حازم
01-19-2007, 07:31 PM
ضد التعصب أم ضد الإسلام؟ 1 من 6
أ . د . حلمى محمد القاعود
في مشروع مكتبة الأسرة الذي ترعاه السيدة سوزان حرم الرئيس مبارك، لعام 2000م، صدر كتاب بعنوان "ضد التعصب" للدكتور جابر عصفور، وهو كتاب كبير الحجم نسبياً يقع في 464 صفحة من القطع المتوسط 14-19.
والدكتور جابر عصفور، كاتب معروف، وهو على صلة بالتراث العربي، خاصة التراث النقدي، وله فيه إسهام من خلال رسالته حول الصورة الفنية لدى النقاد القدماء، ثم إنه بالنسبة للعمل العام، قد اقترب من النظام في عهد عبدالناصر، الذي عيَّنه معيداً بكلية الآداب، بعد أن كان مدرساً في منطقة نائية، إثر رسالة تلقاها منه، كما اقترب من النظام في عهد السادات عن طريق السيدة جيهان رؤوف حرم الرئيس، وكانت طالبة في قسم اللغة العربية الذي ينتمي إليه الدكتور جابر.
وفي العهد الحالي، ارتقى الدكتور جابر سلَّم القيادة الثقافية الرسمية من خلال المجلس الأعلى للثقافة ونشاطاته المتنوعة "اللجان ـ الجوائز ـ الندوات ـ المؤتمرات ـ النشر ـ المسابقات..."، ومن بداية التسعينيات تقريباً صارت مقالاته، "مانيفستو" حركة الحداثة ثم ما يعرف بالتنوير بعدئذ!.
علاقتي بالرجل على المستوى الشخصي طيبة، وعلى الصعيد الفكري عاصفة، إلى الدرجة التي يمكنني أن أصفه بالصديق اللدود!، وفي أعماقي أهتف دائماً: اللهم اجعل جابر عصفور جندياً من جنود الإسلام، أو أقول: اللهم انصر الإسلام بجابر عصفور، فهو يملك القدرة والطاقة على الدفاع عن الدين، ومواجهة خصومه.
ولعل كتابه "ضد التعصب" يمثل أوضح الأمثلة على الفارق الشاسع بيني وبينه، في الرؤية وتناول القضايا، حيث ينحاز عبر صفحاته، إلى الخطاب الرافض للمرجعية الإسلامية، بل الحانق عليها، المعادي لها، من خلال قضايا ثقافية طارئة ذات صلة وثيقة بمفاهيم إسلامية راسخة، ومن هذه القضايا: قضية نصر أبوزيد، وما يسمى تكفير حسن حنفي، ورواية وليمة لأعشاب البحر.
إن جابر عصفور ينحاز إلى هذه القضايا انحيازاً عاطفياً غير عقلاني، ويناصر أصحابها بلا تحفظ، وفي المقابل لا يرى إيجابية واحدة لدى الخصوم ـ أعني الإسلاميين ـ بل يؤاخذهم جميعاً بما يفعله السفهاء، ويرتب على ذلك أحكاماً بظلامية الفكر الإسلامي وإظلام الإسلاميين!، ثم ينتهي بصورة ما إلى أن التعصب سمة ملازمة للإسلام، وبالتالي فهي مفارقة لغيره من العقائد والأفكار.
كان الدكتور جابر ـ للأسف الشديد ـ طرفاً أساسياً في أهم هذه القضايا، وعنصر تصعيد لها، على حساب الآخرين أو الوطن، ولم يجد غضاضة ـ وهو المسؤول التنفيذي للثقافة والمؤثر الفعال في وسائط الدعاية ـ أن يشعل النار ضد الإسلاميين وفكرهم، وأن يصمهم جميعاً بالظلامية والإرهاب! وأن يستثمر مناخ العنف والعنف المضاد الذي ساد البلاد عقب مقتل الرئيس السادات ـ رحمه الله ـ ليؤلب السلطة التي ينطق باسمها، والرأي العام الذي يخاطبه ضد الإسلام والإسلاميين بوصفهم قتلة ودعاة تخلف وخرافة.
لو أن الدكتور جابر التقط قضية واحدة من القضايا المطروحة، وعالجها بمفهوم إسلامي، ومرجعية إسلامية، لكنا معه على طول الخط، حتى لو أخطأ، لأن الخطأ حينئذ يمكن تصحيحه وتوضيحه وبيانه، ولكنه للأسف الشديد، ظل طوال خصومته ينطلق من مرجعية غربية لا تتفق مع الإسلام في معظم منطلقاتها.
وأبادر إلى تحفظ بأن مرجعية الإسلام تتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة، واجتهادات العلماء الثقات، ولا يصحّ أن يأتي بعض الناس الذين لا يحفظون قرآناً ولا يفقهون حديثاً، ولم يدرسوا فقهاً أو شريعة لنجعلهم علامات على الإسلام أو مرجعية لأحكامه وقيمه، وتشريعاته، فهذا هو الضلال بعينه، إن الإسلام يحكم على المسلمين، والمسلمون لا يحكمون عليه.. وكل يؤخذ منه ويرد عليه، إلا المعصوم ص.
ومن العدل والإنصاف أن نتابع بعض القضايا التي عالجها الدكتور عصفور، لنرى إلى أي مدى كان اتهامه للإسلام والمسلمين بالتعصب صائباً أو غير صائب.
ترويج الكتـاب
فور نزول كتاب "ضد التعصب" إلى الأسواق، رافقته حملة واسعة لعرضه والتعريف به في كبريات الصحف الحكومية والحزبية بأقلام تهاجم الإسلام صراحة، أو تهاجمه نفاقاً سعياً لمكاسب مادية آنية، في الوقت الذي تظهر فيه عشرات الكتب الجادة دون أن تحظى بأي اهتمام ولو بسطرين على امتداد عمود عرضه خمسة سنتيمترات في صحيفة سيارة.
وهذا يقودنا إلى قضية خطيرة ومهمة بدأ بها الدكتور جابر عصفور كتابه، وهي قضية الحرية والتعصب، وقد صدرها بمقولة لأستاذه طه حسين ملخصها أن الحرية لا تتحقق بالتمني، ولكن تؤخذ عنوة "فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقاً للعلم، وقد أراد الله أن تكون مصر بلداً متحضراً يتمتع بالحرية في ظل الدستور والقانون"، وقد جعل جابر عصفور هذا المعنى في استهلاله لكتابه الذي هو مجموعة مقالات سبق نشرها في صحف بقوله: "إن حرية التفكير والإبداع هي جزء لا يتجزأ من حرية الإنسان الاعتقادية والسياسية والاجتماعية. وهي مسؤولية عقلية وأخلاقية واجتماعية وسياسية"، ومضى يفسر هذه المسؤولية بإسهاب، ونحن معه في تفسيره، وإن كان لنا بعض التحفظات على مصطلحاته وتصوّراته في هذا المجال.
بيد أن المفارقة في موقف طه حسين تكمن في إصراره على أن يقول هو ما يشاء، ويحرم غيره من الرد عليه، وذكر بعض معاصريه أنه كان يذهب إلى الصحف التي تنشر ردوداً مغايرة لما يقول، ويطلب من أصحابها عدم نشر هذه الردود، ولم يؤثر عنه أنه وقف موقفاً واضحاً إلى جانب حرية الشعب أو الأمة، بل إنه قبل رشوة من انقلاب يوليو 1952م حين وضع اسمه رئيساً لتحرير جريدة "الجمهورية" قرابة خمسة عشر عاماً دون أن يكتب كلمة واحدة في هذه الجريدة، بل دون أن يذهب إليها، وكان يتقاضى مرتبه دون عمل مقابل.. أين هذا من موقف العقاد الذي دخل السجن وتعرّض للجوع بسبب مواقفه من أجل الحرية؟
إن الكلام عن الحرية جميل، ولكن تطبيقه أجمل.. ويصبح هذا الكلام قبيحاً وبشعاً وشنيعاً حين نطبقه بالنسبة لأنفسنا ونحرّمه على غيرنا من المخالفين، وهذا ما فعله طه حسين وكثير من تلاميذه الذين يرون الحرية حقاً لهم وحدهم دون غيرهم. كان طه حسين لا يرد غالباً على مخالفيه، بل كان يهجوهم ويكنِّي عنهم دون أن يذكرهم، وهذه فصامية عجيبة من رجل يدعو لأخذ الحرية بالقوة.
وجابر عصفور تلميذ طه حسين، يفعل الشيء نفسه للأسف، فهو يحمل علــى المتعصبين ـ كما يسميهم ـ ويقصد بهم التيار الإسلامي، ويصمهم بالإرهاب والقمع والأصولية ـ بالمفهوم الغربي ـ وينفي عنهم العقلانية والإبداع والاجتهاد، ويؤسس على ذلك نتيجة خطيرة وهي تقويضهم الدولة المدنية والمجتمع المدني باستبدادهم الديني، ورغبتهم في إقامة الدولة الدينية، وسيطرتهم على المؤسسات التضامنية للمجتمع المدني، مثل نقابات المحامين والمهندسين والأطباء وغيرها.
بل هو المتعصب
هذه الحملة من جانب جابر عصفور تحمل مغالطات تؤكد تعصبه ضد تيار مخالف يمثل الأغلبية الساحقة، ويتكرر مفهوم هذه الحملة على امتداد مقالاته في كتابه "ضد التعصب". وإذا كانت الحرية ـ كما يقول ـ مسؤولية عقلية وخلقية واجتماعية وسياسية، فمن واجبه أن يدافع عنها بوصفها حقاً للآخرين، وما لا يعجبه في مفاهيمهم وتصوراتهم يرد عليه بالمنطق والحجة مع المرجعية الواضحة التي تحدد منطلقاته وأفكاره.. ولكن الذي نراه لديه ولدى تيار العقلانيين ـ كما يسميهم ـ هو هجاء لا يستند إلى منطق أو حجة، وتحريض رخيص ضد هؤلاء الإرهابيين الظلاميين الأصوليين الذين يقوضون المجتمع المدني ومؤسساته التضامنية، حتى لو أتت بهم انتخابات حرة نزيهة إلى مقاعد القيادة في نقابات متعددة أو مؤسـات مختلفة.
والغريب حقاً، أن يعتقد الدكتور جابر عصفور أن الدولة المدنية نقيض الدولة الإسلامية، وكنت أظنه في البداية يقصد بالدولة المدنية، الدولة النقيض للدولة البوليسية أو الدولة العسكرية أو الدولة التي تحميها الطوارئ وتأخذ فيها الديمقراطية الحقيقية إجازة مفتوحة، وللأسف اكتشفت أنه يقصد بالدولة المدنية الدولة التي لا تبقي للإسلام على أثر، بل تستأصله من حياتها تماماً، وإذا أبقت على أثر فهي دولة دينية بالمفهوم الكنسي، على غرار الدولة الدينية في العصور الوسطى المظلمة بأوروبا.. وبالتأكيد فإن جابر عصفور لا يرى غضاضة في تدخل الفاتيكان في الشؤون السياسية الدولية، ولا تدخل البطريرك الأرثوذكسي الروسي في حرب الشيشان ومباركته لتدمير جروزني وسحق المسلمين، ولا تدخل البطريرك الأرثوذكسي الصربي في تأييد ميلوسوفيتش وكاراديتش ومباركتهما لذبح المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا، ولا تدخل البطريرك نفسه في تأييد مرشح المعارضة الصربية لرئاسة الجمهورية، وعدّه الفائز في الانتخابات... ولا... ولا...
بيد أن الدكتور عصفور يقيم الدنيا ولا يقعدها لأن المصريين أو العرب أو المسلمين يريدون إقامة دولة إسلامية على أسس العدل والشورى والمساواة والأخلاق والرحمة، فهذه الدولة دينية كهنوتية في مفهومه، وهي أخطر من دولة صلاح نصر وحمزة البسيوني وصدام حسين!.
لقد أرسى الإسلام الحنيف قيمة التسامح بصورة غير مسبوقة في التاريخ، ورفض العنصرية والاستعلاء المرذول والكبر في صورها المختلفة، وجعل المنتمين إليه أحراراً تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ودوت مقولة عمر في أرجاء الأرض "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، ودعا القرآن الكريم إلى الدفع بالتي هي أحسن، وحرّض على العفو الذي هو أقرب للتقوى: فهل يحق لنا بعدئذ أن نتهم الإسلام بأنه ضد الدولة المدنية، ونكفِّر الداعين إليه حين نصفهم "بالتأسلم"، ونخلط ظروف العنف والعنف المضاد، بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية لنسحب على الإسلام صفات الدم والقتل والجهل والمؤامرة؟
لا ريب أن الدكتور عصفور يغالط كثيراً حين يستخدم مفهوم الدولة الدينية في مقابل الدولة الإسلامية، ومفهوم المجتمع المدني في مقابل المجتمع الإسلامي، ومفهوم الحرية الغربية مقابل التسامح الإسلامي، ومفهوم التعصب ضد الإسلام، فالتعصب المقيت والخطير كان السمة الأساسية في فكر اليساريين والدنيويين الذين ينافح عنهم الدكتور عصفور .
أ . د . حلمى محمد القاعود
في مشروع مكتبة الأسرة الذي ترعاه السيدة سوزان حرم الرئيس مبارك، لعام 2000م، صدر كتاب بعنوان "ضد التعصب" للدكتور جابر عصفور، وهو كتاب كبير الحجم نسبياً يقع في 464 صفحة من القطع المتوسط 14-19.
والدكتور جابر عصفور، كاتب معروف، وهو على صلة بالتراث العربي، خاصة التراث النقدي، وله فيه إسهام من خلال رسالته حول الصورة الفنية لدى النقاد القدماء، ثم إنه بالنسبة للعمل العام، قد اقترب من النظام في عهد عبدالناصر، الذي عيَّنه معيداً بكلية الآداب، بعد أن كان مدرساً في منطقة نائية، إثر رسالة تلقاها منه، كما اقترب من النظام في عهد السادات عن طريق السيدة جيهان رؤوف حرم الرئيس، وكانت طالبة في قسم اللغة العربية الذي ينتمي إليه الدكتور جابر.
وفي العهد الحالي، ارتقى الدكتور جابر سلَّم القيادة الثقافية الرسمية من خلال المجلس الأعلى للثقافة ونشاطاته المتنوعة "اللجان ـ الجوائز ـ الندوات ـ المؤتمرات ـ النشر ـ المسابقات..."، ومن بداية التسعينيات تقريباً صارت مقالاته، "مانيفستو" حركة الحداثة ثم ما يعرف بالتنوير بعدئذ!.
علاقتي بالرجل على المستوى الشخصي طيبة، وعلى الصعيد الفكري عاصفة، إلى الدرجة التي يمكنني أن أصفه بالصديق اللدود!، وفي أعماقي أهتف دائماً: اللهم اجعل جابر عصفور جندياً من جنود الإسلام، أو أقول: اللهم انصر الإسلام بجابر عصفور، فهو يملك القدرة والطاقة على الدفاع عن الدين، ومواجهة خصومه.
ولعل كتابه "ضد التعصب" يمثل أوضح الأمثلة على الفارق الشاسع بيني وبينه، في الرؤية وتناول القضايا، حيث ينحاز عبر صفحاته، إلى الخطاب الرافض للمرجعية الإسلامية، بل الحانق عليها، المعادي لها، من خلال قضايا ثقافية طارئة ذات صلة وثيقة بمفاهيم إسلامية راسخة، ومن هذه القضايا: قضية نصر أبوزيد، وما يسمى تكفير حسن حنفي، ورواية وليمة لأعشاب البحر.
إن جابر عصفور ينحاز إلى هذه القضايا انحيازاً عاطفياً غير عقلاني، ويناصر أصحابها بلا تحفظ، وفي المقابل لا يرى إيجابية واحدة لدى الخصوم ـ أعني الإسلاميين ـ بل يؤاخذهم جميعاً بما يفعله السفهاء، ويرتب على ذلك أحكاماً بظلامية الفكر الإسلامي وإظلام الإسلاميين!، ثم ينتهي بصورة ما إلى أن التعصب سمة ملازمة للإسلام، وبالتالي فهي مفارقة لغيره من العقائد والأفكار.
كان الدكتور جابر ـ للأسف الشديد ـ طرفاً أساسياً في أهم هذه القضايا، وعنصر تصعيد لها، على حساب الآخرين أو الوطن، ولم يجد غضاضة ـ وهو المسؤول التنفيذي للثقافة والمؤثر الفعال في وسائط الدعاية ـ أن يشعل النار ضد الإسلاميين وفكرهم، وأن يصمهم جميعاً بالظلامية والإرهاب! وأن يستثمر مناخ العنف والعنف المضاد الذي ساد البلاد عقب مقتل الرئيس السادات ـ رحمه الله ـ ليؤلب السلطة التي ينطق باسمها، والرأي العام الذي يخاطبه ضد الإسلام والإسلاميين بوصفهم قتلة ودعاة تخلف وخرافة.
لو أن الدكتور جابر التقط قضية واحدة من القضايا المطروحة، وعالجها بمفهوم إسلامي، ومرجعية إسلامية، لكنا معه على طول الخط، حتى لو أخطأ، لأن الخطأ حينئذ يمكن تصحيحه وتوضيحه وبيانه، ولكنه للأسف الشديد، ظل طوال خصومته ينطلق من مرجعية غربية لا تتفق مع الإسلام في معظم منطلقاتها.
وأبادر إلى تحفظ بأن مرجعية الإسلام تتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة، واجتهادات العلماء الثقات، ولا يصحّ أن يأتي بعض الناس الذين لا يحفظون قرآناً ولا يفقهون حديثاً، ولم يدرسوا فقهاً أو شريعة لنجعلهم علامات على الإسلام أو مرجعية لأحكامه وقيمه، وتشريعاته، فهذا هو الضلال بعينه، إن الإسلام يحكم على المسلمين، والمسلمون لا يحكمون عليه.. وكل يؤخذ منه ويرد عليه، إلا المعصوم ص.
ومن العدل والإنصاف أن نتابع بعض القضايا التي عالجها الدكتور عصفور، لنرى إلى أي مدى كان اتهامه للإسلام والمسلمين بالتعصب صائباً أو غير صائب.
ترويج الكتـاب
فور نزول كتاب "ضد التعصب" إلى الأسواق، رافقته حملة واسعة لعرضه والتعريف به في كبريات الصحف الحكومية والحزبية بأقلام تهاجم الإسلام صراحة، أو تهاجمه نفاقاً سعياً لمكاسب مادية آنية، في الوقت الذي تظهر فيه عشرات الكتب الجادة دون أن تحظى بأي اهتمام ولو بسطرين على امتداد عمود عرضه خمسة سنتيمترات في صحيفة سيارة.
وهذا يقودنا إلى قضية خطيرة ومهمة بدأ بها الدكتور جابر عصفور كتابه، وهي قضية الحرية والتعصب، وقد صدرها بمقولة لأستاذه طه حسين ملخصها أن الحرية لا تتحقق بالتمني، ولكن تؤخذ عنوة "فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقاً للعلم، وقد أراد الله أن تكون مصر بلداً متحضراً يتمتع بالحرية في ظل الدستور والقانون"، وقد جعل جابر عصفور هذا المعنى في استهلاله لكتابه الذي هو مجموعة مقالات سبق نشرها في صحف بقوله: "إن حرية التفكير والإبداع هي جزء لا يتجزأ من حرية الإنسان الاعتقادية والسياسية والاجتماعية. وهي مسؤولية عقلية وأخلاقية واجتماعية وسياسية"، ومضى يفسر هذه المسؤولية بإسهاب، ونحن معه في تفسيره، وإن كان لنا بعض التحفظات على مصطلحاته وتصوّراته في هذا المجال.
بيد أن المفارقة في موقف طه حسين تكمن في إصراره على أن يقول هو ما يشاء، ويحرم غيره من الرد عليه، وذكر بعض معاصريه أنه كان يذهب إلى الصحف التي تنشر ردوداً مغايرة لما يقول، ويطلب من أصحابها عدم نشر هذه الردود، ولم يؤثر عنه أنه وقف موقفاً واضحاً إلى جانب حرية الشعب أو الأمة، بل إنه قبل رشوة من انقلاب يوليو 1952م حين وضع اسمه رئيساً لتحرير جريدة "الجمهورية" قرابة خمسة عشر عاماً دون أن يكتب كلمة واحدة في هذه الجريدة، بل دون أن يذهب إليها، وكان يتقاضى مرتبه دون عمل مقابل.. أين هذا من موقف العقاد الذي دخل السجن وتعرّض للجوع بسبب مواقفه من أجل الحرية؟
إن الكلام عن الحرية جميل، ولكن تطبيقه أجمل.. ويصبح هذا الكلام قبيحاً وبشعاً وشنيعاً حين نطبقه بالنسبة لأنفسنا ونحرّمه على غيرنا من المخالفين، وهذا ما فعله طه حسين وكثير من تلاميذه الذين يرون الحرية حقاً لهم وحدهم دون غيرهم. كان طه حسين لا يرد غالباً على مخالفيه، بل كان يهجوهم ويكنِّي عنهم دون أن يذكرهم، وهذه فصامية عجيبة من رجل يدعو لأخذ الحرية بالقوة.
وجابر عصفور تلميذ طه حسين، يفعل الشيء نفسه للأسف، فهو يحمل علــى المتعصبين ـ كما يسميهم ـ ويقصد بهم التيار الإسلامي، ويصمهم بالإرهاب والقمع والأصولية ـ بالمفهوم الغربي ـ وينفي عنهم العقلانية والإبداع والاجتهاد، ويؤسس على ذلك نتيجة خطيرة وهي تقويضهم الدولة المدنية والمجتمع المدني باستبدادهم الديني، ورغبتهم في إقامة الدولة الدينية، وسيطرتهم على المؤسسات التضامنية للمجتمع المدني، مثل نقابات المحامين والمهندسين والأطباء وغيرها.
بل هو المتعصب
هذه الحملة من جانب جابر عصفور تحمل مغالطات تؤكد تعصبه ضد تيار مخالف يمثل الأغلبية الساحقة، ويتكرر مفهوم هذه الحملة على امتداد مقالاته في كتابه "ضد التعصب". وإذا كانت الحرية ـ كما يقول ـ مسؤولية عقلية وخلقية واجتماعية وسياسية، فمن واجبه أن يدافع عنها بوصفها حقاً للآخرين، وما لا يعجبه في مفاهيمهم وتصوراتهم يرد عليه بالمنطق والحجة مع المرجعية الواضحة التي تحدد منطلقاته وأفكاره.. ولكن الذي نراه لديه ولدى تيار العقلانيين ـ كما يسميهم ـ هو هجاء لا يستند إلى منطق أو حجة، وتحريض رخيص ضد هؤلاء الإرهابيين الظلاميين الأصوليين الذين يقوضون المجتمع المدني ومؤسساته التضامنية، حتى لو أتت بهم انتخابات حرة نزيهة إلى مقاعد القيادة في نقابات متعددة أو مؤسـات مختلفة.
والغريب حقاً، أن يعتقد الدكتور جابر عصفور أن الدولة المدنية نقيض الدولة الإسلامية، وكنت أظنه في البداية يقصد بالدولة المدنية، الدولة النقيض للدولة البوليسية أو الدولة العسكرية أو الدولة التي تحميها الطوارئ وتأخذ فيها الديمقراطية الحقيقية إجازة مفتوحة، وللأسف اكتشفت أنه يقصد بالدولة المدنية الدولة التي لا تبقي للإسلام على أثر، بل تستأصله من حياتها تماماً، وإذا أبقت على أثر فهي دولة دينية بالمفهوم الكنسي، على غرار الدولة الدينية في العصور الوسطى المظلمة بأوروبا.. وبالتأكيد فإن جابر عصفور لا يرى غضاضة في تدخل الفاتيكان في الشؤون السياسية الدولية، ولا تدخل البطريرك الأرثوذكسي الروسي في حرب الشيشان ومباركته لتدمير جروزني وسحق المسلمين، ولا تدخل البطريرك الأرثوذكسي الصربي في تأييد ميلوسوفيتش وكاراديتش ومباركتهما لذبح المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا، ولا تدخل البطريرك نفسه في تأييد مرشح المعارضة الصربية لرئاسة الجمهورية، وعدّه الفائز في الانتخابات... ولا... ولا...
بيد أن الدكتور عصفور يقيم الدنيا ولا يقعدها لأن المصريين أو العرب أو المسلمين يريدون إقامة دولة إسلامية على أسس العدل والشورى والمساواة والأخلاق والرحمة، فهذه الدولة دينية كهنوتية في مفهومه، وهي أخطر من دولة صلاح نصر وحمزة البسيوني وصدام حسين!.
لقد أرسى الإسلام الحنيف قيمة التسامح بصورة غير مسبوقة في التاريخ، ورفض العنصرية والاستعلاء المرذول والكبر في صورها المختلفة، وجعل المنتمين إليه أحراراً تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ودوت مقولة عمر في أرجاء الأرض "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، ودعا القرآن الكريم إلى الدفع بالتي هي أحسن، وحرّض على العفو الذي هو أقرب للتقوى: فهل يحق لنا بعدئذ أن نتهم الإسلام بأنه ضد الدولة المدنية، ونكفِّر الداعين إليه حين نصفهم "بالتأسلم"، ونخلط ظروف العنف والعنف المضاد، بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية لنسحب على الإسلام صفات الدم والقتل والجهل والمؤامرة؟
لا ريب أن الدكتور عصفور يغالط كثيراً حين يستخدم مفهوم الدولة الدينية في مقابل الدولة الإسلامية، ومفهوم المجتمع المدني في مقابل المجتمع الإسلامي، ومفهوم الحرية الغربية مقابل التسامح الإسلامي، ومفهوم التعصب ضد الإسلام، فالتعصب المقيت والخطير كان السمة الأساسية في فكر اليساريين والدنيويين الذين ينافح عنهم الدكتور عصفور .