المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مـدخـل إلى الأدب الإســلامي ... د.نجيب الكـيلاني



يوسف مراد
01-15-2005, 03:33 PM
مـدخـل إلى الأدب الإســلامي

للدكتور ( نجيب الكيلاني ـ رحمه الله) من إصدارات ( كـتـاب الأمــة ) الصـادر عن وزراة الشؤون الإسلامـيـة بـقـطر .

يوسف مراد
01-15-2005, 03:34 PM
المقدمـــة
إن التصور البشري للحضارة يرتبط بعديد من العناصر التي لا بد من تآلفها وتفاعلها لكي ينبثق عنها ذلك الشيء الروحي والمادي وأعني به الحضارة، ومن أهم عناصرها العقيدة والعلم والتشريع والسلوك الراقي والفنون والآداب، وقيم الخير والحق والجمال والحرية وغيرها، ولقد سادت حضارات في التاريخ على اختلاف مراحله، ثم بادت، ولقد كان عطاء هذه الحضارات متفاوتاً. وكانت إحداها تركز على عنصر من العناصر، أو جانب من الجوانب أكثر من غيره، بعضها بالجانب المادي أكثر من الجانب الروحي، وبعضها الآخر أعطى النواحي الروحية العناية الأكبر، بصرف النظر عما شاب هذا الجانب أو ذاك من تصورات خاطئة أو مبتورة أو مشوهة، ولعل تلك السلبيات هي التي شكلت بذور الفناء والتلاشي في الحضارة.

الحضارة إذن في صميمها ترمز إلى القوة الفعالة في صنع التكامل البشري والرخاء والسعادة والتقدم لبني الإنسان، ومن ثم كانت لهذه الحضارات الغلبة والمنعة، وتحقق النفوذ والسيطرة، مما جعلها مثلاً يحتذى.
ونحن في واقع الأمر ـ برغم اندثار هذه الحضارات القديمة ـ نجد لها صدى في الفكر المعاصر، وفي أصول المدنية الحديثة، سواء خفت هذا الصدى أو ارتفعت نبرته، فشد اليه الأسماع.
وتقف الحضارة الإسلامية فريدة في طابعها وتأثيرها ومنابعها، ونحن لا نبالغ أو نلقي القول على عواهنه، إذا قررنا أن الحضارة الإسلامية لا تموت، لأن خلودها مرتبط بالروح التي تسري في أنسجتها وخلاياها وشرايينها ألا وهي روح القرآن كلمة الله الخالدة، وإذا كانت الحضارة الإسلامية تخضع في بعض الفترات التاريخية لعوامل الضعف والوهن والكمون، فإن ذلك لا يعني فناءها أو انتهاء دورها الخالد، والحقيقة المؤكدة أنها (فاعلة ) دائماً، ومؤثرة في كل زمان ومكان، وحينما ذكر المفكر عباس العقاد رحمه الله أن في الإسلام قوة غالبة وقوة صامدة، فقد كان يعني بالقوة الصامدة تلك القوة السحرية التي تعمل عملها في زمن الضعف والوهن في الأمة الإسلامية، وضرب مثلاً لذلك الصمود استمرار انتشار الإسلام، وقيام أكبر دولتين إسلامستين في تلك الفترة وهما أندونيسيا وباكستان(1).
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الأدب كان عنصراً من عناصر هذه الحضارة الإسلامية المتوازنة الخالدة، التي تمتد أسبابها إلى السماء، وفق تصورات واضحة صحيحية، ولم يكن من باب المصادفة أن يكون فقهاء الإسلام وفلاسفته وعلماؤه وقواده من أكثر الناس اهمتاماً وممارسة لفن الأدب شعراً ونثراً، نرى ذلك واضحاً عند ابن سينا والشافعي وابن المقفع والجاحظ وغيرهم من أعلام الفكر المسلمين عرباً وعجماً، قديماً وحديثاً.

ولم يشغل الأقدمون أنفسهم كثيراً بفلسفة الأدب وتعريفه ومفهومه، ولقد حفل نخبة ضئيلة منهم بوضع بعض التعريفات الموجزة للأدب، وخاصة الشعر، ومن العجيب أن هذه النظرات ـ ولا أقول التعريفات ـ ضمت بصفة عامة ما جال وصال فيه النقاد ومؤرخو الأدب المحدثين، ولقد وجدنا فئة منهم تهتم بنفعية الأدب من اهتمامها بمؤثراته الأخرى، بينما نجد فئة ثانية تركز أساساً على النواحي الجمالية والتأثيرية، في حين أن فئة ثالثة جمعت بين المنفعة والجمالية، وهي المدرسة الوسط التي كانت لها الغلبة في الأدب العربي القديم، وسواء أسادت هذه الموجة أم تلك، فإن حركات التجديد لم تتوقف، ولقد تناولت حركات التجديد الأسلوب، فنجد كاتباً كالجاحظ يتخذ لنفسه منهجاً وسمتا معينا في كتاباته المميزة الفريدة، وفي موضوعاته المبتكرة، التي فتحت آفاقاً جديدة في تصوير النماذج والنفسيات الإنسانية، وأبرزت عدداً من الشخصيات النمطية الباقية أبد الدهر كالبخلاء وغيرهم ، كما تناولت حركات التجديد مطالع القصائد، والصور البلاغية التي أصبحت متنوعة بتنوع الشخصيات والبيئات والأمصار، وتناول التجديد أيضاً الموضوعات، خاصة بعد الصراعات السياسية والمذهبية والمدارس الفكرية التي امتدت أصولها إلى الفقه والأحكام ووجهة النظر السياسية، وبعد التأثيرات المتنوعة لقيم الإسلام ومبادئه، ظهر شعر الزهد والحب العذري، وفي فترات أخرى شعر اللهو والمجون المنحرف، الذي كان استجابة لتغيرات جذرية فاسدة تتعلق بالعواطف والعلاقات الإنسانية، وتناول التجديدات أيضاً شكل القصيدة بصفة عامة، فظهرت المقطوعات والتواشيح والرباعيات وغيرها مما نوع في القافية، واحتفظ بالوزن، كما دخلت إلى اللغة ألفاظ جديدة، وشتقاقات مبتكرة، رفضها بعضهم وقبلها بعضهم الآخر.

وعلى الرغم من حدوث اضطرابات في القيم والمفاهيم العامة إلاّ أن النغمة الإسلامية لم تخفت أبداً، كان هناك دائماً أدباء أوفياء يحرسون التوجه الإسلامي عبر الفنون والآداب، لا يقعدهم عن ذلك شطط عابث، أو غواية متحلل فاسد أخضع الكلمة للهوه وشهواته ومجونه، ولم يكن (فن المديح كله تأليهاً وتنزيهاً لأمراء وحكام وقادة، بل حفل هذا الفن بالكثير من التغني بقيم الحضارة الإسلامية ومجدها، وبعظمة الرجال الأبرار الذين استطاعوا أن يملأوا الأرض عدلاً ورفاهية وسعادة ).

والأدب الإسلامي في تصورنا عنصر من عناصر الحضارة الإسلامية لا شك فيه، ولسان من ألسنة الدعوة الإسلامية التي تحرص أول ما تحرص على القدوة والمثل، وتهتم بالفعل دون أن تهدر قيمة القول، وقد يختلف بعضهم ـ وهم معنا في هذا التصور، وردنا على ذلك بسيط غاية البساطة، ألا وهو أن المعجزة الكبرى في الإسلام هي القرآن.. الكلمة المنزلة من عند الله، في إطار من الصدق والجمال والإعجاز، كما أن الدعوة إلى الله بنص القرآن الكريم بالحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (125: النحل).

وقد تبدو عملية (التنظير ) للأدب الإسلامي ميسوة وسهلة لأول وهلة، وإنها لكذلك بالفعل إذا انصب التنظير على (مضمون ) الأدب أو منبعه الفكري، لكن الأمر سوف تكتنفه الصعوبة إذا ما نظرنا إلى الشكل أو الصور الجمالية لأي فن من فنون الأدب.

التنظير للأدب الإسلامي لا يثير كثير جدل في ناحية المضمون، لكن الأشكال الفنية التي لا تكاد تستقر على حال، والتي تختلف فيها الأذواق والأفهام والمناهج الفلسفية هي المشكلة، بل أكاد أقول هي العقبة التي تعترض طريق الباحثين عن نظرية سوية مقنعة للأدب الإسلامي.

ويجب ألا يتبادر إلى الأذهان أن ذلك أمر موقع في اليأس أو محبط للعزيمة، فالخلاف حول الصورة الفنية خلاف أبدي حتى بين أبناء المدرسة الأدبية أو الواحدة، فضلاً عن أنه من الصعب، بل يكاد يكون من المستحيل تحديد أبعاد صورة أدبية واحدة لفن من فنون الأدب، فالقصة يتناولها كل كاتب بأسلوبه وطريقته الخاصة، ولو كان الأسلوب أو الطريقة واحدة لا نهدم جانب أساسي من عملية الإبداع، المقلدون وحدهم هم الذين يدورون في إطار الصورة المحددة، وحتى هؤلاء قد يتجاوزون ـ قليلاً، أو كثيراً ـ الحدود المرسومة، أما خصوصية الكاتب المبدع وتميزه فتجعله ينجب عملاً فنياً مرتبطاً بفكره وذوقه وإمكاناته الخاصة، وقد نتصفح عدداً من دواوين الشعراء العموديين مثلاً، فنجدهم يكتبون وفق قواعد عامة متفق عليها، لكننا نجد شوقي غير حافظ غير البارودي غير محمد الأسمر غير الجوهري غير الزهاوي أو العقاد وهكذا، والشيء بالنسبة لمن يسمون بأعلام الشعر الحديث والشعر الحر، وإذا انتقلنا إلى المسرح أو القصة القصيرة تواجهنا الحقيقة نفسها التي لا يمكن الهروب منها. ماذا يعني ذلك كله ؟؟

إنه يعني أن قضية الشكل الفني أو الصورة الفنية مفتوحة..

وحينما أقول مفتوحة !!! لا أعني أنها فوضى .. يتخبط فيها كل من هب ودب.. فهناك أساسيات تتعلق بالقواعد.. قواعد اللغة .. وباستقامة التعبير.. وبالموسيقى في الشعر، وبالحديث في القصة والمسرحية، وبالجماليات الأدبية الأخرى من رموز وإيحاء وإشعاع، وبأمور تخصصية أخرى في شتى ألوان الأدب، وهذه بدورها ليست قواعد جامدة، ولكنها خاضعة للمواهب الإبدائية القادرة على الإضافة والتعديل والابتكار.

الشكل الفني مشكلة في مجال وضع النظرية، لكنها مشكلة ذات طبيعة خاصة، ويمكن فهمها في إطار التجربة الطويلة، والتنوع الواسع، وفي إطار المنطق والمقبول أو المعقول، وعلى الأدباء الإسلاميين ألا ينزعجوا من مناقشة هذه المشكلة أو يتهربوا منها، ولنقرر في صلب نظرية الأدب الإسلامي أن الشكل الفني ميراث وتراث، وأنه بطبيعته متغير ومتنوع، وأن مجال العمل فيه يلتصق بابداع المبدعين، أكثر من التصاقه بآراء المؤرخين والنقاد، وهو قضية قبول بين المبدع والملتقي بالدرجة الأولى، والنافذ مجرد وسيط وجهة نظر قد تصدق وقد يجانبها الصواب، ولا شك أن حرص الإسلاميين على المضمون الفكري واطمئنانهم له، سوف يجعلهم أكثر ثقة في ارتياد التجارب الإبداعية الجديدة في كل لون من ألوان الأدب شعراً ونثراً ينطلق الأديب الإسلامي في مجال الصور الفنية دون خوف أو عقد، ويدرك يقينا معنى الحرية الصحيحة في الإبداع، تحت الفكر السليم وقد يكون لبعضهم تحفظات على هذا المنطلق، وربما يبدون وجهات نظر بصدده.. لا بأس !! لكن القضية ليست قضية حوار وجدل بالدرجة الأولى، لكنها في حقيقتها ممارسة وإنتاج وإبداع. وعبر التجارب الشجاعة نستطيع أن نتبين وجه الصدق، ونضع أيدينا على كل ما هو إيجابي ونافع ومؤثر، فلا جدوى من أن نملأ الدنيا ضجيجاً وجدلاً صاخباً، دون أن نقدم النماذج الأدبية التي تعبر بصدق وجمال عن نظرية الأدب الإسلامي.

ويتضح لنا مما سبق أن للأدب الإسلامي جانباً خاصاً وآخر عاماً.

الجانب الخاص هو جانب فكري يرتبط بالإسلام عقيدة وفكراً وتصوراً وعاطفة، والجانب العام تمتمد جذوره إلى الإبداع العربي القديم وإلى التراث العالمي المشترك الذي ساهم فيه كل شعب بنصيب، وخاصة فيما يتعلق بالأشكال الفنية التي أصبحت في عصرنا ملكاً للجميع، ولا تحجزها نزوات التعصب العرقية أو الدينية أو السياسية أو المذهبية أو الجغرافية، ولقد ضرب أسلافنا الإسلاميون العظام أروع المثل حينما لم يحجموا عن قراءة تراث الحضارات القديمة، وسهروا على النظر فيه وترجمته ونقده والرد عليه سواء أكان إغريقياً أم هندياً أم فارسياً.. فنحن ـ قديماً وحديثاً ـ جزء من هذا العالم الكبير من حولنا، أعطيناه الكثير، وتبادلنا معه الخبرات والثقافات، وهذه سمة رائعة من سمات الحضارة الإسلامية الخالدة، التي تغذت بلبان الإسلام، وترجمت بصدق عن فكرة وروحه.
ويستطيع القارىء المدقق المنصف أن يعرف ـ ازاء ما سبق ـ لماذا سميت هذا الكتاب باسم (مدخل إلى الأدب الإسلامي )، حيث أبرزت الأسس الفكرية لهذا التوجه الإسلامي، وحاولت أن أتناول أهم القضايا والمشاكل التي كانت تطرح في الندوات العالمية التي عقدت بخصوص (الأدب الإسلامي ) والتي كانت تثور في أروقة بعض الجامعات، وعلى صفحات بعض المجلات المتخصصة والصحف، وفي الندوات النقدية المختلفة.
لقد شغلني موضوع الأدب الإسلامي في فترة مبكرة من العمر، ودفعني الحماس إلى كتابة عدد من المقالات في الصحف العربية تتصل بهذه الناحية، وكانت قراءاتي للشاعر الفيلسوف محمد اقبال بداية اهتمامي الأساسي، وكثيراً ما رددت من شعره حول هذا الموضوع، شبه فيها فنون المشرق بزيف (السامري ) ـ وهو من قوم موسى ـ حينما صنع لبني إسرائيل عجلاً من ذهب له خوار، كانت هذه الأبيات تقول:
يئست فلا أرجّي في أناس لهم فن كفن السامريِّ
سقاةٌ في ربوع الشرق طافوا على الندماء بالكأس الخليِّ
سحاب ما حوى برقا قديماً وليس لديه من برق فتيِّ(1)
وكان لأعجابي بإقبال وتقديري الأثر الكبير في وضع مؤلف عنه تحت عنوان (إقبال الشاعر الثائر ) (2)، ثم أصدرت كتاب (الإسلامية والمذاهب الأدبية ) من أكثر من ربع قرن، ولقد كانت هذه الدراسة المبدئية تعبيراً عما يلح في خاطري بخصوص قضية الأدب الإسلامي، لكني وجدت فيما بعد أن القضية أكبر من ذلك بكثير وأن المهمة الأولى لجيل الكتاب الإسلاميين اليوم هي المشاركة الإبداعية الإيجابية في تقديم نماذج من القصة والشعر والمسرحيات، لملء الفراغ الناجم عن غياب الحركة الأدبية الإسلامية الجادة، إيمانا مني بأن النماذج الناجحة هي الرد العلمي على حملات التشويه والتسكيك، وبدأنا..
وإذا كان الأدب الإسلامي قد اتسعت دائرة الاهتمام به في السنوات الأخيرة، فإن الجهد المبذول لم يزل دون الآمال الكبيرة التي تخفق في الصدور، ولا يفوتني في هذا المقام إلاّ أن أشير إلى الأعمال الرائدة في هذا المجال والتي قام بها إخوة فضلاء أوفياء أذكرمنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ أبو الحسن الندوي والإمام الشهيد حسن البنا،والسفير صلاح الدين السلجوقي، والأخوان الشهيد سيد قطب ومحمد قطب، والأستاذ الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، والدكتور عماد الدين خليل والدكتور أحمد بسام ساعي وغيرهم من الشعراء وكتاب الرويات والقصة القصيرة والمسرحية والنقاد.
ولقد كانت النية متجهة إلى أن أفرد فصولاً لمختلف فنون الأدب لولا ضيق المقام، فضلاً عن أننا قد أصدرنا قبل ذلك مؤلفات عن (المسرح الإسلامي ) و(أدب الأطفال في ضوء الإسلام )، ونأمل إن شاء الله في المستقبل أن نفرد مؤلفا لأدب القصة لأهميتها..

والله أسأل أن يجنبنا الزلل، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه، وأن يسدد على طريق الحق والخير خطانا، وأن يغفر لنا ويرحمنا، إنه سميع مجيب الدعاء.

يوسف مراد
01-15-2005, 03:35 PM
مفهوم الأدب الإســـلامي

الأدب بصفة عامة لون من ألوان الفنون، وهو أكثرها شيوعاً وتأثيراً وشعبية، لأنه يضم الشعر وأنواع النثر الفني كالقصة والمسرحية والمقالة والمخاطرة وترجمة الحياة وغيرها، وعلى الرغم من اختلاف التعارف التي وضعت للأدب في مختلف العصور، إلا أننا نستطيع أن نستخلص منها سمات أساسية للعمل الفني الأدبي، فهناك (الصورة الفنية ) المؤثرة التي تتشكل من عناصر عدة أولها اللغة المنتقاة، حيث تؤدي اللفظة الموحية المؤثرة وظيفة خاصة مميزة، هذه اللفظة لا تقوم بذلك وحدها، ولكن بارتباطها العضوي مع باقي الألفاظ في نسق معين، وبما تعكسه من فكرة، وتثيره من خيال، وبما تحركه من عاطفة، وتولده من اندماج، فالصورة الفنية تكاد تكون تجربة حية يحدث فيها نوع من التمازج بين الأديب والملتقى، ولوناً من ألوان الحوار الحار، والتفاعل الخصب، تلك التجربة الحياتية في إطار هذه الصيغة الفنية تبدو جديدة شيقة، وتكشف الكثير عما غمض في حياتنا العامة، وعلاقاتنا العديدة المتشابكة، وتضفي على وجودنا ثراء ومعرفة ومتعة، ومن الوهم أن نتصور أن هذا الأثر الجمالي هو كل شيء، إنه وثيق الصلة بنفوسنا وحركتها، وبعواطفنا وتوجيهاتها، وبأفكارنا ونموها، وبأرواحنا وسموها، وإذا كان إحساسنا بالمتعة والجمال في حد ذاته أثراً إيجابياً، إلا أنه يظل فرد النزعة، محصور الطاقة، محمود الفاعلية، إلا إذا حرك في داخلنا البحيرات الراكدة، وأشعل النيران الخامدة، فانطلقنا إلى مواقف جديدة، وبدأنا الرحيل إلى آفاق وعوالم أكثر حيوية ودفئاً وحاولنا أن نتفيأ ظلال واقع يمور بالحركة والتطلع، وتلك هي الإيجابية بمعناها الواسع الصحيح، فالمتعة المجردة الساكنة المنطوية، تحمل في ثناياها على نفسية تمضي بصاحبها إلى الانطواء والعزلة وأحلام اليقظة العليلة.

ولقد حاول الدارسون أن يجعلوا من الأدب مضموناً وشكلاً، وعلى الرغم من صعوبة الفصل بين الشكل والمضمون، إلا أن هذا التبسيط أو التصور يبدو ضرورياً في بعض الأحيان توارثناه عن الفلسفات القديمة التي تحاول التجزئة أو التشريح من أجل الوصول إلى إدراك أوضح للأمور المعقدة، والمسائل التجريدية، ألا يمكن أن يكون في الفكرة نفسها جمال من نوع ما، ثم ألا يوحي الشكل أو الصورة الأدبية المركبة بطريقة فريدة، ألا توحي بانطباعات وتصورات تساهم في اكتمال المعنى، وبلورة الفكرة، وتجسيد المفاهيم؟ ومع ذلك فإن هذا التقسيم للعمل الأدبي إلى شكل ومضمون يبدو ـ كما ألمحنا ـ ضرورة، وليس أدل على ذلك من أن جميع المدارس الأدبية، تحاول أن توضح جذورها الفكرية والفلسفية، أو تترجم تصوراتها عن الإنسان والكون والحياة إلى وقائع في القصة أو الرواية أو العمل المسرحي، بل وفي الشعر أيضاً، وتجعل من شخصيات العمل الدرامي بالذات نماذج معبرة ـ في حوارها وسلوكها وعلاقاتها ـ عن المضامين الفلسفية التي تؤمن بها أو تروج لها.

ولقد كان لتقسيم الأدب إلى عنصري الشكل والمضمون أثر سلبي لا يمكن تجاهله، فلقد احتفى بعض الأدباء احتفاءً زائداً بالفكرة على حساب الشكل الفني، فاختلت الموازين الفنية، وضعف التأثير، وقلت المتعة، وكان ذلك واضحاً أشد الوضوح (الآداب الموجهة ) ـ بفتح الجيم وتشديدها ـ فتحول الأدب إلى نشرات سياسية، تنطق باسم حزب من الأحزاب، أو شعارات طنانة تهتم وتهتف باسم زعيم من الزعماء، أو أبواقاً إعلامية تتغنى بمجد حكومة من الحكومات، وتوارت القيم الفنية، فتعطلت وظيفة الأدب الأساسية في السمو بالأرواح والأذواق، وفقدت الأفكار حيويتها وجاذبيتها، وتضعضعت القيم الإبداعية، وأصبح الأدباء في ذيل الموكب للحاق بركب المنفعة، ولم تعد لهم الريادة والقيادة، فلم يكن غريباً أن تتدهور آدابنا المعاصرة، وتتمرغ في أوحال الذلة والهوان.

وهناك فئة أخرى من الأدباء المعاصرين، حاولوا الإفلات من جحيم الحصار والقهر، فاحتموا بغابات الإبهام والغموض السوداء، وأغرقوا في الرمز والهروب حتى يحافظوا على نقائهم الفكري، وقيمهم الإبداعية، فتقوقعوا في عالم خاص بهم، وأداروا الحوار الخاص بينهم وبين أنفسهم، ففقدوا الصلة المقدسة التي تقيم العلاقات بينهم وبين الآخرين، ولم يعد لهم التأثير المأمول في حركة الحياة، وتحريك العواطف، واتخاذ المواقف، وقد عبر أحد الشعراء المحدثين عن هذه المأساة بقوله (1):
((شاعركم جبان
يخاف من ترجمة الإفصاح
لذا تراه يختفي خلف حلكة العبارة
ينسجها من أغرب الرموز
يملؤها بالليل والأشباح
وكل قطعة تلوح كالمغارة
مغلقة على عجائب الكنوز ))

إن الغموض والإبهام ساد الآداب المعاصرة أمر مخيف بالنسبة للحاضر والمستقبل، إنه ضرب من الشذوذ وقد أصبح قاعدة، بل فلسفة يٍروج لها النقاد في مختلف الأنحاء ويعتبرونها معيار الحداثة والإبداع، فإذا الحياة المعقدة في الغرب، والخواء الروحي، والتخمة المادية، والنمط الميكانيكي للحركة اليومية، والتفكك الأسري، وطغيان الفردية، والفوضى الفكرية والسلوكية تحت شعار الحرية، والأمراض النفسية الفتاكة، إذا كان هذا كله قد أفرز في الغرب آداباً وفنوناً معتلة، فما معنى أن نختط لحياتنا في الشرق تصوراً شبيهاً لما يجري في هذا الغرب ؟؟ أيمكن القول: إن السلطة القاهرة الجائرة قد خلقت جوًّا مناسباً شبيها لما يجري في الغرب؛ لقد أشرنا فيما سبق إلى فئة من الأدباء تحت ذلك المنحى، وتوفرت لديها مبررات كافية للإغراق في الغموض، لكن البناء النفسي للشعوب الإسلامية، وطبيعة تكوينها ومثلها العقائدية والاجتماعية يمكن أن تقيها شر هذا الفساد، ولا بد أن نجهز على الفكرة القائلة بأن الإبداع هو الغموض، والصور الفنية المبهمة التي تتدفق من تيار الوعي والأوعي، فمسؤولية الكلمة ـ إن كنا نؤمن بها ـ تقتضي الوضوح دون إهدار للقيم الفنية الجمالية..

ولنتوقف عند هذه النقطة الجوهرية، فالقرآن ـ قمة البيان ـ وصورة الأدب الخالدة واضح ميسر (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17) فالكلمة رمز يحمل رسالة ما، هذا في المجال العام، لكن هذه الرسالة ـ في المجال العلمي ـ محدودة، ولا تحتمل التأويل، ولا تحفل بقيم جمالية، لكنها في مجال الأدب تتوقد حيوية وإثارة، وتتسم بالجمال والمتعة، فالكلمة وسيلة، بل اللغة كلها وسيلة، وبالإضافة إلى ذلك فهي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية، يخضع مبدعها للحساب، كالفعل تماماً، وتتحدد المسؤولية بداهة فيما تحمله الكلمة من معنى، وما تخلفه من انطباع أو تأثير، فقد ربطت المسؤولية بين مبدع الكلمة ومتلقيها وبالتبعية الحركية (أو الديناميكية ) التي تشعلها الكلمة أو تغرسها في نفس وروح وفكر الآخرين، وقد يظن ظان أن المسؤولية هنا مع الغموض، فالرسالة المبهمة عبث، ولكن الواقع غير ذلك إذا أن (الصورة الفنية ) الغامضة قد تنقل إلى ذهن المتلقي وروحه اضطراباً أو تحركاً أعمى، أو انفعالاً طائشاً بلا فهم أو هدف، ولا يتولد عنها إلا التمرد العشوائي، أو الرفض الجنوني، هذا الانطباع المختل، أو الأثر المشتت يعد خروجاً على النسق البديع الذي تشربناه مع قيم الإسلام ومبادئه، وخلاصة الأمر أن المسؤولية تقتضي الوضوح، ولكنها لا تتعارض مع القيم الجمالية، وتقتضي الأثر الهادف البناء، كما لا تهدر المتعة،وإصرارنا على هذه النقطة بالذات مرتبط بأهمية اعتبار الأدب ضرورة حياتية تخص الناس جميعاً، وحق المنفعة والمتعة ميراث مشاع لمختلف المستويات، إن هناك معنى يريد أن يعبرعنه الأديب ولن تتوافر للتعبير عوامل النجاح ما لم يكن مفهوماً وقادراً على جلب المتعة والمنفعة، وهذا التصور من ناحية أخرى يرتبط بقيم الصدق والأمانة، فإذا كان بعضهم في جزء من هذا العالم أو آخر يعاني من التيه والتخبط والحيرة، فلا معنى لأن نعالج أساه بمزيد من الآداب المضطربة، المبهمة، التي تزيد من أساه، وتؤكد عذابه، وتنقل إليه مزيداً من الحيرة، وإلا كنا كما قال الشاعر(وداوني بالتي كانت هي الداءُ ).

لكن هل الغموض ضرورة عصرية، تترجم عن عصر أوغل في البذاءة والضلالة؟ ليكن.. إنها قد تقدم أعراضاً لمرض العصر، لكن أين موقف الأديب القادر على المساهمة في صنع حياة أفضل وأجمل ؟؟ وإذا كان الأديب يعبر عن الحياة خلال نفسه وفكرة، ويبدع لها صورة مؤثرة أخاذة ترتبط بذاته وخصوصياته، فتبدو متفردة جديدة، تضيف إلى عالم المتلقي كائنات وعلاقات وانفعالات مستحدثة جذابة، فلا بد أن يكون الهدف من وراء ذلك تفجير طاقات بناءة في داخل الإنسان، وإشعاره بالرضى والإمتاع، وإثراء وجوده بحيوات أخرى قد لا تتيسر له في واقع الحياة التي يعيشها، وهكذا لا يقعد به الخيال كسيراً كسيحاً، بل ينهض به إلى آفاق أسمى وأروع، وبذلك تتوقف الطاقات الإنسانية وتتحفز، وتلعب دورها الفعال في صنع حياة أفضل، ولا يتيسر ذلك إلا من خلال تصور صحيح للإنسان والكون والحياة، والعلاقات التي تنسق مسيرة المخلوقات، والقيم الأصلية التي ترسخ خطى السائرين في طريق الخير والنماء والحق والحرية والجمال الأدب الإسلامي أدب مسؤول، والمسؤولية الإسلامية التزام، نابع من قلب المؤمن وقناعاته، التزم تمتد أواصره إلى كتاب الله الذي جاء (بلسان عربي مبين ) ولا يصح أن ننخدع بالتزام الوجوديين وغيرهم (فسارتر ) يقرر أن حريته تبدأ عندما (يموت ) الإله ـ والعياذ بالله ـ لأن فلسفته تقوم أساساً على رفض الأديان والقيم والأعراف السابقة، أي أن التزامه يبدأ بعدم الالتزام بأي قيم سابقة، وبالطبع فقد أصبح كل وجودي ـ وليس سارتر وحده ـ صاحب قيم جديدة يصنعها لنفسه وبنفسه، وهكذا أصبح التفتت شعاراً، ووجد في عالم الوجوديين أنبياء زائفون بعددهم، واستهوت البدعة هذه الفارغين واليائسين، واستمالت المتحللين من القيم والأخلاق والمبادئ، ولم لا وقد فهموا أن معنى ذلك هو قمة الحرية.

إن ارتباط الأدب الإسلامي بالمسؤولية النابعة من صميم الإسلام، يقي أجيالنا المحاصرة، من السقوط في براثن تيه الفلسفات التي تعد بالمئات، إن الفلسفة الوجودية مثلاً لم تعد فلسفة واحدة بل عشرات، وحتى مدرسة التحليل النفسى انقسمت إلى مدارس عدة، والمادية الجدلية تفرعت وتنوعت، وخاصة في مجال التطبيق والممارسة، وما كان بالأمس يعد فتحاً جديداً. بل ديناً حديثاً، أصبح الاستمساك به كفراً بواحاً، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم (.. إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) ( النجم:28) وشتان بين الظن والحق.

وفي إطار هذا (الحق ) ـ لا الظن ـ يتحرك الأدب الإسلامي، وسلاحه الكلمة الطبية (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) (إبراهيم 24 ـ 25).

يقول أحد النقاد المعاصرين: (علاوة على الدور المدرك للفن، هناك مغزاه التعليمي، ولكن الفن يثقف المتفرج (أو المتلقي) بطرقه الخاصة، إنه يؤثر أول ما يؤثر على إحساسناً، ويستحوذ على انفعالنا، ويطوقها.. فالفن الأصيل يكون دوماً أخلاقياً، ما دام قد أملته قناعة الفنان الروحية الحية، ليخدم الخير، ويكافح الشر.. )

وحتى الشاعر نزار قباني يقول: (الأدب عبارة عن خنجر يغمده الشاعر في صدر الخرافات والعاهات، والانحرافات بكل أشكالها السياسية والاجتماعية .. ) (1) .

الأدب الإسلامي إذن ليس أدباً مجانباً للقيم الفنية الجمالية، فهو يحرص عليها الحرص، بل ينميها ويضيف إبداعاته إليها، والتراث الجمالي العالمي ملكية شائعة كالدين والفلسفة والعلوم، لا يحتكرها شعب دون آخر، ولا تستحوذ عليها أمة دون باقي الأمم، على الرغم من اختلاف اللغات الفنية، وخصوصيتها في التعبير والاستعارة والمجازات المختلفة، ويبقى دائماً في الفنون الأدبية عناصر تكاد تكون لازمة لهذا اللون أو ذاك، فللشعر مثلاً موسيقاه وإيقاعاته وأخيلته، وللقصة أحداثها وعقدتها وشخصياتها، ولها بدايتها ونهايتها، وللمسرحية أشرا طها الزمانية والحوارية وجاذبيتها الدرامية الخاصة، وهذه كلها كما قلنا ميراث مشترك.

والأدب الإسلامي يحرص أشد الحرص على مضمونه الفكري النابع من قيم الإسلام العريقة، ويجعل من ذلك المضمون ومن الشكل الفني نسيجاً واحداً معبراً أصدق تعبير، ويعول كثيراً على الأثر أو الانطباع الذي يترسب لدى الملتقى، ويتفاعل معه، ويساهم في تشكيل أهوائه ومواقفه وحركته الصامدة أو المتدفقة إلى الأمام.

والأدب الإسلامي يستوعب الحياة بكل ما فيها، ويتناول شتى قضاياها ومظاهرها ومشاكلها، وفق التصور الإسلامي الصحيح لهذه الحياة، ولا يزيف حقيقة، أو يخلق وهماً فاسداً، أو يحابي ضلالاً، أو يزين نفاقاً، ويطلق نيرانه على شياطين الانحراف والقهر والظلم، ومن ثم ينهض بعزائم المستعفين، وينصر قضايا المظلومين، ويخفف من بلايا وأحزان المعذبين، ويبشر بالخير والحب والحق والجمال.

والأدب الإسلامي يعبر بصدق وأمانة عن آمال الإنسان الخيرة، ويتناول نواحي الضعف والتردد والانحراف فيه بتسليط الأضواء عليها لفهمها والشفاء منها، لا لمجرد تبريرها، أو التماس الأعذار لها، تصور الأدب الإسلامي للإنسان نابع من وصف الخالق للمخلوق (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ( الملك 14)، وهو أمر يجب أن يحفل به الأديب المسلم، بعد أن قدمت الآداب الغربية ـ بل والشرقية أيضاً ، نماذج شوهاء للإنسان، وجعلت من التشوه بطولة وحرية، وصنعت من التمرد الفاسد تحقيقياً للذات، وإعلاء لشأن المخلوق.

والأدب الإسلامي ليس (عبثيًّا )، ولا يمكن أن يكون كذلك فليست الحياة ولا قصة الخلق، أو دور القدر، ولا حادث الميلاد أو الموت ليس ذلك كله عبثاً (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، وأنكم 'لينا لا ترجعون ) (المؤمنون:115)، وهذا لا ينفي عن الحياة أنها (متاع الغرور )، أو أنها (.. لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد.. ) (الحديد: 20)، إنها امتحان وتجربة ودار أعمال، خلقت لهدف وغاية، ورسم لها الخالق سنناً وشرائع ونظاماً وقيماً، والمؤمن ـ دون ـ يستطيع أن يستوعب دوره الصحيح في هذه الحياة، وأن يمضي على النهج الذي اختطته يد العناية الإلهية فيسعد وينجو ويفوز.

والأدب الإسلامي ليس قواعد جامدة، أو صيغ معزولة عن الحياة والواقع، أو خطباً وعظمة تثقلها النصوص والأحكام، ولكنه صور جميلة نامية متطورة، تتزيَّى بما يزيدها جمالاً وجلالاً، ويجعلها أقوى تأثيراً وفاعلية، ولا يستنكف هذا الأدب أن يبتكر الجديد النافع الممتع، فالحياة في تجدد وتطور، وكذلك الإنسان وأساليب حياته العملية والعلمية والترفيهية، على أن يظل أدبنا في نطاق القيم الإسلامية الأصلية، ملتزماً بجوهرها وغايتها.

والأدب الإسلامي أدب الضمير الحي، والوجدان السليم، والتصور الصحيح، والخيال البناء، والعواطف المستقيمة، لا ينجرف إلى انحراف نفسي، أو اعتلال شعوري، أو مرض فلسفي تفشت جراثيمه في الماء والهواء والفنون والأفكار والسلوكيات.
والأدب الإسلامي أدب الوضوح لا يجنح إلى إبهام مضلل، أو سوداوية محيرة قاتلة، أو يأس مدمر، فالوضوح هو شاطئ الأمان الذي يأوي إليه الحائرون والتائهون في بيداء الحياة المحرقة المخيفة.
والأدب الإسلامي لا يمكن أن يصدر إلا عن ذات نعمت باليقين، وسعدت بالاقتناع، وتشعبت بمنهج الله، ونهلت من ينابيع العقيدة الصافية ومن ثم أفرزت أدباً صادقاً، وعبرت عن التزامها الذاتي الداخلي دونما قهر أو إرغام.

ذلك هو مفهومنا الشامل للأدب الإسلامي:
• تعبير فني جميل مؤثر
• نابع من ذات مؤمنة
• مترجمٌ عن الحياة والإنسان والكون
• وفق الأسس العقائدية للمسلم
• وباعث للمتعة والمنفعة
• ومحرك للوجدان والفكر
• ومحفز لاتخاذ موقف والقيام بنشاط ما .

يوسف مراد
01-15-2005, 03:36 PM
الأدب الإسلامي مصطلح لكل العصور
إن القيم الإسلامية الكبرى تفرض سلطانها على كل العصور، تستوي في ذلك عصور الازدهار والتسامي، وعصور التخلف والتدهور، لأن هذه القيم مرتبطة أوثق الارتباط بالعقيدة الإسلامية وبمنهجها، والعجيب أيضاً أنها تبسط هيمنتها على كل الذين يعيشون على أرض الإسلام، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، لأنها في حقيقة الأمر قيم حضارية عامة، تتغلغل في النظر إلى الأشياء، وفي الفكر والسلوك، وفي العلوم الدنيوية والدينية، وفي التشريع والسياسة والحرب والسلم والاقتصاد، وفي الهدف والوسيلة، وفي آداب الكلمة أيضاً، وقد يشذ الأفراد، أو تضل الجماعات، أو يضعف السلطان وتختل الموازين، لكن هذه القيم تظل واضحة بارزة مهما ظل بعض فعلها معطلاً، فهي باقية ما بقيت السماء والأرض، صامدة صمود القرآن العظيم، تشع بأنوارها الباهرة عبر العصور المتلاحقة، لأنها أولاً وأخيراً من الرسالة الخاتمة، ومن الكلمة الأخيرة التي نزلت من السماء إلى الأرض.

وتتميز هذه القيم بأنها تضم تصوراً كاملاً شاملاً نموذجياً لكل نواحي الحياة، فالفصيلة خلق شخصي، وسلوك اجتماعي، ومنهج عملي، وحكم راشد، وعدالة سمحاء، وجهاد وعرق، وإبداع وتطور، وسياسة أمنية، وعاطفة نقية، لا تلبس الحق بالباطل، ولا تغرق في متاهات اللذة الآثمة، والجشع القاتل، والسيطرة الجائرة، والحرية الضالة، والأنانية المدمرة ، والمادية الفتاكة.. من هنا استطاعت هذه القيم أن تصنع حضارة فذة، وتقدم تجربة حية رائدة، ثم اعتورتها عوامل الضعف والقوة، والارتفاع والانخفاض، والنصر والهزيمة لكن هذه التغيرات كانت تعكس دائماً مدى الالتزام بهذه القيم أو التحلل منها، كانت حركة الإنسان سلباً أو إيجاباً، وانحرافاً أو تطابقاً، هي المؤشر لظاهرة النجاح والفشل في أي عصر من العصور.

وكان طبيعياً أن تفرز هذه القيم أدباً..

وكان منطقياً أن نطلق على هذا الأدب مصطلح (الأدب الإسلامي )، تماماً كما وضع المسلمون مصطلحات أخرى وثيقة الصلة بتلك القيم، كمصطلحات: الفقه الإسلامي، والاقتصادي الإسلامي، والحكم الإسلامي، والتاريخ الإسلامي، والفتوحات الإسلامية.. الخ، فالإسلام هو الأدب الشرعي، دفع هذه (الكائنات ) من روحه ودمه، فجعلها تعيش وتنمو، وتغلغل في أعماق التحرك التاريخي، وتصبغ الفكر والسلوك والتصور، وتصنع المنهج الضابط لهذه النشاطات وغيرها.

ولم يكن هذا التصور أمراً شاذًّا كما يدعي بعضهم، لأن الفلسفات الكبيرة كلها ـ دعك من صوابها أو خطئها ـ أفرزت آداباً ـ وانطلقت من قيم معينة، فسميت آدابها بأسمائها، وتمتلئ ساحة الآداب المعاصرة اليوم بأسماء لها دلالاتها وعلاقاتها بتصورات فلسفية متباينة.. الأدب الوجودي.. الأدب الاشتراكي أو الماركسي أو الواقعي الاشتراكي.. الأدب العبثي.. أدب اللامعقول.. الأدب التبشيري أو التنصيري أو المسيحي.. الأدب الصيهوني.. حتى الرومانسية والكلاسيكية والرمزية والفرويدية والطبيعية وغيرها، كلها نبتت في (أرضية فلسفية ) معينة، فلا نرى لونا من ألوان الأدب في أوروبا مثلاً إلا وارتبط تنظيره بفيلسوف من الفلاسفة المحدثين أو القدامى، وعلى الرغم من أن الوجوديين قد أقروا بالالتزام في فنون النثر، ورفضوه بالنسبة للشعر، إلا أن غالبية الشعراء قديماً وحديثاً ينتمون إلى مدارس فلسفية أو فكرية بعينها، ويترجمون عن التأثر بها. فلماذا يعاب على المسلمين بالذات دعواهم إلى الأدب الإسلامي؟
أحرام على بلابله الدوحُ حلال للطير من كل جنسِ؟
وإذا كانت العلاقة بين بعض المدارس الأدبية والفلسفية التي تنتمي إليها علاقة تبدو أحياناً مخلخلة أو مفتعلة، أو قل غير مقنعة، فإن علاقة الأدب الإسلامي بأبيه الشرعي الإسلامي علاقة عضوية وثيقة لا يمكن فصمها إلا في الفترات الشاذة العصيبة، وفي عصور الجهل الأيديولوجي والمحن السياسية والاستعمارية، وهذا راجع لسبب أساسي ورئيس وهو أن الإسلام ليس فلسفة تجريدية، ولا منهجياً فضوليًّا يسمح له بالولوج إلى جهة، ويمنع من الدخول إلى جهة أخرى، بل هو صيغة شاملة كاملة تغطي جوانب الحياة كلها، كما أن الإسلام ليس مجرد فرضية أو نظرية تقف في استعلاء على ربوة منزلة، وتنتظر من يتوسل إليها بالقرابين والكلمات، ولكنه واقع حي معاش، فيه عظمة العصمة الإلهية، والاستجابة الصحية لواقع الحياة الإنسانية بما فيها من استقامة وشذوذ،وقوة وضعف، ومادة وروح، وفيه أيضاً انفتاح واع على تجارب البشر، ومستجدات الحياة، دون شعور بالخوف والتردد، أو عقد من نقص ومهانة، إن صلابة الاستمساك بالثابت، وعظمة المسايرة مع المتطور، والقدرة على المرونة الأصلية، على ضوء المفاهيم والقواعد الشامخة ذات الصبغة الإلهية، كما أن فيه سماحة الفهم الصحيح للأديان الأخرى وما فيها من صدق أو تحريف ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحدٍ من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك وإليك المصير ) (البقرة: 285).

ومن الطبيعي والمنطقي أن(الأدب الإسلامي ) ينمو وترعرع في ظل (القرآن الكريم ) ورحابه، وينهل من فيضه، ويغتني بمنهجية وأسلوبه ونماذجه، ويستمد منه عناصر الصدق والطهارة والقوة والدقة والأمانة، ويستشرف منه الغاية، ويغتنم الوسيلة، وفي فجر الدعوة الإسلامية، أقام الرسول صلى الله عليه وسلم للشعر منبراً في المسجد، كما قال عن شاعره حسان (إنه ينطق بروح القدس )، كما قال صلى الله عليه وسلم أيضاً (إن من الشعر حكمه، وإن من البيان لسحراً )، وهكذا استمد الشعر الإسلامي منذ شروق الدعوة ألفاظ القرآن وعباراته وقيمه وأحكامه، وسار الشعر ـ وهو أهم فنون الأدب آنذاك ـ ركاب الزحف الإسلامي المقدس، موشحاً بالقيم الفكرية والفنية أو الجمالية، منطلقاً إلى غايات أسمى وأعمق من غايات الشعر الجاهلي الذي ظل أسير العصبيات والقبليات والفخر والهجاء والمديح..

إن إشعاعات القيم الإسلامية اخترقت الحواجز والسدود، وخالطت علم العلماء، وأدب الأدباء، وسلوك الساحة واللغويين والفقهاء،وحققت ذلك التجانس الهائل في مجالات الفكر والسلوك، دون قيود على الإبداع الفني، أو التجريب العلمي، أو الابتكار الحربي والإداري والحرفي، ومن هنا تولدت حضارة فذة، بعيدة عن التشوهات الخلفية والخلًقية، فضربت مثلاً رائداً في تاريخ الحضارات الإنسانية قديمها وحديثها، ثم كانت هي الأساس لما جاء بعدها من حضارات تالية أو معاصرة، على الرغم من الانتكاسة الرهيبة التي يعاني منها المجتمع الإسلامي اليوم.

وعلى الرغم من وجود فئات ظلت معتنقة للنصرانية أو اليهودية في إطار المجتمع المسلم إلا أن هذه الفئات ـ مع ولائها لدينها ـ ظلت معتنقة لتقاليد الحضارة الإسلامية لمنهجها وسلوكها، فصدرت عن هؤلاء آداب وفنون وعلوم لا تختلف كثيراً عن نتاج القرائح المسلمة الملتزمة، وهكذا طغى عليهم النصر التاريخي النادر المثال للحضارة الإسلامية، ولو لم يفعلوا ذلك لانقرضوا وما سمع بهم أحد، وهذه الظاهرة فيها أيضاً ما يدل دلالة واضحة على تسامح الإسلام وشموخه، كما أن فيها أن النصر لا يكون بالحديد والنار، وإنما بعظمة المبادئ الإلهية الخالدة التي تنحني أمام عظمتها الرؤوس.

الأدب الإسلامي ـ برغم ترهات المبطلين والمخدوعين ـ جزء من بنية البناء الإسلامي الكبير، وهو التعبير بالكلمة عن أيديولوجيتنا العظيمة، ووسيلة أساسية من وسائل الدعوة في هذا العصر، وهو منهج إعلامنا في مواجهة الإعلام الصليبي والشيوعي والماركسي والوجودي المدمر، هو (سلاح العصر ) في معارك الفنون والخبر والطوابير الخامسة، وهو أولاً وأخيراً الحامل (المضمون ) العقيدة التي نحيى لها وبها، ونستشهد في سبيلها (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمةٍ خبيثة كشجرةٍ خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاءُ ) (إبراهيم: 24ـ25ـ27).

واللغة العربية تستمد بقائها وتميزها من القرآن الكريم الذي كُتب بها، فزادها شرفاً ورفعة، وربطها بأعظم قيم الوجود وعقائده، وجعلها تمتد بين والأرض أبد الآبدين، ومن ثم فإنها اللغة الطبيعية والأساسية للأدب الإسلامي، ولكن هذا لا يعني قصر الأدب الإسلامي عليها وحدها، لأن تباين العالم الإسلامي واختلاف لغاتة يجعل من الضروري لهذا الأدب العالمي أن يكتب بلغات أخرى كالفارسية والأردية والتركية، بل والإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من لغات الدنيا، ولا غرابة في ذلك، فأدب الواقعية الاشتراكية، وكذلك الأدب الوجودي وغيره يكتب بمختلف اللغات، وفي كل لغة جمالياتها وقدرتها التعبيرية المؤثرة، والواقع أننا نظرنا لكلمات الشاعر الفليسوف إقبال كما نطرب لأشعار ابن الفارض والبوصيري وشوقي، ومن المعروف أن لغات العالم الإسلامي قد تطعمت بالكثير من الألفاظ العربية وأساليب لغة القرآن وجمالها، واستلهمت قيمة البلاغية والفصاحية، ونهلت من مضامينه الفكرية الخالد، والأهل يحدونا أن تصبح اللغة العربية سائدة في مختلف بلدان العالم الإسلامي، دون أن يعني ذلك إلغاء لغاته المحلية، ولا شك أن تجربة باكستان في هذا المضمار تعتبر تجربة رائدة، أن أصبحت العربية لغة أساسية في بعض مراحل التعليم، فضلاً عن القرآن يُقرأ بالعربية في كل الأنحاء، وكذلك الحديث الشريف. وقد يقول قائل:

( إنه من الخطر أن نهمل مصطلح (الأدب العربي ) الذي توارثناه جيلاً بعد جيل، وأصبح يشكل تراثاً ضخماً عامراً بالكنوز والعطاءات العلمية والفنية، ونحن لا نهدف إلى ذلك مطلقاً، فالعربية كما قلنا لغة القرآن، والحفاظ عليها فريضة، فضلاً عن أنها اللغة الأولى والأساسية للأدب الإسلامي، إن الذي نريده في الواقع هو أن يكون الأدب العربي أدباً إسلامياً، أو بتعبير آخر أن يكون مصطلح (الأدب الإسلامي ) ضمنياًّ أدب عربي بالدرجة الأولى، ولا يظنن ظان أدبنا العربي منذ فجر الدعوة ومروراً بعهود الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم حتى يومنا هذا، لم يكن هذا الأدب إلا ترجماناً للثقافة الإسلامية وحضارتها يستوي في ذلك الأدب المسلمون وغيرهم الذين نعموا بالحياة والحرية والتعبير والعمل في ظل المجتمع الإسلامي أبان صعوده وهبوطه، فالثقافة الحقيقية منهج في الفكر والسلوك، ولم يكن المجتمع الإسلامي بكل طوائفه وفئاته وأقلياته من معتنقي الأديان الأخرى إلا متأثرين بذلك الطابع الإسلامي الشامل، ولهذا فإن إحياء مصطلح (الأدب الإسلامي ) إنما هو في الواقع إيضاح لأيديولوجية ما نسميه بالأدب العربي أو الفارسي أو غيرهما، وهو بمثابة إعادة الأمور إلى وضعها الصحيح، ولا يمكن تفسير الغفلة التي سادت القرون الغابرة إلا لأنهم اعتبروا الأمر تحصيل، فالأدب العربي إسلامي بالضرورة، أو هكذا يجب يكون، لأنه ترجمان الحضارة الإسلامية بكل جوانبها، ولأنه كان وعاء للتبادلات الفنية والفلسفية العلمية بين مختلف الجنسيات والثقافات القديمة، ولا يقلل من هذه الحقيقة انسياق الشعراء وراء بدع العصبيات والمدح والفخر الجاهلي والمجون، فذلك التمرد ( الفني ) والذي يرتبط بالشعر أكثر من غيره ). ( والشعراء يتبعهم الغارون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ). (الشعراء : 224ـ 227).

إن النظرة العامة للشعر العربي القديم باعتبار (أعذبة أكذوبة ). وعلى أساس أن الشعراء يهيمون في كل وادٍ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، وقد جعل المؤرخين والكتاب يتقبلون مصطلح (الأدب العربي ) باقتناع ورضى، ولو أنهم استمسكوا بالآداب والقواعد التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم لشعراء الدعوة الإسلامية، حين أقام للشعر في المسجد منبراً، وحينما طلب منهم أن يجابهوا الشرك وأعداء الإسلام، لو أنهم فعلوا ذلك لما حدث الانفصال بين والشعر والدين بعد العصر الأول، ولما انعزل هؤلاء الإسلاميون من الشعراء في مواقعهم الخاصة، بعيدة عن انهيار الشعر وجنوحه إلى الانحراف والنفاق والتكسب، وبيع الكلمة في سوق الرقيق.

والأدب الإسلامي بداهة لا يرتبط بعصر دون عصر، إنما هو أدب كل العصر، لكن مفهومه الواضح المتصل بالعقيدة، يتشكل تبعاً لأحداث التطور، وترادف الإبداعات المتجددة، ونحن نرى المذاهب الأدبية الغربية نفسها ترتدي أثواباً جديدة من وقت لآخر، فالكلاسيكية القديمة اتخذت عند عصر البعث الأوروبي شكل الكلاسيكية الحديثة، كذلك تعددت (الواقعية )، وأصبح لها عشرات الأسماء والمفاهيم (والرمزية ) تتوعت، بل إن أدباء المذهب الواحد، في العصر الواحد، كانوا أنماطاً متمايزة ولم يتقوقعوا في قوالب محددة جامدة من صنع المذهب.

نقول: لم يغب المنهج الإسلامي عن الأدب العربي في مختلف العصور، فإذا ما تفحصنا كتابات أديب رائد مجدد (كالجاحظ ) نلاحظ أنه يحدد أهم وظيفة للأدب، وهي (إصلاح العالم، والمساهمة في تكوين الفرد تكويناً جديدا ً) وهذا التصور في معناه العام لا يختلف عما قاله الروائي السينمائي المعاصر (إنمار برجمان ) ـ (مهمة الفن إعادة تشكيل الحياة ).

ويقول الجاحظ أيضاً: (لكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء.. إن غاية البيان وعلم الجمال هو الفهم والإفهام ) وحينما يتحدث الجاحظ عن أحسن الكلام يقول:

(هو الذي يصنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة ) ويرى الجاحظ أيضاً أن الحداثة لا تتعلق دون آخر، لأنها لا تتعلق بالرمز بقدر ما تتعلق وقدرته على التأثير.. فالصياغة هي الجديدة وهي الحداثة، لأن المعاني موجودة فعلاً من قبل.

الأدب الإسلامي إذن لإفراز طبيعي لمجتمع مسلم، والذين يعارضون هذا التصور يهدرون الأصول والبديهات والوقائع التاريخية، ويتجاهلون التجارب الإنسانية الوفيرة، ويجعلون الفنون منبتة الصلة بتربتها وبيئتها وينابيعها الفكرية والدينية، ويخلعوها عنها صفة التعبير الصادق، وينزعون أواصرها التي تعطيها نموها وجمالها وـأثيرها، وإلا فأتوا إلينا بأدب لم يصدر عن منطلقات إنسانية عاطفية وفكراً وموقفاً، بصرف النظر عن ماهية هذه العاطفة، أو طبيعة هذا الفكر، أو كنه ذلك المؤلف .

كل ما أريد أن أخلص إليه في هذا الموقع هو أن نضع حداً لهذا الجدل الصاخب حول المشروعية الأدبية لمصطلح (الأدب الإسلامي )، وأن ينطلق الأباء الإسلاميون نحو غايتهم الواضحة، وفق برامج متفوقة، ووعي صادق، وأن يهتموا بتأصيل القيم الجمالية، ومضامينهم الفكرية الأصلية، لأن التجربة هي ساحة الامتحان الحقيقي، والنجاح الحق يفرضون وجوده، ويفسح للأديب مكاناً لائقاً في دنيا الكلمة، ويجعله شريكاً ـ بل رائداً ـ في بناء الإنسان والمجتمع الجديد، وهو في الوقت نفسه، يرتفع بالأذواق، ويسمو بالروح، ويحيى الوجدان، ويقوم اعوجاج النفس، ويتصدى للهجمة الشرسة التي تريد أن تعصف بمقومات وجودنا كله.

والأدب الإسلامي وثيق الصلة بالصحوة الإسلامية المعاصرة في مجالات التشريع والسياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام، وقيام هذا الأدب بمهامه يعتبر أمراً حيوياً لتجنب العثرات، واستمرار المسيرة، والتمهيد لغد أفضل، وحشد الطاقات لصنع التغير والتمهيد لغد أفضل، وحشد الطاقات لصنع التغيير المرتقب، وبدون الأدب الإسلامي نكون قد أهملنا سلاحاً فعالاً من أهم أسلحة المعركة .

يوسف مراد
01-15-2005, 03:39 PM
البطل في الأدب الإسلامي
البطل في العمل الأدبي ـ قصة أو مسرحية أو ملحمةـ هو تجسيد لمعانٍ معينة، أو رمز لدور ما من أدوار الحياة وخاصة الهامة منها، وقد يكون هذا البطل أنموذجاً يحتذى، أو مثالاً سيئاً يولد النفور والاشمئزاز، وهو في كلا الحالين ذو تأثير إيجابي قبولاً أو رفضاً، وكلما كانت الشخصية ـ البطل ـ قريبة من الواقع، حافلة بعناصر الإقناع، مكتملة الملامح والسمات، أصبحت أكثر جاذبية وأعمق تأثيراً.

ولشخصية البطل مواصفات بدنية ونفسية وعقلية، كما أنه يرتبط بسلوكيات في الأفعال والأقوال والقيم، تجعله أكثر تحديداً وظهوراً، ولا ينفي ذلك التصور أن تخضع هذه الشخصية لمؤثرات وعوامل ومواقف تغير من تصرفاتها، وعواطفها وأفكارها وأحلامها، وتطورها من حال إلى حال، وقد تصاب هذه الشخصية ـ لأسباب فنية أو موضوعية ـ بالتجمد أو التحجر.

وترتبط شخصية البطل ـ وخاصة في المسرحية ـ بمظاهر خارجية لها دلالاتها كالملبس والحركة والصوت ورد الفعل وغير ذلك من الأمور الواضحة التي تبدو للعيان، وهذه كلها ـ في كثير من المواقف ـ جزء لا يتجزأ من تلك الشخصية.

وتختلف سمات الأبطال في الآداب العالمية قديماً وحديثاً من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى آخر، لأن الظروف التاريخية والجغرافية أو البيئة، تساهم في بلورة الشخصية وتعطيها أبعاداً داخلية وخارجية متميزة، كما تتغير المهمة المنوطة بالبطل وفق الكثير من التصورات العقائدية والنظرة إلى طبيعة الحياة وما يجري فيها من أحداث، وما يناط بالمرء فيها من عمل، وطرائق كسب العيش، والانهماك في قضايا عديدة تتعلق بالحرب أو السياسية أو الاقتصاد أو العمل اليومي وغير ذلك.

وكانت الترجيديات الإغريقية تختار بطلها من الملوك والأمراء والقادة الكبار، بينما الواقعيات الحديثة بالإنسان العادي البطل، الذي يصارع من أجل حياة أفضل، وكان المثال ـ البطل ـ الإغريقي يصارع قوى الشر وآلهة الأولمبي ، وفق قناعات وثنية مادية، بينما المثال في الواقعية الاشتراكية مثلاً ينازل التمايز الطبقي، والاستغلال الرأسمالي،في جو من الأحقاد والحزازات وسوء الظن، طبقاً لفلسفة معينة تستند إلى ما يسمى بحتمية الصراع الطبقي، وانتصار طبقة بعينها هي طبقة البروليتاريا.

ويتميز البطل (الوجودي ) بحساسية مفرطة، ووعي عقلي فلسفي يبدو جليا في تصرفاته وأحكامه وسلوكه، كما يبدو في رفضه الكامل لكل المسلمات القديمة ـ صحيحها وباطلها ـ وينفر من القيم الدينية وأخلاقية، ويظن أن هذه أنما جاءت لتكبل إرادة الإنسان، وتهدم حريته التي تعتبر أهم قيمة في وجوده، ولذلك جاء البطل متمرداً رافضاً ساخطاً على كل شيء في الحياة القائمة.

وفي هذا الجو أيضاً ولد البطل العبثي الذي لم يجد في الحقيقة قيمة يتشبث بها حسبما صور له وهمه، فلا هو نعم بالإيمان الموروث، ولا هو ابتدع بناء خلقياً جديداً، بل لم يجد أي جدوى من هذا أو ذاك، فانطلق دون وعي أو منهج، واعتبر اللا فلسفة، وكيف لا يفعل ذلك وهو يرى أن العشوائية والفوضى تسود كل ما في الوجود، وأن الموت قادم لا محالة، وأنه ليس وراء الموت شيء، هذا الخلاص المزعوم جعله يتخبط ويمارس حياته في طيش وجنون، بعد أن عطَّل وظيفة الضمير ، وأغلق قلبه وعقله عن فهم الحياة على وجه صحيح.

وكفر البطل الرومانسي بالعقل، وتشبث بحرقه العواطف وتهويماتها، وأخذ يتغنى بحرمانه وعذابه وأساة، واستعذب ذلك التوهم، وغرق في بحوره العاصفة، دون أن يحاول الخروج من هذا الكابوس الرهيب.

وكان البطل في إطار المادية والفرويدية والطبيعية وليداً والطبيعية وليداً للتقدم المادي الخارق في مجالات العلم والصناعة والتقنية، فهذا البطل لا يؤمن إلا بما يراه ويحسه ويسمعه أو يتذوقه، وليس وراء عالم الحواس شيء آخر، ولم يعد للجانب الروحي أو المينا فزيقي في الإنسان قيمة يعترف بها علميا، مادام خارج التصور المادي للحياة، ولا يمكن قياسة بالمقاييس، أو إثباته في أروقة معامل الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والفسيولوجيا وغيرها.

كانت الفلسفة والأدب في القرون الثلاثة ـ أو الأربعة ـ الأخيرة يسيران جنباً إلى جنب، واحتدمت حرارة الحوار، وبالتالي حرارة الصراع بين المدارس المختلفة الفكر والفن، بل في إطار المدرسة الواحدة كانت تخرج تيارات فرعية، تثير من الجدل والصراع في داخل المدرسة الواحدة، أكثر مما تثير مع المدارس الأخرى المخالفة ويكفي أن نشير إلى التيارات والمدارس الفرعية التي تولت عن الواقعية أو الرمزية أو الرومانسية مؤكدة في هذا البحر الهائج من الفلسفات والاتجاهات والتفسيرات، بل أن الدارس أيضا يقف مذهولاً وهو يقرا تاريخ تلك المدارس، وكيف سطعت وترعرعت، ثم كيف أخذت تتمزق وتذبل، ثم كيف يحكم عليها بالخطأ.. بل بالفناء، وقد يكون الأمر مقبولاً بالنسبة لاتجاهات فنية وتتوهج ثم يهال عليها تراب النسيان، أما الفلسفات ـ وهي عادة تقوم على أسس أدق وأعمق ـ فإن الأمر يعتبر غريباً، وخاصةً أن بناتها عرفوا بالتفكير المنهجي، والدقة في البحث، والتأني في الوصول إلى النتائج .

ولم يخل الأمر من وجود تيارات دينية فنية وفكرية في أوربا أباك ذلك الصراع المحتدم، حيث ظهرت فئة من رجال الدين المسيحي تبنوا قيماً دينية واخلاقية، وصاغرها في إطار فلسفي، ونجح منهم فنانون وأدباء في تقديم نماذج قادرة على التصدي والذيوع، لكن الزحف المادي الجديد كان أقوى من أن يتراجع أمام الأدب المسيحي المدافع.

في هذا الجو المشحون بالجنون الفكري والفن، أصبح لشخصية (البطل ) في الآداب الأوروبية الجديدة سمات وملامح تعبر بقوة عن هذه التيارات الصاخبة، التي كانت ومازالت غير قادرة على الرسوخ والصمود، وبدا البطل بصفة عامة عامة ـ كإنسان العصر ـ غريباً، هذه الغربة المحزنة وصمت البطل، وجعلته ساخطاً رافضاً متمرداً، لا يعرف المأنينة والاستقرار، ولا ينعم بالسعادة ولا ينعم أو الحب الحقيقي، إنه يعاني الأوراق والاكتئاب، والوحدة والعجز، عن خواءه الروحي، وإمكاناته المحدودة، وخضوعه لسيطرة الآلة، ودورانه في ساقية المطالب المعيشية الآنية، قد أفرغت كيانه من مقومات القوة وافرادة القادرة على صنع التغيير، وإن فقره العقائدي قد جرده من أهم أسلحة معركة الحياة.. ذلك هو البطل المعاصر في الآداب الأوروبية، بل وفي آداب الشرق التي تقلد وتعيش عالة على التراث العلمي والتكنولوجي والفكري للغرب

بطل يائس، يتغنى بيأسه، ويقدم التراتيل والصلوات المرذولة بطل متمرد رافض، قد تنكر لكل شيء، فمات بين جوانحه الأمل بطل منطوٍ منعزل، تقطعت روابطه بدفء الأخوة والصداقة، فأصبح في التيه وحدة.

بطل هارب إلى الحانات والمراقص والموسيقى المجنونة، يغرق تعاسة في الخمر والمخدات والشذوذ، يمضي مختاراٍ إلى حيث الفناء.

بطل غارق حتى أذنيه في الوهم، يخدعه الساسة، وتخدره الفنون، ويصنعة الإعلام دمية تتحرك حسب الأوهام والأهواء بطل بلا فضيلة.

ولو كان هذا الإنسان مدركاً حقاً لمأساته، راغباً في التخلص منها، لهان الأمر، لكن تراكم الترهات والخداع، واستغلال (العلم ) فيما يُقدم من تحليلات وتفسيرات، قد ذاد الطين بلة، وأكد أن الكارثة باقية، فالبطل لا يعرف أنه مريض ويحتاج إلى علاج، وهكذا تمضي الفنون بالإنسان التعس من متاهة إلى أخرى.

والآن، بعد أن استعرضنا صورة البطل في الآداب المعاصرة، فما هو التصور بالنسبة للبطل في الأدب الإسلامي؟؟

إننا لن نجد صعوبة تذكر في وضع التصور الملائم لذلك، فالبطل ـ إسلامياً ـ هو (القدرة ) أو النموذج أو المثال الحي، الذي تتجسد فيه القيم الإسلامية، هذه ناحية هامة، لكنها لا تغلق الباب أمام (نماذج ) الضعف البشري، أو البطولة الناقصة التي تحتاج إلى تجربة ومعاناة وهي في طريقها إلى النمو والاكتمال، وهذا دور هام لا بد وأن يختفي به الأدب الإسلامي، فما أكثر النماذج الشائهة أو الجانحة أو المنحرفة، وهي طبيعة كل مجتمع قديماً وحديثاً، وشرقاً وغرباً، بل ربما كانت هذه النماذج الناقصة أكثر جاذبية بالنسبة لحامل القلم، لنه يجد فيها مادة خصبة للمعالجة ومحاولة إخضاعها للعديد من العوامل والمؤثرات أو الأحداث حتى تحقق من خلال نموها وتطورها بأسلوب مقنع ليصل إلى المثال المطلوب، أو القدرة المنشودة، لأن مهمة الدعاة ليست قصراً على النماذج الصالحة الطبية وحمايتها من الانزلاق أو المروق فحسب، ولكن المهمة الأكبر تكمن في استنقاذ الجانحين، وإصلاح الفاسدين، وفتح باب الأمل اليائسين أو المترددين، والأخذ بأيدي التائهين إلى طريق الحق والخير والجمال.. البطل في العمل الأدبي الإسلامي هذا.. وذاك.. لأن الخروج من المأزق بطولة، وكذلك التخلص من سلبيات السلوك، وهواجس الضعف، الضعف، وإغراءات الحياة الزائفة، والانتقال من حال متردية إلى حال متسامية، والخروج من السلبية إلى الإيجابية، والتخلص من أدران الشك والخوف والتسيب، والقدرة على بدء حياة نقية جديدة.. كل هذا يعتبر ضرباً من البطولة، الجديرة بالإبراز والتمجيد لأنه يعني انتصار الخير على الشر في قلب الإنسان أولاً، وفي معترك الحياة ثانياً، ومن هنا كانت التوبة التي أنعم الله بها على المسلم، وجعلها باباً مفتوحاً حتى نهاية الحياة.

والبطل في الأدب الإسلامي حكراً على طبقة اجتماعية دون أخرى، فالإسلام مجتمع متجانس، أساس التفاصيل فيه (..إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى )، والتقوى ليست صلاة وصوماً وعبادة فحسب، ولكنها جهاد في سبيل الله، وكفاح من أجل لقمة العيش، ودأب على تحصيل العلم، وبراعة في الصناعة، وصدق في القول والعمل، وتكافل اجتماعي، وإبداع فكري، وزارعة وتجارة، وقيادة وجندية وأمانة وعدل ووفاء، وطهر، ونقاء ، وبر وتسامح، إنها ملتقى لكل القيم والمبادئ والآداب التي بها الإسلام الحنيف .

شخصية البطل إذن قد تكون (بلال بن رباح ) العبد الحبشي، وقد تكون (أبو بكر الصديق ) خليفة المسلمين، وقد تكون (سلمان الفارسي ) أو (حمزة بن عبد المطلب ) القرشي، وقد تكون (سمية) زوجة ياسر أو رفيدة أو غيرها من النساء، وقد يكون فتى يافعاً، أو شيخاً مسناً .

إن البطل ـ كما قلنا ـ تجسيد لفكرة يرى الكاتب إبرازها، لتؤدي دوراً تمتزج فيه المتعة لدى لفكري يرى المتلقي، فيتفاعل معها ويتأثر بها، ومن ثم تتولد لدى ذلك المتلقي قناعات بعينها، قد تدفعه إلى اتخاذ موقف، وهذا التأثير واسع الآفاق، رحب المدى، فقد ينمو ويتسع أكثر مما في شخصية البطل، وهذا راجع إلى عاملين أساسيين: أولهما قدرة الكاتب على الوفاء بمقتضيات الفن والفكر، بحيث لا يحد من رؤية المتلقي، ولكن يدفعه إلى مزيد من التفاعل والتفكير فيخرج بإضافات وتخيلات وابتكارات، تجعل الرؤية أكثر عمقاً وشمولاً، وكأن المتلقي في هذه الحالة يتحول ـ تلقائياً ـ إلى امتداد طبيعي لفكرة الكاتب وتصوراته المتنامية المتفاعلة، أما العامل الثاني فهو اندماج المتلقي مع العمل الأدبي، وتقبله له بحساسية ورضى صادق، ولا شك أن اكتمال هذه الدائرة يحقق الهدف الأسمى من الأدب، فالأدب الإسلامي بالضرورة قوة فاعلة، مغيرة إلى الأفضل، وإلا تكون وظيفته إذن؟؟

لكن كيف يبتكر الكاتب شخصية البطل ؟؟

إن الكاتب لا ينتخب الشخصية عشوائياً، كما أنه لا يسطر كلماته من فراغ، قد يلتقط الكاتب من الحياة شخصية جذبت انتباهه بقوتها أو نقائها أو صمودها أمام العواصف والأنواء، أو تمردها على الشر والباطل، أو جهاد في سبيل الحق والخير، أو استمساكها بقيم الحب والفضيلة، أو تضحياتها الملفتة للنظر، فيرى الكاتب أن هذه الشخصية الحقيقة تستطيع أن تؤدي دوراً أخاذاً في عمل أدبي، وأن تبلور فكرة أو سلوكاً أو قضية من القضايا، فيبدأ في تطويعها لعملة الأدبي..

لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، لأن الكاتب لا ينقل الحياة أو الشخصية كما هي بأسلوب فوتوغرافي، إنه يضيف إلى تلك الشخصية لمسات وظلالاً وسمات جديدة، ويحشد لها الأحاديث المناسبة، ويتخيل الحوار المناسب، ويدخل بها ومعها في وقائع وممارسات متخيلة تكشف عن دخيلة الشخصية وتفسر حركتها وفكرها، المهم أن الكاتب قد يحذف وقد يضيف، حتى يستوي أمامه النموذج الذي يريد، وهكذا نرى أن شخصية البطل ليست صورة طبق الأصل من الواقع ولكنها كائن حي جديد تكاملت لديه المواصفات والأسباب التي تجعله قادراً على أداء دوره، وفي هذه النقطة بالذات تتفاوت القدرات الإبداعية من كاتب إلى آخر، ويتميز نتاج كاتب عن آخر، إنها الخصوصية، وهنا يحضرني ما قاله الأديب الكبير نجيب محفوظ في أحد أحاديثه الصحفية: (الشكل فيما أعتقد هو كيف يمكنك أن تبرز أسلوبك الشخصي في العمل الأدبي أو الفني، قد استفيد مثلاً من المؤرخين، لكن لا يصح أن يغيب أسلوبي .. إن التطور الطبيعي للأدب يستفيد من الأدب السابق، سواء أكان امتداداً له أم تطورياً، لكن ما الذي يضيفه الكاتب؛ الكاتب يضيف نفسه إلى الرواية.. فالجديد الفنان نفسه.. والفنان بالطبع هو عصره.. )

وهناك أدباء لا تكون شخصية البطل هي البداية، ولكنهم يبدأون بالفكرة، إن أدبياً مثل (برنارد شو ) يهتم بالفكرة أشد الاهتمام (الفكرة لديه هي البطل الحقيقي ) فإذا ما اكتملت الفكرة في ذهنه، بحث عن النموذج الإنساني الذي يتلبس بهذه الفكرة، ويتحرك في نطاقها وبتأثير منها، وهكذا تأتي ردود الأفعال مرتبطة بالفكر أكثر من ارتباطها بالبطل، إنه بلا شك يحاول أن يحافظ على (وضع ) الشخصية وإمكاناتها وتحركاتها، لكننا نلمح الفكر وراء كل حركة أو حوار، وقد لا يكتفي المؤلف بذلك، بل يلجأ إلى التعبير المباشر من خلال الحوار في المسرحية أو السرد في القصة أو الصياغة الشعرية في القصيدة أو في الملحمة، وعلى الرغم من اختلاف النقاد حول مشروعية ذلك التصرف في الأعمال الفنية، إلا أنه حقيقة واقعة، وبعضهم يتحمس لها، وخاصة أصحاب المذاهب والأفكار التي يروجون لها على حساب جزء من الصياغة الفنية .

ويرى بعض كتاب القصة والمسرحية في العمل الأدبي قد تتمرد!! كيف ؟؟ إن الكاتب يضع تصوراً عاماً عن الشخصية التي التقطها من الحياة، وأضاف إليها أو حذف منها لكن اندماجه في العمل ، ومسرحية في جنبات الرؤية التي يعايشها خيالاً، قد تجعله يخرج عن الخط المرسوم للشخصية فيضيف سمة أو عملاً أو قولاً لم يكن في الحسبان، ولم يخطر بباله قبل، لكن الأمر لا يبدو على هذه الصورة الحتمية في الواقع، لأن يقظه الكاتب، واستيعابه لأطراف القضية المطروحة قادراً على اتخاذ الموقف المناسب، أما الفئة الأخرى من الكتاب الذين يضيقون عادة بالالتزام فهم أكثر استسلاماً للتلقائية والعفوية في رسم الشخصية وتحريكها.

ويتساءل بعضهم عن مدى حرية الكاتب في تناول شخصية البطل التاريخي، هل يستطيع أن يضيف أو يحذف، وخاصة بالنسبة للشخصيات التي اكتسبت نوعاً من القداسة أو التبجيل على مدار الحقب

إن الكاتب إذا التزم حرفياً بما جاء في كتب التاريخ ، فلن يقدم عملاً فنياً، بل سيكون ما طرحه مجرد عرض تاريخي، وهو أدخل في باب العلوم، منه في باب الفنون، وهناك أمور تقتضيها القصة بمعناها الفني منها النوازع النفسية، والترجمة عنها في أعمال أو أقوال، وهناك المواقف الناقصة فنياً والتي تحتاج إلى استكمال، وهناك عوامل القوة والضعف التي قد تعتري الإنسان العادي، أو البشر بصفة عامة، وهناك نمو الحدث وما يتطلبه من صنعه قد تجر إلى الإطالة أو الإيجاز، وأمور أخرى كثيرة لا مجال لشرحها بالتفصيل، ويجد فيها الكاتب معاناة شخصية لا يستطيع أن يدركها على حقيقتها غيره، إنها مشكلة بالفعل، لكن بالتفكير الواقعي قد نجد لها بعض الحلول فإذا ما تناول الكاتب شخصية مثل صلاح الدين الأيوبي مثلاً، فلا بد أن يكون قد درسها دراسة مستفيضة وألم بأبعادها، وعرف القيم والمبادئ التي شكلتها، والسلوكيات التي يتصف بها، ومواقفه المختلفة أمام الأحداث أمام الأحداث المتنوعة، وطريقة تعامله وعلاقاته مع الآخرين، ومنهجية في الحرب والسلم والسياسة، وغير ذلك مما يتصل بشخصيته اتصالاً وثيقاً، إن فهم الشخصية على هذا النحو يمد الكاتب بتصور سليم، ومن ثم يستطيع أن يضع الحوار، ويرسم الحركة، ويصف السلوك، ويتغلغل إلى النفس، وفق ذلك التصور الذي اقتنع به عن هذه الشخصية المعروفة، لكن يظل (الخطر ) ماثلاً بالنسبة لبعض الكتاب الذين تنقصهم الجدية في الدرس، والأمانة في الطرح، والنبل في الغاية أو الهدف، والاستمساك بالمبادئ .

ولقد عانيت من هذه المشكلة حينما كنت أكتب رواية (عمر يظهر في القدس ) ورواية

(قاتل حمزة ) وكذلك رواية (نور الله ) وغيرها، لكني كنت حريصاً أشد الحرص على ألا تأتي الشخصية الروائية بأفعال أو أقوال تتناقض مع طبيعة الشخصية التاريخية، ولم أجد في تقرير لجنة مسابقة مجمع اللغة العربية التي أعطت جائزة الروائية لقاتل حمزة (1972 ) ما يشير إلى اعتراض اللجنة على منهجي في كتابة هذه القصة التاريخية، وخاصة أن شيخ الأزهر آنذاك كان عضواً باللجنة .. وبالطبع فإن هذه (الرخصة المقترحة ) إن صح التعبير لا تنطبق فيما نكتبه على الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين.

ولا بد أن نشير إلى الشخصية الواقعية ـ سواء كانت منتجة من الواقع المعاصر أو الواقع التاريخي ـ تكون لها جاذبيتها، أما الشخصيات التي صنعت من الوهم أو الخيال المحض واتسمت بسمات وهمية تبدو عادة غير مقنعة وغير مقبول، حتى على مستوى الأطفال، الذين اصحبوا أكثر ميلاً للواقع في هذا العصر، نتيجة للتطورات ووسائل الإعلام المذهلة ولكن تظل قدرة الفنان على رسم الشخصية، ومدها بوسائل الإقناع، وهو ضرب من الصدق الفني يظل المعمول والمحك في النجاح أو الفشل.

لقد استطاعت آداب الغرب أن تضفي على الشخصيات العليلة المنطوية المتردية بطولة وبريقاً، فأفسدت فكر وأذواق الأجيال، لأنها أفسدت معنى البطولة، ألحقت به التشويه، فلم يعد يرى الناس في هذا التشويه إلا جمالاً ومثالاً احتذى، ودور الأدب الإسلامي ـ وفق منظوره الإلهي ـ أن يضع الأمور في حجمها الصحيح، وأن ينفي الزيف والخرق عن شخصيات البطولة، بحيث تصبح عامل بناء لا هدم، وهذا يعني بالطبع العودة بالأدب الإنساني إلى رسالته الصحيحة، البطل العليل المختل فكرياً ونفسياً وسلوكياً أصبح ينتزع في الغرب التصفيق ولإعجاب والتعاطف.. ويبدو أن عدوى ذلك التصور السقيم تزحف إلى أمم الشرق المسلمة اليوم مع فيروس (الإيدز ) ذلك الداء اللعين .

يوسف مراد
01-15-2005, 03:41 PM
أخطار تهدد الأدب الإسلامي
مما سبق يمكننا أن نتبين أهم الأخطار التي تواجه الأدب الإسلامي، وهي أخطار ليست بسيطة ولا يمكن تجاهلها، والتصدي لها لا يكون بالحماس المجرد، أو النوايا الطيبة فقط، ولكن بالفهم العميق لما تمثله تلك الأخطار من تيارات، وخاصة بعد أن تغلغلت في البنية الأدبية لشعوب العالم العربي خاصة، والإسلامي عامة، بل وأصبح لمن يحملون راياتها مكانة الأستاذية والقيادة، وقد حدث هذا الخلل لأسباب عدة، منها أننا ـ كإسلاميين ـ لم نعط الأمر حقه من الاهتمام ، ولم ندرك أبعاد الآثار الفعالة للأدب بصورة صحيحة، فأغفلنا سلاحاً من أهم الأسلحة في المعركة، ومنها عدم الحرص على بسط مفهوم الأدب الإسلامي وإشاعته، وعدم تقديم نماذج كافية مقنعة منه، وإغفال الجوانب النقدية وفق المنظور الحديث، وجهود النقاد في أنحاء العالم، كما لا نستطيع أن نغفل أيضاً الظروف السيئة التي كبلت حركة الأمة الإسلامية داخلياً وخارجياً وضياع الحرية في الممارسات الحياتية، لكن أخطر العوامل التي عطلت مسيرتنا كانت نابعة من تلك الفلسفات الحارة أو الجانحة التي غزت عالمنا، واستطاعت أن تخطف أبصاره وتوازنه ببريقها وصيغها الساحرة الفاتنة.

ومن البديهي أن تعرف عدوك، كي تحكم له أو عليه، ولكي تستطيع تجنب ما يسدده إليك من سهام قاتلة، وتنتخب الأسلوب الأمثل لردعه أو رده على عقبيه، وسوف نحاول في الصفحات التالية أن نشير إلى أهم التيارات التي يجب التنبه إليها والحرص منها.

اللا معقــــــول
لقد أكد (مالرو ) على أن العبثية تسيطر على اللحظات الجوهرية في حياة الأوربي،أي ذات سمة أوربية ترتبط بزمان ومكان وطبيعة خاصة، كما أشار (تاينن ) إلى أن رنة اليأس المتميز تشيع في نبرة العبثيين، ولقد استطاع بعضهم أن يلخص مأساة العبثية أو اللا معقول في جملة صغيرة حينما قال: (وجوب غياب الإله، لكي يوجد اللامعقول )، والمعنى القاموسي لكلمة (لا معقول ): غير منسجم مع العقل أو اللياقة = أو التضاد مع العقل = أو مضحك أو سخيف، وفي قاموس المسرح جاء عن اللامعقول مانصه:

(مصطلح يطلق على جماعة من الدراميين في حقبة 1950 لم يعدوا أنفسهم مدرسة، ولكن يبدو أنهم كانوا يشتركون في مواقف بعينها نحو (ورطة ) الإنسان في الكون .. وتشخيص الدراسة التي قدمها الوجودي (البير كامي ) مصير الإنسانية على أنه انعدام هدف، في وجود غير منسجم مع ما حوله .. والوعي بهذا العوز للهدف في جميع ما نفعل، يؤدي إلى حالة الكرب الميتا فيزيقي (الماوراء طبيعي )، وذلك هو الموضوع الرئيس لدى كتاب مسرح اللامعقول مثل (بيكيت ) و (أو نيسكو ) و(بنتر ) وغيرهم، وبحلول عام 1962 استنفدت الحركة قوتها، برغم أن آثارها في تحرير المسرح التقليدي ما تزال ماثلة(1) .

لقد جعلوا من المسرح مركز تجمع لصراع الخيال البشري السقيم الدائم ضد القناعة الدينية، وعدم الاكتراث الأخلاقي والانعزالية الاجتماعية، وهذا نابع من إيمانهم بأن الشقاء دائم، وأن العالم كابوس وجودي، يغيب عنه العقل والسماح والأمل، ولهذا نرى مسرحهم ينطق بالآتي:
ـ خيبة الأمل. ـ ضياع اليقين.
ـ انعدام المعنى في الحياة. ـ ضياع المثل العليا.
ـ غياب أي تفريق واضح بين الوهم والحقيقة.
ـ التهريج والهراء اللفظي.
ـ تغليب عناصر الحكاية المجازية.
ـ الاهتمام بموضوعات الموت والعزلة والتغريب والرؤية الفردية للعالم، والقلق والخيبة، والشعور تجاه غياب الحلول، بعد أن رفضوا الأنظمة القائمة والأديان والفلسفات التقليدية (1).

ولقد حاول المحللون دراسة هذه الظاهرة في الأدب والفكر، فعزوها إلى طبيعة الحياة الآلية الجافة في الغرب، واضطرار الإنسان لأن يركع أمام الحاجة، ويستسلم لسلطان الآلة وحركتها المنضبطة بلا عواطف أو شعور، بل استطاعت الآلة أن تتبوأ مكانة أسمى وأهم من مكانة الإنسان في عالم الصناعة الرهيب، مما دفع بالإنسان يتساءل عن قيمة وجوده، في هذا العالم الآلي المادي الذي لا يحفل بالأرقام والإنتاج والوفرة وتحقيق الربح، والنمو السريع، والانتصار في معركة المنافسة الضاربة.. لم يعد الإنسان مخلوقاً مكرماً مشرفاً، بل أصبح جسداً وعملاً وطعاماً ومخلفات، وأصبحت الساعة (الزمن ) تحدد حركاته وسكناته، حتى أصبح يعتبر الزمن قوة تدمير هائلة بخالقه، وفقد التواصل مع الآخرين، أن يرتمي في أحضان العزلة والتغريب، ويلوك الأسى والشقاء، ويفسر أحد الدارسين آراء ألبير كامي بقوله: (إن كان في الحياة خطيئة، فهي ليست في اليأس من الحياة، قدر ما هي الأمل في حياة أخرى.. ) أي أن الخطيئة في رأيه هي الإيمان بالعالم الآخر، وهي محاولة منه لقتل الأمل نهائياً في نفوس التعساء والمعذبين والمقهورين في عالم المدنية الأوروبية الحديثة.

ومع ذلك فإن الأدب المسرحي في اللامعقول لا يجادل بل يعرض فقط تلك التصورات المريضة، والكوابيس المخيفة، والهرطقات المحزنة، ولم لا وقد أصبح الإنسان بلا هدف، أصبح (شيئاً ) بعد أن كان (كائناً ) ـ حسب قولهم ـ وأصبحت اللغة أيضاً شيئاً ميتاً، يحد من التواصل، ويؤكد العزلة.

لقد حدث العالم والفلسفة في أوروبا فراغاً هائلاً، وانعكس ذلك على فكر الإنسان وسلوكه وعلى الآداب التي يفزها، تلك الآداب التي لا تحمل رسالة واضحة يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، ولا تقدم شخصيات تحب أو تكره فضلاً عما يلتصق بأدب اللامعقول من فقر في الأفكار، وملل في التكرار، ولهذا نرى أن المنصفين من مفكري الغرب يقولون : إنَّ العبثية لا يمكن الدفاع عنها ، في عالم تثبت الأرقام أن غالبية سكانه يعتقدون بدياتة تجعل الحياة ذات نظام وهدف ومع الكفر بالله عند العبثيين غالباً إلاَّ أن عبثية (بيكيت ) و(كافكا ) تدرك أن الحياة البشرية بدون الإيمان با لله تواجهه الخيبة، ومع ذلك فإنهما ـ عدا هذه النقطة ـ يدمرون اٍلكثير م ن القيم الخلاقة المتألقة التي جاء بها رسل الله وأنبياؤه، ولهذا يقول (مار وفتز ): (اللامعقول مرادف للتافه والمضطرب ) ويقول آخر: (إنها مرادف لكلمة الفوضى ).
لكن هل نقول(اللامعقول ) عندما نتحدث عن الأدب.ونقول (العبثية ) عندما نتحدث عن الفلسفة.. أي أنهما وجهان لعملة واحدة..؟؟
ثم إن هذه وتلك تتداخلان مع الوجودية، برغم وجود بعض الاختلافات، ولم لا ونحن نرى كتاباً مثل (البير كامي ) وجوديَّا وعبثياً في الوقت نفسه، وإن غلبت عليه الصفة الأولى، والأمر غاية في البساطة، لأن الحدود القاطعة بين مذهب وآخر لا وجود لها، بل إن أصحاب المذهب الواحد ـ كما قلنا ـ قد يختلفون أشد الاختلاف في الرؤية والتفسير والتعبير.
بقي أن نمعن النظر في تلك العبارة الهامة التي قالها أحد الأوروبيين:

(إنَّ المرض يستشري نحو الشرق ).
وهذا ما ألمحنا إليه في بداية هذا الفصل، إن التحذير من الغزو الثقافي يجعل بعض المتحررين وأدعياء التطور والحداثة، ويرفعون عقيرتهم منددين معترضين وينكرون كلية مقولة الغزو الثقافي والفكري، ويفلسفون ذلك بأن عالم اليوم أصبح وحدة واحدة، بعد أن ذابت الحدود إزاء التطور الإعلامي الهائل، وأننا في حاجة إلى كل جديد، وأن معاداة التيارات الفكرية الغربية جمود ورجعية، أليس غريباً أن نسمع هذا القول من أخوة يعيشون بيننا في الوقت الذي يحذرنا فيه الأوروبيون المنصفون من ذلك (المرض الذي يستشري نحو الشرق )؟ أليس مرضاً أن يقول سارتر: (الإنسان عندما يقبل فكرة الحرية، لا تعود الآلهة قادرة على التدخل ) في شأنه ؟؟ أليس مرضاً أيضاً أن يقول: (اللغة والعالم منفصلاً دونما أمل في رجعه، ولا يمكن تجنب هذا الانفصال، إلاّ بوضع الكاتب في وضع متطرف )؟؟.
\ثم ما هذا التناقض بين القول وآخره ؟؟
إن العقيدة الإسلامية، وما يصاحبها من قيم وتشريعات وآداب، ومنهجها الإلهي القويم قد استجابت للفطرة السلمية، وأعطت تصوراً واضحاً للإنسان وماهيته وطبيعة تكوينه وسلوكه، ثم مختلف نوازعه وأهوائه، ورسمت الخطوط العامة لعلاقاته المتعددة الجوانب والنواحي، فالحرية مكفولة تماماً لهذا الإنسان الذي كرَّمه الله، وبين له سبحانه وتعالى طريق الخير وطريق الشر (وهديناه النجدين ) (البلد:10)، وعلَّمه أن الحياة دائب، وصراع مع الشيطان مع الشر، وزوَّده بالأسلحة التي يمكنه أن ينتصر بها في هذه المعركة الحاسمة، وأكد لعبده أن النصر له ما استمسك بكتابه وسنة نبيه:

• ( … حقاً علينا نصر المؤمنين ) (الروم: 47)
• (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان.. ) ( الإسراء :65) .
• ( إن تنصرو الله ينصركم ويثبت أقدامكم.. ) (محمد:7)
• (.. استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.. ) (الأنفال: 24)
• (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين .. ) (يوسف:108)
• (وما خلقت الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدون، ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يُطعمون. إن الله هُو الرزاق ذو القوة المتين ) (الذاريات: 56 ـ 57 ـ 58)
• (قُل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) (الأنعام: 162).
• (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) (البقرة: 186)
• (إنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، ابشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم، ولكم فيها ما تدعون. نُزلاً من غفور رحيم. ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين . ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . وما يُلقاها إلا الذين صبروا ، و يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم . .) (فصلت: 30 ـ 35)
• (ولقد كرمنا بني آدم .. ) ( الإسراء: 70).

وتلك بعض الآيات ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ لم أهدف إلى شرحها، فليس هذا مجاله، ولكني أردت أن أؤكِّد أن منطلقاتنا العقائدية أو الفكرية، قد حمتنا من براثن السقوط في متاهات الخوف والعزلة، واليأس والكفر، ولم تدفع بنا إلى رذيلة الوثنيات القديمة والحديثة في تحدي الله والقدر (حاشا لله )، ولم تجعل من الموت كابوساً مزعجاً، ولا حجة للهروب من الحياة والجهاد الأعظم فيها، ولم تنظر إلى الدنيا على أنها نهاية المطاف، وهكذا أشاع الإسلام قيم الحب والخير والفضيلة، وأجل الطيبات والاستمتاع بها بالأسلوب الصحيح، وحرَّم الخبائث والشرور والآثام لحماية الفرد والمجتمع، ومجَّد العقل والوعي والنظر إلى الأمور بروّية وحكمة واعتدال، كما أعتبر مشاكل الحياة والناس وما نصطدم به من سلبيات أمر لا بد منه، لكنه أوضح لنا كيف نواجه تلك الأمور المعرفة عن وعي وبصيرة، حتى تتقدم الحياة في طريق النمو والازدهار، وحتى ترفرف رايات الاطمئنان والرضى فوق جميع من يعيشون على هذه الأرض الشاسعة.

وانفصال اللغة عن منحى خطير، بل هو مقولة ساذجة، ولو أن هذا الانفصال دون رجعة كما يزعم (سارتر )، لما أفصحت كلماته عن فكره، ولما تلقى الجمهور مسرحياته وقصصه وانفعل بها أو وأنكرها، ولما أثارت ذلك الجو العاصف من اللغط والجدل، ولما استطاعت اللغة أن تترجم قوانين العصر العلمية، وتعبر عن منجزاته التكنولوجية، نستطيع القول: إن اللغة قد تقصرـ عند هذا أو ذاك ـ في أداء وظيفتها، وقد تعجز عن التعبير الوافي الشافي عمّا يدور في فكر الإنسان ومخيلته ونفسه، وقد تتخلف اللغة عن مواكبة المسيرة الإنسانية في وقت من الأوقات، لكن الجهود الإنسانية النبيلة الصادقة تدأب دائماً، في استكمال النقص، وسد الثغرات، فهو أمر مرتبط بطبيعة الحياة بقدر ما يجد من وقائع، وبطبيعة الناس بقدر ما يلزمهم من تطوير وسرعة في الفهم والاستيعاب، فاللغة لم تنفصل عن العالم دونما رجعة كما يقول سارتر، لم تصبح شيئاً ميتاً كما يزعمون.

إنَّ المشكلة عند هؤلاء المفكرين تكمن في ذلك الخلل الداخلي الذي ابتلوا به، وفي الخلط الأهوج بين الوسائل والغابات، وفي سوء النّية والعداء العجيب الذي ولدوا وعاشوا في ظله، تحت وطأة الحياة الآلية الحديث، وترجع أولاً وأخيراً إلى الخواء الروحي الذي دفعهم للتهكم من القيم، وإنكار العقيدة الدينية.
في وقت الاحتضار تلفت سارتر حوله في قلق وحيرة:
قالوا له:
ـ (أتريد شيئاً ).
وفغروا أفواههم دهشة عندما سمعوه يقول: ـ (أريد قسِّيسا ً).

انزعجت رفيقته الشهير ( سيمون دي بوفوار ) وقالت:
ـ (معنى ذلك أنك تدمر فلسفتك ).
لم يلتفت إلى قولها، ولكنه استطرد:
ـ (لا أريده من باريس.. بل من القرية.. أتفهمون ).
وأصَّر على طلبه في الالتقاء برجل الدين برغم احتجاجهم واعتراضهم.. لقد كانت قضية العبث باللغة ذات أبعاد خطيرة في وطننا العربي، فقد هاجم الكثيرون من فاسدى الفكر والدين قواعد العربية وآدابها وتراثها، وحاولوا التهوين من شأن أسسها، بل وهاجموا قواعد الشعر من قافية ووزن ووضوح، وتلوثت فنون القصة والمسرح والشعر بهرطقات العبثية واللامعقول والوجودية، ووجدت هذه الدعوات الشاذة آذاناً صاغية لدى الذين يعيشون على أرض الإسلام بلا قيم أو جذور، إنَّ الدكتور عبد القادر القط أستاذ الأدب الحديث السابق، ورئيس تحرير مجلة (إبداع ) يعلن في صراحة أنه لا يفهم الكثير مما بعض الأدباء أو الشعراء المحدثين (وهو الأستاذ الشاعر الناقد )، وينشر بعضا منها في مجلته تحت عنوان (تجارب ) لعلَّ أحداً غيره يستطيع أن يفهم أو يستوعب ذلك اللون الغريب من الدب.

(إنَّ اللغة كما يقول أحد نقاد الغرب الكبار ـ هي حقاً ذلك الرباط الفريد الذي يصل الذاتي بالموضوعي.. إن اللغة تصوير كامل للعلاقة الجدلية بين أنفسنا والعالم ) (1).

ونحن كمسلمين لنا باللغة العربية ـ لغة القرآن ـ رباط وثيق، لا تنفصم عراه أبد الدهر، وقد كتب الله لهذه اللغة الخلود لخلود القرآن، ذلك المنبع الإلهي لعقيدتنا وتشريعاتنا وأحكامنا وقيمنا السامية، واللغة العربية فيها من إعجاز وحيوية وثراء لم تتقاعس في عصر من العصور، أو تتخلف عن مواكبة التطور وأداء دورها الخالد في أي وقت من الأوقات.

إن الأدب الإسلامي لا يؤرث ضياع اليقين كما تفعل العبثية، بل يجعل اليقين مناط العقيدة والحياة، والأدب الإسلامي يعلي من شأن الحياة ويمجدها، ويجعلها دار عمل وصلاح وتقوى وجهاد، وهي قنطرة إلى آخر أبقى وأخلد وأروع، وليست الحياة ـ في منظور الأدب الإسلامي ـ وهماً وحلماً مزعجاً وخيبة أمل وغريباً وعزلة، ولكنها مليئة بالحقائق الحية النابضة، مشرفة بالأمل والرجاء، دافئة بالأخوة والصلات الاجتماعية السامية، ومهمة المسلم أن ينير جنباتها المظلمة، وأن يبعث فيها رسالة العدل والخير والحرية والحب، وأن يبذر فيها العطاء والنماء، حتى تتألق بالنعمة والجمال والسعادة.. وعلى المؤمن أن يطرب للقاء الله في نهاية الرحلة، واثقاً أنه ذاهب إلى أعظم جناب..
الأدب الإسلامي ليس أدب يأس وانتحار.
لكنه أدب أمل وحياة.
فرص علينا أن نواجه ذلك (المرض الذي يستشري نحو الشرق ).

يوسف مراد
01-15-2005, 03:42 PM
الأدب الإســــلامي والالتــزام
الالتزام ليس بدعاً في كثير من الآداب العالمية، قديمها وحديثها، حتى أولئك الذين يؤمنون ( بنظرية الفن للفن ) يعملون في نطاق التزام من نوع معين يرتبط بوجهة نظرهم في الفن، وكل مذهب من مذاهب الفن أو الأدب يتحرك في إطار معين، ويلتزم شكلاً وموضوعاً بقيم خاصة، يحرص عليها أشد الحرص ويدافع عنها في استماتة، فالذين يزعمون أنهم يرفضون الالتزام لأنه قيد على حرية الأديب، ومنافٍ للقيم الفنية والجمالية، يلتزمون ـ سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا، واعترفوا به أم لم يعترفوا ـ بقواعد ومبادىء. الالتزام إذن منهج وأسلوب عمل وفق تصور معين، ويمكن القول: بأنه تقيد بمضمون أو بشكل، وهو أمر قديم قديم الفنون والآداب، لكنه لم يف قيداً على النمو والتطور سواء في مجال الإبداع والفكر، وهكذا يجب أن نفهمه، إن الكاتب ـ أي كاتب ـ في أية لغة من اللغات يلتزم بقواعد النحو والصرف مثلاً، ويعرف أن للنثر طريقة، وللشعر أسلوبه، والخلط بين الأثنين قد ينجب مولوداً ثالثاً يجمع بين صفات الشعر والنثر، وقد تغلب على ذلك المولود صفة أحدهما أكثر من الآخر، دون أن يلغي ـ أي الوليد ـ واحداً من الاثنين، وللشعرـ في القواعد المعترف بهاـ إياع وموسيقى برغم الدعوات المشبوهة التي تريد أن تسقط الفارق بين ما هو شعر أو نثر في هذ ه الصفة الهامة، وللـألفاظ دلالالتها التي لا تموت مع الزمن، فدلالة الشجرة أو النهر أو السماء تظل كامنة في اللفظ يعبر عن ذلك، على الرغم من ألوان المجاز والكناية، فالبحر قد يرمز إلى السعة والكرم، وقد يرمز إلى العنف والثورة، وقد يكون محط الغموض والخوف، أو قد تشرق على شاطئه ثغور الأمل، أو تتهادى على صفحة عرائس السفن، وهكذا يبقى اللفظ بدلالالة الأولى، مع ما قد يرمز إليه من عديد المعاني والصور وقديمها أو جديدها، إنه نوع نت الالتزام نحو اللغة بقواعدها ودلالاتها الأصلية، وينفتح باب الالتزام على مصراعيه أمام الدلالات المجازية، التي تشكل جانباً هاماً من جوانب الإبداع الفني.

وهناك ما يمكن أن نسميه الالتزام الداخلي أو الذاتي، وهو الوجه الآخر للصدق، فالتعبير عن النفس وما يعتمل فيها، والفكر وما يتفاعل فيه، والخيال ما يضطرم به، والروح وما ينبث عنها، كلها أمور خاصة قد تميز أدبياً عن آخر، وتجعل من الإبداعات ـ شكلاً ومضموناً ـ تجارب لها صفة الخصوصية، على الرغم من أنها تبدو في إطار النسق العام لهذا اللون الأدبي أو ذلك. فقد يتناول أدبيات حادثة بعينها ـ تاريخية أو معاصرة ـ لكن يكون لكل منهما رؤيته الذاتية، بعينها، دون أن يتناول ذلك بعض الأساسيات في فن القصة أو المسرحية أو القصيدة، فلسوف يظل هناك الحبكة أو الصورة الفنية المتميزة، وسيظل جو المتعة والتأثير، برغم تفاوت القدرات والأساليب، فهل يستطيع منصف أن ينكر ذلك الالتـزام الداخلي أو الذاتي ؟

لكن يدور الجدل عادة حول ما يمكن تسميته (بالالتزام الخارجي ) إن صح التعبير، ففي كل مجتمع قيود أو نظم تم وضعها لتستقيم الحياة، وتتسق العلاقات، وهي أمور قانونية أو اقتصادية أو أخلاقية، وكثيراً ما يثور حولها الجدل، فقد يرى بعضهم فيها، غمطا لحقوق الإنسان، أو كبتاً للحريات، أو جموداً في مجال التطور، وهي على التقيض مما يتصوره واضعوها، والفنان يقف ازاء تلك النظم موقف التأييد، أو موقف الرفض، وقد نرى فريقاً ثالثاً يتحايل على التملص من هذه النظم بأسلوب أو بآخر، لكن يظل الالتزام بها هو الموقف السائد أو الغالب، ويكون ذلك الالتزام أشد كلما تصلبت مواقف السلطة، ولجأت إلى العقوبات الصارمة، واستغلت سلاح المصادرة أو المحاكمة أو التنكيل، وهذا أوضح في النظم الدكتاتورية بالذات، حيث يتحول الأديب ـ برغم أنفه ـ إلى بوق للسلطة التنفيذية، وترجمان لفلسفتها وقناعاتها، وهنا تتضاءل حرية الأديب، ويصبح الالتزام ضرباً من الالزام، ولعل هذا هو السبب الذي حدا ببعض النقاد إلى القول بأن الالتزام ينبع من الداخل، والإلزام يأتي من الخارج، ولكن الأمر يبدو صحيحاً في عمومه، وإن كنا لا نستطيع قبوله على إطلاقه، ففي المجتمعات الدكتاتورية قد نرى أدباء مؤمنين بهذا الأسلوب في الحياة عن عقيدة ويقين، ويعبرون عن قناعتهم تلك بفن يبدو جذاباً مؤثراً، كما نرى في إطار المذاهب المتمردة كالوجودية واللامعقول أدباء ملتزمين بتصوراتهم الفلسفية عن الإنسان والكون والحياة، ويعبرون بذلك عن رضى وقناعة، ويقدمون نماذج أدبية ذات جمال أو جاذبية من نوع خاص، ويحفل شكلها ببريق أخاذ يخدع جماهير عريضة من القراء، وخاصة في أوروبا وأمريكا، إن هؤلاء ملتزمون، ولا يشعرون بأي قيد من قيود الإلزام.. أليس هذا حادثاً ؟ قد نرفض ذلك ونعتبره (التزاماً ) منحرفاً أو مريضاً، ينبو عن المقاييس الإنسانية الرفيعة، ويتعارض مع القيم الدينية السامي ة، لكن الالتزام عند مثل هؤلاء الناس قد يلقى منهم الرفض، وينفرون منه أشد النفور، ولا يقرون بالحري ة وحدها ولا يلتزمون بسواها. لكن ماذا يعني الالتزام في الأدب الإسلامي؟ الألتزام بمعناه الإسلامي الواسع هو (الطاعة ). والطاعة الحقيقية قناعة إيمانية، وفرح في قلب المؤمن، وسلوك مطابق لحقيقة العقيدة وكل ما يتعلق بها، الالتزام إذن عمل، يبدأ بالنية الصادقة، والعزم الذي لا يتزعزع، وينطلق من ممارسات واقعية في مختلف جنبات الحياة، إنه وئام بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الآخرين، وهو يضم تحت جناحيه قيم الحياة الإسلامية وقوانينها أو أحكامها،
وتصورات المؤمن لما يحيط به من كون وسنن، وحيوان وجماد ونبات، ويمتد ذلك التصور ليربط الحياة الدنيا بالآخرة، ومرجع ذلك كله هو كتاب الله وس نة نبيه صلى الله عليه وسلم، والنفس ليست قوة تائهة ضالة، وإن كانت مسرح جهاد دائم، وصراع مستمر، فالصعود دائماً ليس حركة سلبية، والتسامى لا يتحقق دون جهد. وعمل المؤمن اليومي هو جهاد نحو الأفضل، ولا يموت الصراع مادام قوانينه وطرقه، له حلاوته ومراته، وفيها روعة النصر وألم الهزيمة، والأمل باق دائماً، وبالتالي فالمؤمن الحقيقي صاحب موقف.. وفي هذا الموقف لا يكون الإنسان وحيداً حائراً منبت الصلات، كما يحدث لدى العبثين أو الوجوديي ن وغيرهم، لكنه يستند في موقفه إلى رحمة الله وعونه وهدايته (.. ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ( الأنعام: 38) فلا عدوانية إذن ولا غرابة ولا اغتراب، أو يأس أو أو كتئاب.. أو بمعنى آخر الطاعة هي المخرج من صحراء الخوف والآلام والتمزق والضلال (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً.. كتاب الله وسنتي .. ).
الالتزام هنا هو الطاعة، والطاعة تجد النور الذي يهدي، والغاية التي تتألق، والوسيلة التي توصل، والبيان التي تقنع، والتجربة التي تؤكد، واليقين الذي ينداح سعادة كبرى بين الجوانح.. فهل هذا الالتزام داخلي أم خارجي؟
إنه هذا وذاك، بل الأصح أن نقول: إن التصور الإسلامي، يجعل من الاثنين شيئاً واحداً، إنه الكل في واحد، أو وحدة الصفاء والتآلف والتجارب، فما في نفس المؤمن أو قلبه، ينسكب حباً وعدلاً وهداية، ويضيء جنبات الحياة، وما في الوجود من صور وحياة وكائنات، يتحول عبر التأمل الحواس تتداخل مع بصيرة المؤمن فتعطي للوجود كمال وروعته، وتؤكد معنى الإيمان بالله.
والالتزام ـ كما هو واضح ـ التزام مضمون، وهو يقتضي بداهة الحرص على اللغة العربيةـ لغة القرآن ـ فالحرص علىقواعده ودلالاتها الأصلية، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما في كتاب الله من قيم وأحكام ومبادىء، يستوي في هذا الحرص الناطقون بالعربية والناطقون بغيرها في البلدان الإسلامية.
وارتباطنا بأشكال الفنون الأدبية يكون حفاظها على التمييز بين لون وآخر، كما أننا لا ننكر الصلة الوثيقة بين المضمون وما يتطلبه من شكل مناسب، ولهذا نعتقد أن باب التجديد في الأشكال باق ما بقيت الحياة، ولا قيد على هذا التجديد إلا ما أسلفناه من حفاظ على أصالة اللغة العربية وقواعدها، ولا شك أن ثراء اللغة العربية، وإمكاناتها الواسعة، وضوابط قواعدها المذهلة، في الصرف والاشتقاق وغيرهما، تجعلها قادرة تماماً على تقبل الأشكال الجديدة وتطورها،فالأشكال الفنية للعمل الأدبي ميراث عام مشترك جدواها، وتحققت فيها عناصر الجمال، وكانت قوية الأثر في النفس.

والالتزام ليس نقيض الحرية بمعناها الأصيل، إن مفهوم الحرية يختلف من فلسفة إلى أخرى، فالحرية في الدول الشيوعية ترتبط بلقمة العيش، ولا مجال لرأي أو فكر يضاد الفلسفة الماركسية أو يخرج على نظام الدولة، والحرية في أوروبا الغربية وأمريكا وغيرها لها مفهومها في حرية رأس المال، وفي التعبير الفردي مهما أضر بالقيم، أو جانب الطبيعة الإنسانية السوية، ويبقى الإنسان مع ذلك مقهوراً تحت وطأة الحياة الآلية، والعزلة القاتلة، والتمزق الاجتماعي، والتسيب الخلفي، ولا بأس أن يتمرد أو ينتحر أو يغرق نفسه في خضم المخدرات والمسكرات والجنس.. فهذا حقه.. أعني حريته..

وفي الإسلام هناك ضوابط لم يخترعها فرد، وموازين لم ينصفها حاكم بمحض فكرة وإرادته، إن الضوابط والموازين من صنع الخالق جل وعلا، وهي أحكام ليست مجال تحيز أو فتئات أو نزوات، روعيت فيها طبيعة الإنسان وإمكاناته وقدراته النفسية والعقلية والبدنية، أحكام لم تنبع من موقف آني سرعان ما يزول، أو ارتبطت بإنسان خاضع لسنة الموت والحياة، أو تصاعدت من رغبة دون أخرى، أو ارتبطت بقهر الإنسان وتطويعه وإهدار كرامته وإنسانيته، هذه الضواتبط والموازين أو الأحكام هي من صنع الخالق الرحيم العادل ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) غافر: 19، وهي في جملتها وحي (إن هو إلاّ يوحى ) (النجم:4)، والمسلم خاضع لحساب الدنيا ـ وفق الحدود والعقوبات الشرعيةـ ولحساب الآخرة عند من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وحرية المسلم في هذا الإطار، حق القوي والضعيف، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والمالك والأجير، ولك مطلق الحرية في مالك بشرط أن تكتسبه من حلال، وتنقية في حلال، وتعطي كل ذي حق حقه (.. وآتوهم من مالِ الله الذي آتكم ) ( النور:33)

والمعاشرة الجنسية حق في إطار المشروع، والسلطة حق في نطاق العدل الإلهي، والاستمتاع والرفاهية حق دون رذيلة أو وزر أو فساد، وهكذا نستطيع أن نسرد الاحتياجات والطموحات الإنسانية، فنجدها حلالاً طالماً لم تهدر حقوق الله أو العباد.

حرية المسلم مرتبطة بعقيدية، وبالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه.. والالتزام في هذا التصور لا يتضاد مع الحرية الأصلية، فلا هي مفسدة له، ولا هو معطل لها ـ ألم نقل في بداية هذا الحديث: إن الألتزام هو الطاعة، والطاعة موقف، وبالتالي فإن الحرية تصبح من أهم الحقوق للإنسان المؤمن، ورحم الله عمر رضي الله عنه إذ يقول: (كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا ً)، فالحرية دين وفطرة، ويتبلور الموقف في وقفة الصديق رضي الله عنه، حينما يعلن أمام أمته أنه إذا خرج عن إطار الحق الذي رسمه الله سبحانه فإنه (لا طاعة لي عليكم )، إن عدوان الحاكم، وإهداره لمنهج الله، إهدار للحرية وبالتالي فلا تجب الطاعة له..

الالتزام في فكرة المؤمن وقلبه ليس نقيضاً للحرية، فكيف يكون الالتزام الإسلامي نقيضاً للحرية وهي جزء منه؟ والالتزام الإسلامي ليس جموداً وتحنجراً.

وذلك لأنه التزام بالثوابت والأصول التي لا تتغير أبد الدهر، فالتوحيد عقيدة مستقرة لا تغيير فيها، والعبودية وحق، وفروض العبادة لمن وهبك الحياة، وأنعم عليك بمالا يحصى من النعم لا جدال فيها، والشورى أصل من أصول الحكم، والعدل عمادة، والصدق أمانة ـ كما قال أبوبكر رضي الله عنه ـ والكذب خيانة، وهكذا تبقى القيم الخالدة ما بقى الدهر، ويبقى الالتزام بها حفاظاً على الحياة، وحماية لها من الزيغ والفساد والانحرافات والظلم والفتن.

الحرية تكون حقيقة عندما يتحرر الإنسان من قيود الخوف وشهوة المال والجسد، وعندما ينطلق من سجن المادة وبطش السلطة، وأطماع الحياة، وعندما ينتصر على الأنانية المريضة، ويفك عن روحه وفكره وجسده حبائل الشيطان.. تلك هي الحرية.

يقول (بيرك ): (إن الحرية يجب أن تُفيد لكيما تُمتلك ) (1). ويقول آخر: (إن هناك رغبة متنامية في أدب القرن العشرين لاستعادة الدور والمركز الديني في ذلك الزمن، إذ غدت المخاوف والحرية التي تنطوي عليها نظريات الزمن في تطورها مما لا يصمد أمام النفس )(2).

وإذا كان الوجوديون يرفضون ذلك عندما يعلنون أن الحرية لا تبدأ إلاّ بعد إنكار وجود الله، فإنهم لا يشكلون إلا فريقاً زائغاً، بينماالكثيرون غيرهم لا يؤيدون ذلك الموقف، والحرية في الإسلام تكون بدايتها الحقيقة هي الإيمان بالله، على النقيض تماماً مما يتوهمه الوجوديون والماديون (خاصة الماركسيون ) وغيرهم.

الفهم الإسلامي للحرية فهم واقعي منطقي، وإذا لم يكن هذا الفهم مطبقاً في عالمنا، إلاّ أنه القاعدة التي تنطلق منها نظم الحكم الديموقراطية في العالم، على الرغم من تفاوتها في درجة الفهم، وتحويره من جيل إلى جيل، ويبقى التصور الإسلامي للحرية قمة عالية مطهرة، تتألق عليها قيم الحياة والإنسان، لا يعروها وهن، أو تتداولها أهواء ونزوات، أو تنال منها مصالح طبقية أو فئوية مهما كان العذر، ومهما تعددت التفسيرات.

والالتزام ـ في نطاق الحرية الإسلامية ـ لا يضع قيداً على فكر، ولا يعطل مسيرة أي جهد علمي، ولا يصادر إباعاً، إنه تحرير للطاقات الإنسانية كي تؤدي دورها، وتحقق ذاتها، ولا يحد من طبيعة التفاعل اإنساني الخلاق، وإذا كان التفاعل الكيميائي ـ بلغة العلم ـ له اشتراطاته وضوابطه حتى يتم وينجلي عن مركب جديد، فإن الحرية ـ إن صح التعبير ـ تحوطها اشترطات وضوابط تجعلها تفعل فعلها على النحو الأمثل، فيتشكل الإنسان على هيئة كيان معبر عن قيم الحضارة الإسلامية، وبذلك يؤدي دوره في الحياة، ويواصل الرسالة الخالدة بالصورة الصحيحة، دون تحريف أو تبديل، ومن ثم يقوم مجتمع متآخ متناغم، يتطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) أو كما قال. والأدب الإسلامي وسيلة لحمل هذه القيم، والتبشير بها بين البشر، يترنم بها في قصيدة جميلة، أو يرويها في قصة شيقة، أو يمزجها في إطار مسرحية تشد الألباب والقلوب، وتؤثر في النفوس، والالتزام بذلك جزء من طبيعة هذا الدين، ومسؤولية من مسؤولياته الكبير ة الكثيرة، وطريقة من طرائقه في التوصل بين الإسلام وبين بني البشر قاطبة، وذلك حتى تزدهر براعم الحب والخير والفضيلة في أنحاء الأرض، ويتحقق المجتمع الأمثل الذي تحلم به الآمال، أو (المدنية الفاضلة ) الحقيقية، التي كدح وراءها خيال الفلاسفة طوال القرون. والالتزام الأمثل انبثاق تلقائ من قلب المؤمن وفكرة ونفسه، وهو ليس تصوراً هلاميّـا ، أو شعوراً عاماً، لكنه حقيقة واقعة، تقوم الأحكام والآداب الإسلامية بتوصيفها، وتحديد ملامحها.

ولقد عاش شعراء الإسلام الأوائل، رأسهم حسان بن ثابت، في إطار هذا الالتزام، وهم ينافقون عن الدعوة، ويدفعون هجمات الشرك والوثنية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسفهون أحلام الجاهلية والضلال، ويرسمون المنهج السلي م لحركة الإنسان المؤمن في الحياة. وعاش حكام المسلمين الأوائل أيضاً في إطار هذا النظام أو هذا الالتزام، كما عاش الجندي في معارك الجهاد، والقاضي، على منصة القضاء، وصحاب رأس المال وهو ينمي تجارته، أو يطور صناعته ، كذلك عاشة الفقيه واللغوي والطبيب والمؤرخ والجغرافي والرياضي وغيرهم.

إنه الالتزام الشامل، الذي يعد الالتزام بمعناه الأدبي أو الفني شريحة منه، لا يمكن فصلها أو فصمها، ذلك الالتزام ـ كما أوضحنا ـ فن وفكر وسلوك وعلم، ومن هذا المنطلق يصبح للأدب رسالة شامخة، وعطاء متجدد، يحقق المتعة والفائدة معاً، ويسكب رحيق السعادة والأمل في الوجدان، وينفي عن النفس ذلك (الشقاء الدائم ) الذي عبر عنه (أيونيسكو )، ويبدد ذلك (الكابوس الوجودي ) حيث يغيب العقل والسماح والأمل كما يقولون، ويجعل الحياة جديرة بأن تعاش في طاعة.

الالتزام الذي قدمه الله نعمة لبني البشر، وتكريماً لهم، وحماية لكرامتهم، غير(الإلزام ) الذي يساق إليه الناس سوقاً بالسياط والحديد والنار، والذي يظلل آفاقه سحابات الرعب والوعيد والعذاب.. ذلك لأن الالتزام بمعناه الواسع ـ كما قلنا ـ هو الطاعة والالتزام هو الجحيم الذي صنعته حماقة الإنسان على الأرض.