د. أحمد إدريس الطعان
10-04-2006, 12:32 AM
في حوار مع الباحث السوري أحمد الطعّان
القرآن مقدّس ولا مكان للقراءات التحريفية بدعوى التأويل
الحلقة الأولى
الوقت - نادر المتروك:
يُعرف عن الباحث السوري أحمد إدريس الطعان صرامته في الدفاع عن القرآن الكريم في وجه ما يُطلق عليه ‘’الخطاب العلماني’’. في هذه الحلقة من الحوار معه يفتح الطعّان أسئلة بقدر ما يُجيب على الأسئلة، فـ ‘’هل القرآن الكريم نزل للبشر ليكون عقيدة وتشريعاً يمكن تطبيقه في الحياة أم أنه نزل لمجرد الترف الفكري والتأمل العقلي والأدبي المجرد؟’’، وهل من حقنا ‘’تجاهل الإحالات التي يؤكدها القرآن الكريم دائماً لفهمه وتنزيله؟’’ مثل اللغة العربية والسنة النبوية؟ يذهب الطعان في الخلاصة إلى أن ‘’المناهج الحديثة بمقدار ما تكون مفيدة ونافعة في حفز الفكر على التأمل والتجديد، تكون وبالاً إذا نُقلت من وظيفتها الإبداعية هذه لتكون أداة تقويلية أو تحريفية في النصوص الدينية’’. وفيما يلي نصّ الحوار معه:
* كيف تقيّم وضعية الخطاب العلماني في قراءاته للنص الديني المسلّحة بالمعرفة المعاصرة؟
- لكلّ نصّ بشري خصوصياته التي يُفترض أن يراعيها قارئ النص، فهناك شروط اجتماعية وثقافية وسياقية لابد أن تكون حاضرة أثناء أية قراءة لأي نص ينطق به البشر. ومن هنا لابد لمن يقرأ شكسبير وابن الفارض ودانتي وابن خلدون أن يضع في اعتباره شروط الفهم التاريخية التي أسهمت في تشكيل نصوصهم. وأي قارئ عربي يقوم بقراءة نقدية لشكسبير من خلال موروثه الثقافي العربي ويسعى لإسقاط هذا الموروث على نصوص شكسبير فإنه سيتعرض لسخرية وتهكّم الباحثين الغربيين والشرقيين على السواء. هذا فيما يتعلق بنصوص البشر.
* ولكن العلمانيين يقولون إن النصوص الإلهية تتأنسن عندما يخاطب بها الله البشر؟
- هنا توجد مغالطة شديدة، لأن فهم النصوص الإلهية بالفعل يخضع لمواضعات البشر ولكن ليس بالضرورة أن تخضع هذه النصوص لما تخضع له نصوص البشر من قابلية الخطأ والكذب وغير ذلك، وإلا فسينقلنا هذا إلى قضية أخرى وهي قضية الإيمان والأبعاد الغيبية فيه. إذاً لابد أن تكون النصوص الإلهية ذات ميزة خاصة وهي كونها معصومة عن الخطأ، بينما نصوص البشر يمكن أن توصف بذلك، ولكن فيما يتعلق بالنصوص الإلهية حين يقول المؤمن ذلك فهذا يعني أنه قد تخلى عن إيمانه أو تخلى إيمانه عنه.
والأمر الآخر هو أننا يجب أن نفرّق بين نص جاء ليقرّر مبادئ عملية سلوكية نازلة من علٍ، وبالتالي يُطالب هذا النص بممارسةٍ ما وبسلوكٍ ما وبيقينٍ ما، وبين نص آخر هو نص تأمّلي القصد منه هو تحريك المشاعر ومداعبة الخيال وإثارة الأحلام. القرآن الكريم يرسم منهج حياةٍ للمؤمنين به، وهو نصّ قانوني بالدرجة الأولى، وإذا كان يمكن قراءة النص القانوني بالطريقة التي يريدها الخطاب العلماني فهذا يعني أنه لا توجد جريمة ولا يوجد مجرم على وجه الأرض لأنه من الممكن بسهولة قراءة كلّ نص آلاف القراءات وتأويله - أو بعبارة أصح - تحريفه آلاف التحريفات.
مقاربات أم مواربات؟
* هذه رؤية نقدية شديدة تجاه مقاربات الخطاب العلماني الموجّه نحو النص الديني. أليس كذلك؟
- إن ما تسمّيه مقاربات - وهو للتعبير عن التواضع العلمي ومحاولة الاقتراب من الحقيقة - لا أظن أنه ينطبق على الرصيد الأكبر للمُنتَج العلماني، لأنه لا يقدّم لنا مقاربات وإنما يقدّم لنا ‘’مواربات’’ هدفها التنصّل من الحقيقة، فهو في غالبيته خطاب لا يعترف أصلاً بوجود الحقيقة. إنّ الحقيقة في الإسلام نصَّ عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهي كما جاء في الحديث كمثل ‘’المحجة البيضاء ليلها كنهارها’’، ولكن الخطاب العلماني في الواقع لا يريد أن يبني علاقة مع الحقيقة لأن ذلك يكلّفه بتكاليف وواجبات وربما تصبح المغارم أكثر من المغانم، ولذلك يثير الغبش والغبار دائماً أمام الشمس محاولاً حجبها عن الأعين ليقنع الآخرين بأن الشمس لا وجود لها، ويُستغَل مفهوم التأويل لكونه مفهوماً إسلامياً قرآنياً وتراثياً كمدخل إلى الهرمينوطيقا، وذلك من أجل قراءة النص قراءة جديدة أو معاصرة أو تنويرية أو غنوصية أو غير ذلك، ومن ثَم تصبح المعاني القرآنية المستقرة، والأصول الثابتة، والأفهام السلفية الراسخة والمعلومة من الدين بالضرورة والمجمَع عليها؛ أفهاماً تاريخية خاضعة للتجديد والتغيير والمعاصَرة، لتحِعل محلَّها معان أكثر تطوراً ورضوخاً للعصر والواقع.
الخطاب العلماني والقرآن
* هل يمكن تقديم توضيح للرؤية التي ينطلق منها العلمانيون في تأويل النص القرآني مثلا؟
- في نظر الخطاب العلماني؛ المؤلف مات، والقصدُ خرافة، ولا توجد قراءة بريئة، والأصل في الكلام التأويل، وقوة النص في حجبه ومخاتلته لا في إفصاحه وبيانه، في اشتباهه والتباسه، لا في إحكامه وأحكامه. فالنصّ ليس نصّاً على المُراد بقدر ما هو حيِّز لممارسة آلياته المختلفة في الحجب والتحوير، والكبت والاستبعاد، وهذا شأن كلمة الحقيقة ذاتها، فهي تُخفي بالضبط ما تشير إليه. إن القرآن الكريم في منظور هذا الخطاب العلماني لا يفلت من هذه القراءة النسبية المفتوحة، فهو ما إن انتقل من فضائه الإلهي إلى الفضاء الإنساني حتى أخذ يعيش حالة من التشظي الدلالي المعنمي - بتعبير طيب تيزيني - عبر البشر الفرادى والمجتمعين المتشظين وفق مواقعهم المجتمعية.
ومن هنا، فإن القرآن بنظر الخطاب العلماني ليس له ثوابت، بل هو مجموعة من المتغيرات يَقرأ كل عصر فيه نفسه، وهو قابل لكلّ ما يُراد منه ولا توجد قراءات صحيحة وأخرى خاطئة، فالقراءات كلها صحيحة، فليس للقرآن معنى محدّد نهائي، إنه يقول كلّ شيءٍ من دون أن يقول شيئاً.
بين الهرمينوطيقا وقواعد الشافعي
* ولكن ما الضير في تفسير القرآن وفقا للهرمينوطيقيا؟
- المشكلة أنه يُفسَّر القرآن بناءً على خواطر وهواجس تحدّث بها شلايرماخر، أو هايدغر، أو رولان بارت أو دريدا. بينما يُضرب بقواعد الشافعي وأبي حنيفة وأصولهما عرض الحائط. إن الهرمينوطيقا اختُرعت في الأصل لقراءة النصوص الأدبية والشعرية، نعم يوجد في الغرب منْ حاول قراءة الكتاب المقدس من خلالها، ولكن ذلك حصل بعد أن انهارت قداسة الكتاب المقدس في الغرب، وتخلى الغربيون عن الإيمان بهذه القداسة بعد عصر النهضة وتفاقم الشك والإلحاد، فأصبح الكتاب المقدس كأي كتاب أدبي آخر يُدرس من منظور إنساني من دون أي اعتبار للبعد الغيبي الإلهي. والأمر الآخر أن الغاية من الهرمينوطيقا في الأساس ليس هو فهم النص أو البحث عن معناه، وإنما الغاية الأولى هو تنمية الموهبة الإبداعية، والقدرة القولية، بتحريض من النص نفسه وتشجيع من رموزه وعلاماته، وإثراء الفكر، وإثارة الذاكرة من خلال إيحاءاته واستدعاءاته.
قداسة القرآن
* وبأي نحو ينبغي أن يكون التعامل مع القرآن الكريم إذاً، خصوصا في هذا الشهر الكريم؟
- القـرآن الكريم يُقرأ لكي يُفهم وتقوم عليه عقيدة وشريعة وسلوك في المقام الأول، أما ما يتحصّل بعد ذلك من فوائد أخرى رمزية أو تخيلية أو اشارية فهي تابعة للمقاصد الأولى والأساسية والجوهرية، ويجب ألا تتناقض معها أو تُصادمها. إن قداسة القرآن هي بُعد بدهي لا يمكن لأيّ مسلم أن يتجاوزه أو يَغضَّ الطرف عنه، ولابد لكل مسلم - حتى يكون مسلماً - أن ينطوي في قلبه على تبجيل شديدٍ لكتاب الله عز وجل، وتمجيد وتعظيم لكلماته سبحانه وتعالى، ولا يوجد أي تناقض بين هذه القداسة، وبين الشرح والفهم عن الله عز وجل، فالباري عز وجل أنزل كلامه ليُفهم أولاً، وأحال في ذلك إلى أهل الذكر: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
قداسة القرآن وحاجز العبث
* ولماذا لا يُعجب ذلك الخطاب العلماني؟
- لأن قداسة القرآن حاجز بينه وبين العبث، وسدّ عظيم يحول بينه وبين اللعب، وليس أي لعب! بل اللعب الحر، ولذلك فهو يبحث بين المناهج الحديثة عن أكثر المناهج جدوى في تحطيم هذه القداسة وتهشيمها، فوجد ذلك بحسب تصوّره في اللسانيات. فهي أولاً - بحسب ظنه - ساهمت في تقويض أُحادية المعنى للنص الديني، وجعلته يخضع لفهم القارئ وظروفه وقدرته على توليد المعنى. وكأن المنهج الأصولي الإسلامي منهج أُحادي المعنى. لكن المراد في الخطاب العلماني ليس تعدّد المعنى أو احتمالات المعنى، وإنما فوضى المعنى أو نسبية المعنى. إن المنهج الأصولي الإسلامي يذكر للكلمة المعاني التي تحتملها ثم يُرجح المعنى المراد بناء على المرجِّحات الموجودة في النص، أو القرائن الحافة به، أو السياق والسباق، أو الأصول العامة للشريعة، وليس الاستدلال بالتشِّهي أو العبث أو الخيال أو الموهبة، وإنما بالدليل.
* وهل أن اللسانيات في الخطاب العلماني يُراد منها نزع هيبة القرآن وقداسته؟
- نعم، وهو ما لا يخجل الخطاب العلماني من المصارحة به حين يؤكد أن دراسة القرآن دراسة ألسنية لغوية محضة الغاية، منها التحرّر من هيبة النصوص اللاهوتية، لأنها تبدو فوق الزمان والمكان والمشروطيات اللغوية، وأن فائدة الألسنية أنها تُزحزح قداسة النص وهيبته المفروضة علينا. المراد إذاً هو خلخلة الإيمان بالنص، والمقصود بالإيمان طبعاً الإيمان التقليدي، لأن هناك مفهوماً جديداً للإيمان هو إيمان ما بعد التحرير. ذلك هو المنهج البنيوي البارتي (نسبة إلى رولان بارت) الذي يتبناه الخطاب العلماني، وهذه هي اللسانيات التي يُراد أن يُفسَّر القرآن الكريم على أساسها بحيث تستحيل القراءة البريئة، ويفقد النص انتماءه إلى كاتبه بعد كتابته، ويفقد مصدره الإلهي بعد تنزله وتأنسنه، ويصبح عرضةً للذبح وتقطيع الأوصال بسكاكين الجزارين، ويا ليته يُذكى بطريقة صحيحة، وإنما يصعق صعقاً، أو بشكل أكثر توحشاً، حيث يُنهش نهشاً في كل أطرافه وأجزائه، فتسيل دماؤه حتى ‘’يصبح جثة هامدة لا حراك فيها’’ كما يصرح بذلك الخطاب العلماني.
القرآن مقدّس ولا مكان للقراءات التحريفية بدعوى التأويل
الحلقة الأولى
الوقت - نادر المتروك:
يُعرف عن الباحث السوري أحمد إدريس الطعان صرامته في الدفاع عن القرآن الكريم في وجه ما يُطلق عليه ‘’الخطاب العلماني’’. في هذه الحلقة من الحوار معه يفتح الطعّان أسئلة بقدر ما يُجيب على الأسئلة، فـ ‘’هل القرآن الكريم نزل للبشر ليكون عقيدة وتشريعاً يمكن تطبيقه في الحياة أم أنه نزل لمجرد الترف الفكري والتأمل العقلي والأدبي المجرد؟’’، وهل من حقنا ‘’تجاهل الإحالات التي يؤكدها القرآن الكريم دائماً لفهمه وتنزيله؟’’ مثل اللغة العربية والسنة النبوية؟ يذهب الطعان في الخلاصة إلى أن ‘’المناهج الحديثة بمقدار ما تكون مفيدة ونافعة في حفز الفكر على التأمل والتجديد، تكون وبالاً إذا نُقلت من وظيفتها الإبداعية هذه لتكون أداة تقويلية أو تحريفية في النصوص الدينية’’. وفيما يلي نصّ الحوار معه:
* كيف تقيّم وضعية الخطاب العلماني في قراءاته للنص الديني المسلّحة بالمعرفة المعاصرة؟
- لكلّ نصّ بشري خصوصياته التي يُفترض أن يراعيها قارئ النص، فهناك شروط اجتماعية وثقافية وسياقية لابد أن تكون حاضرة أثناء أية قراءة لأي نص ينطق به البشر. ومن هنا لابد لمن يقرأ شكسبير وابن الفارض ودانتي وابن خلدون أن يضع في اعتباره شروط الفهم التاريخية التي أسهمت في تشكيل نصوصهم. وأي قارئ عربي يقوم بقراءة نقدية لشكسبير من خلال موروثه الثقافي العربي ويسعى لإسقاط هذا الموروث على نصوص شكسبير فإنه سيتعرض لسخرية وتهكّم الباحثين الغربيين والشرقيين على السواء. هذا فيما يتعلق بنصوص البشر.
* ولكن العلمانيين يقولون إن النصوص الإلهية تتأنسن عندما يخاطب بها الله البشر؟
- هنا توجد مغالطة شديدة، لأن فهم النصوص الإلهية بالفعل يخضع لمواضعات البشر ولكن ليس بالضرورة أن تخضع هذه النصوص لما تخضع له نصوص البشر من قابلية الخطأ والكذب وغير ذلك، وإلا فسينقلنا هذا إلى قضية أخرى وهي قضية الإيمان والأبعاد الغيبية فيه. إذاً لابد أن تكون النصوص الإلهية ذات ميزة خاصة وهي كونها معصومة عن الخطأ، بينما نصوص البشر يمكن أن توصف بذلك، ولكن فيما يتعلق بالنصوص الإلهية حين يقول المؤمن ذلك فهذا يعني أنه قد تخلى عن إيمانه أو تخلى إيمانه عنه.
والأمر الآخر هو أننا يجب أن نفرّق بين نص جاء ليقرّر مبادئ عملية سلوكية نازلة من علٍ، وبالتالي يُطالب هذا النص بممارسةٍ ما وبسلوكٍ ما وبيقينٍ ما، وبين نص آخر هو نص تأمّلي القصد منه هو تحريك المشاعر ومداعبة الخيال وإثارة الأحلام. القرآن الكريم يرسم منهج حياةٍ للمؤمنين به، وهو نصّ قانوني بالدرجة الأولى، وإذا كان يمكن قراءة النص القانوني بالطريقة التي يريدها الخطاب العلماني فهذا يعني أنه لا توجد جريمة ولا يوجد مجرم على وجه الأرض لأنه من الممكن بسهولة قراءة كلّ نص آلاف القراءات وتأويله - أو بعبارة أصح - تحريفه آلاف التحريفات.
مقاربات أم مواربات؟
* هذه رؤية نقدية شديدة تجاه مقاربات الخطاب العلماني الموجّه نحو النص الديني. أليس كذلك؟
- إن ما تسمّيه مقاربات - وهو للتعبير عن التواضع العلمي ومحاولة الاقتراب من الحقيقة - لا أظن أنه ينطبق على الرصيد الأكبر للمُنتَج العلماني، لأنه لا يقدّم لنا مقاربات وإنما يقدّم لنا ‘’مواربات’’ هدفها التنصّل من الحقيقة، فهو في غالبيته خطاب لا يعترف أصلاً بوجود الحقيقة. إنّ الحقيقة في الإسلام نصَّ عليها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهي كما جاء في الحديث كمثل ‘’المحجة البيضاء ليلها كنهارها’’، ولكن الخطاب العلماني في الواقع لا يريد أن يبني علاقة مع الحقيقة لأن ذلك يكلّفه بتكاليف وواجبات وربما تصبح المغارم أكثر من المغانم، ولذلك يثير الغبش والغبار دائماً أمام الشمس محاولاً حجبها عن الأعين ليقنع الآخرين بأن الشمس لا وجود لها، ويُستغَل مفهوم التأويل لكونه مفهوماً إسلامياً قرآنياً وتراثياً كمدخل إلى الهرمينوطيقا، وذلك من أجل قراءة النص قراءة جديدة أو معاصرة أو تنويرية أو غنوصية أو غير ذلك، ومن ثَم تصبح المعاني القرآنية المستقرة، والأصول الثابتة، والأفهام السلفية الراسخة والمعلومة من الدين بالضرورة والمجمَع عليها؛ أفهاماً تاريخية خاضعة للتجديد والتغيير والمعاصَرة، لتحِعل محلَّها معان أكثر تطوراً ورضوخاً للعصر والواقع.
الخطاب العلماني والقرآن
* هل يمكن تقديم توضيح للرؤية التي ينطلق منها العلمانيون في تأويل النص القرآني مثلا؟
- في نظر الخطاب العلماني؛ المؤلف مات، والقصدُ خرافة، ولا توجد قراءة بريئة، والأصل في الكلام التأويل، وقوة النص في حجبه ومخاتلته لا في إفصاحه وبيانه، في اشتباهه والتباسه، لا في إحكامه وأحكامه. فالنصّ ليس نصّاً على المُراد بقدر ما هو حيِّز لممارسة آلياته المختلفة في الحجب والتحوير، والكبت والاستبعاد، وهذا شأن كلمة الحقيقة ذاتها، فهي تُخفي بالضبط ما تشير إليه. إن القرآن الكريم في منظور هذا الخطاب العلماني لا يفلت من هذه القراءة النسبية المفتوحة، فهو ما إن انتقل من فضائه الإلهي إلى الفضاء الإنساني حتى أخذ يعيش حالة من التشظي الدلالي المعنمي - بتعبير طيب تيزيني - عبر البشر الفرادى والمجتمعين المتشظين وفق مواقعهم المجتمعية.
ومن هنا، فإن القرآن بنظر الخطاب العلماني ليس له ثوابت، بل هو مجموعة من المتغيرات يَقرأ كل عصر فيه نفسه، وهو قابل لكلّ ما يُراد منه ولا توجد قراءات صحيحة وأخرى خاطئة، فالقراءات كلها صحيحة، فليس للقرآن معنى محدّد نهائي، إنه يقول كلّ شيءٍ من دون أن يقول شيئاً.
بين الهرمينوطيقا وقواعد الشافعي
* ولكن ما الضير في تفسير القرآن وفقا للهرمينوطيقيا؟
- المشكلة أنه يُفسَّر القرآن بناءً على خواطر وهواجس تحدّث بها شلايرماخر، أو هايدغر، أو رولان بارت أو دريدا. بينما يُضرب بقواعد الشافعي وأبي حنيفة وأصولهما عرض الحائط. إن الهرمينوطيقا اختُرعت في الأصل لقراءة النصوص الأدبية والشعرية، نعم يوجد في الغرب منْ حاول قراءة الكتاب المقدس من خلالها، ولكن ذلك حصل بعد أن انهارت قداسة الكتاب المقدس في الغرب، وتخلى الغربيون عن الإيمان بهذه القداسة بعد عصر النهضة وتفاقم الشك والإلحاد، فأصبح الكتاب المقدس كأي كتاب أدبي آخر يُدرس من منظور إنساني من دون أي اعتبار للبعد الغيبي الإلهي. والأمر الآخر أن الغاية من الهرمينوطيقا في الأساس ليس هو فهم النص أو البحث عن معناه، وإنما الغاية الأولى هو تنمية الموهبة الإبداعية، والقدرة القولية، بتحريض من النص نفسه وتشجيع من رموزه وعلاماته، وإثراء الفكر، وإثارة الذاكرة من خلال إيحاءاته واستدعاءاته.
قداسة القرآن
* وبأي نحو ينبغي أن يكون التعامل مع القرآن الكريم إذاً، خصوصا في هذا الشهر الكريم؟
- القـرآن الكريم يُقرأ لكي يُفهم وتقوم عليه عقيدة وشريعة وسلوك في المقام الأول، أما ما يتحصّل بعد ذلك من فوائد أخرى رمزية أو تخيلية أو اشارية فهي تابعة للمقاصد الأولى والأساسية والجوهرية، ويجب ألا تتناقض معها أو تُصادمها. إن قداسة القرآن هي بُعد بدهي لا يمكن لأيّ مسلم أن يتجاوزه أو يَغضَّ الطرف عنه، ولابد لكل مسلم - حتى يكون مسلماً - أن ينطوي في قلبه على تبجيل شديدٍ لكتاب الله عز وجل، وتمجيد وتعظيم لكلماته سبحانه وتعالى، ولا يوجد أي تناقض بين هذه القداسة، وبين الشرح والفهم عن الله عز وجل، فالباري عز وجل أنزل كلامه ليُفهم أولاً، وأحال في ذلك إلى أهل الذكر: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
قداسة القرآن وحاجز العبث
* ولماذا لا يُعجب ذلك الخطاب العلماني؟
- لأن قداسة القرآن حاجز بينه وبين العبث، وسدّ عظيم يحول بينه وبين اللعب، وليس أي لعب! بل اللعب الحر، ولذلك فهو يبحث بين المناهج الحديثة عن أكثر المناهج جدوى في تحطيم هذه القداسة وتهشيمها، فوجد ذلك بحسب تصوّره في اللسانيات. فهي أولاً - بحسب ظنه - ساهمت في تقويض أُحادية المعنى للنص الديني، وجعلته يخضع لفهم القارئ وظروفه وقدرته على توليد المعنى. وكأن المنهج الأصولي الإسلامي منهج أُحادي المعنى. لكن المراد في الخطاب العلماني ليس تعدّد المعنى أو احتمالات المعنى، وإنما فوضى المعنى أو نسبية المعنى. إن المنهج الأصولي الإسلامي يذكر للكلمة المعاني التي تحتملها ثم يُرجح المعنى المراد بناء على المرجِّحات الموجودة في النص، أو القرائن الحافة به، أو السياق والسباق، أو الأصول العامة للشريعة، وليس الاستدلال بالتشِّهي أو العبث أو الخيال أو الموهبة، وإنما بالدليل.
* وهل أن اللسانيات في الخطاب العلماني يُراد منها نزع هيبة القرآن وقداسته؟
- نعم، وهو ما لا يخجل الخطاب العلماني من المصارحة به حين يؤكد أن دراسة القرآن دراسة ألسنية لغوية محضة الغاية، منها التحرّر من هيبة النصوص اللاهوتية، لأنها تبدو فوق الزمان والمكان والمشروطيات اللغوية، وأن فائدة الألسنية أنها تُزحزح قداسة النص وهيبته المفروضة علينا. المراد إذاً هو خلخلة الإيمان بالنص، والمقصود بالإيمان طبعاً الإيمان التقليدي، لأن هناك مفهوماً جديداً للإيمان هو إيمان ما بعد التحرير. ذلك هو المنهج البنيوي البارتي (نسبة إلى رولان بارت) الذي يتبناه الخطاب العلماني، وهذه هي اللسانيات التي يُراد أن يُفسَّر القرآن الكريم على أساسها بحيث تستحيل القراءة البريئة، ويفقد النص انتماءه إلى كاتبه بعد كتابته، ويفقد مصدره الإلهي بعد تنزله وتأنسنه، ويصبح عرضةً للذبح وتقطيع الأوصال بسكاكين الجزارين، ويا ليته يُذكى بطريقة صحيحة، وإنما يصعق صعقاً، أو بشكل أكثر توحشاً، حيث يُنهش نهشاً في كل أطرافه وأجزائه، فتسيل دماؤه حتى ‘’يصبح جثة هامدة لا حراك فيها’’ كما يصرح بذلك الخطاب العلماني.