د. أحمد إدريس الطعان
03-06-2007, 01:26 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
جذور العلمانية : الدين أمام العلم والفلسفة
(5)الإرادة الإلهية والحتمية الفلكية الميكانيكية :
في النصف الثاني من القرن السادس عشر بدأت تتغير نظرة الإنسان الغربي إلى الكون فقد ظهر عدد من الفلكيين الذين تابعوا أبحاث كوبرنيقوس وأذاعوا نظريته على نطاق أوسع بعد أن أضافوا إليها بعض التعديلات والإصلاحات ، ومن هؤلاء كبلر 1571 – 1630م وجاليلو 1564 – 1642 م ، وإسحق نيوتن 1642 – 1727 ، فقد اعتنق كبلر ما قرره سلفه كوبرنيقوس من أن الشمس هي المركز وليست الأرض ، وتقدم بأدلة جديدة تنصر هذه النظرية ، وأكد أن الكون يتحرك كجسم كامل حركة ميكانيكية ( ) .
وأكد غاليلو - كما أشرنا سابقاً - على الانفصال التام بين العلم والإيمان ، وفي سنة 1609 م أعلن انحيازه لنظرية كوبرنيق ( ) ، وكاد أن يخسر حياته لولا أنه أعلن تراجعه عن آرائه أمـام المحكمة ، ولكنه خرج وهو يضرب الأرض برجـله ويقول : " ومع ذلك فهي تدور " ( ) . وقد أنجز نيوتن انتصارات علمية هائلة ، وأعلن قانون الجاذبية ، وسيطر على العقول حتى كاد أن يصبح أرسطو آخر( ) .
لقد صاغ نيوتن النظرية الإلهية للطبيعة، وظل العلم يرتكز عليها إلى عصرنا الحاضر ، حيث يطالب العلم اليوم بتغيير هذه النظرية ( ) وكانت إسهاماته مع غاليلو وديكارت وكوبرنيقوس وكبلر قد رسخت النظرية الآلية للكون ، والنظر إليه على أنه آلة كبيرة ، أو ساعة صنعت كاملة( ) .
ترافقت هذه النظريات التي طرحها هؤلاء العلماء مع اكتشافات هائلة لم تعهدها أوربا من قبل فاكتشف ليفنهوك 1632 – 1723 م الكائنات العضوية أحادية الخلية ، والباكتريا ، كما اكتشف الحيوانات المنوية ، وإن كان هذا الاكتشاف يُنسب إلى شخص آخر هو ستيفان هام قبل ذلك بأشهر قليلة ، واخُترع الميكروسكوب المركب حوالي سنة 1590م والتلسكوب سنة 1608 م اخترعه هولندي يدعى ليبرش ، واخترع جاليلو الترمومتر ، واخترع تلميذه تورشيلي البارومتر ، واخترع جريكة 1602 – 1686 م مضخة الهواء ، ونشر جلبرت 1540 – 1603م كتابه عن المغناطيس سنة 1600م واكتشف هارفي 1578 – 1657 م دورة الدم ونشر اكتشافه سنة 1628 م ( ) .
أدى كل ذلك إلى تغير نظرة الإنسان إلى الكون وسيطرت النظرة الآلية الميكانيكية وكان المثال المفضل هو تمثيل الكون بالساعة ( ) "" إن الكون أشبه بساعة نادرة كتلك الموضوعة في ستراسبورغ حيث صُنع كل شيء بمهارة ، وعندما تشغل الماكينة تحدث معها حركة تعقبها كل الحركات المتوافقة مع تصميم المخترع "" ( ) .
وهكذا تحول الله [ عز وجل ] – بنظر الغربيين - إلى ساعاتي رفيع المقام [سبحانه وتعالى] إلى إله مستريح ساكن غائب عن العمل عندما تُصوِّر الكون على أنه ميكانيكي يعمل كالساعة المحشوة بالمعلومات ( ) ، ويكون بذلك نيوتن وغاليلو أبعدا الله عز وجل عن العالم وجعلاه لا يتدخل في شؤونه ، لأن قوانين الطبيعة والكون أصبحت حتمية ( ) وبالتالي لم تعد لله [ عز وجل ] أهمية في حياتنا ، لأنه لم يعد له عمل ( ) .
ولكن نيوتن لم يقصد هذا ، بل ظن أن أبحاثه ستزيد الإيمان بالله [ عز وجل ] ، ولم يدر أنها قوضت الإيمان بعده( ) ، ولذلك فإن نيوتن ظل يلح على أن الله [عز وجل ] يظل يتدخل في تصحيح مسارات الكواكب والكون ، ويعدل في قوانينه . ( ) لأن الكون لا يستغني عن الله [عز وجل ] ليظل يراقبه ويصلحه كما تحتاج الساعة إلى إصلاح ( ) .
لقد كان نيوتن مؤمناً بالله [عز وجل ] وأتباعه كذلك حتى قال فولتير "" لم أر قط بين أتباع نيوتن رجلاً واحداً لم يكن مؤمناً بوجود الله [عز وجل ] إيماناً عنيفاً قوياً ""( ) .
إلا أن الرياضيين الذين تبعوه رأوا أن وظيفة الله عز وجل في الكون " الساعة " تنحصر فقط في إدارة تلك الساعة في البدء ( ) ولذلك قال باسكال عن ديكارت بأنه كان مستعداً للاستغناء عن الله [عز وجل ] لولا حاجته إليه لكي يعطي نقرة تحريك العالم ( )، ثم لا حاجة بعد ذلك لتدخل الإله في شؤون الكون والطبيعة . ومـن هـؤلاء الريـاضيين " لابـلاس " الذي اكتشف أن الكواكب تصحح مساراتها بنفسها ( )، وبالتالي لا ضرورة لما رآه نيـوتن من تدخـل الإله، فالحاجة إليه لم تعد ماسة بنظرهم، وقال لنابليون عندما سأله عن الله [عز وجل]: سيدي لست بحاجة إلى مثل هذا الافتراض( ) . وكلامه هذا منقوض ببساطة لأن الملاحظة المباشرة لا تنجب الحتمية ،لأنها لا ترى ما وراء الظواهر( ) ، وهو ما أكده هيوم وقبله الغزالي كما سنرى لاحقاً .
ولكن على كل حال يبدو أنه من المستحيل على من يؤمن بالفيزياء النيوتني أن يثبت وقوع أي حادث معين بشكل خارق للطبيعة فقد ولى زمن المعجزات طبقاً للنظرية النيوتنية ( ) ولم تعد هناك حاجة إلى الله [عز وجل ] ليجعل الميكانيزم يعمل ، فالكواكب تبعاً لنيوتن قذفتها يد الله [عز وجل ] في الأصل ، ولكن بعد أن فعل هذا وأصدر قانون الجاذبية سار كل شيء بذاته بغير حاجة إلى مزيد من التدخل الإلهي ، وحين اقترح لابلاس أن نفس القوى التي تعمل الآن لا بد أنها كانت السبب في خروج الكواكب من الشمس دفع اقتراحه هذا إسهام الله [عز وجل] في الطبيعة إلى الوراء مدىً أبعد ، ومع ذلك يمكن أن يظل الله عز وجل خالقاً ، وحتى هذا كان مشكوكاً فيه - بنظر الغربيين - ما دام لم يكن واضحاً أن العالم كانت له بداية في الزمان ( ) .
هذه النظرة الآلية الميكانيكية التي سيطرت لمدة قرنين من الزمان على الفكر الأوربي وسميت بمبدأ الحتمية كانت مرتبطة تاريخياً كما هو ملاحظ بعلم الفلك( ) ، وظل النزاع بين الحتمية واللاحتمية غافياً نوعاً ما حتى جاءت ثورة هيزنبرغ وأيقظته ، ولا ترضى هذه الثورة بأقل من إقامة لا حتمية موضوعية ( ) ، فقد وصل العلماء في السنين الحديثة إلى مرحلة من أهـم مراحل تطور التفكير العلمي وذلك حين عدلوا عدولاً تاماً عن تفسير الكون تفسيراً ميكانيكياً ( )، وبـدأ تفسير الكون يتم وفق آراء جديدة ، وإن لم تكن هذه الآراء واضحة وضوحاً تاماً ( ) ، ولكن أهم فكرة جديدة تمخض عنها العلم الحديث هي قاعدة اللاحتمـية وهي نقيض قاعدة الجبـرية الصارمة التي كانت تسيـطر على العالم قبل الآن ( ) وانـهارت نظريات نيوتن ولابلاس ومن نحا نحوه ، وهي تُستبَـدَل الآن بـنـظرة أخرى جديدة تختلف عنها ( ).
الدين أمام الفلسفة التجريبية :
لم يكن الفلكيون وحدهم في المعركة ضد الكنيسة ، وضد أرسطو والثقافة المدرسية ، بل كان إلى جانبهم عدد من الفلاسفة التجريبيين والعقلانيين يسهمون في تحديث العقل الأوربي ويُعتبر فرنسيس بيكون 1561 – 1626 م من أبرز الفلاسفة التجريبيين وقد أشرنا سابقاً إلى فصله بين العلم والإيمان وأدلة كل منهما ، وتبنيه لمقولة الحقيقة المزدوجة ، وهو بالإضافة إلى ذلك يكاد يظهر على أنه ديمقريطسي فيقرر أن الحركة الطبيعية للذرة هي حقاً أقدم قوة ، وهي القوة الفريدة التي تُكوِّن الأشياء جميعاً من المادة وتصوغها منها ، ولا يمكن أن تكون لهذه المادة الأولية وقوتها وفعلها أي علة طبيعية فما من شيء يسبق المادة نفسها ، ولهذا فلا يمكن أن توجد لها علة كافية ( ) وهو ما رآه أبيقور 342 ق . م أيضاً قبل قرابة ألفي سنة ( ) .
وتوماس هوبز 1588 – 1679 م الذي رأى أن جوهر الدين لا يقوم على الحقائق ، وإنما على خوف الفرد من القوة المجهولة أو الخوف من الموت ، وما الصفات التي نخلعها على الإله إلا أسماء تعبر عن عجزنا عن معرفته ، وعن رغبتنا في وصفه بعبارات تمجيدية من شأنها إرضاء قوة مجهولة ( ) . هذا الرأي الذي يزعمه هوبز لا يختلف عما نادى به قبله بأكثر من ألفي سنة الفيلسوف اليوناني ديمقريطس 470 – 361 ق . م كما أنه يتبنى رأيه في فناء كل شيء إلا الذوات والفراغ ( ) .
والدين عند هوبز نافع على المستوى السياسي فهو أداة في يد السلطان لحكم المواطنين ، ولهذا فيجب أن تكون المسائل المتعلقة بالعقيدة والعبادة ، وتفسير الكتاب المقدس في يد السلطان، له أن يقول فيها كلمته النهائية . وهكذا ينتهي إلى أن الدين ليس إلا تبريراً لغايات الدولة والأشخاص ( ) . بالإضافة إلى ذلك فهو أبيقوري في الأخلاق فهي عنده قائمة على أساس من اللذة والأنانيـة ، وأن الإنسان مـا هو إلا ذئب لأخـيه الإنسان ، ويكرس الآليه والمادية والنفـعية ( ) وأخلاق السوق وأخلاق المصلحة الذاتية اللتين نشأتا في عصره ( ) .
ومن هؤلاء التجريبيين أيضاً جون لوك 1632 – 1704 م الذي لم يستطع أن يجاهر بعدائه للمسيحية ، ولم يخف على المقربين منه ازدراءه لها فقد كتب لصديقه " ليبنتز " أنت وأنا لدينا الكفاية من هذا العبث " يقصد الميتافيزيقا ( ) وقال أيضاً : " لم تبق حاجة أو نفع للوحي ، طالما أن الله أعطـانا وسائـل طبعيـة أكثر يقينـاً لنتـوصل بهـا إلى المعرفة "( ) . والخير والشر عنده كما رأينا عند هوبز وأبيقور مرتبطان باللذة والألم ، فالخير ما يجلب اللذة ، والشر ما يجلب الألم ( ) .
ولكن إسهام لوك الأكثر وضوحاً كان في القضاء على ما كان شائعاً من " الحق الإلهي للملوك " فقد فند حجج وادعاءات سير روبرت فيلمو الذي حاول أن يكرس هذا الحق، واستطـاع لوك بالإضـافة إلى عوامـل أخرى أن يبـين أن الحكومة والملك ليست شيئاً إلهيـا ( ). ودعا إلى الفصل بين الدولة والكنيسة ، وأصدر كتابين أحدهما " لا ضرورة لمفسر معصوم للكتب المقدسة " والثاني " معقولية المسيحية " غلّب فيهما الجانب العقلي في المسيحية ، ودعا إلى عقلنتها لكي تقبل ( ) .
برز بعد هوبز جورج باركلي 1685 – 1753م بنظريته الطريفة في إنكار المادة ، وعبر عن ذلك بقوله : " وجود الشيء هو أن يكون مُدرَكاً " ( ) وعبر عن ذلك في سنة 1710 م عندما أصدر كتابه " بحث في مبادئ المعرفة البشرية " ( ) ، ويعني بذلك أن كل ما نراه من موضوعات مادية ليس موجوداً إلا لأننا ندركه فقيل له : إن الشجرة بناءً على ذلك يجب أن تتوقف عن النمو حين لا يراها أحد ، فأجاب بأن كل ما هو موجود ولا ندركه نحن ، فهو موجود لأن الله عز وجل يدركه ، فالصخـور والأحجـار موجـودة بفضل إدراك الله عـز وجل لها ( ) .
بناء على نظريته هذه فالموضوعات المباشرة للفكر هي المعاني دون الأشياء ، وغير المُدرَك لا وجود له ( )، ولذلك فالاعتقاد بالمادة عديم الجدوى – عنده - وفيه خطر كبير لأن الأجسام ليست في الحقيقة إلا تصورات الروح ، والقول بالمادية هو الذي أدى بكثير من الفلاسفة إلى وحدة الوجود كما ذهب سبينوزا وأمثاله ( ) ، ولذلك فهو ينكر المادية إنكاراً تاماً ، ولا يعترف إلا بحقيقة واحدة يحسها في نفسه ألا وهي العقل ( ) .
وبعكس لا مادية باركلي كان ديفيد هيوم 1711 – 1776 م فقد تبنى النزعة الطبيعية التي نادى بها بيكون وهوبز ولكن مع تطعيم هذه النزعة بمقولات الشُّكاك الأوائل مثل بيرون وشيشرون وكان ينعت نفسه بـ " الشاك " وغرضه أن يعزل الدين أو ما يسميه " الخرافة المستقرة " عن أي سيطرة فعالة في الحياة الأخلاقية للفرد والإنسان الاجتماعي ( ) .
و لا محل في فلسفة هيوم للحديث عن وجود الله [عز وجل] أو النفس ( ) ، فهو يرفض أية براهين عن ذلك ( ) ويقول : "" لو وجد لأمكن البرهنة على وجوده "" ( ) وعلل الاعتقاد بوجود الله عز وجل بالحاجة النفسية ، فعواطفنا هي التي ترغمنا على ذلك ، وإن كان التحليل الفلسفي يفتقر إلى البرهان ( ) ولم يكن هذا رأيه في الميتافيزيقا فقط ، بل إنه يرفض جميع الجواهر ( ) وينكر الروح والمادة ، ولا يُبقي إلا على المدرَكات الذاتية نفسها ( ) ، ولا يعترف بأية حقـائق ضرورية ، والعلـوم الطبيعية نسبية ترجع إلى تصديقات ذاتية يولدها تكرار التجربة ( ) .
وتبنى هيوم في العلية - مثله مثل مالبرانش 1638 – 1715م الذي سبقه في ذلك - الصورة الأشعـرية، حيث يُعرِّف العليـة بأنهـا موضـوع يسبـق موضـوعاً آخر ومجاور له ( ) ، ويعني بذلك أننا نستطيع من الناحية العملية أن نستنتج الأسباب من المسببات ولكن لا نستطيع أن نبرهن عليها رياضياً ، والعادة هي السبب الوحيد الذي يجعلنا نفكر في أن قوة أو فاعلية غير مرئية تـنتـقـل من موضوع إلى آخر ( ) .
وهنا ألفت النظر إلى أن الفرق شاسع جداً بين رؤية هيوم للعلية ورؤية الأشاعرة فهيوم يقرر رؤيته في العلية بسبب إنكاره لكل ما هو ميتافيزيقي أو غيبي ، وعدم إيمانه إلا بالمحسوس وبالتالي عدم إمكانية البرهنة على القوة التي تتحكم بالعلية . وأما الأشاعرة فمقصودهم شيء آخر هو نفي الأثر الذاتي والطبعي للأسباب ، وإثبات الإمداد الإلهي للكون بما فيه بالتأثر والتأثير والحفاظ على قيومية الله [عز وجل] للكون وإمداده له بالوجود .
وهكذا نجد أن باركلي أجهز على المادة وقضى عليها ومحاها من صفة الوجود ، ولكنه أشفق على العقل وسلم بوجوده ، فجاء هيوم فسارع بتدمير العقل والدين عن طريق تدمير النفس وتبديدها ( ) . وبذلك يكـون هيـوم مكرّساً للعلمانية الشاملـة بفلسفته الشكّية( ) .
وهذا ما دفع توماس ريد 1710 – 1796م إلى توظيف مقولة الذوق العام للرد عليه وعلى أمثاله من الشكاك ، ويعني بذلك أنه من الضروري برأيه أن يخضع العقل للحال المشترك بين بني الإنسان ، وهذا يعني أن المبادئ المقبولة عند جميع الناس هي مبادئ بدهية طبعية بحيـث لا تحتـاج إلى تفـسير ومن ذلك الإجمـاع على وجـود [الله عز وجل ] ( ) .
إلا أن هذه الحجة رفضها قبل أكثر من قرن من الزمان ببير شارون 1541 – 1603م إذ ينفي وجود إجماع من البشر على معتقدات واحدة ، فالمجتمعات البشرية تختلف اختلافـاً جـذرياً في كل شيء ، ولا يستثني من ذلك حتى وجود الله [عز وجل] ( ) . ويضاف أن هيوم لا تأتي عليه هذه الحجة لأنه أصلاً يعترف بشمول الظاهرة الدينية ولا ينفي ذلك ، ولكنه يعيد ذلك إلى أسباب نفسية وعاطفية كما أشرنا .
إن وصول الحجاج إلى هذا المستوى يعني أن المعركة الجدلية تكاد تُحسم لصالح الشك والإلحاد وهذا ما أكدته مرة أخرى فلسفات العقلانيين .
جذور العلمانية : الدين والعقلانية
( 6 ) العقل والمعرفة :
إلى جانب هؤلاء التجريبيين كان هناك عدد من الفلاسفة العقلانيين يطرحون تصوراتهم الجديدة حول الله [عز وجل] والكون والإنسان ، ويحاولون بناء صرح جديد للعقل الأوربي على أنقاض الصرح القروسطي الذي بدأ يتهاوى ، ولكنهم في الوقت الذي بدأوا فيه البناء كان التصدع واضحاً في الزوايا والركائز التي يقوم عليها البناء الجديد . ومن هؤلاء العقلانيين ديكارت 1596 – 1650م وسبينوزا 1632 – 1677 م ومالبرانش 1638 – 1715 م وليبنتز 1646 – 1716 م .
لقد حاول ديكارت أن يُعيد تأسيس الميتافيزيقا على أسس عقلية مجردة مبتدئاً بالشك واعتبر المذهب الميكانيكي الذي تمخض عن نزعة غاليلو الرياضية يهدد القدرة الإلهية ومع ذلك فهو يتبنى هذه النظرية ولم يفلح في تجاوزها( ) .
ورأى أن المعـرفة لا تأتي عن طريق الحواس ، ولا القوة المخيلة ، وإنما بالإدراك وحده ، وهي لا تُعرَف لأنها لا ترى ولا تلمس ، ولكنها تُفهم وتُدرك بالذهن( ) ."" وما دمت أدرك أنني أجد في عقلي فكرة الإله ، فكرة كائن كامل كمالاً مطلقاً... فمن هذه الحقيقة وحدها أستطيع أن أتصور الإله الآن بوصفه موجوداً، وليس معنى هذا أن تفكيري يستطيع أن يأتي بهذه النتيجة أو أن يفرض أية ضرورة على الأشياء، بل على العكس، إن الضرورة الموجودة في الشيء نفسه – أعني ضرورة وجود الإله – هي التي تفـرض أن تكـون لدي هـذه الفكرة""( ).
"لقد رسخ في ذهني منذ زمن طويل معتقد فحواه أن هنالك إلهاً قادراً على كل شيء"( ). و لا يمكن أن يوحي إلي بهذا المعتقد شيطان ماكر خبيث لأن هذا خداع من الله [عز وجل] والخداع نقص لا يليق بالله [ جل شأنه ]( ) .
ونلفت النظر هنا إلى أن الشك الديكارتي صعب جداً باعتراف ديكارت نفسه ، وتحقيقه عسير المنال( ) . ومن هنا فإن الذي سيرسخ في العقل الديكارتي هو الشك ، أما اليقين فليس من المؤكد حصوله في خضم الشبهات والافتراضات الهائلة التي تُحدق به . ومن هنا فقد قال باسكال بأن ديكارت كان مستعداً للاستغناء عن الله [ عز وجل ] لولا حاجته إليه ، لكي يعطي نقرة تحريك العالم ، ولولا ذلك لما اعترف به( ) . وهذا آت من أن ديكارت يعتبر الإله هو الأساس اليقيني في إثبات وجود الإنسان وفي معرفة الطبيعة و إقامة العلم الطبيعي ، فإنكار الإله يستوجب انهيار كل البناء الديكارتي في المعرفة ( ) وعدم إمكانية التحقق من شيء البتة ( ) .
ولذلك تعرض ديكارت لبعض المضايقات من البروتستانت في هولندا بدعوى أن آراءه تؤدي إلى الإلحاد وكاد يتعرض للمحاكمة لولا تدخل السفير الفرنسي( ) . وجَبُن عن نشر كتابه عن العالم في حياته لأن فيه هرطقتان : التسليم بدورة الأرض ، ولا نهائية العالم ، فخاف أن يحاكم كما حوكم جاليلو ( ) ، ولذلك كان يجامل رجال الدين دائماً وبخاصة الجزويت ، وهناك من يظن أن إيمانه كان لأغراض سياسية ( ) .
ويبدو أن الكنيسة شعرت بهذا ولذلك وضعت مؤلفاته في قائمة الكتب الممنوعة سنة 1633 م في روما وحُرِّم تدريس فلسفته في الجامعات الفرنسية بمرسوم ملكي ، واستُبعد كذلك مذهبه في هولندا ، والسبب في ذلك أن فلسفته تحب الوضوح ، وتميل إلى التدقيق ، والتمييز بين الأفكار والكنيسـة لا ترغب بهـذه الفلسفة لأن الإيمان الكنسي قائم على الأسرار ( ) .
وبذلك يكون ديكارت فشل في أن يحظى برضا الكنيسة ، وفي الوقت نفسه فشل في مقاومة التيار الشكي الإلحادي لأن الجرعة الشكية التي أراد أن يُطعِّم بها أمراض الشك بقصد معالجتها يبدو أنها كانت أكبر مما تحتمله العقول وتطيقه فأدى ذلك إلى تفاقم الشك وانهيار الأخلاق .
أما بنظر سبينوزا 1632 – 1677م فإن ديكارت فشل لأن نظرياته عن الإله كانت ناقصة ، وسبب ذلك أنها تنطلق من الوحي ، وتُسلم بالتصور المسيحي واليهودي للإله ، وبتعـاليم اللاهوتيـين والمـدرسيـين ، هـذا التصور الـذي لا يحظى بأي قيمـة في فـلسفة سبـيـنوزا ( ) لأن فلسفته تقوم علىالتوحـيد بين الـله والطبـيعة ، والنـفـس والبدن ( ) ، فأوامر الله ووصاياه هي نظام الطبيعة وقوانينها ، وقدرته ومشيئته هي قدرة الطبيعة ومشيئتها ، وهذا يعني أنه لا معنى للمعجزات ولا ضرورة لها ( ) .
بل إن المعجزات – بنظره - لا تؤكد وجود الله [عز وجل] ، على العكس إنها تشكك في وجوده ، وتؤدي بنا إلى الإلحاد ! ( ) لماذا ؟! لأن نظم الطبيعة ، وقوانينها نظم وقوانين إلهية فنقضها بالمعجزات يعني نقض نظام الله [عز وجل] وقوانينه وهذا افتئات على الله [جل شأنه] ، بل إنه يعتبر أن المعرفة النبوية أقل من المعرفة الطبيعية لأن الأولى تحتاج إلى علامة كالمـعجزة مثلاً أما الثانية : فلا تحتـاج لذلك ، فهي تتضمن اليقين بطبعها( ) ، وهو في ذلك يتابع الفلاسفة الأقدمين ، حتى في قولهم إن النبوة قائمة على الخيال ، والوحي ليس إلا تجلٍ لهذا الخيال الواسع( ) .
وبذلك فالكتب المقدسة ليست مصادر للحقيقة عنده ، وليست الأديان إلا أدوات للتنظيم الاجتماعي والأخلاقي ( ) ، والشعائر والطقوس ليست إلا خرافات تجميلية للدين تساعد على التحكم في العامة والسيطرة عليهم ( ) .
لقد قام سبينوزا إذن بتطبيع الإله أي بجعله مساوياً للطبيعة ، أو هو الطبيعة ( ) ، فأنزل الإله من عليائه ودمجه في الطبيعة ، وأصبح قريباً من الإنسان ( ) .
ولذلك لا محل للحديث عن حرية إلهية في فلسفة سبينوزا ، لأن الله عز وجل لا يستطيع أن يغير في القوانين الطبعية – بنظره - والقول بقدرته على ذلك كالقول بأن الله [عز وجل] بوسعه أن يحول دون أن تكون مجموع ثلاث زوايا المثلث مساوياً لزاويتين قائمتين ( ) .
وهذا ليس غريباً في فلسفته لأن الله [عز وجل] والطبيعة أو الكون أو الجوهر كلها مسميات لمعنى واحد عقلي ، مادي ، طبيعي ، ولا متناه ، والله علة محايثة للعالم بمعنى أنه لم يصنع العالم لأنه هو العالم ( ) . ويسمي الباري عز وجل " الطبيعة الطابعة " والجزئيات المحسوسة " الطبيعة المطبوعة " ( ) .
وعنده لا توجد حرية إنسانية فكل حدث يقع بضرورة رياضية ، حتى رغباتنا وأفكارنا تدين بأصلها إلى علل خارجية لا نستطيع التحكم فيها ، إن الحرية الإنسانية ببساطة عنده هي قبول الكون بضرورته الرياضية دون قلق أو حزن أو ضجر ، وهذا يساعدنا على التحرر من الانفعالات ويمكننا من إرجاع الشر إلى الخير ( ) ، ولذلك عنده لا مبرر للخوف من الموت ولا طائل للفزع منه ، لأن فكرة الموت إذا استبدت بالإنسان استعبدته ، ولذلك فهو يطرح الخوف بهدوء( ) .
وهو في ذلك يحيي الفلسفة الأبيقورية لأنها تقوم على رفض الخوف من الموت لأنه لا حياة بعده وإنما عدم ( ) ، وهو يفعل ذلك لسببين كلاهما قال به أبيقور : لا حياة بعد الموت وقد قال سبينوزا بذلك ( ) ، والثاني : ميكانيكية القوانين الطبيعية ورياضيتها بحيث أنها تتحكم فينا وبالتالي ليس لنا أي حرية ، فعلينا أن نتقبل هذا برضا ، فالسبب هو إذن اليأس من إثبات حرية الإنسان ( ) .
ولذلك فوحـدة الوجود السبينوزية لها أصول يونانية لدى هرقليطس الذي قال بأن الله يتـخذ صوراً مختلفـة من الطبيـعة فهو نهـار وليل وشتـاء وصيف وقلـة وكثرة وغيـر ذلك( )، ولدى بارمنيدس 540 ق.م الـذي لم يثبت إلا وجوداً واحداً هو الوجود وهو العالم( ). ولدى الرواقيين الذين قالوا بأن نسبة الله [عز جل] إلى العالم كنسبة روحنا إلينا ، فالله عز وجل منبث في العالم كله لأنه نفس العالم ، والعالم جسمه ( ) ، وهو في الفلسفة الحديثة يقترب في ذلك من فلسفة نيقولا دي كوسا 1401 –1464 م ، وجيوردانو برونو 1548 – 1600 م ( ).
استمرت هذه النزعة العقلية بعد سبينوزا لدى مالبرانش 1638 ، 1715م الذي تتلخص فلسفته في هذه العبارة " ما من شيء إذا تأمـلناه كما ينبـغي إلا ردنا إلى الله [عز وجل ] " ( )، وأن مجرد التفكير بوجود إله يعني أنه موجود ويكفي لإثبات وجوده ( ) . ولكن إلهه كإله سبينوزا محكوم بالطبيعة ، فهو يَعتبر قوى الطبيعة ليست إلا إرادة الـله عز وجـل ( ). وألصق صفة الامتداد ، كسلفه سبينوزا بالله [عز وجل] مما يعني أن [ الله عز وجل ] عنده ممتد كالأجسام ، وأن الامتداد المحسوس في الطبيعة جزء من الامتداد المعقول الذي هو امتداد إلهي ، وكتب كتاباً بعنوان " الطبيعة والنعمة " 1680 م أنكرته الكنيسة ( ) .
وتبنى في السببية الفلسفة الأشعرية والغزالية بالذات بكل تفاصيلها وبالمنطق نفـسه وبالأدلة نفسها ، وأحياناً بالأمثلة نفسها التي استخدمها الغزالي ( ) ، وقد رأينا أن هيوم الذي جاء بعد مالبرانش في الترتيب الزمني سار على نفس الخط .
ونصل الآن إلى ليبنتر 1646 – 1716م الذي التقى كثيراً بسبينوزا وأخذ عنه واستفاد منه ومع ذلك أنكر فضله عليه وقال بأنه لم يلتق به إلا مرة واحدة ( ).
اشتُهر بفكرة المونادات وليس له منها شيء ، فالموناد هو الجوهر الفرد ، وقد اعتقد بعدد لا متناه من الجواهر الفردة ( ) ، وأنها لا تفنى لأنها خالدة ، وهـو ما يعني أن العالـم لا نهـائي( ) . وأول من قال بفكرة الجوهر الفرد هما " ليوسبس ، وديمقريطس ، وقالا أيضاً : بأنها لا نهائية ومنها مـادة الكون( )، واتفق معهما أيضاً أبيقـور في هـذه الذرية والمادية( )، هذا من حيث جوهر الفكرة ، وأما الاسم " مونادات " فإن أول من قال به ليس ليبتـنز وإنما جيوردانو برونو الذي أشرنـا إليه سابقـاً وأُحـرق من قبل الكنيسة ( ).
والمسألة الأخرى التي اشتُهر بها ليبنتز هي " مبدأ السبب الكافي " الذي يستدل به على وجود الله عز وجل ، ويعني به " أن العالم من الممكن وجوده ، ومن الممكن عدمه ، فما دام وُجِـد فهذا يعني أن هناك سبباً كافياً لوجوده ، وهذا السبب لا بد أن يكون خارج العالم ( ).
وهنا نتساءل : أليس مبدأ السبب الكافي هذا هو المرجح الذي قال به المتكلمون ، عندما تحدثوا عن وجود [الله عز وجل ] وأثبتوا ذلك لأن رجحان الشيء على غيره بدون مرجـح باطل ، والوجـود والعـدم قضيتان متساويتـان فما الذي رجـح الوجود على العـدم ؟ إنه اللـه عز وجل ( ) .
ولكن السبب الكافي عند ليبنتز يُرغم الإله دائماً على أن يختار الأفضل وأقصى حدود الكمال ، وبذلك فهو يقضي على الحرية الإلهية ، لأن هذه الحرية كما يُفهم ضمناً من كلامه نقص وليست كمالاً ( ) . اتُّهم ليبنتز بالزندقة لأنه لم يكن يمارس العبادات إلا نادراً ، وكان يطلب من الكنائس التنازل عن بعض العقائد أو تعديلها حرصاً على وحدتها ( ) .
ولادة الدين الجديد " دين العقل ":
لقد تحدثنا حتى الآن عن الرشديين واعتبرناهم الممهدين للعلمنة في الغرب وأسهم في ذلك اضطهاد الكنيسة للفكر الرشدي ، واستخدام المثقفين الغربيين لابن رشد كسلاح في مواجهة الكنيسة ، ونتج عن ذلك ثورة شاملة في العقل الغربي ضد الفكر الكنسي والأرسطي ، ولكن هذه الثورة كانت مضطرة لمهادنة الكنيسة على الأقل في العلانية ، وتمثلت هذه الثورة في ثلاثة تيارات تحدثنا عنها : " الفلكيون " و"التجريبيون " و " العقليون " وأشير هنا إلى أن هذا التقسيم ليس جامعاً مانعاً فالتيارات الثلاثة تتداخل فيما بينها أحياناً إلى حد التماهي ، ولكن كان القصد بيان الخطوط العريضة لسير العلمنة في الغرب .
لقد كانت سيادة مقولة " الحقيقة المزدوجة " أو " الحقيقة ذات الوجهين " هي الخطوة الأولى ، وكان لها من الذيوع والانتشار ما جعلها تستحوذ على عقول كثير من الفلاسفة في القرون الثلاثة الأولى 14 ، 15 ، 16 كما لاحظنا سابقاً ( ) . وهذا لا يعني أنها اندثرت فيما بعد ، بل تفاقمت حتى أنتجت ما سمي بالعلمانية ، أو الفصل بين الدين والدولة كمظهر من مظاهرها .
لكن الخطوة الثانية التي بدأت تكتسب السيادة أيضاً في القرن السابع عشر ، وتسير متوازية إلى جانب " الحقيقة المزدوجة " هي ما سمي " الدين الإلهي " أو " الدين الطبيعي " ( ) أو " دين العقل " أو التأليهيين " ( ) وهي مسميات لفكرة قديمة ، تقوم على الإيمان بالله عز وجل ، ورفض النبوة والوحي والكنيسة ( ) .
لقد استعلنت ديانة العقل في إيطاليا في القرن السادس عشر بين فرقة السوسيني نسبة إلى مؤسسها socini وعرفت بإنكارها لاهوت المسيح والتثليث ثم امتدت إلى بولونيا ، ثم هرب أتباعها إلى هولندا سنة 1661 م ، وأما في انكلترة فقد وصل هذا المذهب سنة 1624 على يد هربرت أون تشربري سنة 1624 ( ) .
يعتبر اللورد هربرت تشربري 1583 – 1648م أول من دعا إلى هذا المذهب في إنكلترة ، ولخص المبادئ التي تشكل هذا المذهب سنة 1624م وتتلخص في الإيمان بالله عز وجل ، وعبادته ، والجزاء في الآخرة ، دون حاجة إلى الوحي ( ) ، ثم تلاه تشارلس بلوانت 1654 – 1693م ووليم ولياستون 1659 – 1724م وتوماس وولستون 1669 – 1733م وجون تولاند 1670 – 1722م وإيرل شافتسبري الثالث 1671 – 1713م والفيكونت بولنجبـروك 1678 – 1751م وأنتـوني كوليـنز 1676 - 1729م وتـوماس مورجـان ت : 1743م وتومـاس تشب 1679 – 1747م وبيتـر أنيت 1693 – 1769 ( ) .
ولكن يمكن القول بأن ديانة العقل ترجع إلى أبعد من ذلك إلى الرشديين فقد رأينا كيف كانوا يسخرون من الأديان والكتب المقدسة ، وهذا ما يفسر انتشارها بداية في إيطاليا حيث جامعتها " بادوفـا " التي كانت معقـل الرشـديـين منذ الـقرن الرابع عشـر كما أشرنا سابقـاً ( ) .
وكانت ديانة العقل هذه متضَمّنةً في المذهب الديكارتي ، وتقوم على الإقرار بوجود الله عز وجـل ، ذلك أن ديكارت وإن كان يصرح باعترافه بالمسيحية إلا أنه لم يهتم كثيراً بأسرارها ( ) ، بل هناك من يعتبر أن إيمانه كان مداهنة لرجال الدين ومهادنة للكنيسة ، ولأغراض السياسية ( ) .
وتبنى سبينوزا 1632 – 1677 هذا المذهب وقال بأننا لسنا ملزمين بالإيمان بالأنبياء إلا فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره ( ) . وغاية الوحي عنده هي محبة الله [ عز وجل ] بصدق وإخلاص ، ومحبة الناس ، وفعل الخير ( ) ، أما من الذي يحدد فعل الخير ، وما هي صفات الله عز وجل ؟ وكيف نؤمن به ؟ فليس الوحي هو الذي يحدد ذلك ، وإنما هو سبينوزا ، حيث يضع مبادئه وشروطه للإيمان كما يراه في عقله ( ) .
وقال جون لوك 1632 – 1704م معبراً عن هذا المذهب:" لم تبق حاجة أو نفع للوحي، طالمـا أن الله [ عز وجل ] أعطـانا وسائل طبيعية أكثـر يقيناً لنتوصل بها إلى المعرفة " ( ) .
وكانت جمعية لندن للمراسلات تحتضن المذهب التأليهي ، وتنشر كل ما يزري بالمسيحية وينصر التأليهيين ، فبالإضافة إلى نشرها لكتاب " عصر العقل " لتوماس بين نشرت كتابين آخرين لا يقلان زراية بالدين المسيحي هما " نظام الطبيعة " لـ ميربودو ، و " حطام الامبراطوريات " لـ فولني ، كما نشرت أبحاث فولتير التي تسخر بالدين المسيحي ، ونشرت كذلك من الكتب المعادية للمسيحية " جمال المذهب التأليهي " و " المعجم الأخلاقي " و " جوليان ضد المسيحية " و " الأفكار الطبيعية في مواجهة الأفكار الخارقة للطبيعة ". ومن الواضح هنا من خلال العناوين السابقة كيف كان الدين الطبيعي يكسب أنصاره بكثرة ( ) .
وكانت في لندن جمعية أخرى ازدهرت في القرن الثامن عشر تسمى " جمعية البحث الحر المخلص " بلغ عدد أعضائها سنة 1752 نحو 300 عضواً جلهم من المؤمنين بالدين الطبيعي وكان بيتر أنيت 1693 – 1769م أحد الأعضاء البارزين الذين يلقون المحاضرات في الأعضاء ، وقد أدين بسبب هرطقاته وتجديفاته ( ) .
وفي ألمانيا كان لسنج 1729 – 1781م يقول : بأن الكتاب المقدس ليس ضرورياً للإيمان بالمسيحية ، لأن هذه – أي المسيحية - أسبق في وجودها من قبول الكنيسة للعهد الجديد بصورته الراهنة ، كما أن الدليل على صحة جوهر المسيحية يكمن في ملاءمتها لحاجات الطبيعة البشرية ومتطلباتها وليس في معجزاتها ، وأن روح الدين لا تتأثر بأية أفكار مهما بلغت من جرأة وجسارة ، وأعلن أنه لا يؤمن بسائر الأديان ، وأن كل دين يمثل كلمة الحق الأخيرة ، وأن أي هجوم عليه لا يضيره ، وأن كل الأديان لها فضل على الإنسانية باشتراكها في تطوير حياتها الروحية ، ولا يوجد دين يمتلك احتكار الحقيقة ( ) .
وفي أمريكا كان من أشهر التأليهيين بنيامين فرانكلين 1706 – 1790 أنكر ألوهية المسيح ، وتقبل الأخلاق الدينية بطريقة نفعية براجماتية ، وكان يسمي نفسه " التأليهي " واستحدث صلاة خاصة بمذهبـه تخالف صلاة المسيحيين كان يتـوجه بها إلى الله [عز وجل ] كل يوم ( ) .
أما في فرنسا فقد كان دنيس ديدرو 1713 – 1784 م قد تأثر بالتأليهيين الإنجليز مثل شافتسبري وجون لوك وفرنسيس بيكون ، ورفض الأخلاق النابعة من الدين المنزل ، وآمن بالأخلاق النابعة من فيض القلب بعيداً عن المواضعات الاجتماعية ( ) ، وكان مثله مثل فولتير يريد أن يرى آخر ملك مشنوقاً بأمعاء آخر قسيس( ) ، وأدلته على وجود الله عز وجل نفس أدلة المؤلهة الطبيعيين( ) ، وكان يقول "" أكاد أجن من كوني مقتنعاً بفلسفة شيطانية لا يملك عقلي إلا تصديقها ، ولا يملك قلبي إلا رفضها "" ( ) .
وقال بالهمجي النبيل ، وعبر عن هذه الفكرة في كتابين كتبهما سنة 1769م وهما " رؤيا دي لامبرت " و " تكملة الرحلة إلى بوجينيفل " ويقارن الكتاب الأخير بين السعادة الفطرية والبدائية التي يشعر بها سكان جزيرة تاهيتي وشقاء الإنسان المتمدن ( ). وهي فكرة توسع فيها بعده جان جاك روسو 1712 – 1778م فقد كتب مقالاً ذهب فيه إلى أن العلوم والفنون والآداب هي ألد أعداء الأخلاق، وأنها تستعبد البشر، وتفرض القيود عليهم، في حين أن الإنسان البـدائي الذي يسير عاري الجسد لا تكبله القيود أكثر حرية وتلقائية من الإنسان المتمدن ( ).
وكان فولتير 1694 – 1778م قد نظم قصيدة حول زلزال لشبونة سنة 1755م تلقي بظلال الشك حول وجود عناية إلهية في هذا العالم ، ورد عليه روسو واتهمه بالإلحاد وألقى بالمسؤولية على أهل المدينة لأنهم يسكنون في أبنية مرتفعة فلو أنهم عاشوا حياة البداوة " كالهمجي النبيل " في ظلال الغابات لما أصابهم الزلزال بكل هذا الدمار ( ) . وقال في رده على فولتير : إن الله عز وجل يحكم العالم بقوانين عامة ، ومن العبث أن نتوقع من داخل المنظور الزمني أن يمنح الإنسان استثناءات خاصة ( ) .
والجدير بالذكر هنا أن روسو لم يكن في رده على فولتير منطلقاً من عقيدة دينية ، وإنما كان يمارس نوعاً من الانتهازية ضد فولتير بسبب كراهيته له للعداوة التي بينهما، وكان يستـغل الظروف للتـقرب من الكالفينيـين في سويسرا الذين ثـاروا ضـد مسرحيات فولتير ( ).
وفي كتابه " إميل " يدافع روسو عن مبادئ الدين الطبيعي ، ويرفض الأخلاق القائمة على الوحي ، وقد أغضب بذلك الكاثوليك والبروتستانت معاً عندما قال : "" لست أخمن بوجود قواعد للسلوك ، ولكنني أجد هذه القواعد منحوتة في أعماق قلبي ، وقد سطرتها الطبيعة بحروف لا تمحى "" ( )، وهذا يعني أن اعتقاده في الله عز وجل قائم على أساس شخصي ذاتي لا يمد أي شخص آخر بأسس لهذا الاعتقاد ( ) .
ونعود إلى فولتير وقد تركناه آخراً لأنه يُعتبر الممثل الرئيس لدين العقل في باريس وفي أوربا ، وهو وإن لم يعاصر الثورة الفرنسية إلا أن كتاباته الأدبية المؤثرة دفعت سكان باريس في عهد الثورة إلى تمجيد العقل إلى درجة دفعتهم إلى عبادة " إلهة العقل " المجسمة في شكل امرأة حسناء من نساء باريس ( ) .
وقد أخذ دينه العقلي عن الفلاسفة الإنجليز حيث أقام في انكلترة من عام 1726م إلى عام 1729م هرباً من السجن في فرنسا ، وأعجبه مذهب التأليه الطبيعي عند تولاند ، وآمن بالاستغناء عن الوحي وبأن المادة أزلية ، وأن قوة الله عز وجل محدودة ، وذلك لكي يفسر وجود الشر في العالم ( ) .
ذلك أن زلزال لشبونة سنة 1755م قد أثر عليه فأنكر العناية الإلهية ، أو انتقص منها فقال إنها لا تهتم بالجزئيات وإنما بالكليات فقط ( ) . وكان يعادي المسيحية والإلحاد على حد سواء ، ويعتنق مذهب الألوهية ( ) ، وكان متردداً في الخلود ( ) ، ولم يقتنع بلا مادية الروح ، ولكنه كان يعترف بالمنفعة الأخلاقية لفكرة الخلود في الحياة الاجتماعية ( ) ، ويرى أن المؤمن الوحيد الذي يجب أن نعترف به هو المؤمن بالله [عز وجل ] ، والمنكر للوحي ، والإنجيل الوحيد الذي يجب أن نقرأه هو كتاب الطبيعة الكبير الذي كتبته يد الله [ عز وجل ] ، وختمته بخاتمها ، والديانة الوحيدة التي يجب التبشير بها هي عبادة الله والسعي للخير ( ) ، ويريد أن يرى آخر ملك مشنوقاً بأمعاء آخر قسيس وهو ما ردده بعده ديدرو كما أشرنا آنفاً ( ) .
إن هـذه العبارة الأخيرة تؤكد لنا كم عانت أوربا من الاختناق بين فكي الكماشة : الملوك ، والكنيسة مما دفعها إلى ردة فعل قوية تجلت فيما نرى من مذاهب وتيارات فكرية تسير في طريق العلمانية على المستويين اللذين عانت منهما : السياسة والدين .
ومع ذلك فقد كان فولتير مضطرباً متقلباً فتتغلب عليه النزعة الشكية أحياناً ، والنزعة الإيمانيـة أحياناً أخرى ( ) فهو يقول: "" إن الاعتقاد القاطع بعدم وجود إله خطأ أخلاقي مروِّع ، خطأ لا يتمشى مع أية حكومة تتسم بالعقل والحكمة "" ، وإنه من الأفضل بكثير من الناحية الأخلاقية أن نؤمن بوجود إله من عدم الإيمان بوجوده فـ "" لو لم يكن الله [عز وجل] موجوداً لتعين اختـراعه "" ( ) ، وكان يقول : "" يثير الرأي القائل بوجود الله [عز وجل ] صعوبات ، ولكن الرأي المعاكس ينطوي على أمور مستحيلة "" ( ) .
ولكن الشيء الذي لم يتردد فيه هو إنكاره للأديان والوحي والتنزيل والمعجزات وعبر عن ذلك في كتابه " مبحث في الميتافيزيقا " ومقاله الذي نشره عام 1742م بعنوان " المذهب التأليهي ( ) وختم حياته بقوله : "" أموت عن عبادة الله ومحبة أصدقائي وكراهية أعدائي ، ومقتي للخرافات والأساطير الدخيلة على الدين "" ( ) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة - جامعة دمشق
جذور العلمانية : الدين أمام العلم والفلسفة
(5)الإرادة الإلهية والحتمية الفلكية الميكانيكية :
في النصف الثاني من القرن السادس عشر بدأت تتغير نظرة الإنسان الغربي إلى الكون فقد ظهر عدد من الفلكيين الذين تابعوا أبحاث كوبرنيقوس وأذاعوا نظريته على نطاق أوسع بعد أن أضافوا إليها بعض التعديلات والإصلاحات ، ومن هؤلاء كبلر 1571 – 1630م وجاليلو 1564 – 1642 م ، وإسحق نيوتن 1642 – 1727 ، فقد اعتنق كبلر ما قرره سلفه كوبرنيقوس من أن الشمس هي المركز وليست الأرض ، وتقدم بأدلة جديدة تنصر هذه النظرية ، وأكد أن الكون يتحرك كجسم كامل حركة ميكانيكية ( ) .
وأكد غاليلو - كما أشرنا سابقاً - على الانفصال التام بين العلم والإيمان ، وفي سنة 1609 م أعلن انحيازه لنظرية كوبرنيق ( ) ، وكاد أن يخسر حياته لولا أنه أعلن تراجعه عن آرائه أمـام المحكمة ، ولكنه خرج وهو يضرب الأرض برجـله ويقول : " ومع ذلك فهي تدور " ( ) . وقد أنجز نيوتن انتصارات علمية هائلة ، وأعلن قانون الجاذبية ، وسيطر على العقول حتى كاد أن يصبح أرسطو آخر( ) .
لقد صاغ نيوتن النظرية الإلهية للطبيعة، وظل العلم يرتكز عليها إلى عصرنا الحاضر ، حيث يطالب العلم اليوم بتغيير هذه النظرية ( ) وكانت إسهاماته مع غاليلو وديكارت وكوبرنيقوس وكبلر قد رسخت النظرية الآلية للكون ، والنظر إليه على أنه آلة كبيرة ، أو ساعة صنعت كاملة( ) .
ترافقت هذه النظريات التي طرحها هؤلاء العلماء مع اكتشافات هائلة لم تعهدها أوربا من قبل فاكتشف ليفنهوك 1632 – 1723 م الكائنات العضوية أحادية الخلية ، والباكتريا ، كما اكتشف الحيوانات المنوية ، وإن كان هذا الاكتشاف يُنسب إلى شخص آخر هو ستيفان هام قبل ذلك بأشهر قليلة ، واخُترع الميكروسكوب المركب حوالي سنة 1590م والتلسكوب سنة 1608 م اخترعه هولندي يدعى ليبرش ، واخترع جاليلو الترمومتر ، واخترع تلميذه تورشيلي البارومتر ، واخترع جريكة 1602 – 1686 م مضخة الهواء ، ونشر جلبرت 1540 – 1603م كتابه عن المغناطيس سنة 1600م واكتشف هارفي 1578 – 1657 م دورة الدم ونشر اكتشافه سنة 1628 م ( ) .
أدى كل ذلك إلى تغير نظرة الإنسان إلى الكون وسيطرت النظرة الآلية الميكانيكية وكان المثال المفضل هو تمثيل الكون بالساعة ( ) "" إن الكون أشبه بساعة نادرة كتلك الموضوعة في ستراسبورغ حيث صُنع كل شيء بمهارة ، وعندما تشغل الماكينة تحدث معها حركة تعقبها كل الحركات المتوافقة مع تصميم المخترع "" ( ) .
وهكذا تحول الله [ عز وجل ] – بنظر الغربيين - إلى ساعاتي رفيع المقام [سبحانه وتعالى] إلى إله مستريح ساكن غائب عن العمل عندما تُصوِّر الكون على أنه ميكانيكي يعمل كالساعة المحشوة بالمعلومات ( ) ، ويكون بذلك نيوتن وغاليلو أبعدا الله عز وجل عن العالم وجعلاه لا يتدخل في شؤونه ، لأن قوانين الطبيعة والكون أصبحت حتمية ( ) وبالتالي لم تعد لله [ عز وجل ] أهمية في حياتنا ، لأنه لم يعد له عمل ( ) .
ولكن نيوتن لم يقصد هذا ، بل ظن أن أبحاثه ستزيد الإيمان بالله [ عز وجل ] ، ولم يدر أنها قوضت الإيمان بعده( ) ، ولذلك فإن نيوتن ظل يلح على أن الله [عز وجل ] يظل يتدخل في تصحيح مسارات الكواكب والكون ، ويعدل في قوانينه . ( ) لأن الكون لا يستغني عن الله [عز وجل ] ليظل يراقبه ويصلحه كما تحتاج الساعة إلى إصلاح ( ) .
لقد كان نيوتن مؤمناً بالله [عز وجل ] وأتباعه كذلك حتى قال فولتير "" لم أر قط بين أتباع نيوتن رجلاً واحداً لم يكن مؤمناً بوجود الله [عز وجل ] إيماناً عنيفاً قوياً ""( ) .
إلا أن الرياضيين الذين تبعوه رأوا أن وظيفة الله عز وجل في الكون " الساعة " تنحصر فقط في إدارة تلك الساعة في البدء ( ) ولذلك قال باسكال عن ديكارت بأنه كان مستعداً للاستغناء عن الله [عز وجل ] لولا حاجته إليه لكي يعطي نقرة تحريك العالم ( )، ثم لا حاجة بعد ذلك لتدخل الإله في شؤون الكون والطبيعة . ومـن هـؤلاء الريـاضيين " لابـلاس " الذي اكتشف أن الكواكب تصحح مساراتها بنفسها ( )، وبالتالي لا ضرورة لما رآه نيـوتن من تدخـل الإله، فالحاجة إليه لم تعد ماسة بنظرهم، وقال لنابليون عندما سأله عن الله [عز وجل]: سيدي لست بحاجة إلى مثل هذا الافتراض( ) . وكلامه هذا منقوض ببساطة لأن الملاحظة المباشرة لا تنجب الحتمية ،لأنها لا ترى ما وراء الظواهر( ) ، وهو ما أكده هيوم وقبله الغزالي كما سنرى لاحقاً .
ولكن على كل حال يبدو أنه من المستحيل على من يؤمن بالفيزياء النيوتني أن يثبت وقوع أي حادث معين بشكل خارق للطبيعة فقد ولى زمن المعجزات طبقاً للنظرية النيوتنية ( ) ولم تعد هناك حاجة إلى الله [عز وجل ] ليجعل الميكانيزم يعمل ، فالكواكب تبعاً لنيوتن قذفتها يد الله [عز وجل ] في الأصل ، ولكن بعد أن فعل هذا وأصدر قانون الجاذبية سار كل شيء بذاته بغير حاجة إلى مزيد من التدخل الإلهي ، وحين اقترح لابلاس أن نفس القوى التي تعمل الآن لا بد أنها كانت السبب في خروج الكواكب من الشمس دفع اقتراحه هذا إسهام الله [عز وجل] في الطبيعة إلى الوراء مدىً أبعد ، ومع ذلك يمكن أن يظل الله عز وجل خالقاً ، وحتى هذا كان مشكوكاً فيه - بنظر الغربيين - ما دام لم يكن واضحاً أن العالم كانت له بداية في الزمان ( ) .
هذه النظرة الآلية الميكانيكية التي سيطرت لمدة قرنين من الزمان على الفكر الأوربي وسميت بمبدأ الحتمية كانت مرتبطة تاريخياً كما هو ملاحظ بعلم الفلك( ) ، وظل النزاع بين الحتمية واللاحتمية غافياً نوعاً ما حتى جاءت ثورة هيزنبرغ وأيقظته ، ولا ترضى هذه الثورة بأقل من إقامة لا حتمية موضوعية ( ) ، فقد وصل العلماء في السنين الحديثة إلى مرحلة من أهـم مراحل تطور التفكير العلمي وذلك حين عدلوا عدولاً تاماً عن تفسير الكون تفسيراً ميكانيكياً ( )، وبـدأ تفسير الكون يتم وفق آراء جديدة ، وإن لم تكن هذه الآراء واضحة وضوحاً تاماً ( ) ، ولكن أهم فكرة جديدة تمخض عنها العلم الحديث هي قاعدة اللاحتمـية وهي نقيض قاعدة الجبـرية الصارمة التي كانت تسيـطر على العالم قبل الآن ( ) وانـهارت نظريات نيوتن ولابلاس ومن نحا نحوه ، وهي تُستبَـدَل الآن بـنـظرة أخرى جديدة تختلف عنها ( ).
الدين أمام الفلسفة التجريبية :
لم يكن الفلكيون وحدهم في المعركة ضد الكنيسة ، وضد أرسطو والثقافة المدرسية ، بل كان إلى جانبهم عدد من الفلاسفة التجريبيين والعقلانيين يسهمون في تحديث العقل الأوربي ويُعتبر فرنسيس بيكون 1561 – 1626 م من أبرز الفلاسفة التجريبيين وقد أشرنا سابقاً إلى فصله بين العلم والإيمان وأدلة كل منهما ، وتبنيه لمقولة الحقيقة المزدوجة ، وهو بالإضافة إلى ذلك يكاد يظهر على أنه ديمقريطسي فيقرر أن الحركة الطبيعية للذرة هي حقاً أقدم قوة ، وهي القوة الفريدة التي تُكوِّن الأشياء جميعاً من المادة وتصوغها منها ، ولا يمكن أن تكون لهذه المادة الأولية وقوتها وفعلها أي علة طبيعية فما من شيء يسبق المادة نفسها ، ولهذا فلا يمكن أن توجد لها علة كافية ( ) وهو ما رآه أبيقور 342 ق . م أيضاً قبل قرابة ألفي سنة ( ) .
وتوماس هوبز 1588 – 1679 م الذي رأى أن جوهر الدين لا يقوم على الحقائق ، وإنما على خوف الفرد من القوة المجهولة أو الخوف من الموت ، وما الصفات التي نخلعها على الإله إلا أسماء تعبر عن عجزنا عن معرفته ، وعن رغبتنا في وصفه بعبارات تمجيدية من شأنها إرضاء قوة مجهولة ( ) . هذا الرأي الذي يزعمه هوبز لا يختلف عما نادى به قبله بأكثر من ألفي سنة الفيلسوف اليوناني ديمقريطس 470 – 361 ق . م كما أنه يتبنى رأيه في فناء كل شيء إلا الذوات والفراغ ( ) .
والدين عند هوبز نافع على المستوى السياسي فهو أداة في يد السلطان لحكم المواطنين ، ولهذا فيجب أن تكون المسائل المتعلقة بالعقيدة والعبادة ، وتفسير الكتاب المقدس في يد السلطان، له أن يقول فيها كلمته النهائية . وهكذا ينتهي إلى أن الدين ليس إلا تبريراً لغايات الدولة والأشخاص ( ) . بالإضافة إلى ذلك فهو أبيقوري في الأخلاق فهي عنده قائمة على أساس من اللذة والأنانيـة ، وأن الإنسان مـا هو إلا ذئب لأخـيه الإنسان ، ويكرس الآليه والمادية والنفـعية ( ) وأخلاق السوق وأخلاق المصلحة الذاتية اللتين نشأتا في عصره ( ) .
ومن هؤلاء التجريبيين أيضاً جون لوك 1632 – 1704 م الذي لم يستطع أن يجاهر بعدائه للمسيحية ، ولم يخف على المقربين منه ازدراءه لها فقد كتب لصديقه " ليبنتز " أنت وأنا لدينا الكفاية من هذا العبث " يقصد الميتافيزيقا ( ) وقال أيضاً : " لم تبق حاجة أو نفع للوحي ، طالما أن الله أعطـانا وسائـل طبعيـة أكثر يقينـاً لنتـوصل بهـا إلى المعرفة "( ) . والخير والشر عنده كما رأينا عند هوبز وأبيقور مرتبطان باللذة والألم ، فالخير ما يجلب اللذة ، والشر ما يجلب الألم ( ) .
ولكن إسهام لوك الأكثر وضوحاً كان في القضاء على ما كان شائعاً من " الحق الإلهي للملوك " فقد فند حجج وادعاءات سير روبرت فيلمو الذي حاول أن يكرس هذا الحق، واستطـاع لوك بالإضـافة إلى عوامـل أخرى أن يبـين أن الحكومة والملك ليست شيئاً إلهيـا ( ). ودعا إلى الفصل بين الدولة والكنيسة ، وأصدر كتابين أحدهما " لا ضرورة لمفسر معصوم للكتب المقدسة " والثاني " معقولية المسيحية " غلّب فيهما الجانب العقلي في المسيحية ، ودعا إلى عقلنتها لكي تقبل ( ) .
برز بعد هوبز جورج باركلي 1685 – 1753م بنظريته الطريفة في إنكار المادة ، وعبر عن ذلك بقوله : " وجود الشيء هو أن يكون مُدرَكاً " ( ) وعبر عن ذلك في سنة 1710 م عندما أصدر كتابه " بحث في مبادئ المعرفة البشرية " ( ) ، ويعني بذلك أن كل ما نراه من موضوعات مادية ليس موجوداً إلا لأننا ندركه فقيل له : إن الشجرة بناءً على ذلك يجب أن تتوقف عن النمو حين لا يراها أحد ، فأجاب بأن كل ما هو موجود ولا ندركه نحن ، فهو موجود لأن الله عز وجل يدركه ، فالصخـور والأحجـار موجـودة بفضل إدراك الله عـز وجل لها ( ) .
بناء على نظريته هذه فالموضوعات المباشرة للفكر هي المعاني دون الأشياء ، وغير المُدرَك لا وجود له ( )، ولذلك فالاعتقاد بالمادة عديم الجدوى – عنده - وفيه خطر كبير لأن الأجسام ليست في الحقيقة إلا تصورات الروح ، والقول بالمادية هو الذي أدى بكثير من الفلاسفة إلى وحدة الوجود كما ذهب سبينوزا وأمثاله ( ) ، ولذلك فهو ينكر المادية إنكاراً تاماً ، ولا يعترف إلا بحقيقة واحدة يحسها في نفسه ألا وهي العقل ( ) .
وبعكس لا مادية باركلي كان ديفيد هيوم 1711 – 1776 م فقد تبنى النزعة الطبيعية التي نادى بها بيكون وهوبز ولكن مع تطعيم هذه النزعة بمقولات الشُّكاك الأوائل مثل بيرون وشيشرون وكان ينعت نفسه بـ " الشاك " وغرضه أن يعزل الدين أو ما يسميه " الخرافة المستقرة " عن أي سيطرة فعالة في الحياة الأخلاقية للفرد والإنسان الاجتماعي ( ) .
و لا محل في فلسفة هيوم للحديث عن وجود الله [عز وجل] أو النفس ( ) ، فهو يرفض أية براهين عن ذلك ( ) ويقول : "" لو وجد لأمكن البرهنة على وجوده "" ( ) وعلل الاعتقاد بوجود الله عز وجل بالحاجة النفسية ، فعواطفنا هي التي ترغمنا على ذلك ، وإن كان التحليل الفلسفي يفتقر إلى البرهان ( ) ولم يكن هذا رأيه في الميتافيزيقا فقط ، بل إنه يرفض جميع الجواهر ( ) وينكر الروح والمادة ، ولا يُبقي إلا على المدرَكات الذاتية نفسها ( ) ، ولا يعترف بأية حقـائق ضرورية ، والعلـوم الطبيعية نسبية ترجع إلى تصديقات ذاتية يولدها تكرار التجربة ( ) .
وتبنى هيوم في العلية - مثله مثل مالبرانش 1638 – 1715م الذي سبقه في ذلك - الصورة الأشعـرية، حيث يُعرِّف العليـة بأنهـا موضـوع يسبـق موضـوعاً آخر ومجاور له ( ) ، ويعني بذلك أننا نستطيع من الناحية العملية أن نستنتج الأسباب من المسببات ولكن لا نستطيع أن نبرهن عليها رياضياً ، والعادة هي السبب الوحيد الذي يجعلنا نفكر في أن قوة أو فاعلية غير مرئية تـنتـقـل من موضوع إلى آخر ( ) .
وهنا ألفت النظر إلى أن الفرق شاسع جداً بين رؤية هيوم للعلية ورؤية الأشاعرة فهيوم يقرر رؤيته في العلية بسبب إنكاره لكل ما هو ميتافيزيقي أو غيبي ، وعدم إيمانه إلا بالمحسوس وبالتالي عدم إمكانية البرهنة على القوة التي تتحكم بالعلية . وأما الأشاعرة فمقصودهم شيء آخر هو نفي الأثر الذاتي والطبعي للأسباب ، وإثبات الإمداد الإلهي للكون بما فيه بالتأثر والتأثير والحفاظ على قيومية الله [عز وجل] للكون وإمداده له بالوجود .
وهكذا نجد أن باركلي أجهز على المادة وقضى عليها ومحاها من صفة الوجود ، ولكنه أشفق على العقل وسلم بوجوده ، فجاء هيوم فسارع بتدمير العقل والدين عن طريق تدمير النفس وتبديدها ( ) . وبذلك يكـون هيـوم مكرّساً للعلمانية الشاملـة بفلسفته الشكّية( ) .
وهذا ما دفع توماس ريد 1710 – 1796م إلى توظيف مقولة الذوق العام للرد عليه وعلى أمثاله من الشكاك ، ويعني بذلك أنه من الضروري برأيه أن يخضع العقل للحال المشترك بين بني الإنسان ، وهذا يعني أن المبادئ المقبولة عند جميع الناس هي مبادئ بدهية طبعية بحيـث لا تحتـاج إلى تفـسير ومن ذلك الإجمـاع على وجـود [الله عز وجل ] ( ) .
إلا أن هذه الحجة رفضها قبل أكثر من قرن من الزمان ببير شارون 1541 – 1603م إذ ينفي وجود إجماع من البشر على معتقدات واحدة ، فالمجتمعات البشرية تختلف اختلافـاً جـذرياً في كل شيء ، ولا يستثني من ذلك حتى وجود الله [عز وجل] ( ) . ويضاف أن هيوم لا تأتي عليه هذه الحجة لأنه أصلاً يعترف بشمول الظاهرة الدينية ولا ينفي ذلك ، ولكنه يعيد ذلك إلى أسباب نفسية وعاطفية كما أشرنا .
إن وصول الحجاج إلى هذا المستوى يعني أن المعركة الجدلية تكاد تُحسم لصالح الشك والإلحاد وهذا ما أكدته مرة أخرى فلسفات العقلانيين .
جذور العلمانية : الدين والعقلانية
( 6 ) العقل والمعرفة :
إلى جانب هؤلاء التجريبيين كان هناك عدد من الفلاسفة العقلانيين يطرحون تصوراتهم الجديدة حول الله [عز وجل] والكون والإنسان ، ويحاولون بناء صرح جديد للعقل الأوربي على أنقاض الصرح القروسطي الذي بدأ يتهاوى ، ولكنهم في الوقت الذي بدأوا فيه البناء كان التصدع واضحاً في الزوايا والركائز التي يقوم عليها البناء الجديد . ومن هؤلاء العقلانيين ديكارت 1596 – 1650م وسبينوزا 1632 – 1677 م ومالبرانش 1638 – 1715 م وليبنتز 1646 – 1716 م .
لقد حاول ديكارت أن يُعيد تأسيس الميتافيزيقا على أسس عقلية مجردة مبتدئاً بالشك واعتبر المذهب الميكانيكي الذي تمخض عن نزعة غاليلو الرياضية يهدد القدرة الإلهية ومع ذلك فهو يتبنى هذه النظرية ولم يفلح في تجاوزها( ) .
ورأى أن المعـرفة لا تأتي عن طريق الحواس ، ولا القوة المخيلة ، وإنما بالإدراك وحده ، وهي لا تُعرَف لأنها لا ترى ولا تلمس ، ولكنها تُفهم وتُدرك بالذهن( ) ."" وما دمت أدرك أنني أجد في عقلي فكرة الإله ، فكرة كائن كامل كمالاً مطلقاً... فمن هذه الحقيقة وحدها أستطيع أن أتصور الإله الآن بوصفه موجوداً، وليس معنى هذا أن تفكيري يستطيع أن يأتي بهذه النتيجة أو أن يفرض أية ضرورة على الأشياء، بل على العكس، إن الضرورة الموجودة في الشيء نفسه – أعني ضرورة وجود الإله – هي التي تفـرض أن تكـون لدي هـذه الفكرة""( ).
"لقد رسخ في ذهني منذ زمن طويل معتقد فحواه أن هنالك إلهاً قادراً على كل شيء"( ). و لا يمكن أن يوحي إلي بهذا المعتقد شيطان ماكر خبيث لأن هذا خداع من الله [عز وجل] والخداع نقص لا يليق بالله [ جل شأنه ]( ) .
ونلفت النظر هنا إلى أن الشك الديكارتي صعب جداً باعتراف ديكارت نفسه ، وتحقيقه عسير المنال( ) . ومن هنا فإن الذي سيرسخ في العقل الديكارتي هو الشك ، أما اليقين فليس من المؤكد حصوله في خضم الشبهات والافتراضات الهائلة التي تُحدق به . ومن هنا فقد قال باسكال بأن ديكارت كان مستعداً للاستغناء عن الله [ عز وجل ] لولا حاجته إليه ، لكي يعطي نقرة تحريك العالم ، ولولا ذلك لما اعترف به( ) . وهذا آت من أن ديكارت يعتبر الإله هو الأساس اليقيني في إثبات وجود الإنسان وفي معرفة الطبيعة و إقامة العلم الطبيعي ، فإنكار الإله يستوجب انهيار كل البناء الديكارتي في المعرفة ( ) وعدم إمكانية التحقق من شيء البتة ( ) .
ولذلك تعرض ديكارت لبعض المضايقات من البروتستانت في هولندا بدعوى أن آراءه تؤدي إلى الإلحاد وكاد يتعرض للمحاكمة لولا تدخل السفير الفرنسي( ) . وجَبُن عن نشر كتابه عن العالم في حياته لأن فيه هرطقتان : التسليم بدورة الأرض ، ولا نهائية العالم ، فخاف أن يحاكم كما حوكم جاليلو ( ) ، ولذلك كان يجامل رجال الدين دائماً وبخاصة الجزويت ، وهناك من يظن أن إيمانه كان لأغراض سياسية ( ) .
ويبدو أن الكنيسة شعرت بهذا ولذلك وضعت مؤلفاته في قائمة الكتب الممنوعة سنة 1633 م في روما وحُرِّم تدريس فلسفته في الجامعات الفرنسية بمرسوم ملكي ، واستُبعد كذلك مذهبه في هولندا ، والسبب في ذلك أن فلسفته تحب الوضوح ، وتميل إلى التدقيق ، والتمييز بين الأفكار والكنيسـة لا ترغب بهـذه الفلسفة لأن الإيمان الكنسي قائم على الأسرار ( ) .
وبذلك يكون ديكارت فشل في أن يحظى برضا الكنيسة ، وفي الوقت نفسه فشل في مقاومة التيار الشكي الإلحادي لأن الجرعة الشكية التي أراد أن يُطعِّم بها أمراض الشك بقصد معالجتها يبدو أنها كانت أكبر مما تحتمله العقول وتطيقه فأدى ذلك إلى تفاقم الشك وانهيار الأخلاق .
أما بنظر سبينوزا 1632 – 1677م فإن ديكارت فشل لأن نظرياته عن الإله كانت ناقصة ، وسبب ذلك أنها تنطلق من الوحي ، وتُسلم بالتصور المسيحي واليهودي للإله ، وبتعـاليم اللاهوتيـين والمـدرسيـين ، هـذا التصور الـذي لا يحظى بأي قيمـة في فـلسفة سبـيـنوزا ( ) لأن فلسفته تقوم علىالتوحـيد بين الـله والطبـيعة ، والنـفـس والبدن ( ) ، فأوامر الله ووصاياه هي نظام الطبيعة وقوانينها ، وقدرته ومشيئته هي قدرة الطبيعة ومشيئتها ، وهذا يعني أنه لا معنى للمعجزات ولا ضرورة لها ( ) .
بل إن المعجزات – بنظره - لا تؤكد وجود الله [عز وجل] ، على العكس إنها تشكك في وجوده ، وتؤدي بنا إلى الإلحاد ! ( ) لماذا ؟! لأن نظم الطبيعة ، وقوانينها نظم وقوانين إلهية فنقضها بالمعجزات يعني نقض نظام الله [عز وجل] وقوانينه وهذا افتئات على الله [جل شأنه] ، بل إنه يعتبر أن المعرفة النبوية أقل من المعرفة الطبيعية لأن الأولى تحتاج إلى علامة كالمـعجزة مثلاً أما الثانية : فلا تحتـاج لذلك ، فهي تتضمن اليقين بطبعها( ) ، وهو في ذلك يتابع الفلاسفة الأقدمين ، حتى في قولهم إن النبوة قائمة على الخيال ، والوحي ليس إلا تجلٍ لهذا الخيال الواسع( ) .
وبذلك فالكتب المقدسة ليست مصادر للحقيقة عنده ، وليست الأديان إلا أدوات للتنظيم الاجتماعي والأخلاقي ( ) ، والشعائر والطقوس ليست إلا خرافات تجميلية للدين تساعد على التحكم في العامة والسيطرة عليهم ( ) .
لقد قام سبينوزا إذن بتطبيع الإله أي بجعله مساوياً للطبيعة ، أو هو الطبيعة ( ) ، فأنزل الإله من عليائه ودمجه في الطبيعة ، وأصبح قريباً من الإنسان ( ) .
ولذلك لا محل للحديث عن حرية إلهية في فلسفة سبينوزا ، لأن الله عز وجل لا يستطيع أن يغير في القوانين الطبعية – بنظره - والقول بقدرته على ذلك كالقول بأن الله [عز وجل] بوسعه أن يحول دون أن تكون مجموع ثلاث زوايا المثلث مساوياً لزاويتين قائمتين ( ) .
وهذا ليس غريباً في فلسفته لأن الله [عز وجل] والطبيعة أو الكون أو الجوهر كلها مسميات لمعنى واحد عقلي ، مادي ، طبيعي ، ولا متناه ، والله علة محايثة للعالم بمعنى أنه لم يصنع العالم لأنه هو العالم ( ) . ويسمي الباري عز وجل " الطبيعة الطابعة " والجزئيات المحسوسة " الطبيعة المطبوعة " ( ) .
وعنده لا توجد حرية إنسانية فكل حدث يقع بضرورة رياضية ، حتى رغباتنا وأفكارنا تدين بأصلها إلى علل خارجية لا نستطيع التحكم فيها ، إن الحرية الإنسانية ببساطة عنده هي قبول الكون بضرورته الرياضية دون قلق أو حزن أو ضجر ، وهذا يساعدنا على التحرر من الانفعالات ويمكننا من إرجاع الشر إلى الخير ( ) ، ولذلك عنده لا مبرر للخوف من الموت ولا طائل للفزع منه ، لأن فكرة الموت إذا استبدت بالإنسان استعبدته ، ولذلك فهو يطرح الخوف بهدوء( ) .
وهو في ذلك يحيي الفلسفة الأبيقورية لأنها تقوم على رفض الخوف من الموت لأنه لا حياة بعده وإنما عدم ( ) ، وهو يفعل ذلك لسببين كلاهما قال به أبيقور : لا حياة بعد الموت وقد قال سبينوزا بذلك ( ) ، والثاني : ميكانيكية القوانين الطبيعية ورياضيتها بحيث أنها تتحكم فينا وبالتالي ليس لنا أي حرية ، فعلينا أن نتقبل هذا برضا ، فالسبب هو إذن اليأس من إثبات حرية الإنسان ( ) .
ولذلك فوحـدة الوجود السبينوزية لها أصول يونانية لدى هرقليطس الذي قال بأن الله يتـخذ صوراً مختلفـة من الطبيـعة فهو نهـار وليل وشتـاء وصيف وقلـة وكثرة وغيـر ذلك( )، ولدى بارمنيدس 540 ق.م الـذي لم يثبت إلا وجوداً واحداً هو الوجود وهو العالم( ). ولدى الرواقيين الذين قالوا بأن نسبة الله [عز جل] إلى العالم كنسبة روحنا إلينا ، فالله عز وجل منبث في العالم كله لأنه نفس العالم ، والعالم جسمه ( ) ، وهو في الفلسفة الحديثة يقترب في ذلك من فلسفة نيقولا دي كوسا 1401 –1464 م ، وجيوردانو برونو 1548 – 1600 م ( ).
استمرت هذه النزعة العقلية بعد سبينوزا لدى مالبرانش 1638 ، 1715م الذي تتلخص فلسفته في هذه العبارة " ما من شيء إذا تأمـلناه كما ينبـغي إلا ردنا إلى الله [عز وجل ] " ( )، وأن مجرد التفكير بوجود إله يعني أنه موجود ويكفي لإثبات وجوده ( ) . ولكن إلهه كإله سبينوزا محكوم بالطبيعة ، فهو يَعتبر قوى الطبيعة ليست إلا إرادة الـله عز وجـل ( ). وألصق صفة الامتداد ، كسلفه سبينوزا بالله [عز وجل] مما يعني أن [ الله عز وجل ] عنده ممتد كالأجسام ، وأن الامتداد المحسوس في الطبيعة جزء من الامتداد المعقول الذي هو امتداد إلهي ، وكتب كتاباً بعنوان " الطبيعة والنعمة " 1680 م أنكرته الكنيسة ( ) .
وتبنى في السببية الفلسفة الأشعرية والغزالية بالذات بكل تفاصيلها وبالمنطق نفـسه وبالأدلة نفسها ، وأحياناً بالأمثلة نفسها التي استخدمها الغزالي ( ) ، وقد رأينا أن هيوم الذي جاء بعد مالبرانش في الترتيب الزمني سار على نفس الخط .
ونصل الآن إلى ليبنتر 1646 – 1716م الذي التقى كثيراً بسبينوزا وأخذ عنه واستفاد منه ومع ذلك أنكر فضله عليه وقال بأنه لم يلتق به إلا مرة واحدة ( ).
اشتُهر بفكرة المونادات وليس له منها شيء ، فالموناد هو الجوهر الفرد ، وقد اعتقد بعدد لا متناه من الجواهر الفردة ( ) ، وأنها لا تفنى لأنها خالدة ، وهـو ما يعني أن العالـم لا نهـائي( ) . وأول من قال بفكرة الجوهر الفرد هما " ليوسبس ، وديمقريطس ، وقالا أيضاً : بأنها لا نهائية ومنها مـادة الكون( )، واتفق معهما أيضاً أبيقـور في هـذه الذرية والمادية( )، هذا من حيث جوهر الفكرة ، وأما الاسم " مونادات " فإن أول من قال به ليس ليبتـنز وإنما جيوردانو برونو الذي أشرنـا إليه سابقـاً وأُحـرق من قبل الكنيسة ( ).
والمسألة الأخرى التي اشتُهر بها ليبنتز هي " مبدأ السبب الكافي " الذي يستدل به على وجود الله عز وجل ، ويعني به " أن العالم من الممكن وجوده ، ومن الممكن عدمه ، فما دام وُجِـد فهذا يعني أن هناك سبباً كافياً لوجوده ، وهذا السبب لا بد أن يكون خارج العالم ( ).
وهنا نتساءل : أليس مبدأ السبب الكافي هذا هو المرجح الذي قال به المتكلمون ، عندما تحدثوا عن وجود [الله عز وجل ] وأثبتوا ذلك لأن رجحان الشيء على غيره بدون مرجـح باطل ، والوجـود والعـدم قضيتان متساويتـان فما الذي رجـح الوجود على العـدم ؟ إنه اللـه عز وجل ( ) .
ولكن السبب الكافي عند ليبنتز يُرغم الإله دائماً على أن يختار الأفضل وأقصى حدود الكمال ، وبذلك فهو يقضي على الحرية الإلهية ، لأن هذه الحرية كما يُفهم ضمناً من كلامه نقص وليست كمالاً ( ) . اتُّهم ليبنتز بالزندقة لأنه لم يكن يمارس العبادات إلا نادراً ، وكان يطلب من الكنائس التنازل عن بعض العقائد أو تعديلها حرصاً على وحدتها ( ) .
ولادة الدين الجديد " دين العقل ":
لقد تحدثنا حتى الآن عن الرشديين واعتبرناهم الممهدين للعلمنة في الغرب وأسهم في ذلك اضطهاد الكنيسة للفكر الرشدي ، واستخدام المثقفين الغربيين لابن رشد كسلاح في مواجهة الكنيسة ، ونتج عن ذلك ثورة شاملة في العقل الغربي ضد الفكر الكنسي والأرسطي ، ولكن هذه الثورة كانت مضطرة لمهادنة الكنيسة على الأقل في العلانية ، وتمثلت هذه الثورة في ثلاثة تيارات تحدثنا عنها : " الفلكيون " و"التجريبيون " و " العقليون " وأشير هنا إلى أن هذا التقسيم ليس جامعاً مانعاً فالتيارات الثلاثة تتداخل فيما بينها أحياناً إلى حد التماهي ، ولكن كان القصد بيان الخطوط العريضة لسير العلمنة في الغرب .
لقد كانت سيادة مقولة " الحقيقة المزدوجة " أو " الحقيقة ذات الوجهين " هي الخطوة الأولى ، وكان لها من الذيوع والانتشار ما جعلها تستحوذ على عقول كثير من الفلاسفة في القرون الثلاثة الأولى 14 ، 15 ، 16 كما لاحظنا سابقاً ( ) . وهذا لا يعني أنها اندثرت فيما بعد ، بل تفاقمت حتى أنتجت ما سمي بالعلمانية ، أو الفصل بين الدين والدولة كمظهر من مظاهرها .
لكن الخطوة الثانية التي بدأت تكتسب السيادة أيضاً في القرن السابع عشر ، وتسير متوازية إلى جانب " الحقيقة المزدوجة " هي ما سمي " الدين الإلهي " أو " الدين الطبيعي " ( ) أو " دين العقل " أو التأليهيين " ( ) وهي مسميات لفكرة قديمة ، تقوم على الإيمان بالله عز وجل ، ورفض النبوة والوحي والكنيسة ( ) .
لقد استعلنت ديانة العقل في إيطاليا في القرن السادس عشر بين فرقة السوسيني نسبة إلى مؤسسها socini وعرفت بإنكارها لاهوت المسيح والتثليث ثم امتدت إلى بولونيا ، ثم هرب أتباعها إلى هولندا سنة 1661 م ، وأما في انكلترة فقد وصل هذا المذهب سنة 1624 على يد هربرت أون تشربري سنة 1624 ( ) .
يعتبر اللورد هربرت تشربري 1583 – 1648م أول من دعا إلى هذا المذهب في إنكلترة ، ولخص المبادئ التي تشكل هذا المذهب سنة 1624م وتتلخص في الإيمان بالله عز وجل ، وعبادته ، والجزاء في الآخرة ، دون حاجة إلى الوحي ( ) ، ثم تلاه تشارلس بلوانت 1654 – 1693م ووليم ولياستون 1659 – 1724م وتوماس وولستون 1669 – 1733م وجون تولاند 1670 – 1722م وإيرل شافتسبري الثالث 1671 – 1713م والفيكونت بولنجبـروك 1678 – 1751م وأنتـوني كوليـنز 1676 - 1729م وتـوماس مورجـان ت : 1743م وتومـاس تشب 1679 – 1747م وبيتـر أنيت 1693 – 1769 ( ) .
ولكن يمكن القول بأن ديانة العقل ترجع إلى أبعد من ذلك إلى الرشديين فقد رأينا كيف كانوا يسخرون من الأديان والكتب المقدسة ، وهذا ما يفسر انتشارها بداية في إيطاليا حيث جامعتها " بادوفـا " التي كانت معقـل الرشـديـين منذ الـقرن الرابع عشـر كما أشرنا سابقـاً ( ) .
وكانت ديانة العقل هذه متضَمّنةً في المذهب الديكارتي ، وتقوم على الإقرار بوجود الله عز وجـل ، ذلك أن ديكارت وإن كان يصرح باعترافه بالمسيحية إلا أنه لم يهتم كثيراً بأسرارها ( ) ، بل هناك من يعتبر أن إيمانه كان مداهنة لرجال الدين ومهادنة للكنيسة ، ولأغراض السياسية ( ) .
وتبنى سبينوزا 1632 – 1677 هذا المذهب وقال بأننا لسنا ملزمين بالإيمان بالأنبياء إلا فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره ( ) . وغاية الوحي عنده هي محبة الله [ عز وجل ] بصدق وإخلاص ، ومحبة الناس ، وفعل الخير ( ) ، أما من الذي يحدد فعل الخير ، وما هي صفات الله عز وجل ؟ وكيف نؤمن به ؟ فليس الوحي هو الذي يحدد ذلك ، وإنما هو سبينوزا ، حيث يضع مبادئه وشروطه للإيمان كما يراه في عقله ( ) .
وقال جون لوك 1632 – 1704م معبراً عن هذا المذهب:" لم تبق حاجة أو نفع للوحي، طالمـا أن الله [ عز وجل ] أعطـانا وسائل طبيعية أكثـر يقيناً لنتوصل بها إلى المعرفة " ( ) .
وكانت جمعية لندن للمراسلات تحتضن المذهب التأليهي ، وتنشر كل ما يزري بالمسيحية وينصر التأليهيين ، فبالإضافة إلى نشرها لكتاب " عصر العقل " لتوماس بين نشرت كتابين آخرين لا يقلان زراية بالدين المسيحي هما " نظام الطبيعة " لـ ميربودو ، و " حطام الامبراطوريات " لـ فولني ، كما نشرت أبحاث فولتير التي تسخر بالدين المسيحي ، ونشرت كذلك من الكتب المعادية للمسيحية " جمال المذهب التأليهي " و " المعجم الأخلاقي " و " جوليان ضد المسيحية " و " الأفكار الطبيعية في مواجهة الأفكار الخارقة للطبيعة ". ومن الواضح هنا من خلال العناوين السابقة كيف كان الدين الطبيعي يكسب أنصاره بكثرة ( ) .
وكانت في لندن جمعية أخرى ازدهرت في القرن الثامن عشر تسمى " جمعية البحث الحر المخلص " بلغ عدد أعضائها سنة 1752 نحو 300 عضواً جلهم من المؤمنين بالدين الطبيعي وكان بيتر أنيت 1693 – 1769م أحد الأعضاء البارزين الذين يلقون المحاضرات في الأعضاء ، وقد أدين بسبب هرطقاته وتجديفاته ( ) .
وفي ألمانيا كان لسنج 1729 – 1781م يقول : بأن الكتاب المقدس ليس ضرورياً للإيمان بالمسيحية ، لأن هذه – أي المسيحية - أسبق في وجودها من قبول الكنيسة للعهد الجديد بصورته الراهنة ، كما أن الدليل على صحة جوهر المسيحية يكمن في ملاءمتها لحاجات الطبيعة البشرية ومتطلباتها وليس في معجزاتها ، وأن روح الدين لا تتأثر بأية أفكار مهما بلغت من جرأة وجسارة ، وأعلن أنه لا يؤمن بسائر الأديان ، وأن كل دين يمثل كلمة الحق الأخيرة ، وأن أي هجوم عليه لا يضيره ، وأن كل الأديان لها فضل على الإنسانية باشتراكها في تطوير حياتها الروحية ، ولا يوجد دين يمتلك احتكار الحقيقة ( ) .
وفي أمريكا كان من أشهر التأليهيين بنيامين فرانكلين 1706 – 1790 أنكر ألوهية المسيح ، وتقبل الأخلاق الدينية بطريقة نفعية براجماتية ، وكان يسمي نفسه " التأليهي " واستحدث صلاة خاصة بمذهبـه تخالف صلاة المسيحيين كان يتـوجه بها إلى الله [عز وجل ] كل يوم ( ) .
أما في فرنسا فقد كان دنيس ديدرو 1713 – 1784 م قد تأثر بالتأليهيين الإنجليز مثل شافتسبري وجون لوك وفرنسيس بيكون ، ورفض الأخلاق النابعة من الدين المنزل ، وآمن بالأخلاق النابعة من فيض القلب بعيداً عن المواضعات الاجتماعية ( ) ، وكان مثله مثل فولتير يريد أن يرى آخر ملك مشنوقاً بأمعاء آخر قسيس( ) ، وأدلته على وجود الله عز وجل نفس أدلة المؤلهة الطبيعيين( ) ، وكان يقول "" أكاد أجن من كوني مقتنعاً بفلسفة شيطانية لا يملك عقلي إلا تصديقها ، ولا يملك قلبي إلا رفضها "" ( ) .
وقال بالهمجي النبيل ، وعبر عن هذه الفكرة في كتابين كتبهما سنة 1769م وهما " رؤيا دي لامبرت " و " تكملة الرحلة إلى بوجينيفل " ويقارن الكتاب الأخير بين السعادة الفطرية والبدائية التي يشعر بها سكان جزيرة تاهيتي وشقاء الإنسان المتمدن ( ). وهي فكرة توسع فيها بعده جان جاك روسو 1712 – 1778م فقد كتب مقالاً ذهب فيه إلى أن العلوم والفنون والآداب هي ألد أعداء الأخلاق، وأنها تستعبد البشر، وتفرض القيود عليهم، في حين أن الإنسان البـدائي الذي يسير عاري الجسد لا تكبله القيود أكثر حرية وتلقائية من الإنسان المتمدن ( ).
وكان فولتير 1694 – 1778م قد نظم قصيدة حول زلزال لشبونة سنة 1755م تلقي بظلال الشك حول وجود عناية إلهية في هذا العالم ، ورد عليه روسو واتهمه بالإلحاد وألقى بالمسؤولية على أهل المدينة لأنهم يسكنون في أبنية مرتفعة فلو أنهم عاشوا حياة البداوة " كالهمجي النبيل " في ظلال الغابات لما أصابهم الزلزال بكل هذا الدمار ( ) . وقال في رده على فولتير : إن الله عز وجل يحكم العالم بقوانين عامة ، ومن العبث أن نتوقع من داخل المنظور الزمني أن يمنح الإنسان استثناءات خاصة ( ) .
والجدير بالذكر هنا أن روسو لم يكن في رده على فولتير منطلقاً من عقيدة دينية ، وإنما كان يمارس نوعاً من الانتهازية ضد فولتير بسبب كراهيته له للعداوة التي بينهما، وكان يستـغل الظروف للتـقرب من الكالفينيـين في سويسرا الذين ثـاروا ضـد مسرحيات فولتير ( ).
وفي كتابه " إميل " يدافع روسو عن مبادئ الدين الطبيعي ، ويرفض الأخلاق القائمة على الوحي ، وقد أغضب بذلك الكاثوليك والبروتستانت معاً عندما قال : "" لست أخمن بوجود قواعد للسلوك ، ولكنني أجد هذه القواعد منحوتة في أعماق قلبي ، وقد سطرتها الطبيعة بحروف لا تمحى "" ( )، وهذا يعني أن اعتقاده في الله عز وجل قائم على أساس شخصي ذاتي لا يمد أي شخص آخر بأسس لهذا الاعتقاد ( ) .
ونعود إلى فولتير وقد تركناه آخراً لأنه يُعتبر الممثل الرئيس لدين العقل في باريس وفي أوربا ، وهو وإن لم يعاصر الثورة الفرنسية إلا أن كتاباته الأدبية المؤثرة دفعت سكان باريس في عهد الثورة إلى تمجيد العقل إلى درجة دفعتهم إلى عبادة " إلهة العقل " المجسمة في شكل امرأة حسناء من نساء باريس ( ) .
وقد أخذ دينه العقلي عن الفلاسفة الإنجليز حيث أقام في انكلترة من عام 1726م إلى عام 1729م هرباً من السجن في فرنسا ، وأعجبه مذهب التأليه الطبيعي عند تولاند ، وآمن بالاستغناء عن الوحي وبأن المادة أزلية ، وأن قوة الله عز وجل محدودة ، وذلك لكي يفسر وجود الشر في العالم ( ) .
ذلك أن زلزال لشبونة سنة 1755م قد أثر عليه فأنكر العناية الإلهية ، أو انتقص منها فقال إنها لا تهتم بالجزئيات وإنما بالكليات فقط ( ) . وكان يعادي المسيحية والإلحاد على حد سواء ، ويعتنق مذهب الألوهية ( ) ، وكان متردداً في الخلود ( ) ، ولم يقتنع بلا مادية الروح ، ولكنه كان يعترف بالمنفعة الأخلاقية لفكرة الخلود في الحياة الاجتماعية ( ) ، ويرى أن المؤمن الوحيد الذي يجب أن نعترف به هو المؤمن بالله [عز وجل ] ، والمنكر للوحي ، والإنجيل الوحيد الذي يجب أن نقرأه هو كتاب الطبيعة الكبير الذي كتبته يد الله [ عز وجل ] ، وختمته بخاتمها ، والديانة الوحيدة التي يجب التبشير بها هي عبادة الله والسعي للخير ( ) ، ويريد أن يرى آخر ملك مشنوقاً بأمعاء آخر قسيس وهو ما ردده بعده ديدرو كما أشرنا آنفاً ( ) .
إن هـذه العبارة الأخيرة تؤكد لنا كم عانت أوربا من الاختناق بين فكي الكماشة : الملوك ، والكنيسة مما دفعها إلى ردة فعل قوية تجلت فيما نرى من مذاهب وتيارات فكرية تسير في طريق العلمانية على المستويين اللذين عانت منهما : السياسة والدين .
ومع ذلك فقد كان فولتير مضطرباً متقلباً فتتغلب عليه النزعة الشكية أحياناً ، والنزعة الإيمانيـة أحياناً أخرى ( ) فهو يقول: "" إن الاعتقاد القاطع بعدم وجود إله خطأ أخلاقي مروِّع ، خطأ لا يتمشى مع أية حكومة تتسم بالعقل والحكمة "" ، وإنه من الأفضل بكثير من الناحية الأخلاقية أن نؤمن بوجود إله من عدم الإيمان بوجوده فـ "" لو لم يكن الله [عز وجل] موجوداً لتعين اختـراعه "" ( ) ، وكان يقول : "" يثير الرأي القائل بوجود الله [عز وجل ] صعوبات ، ولكن الرأي المعاكس ينطوي على أمور مستحيلة "" ( ) .
ولكن الشيء الذي لم يتردد فيه هو إنكاره للأديان والوحي والتنزيل والمعجزات وعبر عن ذلك في كتابه " مبحث في الميتافيزيقا " ومقاله الذي نشره عام 1742م بعنوان " المذهب التأليهي ( ) وختم حياته بقوله : "" أموت عن عبادة الله ومحبة أصدقائي وكراهية أعدائي ، ومقتي للخرافات والأساطير الدخيلة على الدين "" ( ) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة - جامعة دمشق