المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ماذا تعرف عن التوحيد



مجد الاسلام
09-13-2006, 11:06 AM
إعداد
إسلام محمود دربالة
مدير مركز أبحاث ودراسات
المستقبل للإسلام



تعريف التوحيد :
التوحيد لغة : الإفراد .
ولا يكون الشيء مفرداً إلا بأمرين :
أ - الإثبات التام .
ب – النفي العام .
فلو قلت : زيد قائم . لم تفرده لاحتمال أن يكون غيره قائماً أيضاً .
لكن إن قلت : ما قائم إلا زيد ، فقد أفردته ، بإثباتك القيام التام له ، ونفيك العام للقيام عن غيره .
وكلمة التوحيد ، لا إله إلا الله اشتملت على نفي وإثبات ، فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى ، فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلاً عن غيرهم ليس بإله ، ولا له من العبادة شيء ، وأثبتت الإلهية لله وحده بمعنى أن العبد لا يأله غيره ، أي لا يقصد بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء من أنواع العبادة .
والتوحيد شرعاً : إفراد الله بحقوقه .
ولله سبحانه وتعالى ثلاثة حقوق
1- حقوق عبادة .
2- حقوق أسماء وصفات .
ويمكن أن يقال : التوحيد : هو إفراد الله عز وجل بالخلق والرزق والتدبير وعدم صرف شيء من أنواع العبادة إلا له، والإيمان بما وصف وسمى به نفسه ، ووصفه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم .
أقسام التوحيد :
ذكر أهل العلم – رحمهم الله تعالى – بعد استقراء نصوص الكتاب والسنة أن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- توحيد الربوبية .
2- توحيد الألوهية .
3- توحيد الأسماء والصفات .
قال الشيخ بكر أبو زيد – نفع الله به - : " هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن منده وابن جرير الطبري وغيرهما وقرره شيخاً الإسلام ابن تمية وابن القيم ، وقرره الزبيدي في " تاج العروس " وشيخنا الشنقيطي في " أضواء البيان " في آخرين رحم الله الجميع .
وهو استقراء تام لنصوص الشرع ، وهو مطر لدى أهل كل فن ، ما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف ، والعرب لم تفه بهذا ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب ، وهكذا من أنواع الاستقراء " (1)
وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله " وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : توحيده في ربوبيته ، وهذا النوع جبلت عليه فطر العقلاء قال تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [الزخرف:87] وقال ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) [يونس:31] .
وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله ( قال فرعون وما رب العالمين ) [الشعراء:23] تجاهل من عارف أن عبد مربوب ، بدليل قوله تعالى ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ) [الإسراء:102] .
وقوله ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا ) [النمل:14] وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله ، كما قال تعالى ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [يوسف:106] والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً .
الثاني : توحيده جل وعلا في عبادته . وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى " لا إله إلا الله " وهي متركبة من نفي وإثبات .
فمعنى النفي منها خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت .
ومعنى الإثبات منها ، إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .
وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد ، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) [ص:5] .
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى ( فاعلم انه لا إله إلا الله واستغفره لذنبك ) الآية .
وقوله : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل:36] وقوله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وقوله ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) [الزخرف:45]
وقوله ( قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ) [الأنبياء:108] فقد أمر في هذه الآية أن يقول أن ما أوحى إليه محصور في هذا النوع من التوحيد لشمول كلمة لا إله إلا الله لجميع ما جاء في الكتب لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده . فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي ، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب . والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة .
النوع الثالث : توحيد الله جل وعلا في أسمائه وصفاته . وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين :
الأول : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم ، كما قال تعالى (ليس كمثله شيء ).
والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله ، كما قال بعد قوله : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الإتصاف بهذه الصفات قال تعالى ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) [طه:110] .
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافه بربوبيته جل وعلا وجوب توحيده في عبادته ، ولذلك يخاطبه في توحيد الربوبية باستفهام التقرير .
فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأنه يعبد وحده ووبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره ، مع اعترافهم بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده .
ومن أمثله ذلك قوله تعالى ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار) [يونس:31] إلى قوله ( فسيقولون الله ) فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكراً عليهم شركهم به غير بقوله ( فقل أفلا تتقون ) .
ومنها قوله تعالى : ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ، سيقولون لله ) فلما اعترفوا وبخهم منكراً عليهم شركه بقوله : ( قل أفلا تذكرون ) ثم قال ( قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، سيقولون لله ) فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله ( قل أفلا تتقون ) ثم قال ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ، سيقولون الله ) فلما أقروا ، وبخهم منكراً عليك شركهم بقوله : ( قل فأنى تسحرون ) [المؤمنون:84–89]
ومنها قوله تعالى ( قل من رب السموات والأرض قل الله ) فلما صح الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقولهم : ( قل أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ) [الرعد:16] .
ومنها قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله ( فأنى يؤفكون ) [الزخرف:87].
ومنها قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله : ( فأنى يؤفكون ) .
ومنها قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله)
فلما صح إقراره وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله : ( قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ) [العنكبوت:61].
إلى أن قال الشيخ الأمين رحمه الله ( والآيات بنحو هذا كثيرة جداً ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع : أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير ، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار ، لأن المقر بالربوبية يلزم الإقرار بالألوهية ضرورة نحو قوله تعالى : ( أفي الله شك ) [إبراهيم:10] .
وقوله ( قل أغير الله أبغي رباً ) وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار ، لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار لأنهم لا ينكرون الربوبية كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه " (1) .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله – رحمه الله – موضحاً تلازم أنواع التوحيد الثلاثة : " والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيداً ، أي جعله واحداً .
سمى دين الإسلام توحيداً ، لأن مبناه على أن الله واحداً في ملكه وأفعاله لا شريك له ، وواحد في ذاته لا نظير له ، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له .
وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا به من عند الله ، وهي متلازمة ، كل نوع منها ينفك عن الآخرة .
فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر ، فما ذاك إلا لأنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب " (2)
ومن أهل العلم من قسم التوحيد إلى قسمين :
1 – توحيد في المعرفة والإثبات ، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات .
2 – توحيد في الطلب والقصد : وهو توحيد الإلهية والعبادة .
قال ابن القيم " رحمه الله " :
" واعلم أن التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ، ونزلت به كتبه ، نوعان :
1- توحيد في المعرفة والإثبات .
2- توحيد في الطلب والقصد .
فالأول هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سمواته على عرشه ، وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده ، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه .
وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح ، كما في أول سورة الحديد ، وسورة طه ، وآخر سورة الحشر ، وأول سورة تنزيل السجدة وأول سورة آل عمران ، وسورة الإخلاص بكاملها وغير ذلك .
النوع الثاني : مثل ما تضمنته سورة ( قل يأيها الكافرون ) وقوله ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) الآية ، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها ، وأول سورة يونس ووسطها وآخرها ، وأول سورة الأعراف وآخرها ، وجملة سورة الأنعام ، وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد (1)

(1) توحيد الربوبية
هو الاعتقاد بأن الله سبحانه هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير ، وأنه المحيي المميت النافع الضار ، المتفرد بإجابة الدعاء عند الضراء ، فهو سبحانه وتعالى المتفرد بربوبية خلقه إيجاداً وإمداداً ، وخلقاً وتدبيراً .
ويمكن أن نقول : هو إفراد الله بالخلق ، والملك والتدبير .
وكذلك هو : توحيد الله بأفعاله سبحانه .
ودليل إفراده بالخلق قوله تعالى ( هل من خالق غير الله ) [فاطر:3]
وقوله : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) [النحل:17] .
ودليل إفراده بالملك قوله تعالى : ( تبارك الذي بيده الملك ) [الملك:1].
وقوله تعالى ( قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ) [المؤمنون:88] .
ودليل التدبير قوله تعالى : ( ألا له الخلق والأمر ) [الأعراف:54] . والمراد بالأمر هنا التدبير .
وربوبية الله عز وجل لخلقه على نوعين :
الأول : ربوبية عامة ، شاملة لجميع المخلوقات ، وهي : أن الله هو المنفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها .
الثاني : ربوبية خاصة ، وهي خاصة بأولياء الله وأصفيائه ، وهي تربيته لهم بهدايتهم للدين والإيمان.
قال العلامة السعدي : " وتربيته تعالى لخلقه نوعان : عامة وخاصة " .
فالعلامة : هي خلقه للمخلوقات ، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة : تربيته لأوليائه ، فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ، ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه .
وحقيقتها : تربية التوفيق لكل خير ، والعصمة من كل شر .
ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ ( الرب ) فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبية خاصة " (1)
ويقول ابن القيم في بيان معنى هذا القسم من أقسام التوحيد : " أن يشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه ، يدبر أمر عباده وحده ، فلا خالق ولا رازق ، ولا معطي ولا مانع ، ولا مميت ولا محيي ، ولا مدبر لأمر المملكة – ظاهراً وباطناً – غيره : فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ولا يجري حادث إلا بمشيئته ولا ستقط ورقة إلا بعلمه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه ، وأحاطت بها قدرته ونزلت بها مشيئته واقتضتها حكمته " (2)
تنبيه : هذا القسم من أقسام التوحيد لا يكفي العبد في حصول إسلامه ، بل لابد من أن يأتي بلازمة ، من توحيد الألوهية ، لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد وحده ، ولم ينفعهم ذلك الإقرار .
قال تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [الزخرف:87] .
وقال ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله)[العنكبوت:63]. (3)

(2) توحيد الألوهية
وهو إفراد الله بالعبادة ومبناه على إخلاص التأله لله تعالى في العبادات كلها ظاهرها وباطنها ، لا يجعل فيها شيء لغيره ، لا لملك مقرب ، ولا لنبي مرسل ، فضلاً عن غيرهما (4)
ويمكن أن يقال : هو إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولاً وعملاً ، ونفى العبادة عن كل ما سواه سبحانه كما قال تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [الإسراء:23] (5) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده . فلا يدعى إلا هو ، ولا يخشى إلا هو ، ولا يتقى إلا هو ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يكون الدين إلا له ، لا لأحد من الخلق وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً ، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم(1)
ويبين ابن القيم حاجة البشرية إلى توحيد الله ، وإلى هذا القسم من أقسامه خاصة فيقول : "اعلم أن حاجة العبد أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ، ولا في العمل له ولا في الحلف به ، ولا في النذر له ، ولا في الخضوع له ، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب ، أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها ، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به .
فإن حقيقة العبد وروحه قلبه لا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو ، فلا تطمئن الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ، ولابد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ، ورضاه وإكرامه لها " (2)
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : " وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وهو أول دعوة الرسل وآخرها وهو معنى قول : لا إله إلا الله ، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة ، والخشية ، والإجلال ، والتعظيم ، وجميع أنواع العبادة ، ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة ، وأرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب ، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار ، وسعداء أهل الجنة ، وأشقياء أهل النار " (3).
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي " رحمه الله " : " أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها توحيد الألوهية والعبادة ، وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق ، وأكملها وأفضلها ، وأوجبها وألزمها لصالح الإنسانية ، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله ، وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه ، وبوجوده يكون الصلاح ، وبفقده يكون الشر والفساد وجميع الآيات إما أمر به أو بحق من حقوقه ، أو نهى عن ضده ، أو إقامة حجة عليه أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة ، أو بيان الفرق بينهما وبين المشركين .
ويقال له : توحيد الإلهية فإن الإلهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم ، وهو مستلزم جميع صفات الكمال .
ويقال له توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بإخلاص العبادة لله تعالى ، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه مخلصاً له جميع عبادته محققاً ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره " (4)
تعريف العبادة :
فالعبادة :الطاعة مع الخضوع – قال الراغب : العبودية : إظهار التذلل ، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل (4)
وقال الزجاج " ومعنى العبادة في اللغة : الطاعة مع الخضوع " (1) وقال الجوهري " أصل العبودية " الخضوع والتذلل " (2)
ومن التعريف اللغوي السابق يمكن أن يقال عن العبادة الشرعية إنها : الانقياد والخضوع لله تعالى على وجه التقرب إليه بما شرع مع المحبة .
بيان إطلاقات العبادة :
للعبادة معاني بحسب ما تتعلق به ، وبحسب كونها مصدراً أو اسماً ، وبحسب المتوجه به إليه ، وبحسب ما يلاحظ فيها من حق ، فهذه أربعة إطلاقات .
الإطلاق الأول : إطلاقات العبادة بحسب ما تتعلق به .
فالعبادة من حيث تعلقها بعموم الخلق وخصوصهم تنقسم إلى عبادة عامة كونية وإلى خاصة شرعية (3) .
فالعبادة العامة : هي عبادة القهر والملك وهي تشمل أهل السموات والأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم فالجميع عبيد مربوبون لله قال الله تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ، لقد جئتم شيئاً إدا ، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، أن دعوا للرحمن ولدا ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) [مريم:88-93] .
وقد ذكر ابن القيم أن هذا النوع يأتي على خمسة أوجه (4) وهي :
1- إما منكراً كما في الآية المذكورة سابقاً .
2- أو معرفاً باللام ، كقوله تعالى : ( وما الله يريد ظلماً للعباد ) [غافر:31] .
3- أو مقيداً بإشارة أو نحوها ، كقوله تعالى ( ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل )[الفرقان:17]. .
4- أو أن يذكروا في عموم عباده فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر كقوله تعالى : (أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون ) [الزمر:46] .
5- أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) [الزمر:53] .
وهذا المثال المذكور في الوجه الخامس لا يسلم من اعتراض كما قال ابن القيم نفسه : " وقد يقال : " إنما سماهم عباده إذا لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة (5) أهـ
وأما العبادة الخاصة الشرعية فهي ، عبادة الطاعة والخضوع والذل والمحبة الاختيارية ، وهي خاصة لمن وفقه الله من المكلفين من الأنبياء والمرسلين وعامة المؤمنين بهم .
ومن الآيات الواردة فيها قول الله تعالى : ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ) [الزخرف:68] وقوله ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [الزمر:17-18] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
الإطلاق الثاني : إطلاقات العبادة بحسب الإسمية والمصدرية .
فالعبادة باعتبارها مصدراً تعني التعبد ، وهو فعل العابد (1) وتعريفها " التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه " (2) اهـ
وأما باعتباره اسماً فهي تعني : المتعبد به (3) وتعريفها : " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " (4) .
ومن التعريف المذكور في معنى العبادة باعتبارها اسماً يتضح أن للعبادة أربع مراتب وهي : قول القلب ، وقول اللسان ، وعمل القلب ، وعمل الجوارح وهذا معنى قوله : " من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة " وقد فصل ابن القيم هذه المراتب فقال :
" قول القلب : هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله ، وملائكته ولقائه على لسان رسله .
وقول اللسان : الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له ، والقيام بذكره وتبليغ أوامره .
وعمل القلب : كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له ، وإخلاص الدين له ، والصبر على أوامره ونواهيه وعلى أقداره والرضى به عنه ، والموالاة فيه والمعاداة فيه ، والذل له ، والخضوع ، والإخبات إليه والطمأنينة به ، وغير ذلك من أعمال القلوب ، التي فرضها من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها ، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة .
وأعمال الجوارح : كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ، ومساعدة العاجز والإحسان على الخلق ، ونحو ذلك " (5) اهـ
فظهر من هذا أن جميع أمور الديانة من الاعتقادات والإرادات والأقوال والأعمال داخلة في مسمى العبادة .
ولما جهل كثير من المتأخرين حقيقة العبادة على الوجه المذكور أعلاه كان من الأفضل زيادة البيان لبعض أنواع العبادة بذكر أمثلة لها – خاصة المتنازع فيها – مع نقل أقوال الأئمة الأعلام وبيانهم أنها من العبادة وأن صرفها لغير الله لا يجوز .

مجد الاسلام
09-13-2006, 11:14 AM
ومن هذه الأمثلة : الاستعاذة والاستغاثة والحلف .
فالاستعاذة : طلب العوذ – وهي الالتجاء إلى الله تعالى من الشر لإزالته أو دفعه (1) والاستغاثة : طلب الغوث وهي : إزالة الشدة ، كالاستنصار وهو طلب النصر . ولا خلاف في أنه تجوز الاستغاثة بالمخلوق فيما كان قادراً عليه من الأمور (2) ومنه قول الله تعالى (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) [الأنفال:72] وقوله : ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) [القصص:15] وأما ما لا يقدر عليه إلا الله كغفران الذنوب وإنزال الرزق وكل ما هو من خصائص الربوبية فلا يستغاث فيه إلا بالله جل وعلا . قال الله تعالى : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ) وقال تعالى ( يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ) [فاطر:3] . .
والاستعاذة والاستغاثة نوعان من أنواع الدعاء والدعاء عبادة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : " الدعاء هو العبادة " (3) ثم تلا قول الله تعالى : ( قال ربكم ادعوني استجب لكم) [غافر:60] ومن أقوال أهل العلم في أن الدعاء عبادة : " قال نعيم بن حماد في كتابه الرد على الجهمية (4) دلت هذه الأحاديث (5) على أن القرآن غير مخلوق ، إذ لو كان مخلوقاً لم يستعذ به ، إذً لا يستعاذ بمخلوق قال الله تعالى ( فاستعذ بالله ) . (6) اهـ
وهذا الكلام ساقه نعيم بن حماد ليدلل على أن القرآن غير مخلوق وحجته في ذلك ما ورد في الاستعاذة بكلمات الله وأسمائه الحسنى ، فلو كانت لما جازت الاستعاذة بها وهذا يؤكد أن هذه المسألة وهي عدم جوز الاستعاذة بغير الله – كانت معلومة عند الموافق والمخالف ، وإلا لما أوردها عليهم .
ونظير هذا الاستدلال وهذا القول : قول ابن خزيمة : فإنه قال : " أفليس العلم محيطاً يا ذوي الحجا أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه ؟ هل سمعتم عالماً يجيز أن يقول الداعي : أعوذ بالكعبة من شر خلق الله ؟ أو يجيز أن يقول الداعي : أعوذ بالصفا والمروة ، أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله؟ هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله ، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه (1) .
وقد أورد الإمام البخاري في كتابه الصحيح باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها ضمن كتاب التوحيد ، ثم ساق فيه تسعة أحاديث ، ومقصوده بهذه الترجمة : إثبات أن أسماء الله تعالى غير مخلوقة ، لأنه قد وردت الاستعاذة بها والسؤال بها ، لأن المخلوق لا يستعاذ به ولا يسأل به .
ويؤكد صحة هذا المعنى الذي تدل عليه ترجمته هو أنه أورد في الباب تسعة أحاديث وتاسعها لفظه : " لا تحلفوا بآبائكم ومن كان حالفاً فليحلف بالله " (2) وقد قال في كتابه خلق أفعال العباد (3) " وليس لأحد أن يحلف بالخواتيم والدراهم البيض وألواح الصبيان التي يكتبونها ثم يمحونها مرة بعد مرة وإن حلف فلا يمين عليه لقول الله عز وجل ( فلا تجعلوا لله أنداداً ) [البقرة:22].
فهذا نص واضح من الإمام البخاري يفيد أن الحلف بغير الله يعتبر شركاً وإيراده حديث الأمر بالحلف بالله وحده في باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها يدل على أنه يرى عدم جواز السؤال والاستعاذة بغير الله تعالى ، وهذا واضح .
والإطلاق الثالث للعبادة هو باعتبار المتوجه بها إليه :
فمن توجه بعبادته لله تعالى كانت هذه العبادة توحيداً ، ومن توجه بها إلى غير الله كانت شركاً ، فعن الثاني يقول الله جل وعلا فيمن دعا غيره : (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ) [فاطر:13،14] فدعاؤهم لغير الله عبادة لهم ، وسماها الله تعالى شركاً ، وهكذا كل عبادة من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك إذا توجه بها صاحبها إلى الله تعالى كان ذلك توحيداً ، وإذا صرفها إلى الله غير الله تعالى كانت شركاً .
الإطلاق الرابع للعبادة : باعتبار ما يلاحظ فيها من حلق :
فإن العبادة قد تطلق على معنى أخص وهو ما يقابل المعاملات ولذلك فإن الفقهاء في كتب الفقه يدرجون أبواباً في قسم العبادات وهي : الصلاة والزكاة والصيام والحج ، وما عداها في باب المعاملات وهذا لا يعني أن العبادات منحصرة في المذكورات فقط بل تشمل غيرها ، بل إن المعاملات نفسها داخلة في مسمى العبادة العام وذلك من جهة التزامها وفق الشرع .

أركان وشروط العبادة :
من التعريف الشرعي السابق لكلمة العبادة يتضح أن لها ركنين وهما : كما الخضوع والذل ، وكمال المحبة وشرطها : الاتباع
الركن الأول وهو : كمال الخضوع والذل وهو أن يستكين العبد لله تعالى ويخضع له ويذل . والذل أربع مراتب كما ذكر ابن القيم
"المرتبة الأولى " مشتركة بين الخلق ، وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله ، فأهل السموات والأرض جميعاً محتاجون إليه فقراء إليه ، وهو وحده الغني عنهم وكل أهل السموات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحداً .
المرتبة الثانية : ذل الطاعة والعبودية ، وهو ذل الاختيار وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية .
والمرتبة الثالثة : ذل المحبة ، فإن المحب ذليل بالذات ، وعلى قدر محبته له يكون ذله .
والمرتبة الرابعة : ذل المعصية والجناية : فإذا اجتمعت هذه الأربع : كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم ، إذ يذل له خوفاً وخشية ، ومحبة وإنابة وطاعة وفقراً وفاقة " (1) اهـ .
وأما الركن الثاني وهو : كمال المحبة .
فإن الذي يدل على اعتبار كمال الحب مع كمال الذل هو أن أصل التأله : العبد وهو كما يقول ابن القيم : " العبد آخر مراتب الحب ، يقال : عبده الحب وتيمه إذا ملكه ، وذلك لمحبوبه " (2)اهـ
وقال شيخ الإسلام بن تيمية : " والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل ، فالعابد محب خاضع ، بخلاف من يحب من لا يخضع له ، بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر ، وبخلاف من يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم فإن كلاً من هذين ليس عبادة محضة " (3) .
ومما يدل على أن هذا الحب ركن لا بد منه قول الله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العقاب ) [البقرة:165] قال ابن القيم " فأخبر أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً ، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية ، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية بخلاف ند المحبة " (4) اهـ .
فإذا تبين هذا علم أن إفراد الله بالمحبة أصل العبادة ، وهذا يستلزم أن يكون الحب كله لله ولأجله وفيه (1) .
ويوضح شيخ الإسلام بن تيمية حقيقة حب الله وما يحب لله فيقول : " وكل ما أمر الله أن يحب ويعظم فنما محبته وتعظيمه لله ، فالله هو المحبوب المعظم في المحبة والتعظيم ، والمقصد المستقر الذي إليه المنتهى ، وأما ما سوى ذلك فيحب لأجل الله ، أي لأجل محبة العبد لله يحب ما أحبه الله ، فمن تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب وبغض بغيضه ، ويشهد لهذا الحديث " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله(3) " (2) اهـ.
وشرط صحة المحبة : المتابعة التي لابد فيها من الصدق والإخلاص . ومما يدل على أن اتباع أمر المحبوب واجتناب نهي لازم للمحبة قول الله تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [آل عمران:31] . فجعل الله تعالى اتباعهم لرسوله صلى الله عليه وسلم علامة على صدق محبته لله ، وجعل حبه لهم مشروطاً باعتباعهم له ، فعلهم بهذا استحالة ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن المحبة مستلزمة للمتابعة (4)
فإن لم تتحقق المتابعة والطاعة يكون مدعى المحبة كاذباً في دعواه محبة الله ويكون من الكافرين ، وهذا المعنى هو ما قررته الآية التي تلي الآية التي تقدم ذكرها ، وهي قول الله تعالى : ( قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) [آل عمران:32] .
ومن العرض السابق يعلم أن للعبادة بمعنى التعبد شرطين هما : معرفة المعبود ، ومعرفة دينه
فأما الشرط الأول وهو : معرفة المعبود سبحانه وتعالى فهو واضح جداً فإنه حتى يتحقق الذل والخضوع للمعبود فإن يشترط أن تتحقق معرفته والسبيل إلى ذلك هو العلم بما للمعبود سبحانه من الأسماء والصفات ومعاني الربوبية فإنه " لا تكون العبادة إلا مع المعرفة للمعبود " (5)
وأما الشرط الثاني : وهو معرفة دينه – فإن واضح من البيان المتقدم في شرط المحبة – فإن شرطها هو متابعة أوامر المعبود واجتناب نواهيه ، وأوامره ونواهيه هي دينه الذي أنزله ، ولا يمكن أن تتحقق المتابعة لدينه إلا بعد معرفته ولذلك كانت معرفة دين الله شرطاً في التعبد. وقد بين ابن القيم مراتب العلم بالله وبدينه بقوله : " فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب " العلم بذاته ، وصفاته وأفعاله ، وأسمائه ، وتنزيهه عما لا يليق به . العلم بدينه مرتبتان : إحداهما : دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه ، والثانية : دينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه ، وقد دخل في هذا العلم : العلم بملائكته وكتبه ورسله " (1) اهـ
بيان مستحق العبادة :
الذي يستحق العبادة هو الله جل وعلا وحده دون غيره ، فإن العبادة لا تكون إلا للخالق المنعم ، وسيأتي بيان السبب الذي استحق الله به العبادة دون ما سواه إن شاء الله .
قال الله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وهذا أسلوب يفيد الحصر والاختصاص (2) ومعنى هذه الآية مركب من أمرين : نفى وإثبات
فالنفي : خلع جميع المعبودات بغير حق في جميع أنواع العبادات . ه ما في السموات وما في الأرض) قال ابن جرير : " وإنما يعني بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه ، لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه وليس له خدمة غيره إلا بأمره " (2) اهـ
ثم قال الله تعالى بعدها ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وفيه رد على زعم المشركين بعد إقرارهم ما تقدم في أول آية الكرسوالإثبات : إفراد الله تعالى وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع ، فقوله : (إياك) يفيد الحصر : أي لا أحداً سواك ، وهذا هو النفي ، أما الإثبات ففي قوله : (نعبد ) أي وحدك ، وهذا المعنى يستفاد من آيات كثيرة في القرآن ، منها قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن ابعدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [النحل:36] وقوله : (يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) [البقرة:210] فهذا إثبات ، ثم ذكر النفي في آخر الآية التالية : ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) [البقرة:22] ومنها قوله : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) [البقرة:256] فالنفي في قوله : " فمن يكفر " والإثبات في قوله : " ويؤمن بالله " (3) .
ومن الآيات الدالة على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه قول الله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) [الزخرف:87] .
والمعنى كما قال ابن جرير : "فأي وجه يصرفون عن عبادة الذي خلقهم ويحرمون إصابة الحق في عبادته (4)!
وبالجملة فإن العبادة " لا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى " (5)
بيان سببها الذي تستحق به :
وأما سببها الذي تستحق به فهو الاتصاف بصفات المال والتنزه عن النقص فالله هو الخالق لجميع الخلق والمسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة ، وكلهم مفتقرون إليه ويرغبون نعمته وفضله فالحاجة والرغبة في نعمته وفضله يبعثان على الانقياد لله والخضوع له (6)وبه يعلم أن العبادة : " لا تستحق إلا بغاية الإنعام " (1)وقال ابن كثير " إنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ، ولهذا قال : ( فلا تجعلوا مع الله أنداداً وأنتم تعلمون ) [ البقرة : 22 ] (2)اهـ
فلما كان هو المالك المتصرف في الأمور كيف شاء ، كان له سبحانه أن يأمر بما يشاء وينهى ، وإنه سبحانه قد أمر بعبادته وحده لا شريك له ونهى عن عبادة غيره .
ويدل على صحة ما ذكرته من السبب الذي تستحق به العبادة ما يذكره الله تعالى من أدلة دالة على استحقاقه وحده العبادة دون غيره ، ومن ذلك : بيان أنه الخالق الرازق المنعم ، وبيان أن غيره عاجز ضعيف لا يملك شيئاً وبيان أن الأمر كله له شرعاً وجزاءً.
وبهذا يتضح سبب وقوع بعض الناس في الشرك بالله تعالى ، وذلك لظنهم أن غير الله تعالى يكون منعماً بشيء استقلالاً أو له تأثير في التصرف ونحو ذلك فيقع في تعظيمه والخوف منه ورهبته ورجائه ، وتلك هي عبادته .
والأدلة الدالة على استحقاق الله تعالى العبادة والسبب الذي استحق به العبادة كثيرة ، وسأكتفي بذكر دليلين فقط – الأول : في أفضل سورة في القرآن والثاني : في أعظم آية في القرآن .
فالدليل الأول وهو سورة الفاتحة : فغن قول الله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) جاء بعد آيات تضمنت الحمد لله والثناء الحسن له ، وأنه رب العالمين المنعم عليهم بأنواع النعم التي لا تحصى ، وأنه الرحمن الرحيم بعباده ، والمجازي لهم يوم الدين ، فمجئ تلك الآية بعد هذه الآيات يدل على أن ما ذكر قبله السبب في استحقاق الله جل وعلا للعبادة وحده دون سواه ، فإنه قد حمد نفسه بما له من الصفات العظيمة ، وبين أنه رب العالمين أي سيدهم وخالقهم ومربيهم ومدبر أمرهم ، فله أن يأمرهم بما يشاء ، وبين أنه الرحمن الرحيم ، فهذان اسمان يبعثان على الرغبة فيما عند الله ، ويدفعان توهم بعض المشركين من أنه لا يمكن التقرب إلى الله إلا بواسطة لكثرة الذنوب والمعاصي ، ثم بين ملكه ليوم الدين ، فيبعث هذا على عبادة الله وحده لأنه هو المجازي وحده ، وهو الذي يملك الشفاعة ولا يشفع عنده أحد إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له .
وأما الدليل الثاني وهو : آية الكرسي التي هي أعظيم آية في القرآن – فإن فيها بيان استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والسبب الذي استحق به العبادة – وبيان ذلك : أن الله تعالى بدأها بأنه هو المستحق للعبادة فقال : ( الله لا إله إلا هو ) ثم ذكر بعد ذلك من الصفات ما يدل على أنه بها قد استحق العابدة فقال : (الحي القيوم ) فالحي اسم دال على حياة الله الكاملة المقتضية كمال علمه وعزته وقدرته وغير ذلك من صفاته الذاتية ، و ( القيوم) اسم دال على قيام الله بنفسه وقيامه بخلق الموجودات وإحكامها ورزقها وتدبيرها ثم قال : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) فنفى هذه النقائص ليؤكد كمال ما ذكره من اسميه ( الحي القيوم) وهذا يقتضي الاعتماد على الله جل وعلا وحده كما قال ( وتوكل على الحق الذي لا يموت) [الفرقان : 58] وقال : (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم) [ الرعد:33] والمعنى كما قال بان جرير : " أفالرب الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق ، متضمن لها ، عالم بهم وبما يسكبونه من الأعمال ، رقيب عليهم لا يعزب عنه شيء أينما كانوا كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئاً ولا يدفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضراً ولا يجلب إليهما نفعاً كلاهما سواء ؟! " (1) اهـ والمقصود هنا ذم من أشرك بالله غيره وهو يعلم أن غيره لا يستحق العبادة ، وقد بين الله أنه هو وحده المستحق للعبادة بما ذكره من صفاته سبحانه . ثم بين الله ملكه لكل شيء في آية الكرسي فقال : ( لي من أن الله هو الخالق والمالك فزعموا : (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [ الزمر:3] فبين الله تعالى أنه لا يشفع عنده أحد لأحد إلا بعد تخليته إياه من العذاب وإذنه بالشفاعة لمن يشفع من رسله وأوليائه وأهل طاعته (3) ثم قال تعالى (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) والمقصود بيان وجوب إخلاص الدين لله تعالى الذي هو محيط بكل شيء علماً . ثم بين الله تعالى أن ما سواه لا يعلم شيئاً إلا إذا شاء تعليمه فقال ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) والمقصود بيان أن العبادة لا تنبيعي لمن كان جاهلاً (4) وهكذا سياق الآية إلى آخرها ...
وعليه فإنه يعلم مما تقدم أن لاستحقاق الله وحده للعبادة دون سواه سببين :
الأول : اتصاف الله جل وعلا بصفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص ، ومن صفاته : إنعامه وإفضاله على خلقه الباعثان على الرغبة فيما عند الله والقيام بعبادته وشكره ، والخوف منه .
الثاني : أمره الشرعي ، فالله جل وعلا له الملك وله الأمر فهو مالك لخلقه يتصرف فيهم بأمره ، وقد أمرهم بعبادته وترك عبادة غيره .




منقول من صيد الفوائد