرد على المنطقيين، ص 429)
ويبدو أن هذه المحبة الجبلية الموجود في الفطرة تنطوي على دواعٍ ذات طبيعة مآلية، أي دواع أخلاقية تبنى على النظر في مآلات الأفعال من حيث أضرارها و منافعها. فمثلاً يقول ابن تيمية: إن خير أفعال الإنسان وشرها هو ما فيه من نفع وضر. (ابن تيمية، الرد على المنطقيين، ص 422). ومع ذلك، فإن المحبة الجبلية، كما يصفها ابن تيمية، تنطوي أيضًا على دواع موجِبة – أي دواع نابعة من الحسن أو القبح الذاتي المتأصل في الفعل بغض النظر عن اعتبارات الضرر و المنفعة – وعلى القدرة على إصدار أحكام جمالية بخصوص الروائح والأصوات ونحو ذلك.
يقول ابن تيمية: فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود [في] نفسه، فهو يفعله لما فيه من المحبة له، لا لله، ولا لغيره من الشركاء، مثل أن يحب الإحسان إلى ذوي الحاجات، ويحب العفو عن أهل الجنايات، ويحب العلم والمعرفة وإدراك الحقائق، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، فإن هذا كثير غالب في الخلق في جاهليتهم وإسلامهم، في قوتي النفس العلمية والعملية، فإن أكثر طلاب العلم يطلبونه محبة، ولهذا قال أبو داود للإمام أحمد بن حنبل: طلبتَ هذا العلمَ - أو قال -: جمعته لله؟ فقال لله عزيز، ولكن حُبِّب إليَّ أمر ففعلته. وهذ حال أكثر النفوس، فإن الله خلق فيها محبة للمعرفة والعلم وإدراك الحقائق، وقد يخلق فيها محبة للصدق والعدل والوفاء بالعهد، ويخلق فيها محبة للإحسان والرحمة للناس، فهو يفعل هذه الأمور: لا يتقرب بها إلى أحد من الخلق، ولا يطلب مدح أحدٍ ولا خوفًا من ذمِّه، بل لأن هذه الإدراكات والحركات يتنعَّم بها الحيُّ ويلتذُّ بها، ويجد بها فرحًا وسرورًا، كما يلتذ بمجرد سماع الأصوات الحسنة، وبمجرد رؤية الأشياء البَهِجَة، وبمجرد الرائحة الطيبة. اهـ
هنا، لا يتحدث ابن تيمية عن قرارات واعية لأنه، بالطبع ، يمكن للناس أن يقوموا بهذه الأعمال في سبيل الله أو من أجل كسب استحسان الآخرين. بدلا من ذلك ، فهو يشيرإلى أن هذا الميل العام للحقيقة والعدل والخير للآخرين والحفاظ على الروابط الأسرية، ونحو ذلك، يحدث على مستوى الغريزة التي خلقها الله في جميع الأنفس. يشبه ابن تيمية هذه الغرائز الخلقية باللذة التي يجدها من يستمعون أو يشاهدون أو يشمون أشياء تبعث على الاستمتاع.
تشير الأبحاث في علم الإدراك وعلم النفس الخلقي أيضا إلى الطبيعة الجبلية لبعض الغرائز الخُلقية ذات الطابع العام، حيث تظهر بعض البديهيات الخُلقية لدى الأطفال في غضون عملية النمو والنضج.
(Haidt 2012; McKay and Whitehouse 2015; Graham et al. 2013; Curry et al. 2019)
ويبدو أن المكونات الرئيسية لأخلاق البالغين تكون قد تبلورت أو على الأقل توجد في نفسية الأطفال بحلول السنة الرابعة من العمر(Dahl and Killen 2018). ترتبط هذه البديهيات بأجزاء مختلفة من الذهن ويصفها بعض الباحثين بأنها عبارة عن وحدات. تتفاعل هذه الوحدات وتجتمع معا في تشكيلات متنوعة لتكون النظم الخُلقية ، مثل النظم الخلقية الموجودة في التقاليد الدينية.
(Haidt 2012; McKay and Whitehouse 2015; Graham et al. 2013; Curry et al. 2019)
عندما يقول ابن تيمية إن الميل لزيادة المنفعة وتقليل الضرر (أي نظرية المآل أو عواقب الأفعال) هو أمر جبلي وأن حب العدل والحفاظ على الروابط الأسرية ، ونحو ذلك، بحد ذاتها، (أي نظرية الأخلاق الواجية) أمر جبلي كذلك، فهو يلتزم بنظرية خُلقية متعددة الأوجه تؤكدها أبحاث علم النفس الخلقي المعاصر إلى حد كبير. بعض البديهيات الفطرية التي ذكرها ابن تيمية في المقطع المقتبس أعلاه والتي حددها الباحثون المعاصرون تشمل، على سبيل المثال ، البديهيات المتعلقة بقبح خيانة الأمانة والإخلال بالوعود و الحنث في اليمين.
(Parkinson et al. 2011; Hofmann et al. 2014)
كما أن البديهة المتعلقة بحسن الحفاظ على الروابط الأسرية وضرورة رعاية ذوي القرابة هي أمر جبلي.
(Nowak 2011, pp. 95–112; Curry et al. 2019)
يقر علم الإدراك أيضا ببعض البديهيات الجمالية بالإضافة إلى بعض ردود الأفعال التقززية ذات الطابع الفطري أو الجبلي.
(Haidt 2012; Tybur et al. 2013)
علي سبيل المثال يشعر البشر على نحو طبيعي بشعور قوي بالتقزز في رد الفعل على أنواع معينة من المواد ، مثل الغائط والقيء والدم ونحو ذلك ، وكذلك بعض السلوكيات ، مثل سفاح القربى، والزوفيليا، وغيرهما. وردود الفعل هذه ذات طابع عام بغض النظر عن الخلفية الثقافية أو الدينية.
(Haidt 2012, pp. 146–53)
على صعيد الجماليات، تشير بعض الأبحاث إلى أن البشر لديهم أيضا انجذاب فطري للبيئة الخضراء المورقة ذات المناظر الطبيعية الخلابة (Hartmann and Apaolaza-Ibanez 2010). وتظهر الأبحاث العابرة للثقافات أن بعض روائح الأزهار تحظى باستحسان عام من قبل البشر. (Jo et al. 2013; Diessner et al. 2021)
يتبع ..

Mahmoud Muhammad
09-22-2023, 01:34 PM
يرى ابن تيمية أن العقل والفطرة يتكاملان. وفي الواقع، وفقًا لتصوره، فإن العقل نابع أو يتأصل في الفطرة نفسها (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 7، ص 38؛ 2005، ص 368). وبدون الفطرة لا يمكن أن يكون هناك تعقل أو قدرة على تمييز الحق من الباطل، مما يجعل العقل عاجزاً تماماً (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 8، ص 41). وبهذه الطريقة، تكون الفطرة هي بمثابة المحرك للتفكير الاستدلالي والملكات الذهنية بوجه عام.
في كتابه درء التعارض، شرع ابن تيمية في تعريف العقل بشكل صحيح من أجل إثبات أنه لا يمكن أن يكون هناك تعارض حقيقي بين ما يسميه عقلا صريحا، والنقل الصحيح. في ذلك المصنف، استهدف ابن تيمية المدارس الكلامية الإسلامية، مثل المدرسة الأشعرية، التي ذهبت إلى أنه في الحالات التي تتعارض فيها استنتاجات العقل مع النص، يجب إعطاء الأولوية المعرفية للعقل في حين يجب تأويل النص على أنه مجاز لتجنب التعارض. وبحسب العلماء الأشاعرة، مثل فخر الدين الرازي، فإن هذا هو النهج الأصح للتوفيق بين العقل والوحي وهذا بداعي أن العقل هو الذي يلزم الناس بالإيمان بالوحي في المقام الأول.
(El-Tobgui 2020, pp. 132–37)
في مواضع عديدة من القرآن نفسه ذُكر أن مصدره الإلهي في غاية الوضوح ولا يقبل الشك بالنسبة لذوي العقول أو " أولو الألباب بالتعبير القرآني". لذلك، يجب أن ينظر إلى الملكات الذهنية على أنها حجر الأساس لنظرية المعرفة البشرية والفيصل النهائي بين الحق والباطل، بحيث يجب تأويل الوحي أو صرفه عن ظاهره إذا كان يتعارض مع العقل.

وقد أفرد ابن تيمية مجلدات "درء التعارض" العشرة لنقض هذا الادعاء. ودون محاولة الغوص في كافة تفاصيل الحجج، من المفيد أن نشير إلى العديد من المباحث العامة التي يوليها ابن تيمية اهتمامه بشكل رئيسي. أولاً، مفتاح استراتيجيته الجدلية هو إزاحة العقل من موقع الأولوية هذا واستبداله بمفهوم الفطرة.
والفطرة بالنسبة لابن تيمية هي الأساس المعرفي النهائي، كما رأينا. هذا لا يعني أن العقل فائض عن الحاجة. يظل العقل قناة معرفية مهمة عند ابن تيمية، ولكن يجب الإقرار بأن العقل ليس معصومًا من الزلل (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 3، ص 309-10). وهذا نتيجة ثانوية، من بين أمور أخرى، تتفرع على حقيقة أن الفطرة نفسها ليست معصومة كذلك. فكما ذكرنا سابقًا، أشار ابن تيمية إلى أن الفطرة يمكن أن تفسد نسجا على منوال حديث الفطرة الشهير(فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه). ولذلك، إذا كانت نواة المعرفة الإنسانية يمكن أن تنالها أوجه الخلل بسبب التأثيرات التي من شأنها إيقاع الفساد، فكم بطريق الأولى درجة الفساد التي قد تنال العقل الذي يعتمد على الفطرة التي هي بدورها عرضة للخلل والفساد؟
وذلك لأن الله هو خالق العقل ومصدر الوحي، ولا ينبغي أن نفترض أن الله سيمنح البشر ملكة، حتى عندما تعمل بشكل صحيح، يمكن أن تتعارض مع كتبه المنزلة لهداية البشرية (ابن تيمية، درء التعارض، 1979، المجلد 1، ص 157-58؛ الرد على المنطقيين، ص 131). والفهم الصحيح عند ابن تيمية هو أن هذين المصدرين للمعرفة والحقيقة لا يمكن أن يتعارضا أبدا، وأي تعارض ظاهري يكون فقط بسبب خطأ أو فساد في العقل أو بسبب الظن الخاطئ أن بعض النصوص غير الصحيحة هي في الواقع وحي صحيح. ففي غياب مثل هذه الأخطاء، لا يمكن أبدًا أن يتعارض العقل الصريح والوحي الصحيح (ابن تيمية ، درء التعارض، المجلد 4، ص 227)، وهذه هي الضمانة التي يقدمها. من الأمور الحاسمة بالنسبة لابن تيمية أن العقل يظل موافقا للفطرة (ابن تيمية 1979، المجلد 5، ص 281-314). ومادام الخطاب العقلاني متجذرًا في الفطرة، والتي بدورها متجذرة في الإقرار بالله والغريزة التي تحث الإنسان على طاعته، فيمكن الوثوق بالعقل والفكر البشري بوجه عام ليس فقط للتوافق مع الوحي بل أيضا لتأكيد صحته.
إن تصور ابن تيمية عن العقل تقصره على وظائف مثل تجريد المفاهيم العامة من الجزئيات، أو القيام باستدلالات استقرائية، أو استنتاجية من البديهيات الضرورية، التي تقرها الفطرة (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 1، ص 286، المجلد 7، ص 113، المجلد 3، ص 261). كل وظائف العقل هذه، وفقًا لابن تيمية، تستند في نهاية المطاف إلى الفطرة.
ومن المثير للاهتمام مقارنة فهم ابن تيمية للعلاقة بين العقل والفطرة مع ما يعتبره علم الإدراك المعاصر شدا وجذبا بين التفكير البدهي والتحليلي (Evans and Frankish 2009; Evans and Stanovich 2013). التفكير البدهي هو تفكير تلقائي وغير تأملي وفوري ويُعتقد أنه مدفوع بالبديهيات البشرية الأساسية. وعلى النقيض من ذلك، فإن الفكر التحليلي إرادي ومنظم ومجهد.
ادعى بعض الباحثين في مجال علم الإدراك أن النظم اللاهوتية للأديان المختلفة هي نتاج التفكير التحليلي. ولهذا السبب ينأى علم اللاهوت عادةً عما اصطلح على تسميته بـ "الدين الطبيعي"، والذي هو نتاج التفكير البدهي.
(Barrett 2011, pp. 130–70; McCauley 2011, pp. 145–218; De Cruz and De Smedt 2015, pp. 41–60; Nakissa 2020b)
على سبيل المثال، تؤكد العديد من الديانات أن العالم هو نتاج مشيئة الخالق وقدرته. يُفهم هذا الاعتقاد في علم الإدراك على أنه ناشئ عن التفكير البدهي، لأنه ينبع من البديهة المتعلقة بالله كما تقدم. ومع ذلك، فإن بعض الجوانب الأخرى من النظم اللاهوتية، مثل الإيمان بالثالوث في المسيحية أو الإيمان بالقدر في الإسلام، تنأى عن البديهة والتفكير البدهي وتتطلب تفكيرًا تحليليًا أكثر منهجية وتنظيمًا من أجل تصوره وشرحه.
(Nakissa 2020b)
قد تكون مثل هذه المبادئ اللاهوتية في الواقع غير بديهية، ولهذا السبب فإن التفكير التحليلي، وليس التفكير البدهي، مطلوب للتمسك بها. في نهاية المطاف، يرى علم الإدراك "النظم اللاهوتية" على أنها ناشئة عن التفكير البدهي والتحليلي بطرق متداخلة.
من بعض الوجوه، يتشابه هذا مع مفهوم ابن تيمية للفطرة. يقر ابن تيمية بأن هناك جوانب معينة من العقيدة الإسلامية لا تصدر من الفطرة أو حتى من العقل المحض. فلا يمكن الوصول إلى تلك المفاهيم العقدية الإسلامية من خلال إعمال الفطرة (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 8، ص 460-61). بل لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الوحي الذي يصل إلى المؤمن من خلال الخبر الصحيح. ولكن هل يذهب ابن تيمية إلى حد اعتبار أن الوحي قد يشتمل على مفاهيم عقدية تتعارض فعليًا مع الفطرة والعقل؟ ومرة أخرى، هذا ما تدعيه أبحاث علم الإدراك، أي أن الأديان كثيرا ما تحتوي على مبادئ تتعارض مع البديهات الأساسية والتفكير البديهي. لكن هذا غير ممكن عند ابن تيمية. حيث يقول: فهُم (أى الأنبياء) بُعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها. فلا يأمرون إلا بما يُوافق المعروف في العقول، الذي تتلقاه القلوب السليمة بالقبول. (ابن تيمية، كتاب النبوات، ص 431-32)
ومع ذلك، فإننا نرى انقسامًا أكبر بين ابن تيمية وعلم الإدراك فيما يتعلق بـ “نظرية العملية المزدوجة”. حيث تدعي نظرية العملية المزدوجة أن هناك ما يشبه مقايضة متأصلة بين التفكير التحليلي والتفكير البدهي. عندما يصبح التفكير التحليلي للشخص له السبق، فإن تأثير التفكير البدهي على الإدراك بوجه عام يتراجع. ويزعم منظرو العملية المزدوجة أن هذه المقايضة هي ببساطة حقيقة لا مفر منها بشأن النفس البشرية. علاوة على ذلك، فإن نسبة التفكير التحليلي مقابل التفكير البدهي الذي يقوم به الشخص تختلف على أساس عوامل نفسية وبيئية مختلفة، مثل التعليم (Evans and Stanovich 2013, p. 229). تتميز سيكولوجية الغربيين المعاصرين بهيمنة التفكير التحليلي على التفكير البدهي. ويُعزى ذلك إلى الاهتمام الذي يوجهه التعليم الليبرالي الحديث إلى "التفكير النقدي" والنظرة العلمية للعالم (Haidt 2012; Henrich 2020). تظهر أبحاث علم الإدراك أن التفكير التحليلي والنظرة العلمية للعالم المرتبطة به ترتبط ارتباطًا سلبيًا بالمعتقد الديني (Bahçekapili and Yilmaz 2017). وفقا لمنظري العملية المزدوجة، يؤدي التفكير التحليلي إلى تآكل الالتزام الديني بطرق عديدة، ولكن هناك وسيلتان بارزتان هما ما يعنينا في هذا المقام. أولاهما أنه يمكن تحليل وتقييم مسألة بديهية معينة لدى الناس، مثل الإيمان بوجود خالق، على أساس الأدلة العلمية. وبالنظر إلى أن الإيمان بالله بالنسبة للعديد من الناس هو أمر بدهي في المقام الأول بطبيعته وليس علميًا، فإن هذا التحليل النقدي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تقويض البديهة، وبالتالي إضعاف الإيمان. ثانيًا، كما ذكرنا سابقا، عندما يصبح التفكير التحليلي هو النمط السائد للمعرفة لدى الشخص، فإن التفكير البدهي يتراجع بقدر متناسب نتيجة لذلك. وهذا يعني أن الإيمان الديني يضعف أيضًا كأثر جانبي نظرًا لاعتماد الإيمان القوي على البديهة. ومن المفترض أن يحدث هذا التوهين حتى ولو لم يكن الشخص متشككًا عن وعي في المعتقدات الدينية أو ينتقدها عمدا.
لكن كيف يقارن هذا برؤية ابن تيمية للعقل والفطرة؟ للوهلة الأولى، قد نعتقد أن هناك نزاعا شديدا بهذا الخصوص بين الرؤيتين. وكما رأينا، بالنسبة لابن تيمية، فإن الفطرة والعقل يتناسبان مثل اليد في القفاز. إن البديهيات الفطرية على وجه التحديد هي التي تحرك القدرات الذهنية في المقام الأول، لذا فإن الصراع الحقيقي أو حتى التنافر بينهما سيكون مستحيلاً من وجهة نظر ابن تيمية. ومع ذلك، بالعودة خطوة إلى الوراء، هل أسلوب التفكير التحليلي الذي نوقش في نظرية العملية المزدوجة هو نفس العقل الصريح الذي دافع عنه ابن تيمية؟ هذا ليس واضحا. فمن ناحية، يرى ابن تيمية أن العقل الصريح يشمل التفكير الاستنباطي ، سواء الاستقرائي أو الاستنتاجي، الذي يتوافق مع ما يعتبره علماء النفس نمط التفكير التحليلي (ابن تيمية ، درء التعارض، المجلد 10، ص 74). ومع ذلك، كثيرًا ما يؤكد ابن تيمية على أن العقل يمكن أن يزل بسهولة إذا انفصل عن الفطرة السليمة.
ربما يمكن قراءة ابن تيمية على أنه يشير إلى أهمية التوازن بين التفكير الاستدلالي أو التحليلي والبديهات والتي بدورها هي جزء لا يتجزأ من الفطرة، وإذا اختل هذا التوازن من خلال إعطاء الأولوية للاستنباط الاستنتاجي أو استخدام التفكير التحليلي في القضايا التي ليس مؤهلا للخوض فيها - على سبيل المثال، القيام باستنتاجات وإسقاطها على مسائل الغيب، مثل صفات الله - فإن البدع أو الكفر هي النتيجة الحتمية التي تترتب على ذلك. قد يكون لهذا التفسير لرؤية ابن تيمية بعض التشابه مع نتائج نظرية العملية المزدوجة، على الرغم من أنه من الصعب إثبات التوافق دون مزيد من التحقيق.
----------
البراهين الاستنتاجية تدل على الوجود الواجب والبراهين الاستقرائية تدل على المصمم الذكي (لأن قياس التمثيل نوع من الاستقراء لأنه ينطوي على استقراء) لكنها لا تخبرنا بشيء تفصيلي عن صفات الله. لذلك يرى ابن تيمية أن فائدتها ناقصة وإن كانت صحيحة. حتى نسخة المنطق الطوري من الحجة الوجودية أو ما يعرف بنسخة جودل ليست استنتاحية محضة لأنها في النهاية تعتمد على البديهة في تحديد الصفة الإيجابية.
ومحاولة استعمال منهج العلم التجريبي في إثبات وجود الله هو نوع من العبث لأن هذا المنهج بطبيعته ليس مؤهلا للخوض في الغيبيات. بل ليس مؤهلا للخوض في كثير من القضايا كالأخلاق والجماليات. بل إن المنهج العلمي التجريبي لا يصلح للبت في كونه الوسيلة الوحيدة للمعرفة أصلا وإلا كان دورا أو مصادرة على المطلوب. لذا دعوى أن المنهج العلمي التجريبي هو الوسيلة الوحيدة للمعرفة هى دعوى تنقض نفسها.


يتبع ..

Mahmoud Muhammad
10-03-2023, 06:27 PM
معرفة الله
والآن، دعونا نتعمق أكثر في كيفية ارتباط الفطرة بمعرفة الله من منظور ابن تيمية. سبق أن علمنا أنه يرى أن معرفة الله تكون من خلال الفطرة، ولكن يمكننا هنا أن نطرح التساءل التالي: إذا ولد الأطفال "على الفطرة"، كما جاء في الحديث الشهير، فهل هذا يعني أن الأطفال لديهم معرفة جبلية بالله عند الولادة، أم أن الفطرة لا تحتوي في الواقع على معرفة الله بل ببساطة يمنح الأطفال القدرة على معرفة الله، وهو ما يحدث في وقت مبكر من حياتهم؟ وعلى هذا الرأي الأخير فإن الفطرة أشبه بالحواس. فالعين، على سبيل المثال، تسهل اكتساب المعرفة من خلال حاسة البصر، ومع ذلك لا توجد معرفة مدمجة تأتي مع العين عند ولادة الإنسان. وبطريقة مماثلة، هل الفطرة هي الملكة التي يستشعر بها الإنسان وجود الله دون أن تكون بمثابة وعاء يحتوي على معرفة الله عند ولادة الشخص؟. في الواقع، يبدو أن هذا ما يذهب إليه ابن تيمية من خلال إجراء نفس هذا القياس على البصر على وجه التحديد في شرحه لمفهوم الفطرة، حيث يقول: وَمَثَلُ الْفِطْرَةِ مَعَ الْحَقِّ: مَثَلُ ضَوْءِ الْعَيْنِ مَعَ الشَّمْسِ وَكُلُّ ذِي عَيْنٍ لَوْ تُرِكَ بِغَيْرِ حِجَابٍ لَرَأَى الشَّمْسَ وَالِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةَ الْعَارِضَةَ مَنْ تَهَوَّدَ وَتَنَصَّرَ وَتَمَجَّسَ: مَثَلُ حِجَابٍ يَحُولُ بَيْنَ الْبَصَرِ وَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا كُلُّ ذِي حِسٍّ سَلِيمٍ يُحِبُّ الْحُلْوَ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ فِي الطَّبِيعَةِ فَسَادٌ يُحَرِّفُهُ حَتَّى يُجْعَلَ الْحُلْوُ فِي فَمِهِ مُرًّا. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ مَوْلُودِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ أَنْ يَكُونُوا حِينَ الْوِلَادَةِ مُعْتَقِدِينَ لِلْإِسْلَامِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْرَجَنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا وَلَكِنْ سَلَامَةُ الْقَلْبِ وَقَبُولُهُ وَإِرَادَتُهُ لِلْحَقِّ: الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ مِنْ غَيْرِ مُغَيِّرٍ لَمَا كَانَ إلَّا مُسْلِمًا. وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي تَقْتَضِي بِذَاتِهَا الْإِسْلَامَ مَا لَمْ يَمْنَعْهَا مَانِعٌ: هِيَ فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.(ابن تيمية ، مجموع الفتاوى، المجلد 4، ص 247).
ومع ذلك، في مواضع أخرى، يؤكد ابن تيمية على أن الفطرة هي أيضًا معرفة متأصلة، ليس فقط في البشر ولكن أيضًا في الخليقة كلها. (ابن تيمية، مجموع الرسائل والمسائل، المجلد 2، ص 341). وقد اختلف في قراءة موقف ابن تيمية من ذلك فهناك من يذهب إلى أنه يعتقد أن الفطرة معرفة جبلية وهناك من يذهب إلى أنه يراها مجرد ملكة يمكن الإنسان من خلالها معرفة الحق من الباطل وهناك من يرى أن موقفه بهذا الخصوص ليس واضحا. (قلت: في موضع آخر صرح ابن تيمية أن الفطرة تتضمن معرفة الله، ويبدو أنه يقصد بالمعرفة مجرد التصور. أي أن الناس جُبلت على تصور الخالق لكن العلم بوجوده يكون من خلال الآيات. لأن معرفة أن الآية الفلانية دليل على وجود الخالق يتطلب تصور معنى الخالق أولا وقد شبهها بالدخان كدلالة على النار. فمن يرى الدخان في موضع ما يستدل به على وجود النار حتى وإن لم يراها، لكن هذا الاستدلال يتطلب أن يتصور المرء النار أولا وإلا لما علم أن الدخان علامة على وجودها في ذلك الموضع)
فيذهب ابن تيمية في شرح مطول لبيان كيف أن الحيوانات وحتى الحجارة والأرض والجبال لها معرفة بالله. ويستشهد بآيات قرآنية وأحاديث عديدة لتسويغ ذلك، مثل الآية: "تُسَبِّحُ له السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ. وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم. إنه كان حليماً غفوراً".
ويرى ابن تيمية أن هذا الحمد و التسبيح يتطلب معرفة مسبقة بالمحمود والمسبح له وأن المعرفة المسبقة هي ما غرزه الله في خلقه، حتى المخلوقات التي لا تبدي ملكات عقلانية، كالطير، وحتى الجمادات التي لا حياة فيها في الظاهر، كالجبال، أو الحجارة.
فبالنسبة لابن تيمية، معرفة الله هي في الواقع أكثر رسوخًا أو أكثر تجذرا حتى من الغرائز البشرية الأساسية. الفطرة هي شيء يسبق بيولوجيا الإنسان، وسيكولوجيته، أو حتى النفس البشرية بحد ذاتها، فالفطرة أقرب إلى شيء مدمج في نسيج الخلق نفسه.
(قلت: ذهب أستاذ الفلسفة فيليب غوف في كتابه "خطأ جاليليو" إلى أن كافة صور المادة بما فيها الجسيمات الأولية كالإلكترون لديها قدر من الوعي وإن كان ليس بنفس درجة تعقيد الوعي الحيواني فضلا عن الآدمي. وأن وعي الآدمي المعقد هو مستمد من صور الوعي البسيطة تلك. فهو ينظر للوعي باعتباره خاصية جوهرية في المادة شأنها شأن الشحنة على سبيل المثال. وهذا التصور يسمى panpsychism. ففي حواره مع مجملة scientific american في 14 يناير2020 يقول: يتمتع البشر بوعي غني ومعقد للغاية؛ الخيول لديها وعي أدنى من ذلك، والفئران أدنى من الخيول. عندما ننتقل إلى أشكال أبسط من الحياة، فإننا نجد صورا أبسط من الوعي. ربما في مرحلة ما ينطفئ الضوء ويختفي الوعي. لكن من المنطقي على الأقل افتراض أن هذا الأمر مطرد حتى في المادة غير العضوية أو الجمادات، حيث تتمتع الجسيمات الأولية بأشكال بسيطة من الوعي على نحو لا يتصور. اهـ)
بطبيعة الحال، علم الإدراك ليس معنيا بتلك التصورات الميتافيزيقية غير أنه يقر بعض الباحثين في مجال علم الإدراك أن الأطفال الصغار من مختلف الثقافات يؤمنون بوجود الإله الخالق.
(Bloom 2007; Kelemen 2004; Barrett 2012)
ووفقًا لعلم الإدراك، يولد الأطفال "مؤمنين بطبيعتهم" بدلاً من كونهم ملحدين أو غير مؤمنين. يستند هذا الاستنتاج إلى حقيقة أن الإيمان بالله باعتباره مُنشيء للعالم موجود لدى الأطفال الصغار بغض النظر عن الخلفية الدينية أو تلقين الوالدين. (Petrovich 2019)

تؤكد دراسات علم الإدراك أن البديهة المتعلقة بوجود خالق كلي القدرة والعلم تختلف عن البديهة المتعلقة بوجود الأرواح بوجه عام. ويرجع هذا إلى حد بعيد إلى العلاقة بين مفهوم السببية والمعتقدات المتعلقة بالله. ترى دراسات علم الإدراك أن النفس البشرية تهيئ العقل للتفكر في السببية على نحو معين.
(Kelemen 2004; De Cruz and De Smedt 2015, pp. 85–108; Petrovich 2019)
فالأطفال والكبار على حد سواء يلتمسون أسباب الأشياء والظواهر التي يلاحظونها من حولهم في الواقع المحيط. وهناك ميل لدى الأطفال والبالغين للحصول على تفسيرات سببية كاملة، وخاصة التفسيرات التي يمكن أن تبين العلل النهائية وراء ما يلاحظ من ظواهر.
(Petrovich 2019, pp. 13-22)
ويبدو أن الأطفال يميلون إلى النظر إلى الله باعتباره العلة النهائية والسبب الأوحد للعالم، حتى الأطفال الذين يؤمنون أيضًا بآلهة أخرى أو كائنات روحانية بالإضافة إلى إيمانهم بالإله الخالق الواحد. واستنادا لذلك، ذهبت بعض دراسات علم الإدراك إلى أن العقل البشري قد يكون لديه ميل إلى التوحيد بمعنى وجود إله خالق متفرد يعود إليه خلق الكون والتصرف فيه.
(Barrett 2004, pp. 87–90; Petrovich 2019, pp 106-92)
وبالمثل، يرى ابن تيمية أن هذه المفاهيم الخاصة بوحدانية الله ودوره الفريد كصانع للعالم هي مفاهيم جبلية نابعة من الفطرة.

صفات الله
إذا كانت الفطرة تنطوي على معرفة بالله، فهل تنطوي أيضًا على معرفة بصفات محددة لله؟ في مواضع مختلفة، يميز ابن تيمية بين صفات الله التي تُعرف من خلال الوحي وتلك التي تُعرف على نحو جبلي بالضرورة من خلال الفطرة. على سبيل المثال، الاعتقاد بأن الله سميع بصير، أو كلي العلم، ينشأ من الفطرة وكذلك الاعتقاد بأن الله قادر على كل شيء (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 10، ص 76).
وعلى نفس المنوال، تظهر أبحاث علم الإدراك أن الأطفال لديهم ميل جبلي لتصور الله على أنه كلي العلم وكلي القدرة. تثبت العديد من الدراسات الرصينة العابرة للثقافات أن هذا التصور عن الله ليس نتاج التنشئة الاجتماعية أو تأثير الوالدين. بدلاً من ذلك، ينشأ لدى الأطفال بشكل طبيعي مفهوم عن الله بصفات معينة، مثل العلم المطلق والقدرة المطلقة.
(Boyer 2001, pp. 155–60; Barrett and Richert 2003; Barrett 2004, pp. 77–84; De Cruz and De Smedt 2015, pp. 41–60; Norenzayan 2013, pp. 23–29)
حتى في المجتمعات التي لا يوجد فيها دين مهيمن يحمل فكرة الإله الخالق، فإن الأطفال في مثل هذه المجتمعات يعبرون عن إيمانهم بالإله الخالق قبل أن تدفعهم التنشئة الاجتماعية إلى تبني معتقدات الأغلبية. (Petrovich 2019)
ويوجد تساؤل جوهري يخص صفات الله يتعلق بما إذا كان لله جسد يشبه جسد الآدمي؟ عبر التقليد الإسلامي السني بأجمعه، نجد رفضًا شديدا لمفاهيم التجسيم والتشبيه، بما في ذلك كتابات ابن تيمية، الذي يعتبر أن ذلك معرفة فطرية أيضا (Williams 2002). وبهذا الخصوص، أظهرت بعض دراسات علم الإدراك عبر الثقافات أن المفهوم الفطري لدى الأطفال عن الله لا يتسم بتجسيمه ولا تشبيهه بالآدميين.
(Barrett and Richert 2003; Petrovich 2019)
يتبع ..

Mahmoud Muhammad
10-17-2023, 10:23 AM
ومن المثير للاهتمام أن ابن تيمية يذهب في في غير موضع من كتبه إلى أن جميع الناس يدركون أن الله أعظم منهم، بل أنه موجود فوقهم في السماء. ولأجل هذا فإن الناس يولون وجوههم شطر السماء عند الدعاء وطلب العون من الله. حيث يقول: قصد القلوب للمدعو في العلو أمر فطري عقلي اتفقت عليه الأمم من غير مواطأة، وأما السجود فأمر شرعي يفعل طاعة للآمر، كما تستقبل الكعبة حال العبادة طاعة للآمر (ابن تيمية، درء التعارض، المجلد 7، ص 25).
وتشير بعض دراسات علم الإدراك أيضًا إلى أن الناس، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والثقافية، لديهم ميل جبلي للاعتقاد في أن الله موجود فوقهم وفوق السماء. ولا يمكن تفسير عمومية هذا الاعتقاد في الفوقية من خلال التأثير الثقافي، لأن هذه الديانات مستقلة عن بضعها بما يكفي لنفي ذلك التفسير. فكيف إذن تشترك هذه الديانات في نفس المعتقد بشكل مستقل عن بعضها البعض؟ وفقًا لبعض أبحاث علم الإدراك، فإن هذا الاعتقاد هو بديهة بشرية طبيعية ترتبط بما يُفهم على أنه ميل جبلي لدى الناس للنظر إلى أصحاب السلطة والشخصيات المهيمنة على أنهم سامقون بالمفهوم المكاني.
(Burgoon and Dunbar 2006, p. 291)
بمعنى آخر، يرتبط الارتفاع بالهيمنة لدى النفس البشرية، وهذا الاعتقاد الغريزي ينطبق أيضًا على الله. تربط العديد من الديانات الإبراهيمية وغير الإبراهيمية الإله بمفهوم الفوقية، وتُظهر الأبحاث أن هذا تصور جبلي وعام لدى البشر (Meier et al. 2007).

الاستدلال بالآيات
وفقا للقرآن، فإن أشياء مثل الشمس والقمر والنجوم كلها آيات بمعنى أنها تشير إلى خالقها. ففي الآية الثالثة من سورة الرعد: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
ويعتبر ابن تيمية أن مثل هذه الآيات القرآنية تدعو للاستدلال بالآيات (ابن تيمية ، الرد على المنطقيين، ص 151). وبالنسبة لابن تيمية، فإن الله بذاته يعطي البشرية توجيها في هذه الآيات حول كيفية تأكيد وجوده وحقيقة الإسلام بوجه عام.حيث يقول: وَلَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ الْكُلِّيُّ فَائِدَتُهُ أَمْرٌ مُطْلَقٌ لَا مُعَيَّنٌ: كَانَ إثْبَاتُ الصَّانِعِ بِطَرِيقِ الْآيَاتِ هُوَ الْوَاجِبَ. كَمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقَةُ الْقِيَاسِيَّةُ صَحِيحَةً، لَكِنَّ فَائِدَتَهَا نَاقِصَةٌ، وَالْقُرْآنُ إذَا اسْتَعْمَلَ فِي الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّاتِ اسْتَعْمَلَ قِيَاسَ الْأَوْلَى لَا الْقِيَاسَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ مَا وَجَبَ تَنْزِيهُ مَخْلُوقٍ عَنْهُ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي لَا كَمَالَ فِيهَا. فَالْبَارِي تَعَالَى أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ: فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ، فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا آيَاتٌ لِلْخَالِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هِيَ آيَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَيْهِ، فَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ دَلِيلٌ وَآيَةٌ عَلَى الْخَالِقِ نَفْسِهِ، كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ. (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المجلد 1، ص 48)
جزئية محورية في فهم ابن تيمية للاستدلال بالآيات هي أن عملية إدراك الآية ومن ثم التعرف على الخالق تحدث بشكل فوري ولا تتطلب استنتاجا. إن إدراك الآية يعني في الوقت نفسه التعرف على خالق تلك الآية في نفس اللحظة، وبالتالي فإن إنكار الخالق سيكون بمثابة إنكار ما تراه عيناك. يقول ابن تيمية: كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى فانه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته فكل مخلوق دال على ذلك كله. (ابن تيمية، كتاب الرد على المنطقيين، ص 245)
هذه هي الطريقة التي يتصور بها ابن تيمية المعرفة الفورية المستمدة من الآيات، وبالطبع، هذه المعرفة الفورية لا يمكن أن يجربها إلا أصحاب الفطر السليمة. يقول ابن تيمية في موضع آخر: الْعِلْمَ بِأَنَّ الْمُحْدَثَ لَابُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْقُرْآنِ:" أم خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ "... وَمَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ الْحَادِثَ لَا يَحْدُثُ إِلَّا بِمُحْدِثٍ أَحْدَثَهُ. وَإِنَّ حُدُوثَ الْحَادِثِ بِلَا مُحْدِثٍ أَحْدَثَهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَهَذَا أَمْرٌ مَرْكُوزٌ فِي بَنِي آدَمَ حَتَّى الصِّبْيَانِ، لَوْ ضُرِبَ الصَّبِيُّ ضَرْبَةً فَقَالَ: مَنْ ضَرَبَنِي؟ فَقِيلَ: مَا ضَرَبَكَ أَحَدٌ، لَمْ يُصَدِّقْ عَقْلُهُ أَنَّ الضَّرْبَةَ حَدَثَتْ مِنْ غَيْرِ فَاعِلٍ. (ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، المجلد 1، ص 410 – 411)
فالطفل في مثال ابن تيمية ليس بحاجة إلى الانخراط في عملية تفكير استنتاجي ليدرك على الفور أن الضربة التي تعرض لها جاءت على يد شخص آخر. وهذا المعرفة تأتي من الفطرة. وبنفس الطريقة، تيسر الفطرة للإنسان أن يدرك على الفور أن العالم ومحتوياته من فعل الخالق. وهذا ما يفسر نقل ابن تيمية للآية القرآنية: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون". فالآية تطرح سؤالا يراه ابن تيمية سؤالا بلاغيا، لأن الإجابة واضحة على الفور لمن لديه فطره سليمة (ابن تيمية، الرد على المنطقيين، ص 253). فبالضرورة يجب أن يكون للأشياء المخلوقة (الحادثة) خالق، وبما أن الناس لم يخلقوا أنفسهم، فإن هذا يجعل من الله الجواب الوحيد الممكن على ذك التساؤل. وكما يقول وائل حلاق: إن هذه العلاقة الضرورية بين الخالق والمخلوق مترسخة في النفس إلى حد أكبر بكثير من معرفة المبادئ الرياضية والمنطقية (Hallaq 1991, p. 61).
وبالتعبير عن رؤية ابن تيمية باستعمال مصطلحات توماس كوهن، فإن الحالة الطبيعية لرؤية البشر للعالم من حولهم هي رؤية مثقلة بالنظرية، وهذه النظرية هي نظرية الخلق. وبعبارة أخرى، لا يمكن للبشر إلا أن ينظروا إلى العالم باعتباره من صنع رب أعلى.
على التوازي مع كل ذلك تناولت دراسات علم الإدراك المنطق الغائي الطبيعي، أي الميل إلى رؤية الأشياء على أنها خلقت عن قصد بواسطة فاعل. تشير الدراسات النفسية إلى أن الأطفال لديهم المنطق الغائي بشكل كبير في فهم العالم، حيث أنهم يؤمنون بشكل بدهي بالإله الذي خلق كل شيء في العالم عن قصد. ينشأ هذا الاعتقاد عند الأطفال على اختلاف الثقافات والمرجعيات الدينية (Atran 2002, p. 74; Barrett 2004, pp. 75–90; Kelemen 2004; Petrovich 2019). ويستمر هذا الميل الجبلي لرؤية العالم وما يحتويه على أنه مصنوع أنشيء لغرض حتى مرحلة البلوغ، ولكن قد تكبت تلك البديهات جراء التعليم المستند للعلم التجريبي، الذي يؤكد على التفسيرات غير الغائية للظواهر الطبيعية.
(Bloom 2007, pp. 149–50; Kelemen and Carey 2007; McCauley 2011, pp. 220–21; Kelemen et al. 2013; De Cruz and De Smedt 2015, pp. 68–69)
تجدر الإشارة إلى أن "نظرية الخلق الفطرية" هذه تلقائية بمعنى أن الأطفال لا ينخرطون في التفكير الاستدلالي للوصول إلى استنتاج مفاده، على سبيل المثال، أن الجبال والأشجار خلقها الله (Heywood and Bering 2014). قد ينخرط الشخص في الاستدلال الغائي من خلال النظر إلى جسم الإنسان ومقارنته بآلة معقدة، مثل الساعة. إذا كان للساعة صانع، فمن المنطقي أن الجسم البشري الأكثر تعقيدًا له صانع أيضًا. سيكون هذا مثالاً على الاستدلال الغائي عن طريق القياس. ومع ذلك، فإن هذا النوع من التفكير خطوة بخطوة غير موجود لدى الأطفال أو البالغين الذين مع ذلك ينظرون إلى الظواهر الطبيعية على أنها مخلوقة لغرض. بل إنهم يشعرون بكونها مخلوقةعلى الفور كما لو أن كونها مخلوقة صفة متجذرة في الشيء أو الظاهرة الطبيعية محل الاعتبار. وهذا يتوافق مع نظرية ابن تيمية في الاستدلال بالآيات وارتباطه بالفطرة.