المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحصاد المرير : حصاد العلمانية



د. أحمد إدريس الطعان
03-06-2007, 11:51 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثاني
المبحث الأول
الحصاد المرير : حصاد العلمانية
أولاً - إلهٌ ناقص وإلهٌ ميّت :
إن الطريق الذي يسير فيه الفكر الأوربي يبعث على الشفقة ، لأن الإنسان الذي يصر على تنكب الطريق الواضح المعبد المستقيم ليسلك طريقاً وعراً مظلماً ينتهي إلى مفازه مهلكة علينا أن نشفق عليه ونتلطف به ليعود إلى الجادة ، فهو كالجمل الشارد لا تزيده المطاردة والصياح إلا شروداً ، ولا تتسنى إعادته وترويضه إلا بالرفق والتفكير والحيلة ، وما أجمل هنا أن نتذكر حَديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال : "" مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا "" ( ) .
لم يتوقف تطور الفكر الأوربي المتمرد على الوحي عند إنكاره النبوة ، والوحي والاعتراف بالله [عز وجل] ، بل تفاقم الأمر إلى الانتقاص من الذات الإلهية ، وتفويض العقل في تحديد الصفات الإلهية ، بل في تكييفها وتوصيفها .
هذا التيار الانتقاصي ليس جديداً وإنما كانت بعض مقولاته تتردد على ألسنة بعض الفلاسفة قديماً ولكنه في أوربا تحول إلى تيار له أنصاره ودعاته وفلسفته . فقد زعم أرسطو أن الله عز وجل محرك لا يتحرك ( ) ، وأنه لا يفكر إلا بنفسه وذاته فهو في سعادة أبدية ( ) ، فهو على ذلك أناني لا تهمه مخلوقاته وهو ما قاله أيضاً أبيقور بعده ( ) .
وفي الفلسفة الحديثة رأينا سبينوزا لا يفصل بين الله والطبيعة مطلقاً ، وقام بتطبيع الإله أي بجعله مساوياً للطبيعة أو هو الطبيعة ( ) . إن إله سبـينـوزا نزل من عليـائه واندمج في الطبيعة، وأصبح قـريباً مـن الإنسـان ( ) ، ولم تعد للإله أية حرية في فلسفة سبينـوزا لأنه لا يستطيع تغييـر قوانين الطبيعة ( ) لأنه هو الطبيعة ( ) . والله عنده علة محايثة للعالم بمعنى أنه لم يصنع العالم لأنه هو العالم ( ) .
أما فولتير 1694 – 1778م فقد اعتبر الحرية الإلهية مقيدة ، وأنه لا بد من ضرورة تحدد النشاط الإلهي : "" لقد صدر العالم دائماً عن هذه العلة الأولى الضرورية مثلما يصدر الضوء عن الشمس ، بطريقة الصدور الأبدي الضروري "" ( ) ، وهذا يعني حتمية مفروضة على الأفعال الإلهية ، وقصده من ذلك أن يفسر مشكله الشر في العالم ، ولذا اعتبر أن الله عز وجل ليس مسؤولاً عن الشر ، لأنه مرغم على فعله ( ) [ سبحانه وتعالى ].
وهذا يعني أن الإله لا يتصف بالكمال المطلق فهو إله ناقص . وقد تبنى جون استيوارت مل 1806 – 1873م هذا الرأي ، فهو أولاً يعبر عن تردده في وجود إله أصلاً ، لأن النظرة العلمية - بنظره -تتنافى مع وجود إله يحكم العالم بقوانين متغيرة تخضع دائماً لنزواته ( )، من أجل ذلك فهو يُقر بوجود إله ناقص ، محدود القدرة ( ) ، وذلك لكي يحل – بنظره - مشكلة الشر في العالم ( ) ، فمن الأنفع أخلاقياً – بنظره - أن نتصور الله [عز وجل ] على أنه صانع حسن المقصد ، وليس خالقاً ، وأنه ذو قدرة محدودة ، فهذا أفضل من أن نتصور إلهاً كلي القدرة ومع ذلك فهو لا يلغي الشر في العالم بكلمة منه ( ) ، لأن القدرة اللامتناهية مع هذا العالم الذي يفيض بالشر ، لا بد أن تكون قدرة شريرة ، لأنها لا تسعى لتغيير هذا الشر ( ) ، كما أن النظام المحدود في هذا العالم المادي يدل على منظم محدود الإمكانيات ، ( ) .
وانضم إلى مل في - هذا الرأي - الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس 1842 – 1910م الذي يعترف مبدئياً بأن مصدر مذهبه في الألوهية ليس النظام في الكون والاتساق فيه ، وإنما إحساس شخصي بالحاجة إلى الله عز وجل ، ليكون مقوياً للعزيمة ، ومغرياً ومنشطاً للمثل الأخلاقية ( ) ولعلنا هنا نتذكر جان جاك روسو .
وإلهه هذا الذي يقر بوجوده لا يمكن أن يكون كاملاً كمالاً فريداً مطلقاً ولا متناهياً ، لأنه لو كان كذلك لأحدث هذا صدعاً في الكون ( ) ، إن الإله الكامل بنظره لا يدخل في علاقة مع الإنسان ، بالإضافة إلى أن الإله الذي نحتاجه هو إله متناه ، نحن أجزاء منه ، وهو نفسه جزء من العالم ، كما أن القول بإله متناه - بنظره -يفسر مشكلة الشر في العالم ، ويحفز إلى الحرية والميل نحو الخير كي نعين الله [عز وجل ] ونساعده على تحقيق مصائر الكون ( ) .
ويبدو أن هذا المذهب قد لقي من يتقدم به، ويروج له ومن هؤلاء : صمويل الكسندر ( ) وماكس شيلر ، وواي.س.برايتمان ، وتشارلز هاتشورن ( ) ، بالإضافة إلى هنري برجسون 1859 – 1941م الذي قال بإله متغير متطور ، ولا يدري ماذا يفعل ( )، إله نسبي ، مركب ، ناقص ، ويكتسب دائماً شيئاً جديداً ( ) . وألفرد نورث هوايتهد 1861 – 1947م الذي يقول بإله متناه ، وفي طور التكوين ، ويتطور باستمرار( ) .
إلههم هذا – الناقص العاجز تعالى الله [عز وجل عن قولهم ] كان لا بد أن تنتهي حالته إلى الموت وهذا ما حصل فعلاً ، فقد أعلن نيتشة 1844 – 1900م موت الله [ تعالى الله عن ذلك] وهو بإعلانه هذا لم يفعل أكثر من أنه ردد نغمة عزفها هيجل قبله ، لأن هيجل كان قد رأى في تدهور الاعتقاد الفعال في الله [عز وجل] معنى من معاني موت الإله ( ) .
لكن يبدو أن نيتشة بأسلوبه الأدبي قد استطاع أن يلفت الأنظار إلى قوله هذا فأعلن أن الإله قد مات بالمعنى المؤكد ، وهو يعني بذلك أن فكرة الله [عز وجل] ، لم تعـد تمثل القيمة العليا ، إن الله [ عز وجل ] بنظر نيتشة لم يعد قابلاً لأن يعتقد فيه أحد ، ولم يعد جديراً بتصديق الإنسان ، لقد أصبح الله [عز جل] هو إدانة الحياة ( ) . وهو الذي صرخ "" إلى أين مضى الله ؟ سأقول لكم إلى أين مضى ، لقد قتلناه أنتم وأنا . أجل نحن قتلة الإله نحن جميعاً قاتلوه ، ألا تشمون رائحة العفن الإلهي ؟ … إن الآلهة أيضاً تتعفن ! لقد مات الله [ سبحانه وتعالى ] وسيظل ميتاً "" ( ) ونيتشة في قولته هذه لا يعبر عن موقفه الشخصي في الإلحاد فحسب ، بل يعبر عن اعتقاده بأن العالم الآخر بكل صوره الفلسفية فقد دعامته وانهار من أساسه( ) .
إن موت الإله معناه الاغتيال العمد لفكرة الله [عز وجل ] ، وسقوط نظام المعايير والقيم والسلوك القائم على التسليم بتلك الفكرة ، والأشخاص الذين لم يعودوا يؤمنون بها هم قتلة الإله ، وعليهم تقع المسؤولية الشخصية عن هذه الفعلة وعواقبها ( ) . فما هي عواقبها ؟!
ثانياً – آلهة جديدة " الإنسان والمادة والعالم ":
كان نيتشة يهدف من فكرة موت الإله إلى إفساح الطريق أمام الإنسان ، لذلك يقول : " لو كان هناك إله فكيف كنت أطيق أن لا أكون إلهاً " فبين الإنسان والإله تعارض بنظره ، ولا بد لكي يتسع الطريق أمام الإنسان الأقوى أن تُزاح من طريقه كل العقبات ( ) ، والألوهية في
نظره عقبة تحول دون تأكيد الإنسان لذاته ( ) ، تحول دون استقلال الإنسان في الحياة ، وامتلاكه للرقي والقوة ، وهو يريد الإنسان الأقوى والأرقى ( ) .
هذا التطرف في الأنسنة كان قد تقدم به فيورباخ 1804 – 1872م فاعتبر الإنسان هو الله [ تعالى الله وتقدس] أو الله هو الإنسان ( ) ، وأن الإنسان حين يتحدث عن الله [عز وجل] فإنه في الحقيقـة يتحـدث عن نـفسه ، لأن الآلـهة ليست إلا تجسيـداً لرغبات الإنسان ( ) ، والله [عز وجل] - بنظره - ليس إلا مـرآة تنعكس فيهـا صفـات النوع البشري ( )، والإنسان هو الذي خلق الله [ تعالى وتقدس ] على صورته يحمل ملامحه تماماً ، ووضعه في عالم متسام كطبيعة سامية له ، وهذه الطبيعة يجب أن ترجع إليه ، فالاعتقاد في الله [ عز وجل ] نتيجة لضعف الإنسان وفقره ، ولو كان قوياً ما كان يحتاج إلى الله ( ) .
وهذا ما أراده نيتشة حيث - الإنسان الأقوى - يستغني عن الله [عز وجل وتعالى وتقدس] ثم تطورت رؤية فيورباخ من الأنسنة إلى المادية المطلقة ، فأصبح الكائن الذي هو شرط مسبق للإنسان إنما هو الطبيعة ، وهذه الطبيعة المجردة - بالمعنى الحقيقي لا المجازي ، بالمعنى المحسوس الواقعي التي نشاهدها بالحواس - هي الله ( ) . [تعالى وتقدس ]
وإذا كان فيورباخ قد أنسن الإله وطبَّعه ، ونيتشة أماته ، فإن ماركس 1818 – 1883م - تلميذ فيورباخ - قد رفض الألوهية من أساسها ولم يعترف إلا بالمادة ، وهذا يعني أن أمانويل كانط 1724 – 1804م لم ينجح في التصدي للتيار المادي الإلحادي ، ذلك لأن مذهبه كان يحمل في داخله بذور الشك واللاأدرية ، فقد كتب " الدين في حدود العقل الخالص " سنة 1793م - يعني في السنوات الأخيرة من حياته - أرجع فيه الدين إلى العاطفة المجردة، وأوّل العقائد المسيحية تأويلاً رمزياً ( )، ولم يكن يرى فيها أكثر من رموز مؤثرة، وأساطير تعمل على تشجيع الفاعل الأخلاقي لمواصلة جهاده ضد الدوافع الحسية ( ).
والأخلاق عنده هي التي ينبغي أن تُقدِّم أساس الاعتقاد في الله [عز وجل] وليس العكس ، لأن الله [عز وجل] عنده إحدى مسلمات الأخلاق( )، ولا ينتمي إلا إلى الأخلاق ( )، ولا يمكن الوصول إليه عن طريق الشواهد الكونية ، أو المعرفة النظرية ( ) . كما أنه في هذه المرحلة الأخيرة من حياته اعتبر الطقوس شكلية لا تحقق الحياة الفاضلة ، ورفض المعجزات ، والصلاة التي تستهدف تعطيل قوانين الطبيعة ( ) ، ولقد وُجِّهت إليه رسالة تحذير من الحكومة تنذره بالعقاب إذا لم يَكفَّ عن نشر فلسفته التي تقوّض مبادئ الكتاب المقدس والديانة المسيحية ( ).
إن فشل كانط في التصدي لموجة الشك أدى إلى بروز التيار المادي وتفاقمـه على يد ماركس ، ونقول بروزه وتفاقمه لأن التيار المادي في الحقيقة كان مألوفاً منذ القدم لدى العقل الغربي ، ويجد له في ثـقافته أنصاراً فقد اخترع ديمقرطس 470 – 361 ق ، م مذهبه المادي القائم على الذرات " الجواهر الفردة " ونفى وجود الآلهة ، واعتبر نشوء فكرة الإله نتيجة للخـوف من الظـواهر الكونية، وهو ما يردده الغربيون والعلمـانيون في العصر الحديث ( )، وتبعه في ماديته أبيقور 342 ق ، م 270 ق م ( ) .
وفي العصر الأوربي الحديث برز التيار المادي عند هوبز 1588 – 1679م - كما سبق وأشرنا - ولم يعترف - مثل ديمقريطس - إلا بالذرات والفراغ ( ) ، ثم تقدم به خطوة أخرى جون تولاند 1670 – 1721م فذهب إلى أن المادة جوهر فاعل حي ، وليس جوهراً ساكناً ، وأن السكون لا يوجد إلا بالإضافة إلى الحواس ( ) .
ثم تبنى هذا الاتجاه دي لامتري 1709 – 1751م ويتضح ذلك في عـنوان كتـابه " الإنسان آلة " كتبه سنة 1748م ، وهو يرد الحياة النفسية إلى الحياة الجسمية ، ويعتبر المادة هي المؤثر الأساسي في المزاج والتربية والأخلاق ( ) ، وفي نفس الاتجاه المادي تتحرك فلسفة هلفتيوس 1715 – 1771 ( ) .
وكذلك دينس ديدرو 1713 – 1784م الذي توصل - كما أشرنا سابقاً - إلى نظرية المادية الجدلية على نحو غير منظم ، كما قال بنظرية التطور بالمنظور القديم ( ) ، وقال بالحركة الذاتية الخلاَّقة للطبيعة ، والحساسية الشاملة للمادة ، والتولد التلقائي ، واستدل ببعض المكتشفات الكيميائية على أن الطبيعة تنتج قوتها التخميرية الخاصة ، وتركيبها العضوي باستمرار ( ). إنه يتـفوه بكلام سيردده إنجلز فيما بعد مرة أخرى حين يقرر أن الحياة يجب أن تكون نتيجة لبعض التفاعلات الكيميائية ( ) .
ثم اصطنع كابانيس 1757 – 1801م المنهج المادي نفسه، فرد كل فعل من أفعال الإنسان إلى عضو فيه ، فقال فيما قال : "" إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء "" ( ) وكان شلنج في ألمانيا 1775 – 1854م يعتبر الروح مادة تنتظم الجمادات بالقوة ، والدماغ الإنساني خاتمة التَعضْوُن ( ) .
بيد أن أهم من قال بالنزعة المادية الإلحادية قبل أن يظهر ماركس هو : البارون بول هنـري تيري دولباك أو "هولباخ " 1723 – 1789م الذي كان يتباهى بأنه العدو الشخصي للإله ، وكان ومعه جماعة من الملحدين يعتقدون أن الدليل على عدم وجود الله [عز وجل] من القوة والوضوح بحيث لا يعتقد بوجود إله إلا أحمق أو جبـان،ويرفض حتى الشك في ذلك( ).
هكذا وصم هولباخ البشرية بالجبن والحماقة لأنها تعتقد بوجود إله خالق لهذا الكون ، والإلحاد ليس إلا استثناءات شاذة في كل أمة . تُرى من هو الأجدر بهذه الوصمة ؟ .
وكان هولباخ يرى في الميكانيكا النيوتنية المعدلة وعلم الأحياء على أنها تستبعد وجود الله [عز وجل] استبعاداً قاطعاً ، وتلغي الحاجة إليه ( ) ، واعتبر المادة هي وحدها الموجودة منذ الأزل ، وهي التي تقوم بكل الأعمال التي نعزوها إلى الله [عز وجل] ( ) ، والعقل الإنساني ليس إلا حالة متطورة من العملية المادية ، والطبيعة نفسها لا تفكر ، ولكنها تولد كائنات مفكرة عن طريق تنظيم المادة في أجسام حية لها قوى الإحساس ( ) .
وفي سنة 1767م ظهر كتابه " المسيحية بعد أن أميط عـنها اللثـام " هاجـم فيه المسيحية بمنتهى الضراوة ، واعتبرها أصلاً لكل بلاء ، ثم واصل هجومه عليها في كتابه الذي أصدره سنة 1770م بعنوان : " نظام الطبيعة ( ) ، ورفض الاعتقاد بأي شيء غير المادة ، كما رفض مذهب الطبيعيين المؤلهة ، ورأى ما يسمى بالروح تندثر باندثار الجسد ( ) ، ونشر سنة 1772م كتاباً بعنوان : " الأفكار الطبيعية في مواجهة الأفكار فوق الطبيعية ( ) ، ويرى أن الإيمان بوجود الله [عز وجل] نتج عن عدم فهم الطبيعة ، ونظام الكون ، وأن المـادة ليست شيئاً خاملاً ، وإنما هي في حركة دائمة ، كما سبقه في ذلك تولاند .
والإنسان يتوهم أنه يتمتع بحرية الاختيار في حين أنه في كل لحظة من لحظات حياته ما هو إلا مجرد أداة سلبية في يد القـدر ، كما سبقه في ذلك سبينوزا . كما يرى أن اعتبار المادة مفكرة أبسط وأولى بالقبول من الإيمان بازدواجية المادة والروح ( ) ، وأن كل ما ينسب إلى الله عز وجل من صفات فهي تنطبق على المادة والطبيعة بصـورة أوضـح - كما سـيردد فـيورباخ – وأن الطبيعـة هي كـل شيء والخالقـة لكـل شيء ( ) .
ويَعتبر نيوتن ذا تفكير طفولي لمجرد أنه كان يؤمن بوجود الله [عز وجل] ، والإلحاد برأيه يشجـع على اتـباع الفضائل الاجتماعيـة بعكس الإيمان فإن بينه وبين الانحلال الخلقي – بنظره - علاقة وطيدة ( ) .
وقبل أن نتحدث عن دور ماركس نلفت النظر إلى أن أكثر رموز المادية الإلحادية كانوا معاصرين لكانط ، مثل دي لامتري ، وهلفتيوس ، وديدرو ، وكابانيس ، وشلنج ، وهولباخ ، وهذا يعني - إن صح استنتاجنا - أن التيار المادي الإلحادي بدأ يتفاقم كردة فعل على فشل كانط في التصدي لنزعة الشك السائدة ، ويتضح هذا الأثر في كانط نفسه حيث بدأ في أخريات حياته يتخلى عن كثير من مسلماته وعقائده ويتشكك فيها كما رأينا .
تلقف كارل ماركس 1818 – 1883م هذه التيارات المادية الإلحادية منذ ديمقريطس إلى هولباخ وفيورباخ فصاغ منها نظريته في المادية الجدلية ، والمادية التاريخية ، وأقام فلسفته على هذا الأساس ، وزاد على ذلك أن ربط فلسفته المادية بالتاريخ الإنساني والواقع المعيش ، كما قام بقلب نظرية هيجل فبدلاً من أن تكون الروح هي المحركة للواقع والتاريخ كما يزعم هيجل ، أصبحت المادة كما زعم ماركس .
ذلك أن جدلية هيجل مثالية لم تكن تعني سوى تجلي الفكرة الأزلية ، فهي جدلية روحية صرفة وكان لا بد من تجنب الانقلاب الهيجلي ، فنظر ماركس إلى أفكار الذهن نظرة مادية على أنها انعكاس للأشياء ، بدلاً من أن ينظر إلى الأشياء على أنها انعكاس لدرجة معينة من درجات الفكرة المطلقة ،وبذلك وقفت جدلية هيجل على رجليها بعد أن كانت واقفة على رأسها ، هكذا يزعم ماركس حين يقول : ""أما أنا فأعتقد على العكس أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس لحركة الواقع وقد انتقلت إلى ذهن الإنسان "" ( ) .
واستبدل ماركس المطلق الاجتماعي بمطلق هيجل ، وذلك لكي يستبعد الله [عز وجل] من الفلسفة والحياة العملية ، وكان متفقاً مع فيورباخ بأنه بقدر ما يرفع الإنسان من شأن الله [عز وجل] بقدر ما يحط من شأن نفسه ( ) ، وزعم - كما زعم فيورباخ -أن الأدلة على وجود الله [عز وجـل] ليست سوى أدلة على وجود الوعي الإنساني الذاتي الجوهري، والتفسير المنطقي له ، لأن التحليل بين أنها ليست سوى إسقاطات وهمية لأفكار الإنسان عن نفسه ( ) . وسيكشف منهج النشوء الاجتماعي – لا النفسي – عن الدافع الأساسي لنشوء فكرة الله [عز وجل ] ( ). ويَعتبر – كأستاذه فيورباخ – أن إرجاع أصل فكرة الله [عز وجل] إلى احتياجاتنا الإنسانية أمر ضروري ولا يتم الإلغاء التام لكل نظرية عن الله [عز وجل] والدين حتى يكون ثمة تحول عملي للمجتمع بحيث لا يبقى شيء من الظروف التي يتولد عنها الاعتقاد في كائن متعال ( ) ، لأن هذا الكائن المفارق المتعال ليس إلا وهماً وخيالاً ( )، لذلك فإلغاء الدين بوصفه سعادة الناس الوهمية شرط من شروط سعادتهم الحقيقية ( ) .
بهذا الشكل يتحول نقد السماء إلى نقد للأرض ، ونقد الدين إلى نقد للقانون ، ونقد اللاهوت إلى نقد للسياسة ( ) ، وتصبح بذلك النظرة المادية للعالم هي النظرة السائدة ، النظرة إلى الطبيعة بدون أي إضافات خارجية ( ) .
وهكذا تبدو الفلسفة الماركسية هي فقط - حسب زعمهم - التي تبنى إلحادها على النظرة العلمية حيث تعتبر أن العالم بطبيعته مادي ، وأن مختلف ظواهر الكون إنما هي جوانب مختلفة للمادة في حركتها ، وأن العلاقات والشروط بين الظواهر التي يكشف عنها المنهج الجدلي هي القوانين الضرورية لنمو المادة المتحركة وأن العالم ينمو حسب قوانين حركة المادة ، وهو ليس بحاجة إلى روح شامل كما زعم هيجل ( ) ، وليس بحاجة إلى هزة أولية - كما زعم نيوتن - وليس بحاجة إلى محرك أول - كما زعم أرسطو - لأن الكون يتوالد باستمرار ، ويحمل في أحشائه إمكانياته الخاصة في الحركة والتحول ( ) ، والحـركة كامنة في المادة ، وصراع الأضداد هو الذي يحرك الكون ( ) .
وما دام الأمر كذلك فالأديان مرفوضة نهائياً لأنها أفيون الشعوب ، تخدرهم وتؤدي بهم إلى الاعتقاد بأن طموحاتهم ستتحقق في نهاية الأمر في عالم آخر وبذلك تصالح الأديان بينهم وبين الاستغلال الرأسمالي في هذه الحياة ( )
ثالثاً - تهاوي المقدس :
لقد حطت العلمانية إذن رحالها في القرن التاسع عشر عند نهايتين :
الأولى : إعلان نيتشة لموت الإله " سبحانه وتعالى " .
الثانية :إعلان ماركس لماديته المطلقة، وسيطرة فلسفته على دول متعددة فكراً وتطبيقاً.
كان ذلك حصاد العلمانية على المستوى الفكري ، فكيف كان حالها على المستوى الأخلاقي والسلوكي في الغرب ؟ .
لم يكن الغرب لينتظر إعلان نيتشة أو إعلان ماركس حتى تبدأ أزمته الأخلاقية ، لأنها بدأت منذ أن تزعزعت الثقة في الكتاب المقدس ، وحدث ذلك في القرن الخامس عشر عندما اختُرعت المطبعة ، وبدأ كل إنسان يقتني نسخة من الكتاب المقدس ، ويقرؤها مستقلاً عن الكنيسة ، ومع أن الكتاب المقدس ليس كذلك – أعني ليس مقدساً – فإن حجب الكنيسة له عن الجمهور ، واحتكارها لقراءته ، وتفسيرها له أسهم في المحافظة على شيء من قداسته لفترة طويلة من الزمن ، ولكن الكنيسة بدأت تفقد سلطانها على العقول ، وأصبح كل إنسان يقرأ بنفسه ما يحتويه " الكتاب المقدس " ! من فضائح أخلاقية ، وروايات هزلية ، وأساطير خرافية .
وأسهم أيضاً في انهيار هذه القداسة عاملان آخران :
الأول : الدراسات النقدية الهائلة ، والضربات العلمية الموجعة التي تعرض لها الكتاب المقدس . الثاني : تاريخ الفساد الكنسي ، والانحطاط السلوكي الذي اتصف به في الغالب رجال الكنيسة من بابوات وكرادلة ورهبان وراهبات ، فقد فاحت الروائح حتى زكمت الأنوف ، وقد أشرنا إلى طرف من هذا ( ).
أصبح كل إنسان يقرأ في الكتاب المقدس أن الله [عز وجل] أوحى لموسى بأن لوطاً زنى بابنتيه وحملتا منه ، بعد أن شرب الخمر( ) ولا بد أن يتساءل ما الفائدة من هذا الوحي ؟ وحاشا منصب النبوة عن مثل هذا الهراء ( ). وما الفائدة من أن يوحي الباري عز وجل إلى نبيه موسى عليه السلام بأن رأوبين الابن الأكبر ليعقوب قد ضاجع سرية أبيه ، أي زنى بها ( )، وأن يهوذا بن يعقوب عليهما السلام قد زنى بكنته ثامار امرأة ولديه ( ) ثم يأمر بحرقها لما تبين له أنه حبلى من الزنى ، ثم كفّ عنها لما علم أنه هو الفاعل ( ) ، وأن دينة بنت يعقوب خرجت لحاجتها ، فرآها شكيم بن حمور رئيس ذلك الموضع فاغتصبها وأقبضها ( ) .
وأن داود عليه السلام اطلع من قصره فرأى امرأة من نساء المؤمنين تغتسل في دارها ، فعشقها فبعث إليها ، وحبسها أياماً يغتصبها ، ثم أرسل زوجها أوريا إلى القتال ، وأمر القائد أن يضعه في المقدمة ، لكي يكون أول القتلى ، ثم لما قتل زوج المرأة سرّ داود بذلك ؟! ( ) .
يعلق أبو عبيدة الخزرجي : فانظر إلى هذه الصفات الموصوف بها داود ، وهل يوصف الأشرار والشياطين بأشنع من هذا ؟! ( ) .

وأمنون بن داود يزني بأخته ثامار ، ثم يقتله أخوه من أجل ذلك ( ) ، وأبشالوم بن داود يثور على أبيه ، ثم يزني بنساء أبيه علانية أمام أعين الناس مبالغة في الانتقام منه ( ) .
أما الأصحاح الثالث والعشرين من سفر حزقيال ففيه وصف مقزز لعهر الأختين أهولة وأهوليبة يصيب القارئ بالغثيان والذهول ونختار منه هذه العبارة : " وعشقت معشوقيهم الذين لحمهم كلحم الحمير ومنيهم كمني الخيل " ( ) .
ويذكر هنا الشيخ أحمد ديدات أن مترجم الكتاب المقدس قد حاول تقليل الفحش في القول إلى حد كبير ولو كانت الترجمة العربية مطابقة للترجمة الانكليزية له بطبعة newworid لكانت كما يلي : "ولقد دفع بك شبق العاهرات بائعات الهوى إلى أعضاء الذكورة للأجانب الشبيهة بأعضاء الذكورة لدى الحمير، التي تنزل منياً كمني الخيول " .
يعلق الشيخ أحمد ديدات قائلاً : " هل توجد أقوال أكثر فحشاً من هذه الأقوال في كتاب محظور الطبع والنشر في العالم ، لأنه يحتوي على كلام فاحش ، فتعمد السلطات إلى حظره ، إن السلطات في كثير من دول العالم تحظر طبع ونشر كتب لورود كلام أقل فحشاً من مثل هذا الكلام المطبوع المنشور على صفحات الكتاب المقدس " ( ) .
وقبله علق أبو عبيدة الخزرجي( ) بقوله : "" فما الفائدة من نزول هذا الحديث البشع من السماء على موسى بطور سيناء بعد زهاء أربعمائة سنة يقرؤه عليكم الكهان في المعابد ، على أنه كـلام منـزل على رسوله موسى ، فتـستـك ( ) به الآذان ، وتعمى به الـقلوب "" ؟ ( ) . من أجل ذلك قال برناردشو : "" إن الكتاب المقدس هو أخطر كتاب على وجه الأرض ، ويجب أن يوضع تحت القفل والمفتاح "" ( ) .
لما قرأ الغربيون مثل هذا الكلام في كتابهم الذي قيل لهم طوال ألف عام إنه مقدس ، تخلخلت ثقتهم فيه وفي كل ما بُني عليه من عقائد وتشريعات وأخلاقيات ، وبدأ البناء يتهاوى شيئاً فشيئاً ، وبدا لهم أن كتابهم المقدس لم يكن إلا أشبه ببالون منفوخ بالهواء وإن لمسة دبوس كانت كافية لإفراغه من كل ما فيه .
فكانت الدراسات النقدية تزيد يوماً بعد يوم في انهيار قداسة الكتاب المقدس ، فالرشديون كانوا قد طعنوا في ذلك ، ولكن ظلت طعناتهم على مستويات فردية لم تشكل تياراً جارفاً ، ثم أظهر لوثر وزفنجلي وكالفن بأن تشكيل الكتابات المقدسة " العهد القديم " من عمل ابراهام بن عزرا ، ونيقوليوس مليرا ، وإليا هولوتيا ( ) . ثم أعرب المثقفون اليسوعيون عن رأيهم بأن العهد القديم ، قد أُقحمت فيه بعض الإضافات المتأخرة ووجدوا دعماً لهم في أقوال أندرياس مزيوس أحد المثقفين الهولنديين الذي تمكن من تحديد الزمن الذي رتبت فيه التوراة ( ) .
وقبل ذلك تشكك الحبر الغرناطي إبراهيم بن عزرا ، وابن جرشون في صحة نسبة الأسفار الخمسة إلى موسى عليه السلام ، وفي صحة نسبة سفر يشوع إليه ( ) ، ثم جاء باروخ سبينوزا 1632 – 1677م فبنى على تشكيكات وألغاز بن عزرا بناءً نقدياً هائلاً ، وكشف أن ابن عزرا تيقن أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة ، ولكنه لم يجرؤ على الجهر بهذه الحقيقة خوفاً من بطش الفريسيين ، ولكنه عبر عنها بألغاز استطاع سبينوزا أن يحللها ، ويخلص إلى نتيجة أعلنها على الملأ وهي أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة ( ) . لأن الأسفار تتحدث عن وقائع وحوادث وقعت بعد موسى بزمن طويل ، كما تروي نبأ وفاة موسى ودفنه ، وأن أحداً لا يعرف مكان قبره إلى اليوم ، وأنه أفضل من كـل الأنبياء الذين جاءوا بعده إذا ما قورن بهم ( ). لقـد ضاعت مخطـوطات موسى الأصلية، والأسـفار التي بيـن أيدينـا لقيت نفس المصير( ) .
وفي العهد الجديد فإن كتابات الحواريين حتى وإن افترضنا أنهم أنبياء فإنهم لم يكتبوا لنا باعتبارهم كذلك ، ولا كتبوا لنا كتاباتهم على أنها وحي أو بتفويض إلهي ، وإنما كتبوا لنا كتاباتهم على أنها مجرد أحكام شخصية وذاتية لمؤلفيها وروايات تحكي قصة السيد المسيح عليه السلام ( ) .
ويعتبرتشارلز بلاونت 1654 – 1693م أول تأليهي إنكليزي ينتقد الكتاب المقدس، ويتشكك في كونه كتاباً منزلاً، نشر بلاونت أول عمل له سنة 1679م أشار فيه إلى أن الأنبياء والكهنة جماعة من المحتالين والجشعين اختـرعـوا الجنة والنار ليحكمـوا سيطرتهم على العباد ( ) . ونشر سنة 1693م كتابه " عرافات العقل " رفض فيه معجزات الكتاب المقدس ، وأحاديثه عن الخليقة ، ونهاية العالم أو بداية الخلق ، وسخر فيه من قصة حواء ، وقصة متوشالح الذي يقول الكتاب المقدس عنه إنه عمّر أكثر من تسعمائة سنة وقصة إيقاف يوشع لحركة الشمس ، وفكرة الخطيئة الأولى ، كما اعتبر أنه من السخف أن نصدق أن كوكبنا الصغير في هذا الكون الفسيح العريض هو المركز ( ) .
ونتذكر هنا توماس بين 1737 – 1809م الذي اعتبر في كتابه " عصر العقل " 1793م أن العهد القديم مليء بقصص الفحش والتهتك ، والعهد الجديد لا يستقيم مع العقل والمنطق ، ومـليء بالمتنـاقضات ، وأُطلق على كتابه " عصر العقل " الكتاب المقدس الجديد ( ) . وفي سنة 1753م ظهر في بروكسل كتاب بالفرنسية مجهول المؤلف يحمل العنوان التالي : " خواطر حول المذكرات الأصلية التي يبدو أن موسى استخدمها في تأليف سفر التكوين " ( ) ، كان مؤلف هذا الكتاب هو الطبيب الفرنسي جان أستروك أراد أن يثبت أنه إذا كان موسى هو الكاتب للتوراة – وهو ما يخالفه فيه أكثر النقاد في عصره – فإنه لم يكن شاهد عيان لكل قصصه ، ورواياته طالما لأن موسى عاش زمن الوجود العبري في مصر ولم يكن معاصراً لعصور الآباء وما قبلها ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف كتب موسى أقواله بشأن خلق العالم والطوفان وتاريخ الآباء حتى عصره ، أي كل ما وررد في سفر التكوين ، لذلك لا بد أنه كانت أمام موسى عليه السلام مصادر قديمة استمد منها آراءه وأقحمها داخل سفره ( ) .
وبتحليله للنصوص استطاع أستروك أن يعزل في الكتاب المقدس بين روايتين إحداهمـا تـتحدث عن الـله [عز وجل ] باسم " ألـوهيم " و أخـرى تـتحـدث عنـه باسم " يهوه " ( ) ، وهاتان الروايتان مختلفتان ، وكل واحـدة منهما تمثل رواية كاملة بذاتها ، فهي نتاج زمان ومكان مختلفين ( ) ، ومن هنا قال ديورانت : "" إن العلماء مجمعون على أن أقدم ما كتب من أسفار التوراة هما القصتان المتشابهتان المنفصلة كلتاهما عن الأخرى في سفر التكوين فتتحدث إحداهما عن الخالق باسم " يهوا " على حين تتحدث الأخرى عنه باسم " إلوهيم " ولذلك يعتقد العلماء أن القصص الخاصة ب " يهوا " كتبت في يهوذا ، وأن القصص الخاصة بـ " إلوهيم " كتبت في أفرائيم " السامرة " وأن هذه وتلك قد امتزجتا في قصة واحدة بعد سقوط السامرة ، وفي هذه الشرائع عنصر ثالث يعرف بالتثنية أكبر الظن أن كاتبه أو كُتَّابه غير كتاب الأسفار السالفة الذكر ، وثمة عنصر رابع يتألف من فصول أضافها الكهنة فيما بعد ، والرأي الغالب أن هذه الأجزاء الأربعة قد اتخذت صورتها الحاضرة حوالي سنة 300 ق.م "" . ويضيف ديورانت : "" كيف كتبت هذه الأسفار ؟ ومتى كتبت ؟ ذلك سؤال بريء لا ضير منه ؟ ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد ، ويجب أن نفرغ منه هنا في فقرة واحدة ، نتركه بعدها من غير جواب "" ( ) .
وترجع أهمية دراسة أستروك إلى أنه أول من اكتشف المنهج السليم لمعرفة مصادر السجلات القديمة عن طريق تحليل سماتها الأسلوبية ، ولهذا السبب وحده يطلق عليه الناقد الأول للكتاب المقدس ( ) .
وفيما يتعلق بالعهد الجديد كان هرمان صامويل ريماروس 1694 – 1768م وهو عالم لغات شرقية في هامبورغ كان يضع اللبنة الأولى في بناء اكتمل بعده وهو البحث في مدى صحة وجود يسوع المسيح من الناحية التاريخية . وقد أقضت دراساته مضاجع المسيحيين إلى درجة أذهلتهم ( ) .
رابعاً - انهيار الأخلاق :
كل ما ذكرناه أسهم في انهيار المقدس في الغرب ، وانهارت معه المرجعية التي يلوذ بها الإنسان الغربي ، وبدأ يمارس حياته وكأن الكون بغير خالق حتى وإن لم يكن ملحداً فقد تزعزعت عقيدته وأصبحت الحياة عنده نوعاً من العبث ، والإنسان هائم على وجهه فيها .
وأقصد هنا أن أستعرض بعض الصور الأخلاقية المنحطة في تاريخ أوربا الحديث منذ بداية عصر النهضة إلى اليوم بصورة سريعة ، هذه الصور التي تزامنت مع تخلخل المرجعية الدينية والأخلاقية للفكر والسلوك وذلك من أجل أن ندرك النهاية المُفجعة التي يريدها لنا العلمانيون في العصر الحاضر عندما يصرون على السير خلف الغرب وعيونهم مغمضة .
ظهرت في منتصف القرن السابع عشر ( ) في الفترة ما بين 1649 – 1651م طائفة مسيحية تعرف باسم " الهادمين " وطائفة ثانية تسمى " الذين يجعلون عاليها واطيها " وثالثة تدعى " الحفارين " ومن خلال أسماء هذه الجماعات ندرك أنها كانت أقرب في أفكارها وسلوكها إلى الفرق الباطنيـة التي ظهرت في التاريـخ الإسلامي .
ولكن في حين أن هذه الفرق الباطنية التي انتسبت إلى الإسلام ليست منه في شيء ، وإنما هي دخـيلة عليه قصدت القضاء عليه واستعادة أمجاد غابرة فارسية أو ثنوية أو غيرها ، فإن هذه الجماعات المسيحية ظهرت نتيجة لعوامل خاصة بالدين المسيحي ، والكنيسة ، وحقيقة الكتاب المقدس وتزحزح قداسته .
لقد ذهبت هذه الجماعات إلى أنه لا جناح على الإنسان من ارتكاب الموبقات لأنها لا تستطيع أن تلوث روحه ، فكل الأشياء التي صنعها الله [عز وجل] طيبة ، فلا يوجد شيء اسمه السرقة أو الكذب ، أو الغش فكلها طيبة باستثناء القتل ( ) .
وكان أبيزر كوب أحد قادة " الذين يجعلون عاليها واطيها " يتفوق على جميع أصحابه في الوقاحة ، وقلة الحياء ، فكـان يطيب له أن يلقـيَ مواعظـه وقد تجـرد من كل ثيابه ، ويختار من ألفاظه أكثرها بذاءة ، وأشدها صدماً للمشاعر – علينا أن نلاحظ هنا أن الذين يحضرون مواعظه ! - إن صحت هذه التسمية - لا يقلون عن واعظهم تحللاً وفجوراً ، وكان كوب يقضي نهاره محاولاً أن يقنع الناس بالانحلال الخلقي والإباحية فإذا جاء الليل ذهب هو وجماعته إلى ممارسة دعواتهم سلوكياً من معاقرة للشراب ، ومضاجعة للنساء اللواتي جئن يستمعن إلى المواعظ وهن عرايا ( ) .
كما ذهب هؤلاء إلى أنه لا وجود للجحيم والفردوس والعالم الآخر ، وأن الخطيئة مجرد وهم يطوف بخيال الإنسان ، وأن الشيطان ليس بالشيء المقيت أو الشرير لأنه من صنع الله الكامل ( ) { هل هناك صلة بينهم وبين عباد الشيطان في العصر الحديث ؟ } .
وكتب جيرارد ونستانلي في كتابه له بعنوان : " الذين يجعلون عاليها واطيها " وكوب في كتاب له بعنوان : " رعد طائر من اللهب " مبادئ هذه الجماعات ، من دعوة إلى الشيوعية ، والتهتك الخلقي ، مرغبين أتباعهم بالملذات والفجور( ) ، ومحاولين إقناعهم بأن الخطيئة شيء اخترعه الكهنة والقساوسة للتربح منه ، وذهب كلاركسون إلى أنه إذا أراد المرء أن يلتصق بالله [ عز وجل ] فلا بد له من التحرر الكامل من الخجل والعار ، والتحرر من الإحساس بالخطيئة ، فيضاجع كل نساء العالم وكأنه يضاجع امرأة واحدة ، وحتى يلتصق المرء بالله [ جل وعلا ] يتعين عليه أن يسكر حتى الثمالة ( ) .
ولم تكن النساء أقل مشاركة في هذا الانحلال ، فقد كن يقمن بإلقاء المواعظ وهن في حالات مزرية ، ويبادرن إلى دعوة الرجال لارتكاب الرذيلة أمام الملأ ، وفي الشوارع والساحات العامة ، وتدل الوقائع أن هذه العبثية قد انتشرت بين الناس إلى درجة فظيعة حتى جاء فيما بعد من كتب كتاباً عنوانه : " مقال عن المرأة " كان على صفحته الأولى صورة لقضيب هائل الحجم وتحت هذه الصورة مكتوب " مخلص العالم " كإشارة ساخرة إلى السيد المسيح " عليه السلام " ( ) . وهذا ما يؤكد العلاقة التي ننبه عليها بين الانحلال الخلقي وانهيار مرجعية الكتاب المقدس ، وتزلزل أركان العقيدة الدينية .
خامساً - العبثية الفرويدية :
من الواضح كيف أن الطوائف التي تحدثنا عنها تحيط الجنس بالإجلال والتقديس ، ويجعلونه المدخل الذي يهدمون الأخلاق والقيم الإنسانية من خلاله .
ولقد جاء فرويد فيما بعد فشرع بالتأسيس لهذه العبثية والانحلالية ، فاعتبر الدافع الجنسي هو الموجه للسلوك البشري يبدأ معه منذ الطفولة بل عقب الولادة مباشرة - حتى الطفولة البريئة لا يريد لها فرويد أن تسلم من ترهاتة - فيعتبـر الطفل يمارس الجنس مع أمه عن طريق الرضاعة بالفم ، ويشعر باللذة الجنسية عن طريق التبرز ( ) ، وعندما يمص إبهامه فهو يمارس سلوكاً جنسياً ( ) ، ويقول : "" إن كل من شاهد رضيعاً يتراجع عن الثدي في حالة شبع وينام متورد الخدين ، وعلى وجهه ابتسامة الاغتباط لا يمكن أن تفوته ملاحظة أن هذه الصورة تستمر كنموذج أولي للتعبير عن الإشباع الجنسي في مستقبل الحياة "" ( ) .
ثم يعتبر فرويد الاستعداد للانحـراف بجميع أنواعه إنما هو خاصية إنسانية أساسية وعامة ( ) ، ولذلك فالانحراف لابد منه لأنه جزء من الجبلة ، فنحن جميعاً هستيريون بنظر فرويد ( ) . ثم اعتبر التدين مظهراً من مظاهر الأمراض العصابية التي تصيب الفرد ، والأديان جميعاً تصطبغ بسمة الأعراض المرضية النفسية ( ) .
هذا المرض العصابي الذي يسيطر على فرويد دون أن يشعر به ، وهذا الهذيان الجنسي الذي يستولي عليه ، ويتلبسه كما يتلبس الشيطان الإنسان الضعيف المريض ، حتى أصبح يهذي به في كل سطر من سطوره ، وهذا الانحراف الذي ارتكس فيه ، ويعتبره خاصية إنسانية فطرية ليس مستغرباً من إنسان مثله يعايش مجتمعاً تشيع فيه الفاحشة والدنس والفجور ، حتى عجز أن يرى أنفساً طـاهرة نقية ، وعزَّ عليه أن يبصر أرواحاً صالحة تقية ، فتجاسر وعمم أحكامه على سائر البشرية ، وكم هو مناسب تعليق شيخنـا الفاضل د . " علي جمعة " على نظريات فرويد بقوله : " كل ما قاله فرويد صحيح ولكنه يصدق على النفس الأمَّارة " ( ). نعم لم يشاهد فرويد أنفساً لوامة ، ولا أنفساً مطمئنة فحكم على جنس الإنسان من خلال استقراءاته الناقصة، وتحليلاته الفاحصة لمجتمعاته المتردية في وهدة الرذيلة ، وظلمة الخطيئة .
وعلى صعيد الواقع فقد تجاوز الغرب ما أراده فرويد وقضى على كل أثر مركوز في النفس البشرية يجعل الإنسان يتعفف أو يبحث عن العفة ، وأسهم الإعلام الغربي في قلب معايير الأخلاق ، ونسف موازين القيم ، وطمس كل أثر للفطـرة الإنسانية " فضاعت الطاسة " بل لم يعد أحد يبحث عنها .
وأصبح في ألمانيا منذ عام 2001م يحصل المتزوجون الشواذ من نفس الجنس على التسجيل المدني ويتمتعون بمعظم امتيازات المتزوجين ، ويدفع مكتب الخارجية الألمانية مصاريف انتقال وإسكان هذا النوع من العلاقة بالضبط كما لو أنها لزوجات الدبلوماسيين المعتمدين ، وأصبح التعبير " رفيق هذه الفترة من حياتي " حائزاً على القبول ( ) .
وأصبحت العادة السرية ، وتبادل الزوجات ، والجنس الشرجي ، والجنس المثلي ، ومشاهد العري ، والدعارة ، ونقابات البغاء " كعاملات جنس " والاستغلال الجنسي للأطفال ، والنزعات السادية ، أصبحت كلها مشاهد مقبولة وتتكرر كموضوعات رئيسة خلال تبادل الحديث ، ووسائل الإعلام ، ومن خلال شبكة الإنترنت ، وأصبح أي شيء يُعلن عنه لا يحظى بالقبول إذا لم يُرفق بترميز جنسي ( ) .
وتتفاقم العبثية ، ويزداد التفكك فيشمل كل نواحي الحياة : الفن والأدب ، والمسرح ، فنجد فناناً مثل جو واتكين يستخدم جثثاً حقيقية في صوره الفوتوغرافية ، وموضوعه المفضل هو قضيب دُقّ فيه مسمار ، وقد اعترف هذا الفنان أنه يحب أن يعاشر موضوعاته - أي الجثث التي يصورها - جنسياً .
هذا مع العلم أن حياة هذا الفنان ! لا تقل إبداعاً تفكيكياً عن هذا الفن ! فهو يعيش مع زوجته وابنها من زواج سابق ، ومع صديقتها - أو عشيقتها - ولكن زوجته غادرت البيت وتركت له عشيقتها وابنها ( ) .
إن هذا لا يختلف عما يعرضه التلفزيون البريطاني : يجلس زوج وزوجته وطفلاهما على المنصة ، إنها أسرة عادية للغاية ، لولا إضافة يسيرة ، وهي أن صديق الأب - أو عشيقه - يعيش معه في نفس المنزل مع أسرته بموافقة الجميع . فالشرط الأساسي للخروج على المعايير الأخلاقية موافقة الآخرين ، والغريب أن المشاهدين البريطانيين تدهشهم هذه العروض ، ولكنهم لا يجدون طريقة للاحتجاج عليها أو حتى مناقشتها ، لأن المرجعية التي يلوذون بها انهارت ، والجدار الذي يستندون إليه تهاوى منذ أعلن نيتشة أن الله [ عز وجل وتقدس ] قد مات ، فمن الحكم ؟( ) . مرة أخرى إنها قضية المرجعية المنهارة .
سادساً – ارتكاس القدوة :
مما لا شك فيه أن القدوة لها أثر كبير في سلوك الناس وتوجهاتهم وخصوصاً إذا كانت هذه القدوة تُـنعت بالعبقرية، والإبداع ، وتشاد لها النصب التذكارية ، وتحاط بهالة من القداسة ، والإعجاب والنجومية . إذا صح هذا فإن الانهيار الأخلاقي والقيمي الذي آلت إليه الحضارة الغربية لم ينحدر مباشرة إلى القاعدة الشعبية العريضة والجماهير الواسعة، إلا بعد أن مر بقادة المجتمع ونجومه ، ورؤي أثره في سلوكهم ، وأنماط حياتهم .
إن القادة والنجوم في المجتمع لهم من النفوذ النفسي ما يدفع الناس إلى تقليدهم ، ومحاكاتهم واقتفاء آثارهم ، وهذا ما يعلمه جيداً مروجو السلع عن طريق الدعاية والإعلان حيث يتنافسون في إعلاناتهم على استخدام نجوم المجتمع ، ورموزه . والنجومية هنا يُسهم في إبرازها الإعلام بحق وبغير حق ، ويُدفع للنجم أحياناً أرقاماً خيالية ( ) لكي يظهر على الشاشة يحتسي مشروباً ، أو يرتدي قميصاً وذلك لما يدركون من أثر النفوذ النخبوي في استقطاب تقليد الجماهير( ) .
وإذا صح هذا – مرةً أخرى - فإنه لنتيجة طبيعية أن تصل الحضارة الغربية إلى هذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي والتفكك القيمي ، لأنه يندر أن نجد في فلاسفة أوربا الحديثة من كان يوصف بالاستقامة أو حسن السيرة ، أو اعتدال السلوك .
ونريد هنا أن نشير بعجالة إلى ما يقولونه هم في عباقرتهم العظماء ، وقادتهم النجباء ، ولمن شاء المزيد عليه أن يراجع التراجم الموسعة لهؤلاء .
يتحدث تشيللني في القرن السادس عشر عن طفلة رُزقها ثم يقول : " لم يسبق لي أن رزقت بأطفال غيرها على ما أذكر! وبقدر ما تسعفني الذاكرة ! وخصصتُ بعد ذلك نفقة للأم كافية بحيث أرضت إحدى خالاتها التي عهـدت إليـها بهـا، ولم أرهـا بعد ذلك أبداً ! " ( ). واللافت للنظر هنا أنه لا يتذكر إذا كان له أولاد آخرين أم لا ؟ وأنه خصص لابنته المولودة بضعة دراهم ثم لم يرها أبداً بعد ذلك ، وسنتذكر هذا بعد قليل ، وسنشيد به عندما نتحدث عن جان جاك روسو .
أما مؤسس المنهج التجريبي ، وأعظم وأوسع وأبلغ الفلاسفة ( ) والابن البار لعصر النهضة والمفكر الغزير العلم ( ) فرنسيس بيكون : 1516 – 1626م أعظم عقل في العصور الحديثة ( ) ،فلم يكن رجلاً فاضلاً كريم النفس وإنما كان خائناً غادراً ، مختلساً ، انتهازياً منعدم الضمير ( ) فلقد خان صديقه العزيز " أسكس " الذي أحسن إليه عندما كان بحاجة إلى الإحسان ، ولما عُيّن عضواً في المحكمة تحت رعاية الملكة إليزابيث ، وكان أسكس متهماً من قبل الملكة بتهمة الخيانة الكبرى ، وقف بيكون في المحكمة ضد صديقه ، وأسهم في إصدار الحكم عليه بالإعدام من أجل أن يحظى بمنصب لدى الملكة ، وحظي بذلك فعلاً فقد استلم منصب رئيس الوزراء ، ولكنه لم يكن يكف عن الاشتغال بالتآمر والدسيسة ، فاتهم بالاختلاس ، وتقبل الرشاوي من المواطنين ، ودخل السجن ، وحُكم عليه بغرامة قدرها أربعون ألف جنيه إسترليني والغريب أن يقول بعد ذلك : "" لقد كنت أعدل قاض في انكلترة في الخمسين سنة الأخيرة ""( ) .
وكان ليوناردو دافنشي 1452 – 1519م وإيرازموس 1466 – 1536 أولاد زنا، وليس العيب فيهمـا وإنما فيمن أنجبها بهذا السفاح وكان والد إيرازموس قسيساً على قدر من العلم ( ) . وكان ديكـارت 1596–1650م الذي يُدعى " أبو الفلسفـة الحديثـة " لم يتزوج ، إلا أنه أنجب ابنة غير شرعية توفيت في الخامسة من عمرها ، وتحسر عليها طيلة حياته ( ) .
أما جان جاك روسو 1712 – 1778م الفيلسوف العظيم ( ) فقد كان سافلاً ، لصاً مخادعاً غادراً ، خائناً ، وكاذباً ، دون أن يجد أي غضاضة في الاعتراف بذلك في كتابه" اعترافات روسو "وكان مجرداً من جميع الفضائل ( )، لحق بالكاثوليكية طمعاً في بعض المغانم ، فآوته سيدة اسمها مدام ميرسكي فسرق منها شيئاً يخصها ، فلما اكتُشف أمره وخشي أن يُفتضح اتهم خادمتها زوراً بالسرقة.
ولم يكن مسلكه الجنسي أفضل حالاً فقد كان منفلتاً إلى أقصى الحدود ، فقد تعرف في إيطاليا على سيدة تدعى مدام وارتيز كانت بروتستانتية وتحولت مثله إلى الكاثوليكية ، وكان في البداية يدعوها " أمي " ثم تحولت إلى خليلة ، وعاش معها في بيتها يعاشرها معاشرة الأزواج ، دون أن يكدره أنها كانت تضاجع خادمها الخاص إلى جانبه ، ولما مات الخادم حزن عليه ، ولم يُدخل عليه العزاء سوى علمه بأنه سيستولي على ثيابه من بعده . وفي سنة 1745 م تعرف على خادمة تدعى تيريزلي فاسبر عاش معها بقية حياته دون زواج ، وأنجب منها خمسة أطفال أدخلهم جميعاً دار اللقطاء .
قلت قد يكون فعل ذلك لأنه لا يدري هم أولاد من ؟ وعلى كل حال فقد كان تشلليني أرحم منه إذ خصص لابنته التي لم يرها بعد مبلغاً من المال .
هذا هو الذي كان يوصف بأنه ترك أثراً عظيماً في الفكر الأوربي كأديب وفيلسوف ومصلح اجتماعي . سيطرت عليه الوساوس ، وجنون الاضطهاد في أخريات حياته فمات منتحراً كما يُظن ( ) .
أما الشاعر الإنكليزي الشهير شلي 1792 – 1822م فقد كان مثالاً للإباحية والانحراف إذ خطف ابنة أستاذه وليم جودوين 1756 – 1836م واسمها ماري ، وكانت في السابعة عشرة من عمرها وعاشا معاً عيشة الأزواج ، وأنجبا ابناً غير شرعي ، وكان شلي متزوجاً قبل ذلك فلما علمت زوجته بذلك أقدمت على الانتحار( ) . أما والد ماري وليم جودوين فلم يزعجه ذلك لأنه وجد مبرراً لاقتراض المال من تلميذه حتى آخر حياته دون أن يرد له شيئاً ( ) . وأما ماري ابنته فإنها لم تفعل شيئاً أكثر من تطبيق فلسفة والدها التي تدعو إلى الإباحية الجنسية ، وتعتبر الزواج نظاماً عبودياً ( ) .
وكان ريتشارد كارليل 1790 – 1843م صاحب كتاب " الأبطال " يعيش مع آليزا شاربلز دون زواج في بيت واحد ، وأنجبا أربعة أطفال غير شرعيين ( ) .
وأما أوجست كونت 1798 – 1858م فقد وقع في حب كارولين ماسان وهي فتاة تشتغل بالبغاء ، فتزوجها وأخلصت له بطريقتها الشاذة ، ولما وقعا في ضائقة مالية اقترحت عليه أن تسهم في معيشتهما بما تحصل عليه عن طريق مهنتها القديمة، ولكنه رفض ثم انفصلا. هذا هو أستاذ الفلسفة الوضعية ( ) .
وكان شوبنهاور 1788 – 1860 م مصاباً بنوع من الهوس والمرض النفسي ، وقد عرفت في عائلته حالات من الجنون، وكان شهـوانياً داعـراً ، ولم يرتبط بأي امرأة عن طريق زواج شريف ، إلا في عـلاقات غرامية مبتذلة ، ومع ذلك كان يندد بالمرأة ، ويمتدح العزوبية ( ) .
وكان شديد البخل ، ويستخدم مراسلين يتصيدون له الشواهد على شهرته ، ويصعب أن نجد في حياته شواهد على أية فضيلة باستثناء الرفق بالحيوانات ( ) كما كان على خلاف شديد مع أمه بسبب علاقاتها الشاذة مع الرجال بعد وفاة أبيه ، وهجرها فلم يرها في العشرين سنة الأخيرة من حياتها ( ) .
أما نيتشة 1844 – 1900 م صاحب إعلان " موت الإله " فقد عاقبه الله [عز وجل ] في الدنيا بأن قضى السنوات العشر الأخيرة من حياته مجنوناً ، وكان أصابه قبل ذلك أيضاً مرض الزهري نتيجة لممارساته الجنسية العابثة في لياليه الحمراء ( ) .
وأصابه في جنونه هذيان العظمة إذ كان يدعو إلى الإنسان الأعـلى، ويتبنى أخلاق القوة ، ويحلم بالقضاء على كل الضعفاء والمعوقين وإقصائهم من الوجود لأنه لا يريد أن يرى إلا الأقوياء ( ) ، ومثله الأعلى دائماً إنسان متجرد تماماً من التعاطف ، متحجر القلب ، قاسي ، لا يعرف الشفقة ، خبيث ، لا يعبأ إلا بقوته ( ) ، وكان قد أحب زوجة صديقه فاجنر ، وحاربه في كتاباته من أجلها ( ) .
والآن : هؤلاء هم نجوم الغرب ، وقادته العظماء ، ومثله العليا ، يقرأ الغربي سيرهم المدنسة بوحل الرذيلة ، ويبحث في تاريخهم فلا يجده إلا ملطخاً بالعار، ثم يتابع إعلامه الصاخب فلا يجد فيه بشأن هؤلاء إلا الإعلاء والتمجيد والفخار ، فتنقلب في مناظيره موازين القيم فتصبح :
الخيانة والغدر طريق المجد ..
والانحلال والتهتك طريق النجومية ..
والإلحاد والزندقة طريق العظمة …
وهكذا يعيش الإنسان الغربي اليوم يفصل بين الأخلاق والحضارة ، وبين القيم والرقي ، وفي النهاية يفصل بين الإنسانية والإنسان ، وعندها يصبح الإنسان ذئباً ، ثعلباً ، ثعباناً ،ويصعب أن تجد " الإنسان الإنسان " ( ) . أو يصبح الإنسان شيئاً ، سلعة ، وثـناً ، نـمطاً ، آلـة ، وينـدر أن تجـد " الإنسان الإنسان " ( ) . كل ذلك يأتي من وراء النجومية الكاذبة ، والرموزية الخادعة ، والنخبوية الفارغة ، وفي النهاية " إذا كان رب البيت بالطبل قارعاً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص " .



المبحث الثاني
مجازفة العـقـل الأولى

لقد جازف العقل الغربي عندما اكتشف الخدعة الكنسية فحكم على كل الأديان بالنفي والإقصاء ، وأصر على أن يبحث عن إجابة للمعضلات الإنسانية الكبرى بعقله المجرد مستبعداً أي إمكانية لوجود وحيٍ صادق ، أو دينٍ حق ، فهل استطاع ذلك ؟
لقد تنقل هذا العقل – كما رأينا - بين القول بحقيقيتين إحداهما فلسفية والأخرى لاهوتية ، ثم قال بوحدة الوجود ، ثم قال بإله دون نبوة ، ثم قال بتأليه الإنسان أو تأليه الطبيعة ، ثم أنكر وجود الإله أو حَكم عليه بالموت ثم قال أخيراً : لا أدري !! وتقلب بين المادية المطلقة والروحانية المفرطة ، والحرية الكاملة والجبرية الشاملة ، والأخلاق الوضعية أو الأخلاق الدينية ثم قال أخيراً : لا أدري !!
وأصبحت السمة الأساسية التي تميز عصر اليوم في الغرب والتي يعبر عنها برتراند رسل هي الإحباط ، واليأس ، والقنوط من الوصول إلى المعرفة ( ) . وإن ثمرة العلمانية التي نجنيها في هذا العصر : اليأس الفكري المرير ، والعدمية ، واللاأدرية ، وانفصام الإنسان عن العالم ( ) ، وإننا نعيش اليوم فيما أُطلق عليه اسم عصر الشك والقلق ، والنسبية ، والسخرية من كل شيء ( ) .
ولكـن السؤال :هل كانت هذه هي مجازفة العقل الغربي الأولى على طريق العلمانية ؟
إذا تأملنا في تاريخ الفلسفة اليونانية ، فإننا نجد فصلاً مشابهاً لما حدث في أوربا في العصور الحديثة ، فقد أهمل فلاسفة اليونان دلائل الوحي، وتعاليم الأنبياء، وذهبوا يقترحون بعقولهم أجوبة لأسئلتهم. فاقترح طاليس 624 - 550 ق. م أن يكون أصل الكون هو الماء ( ).
ويَعتبر الشهرستـاني هـذا الرأي قـريبـاً من الوحي القرآني  وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاء  ( ) ولذلك فهو ربما يقتبس من مشكاة النبوة ( ). ولكن أنكسمنيس 588 – 524 ق . م رفض هذا واعتبر أن أصل الكون ليس الماء وإنما الهواء ( ) . ثم جاء فيثاغورث 572 – 497 ق . م فرأى رأياً مخالفاً وهو أن أصل الكون ليس الماء ولا الهـواء وإنما هو العدد، وأن ما نراه موجـوداً ما هـو إلا مـركب مـن أعداد ( ). وبعده هرقليطس 535 – 475 لم يقبل شيئاً من هذه الاقتراحات فقال : إن أصل الكون هو النار ، وكل شيء يخرج من النار ويعود إليها ( ) .
أما أمبذقليس 490 – 430 ق . م فقد حاول أن يجمع بين آراء سابقيه ويضيف إليها التراب، فقال :" إن مادة الكون مُشكّلة من أربعة أصول هي: " الماء والهواء والنار والتراب وأن كل ما نراه من اختلافات بين الأشياء راجع إلى نسبة المزيج بين هذه العناصر الأربعة " ( ).
ونشير هنا إلى أن الشهرستاني ينقل عن فيثاغورث أنه التقى بسليمان عليه السلام وأخذ الحكمة من معدن النبوة ( )،وأن أمبذقليس كان في زمن النبي داوود عليه السلام مضى إليه وتلقى العلم منه ، وكذلك اختلف إلى لقمـان الحكيم عليـه السلام ، فاقتبس الحكمة منه ( ) .
والملاحـظ هنا أنه إما أن الشهرستاني مخطئ ومصادره التي ينقل عنها ليست موثوقة ، أو أن المصادر التي ينقل عنها يوسف كرم تواريخ وفيات هذين الفيلسوفين غير دقيقة لأن أمبذقليس على ما ينقل الشهرستاني يلتقي مع داوود عليه السلام ، وفيثاغورث يلتقي مع سليمان وهو متقدم على أمبذقليس ، ومع ذلك يبقى هناك تساؤل كيف يلتقي هؤلاء مع أنبياء الله [عز وجل] ثم تصدر عنهم مثل هذه الآراء الشاذة التي لا يمكن أن يُقرها الأنبياء عليهم السلام . فإما أن لقاءهم مع الأنبياء ليس حاصلاً ، أو أنه حصل ولكنهم لم يكترثوا بتعاليم النبوة ، وأطلقوا العنان لعقولهم تتخرص في سجاف الغيب .
وعلى كل حال جاء بعد أمبذقليس كل من ليوسبس وديمقريطس فأسسا المذهب المادي ، كان للأول منهما دور التأسيس ، وللثاني دور الإذاعة والنشر حتى نسب إليه ، ونُسي الأول . ذهب هذان الفيلسوفان إلى أن مادة الكون تتألف من ذرات لا تقبل التقسيم ، وهي ما سمي بـ"الجواهر الفردة "وأن هذه الذرات هي عنصر واحد متجانس، تشـكَّل منها الكون ( ).
في هذه الأثناء كان السوفسطائيون يجوبون شوارع أثينا يعلمون الناس فن الخطابة والبلاغة والجدل ، وأنه لا يمكن الجزم بشيء ، وأن الإنسان مقياس كل شيء ( ) . وحاول جورجياس وهو أحد أقطابهم أن يثبت ثلاثة أشياء : لا شيء موجود ، وإن وُجد لا يمكن أن يُعرف ، وإن عُرف فلا يمكن إيصال هذه المعرفة للآخرين ( ) .
ولكن جاء سقراط 470 ق.م فتصدى للسوفسطائيين، وجعل غاية السؤال هي المعرفة، وليس السفسطة ، وكان يقول : إن حرفته هي نفس حرفة والدته " قابلة " ، ولكن في حين كانت أمه تولد النساء ، كان هو يولد العقول ، فقد كان شغله الشاغل إثارة الأسئلة المحرجة ، وإيقاع الخصم ، وإثبات صعوبة التعاريف الدقيقة ، وكان يقول : " أنا لا أعرف إلا شيئاً واحداً ، هو أنني لا أعرف شيئاً " ( ) .
وأنجب سقراط تلميذين : أفلاطون 429 ق , م الذي أقام فلسفته على نظريته المثل ، واعتبرها مصدر المعرفة لأنها دائمة ثابتة لا تتغير ( ) ، وكل معارفنا – بنظره - ليست إلا تذكراً لما كانت تعلمه النفس عندما كانت تعيش في عالم المثل قبل أن تحل بالجسم ( ). وأرسطو 384 – 322 ق ، م الذي ابتكر المنطق ( )، وقال بأن الله عز وجل هو العلة الغائية للكون ، وهو الذي يسعى إليه الكل فهو بذلك معشوق العالم ، يحركه دون أن يتحرك فهو إذن المحرك الأول . وقال بأن الله [عز وجل] فكرة ، أي صورة مجردة ، ولكنه ليس صورة لمادة ، بل هو صورة الصورة ، أو فكرة الفكرة ، فهو المفكر بنفسه وذاته وهو في سعادة أبدية وتفكير دائم في كماله وذاته ( ) .
هذا التجريد الأرسطي المفرط لم يعجب زينو 342 ق ( ) ، م مؤسس الرواقية فعاد بالفلسفة إلى ما قبل سقراط ، إلى المادية ، ونفى أي شيء غير المادة ، ونفى أي معرفة لا تأتي عن طريق الحواس، حتى الروح عنده مادة ، وحتى الباري[عز وجل] عنده مادة ، واعتبـر النار هي أصل العالم كما فعل هـرقليطس مـع إضافة بسيطة هي أنه اعتبر هـذه النار هـي الله[عز وجل] ( ).
راقت هذه المادية لأبيقور 342 ق.م ولكنه أعرض عن نار هرقليطس ، وتبنى ذرات ديمقريطس ، فوافقه على أنها أصل الوجود ، وهو لم ينف وجود آلهة ، ولكنه اعتبر هذه الآلهة متعددة كثيرة ، وتعيش في عالم مستقل عن عالم البشر ، وهي في سعادة دائمة ، ولا تتدخل في شؤون الكون أو الإنسان ( ) .
والفصل الأخير من الفلسفة اليونانية ينتهي بالشُكَّاك واللاأدرية ، والحق أننا لا نستطيع أن نزعم أن الشك كان غائباً ثم وجد ، لأن الشك مستمر ومترافق مع الفلسفة ولم ينفصل عنها لا في المرحلة اليونانية ، ولا في المرحلة الأوربية الحديثة ، ولكنه في الفصل الأخير من تلك المرحلتين يتفاقم حتى يشكل مذهباً وتياراً له زعماؤه وفلاسفته ، ولقد استمر في المرحلة اليـونانية منـذ الـقرن الثـالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثاني للميلاد تقريباً ( ) .
وإمام الشكاك هو بيرون أو بيرو " ت : 275 ق . م " وإليه ينسب مذهب الشك واللاأدرية ، فكل قضية عنده تحتمل السلب والإيجاب بقوة متعادلة ( ) ، وقال : " لست أدري ولست أدري أني لا أدري " ( ) ، وقال : بالوقف التام فنحن لا نستطيع أن نعرف شيئاً ( ) .
ومن تلاميذه قرينادس 214 – 128 ق .م : أنكر أن تكون هناك علامة للحقيقة ، فتشكك في العقل والحواس وقال بالاحتمال والترجيح ( ) .
وأناسيداموس : عاش في أواخر القرن الأول قبل الميلاد ، يقول بالنسبية المطلقة ، وأن ما يراه كل إنسان حقاً فهو حق بالنسبة له ، ولا يمكن معرفة الحق بذاته ( ) .
وأغريبا : عاش في القرن الأول أو الثاني للميلاد وأكد حجج أناسيداموس ونصر أدلته ، وأيد نسبيته المطلقة ( ) .
وسكستوس : عاش في القرن الثاني أو الثالث للميلاد ومن كتبه " الحجج البيرونية " وهو أيضاً نصير للشك واللاأدرية ، ويرد على أصحاب اليقين ، وقد حاول أن يفند منطق أرسطو ، ويبين أنه لا يمكن الوصول إلى المعرفة فهي ممتنعة المنال ( ) .
وهكذا نجد أن العقل الغربي ممثلاً في العقل اليوناني والأوربي قد جازف مرتين استهلك في كل منهما قرابة ستة قرون تقريباً، يبدأ بالسفسطة ثم يتقلب بين الآراء والاقتراحات المختلفة ، ثم لا يجد في النهاية إلا أن يرفع يديه ويعلن عجزه وجهله ولا أدريته ، لقد اعترفت الأغلبية الساحقة من العقول في المرحلتين بوجود إله قادر حكيم ، وكان الإلحاد دائماً حالة شاذه ، أفيعقل أن يترك الحكيم عباده هكذا في حيرة وظلمة يخبطون خبط عشواء دون أن يتداركهم برحمته وهدايته ؟ لا بل إنه عز وجل تدراكهم ولكنهم أعرضوا . والآن بعـد أن جربوا مئات السنين واعتـرفوا بعجزهم ، ألـم يأن لهذا العقـل أن يصيخ إلى الحق ، ويصغي إلى الهـدى ، ويبصر النور ؟


وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين

د. أحمد إدريس الطعان
- كلية الشريعة - جامعة دمشق