مجد الاسلام
09-13-2006, 11:06 AM
إعداد
إسلام محمود دربالة
مدير مركز أبحاث ودراسات
المستقبل للإسلام
تعريف التوحيد :
التوحيد لغة : الإفراد .
ولا يكون الشيء مفرداً إلا بأمرين :
أ - الإثبات التام .
ب – النفي العام .
فلو قلت : زيد قائم . لم تفرده لاحتمال أن يكون غيره قائماً أيضاً .
لكن إن قلت : ما قائم إلا زيد ، فقد أفردته ، بإثباتك القيام التام له ، ونفيك العام للقيام عن غيره .
وكلمة التوحيد ، لا إله إلا الله اشتملت على نفي وإثبات ، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى ، فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم ليس بإله ، ولا له من العبادة شيء ، وأثبتت الإلهية لله وحده بمعنى أن العبد لا يأله غيره ، أي لا يقصد بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة .
والتوحيد شرعاً : إفراد الله بحقوقه .
ولله سبحانه وتعالى ثلاثة حقوق
1- حقوق عبادة .
2- حقوق أسماء وصفات .
ويمكن أن يقال : التوحيد : هو إفراد الله عز وجل بالخلق والرزق والتدبير وعدم صرف شيء من أنواع العبادة إلا له، والإيمان بما وصف وسمى به نفسه ، ووصفه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم .
أقسام التوحيد :
ذكر أهل العلم – رحمهم الله تعالى – بعد استقراء نصوص الكتاب والسنة أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- توحيد الربوبية .
2- توحيد الألوهية .
3- توحيد الأسماء والصفات .
قال الشيخ بكر أبو زيد – نفع الله به - : " هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده وابن جرير الطبري وغيرهما وقرره شيخاً الإسلام ابن تمية وابن القيم ، وقرره الزبيدي في " تاج العروس " وشيخنا الشنقيطي في " أضواء البيان " في آخرين رحم الله الجميع .
وهو استقراء تام لنصوص الشرع ، وهو مطر لدى أهل كل فن ، ما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف ، والعرب لم تفه بهذا ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب ، وهكذا من أنواع الاستقراء " (1)
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله " وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : توحيده في ربوبيته ، وهذا النوع جبلت عليه فطر العقلاء قال تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [الزخرف:87] وقال ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [يونس:31] .
وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله ( قال فرعون وما رب العالمين ) [الشعراء:23] تجاهل من عارف أن عبد مربوب ، بدليل قوله تعالى ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ) [الإسراء:102] .
وقوله ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا ) [النمل:14] وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله ، كما قال تعالى ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [يوسف:106] والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً .
الثاني : توحيده جل وعلا في عبادته . وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى " لا إله إلا الله " وهي متركبة من نفي وإثبات .
فمعنى النفي منها خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت .
ومعنى الإثبات منها ، إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .
وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد ، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) [ص:5] .
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى ( فاعلم انه لا إله إلا الله واستغفره لذنبك ) الآية .
وقوله : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل:36] وقوله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وقوله ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) [الزخرف:45]
وقوله ( قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ) [الأنبياء:108] فقد أمر في هذه الآية أن يقول أن ما أوحى إليه محصور في هذا النوع من التوحيد لشمول كلمة لا إله إلا الله لجميع ما جاء في الكتب لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده . فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي ، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب . والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة .
النوع الثالث : توحيد الله جل وعلا في أسمائه وصفاته . وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين :
الأول : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم ، كما قال تعالى (ليس كمثله شيء ).
والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله ، كما قال بعد قوله : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الإتصاف بهذه الصفات قال تعالى ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) [طه:110] .
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافه بربوبيته جل وعلا وجوب توحيده في عبادته ، ولذلك يخاطبه في توحيد الربوبية باستفهام التقرير .
فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأنه يعبد وحده ووبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره ، مع اعترافهم بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده .
ومن أمثله ذلك قوله تعالى ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار) [يونس:31] إلى قوله ( فسيقولون الله ) فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكراً عليهم شركهم به غير بقوله ( فقل أفلا تتقون ) .
ومنها قوله تعالى : ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ، سيقولون لله ) فلما اعترفوا وبخهم منكراً عليهم شركه بقوله : ( قل أفلا تذكرون ) ثم قال ( قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، سيقولون لله ) فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله ( قل أفلا تتقون ) ثم قال ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ، سيقولون الله ) فلما أقروا ، وبخهم منكراً عليك شركهم بقوله : ( قل فأنى تسحرون ) [المؤمنون:84–89]
ومنها قوله تعالى ( قل من رب السموات والأرض قل الله ) فلما صح الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقولهم : ( قل أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ) [الرعد:16] .
ومنها قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله ( فأنى يؤفكون ) [الزخرف:87].
ومنها قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله : ( فأنى يؤفكون ) .
ومنها قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله)
فلما صح إقراره وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله : ( قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ) [العنكبوت:61].
إلى أن قال الشيخ الأمين رحمه الله ( والآيات بنحو هذا كثيرة جداً ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع : أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير ، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار ، لأن المقر بالربوبية يلزم الإقرار بالألوهية ضرورة نحو قوله تعالى : ( أفي الله شك ) [إبراهيم:10] .
وقوله ( قل أغير الله أبغي رباً ) وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار ، لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار لأنهم لا ينكرون الربوبية كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه " (1) .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله – رحمه الله – موضحاً تلازم أنواع التوحيد الثلاثة : " والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيداً ، أي جعله واحداً .
سمى دين الإسلام توحيداً ، لأن مبناه على أن الله واحداً في ملكه وأفعاله لا شريك له ، وواحد في ذاته لا نظير له ، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له .
وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا به من عند الله ، وهي متلازمة ، كل نوع منها ينفك عن الآخرة .
فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر ، فما ذاك إلا لأنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب " (2)
ومن أهل العلم من قسم التوحيد إلى قسمين :
1 – توحيد في المعرفة والإثبات ، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
2 – توحيد في الطلب والقصد : وهو توحيد الإلهية والعبادة .
قال ابن القيم " رحمه الله " :
" واعلم أن التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ، ونزلت به كتبه ، نوعان :
1- توحيد في المعرفة والإثبات .
2- توحيد في الطلب والقصد .
فالأول هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سمواته على عرشه ، وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده ، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه .
وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح ، كما في أول سورة الحديد ، وسورة طه ، وآخر سورة الحشر ، وأول سورة تنزيل السجدة وأول سورة آل عمران ، وسورة الإخلاص بكاملها وغير ذلك .
النوع الثاني : مثل ما تضمنته سورة ( قل يأيها الكافرون ) وقوله ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) الآية ، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها ، وأول سورة يونس ووسطها وآخرها ، وأول سورة الأعراف وآخرها ، وجملة سورة الأنعام ، وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد (1)
(1) توحيد الربوبية
هو الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير ، وأنه المحيي المميت النافع الضار ، المتفرد بإجابة الدعاء عند الضراء ، فهو سبحانه وتعالى المتفرد بربوبية خلقه إيجاداً وإمداداً ، وخلقاً وتدبيراً .
ويمكن أن نقول : هو إفراد الله بالخلق ، والملك والتدبير .
وكذلك هو : توحيد الله بأفعاله سبحانه .
ودليل إفراده بالخلق قوله تعالى ( هل من خالق غير الله ) [فاطر:3]
وقوله : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) [النحل:17] .
ودليل إفراده بالملك قوله تعالى : ( تبارك الذي بيده الملك ) [الملك:1].
وقوله تعالى ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ) [المؤمنون:88] .
ودليل التدبير قوله تعالى : ( ألا له الخلق والأمر ) [الأعراف:54] . والمراد بالأمر هنا التدبير .
وربوبية الله عز وجل لخلقه على نوعين :
الأول : ربوبية عامة ، شاملة لجميع المخلوقات ، وهي : أن الله هو المنفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها .
الثاني : ربوبية خاصة ، وهي خاصة بأولياء الله وأصفيائه ، وهي تربيته لهم بهدايتهم للدين والإيمان.
قال العلامة السعدي : " وتربيته تعالى لخلقه نوعان : عامة وخاصة " .
فالعلامة : هي خلقه للمخلوقات ، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة : تربيته لأوليائه ، فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه .
وحقيقتها : تربية التوفيق لكل خير ، والعصمة من كل شر .
ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ ( الرب ) فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبية خاصة " (1)
ويقول ابن القيم في بيان معنى هذا القسم من أقسام التوحيد : " أن يشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه ، يدبر أمر عباده وحده ، فلا خالق ولا رازق ، ولا معطي ولا مانع ، ولا مميت ولا محيي ، ولا مدبر لأمر المملكة – ظاهراً وباطناً – غيره : فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا يجري حادث إلا بمشيئته ولا ستقط ورقة إلا بعلمه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه ، وأحاطت بها قدرته ونزلت بها مشيئته واقتضتها حكمته " (2)
تنبيه : هذا القسم من أقسام التوحيد لا يكفي العبد في حصول إسلامه ، بل لابد من أن يأتي بلازمة ، من توحيد الألوهية ، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد وحده ، ولم ينفعهم ذلك الإقرار .
قال تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [الزخرف:87] .
وقال ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله)[العنكبوت:63]. (3)
(2) توحيد الألوهية
وهو إفراد الله بالعبادة ومبناه على إخلاص التأله لله تعالى في العبادات كلها ظاهرها وباطنها ، لا يجعل فيها شيء لغيره ، لا لملك مقرب ، ولا لنبي مرسل ، فضلاً عن غيرهما (4)
ويمكن أن يقال : هو إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولاً وعملاً ، ونفى العبادة عن كل ما سواه سبحانه كما قال تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [الإسراء:23] (5) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده . فلا يدعى إلا هو ، ولا يخشى إلا هو ، ولا يتقى إلا هو ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يكون الدين إلا له ، لا لأحد من الخلق وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً ، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم(1)
ويبين ابن القيم حاجة البشرية إلى توحيد الله ، وإلى هذا القسم من أقسامه خاصة فيقول : "اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب ، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها ، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به .
فإن حقيقة العبد وروحه قلبه لا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولابد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ، ورضاه وإكرامه لها " (2)
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : " وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وهو أول دعوة الرسل وآخرها وهو معنى قول : لا إله إلا الله ، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة ، والخشية ، والإجلال ، والتعظيم ، وجميع أنواع العبادة ، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة ، وأرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب ، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار ، وسعداء أهل الجنة ، وأشقياء أهل النار " (3).
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي " رحمه الله " : " أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها توحيد الألوهية والعبادة ، وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق ، وأكملها وأفضلها ، وأوجبها وألزمها لصالح الإنسانية ، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله ، وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه ، وبوجوده يكون الصلاح ، وبفقده يكون الشر والفساد وجميع الآيات إما أمر به أو بحق من حقوقه ، أو نهى عن ضده ، أو إقامة حجة عليه أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة ، أو بيان الفرق بينهما وبين المشركين .
ويقال له : توحيد الإلهية فإن الإلهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم ، وهو مستلزم جميع صفات الكمال .
ويقال له توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بإخلاص العبادة لله تعالى ، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه مخلصاً له جميع عبادته محققاً ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره " (4)
تعريف العبادة :
فالعبادة :الطاعة مع الخضوع – قال الراغب : العبودية : إظهار التذلل ، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل (4)
وقال الزجاج " ومعنى العبادة في اللغة : الطاعة مع الخضوع " (1) وقال الجوهري " أصل العبودية " الخضوع والتذلل " (2)
ومن التعريف اللغوي السابق يمكن أن يقال عن العبادة الشرعية إنها : الانقياد والخضوع لله تعالى على وجه التقرب إليه بما شرع مع المحبة .
بيان إطلاقات العبادة :
للعبادة معاني بحسب ما تتعلق به ، وبحسب كونها مصدراً أو اسماً ، وبحسب المتوجه به إليه ، وبحسب ما يلاحظ فيها من حق ، فهذه أربعة إطلاقات .
الإطلاق الأول : إطلاقات العبادة بحسب ما تتعلق به .
فالعبادة من حيث تعلقها بعموم الخلق وخصوصهم تنقسم إلى عبادة عامة كونية وإلى خاصة شرعية (3) .
فالعبادة العامة : هي عبادة القهر والملك وهي تشمل أهل السموات والأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم فالجميع عبيد مربوبون لله قال الله تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ، لقد جئتم شيئاً إدا ، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، أن دعوا للرحمن ولدا ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) [مريم:88-93] .
وقد ذكر ابن القيم أن هذا النوع يأتي على خمسة أوجه (4) وهي :
1- إما منكراً كما في الآية المذكورة سابقاً .
2- أو معرفاً باللام ، كقوله تعالى : ( وما الله يريد ظلماً للعباد ) [غافر:31] .
3- أو مقيداً بإشارة أو نحوها ، كقوله تعالى ( ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل )[الفرقان:17]. .
4- أو أن يذكروا في عموم عباده فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر كقوله تعالى : (أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) [الزمر:46] .
5- أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) [الزمر:53] .
وهذا المثال المذكور في الوجه الخامس لا يسلم من اعتراض كما قال ابن القيم نفسه : " وقد يقال : " إنما سماهم عباده إذا لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة (5) أهـ
وأما العبادة الخاصة الشرعية فهي ، عبادة الطاعة والخضوع والذل والمحبة الاختيارية ، وهي خاصة لمن وفقه الله من المكلفين من الأنبياء والمرسلين وعامة المؤمنين بهم .
ومن الآيات الواردة فيها قول الله تعالى : ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) [الزخرف:68] وقوله ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [الزمر:17-18] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
الإطلاق الثاني : إطلاقات العبادة بحسب الإسمية والمصدرية .
فالعبادة باعتبارها مصدراً تعني التعبد ، وهو فعل العابد (1) وتعريفها " التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه " (2) اهـ
وأما باعتباره اسماً فهي تعني : المتعبد به (3) وتعريفها : " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " (4) .
ومن التعريف المذكور في معنى العبادة باعتبارها اسماً يتضح أن للعبادة أربع مراتب وهي : قول القلب ، وقول اللسان ، وعمل القلب ، وعمل الجوارح وهذا معنى قوله : " من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " وقد فصل ابن القيم هذه المراتب فقال :
" قول القلب : هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله ، وملائكته ولقائه على لسان رسله .
وقول اللسان : الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له ، والقيام بذكره وتبليغ أوامره .
وعمل القلب : كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له ، وإخلاص الدين له ، والصبر على أوامره ونواهيه وعلى أقداره والرضى به عنه ، والموالاة فيه والمعاداة فيه ، والذل له ، والخضوع ، والإخبات إليه والطمأنينة به ، وغير ذلك من أعمال القلوب ، التي فرضها من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها ، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة .
وأعمال الجوارح : كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ، ومساعدة العاجز والإحسان على الخلق ، ونحو ذلك " (5) اهـ
فظهر من هذا أن جميع أمور الديانة من الاعتقادات والإرادات والأقوال والأعمال داخلة في مسمى العبادة .
ولما جهل كثير من المتأخرين حقيقة العبادة على الوجه المذكور أعلاه كان من الأفضل زيادة البيان لبعض أنواع العبادة بذكر أمثلة لها – خاصة المتنازع فيها – مع نقل أقوال الأئمة الأعلام وبيانهم أنها من العبادة وأن صرفها لغير الله لا يجوز .
إسلام محمود دربالة
مدير مركز أبحاث ودراسات
المستقبل للإسلام
تعريف التوحيد :
التوحيد لغة : الإفراد .
ولا يكون الشيء مفرداً إلا بأمرين :
أ - الإثبات التام .
ب – النفي العام .
فلو قلت : زيد قائم . لم تفرده لاحتمال أن يكون غيره قائماً أيضاً .
لكن إن قلت : ما قائم إلا زيد ، فقد أفردته ، بإثباتك القيام التام له ، ونفيك العام للقيام عن غيره .
وكلمة التوحيد ، لا إله إلا الله اشتملت على نفي وإثبات ، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى ، فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم ليس بإله ، ولا له من العبادة شيء ، وأثبتت الإلهية لله وحده بمعنى أن العبد لا يأله غيره ، أي لا يقصد بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة .
والتوحيد شرعاً : إفراد الله بحقوقه .
ولله سبحانه وتعالى ثلاثة حقوق
1- حقوق عبادة .
2- حقوق أسماء وصفات .
ويمكن أن يقال : التوحيد : هو إفراد الله عز وجل بالخلق والرزق والتدبير وعدم صرف شيء من أنواع العبادة إلا له، والإيمان بما وصف وسمى به نفسه ، ووصفه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم .
أقسام التوحيد :
ذكر أهل العلم – رحمهم الله تعالى – بعد استقراء نصوص الكتاب والسنة أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- توحيد الربوبية .
2- توحيد الألوهية .
3- توحيد الأسماء والصفات .
قال الشيخ بكر أبو زيد – نفع الله به - : " هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده وابن جرير الطبري وغيرهما وقرره شيخاً الإسلام ابن تمية وابن القيم ، وقرره الزبيدي في " تاج العروس " وشيخنا الشنقيطي في " أضواء البيان " في آخرين رحم الله الجميع .
وهو استقراء تام لنصوص الشرع ، وهو مطر لدى أهل كل فن ، ما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف ، والعرب لم تفه بهذا ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب ، وهكذا من أنواع الاستقراء " (1)
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله " وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : توحيده في ربوبيته ، وهذا النوع جبلت عليه فطر العقلاء قال تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [الزخرف:87] وقال ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [يونس:31] .
وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله ( قال فرعون وما رب العالمين ) [الشعراء:23] تجاهل من عارف أن عبد مربوب ، بدليل قوله تعالى ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ) [الإسراء:102] .
وقوله ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا ) [النمل:14] وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله ، كما قال تعالى ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [يوسف:106] والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً .
الثاني : توحيده جل وعلا في عبادته . وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى " لا إله إلا الله " وهي متركبة من نفي وإثبات .
فمعنى النفي منها خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت .
ومعنى الإثبات منها ، إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .
وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد ، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) [ص:5] .
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى ( فاعلم انه لا إله إلا الله واستغفره لذنبك ) الآية .
وقوله : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل:36] وقوله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وقوله ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) [الزخرف:45]
وقوله ( قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ) [الأنبياء:108] فقد أمر في هذه الآية أن يقول أن ما أوحى إليه محصور في هذا النوع من التوحيد لشمول كلمة لا إله إلا الله لجميع ما جاء في الكتب لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده . فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي ، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب . والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة .
النوع الثالث : توحيد الله جل وعلا في أسمائه وصفاته . وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين :
الأول : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم ، كما قال تعالى (ليس كمثله شيء ).
والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله ، كما قال بعد قوله : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الإتصاف بهذه الصفات قال تعالى ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) [طه:110] .
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافه بربوبيته جل وعلا وجوب توحيده في عبادته ، ولذلك يخاطبه في توحيد الربوبية باستفهام التقرير .
فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأنه يعبد وحده ووبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره ، مع اعترافهم بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده .
ومن أمثله ذلك قوله تعالى ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار) [يونس:31] إلى قوله ( فسيقولون الله ) فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكراً عليهم شركهم به غير بقوله ( فقل أفلا تتقون ) .
ومنها قوله تعالى : ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ، سيقولون لله ) فلما اعترفوا وبخهم منكراً عليهم شركه بقوله : ( قل أفلا تذكرون ) ثم قال ( قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، سيقولون لله ) فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله ( قل أفلا تتقون ) ثم قال ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ، سيقولون الله ) فلما أقروا ، وبخهم منكراً عليك شركهم بقوله : ( قل فأنى تسحرون ) [المؤمنون:84–89]
ومنها قوله تعالى ( قل من رب السموات والأرض قل الله ) فلما صح الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقولهم : ( قل أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ) [الرعد:16] .
ومنها قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله ( فأنى يؤفكون ) [الزخرف:87].
ومنها قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله : ( فأنى يؤفكون ) .
ومنها قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله)
فلما صح إقراره وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله : ( قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ) [العنكبوت:61].
إلى أن قال الشيخ الأمين رحمه الله ( والآيات بنحو هذا كثيرة جداً ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع : أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير ، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار ، لأن المقر بالربوبية يلزم الإقرار بالألوهية ضرورة نحو قوله تعالى : ( أفي الله شك ) [إبراهيم:10] .
وقوله ( قل أغير الله أبغي رباً ) وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار ، لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار لأنهم لا ينكرون الربوبية كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه " (1) .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله – رحمه الله – موضحاً تلازم أنواع التوحيد الثلاثة : " والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيداً ، أي جعله واحداً .
سمى دين الإسلام توحيداً ، لأن مبناه على أن الله واحداً في ملكه وأفعاله لا شريك له ، وواحد في ذاته لا نظير له ، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له .
وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا به من عند الله ، وهي متلازمة ، كل نوع منها ينفك عن الآخرة .
فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر ، فما ذاك إلا لأنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب " (2)
ومن أهل العلم من قسم التوحيد إلى قسمين :
1 – توحيد في المعرفة والإثبات ، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
2 – توحيد في الطلب والقصد : وهو توحيد الإلهية والعبادة .
قال ابن القيم " رحمه الله " :
" واعلم أن التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ، ونزلت به كتبه ، نوعان :
1- توحيد في المعرفة والإثبات .
2- توحيد في الطلب والقصد .
فالأول هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سمواته على عرشه ، وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده ، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه .
وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح ، كما في أول سورة الحديد ، وسورة طه ، وآخر سورة الحشر ، وأول سورة تنزيل السجدة وأول سورة آل عمران ، وسورة الإخلاص بكاملها وغير ذلك .
النوع الثاني : مثل ما تضمنته سورة ( قل يأيها الكافرون ) وقوله ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) الآية ، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها ، وأول سورة يونس ووسطها وآخرها ، وأول سورة الأعراف وآخرها ، وجملة سورة الأنعام ، وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد (1)
(1) توحيد الربوبية
هو الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير ، وأنه المحيي المميت النافع الضار ، المتفرد بإجابة الدعاء عند الضراء ، فهو سبحانه وتعالى المتفرد بربوبية خلقه إيجاداً وإمداداً ، وخلقاً وتدبيراً .
ويمكن أن نقول : هو إفراد الله بالخلق ، والملك والتدبير .
وكذلك هو : توحيد الله بأفعاله سبحانه .
ودليل إفراده بالخلق قوله تعالى ( هل من خالق غير الله ) [فاطر:3]
وقوله : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) [النحل:17] .
ودليل إفراده بالملك قوله تعالى : ( تبارك الذي بيده الملك ) [الملك:1].
وقوله تعالى ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ) [المؤمنون:88] .
ودليل التدبير قوله تعالى : ( ألا له الخلق والأمر ) [الأعراف:54] . والمراد بالأمر هنا التدبير .
وربوبية الله عز وجل لخلقه على نوعين :
الأول : ربوبية عامة ، شاملة لجميع المخلوقات ، وهي : أن الله هو المنفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها .
الثاني : ربوبية خاصة ، وهي خاصة بأولياء الله وأصفيائه ، وهي تربيته لهم بهدايتهم للدين والإيمان.
قال العلامة السعدي : " وتربيته تعالى لخلقه نوعان : عامة وخاصة " .
فالعلامة : هي خلقه للمخلوقات ، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة : تربيته لأوليائه ، فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه .
وحقيقتها : تربية التوفيق لكل خير ، والعصمة من كل شر .
ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ ( الرب ) فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبية خاصة " (1)
ويقول ابن القيم في بيان معنى هذا القسم من أقسام التوحيد : " أن يشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه ، يدبر أمر عباده وحده ، فلا خالق ولا رازق ، ولا معطي ولا مانع ، ولا مميت ولا محيي ، ولا مدبر لأمر المملكة – ظاهراً وباطناً – غيره : فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا يجري حادث إلا بمشيئته ولا ستقط ورقة إلا بعلمه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه ، وأحاطت بها قدرته ونزلت بها مشيئته واقتضتها حكمته " (2)
تنبيه : هذا القسم من أقسام التوحيد لا يكفي العبد في حصول إسلامه ، بل لابد من أن يأتي بلازمة ، من توحيد الألوهية ، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد وحده ، ولم ينفعهم ذلك الإقرار .
قال تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [الزخرف:87] .
وقال ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله)[العنكبوت:63]. (3)
(2) توحيد الألوهية
وهو إفراد الله بالعبادة ومبناه على إخلاص التأله لله تعالى في العبادات كلها ظاهرها وباطنها ، لا يجعل فيها شيء لغيره ، لا لملك مقرب ، ولا لنبي مرسل ، فضلاً عن غيرهما (4)
ويمكن أن يقال : هو إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولاً وعملاً ، ونفى العبادة عن كل ما سواه سبحانه كما قال تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [الإسراء:23] (5) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده . فلا يدعى إلا هو ، ولا يخشى إلا هو ، ولا يتقى إلا هو ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يكون الدين إلا له ، لا لأحد من الخلق وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً ، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم(1)
ويبين ابن القيم حاجة البشرية إلى توحيد الله ، وإلى هذا القسم من أقسامه خاصة فيقول : "اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب ، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها ، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به .
فإن حقيقة العبد وروحه قلبه لا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولابد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ، ورضاه وإكرامه لها " (2)
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : " وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وهو أول دعوة الرسل وآخرها وهو معنى قول : لا إله إلا الله ، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة ، والخشية ، والإجلال ، والتعظيم ، وجميع أنواع العبادة ، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة ، وأرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب ، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار ، وسعداء أهل الجنة ، وأشقياء أهل النار " (3).
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي " رحمه الله " : " أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها توحيد الألوهية والعبادة ، وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق ، وأكملها وأفضلها ، وأوجبها وألزمها لصالح الإنسانية ، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله ، وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه ، وبوجوده يكون الصلاح ، وبفقده يكون الشر والفساد وجميع الآيات إما أمر به أو بحق من حقوقه ، أو نهى عن ضده ، أو إقامة حجة عليه أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة ، أو بيان الفرق بينهما وبين المشركين .
ويقال له : توحيد الإلهية فإن الإلهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم ، وهو مستلزم جميع صفات الكمال .
ويقال له توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بإخلاص العبادة لله تعالى ، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه مخلصاً له جميع عبادته محققاً ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره " (4)
تعريف العبادة :
فالعبادة :الطاعة مع الخضوع – قال الراغب : العبودية : إظهار التذلل ، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل (4)
وقال الزجاج " ومعنى العبادة في اللغة : الطاعة مع الخضوع " (1) وقال الجوهري " أصل العبودية " الخضوع والتذلل " (2)
ومن التعريف اللغوي السابق يمكن أن يقال عن العبادة الشرعية إنها : الانقياد والخضوع لله تعالى على وجه التقرب إليه بما شرع مع المحبة .
بيان إطلاقات العبادة :
للعبادة معاني بحسب ما تتعلق به ، وبحسب كونها مصدراً أو اسماً ، وبحسب المتوجه به إليه ، وبحسب ما يلاحظ فيها من حق ، فهذه أربعة إطلاقات .
الإطلاق الأول : إطلاقات العبادة بحسب ما تتعلق به .
فالعبادة من حيث تعلقها بعموم الخلق وخصوصهم تنقسم إلى عبادة عامة كونية وإلى خاصة شرعية (3) .
فالعبادة العامة : هي عبادة القهر والملك وهي تشمل أهل السموات والأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم فالجميع عبيد مربوبون لله قال الله تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ، لقد جئتم شيئاً إدا ، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، أن دعوا للرحمن ولدا ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) [مريم:88-93] .
وقد ذكر ابن القيم أن هذا النوع يأتي على خمسة أوجه (4) وهي :
1- إما منكراً كما في الآية المذكورة سابقاً .
2- أو معرفاً باللام ، كقوله تعالى : ( وما الله يريد ظلماً للعباد ) [غافر:31] .
3- أو مقيداً بإشارة أو نحوها ، كقوله تعالى ( ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل )[الفرقان:17]. .
4- أو أن يذكروا في عموم عباده فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر كقوله تعالى : (أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) [الزمر:46] .
5- أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) [الزمر:53] .
وهذا المثال المذكور في الوجه الخامس لا يسلم من اعتراض كما قال ابن القيم نفسه : " وقد يقال : " إنما سماهم عباده إذا لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة (5) أهـ
وأما العبادة الخاصة الشرعية فهي ، عبادة الطاعة والخضوع والذل والمحبة الاختيارية ، وهي خاصة لمن وفقه الله من المكلفين من الأنبياء والمرسلين وعامة المؤمنين بهم .
ومن الآيات الواردة فيها قول الله تعالى : ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) [الزخرف:68] وقوله ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [الزمر:17-18] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
الإطلاق الثاني : إطلاقات العبادة بحسب الإسمية والمصدرية .
فالعبادة باعتبارها مصدراً تعني التعبد ، وهو فعل العابد (1) وتعريفها " التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه " (2) اهـ
وأما باعتباره اسماً فهي تعني : المتعبد به (3) وتعريفها : " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " (4) .
ومن التعريف المذكور في معنى العبادة باعتبارها اسماً يتضح أن للعبادة أربع مراتب وهي : قول القلب ، وقول اللسان ، وعمل القلب ، وعمل الجوارح وهذا معنى قوله : " من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " وقد فصل ابن القيم هذه المراتب فقال :
" قول القلب : هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله ، وملائكته ولقائه على لسان رسله .
وقول اللسان : الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له ، والقيام بذكره وتبليغ أوامره .
وعمل القلب : كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له ، وإخلاص الدين له ، والصبر على أوامره ونواهيه وعلى أقداره والرضى به عنه ، والموالاة فيه والمعاداة فيه ، والذل له ، والخضوع ، والإخبات إليه والطمأنينة به ، وغير ذلك من أعمال القلوب ، التي فرضها من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها ، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة .
وأعمال الجوارح : كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ، ومساعدة العاجز والإحسان على الخلق ، ونحو ذلك " (5) اهـ
فظهر من هذا أن جميع أمور الديانة من الاعتقادات والإرادات والأقوال والأعمال داخلة في مسمى العبادة .
ولما جهل كثير من المتأخرين حقيقة العبادة على الوجه المذكور أعلاه كان من الأفضل زيادة البيان لبعض أنواع العبادة بذكر أمثلة لها – خاصة المتنازع فيها – مع نقل أقوال الأئمة الأعلام وبيانهم أنها من العبادة وأن صرفها لغير الله لا يجوز .