المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرد على الشبهات



مجدي
09-18-2006, 11:52 AM
شبهات المسيحيين على الإسلام
اطَّلعنا على صحيفة كبيرة لأحد المشتغلين بقراءة الكتب التي نشرتها البعثات
النصرانية في الطعن بدين الإسلام ، يسأل فيها كاتبها كشف شبهات علقت في ذهنه
في مطالعة تلك الكتب ، ومن الواجب أن نجيب عن هذه الشبهات ؛ لأن المدافعة
عن الدين أهم ما أنشئ له المنار ؛ ولكن سنتنا التي جرينا عليها من أول يوم هي
مسالمة المخالفين لنا في الدين لا سيما المسيحيين ، بل السعي في إزالة الأحقاد ،
والاتفاق على ما فيه نجاح البلاد ، ونود أن لا يطعن أحد في دين الآخر لا قولاً ولا
كتابة ؛ ولكن المسيحيين لا يوافقوننا على هذا كما يوافقنا المسلمون ؛ ولذلك نراهم
يعقدون الجمعيات للطعن اللساني في الإسلام ، وينشرون الجرائد ( كراية صهيون )
ويؤلفون الكتب للطعن الكتابي ، وإننا نصبر على هذا التعدي ، ونكتفي بكشف
شبهات السائلين من أهل ديننا مع مراعاة الأدب فنقول :
إننا قد عجبنا لهذا المسلم المطالع كتب المسيحيين ، كيف اكتفى بمطالعتها من
غير أن يطالع الكتب الإسلامية التي تقابلها بالمثل وتدفع شبهاتها وتورد عليها ما لا
دافع له ، ككتاب ( إظهار الحق ) ، وكتاب ( السيف الصقيل ) وغيرها ؟ فأول
جواب نجيبه به أن عليه أن يطالع تلك الكتب ، وبعد مطالعتها والموازنة بينها وبين
كتب المسيحيين التي طالعها يسأل عما يشتبه عليه إن بقيت له شبهة ؛ لأن الجريدة
التي طلب أن تنشر فيها الأجوبة عن شبهاته لا يمكنها استيفاء الكلام في مواضيعها ؛
لأنها تستلزم الطعن الذي تتحاماه ، خلافًا لما جاء في آخر صحيفته ، ثم إن شبهاته
تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
( أحدها ) : مخالفة بعض نصوص الدين الإسلامي لما ورد في كتب اليهود
والنصارى .
( ثانيها ) : ورود أشياء في القرآن لم ترد في تلك الكتب ، وإن تعجب ،
فعجب اشتباه هذا المسلم في هذا النوع ؛ فإن السكوت عن الشيء لا يُعد إنكارًا له ،
فكيف يشتبه بما يعتقد أن الله أخبر به ؛ لأن أولئك المؤرخين لم يذكروه ؟ ! !
( ثالثها ) : ورود أشياء في الكتاب والسنة مخالفة للواقع ، أو لما ثبت في
العلوم الحديثة بزعم من تلقى عنهم ، وإننا نجيب عن القسمين الأول والثالث ،
وحسبنا في الجواب عن الثاني ما ذكرنا من أنه لا وجه للاشتباه به ، ونبدأ الجواب
بمسألة وجيزة في اعتقاد المسلمين بالتوراة والإنجيل فنقول :
إن السائل يحتج على كون التوراة والإنجيل من عند الله تعالى بالقرآن تبعًا
لدعاة النصرانية ، الذين ولع بسماع كلامهم وقراءة كتبهم ، ولعمري إنه لا تقوم على
ذلك حجة إلا شهادة القرآن ، فشهادة القرآن حجة على أن الله تعالى شرع على لسان
موسى عليه السلام شريعة سماها التوراة ، وهذه الشهادة شبهة على القرآن ؛ لأنها
شهادة بحقية شيء يشهد العقل والعلم والوجود ببطلانه ، بل يشهد هو ببطلان نفسه ،
أما شهادته ببطلان نفسه فبما فيه من التناقض والتعارض ، وأما شهادة العقل والعلم
والوجود فبمخالفة تلك الكتب التي تسمى عند القوم توراة لها ، وإذا أراد السائل أن
يعرف هذا تفصيلاً فليطالع ما كتب فيه من الإنسكلوبيديا الفرنسوية الكبرى وغيرها
من الكتب التي ألفها علماء أوروبا ، ومثل إظهار الحق من كتب المسلمين .
وأما الجواب عن هذه الشبهة الذي يُظهر صحة شهادة القرآن ، فهو أن التوراة
التي يشهد لها القرآن هي كتاب شريعة وأحكام ، لا كتاب تاريخ مقتبس من
ميثولوجيا الآشوريين والكلدانيين وغيرهم ، فنبالي بتكذيب علم الجيولوجيا وعلم
الآثار العادية له ، أو موافقة هذا لبعض ما ورد فيه ، ولا تاريخ طبيعي فنبالي
بتكذيب ما ثبت بالتجارب الوجودية من مخالفته كثبوت كون الحيات لا تأكل التراب ،
وإن جاء في سفر التكوين أن الرب قال للحية : ( وترابًا تأكلين كل أيام حياتك ) ،
فضلاً عما فيه من نسبة ما لا يليق بالله إليه تعالى ككونه ندم على خلق الإنسان
ونحو ذلك ، فالتوراة حق ، وهي الشرائع والأحكام التي كان يحكم بها موسى ومن
بعده من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وأحبارهم كما قال تعالى : ] إِنَّا أَنزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ [ ( المائدة : 44 ) ولم يشهد القرآن لهذه الكتب الكثيرة التاريخية التي
منها ما لم يُعلم مؤلفه وكاتبه ، وكلها كتب بعد موسى صاحب التوراة بزمن طويل ،
وبهذا الجواب تصح شهادة القرآن وتبطل أسئلة المشتبه في الخلاف التاريخي بين
القرآن وكتاب حزقيال و أشعيا و دانيال وغيرهم ؛ لأن هذه الكتب لم يشهد لها
القرآن .
ولا تغترن بتسمية القوم لجميع كتب العهد بالتوراة ، فذلك اصطلاح جرى
على سبيل التغليب ، بل إننا نرى النصارى كثيرًا ما يسمون مجموع كتب العهدين
العتيق والجديد التوراة عندما تكون مجتمعة .
وأما الإنجيل فهو في اعتقاد المسلمين ما أوحاه الله تعالى إلى السيد المسيح
عليه الصلاة والسلام من المواعظ والحكم والأحكام ، وكان يعظ به ويُعَلِّم الناس ،
وما زاد على ذلك من هذه الكتب التي يسمونها إنجيلاً فهو في نظر المسلمين من
التاريخ ، إن كان خبرًا وإن كان حكمًا أو عقيدة فهو لمن قاله ، وأنت تعلم أن
النصارى يسمون مجموع كتب العهد الجديد إنجيلاً ، ويعترفون بأنها كُتبت بعد
المسيح بأزمنة مختلفة ، وليس لها ولا لكتب العهد العتيق أسانيد يحتجون بها .
والقرآن يشهد على النصارى بأنهم لم يحفظوا جميع ما وعظهم به المسيح من
الوحي المسمى بالإنجيل حيث قال : ] وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [ ( المائدة : 14 ) والإنجيل يطلق على بعض ذلك الوحي ،
كما يُطلق لفظ القرآن أو قرآن على بعضه ، تقول : كان فلان يقرأ القرآن ، ومثل
هذا الاستعمال معروف حتى في الكتاب والسنة ، وكان القرآن يسمى قرآنًا قبل تمام
نزوله .
ولما كانت أحكام التوراة وحكم الإنجيل موجودة عند اليهود والنصارى بلا
شبهة ، كان القرآن يحتج عليهم بعدم إقامتها ولا يمنع من هذا الاحتجاج مزجهم إياها
بالتاريخ ؛ ولكن هذا المزج هو السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا
تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم ) ؛ أي : عندما يعرضون عليكم شيئًا من كتبهم ؛ وذلك لأنه
ليس عندنا فرقان نميز به بين الأحكام الأصلية الموحى بها ، وبين ما مُزج بها في
التأليف ، نعم إننا نرجح بعقولنا أن الأحكام المسندة إلى سيدنا موسى في سفر الخروج
وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية كلها أو جلها من التوراة ؛ لأنها إن لم تكن هي
فأين هي ؟ ونرجح مثل ذلك في وعظ المسيح على الجبل كما في تاريخ إنجيل مَتَّى
وغير ذلك من المواعظ كما رجح بعض العلماء في أوربا والشرق أن جزءًا كبيرًا من
الإنجيل الحقيقي دخل في كتاب أشعيا ، وأما الأخبار التي عند القوم فما خالف منها
القرآن نقطع بكذبه ولا غرو ، فالله يصدق والمؤرخون يكذبون ، وهو معنى قوله
تعالى : ] وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [
( المائدة : 48 ) وإننا نكتفي الآن بهذا القدر وموعدنا الجزء الآتي ، وإن كان للسائل
شبهة فيما كتبنا فليكتب إلينا نزيده إيضاحًا ، وكنا نحب أن يجيئنا إلى إدارة المنار ،
ويأخذ الأجوبة الشفاهية ؛ لأن حرية اللسان أكبر من حرية القلم ، ولولا أن فقهاءنا
يحكمون بكفر من يعلم أن مسلمًا شاكًّا في دينه ، وهو قادر على إزالة شكه ولم يفعل
لما كتبنا شيئًا مما كتبنا ؛ لأننا خطباء وفاق ووئام ، وطلاب مودة والتئام ، ولكن ديننا
أوجب علينا هذا لا سيما وأن السائل كتم اسمه ، وطلب أن يجاب في المنار فتعين
علينا ذلك .________________________

(( مجلة المنار ـ المجلد [‌ 4 ] الجزء [‌ 5 ] صــ ‌ 179 ‌ 16 المحرم 1319 ـ 5 مايو 1901 ))

مجدي
09-18-2006, 11:54 AM
شبهات المسيحيين على الإسلام
وشبهات التاريخ على اليهودية والنصرانية
كتبنا نبذة معنونة بهذا العنوان في الجزء الخامس ذكرنا في فاتحتها أننا طلاب
مودة والتئام ، لا عوامل نزاع وخصام ، وأننا لا نود أن يطعن أحد من المسلمين
والنصارى في دين الآخر ؛ لأن إظهار كل فريق محاسن دينه كافية في الدعوة إليه
من غير حاجة إلى الطعن ، فقد قام الإسلام بهذه الآداب ونما نموًّا وانتشر انتشارًا
سريعًا لم يُعرف له نظير في التاريخ ، وذكرنا أيضًا أن إخواننا المسلمين إذا وافقونا
على استعذاب هذا المشرب ؛ فإن المسيحيين لا يوافقوننا عليه ؛ لأنهم يؤلفون الكتب
والرسائل ، وينشرون الجرائد للطعن في ديننا ويرسلونها إلينا للرد عليها .
وقد ألَّف بعض أدبائهم وعلماء دينهم ( نقولا أفندي غبريل ) كتابًا جديدًا في
الدعوة إلى النصرانية والطعن في الإسلام يتميز على الكتب الأخرى بالنزاهة والخلو
من الألفاظ التي تدعى شتمًا ، وقد أهدانا هذا الكتاب لنتكلم عنه في المنار ، ثم لقينا
وطالبنا بأن نكتب رأينا فيه وإن كان إبطالاً لدعاويه ، ولقينا أيضًا بعض المبشرين
رفقاء المؤلف ، وألح علينا بالكتابة إلحاحًا ، وأكد القول بوجوبها تأكيدًا .
لا جرم أن المجادلة هي وظيفة هؤلاء التي يعيشون بها ، فالبائع يطلب مشتريًا ،
والمجادل يطلب مجادلاً ؛ ولكن طلب الرد على الكتاب لم يقتصر على هؤلاء حتى قام
يطلبه منا بعض أصحاب الجرائد من المسيحيين كرصيفنا الفاضل صاحب السعادة
سليم باشا الحموي طلب ذلك منا قولاً وكتابة في جريدة الفلاح الغراء ، ولا شك أننا إذا
كلنا لهؤلاء المؤلفين الصاع بالصاع بأن تجاوزنا حدود المدافعة إلى المهاجمة ، يرون
شبرنا ذراعًا وذراعنا باعًا ؛ فإنه إذا لم يثبت دين الفطرة لا يمكن أن يثبت دين ، ولولا
أن الإسلام محجوب عن الأنظار بالمسلمين لأخذ به جميع عقلاء الأوربيين .
يتبين ذلك لمن نظر في الأديان الثلاثة من كتبها المقدسة ، مع معرفة تواريخ
الذين جاءوا بتلك الكتب وسيرهم ، وقد جرت لنا في هذا الموضوع محادثة مع أحد
علماء التاريخ المسيحيين الجغرافيين الذين لا يتعصبون في الحقيقة لدين ، وكان
موضوع الكلام ( من هو أعظم رجال التاريخ ) وفرضنا أنفسنا غير معتقدين بدين ،
فذكرت محمدًا وذكر موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام متفقين على أنهم أعاظم
الرجال ، مختلفين في أعظمهم وأفضلهم بحسب حاله وأثره التاريخي .
فقلت إن موسى تربى في بيت أعظم ملك في العالم لذلك العهد على أنه ابنه ،
فنشأ في مهد المُلك والسلطان ، وأُشرب حب السيادة والحكم ، وشاهد سير المدنية
والعلوم الكونية والسحرية ، وأبصر فنون الصنائع ، وتقلب في ظل القوانين
والشرائع ، وأظهرت عزة المُلك ما اقتضاه مزاجه من الشجاعة والإقدام ، ثم لما بلغ
أشده وصار لفرعون وآله عدوًّا وحزنًا علم أن له أمة مضطهدة مهانة على ما منحته
من ذكاء الفطرة والجد في العمل وكثرة النسل ، فاتخذهم عصبية له ، وحاول
تأسيس مُلك نزعت إليه نفسه لما أعطته التربية الملوكية ، وظاهر فرعون وجالده
أولاً بالقوة التي كان يُستولى بها على النفوس ، ويُستعبد بسلطانها الشعوب ، وهي
قوة الأعمال الغريبة التي نشأ في حجرها ، ثم خرج عليه بقوة العصبية كما عهد من
كثيرين في ممالك متعددة ، وقد أعطانا التاريخ أن من الخارجين من يؤسس إمارة أو
مملكة في داخل المملكة التي يخرج على سلطانها ، وموسى قد خرج من مصر
هاربًا بقومه من فرعون ، أما عبور البحر وهي الغريبة التي لا يمكن أن تكون حيلة
ولا شعوذة ولا سحرًا ولا صناعة ، فقد بيَّن بعض المؤرخين أن بني إسرائيل عبروا
البحر في نهاية الجَزْر من مكان قليل العمق ، ولما عبر فرعون بالمصريين كانت
ثوائب المد قد أخذت بالزيادة والفيضان فغرقوا فيها ، وقد جرى مثل هذا لنابليون
بونابرت فإنه عبر بعسكره البحر الأحمر في وقت الجزر إلى الشاطئ الثاني ، ولمَّا
أراد الرجوع إلى شاطئ مصر كان المد قد ابتدأ ، ولولا أنه أمر العسكر بأن يمسك
بعضهم ببعض حتى تغلب قوة المجموع قوة المد لغرقوا أجمعين ، وما عدا هذا من
غرائب موسى ففي نقله إشكالات ، وفي فهمه شبهات ، وفي دلالته على نبوته
وكونه يتكلم عن الله تعالى نظر ، فإذا اقتنع به بعض من مضى لا يمكن أن يقتنع به
من حضر ، والشريعة التي جاء بها يشهد التاريخ بأن أكثرها موافق لشرائع
المصريين ، وما بقي منها فلا يكثر على من تربى مثل تربيته ، وأُعطي مثل ذكاء
قريحته .
وأما عيسى فهو رجل يهودي تربى على الشريعة الموسوية ، وحكم بالقوانين
الرومانية ، واطلع على الفلسفة اليونانية ، فعرف مدنية ثلاث أمم كانوا أعظم أمم
الأرض مدنية ، وأوسعها علمًا وحكمًا ولم يحمله شيء من ذلك على أن يشرع
شريعة جديدة ، ولا أن ينشئ أمة ، وإنما كان خطيبًا فصيحًا ، وعلق بذهنه شيء
من إفراط بعض فلاسفة اليونان في الزهادة وترك الدنيا بالمرة ، وإذلال النفس لأجل
نجاة الروح والدخول في ملكوت السماء ، فطفق يخطب بذلك وتبعه بعض الفقراء
الذين وجدوا لهم بكلامه تعزية وسلوى ، وطفقوا ينقلون عنه بعض الغرائب كما هو
المعهود من عامة الناس ، وأن ما ينقل عنه من ذلك لا يبلغ عشر معشار ما ينقل
عن أحد أولياء المسلمين كالجيلي و البدوي ، وأما كونه ولد من غير أب فهي دعوى
لا يمكن إثباتها إلا بثبوت دين الإسلام بالبرهان العقلي ، لا بالغرائب وليس ذلك من
موضوعنا الآن ، فالمؤرخ إذا أحسن الظن يقول : إن عيسى هو ابن يوسف النجار
زوج مريم ، وهذه الزوجية لا ينكرها النصارى . فموسى كان له أثر عظيم ؛ ولكن
عيسى لا يعرف له التاريخ أثر يذكر لا في العلم والإصلاح ، ولا في المدنية ، بل
إن تعاليمه ومواعظه تؤدي إلى فساد المدنية وخراب العمران والهبوط بالنوع
الإنساني من أُفُقه الأعلى إلى حضيض الحيوانية السفلى ، لما فيها من تربية النفوس
على الذل والمهانة ، والرضا بالخسف والهضيمة ، والأمر بترك عمران الدنيا
وترقيتها لاعتقاد أن الجمل يدخل في سم الخياط ولا يدخل الغني ملكوت السموات ،
ثم هي من جهة ثانية تعاليم إباحة ؛ لأنها تُعَلِّم أن الذي يؤمن بصلب المسيسح لأجل
خلاصه هو الذي يختص بملكوت السماء ، وتمحى جميع خطاياه ، ومن اعتقد ذلك
يستبيح كل محظور ويتبع هواه ، ومن جهة ثالثة نرى هذه التعاليم وثنية ؛ لأنها
تأمر بعبادة البشر ، وتطفئ نور العقل ؛ لأنها تكلفه بأن يعتقد بثبوت ما يجزم بأنه
محال ككون الثلاثة واحدًا ، والواحد ثلاثة ، وتذهب باستقلال الفكر والإرادة إذ
تجعلها مقيدة بسلطة الرؤساء بمقتضى قاعدة أن ما يحلونه في الأرض يكون محلولاً
في السماء ، وما يعقدونه في الأرض يكون معقودًا في السماء .
وأما زعم أن المدنية الأوربية مدنية مسيحية ، فهو زعم منقوض بالبداهة ؛
لأن هذه المدنية مادية مبنية على حب المال والسلطة والتغلب والعزة والكبرياء
والعظمة والتمتع بالشهوات ، والتعاليم المسيحية تناقض هذا كله بإفراط بعيد ، وما
وصل الأوربيون إلى ما وصلوا إليه إلا بعد ما نبذوا التعاليم المسيحية ظهريًّا ، ولو
أن هذه المدنية من أثر التعليم المسيحي لنشأت عنه بقرب نشأته ؛ ولكنها لم تظهر
إلا بعد بضع قرون من ظهوره ، والنتيجة أن التاريخ لا يعرف للمسيح أثرًا في
الكون يجعله في رتبة الشارعين والمصلحين في الأمم .
وأما محمد عليه الصلاة والسلام فقد تربى يتيمًا في أمة وثنية أمية جاهلية ،
ليس لها شرائع ولا قوانين ولا مدنية ولا وحدة قومية ولا معارف ولا صنائع ،
وكان أعظم ارتقاء بلغته في عهده أن وجد بضعة نفر تعلموا الكتابة بسبب اختلاطهم
بالأمم الأخرى ، ولم يكن هو منهم ولا السابقون إلى الإيمان به ، ومع هذا أوجد أمة
ودينًا وشريعة وملكًا ومدنية في مدة قريبة لم يعهد مثلها في التاريخ .
علَّم الناس أن يبنوا عقائدهم على قواعد البراهين العقلية ، وأن تكون آدابهم
وأخلاقهم على صراط الاعتدال ، وأن يقوموا بحقوق الروح والجسد ، وأن يراعوا
سنن الله في الخلق والأمم ، وبيَّن لهم العبادات بآثارها في تزكية الروح وتطهيرها
ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما اشتُرط فيها من الخشوع ... إلخ ،
وأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث ، وجعل المعاملات الدنيوية دائرة على درء
المصالح وجلب المنافع ، وأطلق لهم حرية العقل والفكر ، وساوى بينهم في الحقوق
لا فرق بين الملك الكبير والصعلوك الفقير ولا بين الرجل والمرأة ، وأعطى المرأة
حرية التصرف في أملاكها ، ووضع حدودًا عادلة لتحكم الرجال في النساء ، وللرق ،
ونقَّح نظام الحروب فمنع البغي والتمثيل بالقتلى وقتل من لا يقاتل كالنساء والشيوخ
والأطفال ورجال الدين ... إلخ ما ذكرته لذلك المؤرخ المحقق ، وسأفصل القول فيه
في دروس التوحيد الآتية إن شاء الله .
وقد أذعن لي ذلك الفاضل بأن محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم رجال
التاريخ ، إلا أنه احتج عليّ بسوء حال المسلمين ، وكونهم على خلاف ما ذكرت في
وصف الدين الإسلامي ، فقلت له : إن بين الإسلام والمسلمين فرقًا كالفرق بين
المسيحية والمسيحيين أو أبعد ، وحسبك أن المدنية الإسلامية ما وجدت إلا بالدين
الإسلامي - راجع مقالات مدنية العرب في مجلد المنار الثالث - وكانت تتقلص
عنهم كلما ابتدعوا في الدين ، وانحرفوا عن صراطه حتى وصلوا إلى ما هم فيه
الآن ، وأما المدنية الأوربية التي يسميها بعض الناس مسيحية فلم توجد إلا بعد ما
اتصل أهل أوربا بالمسلمين ، وأخذوا كتبهم وترجموها وهم يزدادون ارتقاء في
مدنيتهم كلما ازدادوا بعدًا عن المسيحية ، فقال : هذا مبالغة في الجانبين . وانفض
المجلس .
بقي أن ما تقدم من الشبه على نبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما الصلاة
والسلام يتناول أيضًا نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، لا لأنه يرد على
دينه مثلما يرد على المعروف من دينهما ، بل لأنه شهد لهما بالنبوة والهداية الإلهية
وقد ذكرنا الجواب عن ذلك في نبذة ( شبهات المسيحيين على الإسلام ) التي
نُشرت في الجزء الخامس من هذه السنة ، ولو أنصف رجال الدين من اليهود
والنصارى لتمسكوا بذلك الجواب واتفقوا عليه ؛ لأنه لا يدفع عنهم اعتراضات
علماء التاريخ والآثار العادية والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي والفلسفة وعلم الاجتماع
وعلم النفس إلا هو ، وأما الجواب عن آية انفلاق البحر لسيدنا موسى فهو أن ما
ذكره بعض المؤرخين من حديث المد والجزر فهو احتمال يرجح عليه أخبار الوحي
الثابت بالبرهان الحقيقي الذي بيَّناه في درس التوحيد قبل هذه المقالة ، وكذلك يقال
في سائر الآيات وما يرد عليها من الشبهات ، وسنجيب عما ذكرناه من اعتراض
التاريخ على التعاليم المنسوبة إلى المسيح .
وحاصل ما نقوله الآن : إن إثبات الدين إما أن يكون بنقل الآيات الكونية
الخارقة للعادات المعروفة للناس ، وفيه النظر الذي تقدم في درس التوحيد ، وهو
أيضًا مشترك بين الجميع ؛ لأن كل أمة تنقل عن شارعها مثل ذلك ، فما يقال في نقل
هؤلاء يقال في نقل الآخرين ، على أن نقل المسلمين أقرب إلى الصحة من نقل
غيرهم لوجوه كثيرة ، منها أن العلم والتأليف والرواية اللسانية معروفة فيهم من
القرن الأول إلى الآن ، ومنها أنه لم يغلب عليهم عدو حرَّق كتبهم وطمس معالم
الثقة بدينهم وتاريخهم ، ومنها أنهم لم يُضطهدوا ويضطروا لكتم دينهم ، فيقال إن
التلاعب حصل في إبان الكتمان ، ومنها أنهم هم الذين اخترعوا وضع التاريخ
للرجال لأجل معرفة صحة الرواية من عدمها ، ولم يكن لليهود ولا للنصارى مثل
هذه المزايا ، وإما أن يكون بالآيات النفسية والعلمية وهذا لا يظهر في نبي كظهوره
بالنسبة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم كما بيناه في درس التوحيد المنشور في هذا
الجزء ، وسنزيده بيانًا فيما سيأتي كما وعدنا ، وحينئذ يكون البرهان الصحيح في
هذا الوقت على نبوة موسى وعيسى عليهما السلام شهادة نبينا لهما ، وإن كان الله
تعالى أعطاهما في زمنيهما آيات تناسب حال الأمم فيهما ، ولا يمكن أن تثبت الآن
بنفسها ، ولذلك نرى كل من يتعلم ويعقل من المنتسبين إليهما ينبذها ظهريًّا ،
ويحسبها شيئًا فريًّا ، ولو عرف الإسلام حق المعرفة لقبله وقبلها على وجه معقول .
إذن : إن أفضل خدمة للدين المطلق أن يُعرف الإسلام حق المعرفة ؛ لتعرف
اليهودية والنصرانية أيضًا على الوجه المقبول ، وذلك بالتوفيق بين التوراة
والإنجيل والقرآن ، كما وفقنا في الجزء الخامس لا بالاستدلال بالقرآن على صدق
التوراة والإنجيل ، ثم الاستدلال بما يسمونه توراة من تلك الكتب الكثيرة التي أُلِّف
أكثرها بعد صاحب التوراة وبالكتب والرسائل الكثيرة التي يسمون مجموعها إنجيلاً
على تكذيب القرآن ؛ لأن هذا الصنيع يعود على الموضوع بالنقض فيبطل الدليل
نفسه ، وأقل ما يقال فيه ( تعارَضا تساقَطا ) وتكون النتيجة إبطال الجميع ، أي أن
القرآن هو الدليل على صحة التوراة والإنجيل ، والقرآن ليس من الله - بزعمهم -
فشهادته غير حق ، ودلالته غير صحيحة ، وسنعود إلى الكلام على كتاب ( أبحاث
المجتهدين ) وعلى جريدة بشائر السلام بما يؤلف بين الأديان ، ويدعو إلى إزالة
الأضغان .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________

(( مجلة المنار ـ المجلد [‌ 4 ] الجزء [‌ 10 ] صــ ‌ 379 ‌ غرة ربيع الثاني 1319 ـ 17 يوليو 1901 ))

مجدي
09-18-2006, 11:55 AM
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
النبذة العاشرة - كتب العهدين أيضًا
بيَّنا في النبذة التاسعة التي نُشرت في الجزء ( 17 ) ما قاله الفاضل صاحب
كتاب الأبحاث في إثبات كتب العهدين من طريق العقل ، وفنَّدنا قوله تفنيدًا ، ونذكر
ههنا أنه بعد ما ذكر حاول الاحتجاج على استحالة تغيير التوراة والإنجيل ، فكانت
حجته الداحضة على ذلك أن الديانتين اليهودية والمسيحية كانتا منتشرتين في الشرق
والغرب ( وكان الكتاب لا سيما الإنجيل مترجمًا إلى كل لغات الأقوام التي دخل
بينهم كالعربية والأرمنية والحبشية والقبطية واللاتينية من اللغتين اليونانية
والعبرانية الأصليتين ( قال ) فكيف يُعقل أن هؤلاء الألوف يجتمعون ويتفقون
على تغييره مع اختلافهم في اللغة والعقيدة ، سيما أن المسيحيين كانوا شيعًا كل
واحدة تناظر الأخرى ، ولا شك أن قول المسلمين بتغيير الكتاب هو دعوى بدون
دليل ، وإلا فليخبرونا أين الآيات المتغيرة ، وما هي وما أصلها وما الغاية من
تغييرها ، فإن عجزوا - ولا مراء أنهم عاجزون - قل لهم كيف جاز لكم هذا الادعاء
والعالم الحكيم لا يقدم على أمر إلا ولديه ما يثبت مدعاه ) اهـ .
والجواب عن هذه المغالطة سهل على الناظر في كتب العهدين التي يسمون
مجموعها التوراة والإنجيل ، وفي كتب تواريخ الكنيسة والتاريخ العام ، وأما المسلم
الذي لم يطلع على ذلك فيكفيه أن يقول : إن كل ما خالف القرآن فهو ليس من التوراة
ولا من الإنجيل ؛ لأن القرآن ثابت بالبرهان القطعي ومنقول بالتواتر حفظًا وكتابة ،
وتلك الكتب ليست كذلك ، ووحي الله لا يخالف بعضه بعضًا إلا ما كان من قبيل
الأحكام المنسوخة ، فلا بد من ترجيح القرآن عند التعارض فيما دون ذلك ؛ لأنه هو
الثابت القطعي كما اعترف بذلك كثيرون من علماء النصرانية ، فقد جاء في كتاب
( السيوف البتارة ، في مذهب خريستفورس جباره ) لمحمد أفندي حبيب الذي كان
تنصر ، ثم رجع إلى الإسلام بعد ما اختبر غيره : ( إن المستر ستوبارت رئيس
مدرسة لامارتينيبار في لكنؤ بالهند الإنكليزية صرَّح في كتابه المسمى ( الإسلام
ومؤسسه ) صحيفة 87 بما يأتي بالحرف الواحد : ( عندنا براهين قوية عديدة
للتصديق بأن القرآن الموجود الآن هو عين ألفاظ النبي محمد الأصلية كما لقَّنَ
وأملى بمراقبته وتعليمه ) وبهذا قال موير المعدود في الوقت الحاضر أمهر وأحذق
وأكبر عدو للإسلام ) إلى آخر ما استشهد به .
أما التغيير والتبديل والتحريف في كتب العهدين ، فالمسلمون لا يقولون إن
هذه الكتب كلها سماوية منقولة عن الأنبياء نقلاً صحيحًا ، وإن اليهود والنصارى
غيَّروها بعدما انتشروا في الشرق والغرب ، ونقلها كل قوم دخلوا في اليهودية أو
النصرانية إلى لغتهم ؛ وإنما البحث في أصلها وكاتبيها في أول الأمر ، ومن تلقاها
عنهم قبل ذلك الانتشار العظيم ، وهذا هو الأمر المُشْكِل ، والداء المعضل ، الذي لا
يجد أهل الكتاب له دواء ولا علاجًا ، من كتب الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى
عليه السلام . يقولون : إن موسى كتبها وأودعها ما كلَّمه به الرب ، فكانت تاريخًا له
ولشريعته الإلهية ، كيف يصح هذا الجواب وهذه الكتب تتكلم عن موسى بضمير
الغيبة ، وفي آخر فصل منها ذكر موته ودفنه ؟ يزعم بعضهم أن هذا الفصل كتبه
يشوع ، وأنى يصح هذا وفي الفصل الحكاية عن يشوع ، وأنه امتلأ روحًا وحكمة ،
فسمع له كل بني إسرائيل ، فهذه حكاية عنه من غيره ، ثم كيف يدلس يشوع ويلحق
بكتاب موسى ما ليس منه من غير أن ينسبه إلى نفسه ، ولعلهم استدلوا على ذلك
بأن يشوع قد ابتدئ بواو العطف فإن أول عبارة فيه هي : ( وكان بعد موت موسى
عبد الرب ) ... إلخ ، وهناك دليل على أن الفصل الأخير ليس ليشوع أقوى من
الحكاية عنه ومن تبرئته من التدليس ، وهو أن الفصل المذكور بعد حكاية دفن
موسى هذه الجملة ( ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم ) فهي تدل على أن الجملة
كتبت بعد موسى بزمن طويل ، ولو كانت ليشوع لم تكن كذلك ، وحسبنا أنهم من
ذلك في شك مريب فكيف يوثق بهذا الكتاب ويقال إنه متواتر وعمَّن التواتر
والأصل مشكوك فيه .
في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ما نصه : ( 24 فعندما
كمَّل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين حاملي
تابوب عهد الرب قائلاً 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد
الرب إلهكم ليكون هناك شاهدًا عليكم 27 لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة .
هوذا وأنا بعدُ حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي 28
اجمعوا إليَّ كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد
عليهم السماء والأرض 29 لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن
الطريق الذي أوصيتكم به ) ... إلخ .
فهذه هي التوراة التي كتبها موسى على حدة في كتاب مخصوص هي كلام الله
الذي صدَّقه القرآن فأين هي ، ماذا فعل بها أولئك الذين قال فيهم موسى إنهم
يفسدون بعده ويزيغون عن طريق الحق الذي هو التوراة ، وماذا أصاب التوراة من
فسادهم وزيغهم وغلظ رقابهم ؟ التوراة معناها الشريعة ، وهذه الأسفار الخمسة
كتب تاريخية يوجد فيها من أحكام تلك الشريعة مثلما يوجد في كتب السيرة النبوية
عند المسلمين من آيات القرآن وأحكامه ، وليست السيرة هي القرآن والشرع
الإسلامي ، وكما يوجد في السيرة النبوية مع التحري في روايتها ما يصح وما لا
يصح فأجدر بتاريخ موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل أن يوجد فيها ما يصح
وما لا يصح ، وهي لم يتحر فيها كاتبها بعض تحري رواة المسلمين لسيرة نبيهم ،
بل قدمنا أن كاتبي تلك التواريخ مجهولون .
اعترف صاحب كتاب ( خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة
المسيحية ) استظهارًا بأن نسخة موسى ( رُفعت من مكانها مرة ووقعت في خطر لما
غلبت عبادة الأصنام في ملك منسا و أمون وانقطعت عبادة الله الحقيقية بين
الإسرائيليين ، وفي تلك المدة طرحت بين الرثث[1] حيث وجدت في ملك يوسيا
الصالح ، ثم قال : ( والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى
الآن ، ولا نعلم ماذا كان من أمرها ، والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما خرَّب
بختنصر الهيكل ، وربما ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن الكتب
المقدسة فقدت ، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ متفرقة من الكتب
المقدسة وأصلح غلطها ؛ وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية )
فهل ينخدع المطَّلع على هذه الأقوال وأمثالها بقول صاحب كتاب ( الأبحاث )
إن الكتاب كان محفوظًا بين الألوف بلغات كثيرة ؟ هؤلاء علماء اللاهوت في
مذهبه يعترفون أن اليهود فُقدت منهم عبادة الله بعدما تغلبت عبادة الأصنام ، وأن
نسخة التوراة الوحيدة فُقدت ، ويعترفون أن اليهود يُقرُّون بأن جميع كتبهم فُقدت
لأنها كانت في الهيكل ، وقد خربه الوثنيون وقد أخذوا الكتب ، وأتلفوها ، فلم يبق
لهم مستند لأصل دينهم إلا زعم يوسيفوس بأن كل سبط من أسباط بني إسرائيل كان
عنده نسخ من التوراة ؛ ولكن أين هذه النسخ إن صح قوله - وهو رواية واحد بما
يؤيد دينه - فتلك هي النسخ التي أتلفها بختنصر ، فيبقى معنا شيء واحد وهو
ادعاء أن عزرا الكاتب كتب جميع كتب اليهود كما كانت ، بل صحح غلطها الأول
وكتبها أحسن مما كانت ، وههنا يسأل المسلمون عن الدليل على ذلك ، وعن سبب
وقوع الغلط في النسخ حتى احتاجت إلى إصلاح عزرا ، وعن نسخة التوراة التي
هي شريعة مستقلة كما كتبها موسى ، وعن السند المتصل المتواتر إلى عزرا بذلك ؟
ثم إنهم يقولون : إذا جاز أن يُصحح عزرا الكاهن خطأ الكتب المقدسة فلم لا يجوز
ذلك لمحمد رسول الله وخاتم النبيين ؟ اللهم إن الغرض مرض في القلب يحول بينه
وبين قبول الحق ، فألهم اللهم هؤلاء الناس بأن يطلبوا الحق بصدق وإخلاص
وافصل بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الفاصلين .
هل جاء في كتبهم المقدسة أن عزرا كتب التوراة وسائر الكتب المقدسة كما
كانت ؟ كلا إنه جاء في الفصل السابع من سفر عزرا أنه في ملك أرتحشستا ملك
فارس صعد عزرا ( وذكر نسبه إلى هارون ، وهو يدلي إليه بخمسة عشر أبًا ) هذا
من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل ، وأنه
جاء إلى أورشليم في الشهر الخامس من السنة السابعة لأرتحشستا الملك ، قال
10 لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها ، وليعلم إسرائيل فريضة
وقضاء 11 وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشستا إلى عزرا الكاهن
كاتب وصايا الرب وفرائضه على اسرئيل 12 من أرتحشستا ملك الملوك إلى عزرا
الكاهن كاتب شريعة إله السماء ) إلى آخره .
هذا هو دليلهم من كتابهم المقدس على أن عزرا كتب التوراة والكتب المقدسة
بالإلهام بعد فقدها ، وهو كما ترى لا يدل على ذلك ، بل قصارى ما يعطيه أنه كان
من كتبة الدين أو الشرع كما نقول أن فلانًا الصحابي كاتب الوحي ، فلو فرضنا أن
القرآن فُقد من المسلمين ، وأنه لم يحفظ في الصدور ، ثم ادَّعينا أن معاوية كتبه
بالإلهام ؛ لأنه وُصف في بعض كتب التاريخ الدينية بأنه كاتب الوحي ، فهل يقبل
منا أهل الكتاب هذا الدليل .
ثم إن الملك أرتحشستا الذي شهد لعزرا هذه الشهادة التي لا نعرف سببها أمره
مبهم في التاريخ لا ينطبق على روايات العهد العتيق المضطربة في سفر نحميا ،
وسفر عزرا فلا يعرف أهو أرتحشستا الأول الذي هو أزدشير الملقب عند الفرس
بزرادشت أم هو أرتحشستا الثاني فإن ذكر عزرا له بعد داريوس يدل على أنه
الأول ، والتاريخ ينقض هذا . ولا نطيل في بيان الاضطراب فليرجع إليه من شاء
في كتب التاريخ ، وفي دائرة المعارف ملخص منه ، وهذا الاضطراب يُبطل الثقة
بالرواية ، والمسلمون لا يقبلون خبرًا عن نبيهم رووه بالإسناد المتصل القريب ، إذا
كان فيه مثل هذا الاضطراب العجيب .
يتصل الكلام((يتبع بمقال تالٍ))
________________________
(1) الرثث : جمع رثة بالكسر ، وهي سقط المتاع والخلقان ، كالخرق البالية وغيرها مما يلقى في
أسوأ مكان ولا يلتفت إليه .

(( مجلة المنار ـ المجلد [‌ 4 ] الجزء [‌ 19 ] صــ ‌ 743 ‌ غرة رمضان 1319 ـ 12 ديسمبر 1901 ))

مجدي
09-18-2006, 11:56 AM
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
النبذة الحادية عشرة
عصمة الأنبياء والخلاص
] لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن
دُونِ اللَّهِ وَلِيًًا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [ ( النساء : 123-124 ) .
ذكرنا في نبذة سابقة أننا طلاب مودة والتئام ، وأن المناقشات في الأديان
والمذاهب قليلة الجدوى ، وربما أضرت ولم تنفع ؛ لأن أكثر الناس مقلدون ، وما
أضيع البرهان عند المقلد ! ! وقلنا : إن هؤلاء المبشرين الإنجيليين اضطرونا إلى
الرد على تمويههم بما يرسلون إلينا من الكتب والجرائد التي تطعن في عقائد
المسلمين ، ويلحون علينا بأن نرد عليها ، وقد انضم إلى إلحاحهم طلب كثيرين من
المسلمين يقولون ليس في القطر مجلة إسلامية أنشئت لخدمة الدين مع العلم إلا
المنار ، فيجب عليها رد الشبهات التي توجه إلى الإسلام ، فبهذا وذاك صار من
الواجب علينا بحكم ديننا الرد على هذه الكتب والجرائد ونأثم شرعًا بتركه .
( كلما داويت جرحًا سال جرح ) كنا نردُّ على آخر كتاب لهم جمع خلاصة
شبهاتهم ، وإذا نحن بجريدة ( بشائر السلام ) ترد إلينا من غير طلب ولا سبق مبادلة ،
ثم في هذه الأيام أرسلت إلينا جريدة ( راية صهيون ) الإنجيلية مكتوبًا عليها :
( أرجو الاطلاع على مقالة خطية الأنبياء والرد عليها ) .
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
ولكن القليل من آيات الحق يكفي لإزهاق الكثير من الباطل ، لذلك نقول :
ابتداء هذه المقالة ( إن المسلمين يقولون : إن الله أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم
وأعظمهم ستة ، وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى - أي المسيح - ومحمد ،
وكثيرون يقولون بأن كل هؤلاء الأنبياء كانوا بلا خطية ، ولذلك كانوا قادرين على
إيهاب الخلاص لتلاميذهم ؛ ولكن لو كانوا خطاة فما كانوا يتيسر لهم ذلك ، إذ لا
يمكن للخطاة أن يخلصوا الآخرين من الخطية ) هذا ما قاله بحروفه ، ثم تعقبه
بدعوى أن من عدا المسيح من هؤلاء الأنبياء كانوا عصاةً مذنبين مستدلاًّ بما جاء
في قصصهم في كتب العهد العتيق .
فأما معصية آدم فمعروفة ، وأما نوح فذكر أنه شرب الخمر ، واعترف الكاتب
بأن التوراة لم تذكر له خطيئة غير هذه ؛ ولكنه جزم بأنه لابد أن يكون خاطئًا ،
وأما إبراهيم ( فقد ورد عنه أنه كذب مرتين من باب الخوف من الناس ) وأما
موسى فذكر الكاتب من خطيئته أنه ( حينما أمره الله أن يذهب إلى فرعون قد أظهر
خوفًا عظيمًا وجبنًا زائدًا جعل الله أن يغضب عليه ، وحينما كان بنو إسرائيل في
البرية بعد خروجهم من أرض مصر قد فرط موسى مرة بشفتيه حتى أن الله لم
يسمح له نظرًا لهذا الذنب أن يدخل أرض كنعان ، بل جعله أن يموت في القفر )
واستدل على خطيئاتهم من القرآن العزيز بما ورد من الآيات في طلبهم المغفرة إلا
المسيح فإنه لم يرد عنه ذلك ، وختم المقالة بعد كلام طويل في الثناء على السيد
المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة المسلمين إلى الإيمان به - وهم المؤمنون حقًّا -
والاتكال عليه في خلاصهم - وهم لا يتوكلون إلا على الله وحده - ويعني بالإيمان
به أن يكون موافقًا لمذهب بروتستنت فإنه كتب نبذة في الصفحة الأولى من هذا
العدد بأن سائر الطوائف ( مسيحيون بالظاهر ، وأما في الحقيقة فليسوا كذلك ) وأن
الله سيلقيهم في النار التي لا تطفأ ، أما الرد على المقالة فمن وجوه :
( الأول ) أن أفضل الأنبياء عند المسلمين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، ويسمونهم أولي العزم ، وليس آدم منهم لقوله تعالى
] وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [ ( طه : 115 ) ومن العلماء من منع التفاضل بين الرسل ،
وقال : إن ذلك لا يُعرف إلا بالوحي .
( الثاني ) أن المسلمين لا يعتقدون أن الأنبياء هم الذين ينجون الناس بسبب
عصمتهم من العذاب ، ويدخلونهم بجاههم في رحمته ؛ وإنما يعتمدون على الله تعالى
وحده في ذلك ، ويعتقدون أن سبب النجاة الإيمان الصحيح والعمل الصالح ، وأن
الأنبياء ما أرسلوا إلا مبشرين ومنذرين ، فهم يُعَلِّمون الناس الإيمان الصحيح
المقبول عند الله تعالى والعمل الصالح الذي يرضيه ، فمن آمن وعمل صالحًا ترجى
له النجاة بفضل الله تعالى الذي وفقه وهداه ، ومن كفر بعد بلوغ الدعوة بشرطها فلا
يزيد الظالمين كفرهم إلا خسارًا .
( الثالث ) أن هؤلاء المعترضين لم يعرفوا معنى عصمة الأنبياء عند
المسلمين ، فتوهموا أنهم يقولون بذلك لإثبات أن الأنبياء ينجون الناس ؛ لأنهم
معصومون ، فنجيبهم بأن المسلمين قام عندهم الدليل العقلي على ذلك ، وهو أن الله
تعالى جعل الأنبياء هداة ومرشدين ليُقتدى بهم ، فلو ابتلاهم بالمعاصي التي هي
مخالفة الشريعة التي يأتون بها لما كانوا أهلاً للهداية ؛ لأن الله أودع في فطرة البشر
أن يقتدوا بالأفعال أكثر من الأقوال ، وقد أخبرونا أن الله تعالى أمر بالاقتداء بهم ،
فلو كانوا يرتكبون مخالفة أمره لكان في أمره بالاقتداء بهم تناقض وأمر بالشر وهو
محال ، وليس معنى عصمتهم أنهم مخالفون للبشر في جميع أطوارهم فلا يخافون
مما يخيف في الدنيا ، ولا يتألمون مما يؤلم ولا يتوقون الشر ( سنوضح هذا المقام في
الأمالي الدينية بعد ) .
( الرابع ) أنه لم يُنقل عن سيدنا نوح في العهد العتيق إلا شرب الخمر ،
وفي هذه الأناجيل أن المسيح شرب الخمر أيضًا ، فإن قلنا بأن من لم يُنقل عنه أنه
عصى يصلح أن يكون مخلِّصًا للناس ، فنوح يصلح لذلك كالمسيح ، بل إن من
صالحي هذه الأمة المحمدية كثيرين لم تحفظ عليهم المعصية .
( الخامس ) ما نقله عن سيدنا إبراهيم مصرح بأنه كان للضرورة وإرادة
التخلص من شر وظلم أكبر من كذبة في الظاهر لها تأويل في نفس القائل كقول
إبراهيم عن زوجته : ( هذه أختي ) يعني في الدين ، ومن القواعد المعقولة
والمشروعة أنه إذا تعارض ضرران يجب ارتكاب أخفهما ، فإذا حاول ظالم أن
يغتصب امرأتك ليسترقها أو يفجر بها وقدرت أن تنجيها منه بكلمة كاذبة - وجب
عليك ذلك ، وتكون الكذبة معصية في الصورة طاعة في الحقيقة .
( السادس ) أن ما ذكره عن سيدنا موسى من الخوف ليس فيه معصية لله
ومخالفة لشريعته ؛ وإنما هو شأن من الشؤون البشرية الجائزة وهو خوف هيبة
وإجلال للوظيفة العظيمة التي كُلِّف بها .
( السابع ) إذا لم يصح الدليل العقلي على عصمة الأنبياء ، فعدم نقل
المعصية عن المسيح لا ينافي وقوعها منه ؛ لأنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم
وجوده في نفسه .
( الثامن ) أن طلب الأنبياء المغفرة من الله تعالى لا يدل على أنهم كانوا بعد
النبوة عصاة مخالفين لدين الله تعالى ؛ ولكنهم لمعرفتهم العالية بالله تعالى ، وما
يجب له من الشكر والتعظيم يعدون ترك الأفضل إذا وقع منهم في بعض الأوقات
ذنبًا وتقصيرًا ، ألم تر أن للمقربين من الملوك والسلاطين ذنوبًا غير مخالفة القوانين
يطلبون من الملوك العفو عنها ( ولله المثل الأعلى ) وسيأتى إيضاح ذلك في الأمالي
الدينية .
( التاسع ) إذا فرضنا أن دليل المسلمين على عصمة الأنبياء غير صحيح ،
فلا حجة للمسيحيين عليهم في شيء ؛ وإنما ذلك شبهة على الدين المطلق .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________

(( مجلة المنار ـ المجلد [‌ 4 ] الجزء [‌ 21 ] صــ ‌ 816 ‌ 16 شوال 1319 ـ 26 يناير 1902 ))

مجدي
09-18-2006, 11:57 AM
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
نشرت مجلة بشائر السلام الإنجيلية في الجزء الرابع منها نبذة في الطعن
بالمسلمين عامة وبأكابر الصحابة الكرام خاصة ، وذلك أن عابتهم وعابت دينهم
بالرجاء لفضل الله والخوف من الله , وهذا مبلغ القوم من العلم بالله وبدين الله ، أثبتت
( إن كثيرين من المسلمين يموتون على بساط الرجاء بدخول الجنة والتنعم بنعيمها بناء
على ما لهم من المواعيد الكريمة في قرآنهم ) إلى أن قالت : ( وما علة ذلك سوى
جهلهم حقيقة أنفسهم وكمالات الباري تعالى ) ثم قالت مستدركة : إن أولي العلم
والذكاء من المسلمين غالوا في النسك والتعبد والصلاة والابتهال إلى الله تعالى
وجعلتْ علة هذه العبادة أنهم لم يجدوا ما يريح نفوسهم من الشعور بثقل حمل
خطاياهم .
واستشهدت على المعلول دون العلة بكلام في الخوف من الله عن أبي بكر
الصديق وعلي بن أبي طالب وسفيان الثوري ، وعُدَّ سفيان من الصحابة وما هو
من الصحابة ، ولكن العلم ليس شرطًا للقول عند هؤلاء المشاغبين ، وفي العبارة أيضًا
تحريف ، وليست الأمانة من شروط النقل عند هؤلاء المبشرين .
وما لنا وللبحث في الروايات التي نقلتها وبيان التحريف , وضعف الضعيف ؟
نضرب عن ذلك صفحًا ، وعن العبارات التي أساء بها الكاتب الأدب مع هؤلاء
الأئمة الذين يفتخر بهم النوع الإنساني , ولو صدق المسلمون هذه الكتب التي تسمى
التوراة ، وسمح لهم دينهم بتفضيل أحد على الأنبياء لكان لهم من التاريخ ما يفضلون
به هؤلاء الأئمة على أنبياء التوراة ؛ إذ لم ينقل عن واحد منهم مثلما نقل القوم عن
أنبيائهم من القسوة والظلم والسكر والزنا وسفك الدماء برأهم الله مما قالوا .
نغضّ الطرف عن هذا ونبين للقراء أن الغرض من ذم الخوف والرجاء اللذين
هما الركنان لكل دين صحيح هو تقرير قاعدة إباحة المعاصي والشرور التي هي
العنوان لبشارتهم والجاذبة إلي ديانتهم , وهي أن النجاة في الآخرة من العذاب
والحياة الأبدية في الملكوت إنما يحصلان باعتقاد أن الإله لم يجد وسيلة لنجاة البشر
من ذنب أبيهم آدم إلا بحلوله في جسم إنسان ، وتسليط طائفة كانت أفضل الشعوب
عليه ، وصلبها إياه وصيرورته ملعونًا بحكم الناموس والشريعة ! ! فمن أطفأ سراج
عقله وأفسد فطرة نفسه وسلم بهذه القاعدة فهو الناجي الذي يرث الملكوت الأعلى ، وإن
قَتَلَ وَزَنى وسكر وأكل أموال الناس بالباطل وظلم العباد وكان آفة العمران . ولذلك
صرح الكاتب الذي لا أقدر أن أصفه إلا بكونه مبشرًا داعيًا إلى هذه العقيدة بأن
سبب خوف أبي بكر وعلي وسفيان من الله هو جهلهم بقاعدة الفداء , يعني أنهم لو
عرفوا وصدقوا بها لكانوا عاشوا آمنين من مكر الله وعذابه ، يسرحون ويمرحون في
أهوائهم وحظوظهم .
والحاصل أن المسلم الذي يغلب عليه الرجاء بفضل الله ووعده للمحسنين بالنعيم
جاهل ضال , والذي يخاف الله هيبة وتعظيمًا أو لاتهام نفسه بالتقصير في
الأعمال الصالحة النافعة للناس وفي المعارف والكمالات المزكية للنفس , فهو
جاهل ضال . وأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله من غير تفرقة بينهم وتهذيب
الأخلاق وإصلاح الأعمال - كل ذلك لا ينفع المسلم الصادق ولا يغني عنه شيئًا ،
فما حيلة المسلم المسكين إذا ابتلاه الله تعالى بسلامة الفطرة ونور العقل فلم يقبل تلك
القاعدة التي تفصَّى منها الذين تربوا عليها تقليدًا لما عقلوا وميزوا ، على أن كتب القوم
لا تخلو من نصوص تدل على أن رسلهم ومقدسيهم كانوا يخافون من الله تعالى
ويرجون رحمته ؛ لأنهم لم يكونوا إباحيين بل كانوا قومًا صالحين .
إن القرآن الحكيم علمنا بأن دين الله تعالى واحد في جوهره , وأن جميع
الأنبياء وصالحي المؤمنين بهم كانوا عليه ، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن صفات
الحوادث وإفراده بالعبادة والخوف الزاجر عن المعاصي والشرور والرجاء الباعث
على الخير والصلاح ، وإننا نرى جميع عقلاء المسيحيين يوافقوننا على هذه القاعدة
ويودون أن يهتدي إليها دعاة كل دين ورؤساؤه ليكون الدين كما شرع الله سعادة
للبشر , لا وبالاً وشقاءً عليهم , ومثارًا للخلاف والشحناء والبغضاء بينهم .
وقد ذكر الإمام الغزالي أنواعًا للخوف كخوف الموت قبل التوبة ، وخوف نقض
التوبة ونكس العهد وخوف ضعف القوة عن الوفاء بالحقوق ، وخوف زوال رقة القلب
وتبدلها بالقساوة وخوف الميل عن الاستقامة ، وخوف استيلاء العادة في اتباع
الشهوات المألوفة ، وخوف الغرور بالحسنات وخوف البطر بكثرة النعم وخوف
انكشاف غوائل الطاعات بأن يبدو للمرء ما لم يكن يحسب وخوف ما عساه يطرأ
عليه في مستقبله ، وخوف نزول البلاء ، وخوف الاغترار بزخرف الدنيا وخوف
اطلاع الله على السريرة في حال الغفلة وخوف سوء الخاتمة . ويمكن استنباط أنواع
أخرى ، وأعلى الخوف خوف المهابة والإجلال لله عز وجل ، وكل ذلك من الذنوب
عند هؤلاء المبشرين .
((يتبع بمقال تالٍ))
________________________

(( مجلة المنار ـ المجلد [‌ 5 ] الجزء [‌ 3 ] صــ ‌ 98 ‌ غرة صفر 1320 ـ 9 مايو 1902 ))

مجدي
09-18-2006, 11:59 AM
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
] ... يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ
وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ ... [ ( النساء : 46 ) .
قد علم قرّاء المنار أننا لم نفتح هذا الباب للطعن في دين النصارى أو غيره
ابتداءً ، وإنما فتحناه لرد شبهاتهم التي ربما تشكك الجاهل بالإسلام في الدين مطلقًا
فتفسد أخلاقه ويكون مصيبة على نفسه وعلى الناس ، ولا غرض لطعن الطاعنين
بالإسلام إلا هذا التشكيك الذي يحل الرابطة الإسلامية ويضعف المسلمين ؛ لأنه
يخرجهم عن كونهم أمة فيكونون أفرادًا مقطعين ، لا جنسية لهم ولا دين ، ولو أنهم
كانوا يطمعون في تنصيرهم لكان لهم عندنا بعض العذر ، ولكن التجربة أفادت
التاريخ أن الملايين من النصارى صاروا مسلمين ولا يوجد بإزاء كل مليون من
هؤلاء واحد من المسلمين تنصّر إلا ما كان من أفراد ليس لهم من الإسلام إلا وراثة
الاسم من آبائهم الأولين .
قيل للسيد جمال الدين الأفغاني الحكيم الشهير - رحمه الله تعالى - : ما سبب
الدعوة إلي مذهب الدهريين في الهند وعدم الاقتصار على الدعوة إلى النصرانية ؟
فقال : إن المسلم يستحيل أن يكون نصرانيًّا ؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة فهو
يأمر بالاعتقاد بنبوة عيسى وحقيّة دعوته ويرفض الخرافات والبدع التي زادتها
الجمعيات النصرانية في دينه ، فلما جرب الذين يبتغون حل الرابطة الإسلامية
بالدعوة إلى النصرانية فلم تنجح ، عمدوا إلى تشكيكهم في أصل الدين المطلق
بالدعوة إلى الدهرية .
وكذلك رأى مثل صاحب الجامعة أن تشكيك المبشرين بالنصرانية لم ينجح في
المسلمين من الطريق الديني فانبرى لتشكيكهم من الطريق العلمي وبذل جهده
لإقناعهم ( 1 ) بأن دينهم كغيره عدوّ للعقل والعلم و ( 2 ) أن أئمتهم في العقائد
( المتكلمين ) ينكرون الأسباب و ( 3 ) أن جمع السلطة الدينية والسلطة السياسية
المدنية في خليفة الإسلام ضارّ بالمسلمين وسبب لتأخرهم ، ومن رأي صاحب
الجامعة أن المسلمين إذا أرادوا الرقيّ والنجاح فلا بد لهم من سماع نصيحته وهي :
( 1 ) أن يضعوا دينهم في جانب من العقل والعلم ؛ لأنهما قاضيتان بهدمه كقضائهما
بهدم النصرانية ، فإذا حاولوا الجمع بين الدين والعلم كما ينصح لهم بعض أئمتهم
بما ينشر في المنار وغيره فإنما يحاولون محالاً بل إنما يهدمون دينهم فيخرجون بلا
علم ولا دين ، و ( 2 ) أن يعتقدوا أن سُنّة الله تعالى في الأسباب والمسببات مطردة
في الواقع خلافًا لما يحكم به الدين وعلماء الكلام ، فإذا صدقوا بالواقع فعليهم أن
يكذبوا أئمتهم والعكس بالعكس ، و ( 3 ) أن يجعلوا خليفتهم حاكمًا مدنيًّا يخترع
الشرائع والأحكام ويتركوا ما شرعه الله لما شرعه السلطان ويجعلوا الدين خالصًا
بالعبادة لله تعالى ، أي إنه يجب على المسلمين في رأي صاحب الجامعة أن يتركوا
نصف دينهم وهو أحكام المعاملات الدنيوية ويجعلوا النصف الثاني لمن يريد أن
يترك العقل والعلم والأسباب لأجل العبادة ، هذا ملخص نصح صاحب مجلة الجامعة
للمسلمين ولأجل أن يجعله مقبولاً أورد لهم كلمات عن بعض أئمتهم حرّفها عن
معناها ليخدع البسطاء بها ، وإننا نشرح هذه المسائل ونبين الحق فيها ليكون حجة
على هؤلاء المعتدين الذين ] يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ
كَرِهَ الكَافِرُونَ [ ( الصف : 8 ) .
***
الأسباب أو سنن الله تعالى في الخلق
وإثبات الإمام الغزالي لها
ذكر صاحب الجامعة في كتاب لَفَّقَهُ أننا أوردنا قوله تعالى : ] وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً [ ( الأحزاب : 62 ) لإثبات أن النواميس الطبيعية لا تتغير ولا تتبدل
ثم قال : ( مع أنه لو قام حجة الإسلام الإمام الغزالي من قبره وسمع هذا القول
لكسر قلم صاحب تلك المجلة وضحك من بساطته وعدم اطلاعه على الشئون التي
يبحث فيها ؛ لأنه استشهد بتلك الآية للغرض الذي ذكره مع أنها لم ترد في القرآن
لهذا الأمر بوجه الإطلاق ) .
يقول هذا صاحب الجامعة تمهيدًا لخلابة المسلمين بأن ما يتحكم هو فيه من
الحكم بتفسير كتاب الله برأيه الأفين مقتبس من الإمام الغزالي الذي حرف قوله عن
موضوعه ولم يفهم مراده منه .
إذا كان الغزالي يضحك من ( بساطة ) من أخذ معظم علمه في الدين من كتابه
إحياء العلوم اعتقادًا وعملاً ودرسه من أول نشأته المرة بعد المرة كما درس كل ما
اطلع عليه من كتبه بإمعان وإخلاص - فهل يضحك أو يبكي من ( تركيب ) جاحد
معاند يلتمس من كلامه كلمة يحرفها عن موضعها ليغش المسلمين بشيء يخالف
دينهم محتجًّا بكلام إمام من أئمتهم ولا موضع للاحتجاج ؟ نترك مثل هذا ونسرد
مذهب الغزالي في الأسباب وسنن الله تعالى ونبين الحق في المسألة التي اشتبه
فهمهما على كثير من الناس حتى صار التشكيك فيها متيسرًا لمثل صاحب الجامعة
مع عوام المسلمين الذين لا يزال فيهم من يقرأ ما يكتبه ذهابًا مع سماحة الإسلام .
مذهب الغزالي : قال حُجة الإسلام في الفصل الثالث من كتاب التوكل ما
نصه: ( الأسباب التي يجلب بها النافع على ثلاث درجات : مقطوع به ومظنون ظنًّا
يوثق به وموهوم وهمًا لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه ، ( الدرجة الأولي)
المقطوع به ، وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته
ارتباطًا مطردًا لا يختلف كما أنّ الطعام إذا كان موضوعًا بين يديك وأنت جائع
محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي ،
ومدُّ اليد إليه سعي وحركة ، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك
على أسافله ؛ فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء ، فإنك إذا انتظرت أن
يخلق الله فيك شبعًا دون الخبز أو يخلق في الخبز حركة إليك أو يسخر ملكًا
ليمضغه لك ويوصله إلي معدتك فقد جهلت سنة الله تعالى ، وكذلك لو لم تزرع
الأرض وطمعت في أن يخلق الله نباتًا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع
كما ولدت مريم عليها السلام فكل هذا جنون ، وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن
إحصاؤه ) ا هـ بحروفه .
وبعد أن قرر أن هذه الدرجة لا يأتي فيها التوكل بترك العمل تكلم عن الدرجة
الثانية وهي ما كان السبب فيها مظنونًا وبين أن التوكل لا يأتي فيها أيضًا قال ما
نصه: ( فإذا التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى
والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل دون الأسباب لا
يناقض التوكل ) .
هذا التفصيل في جانب المنافع وقد أورد مثله في منعها وفي دفع المضرات
التي أسبابها قطعية أو ظنية وبين أن التوكل إنما يكون في ترك الأشياء الوهمية
كالرقية والطيرة والكيّ التي ورد بها الحديث ، ومما صرح فيه بذكر السنة الإلهية
هنا قوله : ( وكذلك في الأسباب الدافعة عن المال فلا ينقضي التوكل بإغلاق باب
البيت عند الخروج ولا بأن يعقل البعير ؛ لأن هذه أسباب عرفت بسنة الله تعالى إما
قطعًا وإما ظنًا ، ثم أورد الشواهد من الكتاب والسنة وهي مشهورة .
وقال في الكلام على التداوي ، وهو من منع المضار ( هذه الكلمة الجليلة
ليس من التوكل الخروج عن سنة الله أصلاً ) وقال أيضًا في تداوي النبي صلى الله
عليه وسلم ( وإنما لم يترك الدواء جريًا على سنة الله تعالى وترخيصًا لأمته فيما
تمس إليه حاجاتهم ) .
وأظهر من هذا قوله بعد شرح طويل للأسباب : ( فبهذا تبين أن مسبب
الأسباب أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهارًا للحكمة والأدوية أسباب
مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب ، فكما أن الخبز دواء الجوع ، والماء دواء
العطش فالسكنجبين دواء الصفراء والسقمونيا دواء الإسهال لا يفارقه إلا في أحد
أمرين أحدهما أن معالجة الجوع والعطش بالماء والخبز جليٌّ واضح يدركه كافة
الناس ومعالجة الصفراء بالسكنجبين يدركه بعض الخواص ، فمن أدراك ذلك
بالتجربة التحق في حقه بالأول ، والثاني أن الدواء يسهل والسكنجبين يسكن
بشروط آخر في الباطن وأسباب من المزاج ربما يتعذر الوقوف على جميع شروطها
وربما يفوت بعض الشروط فيتقاعد الدواء عن الإسهال ، وأما زوال العطش فلا
يستدعي سوى الماء شروطًا كثيرة ، وقد يتفق في العوارض ما يوجب دوام العطش
مع كثرة شرب الماء لكنه نادر ، وإختلال الأسباب أبدًا ينحصر في هذين الشيئين
وإلا فالمسبب يتلو السبب لا محالة مهما تمت شروط السبب ) ا هـ بحروفه .
فأي نص في التلازم بين الأسباب والمسببات أقوى من هذه الجملة الأخيرة ؟
فهذا هو الإمام الغزالي الذي يوهم المسلمين صاحب الجامعة بأنه ينكر الأسباب
وينكر أن معنى سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول الأسباب وارتباطها بالمسببات ،
فهل بعد هذا يوثق بقول صاحب الجامعة أو بحسن قصده ؟ وهل يجوز لغير العالم
الراسخ أن ينظر في قول هذا المشكك الذي يريد أن يفسد على عوامّ المسلمين
عقائدهم ؟ ؟
***
التوفيق بين هذا وبين ما قاله
في تهافت الفلاسفة
مسألة الأسباب التي شرحها الإمام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل هي ما
يعتقده المسلمون ، وإنما كتبها للمسلمين لأنه بين في هذا الكتاب مقام التوكل الذي
هو أعلى مقامات الإيمان ، وله كلام آخر في هذه المسألة مع الفلاسفة لا مع
المسلمين، وكلامه هناك يجب أن يكون بلسان يخالف هذا اللسان ولكن لا يناقضه
ذلك أنه هنا يشرح الواقع الذي يدل عليه الوجود وينطق بموافقته الشرع وهناك
يتكلم على العلل والتأثيرات الحقيقة في الإيجاد والإعدام وما قاله في الموضعين هو
الحق الذي لا محيد عنه كما نبينه .
ولا بد قبل الخوض في القسم الثاني من كلمة تمهيدية في الموضوع وهي أن
المغرورين بالظواهر من الفلاسفة المتقدمين كانوا ينزلون الأسباب العادية الظاهرة
منزلة العلل العقلية القاطعة وينسبون إليها التأثير ويزعمون أنها مطردة اطرادًا
ضروريًّا يستحيل انفكاكه ، ولو نهضت لهم الحجة البالغة على ذلك لما خالفهم
المسلمون ؛ لأن القاعدة المتفق عليها عند المتكلمين هي أن قدرة الله تعالى وإردته لا
تتعلقان بالمستحيل وإنما تتعلقان بالممكن فقط ، ولكن لا حجة لهم على ذلك وإنما
هي شبهات كشف الحجاب عنها الغزالي وغيره ، وتلك الأسباب التي مر القول في
اطرادها ممكنة فهي مطردة بفعل الله تعالى .
ولو سلَّم الناس بقول أولئك الفلاسفة لوقفت حركة العلم عند تلك الظواهر
التي كانوا يرون تغييرها محالاً عقليًّا وإنما المحال العقلي شيء واحد وهو اجتماع
النقيضين أو الضدين المساويين للنقيضين أو ارتفاعهما ، ولو أن هذه الغرائب التي
كشفها العلم في عصرنا ذكرت لأولئك الفلاسفة القاصرين لجزموا باستحالتها
وأوردوا على ذلك من الشبهات النظرية مثلما أوردوه على القول ببعث الأجساد ،
وأمثلة بعث الأجساد ظاهرة اليوم لعلماء الكيمياء ظهورًا تامًّا ، قال الإمام الغزالي
في كتاب تهافت الفلاسفة ما نصه : ( هذا ما أردنا أن نذكره في العلم الملقب عندهم
بالإلهيّ ، أما الملقب بالطبيعيات فهي علوم كثيرة نذكر أنواعها لتعرف أن الشرع
ليس يقتضي المنازعة فيها ولا إنكارها إلا في مواضع ) وأنبه القارئ إلى عطفه
الإنكار على المنازعة لتغايرهما ، فالإنكار هو القول ببطلان الشيء مرة واحدة
والمنازعة هي المباحثة في دليله ليظهر الصواب مأخوذة من منازعة الثوب بين
اثنين ، ثم قال الإمام بعد سرد أنواع العلوم الطبيعية المعروفة إلى ذلك العهد :
وإنما نخالفهم من جملة هذه العلوم في أربع مسائل :
( الأولى ) حكمهم بأن هذا الاقتران المشاهد في الوجود بين الأسباب
والمسببات اقتران تلازم بالضرورة فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب
دون المسبب ولا وجود المسبب دون السبب وأثر هذا الخلاف يظهر في جميع
الطبيعيات ، إلى أن قال ما نصه : وإنما يلزم النزاع في الأولى من حيث إنه ينتفي
عليها إثبات المعجزات الخارقة للعادة من قلب العصا ثعبانًا وإحياء الموتى وشق
القمر ، ومن جعل مجاري العادات لازمة لزومًا ضروريًّا أحال جميع ذلك ، وأولوا
ما في القرآن من إحياء الموتى وقالوا : أراد به إزالة موت الجهل بحياة العلم وأولوا
تلقف العصا لسحر السحرة بإبطال الحجة الإلهية الظاهرة على يد موسى شبهات
المنكرين ، وأما شق القمر فربما أنكروا وجوده00 وزعموا أنه لم يتواتر ) ا هـ
بنصه .
ولينظر طلاب الحقيقة إلي تحريف صاحب الجامعة النصرانية قول الإمام
كيف كان ، الإمام قال ( وإنما يلزم النزاع في الأولى من حيث إنه ينتفى عليها
إثبات المعجزات ) ومعناه أن محل النزاع في المسألة الأولى هو انتفاء إثبات
المعجزات بجعلها من المحالات العقلية التي لا يمكن وجودها ولا تتعلق قدرة الله
بها، وصاحب الجامعة يقول على لسان هذا الإمام ما نصه : ثم قال : وإنما يجب
علينا إنكار هذا القول ؛ لأنه ينتفي به إثبات المعجزات ) فجعل ( الإنكار ) محل
( النزاع ) وزاد عليه جعله واجبًا وقد بيَّنا الفرق بين الإنكار والنزاع آنفًا ، فإذا كان
نقل صاحب الجامعة عن رينان وعن غيره على هذا النحو من الفهم والأمانة فإننا
نهنئ من يقرأ ما يكتبه بأن علمه عين الجهالة ، وهدايته نفس الضلالة ، ثم قال
الإمام الغزالي في بيان الحق في المسألة من طريق العلم المؤيد لما يعتقده المسلمون
ما نصه( الاقتران بين ما يعتقده في العادة سببًا وما يعتقد مسببًا ليس ضروريًّا عندنا
بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر
ولا نفيه متضمن لنفي الآخر فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر ولا من
ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر مثل الري والشرب ، والشبع والأكل ، والاحتراق
ولقاء النار ، والنور وطلوع الشمس ، والموت وجز الرقبة ، والشفاء وشرب الدواء ،
وإسهال البطن واستعمال المسهل ، وهلمّ جرًّا إلي كل المشاهدات من المقترنات
في الطب والنجوم والصناعات والحرف ، وأن اقترانها لما سبق من تقدير الله
سبحانه لخلقها على التساوي لا لكونه ضروريًّا في نفسه غير قابل للفرق بل في
المقدور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرقبة وإدامة الحياة مع جز
الرقبة وهلمّ جرًّا إلي جميع المقترنات وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته ، ثم
ضرب لذلك مثالاً واضحًا حاجة لذكره .
وما ذكره الإمام الغزالي هنا هو ما عليه فلاسفة هذا العصر فإنهم لايقولون بأن
شيئًا من هذه الأشياء عندهم ممكن ، انفكاك التلازم وقع كثيرًا ويسمون ما لا يعرفون
له منه علة ( فلتات الطبيعة ) وبعض الانفكاك كان بما اكتشفه العلم من أسرار الكون
ويتوقعون بهذه الاكتشافات ما لم يقع كإحياء الموتى ولو كان في نظرهم محالاً لما
توقعوه ، ولكن صاحب الجامعة لا يميز بين الضروري والممكن فيخلط المسائل
بعضها ببعض ، وقد صرح الغزالي فيما تقدم آنفًا بأن المتلازمَيْن في العقل تلازمًا
يثبت به أحدهما بثبوت الآخر وينتفي بانتفائه هما اللذان يستحيل انفكاك تلازمهما لأن
قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيل .
***
الوفاق بين قولي الغزالي ومذهب باكون
تقدم أن الغزالي قال في كتاب التوكل أن سنة الله في نظام الكون هي أن
الأسباب مرتبطة فيه بالمسببات ارتباطا كليًّا لا يختل إلا إذا لم تستوف الشروط التي
يتحقق بها السبب حتى قال إن السبب يتلو المسبب عند عدم المانع ( لا محالة )
وفسر مثل قوله تعالى ] وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [ ( الفتح : 23 ) بهذا النظام في
الارتباط بين الأسباب والمسببات وهو التفسير المتعين ، وقال في كتاب تهافت
الفلاسفة : إن هذا الارتباط بين الأسباب والمسببات العادية على اطراده ليس
بضروري في نظر العقل وعدمه ليس محالاً وإنما هو ثابت في الواقع ونفس الأمر
بحكمة خالق الكون ومدبره وإذا كان الله قد أحكم بحكمته الروابط بين حوادث الكون
فينبغي للناس أنْ يبحثوا عنها ويهتدوا بها في مصالحهم ومنافعهم ولا يتوقف هذا
الاهتداء على كون كل ما يظهر في العادة سببًا لشيء أن يكون انفكاكه عنه محالاً
عقليًّا .
ويعلم الناظر في فلسفة القدماء أنهم كانوا يعتمدون على الأدلة النظرية في
الحكم باستحالة الشيء أو وجوبه عقلاً فالغزالي وغيره من أئمة علم الكلام بينوا أن
المستحيل العقلي هو ما كان بمعنى اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما أو اجتماع
الضدين بمعنى النقيضين . وقالوا : إن المستحيل والواجب الضروري في نظر العقل
لا تتعلق بهما قدرة الله تعالى وإنما تتعلق قدرة الله تعالى بالممكن فقط ، فكانت فائدة
قول المتكلمين في أمرين عظيمين هما أساس لترقي البشر ( أحدهما ) أن ما ثبت
أنه ضروريّ ( واجب ) أو مستحيل لا يطمع فيه الطامع لا من جهة الكسب ولا من
جهة الالتجاء إلى الله تعالى لأنه لا يتغير .
( ثانيهما ) أن للممكنات سننًا منتظمة ينبغي للإنسان أن يعرفها وينتفع بها ،
ولكن لا ينبغي أن يوقف حركة استعداده ، عند ما يظهر له بادي الرأي أنه لا يتغير بل
عليه أن يبحث لعله يقف على سنة إلهية أخرى تكون السنة التي ظهر له اطرادها
مشروطة بها فيجمع بين الانتفاع بالسنتين معًا ، مثال ذلك أن السنة الإلهية الظاهرة في
النار أنها تحرق ما يقبل الاحتراق ، فلا ينبغي للإنسان أن يجزم بأنه لا يمكن أن ينتفي
هذا الاحتراق ؛ لأنه ضروري بل عليه أن يبحث لأن الاحتراق ممكن وربما يكون
حصوله مشروطًا بانتفاء وجود مادة من المواد لو عرفت يمتنع الاحتراق بها ، وقد
اكْتُشِفَ الآن ما يمنع الاحتراق في الجملة وانتفع به في وقاية المكاتب العمومية .
فبهذا التقرير أتى حجة الإسلام على تلك الفلسفة النظرية من القواعد ( وإن
أساء ابن رشد في فَهْمِ بعض قوله وكابره في بعضه ) وأظهر حكم الدين الإسلامي
في إطلاق العقل الإنساني من تلك القيود النظرية ليسبح في فلك الله مهتديًا بسنن الله
فيه وقد جرى ( باكون ) على هذا الأثر فقرر أن الأدلة النظرية لا يعتمد عيها في
إثبات المسائل العلمية ما لم تؤيد بالتجربة والاختبار ، قال باكون هذه الكلمة التي
يعدونها أساس النهضة العلمية الجديدة في أوربا وقد كانت معروفة عند المسلمين من
قبله ( كما تقدَّم في مقالات الإسلام والنصرانية ) وما كانت عنده أكثر جلاءً
ووضوحًا لأنه كان يعتقد بخلافها كالتنجيم والكيمياء القديمة وحجر الفلاسفة وهي
أمور وهمية لا ترتقي إلى أن تكون نظرية مظنونة ، ولكن أوربا كانت مستعدة
بارتقاء العلم فيها إلى الأخذ بما قال من وجوب الاعتماد على التجربة والاختبار
فعملوا بذلك وارتقى العلم به وعُدَّ باكون إمام هذه الطريقة التي قررها المسلمون
وعملوا بها من قبله .
والنتيجة أن صاحب الجامعة أخطأ في زعمه أن الإمام الغزالي أنكر الأسباب،
وفي زعمه أن مذهبه في السنن الإلهية غير ما قلناه في ( المنار ) وندعو إليه
دائمًا ، وفي زعمه أن بينه وبين قاعدة باكون سورًا عاليًا ، وفي زعمه أيضًا أن
التلازم بين الأسباب والمسببات أو النواميس إذا لم يكن ضروريًّا ( أي واجبًا عقليًّا
يستحيل عدمه ) تصير النواميس فوضى فإن خالق الكون وواضع نواميسه إذا كان
حكيمًا لا يفعل شيئًا إلا بنظام كما دلَّ على ذلك كتابه العزيز ودل عليه الوجود
فكيف يكون الأمر فوضى ، ومن قال : إنَّ النظام في الكون مشروط بكونِ الله تعالى
غير قادر وغير حكيم ؟ ما قال بهذا إلا صاحب الجامعة النصرانية يثبت أن مذهب
المتكلمين المسلمين باطل في نفسه ومؤدٍّ إلى إنكار حكمة الله تعالى وقدرته ، ولم نر
من المنكرين على الدِّينِ أشد تهافتًا في طعنه بالإسلام وأئمته الأعلام مثل هذا الكاتب
الجديد الذي حاول الشهرة والنجاح من غير طريقهما كما فعل ذلك المعتوه الذي
تخلّى في مذبح تلك الكنيسة العظيمة ليشهر اسمه ، فبئست الشهرة بمكابرة الحق
وتحريف كلام الأئمة لأجلِ دريهمات تجيء من عدو للإسلام يحب أن يتشفى من
أهله ولو بزور الكلام ، وهو أعلى من أن تعرج إليه الأوهام .
________________________

(( مجلة المنار ـ المجلد [‌ 5 ] الجزء [‌ 19 ] صــ ‌ 759 ‌ 16 شوال 1320 ـ 15 يناير 1903 ))