مشاهدة النسخة كاملة : مناقشة كتاب العلم فى منظوره الجديد
eeww2000
09-20-2004, 05:46 AM
الاخوة الاعزاء :
السلام عليكم و رحمة الله :
ساضع هنا باذن الله و عونه ملخص لكتاب موجود عندى منذ 15 عام و تاثرت به جدا و الكتاب اسمه
The New Story of Science
By
Robert M. Augros
George N. Stanciu
وقد ترجم و طبع بالعربية فى سلسلة عالم المعرفة التى يصدرها او كان يصدرها المجلس الوطنى للثقافة بالكويت تحت اسم العلم فى منظوره الجديد و الامر مفوض للسادة المشرفين لوضعه فى منتدى الكتب او منتدى الحوارات ربما يناقشنا فيه احد او نتناقش فيه سويا و بعد ان انتهى بعون الله من وضع الكتاب ساضع بحث نثبت فيه بعون الله ان القران او الاسلام لا يتناقض باى صورة من الصور مع هذه النظرة العلمية الجديدة بل العكس هو الصحيح على سبيل القطع بالدليل و الله من وراء القصد .
و المترجم اسمه كمال خلايلى و الذى يقول فى تصديره للكتاب صفحة 7 :
صنف هذا الكتاب اثنان من الاساتذة المعروفين فى امريكا الشمالية احدهما متخصص فى فلسفة العلوم و الاخر فى الفيزياء النظرية و الهدف الذى يرمى اليه المؤلفان هو هدم اركان المادية العلمية تلك النظرية الكونية التى استهلها فرانسس بيكون وجاليلو فى مطلع القرن السابع عشر و استمرت الى العقود الاولى من القرن العشرين ثم اثبات وجود الله تعالى و بيان الحكمة و الغاية من ابداع الكون و خلق الانسان و ذلك بالاستناد الى النتائج التى انتهى اليها اقطاب العلماء و الباحثين المعاصرين فى مجالات الفيزياء و الكوزمولوجيا و مبحث الاعصاب وجراحة الدماغ وعلم النفس الانسانى.
ويدور البحث فى هذا الكتاب فى شكل موزانة بين مقولات المذهب المادى الذى يسميه المؤلفان النظرة العلمية القديمة ومقولات النظرة العلمية الجديدة التى اخذت تتبلور فى مطلع القرن العشرين و التى كان لعلمى الفيزياء الحديثة و الكوزمولوجيا الحديثة بمفاهيمهما الجديدة للزمان و المكان و لنشاة الكون وتطوره الفضل الاول فى ارساء دعائمها و توطيد اركانها كنظرة بديلة من المادية .
و يتتبع المؤلفان جذور المذهب المادي التاريخية مع بيان تطوره الى ان اكتمل شكله فى اواخر القرن التاسع عشر بعد نشر عالم الطبيعة الانحليزى تشارلز داروين نظرية فى النشوء و التطور من طريق الانتخاب الطبيعى و بقاء الاصلح و روج لها من العلماء من روج حتى خلفت ابعد الاثر و ابقاه فى التفكير العلمى و الفلسفى ربما الى يومنا هذا و على الرغم من ان رواد النظرة القديمة لم يكونوا من الملاحدة فقد انتهت الى ما انتهت اليه من انكار وجود الله و الاستخفاف بالقيم الاخلاقية و الدينية وبالمعانى الروحية و النفسية و السعى الى تفسير السلوك البشرى كله و العقل و الارادة بلغة الدوافع و الغرائز و الفسيولوجيا.
و يعرض المؤلفان للظروف التى نشات فى ظلها النظرة العلمية القديمة التى اصطبغت بصيغة مادية صرفة كرد فعل ازاء الفلسفة المسيحية التى كانت سائدة فى العصور الوسطى و قد بنيت على منطق ارسطو و مفهومه لما وراء الطبيعة و كانت تسعى الى عقلنة اللاهوت المسيحى و لكن هذه الفلسفة وصلت فى عهودها المتاخرة الى حالة من الجمود و التحجر العقلى و التخبط الفكرى حدث بعلماء العصر الى الاعراض عنها و ارساء اسس العلوم الطبيعية على العقل و المشاهدة الحسية و التجارب العلمية لا على الفكر النظرى المحض او على سلطة احد من البشر .
و كانت الكنيسة الكاثوليكية فى ذاك العصر تضطهد العلماء بحجة ان نظرياتهم العلمية لا تتفق مع نصوص الكتاب المقدس او مع ما ارتضته من اراء ارسطو و غيره من فلاسفة اليونان و ما اكثر من اعدم من هؤلاء العلماء و من حرق و لعل قصة جاليليو لا تخفى على القارىء المثقف فقد نشر هذا ايد فيه نظرية كوبرنيكوس القائلة ان الارض وجميع الكواكب السيارة تدور حول الشمس وحول نفسها مخالفا بذلك نظرية بطليموس فى المحورية الارضية و هى النظرية التى حظيت بتاييد الكنيسة الكاثوليكية فحوكم و اضطر رغم انفه الى التراجع عن رايه كتابة.
هذه اذا هى الظروف التى نشات فى ظلها النظرة العلمية القديمة التى تطورت فى العصور اللاحقة الى مذهب مادى صارم يؤمن بازلية المادة و يرفض من ثم كل ما هو غيبى و لا يعترف فى تفسيره لمختلف الظواهر الا بنوعين من العلل هما الضرورة و الصدفة . انتهى الاقتباس
هذه مقدمة الكتاب فما رايكم اعزكم الله و نصركم
و الحمد لله رب العالمين
الموحد
09-20-2004, 06:05 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عندى أقتراح لعله يكون مناسباً , سنترك الكتاب فى هذا القسم للمتابعة مع منع التعقيب من الزملاء الملحدين حتى يتم الى نهايته , وبعد الانتهاء من الكتاب ننقل نسخة منه الى المكتبة ونفتح المجال للتعقيب .
فما رأيك أخى ؟
eeww2000
09-20-2004, 03:20 PM
على بركة الله نبدا و هو وحده المستعان
أبو عمران
09-21-2004, 12:48 AM
يعني بجد عايز تضع كتاب طبعه عالم المعرفة هنا ؟؟؟؟
و هل تدخله بواسطة الكي بورد ؟؟؟؟
أم لديك طريقة لا أعرفه ؟؟؟
أخي لو عندك أي طريقة غير الكي بورد ألحقني بها أرجوك
eeww2000
09-30-2004, 02:03 AM
كتاب العلم فى منظوره الجديد
تصدير
بقلم المترجم
صنف هذا الكتاب اثنان من الاساتذة المعروفين في أمريكا الشمالية أحدهما متخصص في فلسفة العلم ، والآخر في الفيزياء النظرية يرأس كلية العلوم الرياضيات في إحدى الجامعات الكندية. أما الهدف الذي يرمى إليه المؤلفان فهو هدم أركان المادية العلمية ، تلك النظرة الكونية التي استهلها فرانسيس بيكون وغاليليو في مطلع القرن اسابع عشر واستمرت إلى العقود الأولى من القرن العشرين ، ثم إثبات وجود الله تعالى وبيان الحكمة والغاية من إيداع الكون وخلق الإنسان ، وذلك بالإستناد إلى النتائج التي انتهى إليها أقطاب العلماء والباحثين المعاصرين في مجالات الفيزياء والكوزمولوجيا ، ومبحث الأعصاب ، وجراحة الدماغ ، وعلم النفس الإنساني.
يدور البحث في هذا الكتاب في شكل موازنة بين مقولات المذهب المادي ـ الذي يسميه المؤلفان "النظرة العملية القديمة " ـ ومقولة النظرة العملية الجديدة التي أخذت تتبلور في مطلع القرن العشرين ، والتي كان لعلمي الفيزياء الحديثة والكوزمولوجيا الحديثة ، بمفاهيمهما الجديدة للزمان والمكان ولنشأة الكون وتطوره ، الفضل الأول في إرساء دعائمها وتوطيد أركانها كنظرة بديلة من المادية .
يتتبع المؤلفان جذور المذهب المذهب المادي التاريخية مع بيان تطوره إلى أن اكتمل شكله في أواخر القرن التاسع عشر بعد أن نشرعالم الطبيعة الإنكليزي تشارلز داورين نظريته في النشوء والتطور من طريق الانتقاء الطبيعي وبقاء الأصلح وروج لها من العلماء من روج حتىخلفت أبعد الأثر وأبقاه في التفكير العملي والفلسفي إلى يومنا هذا . وعلى الرغم من أن رواد النظرة القديمة لم يكونوا من الملاحدة فقد انتهت إليه من إنكار وجود الله والاستخفاف بالقيم الأخلاقية الدينية ، وبالمعاني الروحية والنفسية ، والسعى إلى تفسير السلوك البشري كله والعقل والإرادة بلغة الدوافع والغرائز والفسيولوجيا.
ويعرض المؤلفان للظروف التي نشأت في ظلها النظرة العلمية القديمة التي اصطبغت بصبغة مادية صرفة كرد فعل إزاء الفلسفة المدرسية , وهي الفلسفة المسيحية التي كانت سائدة في العصورالوسطى ، وقد بنيت على منطق أرسطو ومفهومه لما وراء الطبيعة ، وكانت تسعى إلى عقلنة اللاهوت المسيحي . ولكن هذه الفلسفة وصلت في عهودها المتأخرة إلى حالة من الجمود والتحجر العقلي والتخبط الفكري حدت بعلماء العصر إلى الإعراض عنها ، وإرساء العلوم الطبيعية على العقل والمشاهدة الحسية والتجارب العلمية ،لاعلى الفكر النظري المحض أو على سلطة أحد من البشر.
كانت المسيحية الكاثوليكية في ذلك العصر تضطهد العلماء بحجة أن نظرياتهم العملية لاتتفق مع نصوص الكتاب المقدس ، أو مع ما ارتضته من آراء أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان وعلمائهم . وما أكثر من أعدم من هؤلاء العلماء ومن حرق . ولعل قصة غاليليو لاتخفى على القارئ المثقف . فقد نشر هذا كتاباً أيد يه نظرية عالم الفلك البولندى كوبرنيكوس القائلة أن الأرض والجميع الكواكب السيارة تدور حول الشمس وحول نفسها ، مخالفاً بذلك نظرية بطليموس في المحورية الأرضية ، وهي نظرية حظيت بتأييد الكنسية الكاثوليكية ، فحوكم اضطر رغم أنفه إلى التراجع عن رأية كتابة .
هذه إذا الظروف التي نشأت في ظلها النظرة العملية القديمة التي تطورت في العصور اللاحقة إلى مذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة ، ويرفض من ثم كل ما هو غيبي ، ولايعترف في تفسيره لمختلف الظواهر الأ بنوعين من العلل هما الضرورة والصدفة .
إزاء هذه النظرة العلمية مادية النزعة برزت إلى الوجود في مطلع القرين العشرين نظرة علمية كان من ألمع روادها آباء الفيزياء الحديثة كأينشتاين، وهاييزنبيرغ ، ويور وكثيرين غيرهم ممن استحدثوا مفاهيم جديدة كل الجدة أطاحت بالمفاهيم والنظريات الفيزيائية السابقة التي كانت رائجة منذ عصر أرسطو وحتى أواخر القرن التاسع عشر . فقد أثبت أينشتاين ، مثلا ، نسبية الزمان والمكان ، بل الحركة . وبين الفيزيائي الدانمركي نيلزبور أن الذرة ليست أصغر جسيم يمكن تصوره ، كما كان نيوتن يظن ، بل أنها هي الأخرى مكونة من نواه يحيط بها عدد لاحصرله من الإلكترونات . أجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية والكوزمولوجيا على أن الكون بما يحويه من ملايين المجرات ومليارات النجوم والكواكب قد بدأ في لحظة محددة من الزمن يرجع تاريخها إلى مابين 10، 20 مليار سنة ، فثبت بما لايدع مجالاً للشك أن المادة ليست أزلية ، وأن للنجوم آجالاً محددة تولد وتموت كالآدميين ،وأن الكون المادي نفسه في تطور وتمدد مستمرين ، بل أن من بين الفيزيائيين الفلكيين المعاصرين من قادته نتائج أبحاثه إلى القول إن الكون كان مهيئاً منذ الإنفجار العظيم لتطور مخلوقات عاقله فيه ، وأن الإنسان في مركز الغاية من إيداعه .فرأوا في ذلك كله في الجمال المنتشر في الطبيعة على جميع المستويات هدفاً وخطة مرسومة ،فآمنوا بعقل أزلي الوجود منتصب وراء هذا الكو ن واسع الأرجاء يدبره ويرعى شؤونه.
ثم أعقب هذا الجيل من الفيزيائيين والفلكيين جيل آخر من العلماء المتخصصين في مبحث وقفوا حياتهم كلها على دراسة جسم الإنسان فانتهت بهم أبحاثهم إلى الإقرار بأن الإنسان مكون من عنصرين جوهريين ـ جسد فان وروح لايعتريها الفناءـ وبأن الإدراك الحسي ، وأن كان يتوقف علىعمليات فيزيائية وكيميائية ، ليس شيئا ماديا بحد ذاته ، وخصلوا كذلك إلى مايفيد بأن العقل الدماغ شيئن مختلفان تمام الإختلاف ، وأن الإرادة ولاأفكار ليستا من صنع المادة ولا من إفرازاتها ، بل هي ، على عكس ذلك ، تؤثر تأثيراً مباشراً في العمليات الفسيولوجية ذاتها .
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن اخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغاءه في المذهب السلوكي قد أفضيا إلى تجري الإنسان من إنسانيته ،فالتحمت في الخمسينات من هذا القرن قوة ثالثة عرفت فيما بعد باسم " علم النفس الإنساني " . ومن أبرز رواد هذه المدرسة فرانلك وماي الذين يعترفون بأولية العقل ، وبعدم قابلية حصره في الخواص الكيميائية والفيزيائية للمادة ، وبكون الانسان البشري كله بلغة الدوافع والغرائزوالضرورات البيولوجية وردود الفعل الآلية ، ويؤمنون عوضا عن ذلك بما يسمى القيم الأخلاقية والجمالية والجوانب الروحية والنفسية والفكرية.
هذه لمحة موجزة عن هذه النظرة العملية الجديدة التي سيجد القارئ مزيداً من التفاصيل عن مقولات روادها ونتائج أبحاثهم في ثنايا هذا الكتاب.
******
توطئة الكتاب بقلم السير جون اكلس
انها لمسؤولية جسيمة و شرف عظيم لى ان اقدم لهذل الكتاب الفريد من نوعه . يطرح هذا الكتاب فكرة مؤداها انه خلال القرون السابع عشر و الثامن عشر و التاسع عشر تكون لدى علماء الفيزياء و الكوزمولوجيا بشكل تدريجى تصور ما للعالم وهو ما يسميه المؤلفان النظرة القديمة غلبت عليه بشكل متزايد نزعة مادية.
ان ما يحظى به علم الفيزياء من قدرة عظيمة على تفسير الظواهر و ما تكشف عنه مبتكرات تكنولوجية هائلة قد اضل الرجل العادى بحيث جعله يزداد بعدا وفتورا عن المعتقدات الدينية و القيم الروحية بعد ان تعرض مفهوما العقل و العمليات الذهنية للخطر بل للرفض.
على ان الثورة التى حدثت فى علمى الفيزياء و الكوزمولوجيا فى القرن العشرين قد غيرت شكت هذه الصورة . ذلك ان المراقب الواعى اصبح فى فيزياء الكم عنصرا اساسيا بوصفه مشاركا فى عمليات القياس العلملية. و انبثاق الكون من انفجار عالمى فريد يعرف بالانفجار العظيم منذ نحو 12 مليار سنة قد غير مفهومى المكامن و الزمان و كشف عن قصة عجيبة من الظروف تصل مجموعتنا الشمسية بكوكبنا الارضى و بنشاة الحياة و بالتطور البيولوجى لتنتهى بظهور الانسان.
وهكذا بعد أن كان الإنسان يعتبر مخلوقاً يسكن كوكباً متواضعاً يدور حول نجم لاشأن له في مجرة تحوى 100 مليار نجم آخر، أصبح الآن يقوم بدور المشارك في مسرحية كونية عظيمة ، هذا إلى جانب جميع الأحداث الكونية بدءاً بالإنفجار العظيم فصاعداً كانت قد صممت بحيث تسمح بوجود مخلوقات واعية في مكان ما من الكون المتمدد وفي حقبة من حقب تاريخه . كل هذه أدلة تحمل في طياتها الإقناع الكافي بنشوء تصور كوني جديد للعالم. فالنظرة القديمة هي في سبيل إفساح المجال أمام نظرة جديدة تركز على الإنسان بوصفه مراقباً ومشاركاً واعياً وتفرد للعقل وللعمليات الذهنية مكانة تضاهي مكانة العالم المادي.
إن في مفهومي " النظرة القديمة " و " النظرة الجديدة" تبسيطا مثيراً يستحق المؤلفان عليه الثناء لإجترائهما على عرض النزاع الدائر بعبارات يستطيع القارئ فهمها . والواقع ا هناك الشيء الكثير من التشوش في متاهة الأيدولوجيات المتصارعة . ففي معاني الفيزياء الوكوزمولوجيا استطيع أن أفهم بوضوح الأساليب الفنية للنظرة القديمة والنظرة الجديدة . غير أنني أتردد في أن أمير بوضوح شديد بين هاتين النظريتين فيما يتعلق بمجال تخصصي وهو معضلة العقل والدماغ. فلئن كنت أميل إلى الإلتزام بمعظم مبادئ النظرة القديمة من الناحية العلمية فإنني انحرف عنها من وجهة النظر الفلسفية.
إننا الآن نتأرجح بين النظرة القديمة ونظرة جديدة في طور التخلف ـ وهو أمر يصدق حتى على الفيزياء حيث تبقى نيوتن الكلاسيكية أساساً ضرورياً لكل المبتكرات التكنولوجية ، بل لرحلة العودة من القمر .
ولعل من مزايا هذا الكتاب أنه يتيح لن تقييم الصراعات الدائرة بين أنصار كل من النظرة القديمة والنظرة الجديدة ،ويضعنا في مكان ذي امتياز نل منه على خطوط المعركة بمكاسبها وخسائرها.بيد أن هناك خطرا يتمثل في أن صراع الإيديولوجيات ربما رسمت حدوده بدقة مفرطة لايحس بعض القراء معها أنهم ملتزمون بأي من هاتين النظريتين ،زد على ذلك أن ثمة جوانب عديدة من الصراع الفعلي لم يعرض لها المؤلفان كالتطور وعلم الوراثة ،والبيولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا ، والتطور البيولوجي للوعي عند الحيوان ، ومنشأ الوعي البشري العجيب .كما أن المؤلفين ، لدى عرضهما للنظرة الثنوية الجديدة إلى العالم ، لم يتطرقا لفلسفة كارل بوير بعوالمه رقم 1 ، 2، 3 .كذلك فإني لست مقتنعاً بمعالجتهما لمسألة الإبداع الفني . إذا فهناك الشيء الكثير مما يمكن تناوله في مجلد آخر يسير على نفس النسق العام لموضوع الكتاب .
إنني على يقين من أن هذا الكتاب سيثير خصومة أنصار النظرة القديمة المتحمسين لها ، ولن تقتنع أغلبيتهم بفحواه ، ولكنه سيروق كثيراً من الشباب الذين تثير سخطهم الأقوال المتغطرسة كتلك التي أدلى بها رسل ،والمقولة في مدخل الكتاب .
إننا جميعا نحس بالنفور من أيديولوجية لاترى الوجود وهي تغرس في النفوس اليأس الدائم . أماجاذبية النظرة الجيدة فهي ـ كماجاء في خاتمة الكتاب ـ تستبدل بهذه القسوة الفظيعة " غائية الوجود وخالق الكون والجمال والثروات الروحية وكرامة الإنسان ".
مـدخل
لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم ،أي نظرة يفهم وفقا لهاكل شيء ويقيم .والتصور السائد في حضارة ماهو الذي يحدد معالمها .ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها ، ويملى منهجيتها ، ويوجه تربيتها ، وهذا التصور يشكل إطار الإستزادة من المعرفة والمقياس الذي تقاس به ، وتصورنا للعالم هو من الاهمية بحيث لاندرك أن لدينا تصوراً ما إلا حين نواجه تصوراً بديلاً ، إما بسفرنا إلى حضارة أخرى ، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة ، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول.
والحضارة الغربية مابرحت ، منذ عصر النهضة ، تضع لسلطان العلم التجريبي . بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين ، الأمر الذي يفضي إلى وجود نظرتين علميتين متنافستين . وعلى حد تعبير أحد مؤرخي الحضارات " توماس بري " " Thomas Berry" : " فالقضية كلها قضية نظرة. ونحن الآن بالذات نواجه مشكلة لأنه ليس لدينا نظرة مقبولة . فلا النظرة القديمة تؤدي دورها على الوجه السليم ، ولانحن تعلمنا النظرة الجديدة .
أما النظرة العملية القديمة فهي المادية العملية التي تؤكد أن لاوجود إلا للمادة ، وأن الأشياء جميعاً قابلة للتفسير بلغة المادة فحسب ، وهكذا يتحتم أن تكون حرية الإختيار وهما من الأوهام مادامت المادة غير قادرة على التصرف الحر. ولما كانت المادة عاجزة عن أن تخطط أو تهدف إلى أي شيء ، فلا سبيل إلى العثور على حكمة وراء الأشياء الطبيعية ، بل أ العقل ذاته يعتبر نتاجاً ثانوياً لنشاط الدماغ . ويصور برتراند رسل ( Bertrand Russell) ، بما تميز به من قوة وضوح ، بيان مكان الإنسان في النظرة القديمة على النحو:
" لأن يكون الأنسان نتاج أسباب لاتملك العدة اللازمة لما تحققه من غايات ، ولا يكون منشؤه ونموه وآماله ومخاوفه وصبواته ومعتقداته مجرد حصيلة ارتصاف ذرات عرضي ، ولأن تعج أي حماسة مشبوبة أو بطولة ، أو أي حدة في التفكير أو الشعور ، عن الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر ، ولأن يكون الإندثار هو المصير المحتوم لكل عناء الأجيال ، ولك التفاني ، ولكل عبقرية الإنسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار، كل هذه الأمور إن لم تكن حقا غير قابلة للجدل فإنها مع ذلك تقترب من اليقين إلى حد يتسحيل معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء . وعلى ذلك لايمكن بناء موطن الروح بأمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى اساس رائخ من القنوط لمقيم "
ولكن العلم ، منذ كتب رسل هذه الكلمات عام 1930 ، مر بسلسلة مثيرة من الثورات : أولاً في الفيزياء على أيدي أينشتاين ( Einstein) ، وبور ( Bohr) ، وهايزنبيرغ Heisenberg) ) ،ثم في مبحث الأعصاب بفضل شرنغتون ( sherrington) ، واكلس
( Eccels) ، وسبري ( sperry) ، وبنفيلد ( penfield ) ، وفي علم النفس بفضل فرانكل ( Frankl) ، وماسلو ( Maslow) ، وماي May وفي علم الكونيات بفعل نظرية " الإنفجار العظيم " ، و " المبدأ الإنساني " . إن هذه المكتشفات لم تقلب التصور الحديث للإنسان ولمكانته في العالم فحسب ، بل هي تقدم ، على غير توقع منا ، تفسيرا ُ جديداً يغاير تفسير رسل . ويلاحظ الفيزيائي هنري مارجينو Henry Margenau أن " العقيدة الأساسية للمذهب المادي هي أن الحقيقة كلها تكمن في المادة ، وهذا رأي كان مقبولاً بعض القبول في آخر القرن الماضي . غير أن أمورا كثيرة حدثت في هذه الأثناء تكذب هذا الرأي " ،كما يعلن الفيزيائي فيرنر هايزنبيرغ أن " الفيزياء الذرية المعاصرة قد نأت بالعلم عما كان يتسم به من إتجاه مادي في القرن التاسع عشر".
والنظرة الكونية هي من الحيوية بحيث لايستطاع تغيرها بسهولة أو بسرعة ، حتى لو توافرت أدلة قاهرة تدعو لإحداث تغيير. ومايحدث بدلا من ذلك دائما هو نشوء نزعة تطويع المعارف الجديدة بإلباسها قسراً ثوب النظرة القديمة . ويبدي هارولد موروفتس (Harold Morwitz) ، عالم الطبيعيات الإحيائية الجزيئية ، الملاحظة التالية : " يبدو أن المفاهيم التي هي فعلا عميقة الغور تستغرق مايقرب من خمسين عاماً حتى تستقر مايقرب من خمسين عاما حتىتستقر في الضمير المشترك لأهل الفكر . ولذا فإن معظمنا قد بدأ الآن فقط يدرك كامل وقع بعض الأفكار التي مافتئت تختمر في مجال الفيزاء منذ الربع الأول من هذا القرن. وهذا الكتاب محاولة لتجميع عناصر النظرة العلمية الجديدة هذه.
ونحن ، إذ نستخدم عبارتي " النظرة العلمية القديمة" ،" والنظرة العلمية الجديدة ". لانعني بذلك أن جميع العلماء يقتسمون انقساماً إلى معسكرين فالنظرتان في الأغلب تتجليان على صورة اتجاهات ذهنية عامة ، وليس كل عالم يقبل جميع النتائج المترتبة على أي منهما . كذلك فإن النظرة القديمة ، تلك التي شهدناها لتونا عند رسل ، لم تظهر مكتملة الشكل حين بدأ عصر العلم الحديث.
فقد كان هناك ، كما سنرى ،تطور تاريخي معين. أضف إلى ذلك أننا ، إذ ننتقد النظرة القديمة ، لانرغب إطلاقاً أن نشكك في الحقائق الوفيرة التي اكتشفت في إطارها. وأخيراً فإن في نيتنا أن نبرز التضاد بين النظرة القديمة والنظرة الجديدة لا في تفاصيلهما التقنية ، بل باعتبارهما نظرتين إلى العالم ، مع التركيز على آثارهما الفلسفية العامة على الإنسان وعلى الكون.
الفصل الأول
المادة
الثورة تطيح بالنظام القديم وتنشيء مكانه نظاماً جديداً ، وعلى ذلك إذا أردنا أن ندرك أهمية أي ثورة فعلينا أولا ان نفهم النظام القديم. والنظام القديم في الفيزياء الحديثة هو نظام نيوتن ويمكن تبين جوهر هذا النظام من الطريقة التى يجيب بها على ثلاثة اسئلة ما هى مقومات الكون المادى ؟ هنالك ثلاث حقائق المادة و المكان و الزمان .
و المادة فى راى نيوتن مكونة من جسيمات كبيرة و صلبة و متحركة وغير قابلة للاختراق ذات احجام و اشكال مختلفة اما خواص المادة فيعدد منها نيوتن التمدد و الصلابة و اللااختراقية و القصور الذاتى و طبيعة هذه الجسيمات اى الذرات و خواصها ثابتة الى الابد و الذرة تعتبر اصغر جسيم ينقل تصوره اما الزمان و المكان فكلاهما فى تصور نيوتن حقيقتان مطلقتان اى انهما سيظلان كوجوديين حتى لو فنيت كل الاشياء المادية فى الكون و يصف نيوتن المكان كما يلى ان المكان المطلق بطبيعته ذاتها و دون علاقة باى شىء خارج عنه يظل متماثلا و غير متحرك ويضيف قائلا ان الزمان المطلق و الصحيح و الرياضى بذاته و حكم طبيعته يتدفق باطراد من غير ان تكون له علاقة باى شىء خارجى فهو يعتقد ان الزمان و المكان لا نهائيا المدى و انهما عالميان و غير قابلين للتغير.
ما هو التغير ؟ يشرح نيوتن ذلك بقوله ان التغيرات التى تطرا على الاشياء المادية تقتصر على مختلف عمليات انفصال هذه الجسيمات الثابتة و على عمليات اتحادها و حركاتها الجديدة .
كيف تطرأ التغيرات ؟ القوانين الطبيعية تنظم حركة المادة في إطار الزمان والمكان المطلقين . ويصف نيوتن الهدف المثالي لنظامه قائلاً " إن استخلاص مبدأين عامين أو ثلاثة مبادئ عامة للحركة من الظواهر ، ثم إظهار كيفية انبثاق خواص ونشاط جميع الأشياء المادية من هذه المبادئ التي يكون قد تم استجلاؤها سيمثلان خطوة كبيرة في ميدان الفلسفة .وليس للباحث العلمي من دور في هذا النظام يتجاوز دور المشاهد الحيادي .فقد كان يفترض أن الكون المادي وجميع خواص المادة يمكن فهمها دون إقحام العقل في النظام.
وقد حقق نظام نيوتن نجاحاً في العديد من المجالات ، ولاسيما في مجالي الفيزياء والكيمياء ، وأحرز النظام القديم تقدماً بفضل جهود علماء من أمثال فاراداي ( Faraday) ، وكلفن (Kelvin) ،وهيرشل ( Herschel) ومئات غيرهم ، وتمت له الغلبة بشرحه ظواهر الحركة والحرارة والضوء والكهرباء . وطبيعي أن هذا النجاح ولد في النفوس رغبة في توسيع نطاق هذا الأسلوب في الشرح بحيث يشمل جميع حقول المعرفة ، بما فيها علوم الأحياء والنفس والتاريخ والإقتصاد. وقد أسفرت إمكانية الكشف عن أسرار جزء كبير من العالم الطبيعي ، بافتراض وجود المادة وحدها ، عن دفع بعض العلماء تدريجيا إلى اعتبار المادة جزءا من الاسلوب العلمي ذاته ، على نحو جعل الباحث العلمي ، بصرف النظر عن معتقداته الشخصية ، يمضي في حججه العلمية على أساس افتراض كون المادة وحدها هي الحقيقة ، أو أنها ، على الأقل ، كل مايمكن معرفته بطريقة علمية . ولعل في وسعنا أن نطلق على هذا اسم " المادية المنهجية" .وواضح أن نيوتن نفسه لم يكن من المؤمنين بالمذهب المادي ، إذا لم يكن يأمل أن يشرح عن طريق نظريته في الميكانيكا جميع الأشياء ، بل " جميع الأشياء المادية ".
وقد كتب لهذا البرنامج البقاء وحقق بالفعل آمالاً كبيرة. وكان لدى العلماء في القرن التاسع عشر كل مايدعوهم إلى الإعتقاد بأن القرن العشرين سيكمل بناء هذا النظام ، بل كان كثير من علماء الفيزياء يعتقدون أن دورهم في تقديم هذا التفسير قد اكتمل أساساً.
وأحرز القرن العشرين بالفعل فتوحات باهرة ، ولكنها لم تكن بأي حال من النوع المتوقع . فالاكتشافات الجديدة لم تكمل فيزياء نيوتن ، بل أطاحت بها.ففي المقام الاول هدم أينشتاين في عام 1905 ركنين أساسيين من أركان النظام القديم . فنظرية النسبية الخاصة قادت علم الفيزياء إلى التخلى إلى الأبد عن فكرتي المكان المطلق والزمان المطلق . ذلك أن أينشتاين أثبت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لايمكن تعريفها إلا بوصفها الموقف الشخصي للمراقب ولظروفه المادية. أما السمات الأخرى لنظرية النسبية الخاصة ، كتكافؤ المادة والطاقة ،فهي في الواقع نتائج مترتبة على محورية المراقب .وبفضل النسبية الخاصة أضحى المراقب فجأة جزءا أساسياً من عالم الفيزياء.ولم يعد في مقدور الباحث العلمي أن يعتبر نفسه متفرجاً حيادياً كما في نظام نيوتن.
ثم حدثت ثورة متشابهة في فيزياء الجسيمات . فقد أثبت ايرنست رزرفورد (Ernest Rutherford) عام 1911 أن الذرة تتكون من نواة متناهية الصغر يحيط بها حشد من الإلكترونيات . وحاول الفيزيائيون أن يفسروا تركيب الذرة استناداً إلى فيزياء نيوتن ، غير أن كل محاولة من محاولاتهم كانت تسفر عن تناقضات تبعث على الإحباط. وأخيراً أدى هذا الفشل إلى التخلى كلياً عن نظام نيوتن على المستوى الذري وإلى التعجيل بتطوير ميكانيكا الكم في العشرينات من هذا القرن على أيدي علماء من أمثال نيلزبور Niels Bohr وفيرنرهابزنلبلاغ Werner Heisenberg ، وبمجيء ميكانيكا الكم تضاعفت أهمية دور المراقب في النظرية الفيزيائية. يقول الفيزيائي ماكس بورن Max Born : " لايمكن وصف أي ظاهرة طبيعية في مجال الذرات إلا بالرجوع إلى المراقب رجوعاً لا إلى سرعته فحسب كما في حالة النسبية ، بل إلى جميع أنشطته لدى قيامه بالمراقبة وبتركيب الآلات وما إلى ذلك".
ويشرح الفيزيائي جون ويلر John Wheeler هذا فيقول :
" كان من الطبيعي على مدى فترة طويلة من الزمن أن يعتبر المراقب ،وهو ينظر إلى الكائنات ، محميا من ملامستها بلوح زجاج ثخين يبلغ سمكه عشرة سنتمترات .أما ميكانيكا الكم فهي ، خلافا لذلك ، تعلمنا أن العكس هو الصحيح . فمن المستحيل مراقبةأي جسم ، مهما بلغ من الصغر ، كالإلكترون ، من دون كسر ذلك اللوح والولوج إلى داخل هذا الجسم بالآلات القياس المناسبة . زد على ذلك أن تركيب الأجهزة لقياس أي من إحداثيات الإلكترون يحول اليا دون وضع المعدات المطلوبة لقياس سرعته أو زخمه في المكان نفسه وفي الوقت نفسه . والعكس صحيح . فعلمية القياس ذاتها تحدث في وضع الإلكترون تغيرا لاسبيل إلى التنبؤ به . وهذا التغير يختلف بحسب قياسنا للموقع أو للزخم والخيار المتعلق بما يراقبه المرء يحدث اختلافا لاسبيل إلى استرجاعه فيما ينتهي إليه من نتائج . وهكذا تمت ترقية المراقب ليصبح مشاركا و ما اوحت به الفلسفة فى غابر الازمنة تبينه لنا اليوم " ميكانيا" الكم بقوة مثيرة للأعجاب . فعالمنا اليوم بطريقة غريبة ، عالم قائم على المشاركة .
وهكذا أصبحت أصغر جسيمات المادة غير قابلة للتعريف بمعزل عن خيارات وأفعال المراقب الذى هو ضرورى لا كشاهد فحسب بل كمشارك و يبين الفيزيائى يوجين فيغنر Eugene Wegner ما يترتب على ذلك من نتائج بالنسبة لدور العقل في العالم فيقول " عندما تم توسيع نطاق النظرية الفيزيائية ليشمل الظواهر الميركوسكوبية ، من خلال استحداث ميكانيكا الكم ، عاد مفهوم الوعي مرة أخرى إلى المقدمة، إذ لم يعد ممكنا صياغة قوانين ميكانيكا الكم بشكل متسق كليا دون الرجوع إلى الوعي " . ولما كانت المادة في أدنى مستوياتها لا تفهم إلا باستخدام العقل فقد انتهى فيغنير من ذلك إلى أن العقل هو إحدى حقائق الوجود المطلقة قائلاً " هنالك نوعان من الحقيقة أو الوجود : وجود وعي وحقيقة أو وجود كل شيء آخر . ومما يدعو للحيرة الشديدة أن وجود النوع الأول من الحقيقة يمكن أن ينسى .
ويصف فيغنر وجهة نظر النظام القديم فيقول" كان جل العلماء الطبيعيين إلى عهد غير بعيد ، ينكرون بشدة " وجود" العقل أو الروح . على أن النجاح الباهر الذي حققه علم الفيزياء الميكانيكية و العيانية بصورة أعم ، وكذلك علم الكيمياء ، قد حجب الواقع الجلي ،ذلك الذي يقول أن الأفكار والرغبات والعواطف ليست من صنع المادة .وكان مقبولاً عند العلماء الطبيعيين على نحو يشبه الإجماع إن لاشيء هناك سوى المادة.
وعلى ذلك ، فإن نظرية النسبية وميكانيكا الكم تمثلان خروجا مشتركاً بينهما على تفسير نيوتن بادخالهما العقل في المعادلة .فلقد حلت الفيزياء في القرن العشرين تدريجياً محل المذهب المادة بتأكيدها أن الفكر يقوم بدور جوهري في الكون . وأنه لأمر مثير حقاً أن يصدر هذا التأكيد عن علم الفيزياء .فلو قدر للمادة أن تصادف نجاحاً في أي مكان لتوقع لها المرء أن تنجح في مجال دراسة المادة ذاتها.
أن الحقائق الجديدة التي كشفتها نظرية النسبية وميكانيكا الكم لا يمكن أن تتواءم مع النظرية القديمة . فلا هيكل المكان ـ الزمان ، ولا خواص الجسيمات الأولية يمكن أن يصفا دون الرجوع إلى مراقب مشارك ، أي إلى عقل . ولقد كانت النظرة القديمة لاتتضمن إلا المادة القوانين الطبيعية . أما النظرة العلمية الجديدة فمن المحتم عليها أن تتضمن المادة والقوانين الطبيعية والعقل .
---------يتبع -----------
الموحد
10-09-2004, 03:56 AM
يرفع للتذكرة , ونحن فى شوق لتكملة باقى الكتاب .
eeww2000
10-10-2004, 02:20 AM
الفصل الثاني
العقل
يقتضي مبدأ البساطة ، فيما يبدو ، أن يفسر العلم الأشياء الطبعيية بلغة المادة وحدها ، مالم يثبت أن مثل هذه النهج غير قابل للتطبيق . وفي هذا السياق تبدو النظرة القديمة إلى العقل معقولة إلى حد بعيد. فهي تحتج بأن جميع الأشياء الطبيعية تنشأ في نهاية المطاف عن تفاعلات بين جسيمات تتكون منها هذا الأشياء . وهكذا فالماء سائل على نحو ما نعرفه لأن جزيئاته تنزلق بجانب بعضها بعضا بقليل من الإحتكاك . والمطاط متمغط لأن جزيئاته بحكم مرونتها تغير شكلها بسهولة .والماس شديد الصلابة لأن ذرات الكربون الموجودة فيه متراصة بشكل على هيئة شعرية محكمة النسج . ولابد أن الأمر نفسه ينطبق على العقل.
ويذكر عالم الأحياء توماس هـ . هكسلي Thomas H.Huxely ، وهو من علماء القرن التاسع عشر ، أن " الأفكار التي أعبر عنها بالنطق ، وأفكارك فيما يتعلق بها إنما هي عبارة عن تغيرات جزيئية. فخير طريقة للبحث في العقل ،من زاوية النظرة القديمة ، هي إظهار كيفية أنبثاق العقل من المادة .
وإحدى النتائج التي تستتبعها هذه النظرة هي أن العقل البشري لايستطيع أن يختار بحرية لأن المادة لا تتصرف إلا بضرورة ميكانيكية. وهذا هو السبب في نزوع النظرة القديمة إلى تفسير تصرفات الإنسان بلغة الغريزة، والفسيولوجيا ( علم وظائف الأعضاء ) ،والكيمياء .والفيزياء ، فلا مجال هناك لحرية الاختيار.
والواقع أنه لو أحذنا بالمذهب المادي بمفهومه الضيق فلا مناص من إنكار أي تأثير للعقل أو للإرادة في الدماغ .فالتغيرات المادية هي التي تسبب الأفكار ، لا العكس ، وقد عبر و.ك كليفورد W.K.Clifford ، أحد علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر ، في محاضرة له عن العلوم عن هذه الفكرة بإيجاز بليغ " إذا قال أحد أن الإرادة تؤثر في المادة فقوله ليس كاذباً فحسب ، وإنما هو هراء " .
ويصف هكسلي العلاقة بين العقل والجسد على هذا النحو :
" يبدو أن الوعي متصل بآليات الجسم كنتيجة ثانوية لعمل الجسم ، لا أكثر ، وأن ليس له أي قدره كانت على تعديل عمل الجسم مثلما يلازم صفير البخار حركة القاطرة دونما تأثيرعلى آليتها "..
ومن المستلزمات الأخرى لتصور العقل وفقا للنظرة القديمةأن لاشيء في الإنسان يمكن أن يبقى بعد الموت . فإذا كان التفكير والإرادة نشاطين من أنشطة الدماغ فليس هناك سبب يجعلنا نفترض أن هذين النشاطين يمكن أن يستمرا بعد فناء الدماغ ، وإذا كان كل جزء من أجزاء الإنسان مادة فلابد من أن يكون كل جزء منه عرضه للفناء. ففي النظرة القديمة لاخلود إلا للمادة.
وعلى ذلك ، كان للنظرة القديمة برنامج واضح لتفسير العقل ، ولكن مامن أحد في القرن التاسع عشر استطاع أن يحدد بالضبط كيفية انبثاق العقل من المادة . وكان علماء الفسيولوجيا يتوقعون أن يأتي المستقبل بالجواب . وفي عام 1886 كتب هكسلي يقول " وهكذا سيوسع علم وظائف الأعضاء في المستقبل شيئا فشيئا من عالم المادة وقوانينها إلى أن يصبح مساويا في امتداده نطاق المعرفة و الشعور والعمل . وقد تطلع الكثيرون إلى القرن العشرين لإنجاز هذا البرنامج المادي.
ولقد جاء القرن العشرون بكشوف رائعة عن الفسيولوجيا، ولكنها لم تكن بأي حال من النوع المتوقع . فالكشوف الجديدة لم تكمل النظرة القديمة ، ولكنها قدمت نظرة جديدة بدات بالسير تشارلز سرنغتون الذي يعتبر مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة . ونتيجة بحوثه الرائدة في الجهاز العصبي والدماغ خلص شرنغتون إلى مايلي " هكذا ظهر فرق جذري بين الحياة والعقل . فالحياة هي مسألة كيمياء وفيزياء ، أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء".
ويقصد شرنغتون بالحياة الإشارة إلى التغذية الذاتية ، واستقلاب الخلايا( الايض ) cell Cetabolism والنمو ، فهو يقول أن هذه الظواهر تتم بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء ويمكن تفسيرها بلغة هذين العلمين .أما أنشطة العقل فهي تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء.
ويوافق على ذلك السير جون اكلس ، المتخصص في مبحث الأعصاب ، فيقول : " التجارب التي تنم عن الوعي تختلف في نوعها كل الاختلاف عما يحدث في آلية الأعصاب . ومع ذلك فإن مايحدث في آلية الأعصاب شرط ضروري للتجربة . وإن كان هذا شرطاً غير كاف ".
فلنورد مثالا لتوضيح المراد من أقوال اكلس وشرنغتون ، ماذا يحدث ، مثلا ، عندما يرى سقراط شجرة؟ تدخل أشعة الشمس المنعكسة من الشجرة في بؤبؤعين سقراط ،و تمر من خلال العدسة التي تركز صورة مقلوبة ومصغرة للشجرة على شبكة العين فتحدث فيها تغيرات فيزيائية وكيميائية .فهل هذا هو الإبصار ؟ كلا ، إذ لو كان سقراط فاقد الوعي لأمكن تركيز تلك الصورة على شبكية عينيه ، محدثة نفس التغيرات الفيزيائية والكيمائية ، ولكنه في هذه الحالة لايبصر شيئا. وبالمثل ، تركز آلة التصوير على صورة ما ، فيتعرض " الفيلم " الموجود في الآلة لتغيرات فيزيائية وكيميائية،ولكن آلة التصوير لاتبصر بالمعنى الحرفي في الألوان والأشكال التي تسجلها.
أما إذا أردنا أن نفسر إبصار سقراط فنحن بحاجة إلى أكثر من ذلك كثيراً. فالشبكية ، وهي صفحة من المستقبلات شديدة التراص ( عشرة ملايين مخروط ومائة مليون قضيب) ، تبدأ ، حين ينشطها الضوء المنبعث من الشجرة ،بإرسال نبضات الى العصب البصري الذي ينقلها بدوره إلى قشرة الدماغ البصرية . وكل شيء إلى الآن قابل لأن يفسر بلغة الفيزياء والكيمياء . ولكن أين مكان اللون الأخضر من كل هذا؟ فالدماغ نفسه رمادي اللون أبيضه . فكيف يستطيع أن يتلقى لونا جديداً دون أن يفقد لونه السابق ؟ وكيف يستطيع دماغ سقراط أن يبصر الضوء إذا كان دماغه مغلقاً ومعزولاً تماما عن أي ضوء؟ ويكون الأمر معقولا لوان سقراط ، حين وجه بصره نحو الشجرة ، لم يحس إلا بأزيز من الكهرباء في دماغة ، ولكن النشاط الكهربائي والكيميائي لدماغه ، الذي يمكنه من الإبصار بطريقة ما ، هو بالضبط مالايراه سقراط ، وبدلا من ذلك فسقراط عندما ينظر يرى الألوان والأشكال والحركات والضوء ، وكلها بأبعادها الثلاثة . بل من العسير أن نتخيل كيف يكمن لأي من هذه الأشياء أن ينشأ عن المواد الكيميائية والكهرباء .
ويؤكد أكلس على سر الإدراك الحسي فيتسائل " أليس صحيحاً أن أكثر تجاربنا شيوعاً تقبل دون أي تقدير لما تنطوي علي من غموض هائل ؟ ألسنا لا نزال كالأطفال في نظرتنا إلى مانقبله من تجاربنا المتعلقة بالحياة الواعية . فلا نتريث إلا نادراً للتفكير في أعجوبة التجربة الواعية أو لتقديرها ؟ فالبصر ، مثلا ، يعطينا في كل لحظة صورة ثلاثية الأبعاد لعالم خارجي ، ويركب في هذه الصورة من سمات الإلتماع و التلون مالاوجود له إلا في الإبصار الناشيء عن نشاط الدماغ . ونحن بالطبع ندرك الآن النظائر المادية لهذه التجارب المتولدة من الإدراك الحسي كحدة المصدر المشع والطول الموجي للإشعاع المنبعث . ومع ذلك فعمليات الإدراك ذاتها تنشأ بطريقة مجهولة تماما عن المعلومات المنقولة بالرموز من شبكية العين إلى الدماغ.
فالصورة التي تسلط على الشبكية ، مثلا ، لاتعود أبدا إلى الظهور مجددا في الدماع ، بل لابد للعقل الواعي من أن يعيد تركيبها من أنماط النبضات المرموزة. فكل عملية إدراك حسي تتكون من ثلاث مراحل : المنبه الأصلي لعضو الحس ، والنبضات العصبية المرسلة إلى الدماغ ، ونمط النشاط العصبي المثار في الدماغ ، ويلخص أكلس هذه العملية فيقول : " أن عملية النقل من عضو الحس إلى قشرة المخ تستخدم نمطا من النبضات العصبية معبراً عنها برموز تشبه رموز مورس ، وتنحصر فيها النقاط في تسلسلات زمنية شتى . ومن المؤكد أن هذا النقل المرموز يختلف تمام الإختلاف عن عملية الحفز الأصلي لعضو الحس المعني ، كما أن النمط المكاني / الزماني للنشاط العصبي المثار في قشرة المخ مختلف هو الآخر كل الأختلاف .
وعملية الترجمة المزدوجة هذه تضخم أعجوبة الإدراك الحسي . ذلك أن هذه السلسلة من الترجمات الفيزيائية / الكيمائية تسفر عن تجربة حسية محددة كإبصار " اللون الأخضر " ، وفي هذه النقلة ما يبعث على قدر من الذهول ليس أدنى إثارة للعجب من حالة شخص يفهم فجأة نصا ترجم له من لغة يجهلها إلى لغة أخرى يجهله كذلك.
إذا فعالم الإحساس، وفقا للنظرة الجديدة ، يتوقف على عالم الفيزياء والكيمياء ، ولكنه ليس مقصوراً عليه . وقد تفيد مقارنة مافي إيضاح هذا الفارق الدقيق : فمن المؤكد أن وجود كتاب ما يتوقف علىعناصر الورق والصمغ والحبر التي يتكون منها ،ومن دونها لايمكن أن يوجد الكتاب. ومع ذلك ، فالكتاب لايٌفهم فهماً كافياً بمجرد إجراء تحليل كيميائي للحبر ولألياف الورق . وحتى لو عرفنا طبيعة كل جزء من جزيئات الورق والحبرمعرفة كاملة فذلك لايكشف لنا شيئا عن محتوى الكتاب . ذلك أن محتوى الكتاب يشكل نظاماً أسمى يتجاوز عالم الفيزياء والكيمياء . وبطريقة مماثلة تؤكد النظرة الجديدة أن أحاسيسنا تتوقف علىأعضاء الجسم ، ولكن لايمكن حصرها في الخواص الفيزيائية والكيميائية للمادة.
و يتناول شرنغتون مثال البصر لايضاح النظرة القديمة التى يسميها مخطط الطاقة لا تستطيع ان تعلل احساسنا بنجم نراه فمخطط الطاقة يتناول هذا الاحساس و يصف مرور الاشعاع من النجم الى العين و الصورة الضوئية الصغيرة التى تتشكل له فى قاع العين و ما يسفر عنه ذلك من النشاط الضوئى الكيميائى فى الشبكية و شلشلة التفاعلات التى يحتمل ان تحدث ابنداء بالعصب و انتهاء بالدماغ و كذلك التشويش الكهربائى فى الدماغ و لكنه لا يقول شيئا عن ابصارنا للنجم فمخطط الطاقة لا يفسر ادراكنا ان للنجم سطوعا و اتجاها وبعدا و لا كيفية تحول الصورة فى قاع العين الى نجم نراه فوق رؤوسنا نجم لا يتحرك رغم أننا و أعيننا حين نحمل الصورة معنا ولا هو يفسر أخيرا إدراكنا الأكيد أن الشىء المرئى هو نجم و مخطط الطاقة يتناول النجم بالبحث كواحد من الأشياء التى يمكننا مشاهدتها ولكنة يسكت سكوتا تاما عن إدراك العقل له وقد يقال عنه انه يوصلنا الى عتبة فعل الإدراك ليودعنا هناك وهو فيما يبدو ينقلنا الى صميم المكان و الزمان المرتبطين بالتجربة الذهنية ولكنة لا يعطينا اى إشارة خفية أخرى .
إذا فالنشاط الفسيولوجى و الكيميائى للدماغ وفقا للنظرة العلمية الجديدة أمر ضروري للإحساس متزامن معه ولكنه ليس الإحساس بعينه والمادة وحدها لا تستطيع أن تفسر الإدراك الحسى فالنظرة القديمة تستطيع أن تتحدث عن الموجات الضوئية والتغيرات الكيميائية والنبضات الكهربائية فى الأعصاب ونشاط خلايا المخ أما عن عمليات الإبصار و الشم و الذوق و السمع واللمس ذاتها فليس عند المادية ما تقوله .
إن الإدراك الحسى حقيقة ولكنة ليس المادة ولا هو من خواص المادة وليس فى مقدور المادة ان تفسره ومن هنا يخلص شرنغتون الى ان كون وجودنا مؤلفا من عنصرين جوهريين أمر ليس فى تصورى ابعد احتمالا بطبيعته من اقتصاره على عنصر واحد فالنظرة الجديدة تفترض وجود عنصرين جوهريين فى الإنسان : الجسم و العقل .
لقد تناولنا بالبحث حتى الآن مثالا واحدا وهو الإدراك الحسى ولكن ماذا تقول النظرة الجديدة عن العقل البشرى قبل ان نطرف هذه المسالة يلزم أولا ان نميز بوضوح بين العقل وملكتنا العقلية الأخرى وسنفعل ذلك بإيجاز وبطريقة معقولة استنادا الى ما نشترك فيه جميعا من تجارب داخلية.
أن كلمة إدراك تعنى ( المعرفة او الوعى ) وبهذا المعنى فاى نشاط ينطوى على معرفة أو إدراك هو من لنشطة العقل المدرك فالمسالة كلها تبدأ بالإدراك الحسى والحواس الخارجية هى الأساس الأول لكل المعارف الإنسانية ومصدرها ومن دون المعلومات الآتية من هذه الحواس لا يكون لدى الذاكرة اى شىء تتذكره ولا للخيال اى شيء يتصوره و لا للعقل اى شىء يفهمه وكل حاسة من الحواس الخمس – البصر و الشم والسمع و الذوق واللمس – تدرك صفة محددة من صفات الأشياء المادية . فحاسة البصر وحدها تدرك الألوان وحاسة اللمس درجات الحرارة والأنسجة والضغوط وبعض الصفات الأخرى كالحجم والشكل يمكن إدراكها بأكثر من حاسة واحدة . فنحن نستطيع مثلا ان نعرف حجم قطعة نقدية عن طريق حاسة البصر أو حاسة اللمس واللمس وحده بين الحواس الخارجية الخمس موزع على مختلف أنواع أجزاء الجسم أما الخواص الأربع الأخرى فكل منها يقتصر على عضو متخصص : العين ، أو الأذن أو الأنف أو اللسان .
وإلى جانب الحواس الخارجية نجد تحت تصرفنا مجموعة كبيرة من ملكات الإحساس الداخلى . نأمل لحظة اننا نملك القدرة على الإحساس لا بالبياض وبحلاوة الطعم فحسب بل على ادراك الفارق بينهما فالعين يدرك البياض و لا تدرك الحلاوة واللسان يدرك الحلاوة ولا يدرك البياض فلا اللسان ولا العين يستطيعان التمييز بين البياض و الحلاوة لأن أيا منهما لا يدرك الأثنين معا . ويصدق هذا القول نفسه على الفرق بين ارتفاع الصوت وارتفاع الحرارة . ذلك لأن أى ملكة قادرة على مقارنة شيئين لا بد لها من أن تعرفهما كليهما . وما من حاسة خارجية تستطيع أن تؤدى هذه المهمة تبعا لذلك لا بد من أن تكون فينا حاسة داخلية تستطيع أن تدرك جميع الصفات التى تدركها الحواس الخارجية وأن تميز بينهما .
ونحن كذلك نملك القدرة على أن نستدعى أمورا لم تعد حاضرة . فعملية التذكر شىء حاضر بالفعل ، ولكن الشىء الذى نتذكره ليس كذلك ، إذ إن إدراكنا الحسى الأصلى قد زال على نحو ما ولكنه مع ذلك تحت تصرفنا فالذاكرة لا تستحضر التجربة الماضية فحسب ، بل تستحضرها بوصفها حدثا ماضيا ، وتستطيع ترتيبها من حيث صلتها بتجارب أخرى ماضية . بل إن الأدعى الى الدهشة هو قدرتنا على أن نجعل أنفسنا نتذكر الشىء المنسى .صحيح أن الذاكرة تخوننا أحيانا فلا نستطيع أن نتذكر اسم شخص ما ، ولكننا نستطيع فى الغالب أن نحمل أنفسنا على تذكره بالتركيز على أمور أخرى مرتبطة بذلك الاسم .
والخيال ملكة حسية داخلية أخرى نستطيع بواسطتها أن نتصور لا الأشياء المدركة بالحواس فحسب ، بل الأشياء التى لا تدرها هذه الحواس كجبل من ذهب أو فيل بحجم البرغوث ، فالخيال ، بخلاف الذاكرة ، يستخدم المعلومات الواردة من الحواس الخارجية الخمس بحرية وبطريقة إبداعية .
ثم إن قدرتنا على الإحساس بالعواطف ، كالحب والغضب والفرح و الخوف والأمل و الرغبة والحزن ، تربطنا بالعالم بطريقة أخرى مختلفة كذلك . فكل عاطفة تنشأ من فعل ملكة حسية ، سواء كانت حاسة خارجية كالخيال ، أو الذاكرة فالغضب مثلا يثيره الإحساس بالضرر او الإهانة والخوف يحركه تخيل وقوع شر يتهددنا فى المستقبل والحزن يسببه الإحساس بألم حاضر أو تذكر ألم مضى زمانه كذلك من طبيعة العاطفة أن يحس بها ، بل إن العواطف تسمى أحيانا أحاسيس لوثاقة صلتها بحاسة اللمس ، ورغم ذلك ، ومع أن الأحاسيس تسبب وتلازم على الدوام كل عاطفة ، فإن العواطف ذاتها ليست أفعالا تندرج تحت الإدراك الحسى . فالخوف لا يدل على مجرد الإحساس بشىء ما ، وإنما يدل على موقف أو رد فعل إزاء ذلك الشىء . والعاطفة ليست عملية الإبصار ، ولكنها رد الفعل إزاء الشىء المبصر والذى يجعلنا نميل ‘ليه أو يدفعنا بعيدا عنه .
والحيوانات العليا تمارس معظم القدرات المذكورة حتى الأن . ولكن إذا كان الإنسان أكثر من مجرد حيوان فمن المحتوم أن تكون هناك قدرة خاصة تميزه من سائر الحيوانات الأخرى . وإن إلقاء نظرة على مراتب الأحياء كفيلة بأن تقودنا إلى اكتشاف تلك القدرة .
فنحن نلاحظ أن النباتات تتحرك من خلال النمو ، غير أنها لا تدرى إلى أين تمضى . فالشجرة تمد جذورها إلى أعماق التربة ، لا لأنها تدرك أن الماء والمواد المغذية موجودان هناك . ومن جهة أخرى ، فالحيوانات تدرك بحواسها إلى أين تمضى ، ولكنها لا تدرى لماذا . فالعصفور ، مثلا بفضل قدرته على الإبصار ، ينتقى المواد المناسبة لبناء عشه ، و غير انه لا يبنى هذا العش لأنه يدرك أن ذلك ضرورى للتوالد بل إن ردود فعل العصفور تثيرها حوافز معينة بطريقة أليه فشمس الربيع الدافئة تجعل الغدد النخامية عند العصفور تفرز بعض الهرمونات التى تحرك نشاط بناء العش والعصافير التى تحقن بهرمون الإستروجين الأنثوى تشرع فى بناء الأعشاش فى غير أوانها .
النباتات تحرك نفسها ، ولكنها لا تدرى إلى أين تمضى والحيوانات تدرك إلى أين تمضى ، ولكنها لا تعرف السبب ولإكمال مراتب الأحياء لا بد من وجود مخلوقات لا تعرف فقط إلى أين تمضى ، ولكن لماذا تمضى ايضا ونحن البشر نشكل هذه المخلوقات ، والملكة التى تمكننا من فهم علل الأشياء تسمى العقل أو الفكر وهى تسمى كذلك سلطان العقل ( power reason ) لأننا بواسطتها نتعرف على علل الأشياء وما من قوة حسية تستطيع أن تؤدى هذه الوظيفة . فاللسان ، مثلا ، يدلنا على أن البحر مالح ولكنه لا يفسر لنا علة ملوحته .
والعقل كذلك يمكننا من إدراك ما هية الأشياء و هو أمر لا تستطيع الحواس القيام به ولا ملكة الخيال ذاتها فإذا حاولنا مثلا أن نتخيل ما هو الحيوان فالصورة التى ترتسم فى أخيلتنا الحسية تختص بحيوان بعينه له صفات محددة من حيث الحجم والشكل واللون ومن المستحيل تكوين صورة حسية لما يشترك فيه جميع الحيوانات ومع ذلك فليس من المستحيل على العقل أن يفهم ما هو الحيوان .
والمكان الذى يتحدث عنه أينشتاين لا يمكن تصوره يقول عالم الفيزياء الفلكية وليم كوفمان ( william kaufman ) ما نصه : ومن المستحيل عمليا أن نتصور متصل المكان و الزمان الملتوى ذا الأبعاد الأربعة فالمكان الرباعى الأبعاد لا يستطيع أن يحس به أو يتخيله حتى علماء الفيزياء والرياضيات ولكن يمكن فهمه والعقل فى مجال العلوم يسمو على قيود الخيال وهو حاسة داخلية فالعقل البشرى إذا ليس متميزا من الخيال فحسب بل هو قدرة إدراكية تفوقه بكثير والعقل لا الحواس هو الذى يصنع العلم لأنه وحده يستطيع أن يستكشف ماهية الأشياء وعللها .
والعقل يطلق عليه أحيانا اسم الفهم ( understanding ) وهى تسمية مناسبة لأن طبيعة الأشياء تمكن تحت صفانها الظاهرية التى تفهمها الحواس ومن هنا فتسمية الفهم مشتقة من قدرة العقل على معرفة ماهيه الأشياء وعللها .
وأخيرا هناك ملكة أخرى تفصلنا عن عالم الحيوان وهى الإرادة ومن اليسير التمييز بين الإرادة والعاطفة لأن الاثنين يمكن أن تتصادما و الأعمال الجريئة تبرهن على أن الإرادة تفرض نفسها حتى على الخوف من الموت فالعواطف تثيرها الحواس ولكن الإرادة تختار وفقا لما يراه العقل ( reason ) بل إننا كثيرا ما نقول إن فلانا من الناس قد تغلب على عاطفته لأنه كان عنده سبب وجيه للقيام بذلك فالحيوان يتبع حكم الإحساس والعاطفة ولكن الإنسان يتمتع بقدرة على الاختيار وفقا لما يفهمه عقله .
أما وقد رأينا ما يميز العقل البشرى والإرادة البشرية من ملكاتنا الأخرى ففى وسعنا الأن أن نعود إلى مسالة ما تقوله النظرة الجديدة بشأن العقل والإرادة وفيما يتعلق بالعلاقة بين العقل والإرادة تم بعض أروع اكتشافات القرن العشرين خلال عمليات جراحية أجراها ويلدربنفيلد على أدمغة ما يربو على ألف مريض فى حالة الوعى وملاحظات بنفيلد حول وظيفة الدماغ تفوق فى حجيتها وكمالها جميع الإدلة السابقة غير المباشرة المستفادة من بحوث أجريت على حيوانات ومن عمليات جراحية أجريت على أدمغة أشخاص مبنجين وكان بنفيلد ، و الذى يعود له الفضل الأول فى ادماج مباحث الأعصاب وفسيولوجيا الأعصاب وجراحة الأعصاب ، وقد شرع فى بحوثه الرائدة فى الثلاثينات من هذا القرن غير أن الأثار الكاملة المترتبة على اكتشافه لم تتضح إلا حين نشر كتابه المسمى ( لغز العقل ) ( the mystery of the mind ) .
إن بعض أنواع الصرع قابل للعلاج عن طريق الجراحة فبعد أن يبنج الجراح المريض تبنيجا عاما ، ويزيل بطريقة جراحية جزءا من جمجمته لتعريض الدماغ يعيده إلى وعيه ونظرا لانعدام الإحساس فى الدماغ نفسه يستطيع الجراح أن يستكشفه بواسطة الالكترود ( القطب الكهربائى ) وأن يحدد مستعينا بالمريض موقع الخلايا التى تسبب النوبات الصرعيه وأن يزيل هذه الخلايا .
وفى عام 1993 اكتشف بنفيلد بمحض الصدفة أن تنبيه مناطق معينه فى الدماغ بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى لقد ساورت بنفيلد الشكوك أول الأمر ، ثم أخذته الدهشه فعندما لامس الالكترود قشرة مخ شاب تذكر هذا الشاب أنه كان جالسا يشاهد لعبة ( بيسبول ) فى مدينة صغيرة ويراقب ولدا صغير يزحف تحت السياج ليلحق بجمهور المتفرجين وهناك حالة مريضة أخرى سمعت الات موسيقية تعزف لحنا من الألحان ويروى بنفيلد هذا الخبر فيقول اعدت تنبيه الموضع نفسه ثلاثين مرة محاولا تضليلها وأمليت كل استجابة على كاتبه الاختزال وكلما أعدت تنبيه الموضع كانت المريضة تسمع اللحن من جديد وكان اللحن يبدأ فى المكان نفسه .ويستمر من اللازمة إلى مقطع الاغنية وعندما دندنت ، مصاحبة الموسيقا ، وكان ايقاعها يسير بالسرعة المتوقعة له .
وكان المرضى يحسون دائما بالدهشة لتذكر الماضى بمثل هذه التفاصيل الحية ويفترضون على الفور أن الجراح هو المسؤول عن تنبيه الذاكرة التى ما كانت تتاح لولاه وكان كل مريض يدرك أن التفاصيل هى من واقع تجارية الماضية وكان من الواضح أن الأشياء التى كان قد أولاها عنايته هى وحدها التى أودعها فى محفوظات دماغه .
وكان بنفيلد من وقت لأخر يحذر المريض أنه سينبه دماغه ولكنه لا يفعل ذلك وفى مثل هذه الحالات لم يكن المريض يذكر أى ردود فعل إطلاقا .
ثم إن ملامسة المنطقة الخاصة بالنطق فى الدماغ تؤدى إلى فقدان نؤقت للقدرة على الكلام ( حبسه ) عند المريض ونظرا لانعدام الإحساس فى الدماغ فالمريض لا يدرك أنه مصاب بالحبسه إلا عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم الكلام فيعجز عن ذلك ويروى بنفيلد ما حدث ذات مرة ( أخذ أحد مساعدى يعرض على المريض صورة فراشة وضعت الالكترود ( القطب الكهربائى ) حيث كنت أفترض وجود قشرة المخ الخاصة بالنطق فظل المريض صامتا للحظات ثم طقطق باصابعه كما لو كان غاضبا ثم سحبت الالكترود فتكلم فى الحال وقال : الأن أقدر على الكلام إنها فراشة لم اكن قادرا على النطق بكلمة ( فراشة ) فحاولت أن أنطق بكله ( عثة )
لقد فهم الرجل بعقله الصورة المعروضة على الشاشة وطلب عقلة من مركز الكلام فى دماغه أن ينطق بالكلمة التى تقابل المفهوم المائل فى ذهنه وهذا يعنى أن ألية الكلام ليست متماثلة مع العقل ، وإن كانت موجهة منه فالكلمات هى أدوات تعبير عن الأفكار ، ولكنها ليست الأفكار ذاتها وحين عجز المريض عن التفوه بالكلمة لانسداد الكلام عنده استغرب وأمر بالبحث عن اسم شىء مشابه هو ( العثه ) وعندما فشل ذلك أيضا طقطق بأصابعه غضبا ( إذ إن هذا العمل الحركى لا يخضع لمركز الكلام ) وأخيرا عندما انفتح مركز الكلام عند المريض شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب أفكاره وقد استنتج بنفيلد أن المريض حصل على كلمات من الية الكلام عندما عرض مفاهيم ونحن نستطيع الاستعاضة عن ضمير الغائب فى عملية الاستبطان هذه بكلمة عقل فعمل العقل ليس عملا أليا )
وتوصل بنفيلد إلى نتائج مماثلة فى مناطق الدماغ التى تضبط الحركات : ( عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع الالكترود على القشرة الحركية فى أحد نصفى كرة دماغه كنت أساله مرارا عن ذلك وكان جوابه على الدوام ( أنا لم احرك يدى ولكنك أنت الذى حركتها ) وعندما أنطقته قال : أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته منى )
وهذه الحركات اللااديه تشبه إجفال ساق المريض لنقرة خفيفة بمطرقة الطبيب وكلنا يدرك أن مثل هذه الحركات ليست أفعالا إرادية ويلخص بنفيلد ذلك بقوله : إن الالكترود يمكن أن يخلق عند المريض احاسيس بسيطة متنوعة كأن يجعله يدير رأسه أو عينيه أو يحرك أعضاءه أو يخرج أصواتا أو يبلغ وقد يعيد إلى الذاكرة إحساسا حيا بتجارب ماضية ، أو يوهمه بأن التجربة الحاضرة هى تجربة مألوفة أو أن الأشياء التى يراها تكبر وتدنو منه ولكن المريض يظل بمعزل عن كل ذلك وهو يصدر أحكاما على كل هذه الأمور وربما قال : إن الأشياء تكبر ) ولكنه يستطيع مع ذلك أن يمد يده اليسرى ويقاوم هذه الحركة .
ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة ينتهى بنفيلد إلى أن عقل المريض الذى يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئا أخر يختلف كليا عن فعل الاعصاب اللاإرادي ومع أن مضمون الوعى يتوقف إلى حد كبير على النشاط فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك .
وباستخدام أساليب المراقبة هذه استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق و الحركة وجميع الحواس الداخلية و الخارجية غير انه لم يكن فى المستطاع تحديد موقع العقل أو الإرادة فى اى جزء من الدماغ فالدماغ هو مقر الإحساس زالذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة ولكنه فيما يبدو ليس مقر العقل أو الإرادة .
ويعلن بنفيلد أنه ما من عمل من الأعمال التى نعزوها إلى العقل قد ابتعثه التنبيه بالالكترود أو الإفراز الصرعى ) ويضيف قائلا : ( ليس فى قشرة الدماغ أى مكان يستطيع التنبيه الكهربائى فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا و الالكترود يستطيع أن يثير الأحاسيس و الذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقى ، أو يحل مسائل فى الجبر بل إنه لا يستطيع أن يحدث فى الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقى والالكترود يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه إنه لا يستطيع أن يكره الإرادة فواضح أذا أن العقل البشرى و الإرادة البشرية ليس لهم أعضاء جسدية .
وبناء على ما تقدم لا ترى النظرة الجديدة استحالة فى تاثر الإرادة فى المادة ويشرح اكلس ذلك فيقول : تعلمت بالتجربة الثابتة أننى بالتفكير والإرادة أستطيع أن أتحكم بافعالى إذا شئت ذلك وليس فى وسعى أن أفسر تفسيرا علميا كيف يستطيع التفكير أن يؤدى إلى الفعل ، ولكن هذا العجز يأتى مصداقا لكون علوم الفيزياء والفسيولوجيا فى وضعها الراهن بدائية للغاية وأعجز من أن تتصدى لهذه المهمة العسيرة وحين يؤدى التفكير إلى الفعل أجدنى مضطرا كعالم متخصص فى الأعصاب إلى افتراض أن تفكيرى يغير بطريقة تستعصى على فهمى تماما أنماط النشاط العصبى التى تؤثر فى دماغى وهكذا يصبح التفكير يتحكم بشحنات النبضات الناشئة فى الخلايا الهرمية الشكل للقشرة الحركية فى دماغى كما يتحكم أخر الأمر بتقلصات عضلاتى والأنماط السلوكية الناشئة منها .
فاذا كانت الإرادة البشرية غير مادية فليس مما ينافى العقل أن تتصرف بغير طرق المادة أى بحرية اختيار ومن ثم فالنظرة الجديدة لا ترى فى الاعتراف باستقلال الإرادة فينا أى مجانبة للأسلوب العلمى ويخلص من ذلك إلى أنه ليس هناك إذا أسباب علمية وجيهة لإنكار حرية الإرادة ، والتى لا بد من افتراض وجودها إذا أردنا ان نتصرف كباحثين علميين بل إن إنكار حرية الإرادة يجعل من العلم كله أمرا منافيا للعقل فعلى العالم ألا يسأل : ما هو الصحيح ؟ بل ما هو الذى نحن مهياون لاعتقاده ويقول الفيزيائى كارل فون فايتز ساكر ( الحرية شرط من شروط التجربة فانا لا أستطيع أن أجرى التجارب إلا حين لا يكون فها فعلى وتفكيرى محكومين بالظروف والحوافز والعادات بل بحرية اختيارى )
زد على ذلك أن النظرة الجديدة لا ترى فى قدرة العقل على توجيه انشطة الدماغ أمر مستحيلا ويصف عالم الأعصاب روجر سبرى الثورة الفكرية التى حدثت فى علم النفس خلال السبعينات من هذا القرن والتى أحدثت انقلابا مثيرا فى معالجة الوعى فيقول : ( لقد قلبت المبادىء السلوكية التى سادت طوال نصف قرن ونيف وأخذ علم النفس فجاة يعالج أحداث ذاتية كالصور الذهنية والأفكار الباطنية والأحاسيس و المشاعر و الأفكار وما إليها بوصفها عوامل ذات دور سببى حقيقى فى وظيفة الدماغ وفى السلوك وأصبحت مضامين الأستبطان وعالم التجارب الداخلية كلها مقبولة على نحو فجائى كعوامل تستطيع أن تؤثر فى العمليات الفيزيائية والكيميائية التى تتم فى الدماغ ولم تعد تعامل بوصفها جوانب منفعلة وغير موجودة .
وينتهى سبرى من ذلك إلى أن الخواص المخية العليا للعقل والوعى هى التى تملك زمام الأمر فهى تكتنف التفاصيل الفيزيائية والكيميائية وتحملها وتهيمن عليها وهى التى تحدد الحركات وتتحكم نزوليا بحركة النبضات العصبية ونموذجنا الجديد أى المبدأ الذهنى – هو الذى يشغل العقل والخواص الذهنية ويعطيها سبب وجودها وتطورها فى نظام مادى .
إن المعرفة والقيادة تتطلبان قدرا من البعد فلا يمكن أن يمون العقل ظاهرة ثانوية مصاحبة لألية الأعصاب إذا أريد له أن يعاين ويوجه الكل ويقول بنفيلد : ( أن العقل لا الدماغ هو الذى يراقب ويوجه فى أن معا فالعقل هو المسؤول عن الوحدة التى نحس بها فى جميع أفعالنا وأفكارنا و أحاسيسنا وعواطفنا ويضيف اكلس ( إن وحدة التجربة الواعية يتيحها العقل الواعى نفسه لا ألية الأعصاب )
ولو كان الدماغ حاسبة الكترونية بالغة التعقيد فلا بد له إذا شأنه شأن الحاسبة من أن يوجه من قبل العقل ويقول بنفيلد ( إن الحاسبة الالكترونية و الدماغ هو كذلك لا بد من أن تبرمجها وتديرها قوى قادرة على الفهم المستقل ويحدد بنفيلد دور العقل هكذا : ( إن ما تعلمنا أن نسميه العقل هو الذى يركز الانتباه فيما يبدو والعقل يعى ما يدور حوله وهو الذى يستنبط و يتخذ قرارات جديدة وهو الذى يفهم ويتصرف كما لو كانت له طاقة خاصة به وهو يستطيع أن يتخذ القرارات وينفذها مستعينا بمختلف أليات الدماغ و هكذا فان توقع العثور على العقل فى احد اجزاء الدماغ او فى الدماغ كله ، واشبه بتوقع كون المبرمج جزءا من الحاسبة الالكترونية .
وبناء على الأدلة سالفة الذكر لا يرى بنفيلد أى أمل فى النهج المادى للنظرة القديمة إزاء العقل فيعلن : إن توقع قيام ألية الدماغ العليا أو أى مجموعة من ردود الفعل ، مهما بلغت من التعقيد بما يقوم به العقل ، وبأداء جميع وظائفة أمر محال تماما ويوافق عالم الإحياء أدولف بورتمان على ذلك فيقول : ( ما من كمية من البحث على النسق الفيزيائى أو الكيميائى .يمكنها أبدا أن تقدم صورة كاملة للعمليات النفسية والروحية والفكرية .
كما أن بنفيلد لا يتوقع أن يقوم علم وظائف الأعضاء فى المستقبل كما كانت تتوقع النظرة القديمة بإظهار اتبثاق العقل من المادة فيقول : ( يبدو من المؤكد أن تفسير العقل على أساس النشاط العصبى داخل الدماغ سيظل أمر مستحيلا كل الاستحالة ) ولذلك فهو يرى أنه أقرب إلى المنطق أن نقول أن العقل ربما كان جوهرا متميزا ومختلفا عن الجسم )
ومن دواعى السخرية أن بنفيلد بدا أبحاثة بهدف اثبات العكس تماما فيقول : ( طوال حياتى العلمية سعيت جاهدا كغيرى من العلماء إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل فهو قد بدأ مسلحا بجميع افتراضات النظرة القديمة غير أن الأدلة حملته أخر الأمر على الإفراد بأن العقل البشرى و الارادة البشرية حقيقتان غير ماديتين ويعلن بنفيلد ياله من أمر مثير إذا ، أن نكشف أن العالم يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح وإذا كان العقل والإرادة غير مادتين فلا شك أن هاتين الملكتين على حد تعبير اكلس ( لا تخضعان بالموت للتحلل الذى يطرأ على الجسم والدماغ كليهما ) .
-----------يتبع ----------
احمد المنصور
10-11-2004, 12:18 AM
يرفع للفائدة. وكذلك يوجد كتاب جيد للبرفيسور موريس بوكاى تحت الرابط:
القـــــــــرآن والعلم الحديث
(http://www.islam-for-everyone.com/Arabic%20Site/Bucailles_Arabic/intro.htm)
eeww2000
10-13-2004, 06:24 AM
الفصل الثالث
الجمال
يقول الفيزيائي لويس دوربروجلي (Louis de Broglie): «وكان الإحساس بالجمال في كل عصر من تاريخ العلوم دليلاً يهدي العلماء في أبحاثهم». والجمال كان ولم يزل مبدأ أساسياً من مبادئ العلوم. ولكن المادة، وفقاً للنظرة القديمة، ليس لها إلا خواص كمية كالوزن والحجم والشكل والعدد. وحيث إن الجمال ليس من جملة هذه الخواص فالنظرة القديمة تميل إلى اعتباره خاصة من خواص المراقب، لا صفة من صفات الأشياء الطبيعية. وفي عام 1630 كتب ديكارت (Descartes) يقول: «لا يدل الجميل ولا البهيج على أكثر من موقفنا في الحكم على الشيء المتكلم عنه». ويوافق سبينوزا (Spinoza) على ذلك فيقول: «الجمال ليس صفة في الشيء المدروس بقدر ما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان نفسه الذي يدرس ذاك الشيء».
وقد أحدث هذان المفكران وآخرون غيرهما تيارا قوياً دام زماناً طويلاً. وبعد ذلك بقرنين من الزمان أبان تشارلز داروين (Charles Drawin) عن موقف النظرة القديمة من الجمال فكتب يقول : «من الجلي أن الإحساس بالجمال يتوقف على طبيعة العقل بصرف النظر عن أي صفة حقيقية في الشيء محل الإعجاب».
وكان فرويد (Freud) يشعر أنه مضطر إلى حصر الجمال في دائرة الغريزة قائلاً: «من دواعي الأسف أن التحليل النفسي ليس عنده ما يقوله عن الجمال. وكل ما يبدو مؤكداً أنه مستمد من مجال الشعور الجنسي».
فإذا لم يكن الجمال صفة من صفات الطبيعة، كما تزعم النظرة القديمة، فهناك أمران اثنان يترتبان على ذلك: أولهما أن الجمال، على رغم احتمال كونه متعة شخصية، لا يمكن أن يكون موضع جدل علمي إذ أنه لا يعيننا بتاتا في اكتشاف حقائق الطبيعة. وثانيهما أن الفنون الجميلة، بقدر ما تنشد الجمال، لا يمكن أن يكون بينها وبين العلوم أي شيء مشترك. وفي النظرة القديمة تصور العلوم أحياناً على أنها باردة المشاعر، ولكنها واقعية، والفنون على أنها دافئة المشاعر، ولكنها هوائية المضمون، بحيث يتوقع من علم الحشرات أن يسكت عن جمال الفراشة سكوت الشعر عن خمائرها الهضمية.
وعلى نقيض ذلك، نجد الجمال في النظرة الجديدة وسيلة من وسائل اكتشاف الحقيقة العلمية. من ذلك مثلا أن جيمس واتسن (James Watson) في كتابه «اللولب المزدوج (The Double Helix) يذكر كيف أن الجمال هدى إلى اكتشاف التركيب الجزيئي لـ دن DNA فيقول: «كنا نتناول طعام الغداء ويقول كل منا للآخر إنه لابد من وجود تركيب على هذا الجانب من الجمال. «وأقر جميع الحاضرين تقريباً بأن تركيباً في مثل هذا الجمال لابد من أن يكون موجوداً».
ويجمع أبرز علماء الفيزياء في القرن العشرين على أن الجمال هو المقياس الأساسي للحقيقة العلمية. فالفيزيائي رتشارد فينمان Richard Feynmann)) يرى «أن المرء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها». ويعلن هايزنبيرغ (Heisenberg) إن «الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء هو أهم مصدر من مصادر الإستنارة والوضوح».
وكبار علماء الفيزياء النظرية في عصرنا هذا أحرزوا كشوفاً كبيرة بنشدانهم الجمال. ويلاحظ فيرنر هايزنبيرغ فيما يتعلق بميكانيكا الكم- وهو المجال الذي قام فيه ببحوث رائدة- أنه ثبت في الحال أن «النظرية مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي». وعلماء الفيزياء يرون أن نظرية النسبية العامة هي أجمل النظريات الفيزيائية الموجودة على الإطلاق. ويشيد ايرون شرودنغر (Schrodinger Erwin) بها على هذا النحو: «إن نظرية إينشتاين المذهلة في الجاذبية لا يتأتى اكتشافها إلا لعبقري رزق إحساساً عميقاً ببساطة الأفكار وجمالها». كما أشار أينشتاين نفسه إلى جمال هذه النظرية في خاتمة مقالته الأولى عن الجاذبية حيث قال: «لا يكاد أحد يفهم هذه النظرية تمام الفهم يفلت من سحرها».
والجمال معيار أساسي في الفيزياء لدرجة أنه يقدم حتى على التجربة. ويعلن الفيزيائي بول ديراك (Paul Dirac) أن «وجود الجمال في معادلات العالم أهم من جعل هذه المعادلات تنطبق على التجربة». ونستطيع أن نفهم ذلك إذا تصورنا العالم النظري أمام كمية ضخمة من البيانات التجريبية المذهلة. فأي النتائج هي الأهم؟ وكيف ينبغي أن تفسر جميعها؟ ما هو النمط الملاحظ؟ والجمال في هذا المقام دليل جدير بالثقة. يقول الفيزيائي جورج تومسون (George Thomsort: «إن المرء يستطيع دائماً أن يقدم نظرية، أو عدداً كبيراً من النظريات، لتفسير حقائق معروفة، بل للتنبؤ بحقائق جديدة أحياناً. والجمال هو الفيصل. فالنظريات بعضها صعب المأخذ ومحدود النطاق وتعسفي. وقلما تدوم هذه طويلاً».
بل إن الجمال يتحدى «الحقائق». ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك واللافتة للنظر ما نجده في بحث علمي قدمه الفيزيائيان ريتشارد فينمان ومرى جيل – مان (Murry Gell-Mann) عام 1958 وعرضاً فيه نظرية جديدة لتفسير التفاعلات الضعيفة. وكانت النظرية تناقض بشكل صارخ عدداً من التجارب.
أما الجانب الرئيس الجذاب فيها فكان الجمال. وقال العالمان فينمان وجيل- مان: «إنها نظرية عالمية متناسقة وهي أبسط الإمكانات، مما يدل على أن تلك التجارب غير صحيحة». ويعلق جيل –مان على ذلك بقوله: «غالباً ما يطرح العالم النظري مقداراً كبيراً من البيانات على أساس أنها إذا كانت لا تنسجم مع خطة أنيقة فهي غير صحيحة. وقد حدث هذا معي مرات عديدة، كما في نظرية التفاعلات الضعيفة: لقد كانت هناك تسع تجارب تناقض النظرية وكلها بلا استثناء غير صحيحة. فإذا كانت لديك نظرية بسيطة تتفق مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنها تفسر فعلاً ما يحدث، فلا عليك أن وجدت كمية قليلة من البيانات التجريبية التي لا تؤيدها. فمن المؤكد تقريباً أن تكون هذه البيانات غير صحيحة».
إن الجمال في الفيزياء هو السمة الغالبة. فالتجربة تخطئ في الغالب والجمال قلما يخطئ. فإذا اتفق أن وجدت نظرية أنيقة للغاية لا تنسجم مع مجموعة من الحقائق فهي لا محالة واجدة لها تطبيقاً في مجال آخر. فخلال العشرينات من هذا القرن، مثلاً، أصبح الرياضي والفيزيائي هرمان فيل (Herman Weyl) مقتنعاً بأن نظريته في القياس لا تنطبق على الجاذبية، ولكنه نظراً لكمالها الفني لم يرد التخلي عنها كلياً. وقد تبين بعد ذلك بوقت طويل أن نظرية فيل نلقي ضوءاً على ديناميكاً الكم الكهربائية، فجاء ذلك مصداقاً لحسه الجمالي.
والجمال –وهو أبعد ما يكون عن الأسلوب غير العلمي- يبث الحياة في العلم. والجمال الذي يبحث عنه الفيزيائيون ليس نتاج عاطفة فردية أو خصوصية، بل هو على عكس ذلك. فالفيزيائيون أنفسهم يشيرون إلى ثلاثة عناصر محددة للجمال. ويلخص أينشتاين هذه العناصر الثلاثة للجمال العلمي بعبارة واحدة فيقول: «النظرية تكون أدعى إلى إثارة الإعجاب كلما كانت مقدماتها أبسط، والأشياء التي تربط بينها أشد اختلافاً، وصلاحيتها للتطبيق أوسع نطاقاً».
فالبساطة إذاً هي العنصر الأول من عناصر الجمال. ويقصد بعبارة «الأشياء التي تربط بينها أشد اختلافاً» الطريقة التي تنسق بها النظرية بين أمور متباينة. وهكذا نستطيع أن نطلق على العنصر الثاني اسم «التناسق». واتساع نطاق تطبيق النظرية يراد به روعتها، لأي مدى وضوح النظرية بحد ذاتها وإلقائها الضوء على غيرها من الأشياء. إن العبارة التي استخدمها جيل –مان والتي وردت آنفاً نظرية بسيطة تنسجم مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنها تفسر فعلاً ما يحدث «تصور الجوانب الثلاثة للجمال بعبارة واحدة مختصرة -البساطة والتناسق والروعة- ويتطلب كل من هذه العناصر شرحاً موجزاً.
البساطة- توجد نظريات أخرى في الجاذبية إلى جانب نظرية أينشتاين، ولكن ما من نظرية من النظريات تؤخذ مأخذ الجد لافتقارها إلى البساطة. ويلاحظ عالم الفيزياء الفلكية روجر بنروز (Roger Penrose) أن «معظم النظريات المنافسة ثبت بطلانها بالحجج المقنعة. أما القلة القليلة الباقية فهي على الأغلب مستنبطة مباشرة بحيث تنسجم مع تجارب سبق إجراؤها بالفعل. وليس هناك أي نظرية منافسة تداني النسبية العامة في أناقتها وبساطة افتراضها».
ومبدأ البساطة يستلزم شيئين اثنين –الكمال والاقتصاد- ويقول لنا عالم الرياضيات والفيزياء هنري بوانكاريه (Henri Poincare) «لأن في البساطة والضخامة كلتيهما جمالاً فنحن نؤثر البحث عن حقائق بسيطة وعن حقائق كبيرة». والنظرية الجميلة بهذا المعيار لابد لها من أن تأخذ في الحسبان كل الحقائق، وألا تشمل إلا ما هو ضروري. فلا تفريط ولا إفراط. أجل إنه معيار يصعب استيفاؤه. ويقول هازنبيرغ عن نظرية الكم: «لقد اتضح على الفور أنها مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي».
التناسق- يعلن أينشتاين أنه «لا علم من غير الاعتقاد بوجود تناسق داخلي في الكون». ويصف هايزنبيرغ التناسق بأنه «انسجام الأجزاء بعضها مع بعض ومع الكل». والنظرية الجيدة في أي علم من العلوم هي التي توفق بين حقائق عديدة لم تكن فيما مضى تربط بينها صلة. كما أن التناسق يدل ضمناً على التماثل. إن في جميع قوانين الفيزياء تماثلا ساراً. يقول ويلز: «إن كل قانون من قوانين الفيزياء مرده إلى شيء من التماثل في الطبيعة». ويضيف هايزنبيرغ أن «خواص التماثل تشكل على الدوام أهم سمات النظرية» وقانون نيوتن الثالث مثال معروف على التماثل في الفيزياء: لكل فعل دائماً رد فعل معاكس ومساو له». وهذا التماثل التام موجود على المستوى دون الذري حيث يقابل كل نوع من الجسيمات جسيم مضاد له الكتلة نفسها، ولكن بخصائص معاكسة. بل إن التنبؤ الصحيح بوجود العديد من الجسيمات دون الذرية تم في المقام الأول على أساس هذا التماثل.
الروعة- للنظرية التي تتسم بهذه الصفة وضوح شديد في ذاتها. وهي تلقي ضوءاً على الكثير من الأشياء الأخرى، موحية بإجراء تجارب جديدة. إن نيوتن، مثلاً، قد أدهش العالم بتفسيره للأجسام الساقطة، ولظاهرتي المد والجزر، ولحركة الكواكب والمذنبات بثلاثة قوانين بسيطة. ويعلن جورج تومسون: «إنه لأمر جميل في الفيزياء كما في الرياضيات أن تستطيع نظرية من النظريات الجمع بين ظواهر تبدو شديدة الاختلاف، وتبين اتصال الظواهر بعضها ببعض اتصالاً وثيقاً، أو أن تجمع بين مختلف عناصر الظاهرة الواحدة». وهذا بالضبط ما تفعله نظرية النسبية العامة بطريقة أنيقة ومدهشة كما يشير إلى ذلك عالم الفيزياء الفلكية س. تشاندراسيكار (S. Chandraskhar) بقوله: «إنها تكمن أساساً في الربط بين مفهومين جوهريين بوضع أحدهما بجانب الآخر، وهما مفهومان ظلاً يعتبران حتى ذلك الحين مستقلين تمام الاستقلال: مفهومي المكان والزمان من جهة، ومفهومي المادة والحركة من جهة أخرى». وعلاوة على ذلك، أثبتت النسبية العامة روعتها غير العادية بإلقائها الضوء على علم الكونيات، والفيزياء الفلكية، وميكانيكا الكم.
والنظرة القديمة تذهب إلى أن البساطة وغيرها من عناصر الجمال ليست من قوانين الطبيعة، ولكنها على أبعد تقدير من قوانين العقل البشري. ونيوتن لا يوافق على هذا الرأي، بل يعزو الجمال إلى المشاهد. ويؤكد ويلر أن «كل قانون من قوانين الفيزياء مرده إلى شيء من التماثل في الطبيعة»، لا إلى تماثل عقولنا. ويؤكد ماكس بورن أن «الفيزيائي الحقيقي يؤمن إيماناً راسخاً ببساطة الطبيعة وبوحدتها رغم أي ظواهر معاكسة». وقد قال هايزنبيرغ ذات مرة في حديث جرى بينه وبين أينشتاين: «أعتقد مثلك تماماً أن لبساطة القوانين الطبيعية صفة موضوعية، وأنها ليست مجرد نتيجة اقتصاد في التفكير. وإذا كانت الطبيعة تقودنا إلى صيغ رياضية على جانب عظيم من البساطة والجمال فنحن لا نملك إلا الاعتقاد بصحتها، وبأنها تكشف عن سمة حقيقية من سمات الطبيعة».
ويضيف تشاندراسيكار قائلاً: «كلنا نحس بجمال الطبيعة، وليس مما ينافي العقل أن تشترك العلوم الطبيعية في بعض جوانب هذا الجمال». وهذا يعني مرة أخرى أن الطبيعة، لا الإنسان، هي مصدر الجمال. ولماذا نعثر على جمال في العلوم الطبيعية؟ لأن الطبيعة تزخر بالجمال. ويعلن الفيزيائي ديفيد بوم (David Bohm) أن «كل ما يمكن العثور عليه في الطبيعة يكاد يتكشف عن شيء من الجمال في الإدراك الفوري كما في التحليل الفكري على السواء». ويقول هنري بوانكاريه: «العالم لا يدرس الطبيعة لأن في دراستها منفعة، ولكنه يدرسها لأنه يجد متعة في ذلك، وهو يجد في دراستها متعة لأنها جميلة. ولو لم تكن الطبيعة جميلة لما كانت جديرة بأن تعرف ولما كانت الحياة جديرة بأن تعاش».
ويضيف كارل فون فايتزساكر تفسيراً لذلك فيقول: «إن مبدأ الاقتصاد في التفكير الذي يتردد على الألسنة يفسر، على أحسن الفروض، سبب بحثنا عن قوانين بسيطة، ولكنه لا يفسر سبب عثورنا عليها». فالنظرة الجديدة إذا تطرح الجمال معياراً في العلوم لأن الطبيعة جميلة. ومن وجهة النظر هذه فالعالم الذي يعمى عن رؤية الجمال هو عالم ضئيل الحظ من العلم.
ولأن الفيزياء في النظرة الجديدة تعترف بأن الجمال خاصة من خواص الطبيعية فهي بذلك تشق طريقاً مشتركاً بين العلوم والفنون الجميلة. والفيزيائي والروائي ش.ب. سنو (C.P. Snow)، بعد خبرته في كل من العلوم والفنون، مؤهل بطريقة غير عادية للتحدث عن الجمال الموجود في كلا المجالين. فهو يقول: «كل من اشتغل في أي وقت بعلم من العلوم يعرف مدى ما حصل عليه من لذة جمالية. أي أن أحدنا، في ممارسته الفعلية للنشاط العلمي وفي ميسرته إلى اكتشاف ما، بالغاً ما بلغ من التواضع، لا يملك إلا أن يحس بوجود الجمال. فالتجربة الذاتية، تجربة المتعة الجمالية، هي على ما يظهر عين المتعة التي يحصل عليها المرء من نظم قصيدة، أو تأليف رواية أو قطعة موسيقية. لا أخال أحداً استطاع أن يميز بين الأمرين. وتاريخ الكشوف العلمية المدون زاخر بهذه اللذة الجمالية. وخير إيضاح لذلك، فيما أعلم، ورد في كتاب صنفه غ. هـ. هاردي (G.H. Hardy) تحت عنوان «دفاع عالم رياضيات» (Apology A Mathematican(. وقد قال الروائي غراهام (Graham Greene) ذات مرة إنه يعتقد أن هذا الكتاب يعد، إلى جانب توطئات هنري جيمز، خير رواية على الإطلاق كتبت عن التجربة الفنية».
وعناصر الجمال لا توجد في الفيزياء فحسب، بل إن لها أيضاً ما يناظرها في الفنون. فالبساطة مثلاً، هي بجلاء هدف من أهداف الفنان. ومن المسلم به عموماً أن الآثار الفنية الجليلة تفي بالمعيار الصارم المتمثل في تفادي النقصان أو الحشو. ومن المؤكد أن ألبرت دورر (Albert Durer) كان يفكر بمبدأ البساطة حين أسدى للفنانين هذه النصيحة: «هناك وسط عدل بين الإفراط والتفريط. حاولوا أن تهتدوا إليه في جميع أعمالكم». ويثني فنسانت فان جوخ (van Gogh Vincent) على بساطة واقتصاد الفنانين اليابانيين فيقول: "آثارهم سهلة سهولة التنفس. وهم يرسمون شكلاً من الأشكال بجرات قليلة كما لو كان الأمر سهلا سهولة تزرير معطفك. آه، ينبغي أن أفلح ذات يوم في أن أرسم شكلاً بجرات قليلة». ويتحدث يوهانز برامز (Johammes Brahms) عن صعوبة تحقيق البساطة في الموسيقا فيقول: «ليس التأليف صعباً، ولكن الصعب صعوبة مذهلة أن تطرح جانباً ما كان زائداً من النغمات». وكما أن النظرية العلمية الجميلة فسيحة الأفق على بساطتها كذلك تعبر اللوحة الممتازة عن مجموعة واسعة النطاق من التجارب بطريقة بسيطة. يقول هنري ماتيس (Henry Matisse): «أود أن أصل إلى تلك الحالة من تكثيف الأحاسيس التي تشكل لوحة الرسم».
وفي وسعنا أن ندمج في العنصر الثاني –التناسق- التماثل والتناسب اللذين يشير إليهما الفيزيائيون. يقول دورر: «من دون التناسب الصحيح لا يمكن لأي شكل أن يكون كاملاً مهما اجتهد في إنجازه». وبغية التحقق من التماثل والتوازن كان النحات والفنان ألبيرتي (Alberti)، الذي عاش في عصر النهضة، يوصي بالنظر إلى شكل اللوحة المنعكس في المرآة فيقول: «إنه لأمر عجيب كيف أن أي عيب في اللوحة يكشف عن بشاعته في المرآة. ولذلك ينبغي للأشياء المستمدة من الطبيعة أن تعدل باستخدام المرآة». والمشكال (Kaleidoscope) الذي يستخدمه الأطفال يبين كذلك كيف أن التماثل المنعكس يمكن أن يضفي الجمال على الأشياء الباهتة.
وقد شبه الملحن كريستوف غلوك (Christph Gluck)، الذي عاش في القرن الثامن عشر، التناسق في الموسيقا بالتناسب في الشكل المرسوم فقال: «إن أدنى تغيير في الخط الكفافي (Outline)- وهو أمر لا يقضي بتاتاً على الشكل في رسم كاريكاتوري- يمكن أن يشوه كلياً صورة لسيدة حسناء. واعظم الجوانب الجمالية للحن أو للتناسق تصبح عيوباً ونقائص إذا استخدمت في غير مكانها المناسب». والرسامون يتحدثون عن «الصداقة» بين ألوان معينة وعن تناسقها الطبيعي. ويصف ماتيس هدفه في الرسم فيقول: «متى عثرت على العلاقة اللازمة بين جمع درجات إشراق الألوان لابد من أن تكون النتيجة تناسقاً حياً بين الألوان، وهو تناسق يشبه التناسق في قطعة موسيقية. وأظل أسعى وأواصل السعي من أجل تحقيق هذا التناسب في جميع أجزاء القطعة إلى أن أجده». والهدف الذي يسعى إليه ماتيس مشابه لهدف عالم الفيزياء النظرية الذي يسعى جاهداً إلى تنسيق البيانات في أبسط صورة لها.
والعنصر الأخير من عناصر الجمال هو التألق. يقول ادوار مانيه (Edouard Manet): «الضوء هو الشخصية الرئيسة في لوحة الرسم». ويقترح ليوناردو دا فينشي (Leonardo da Vinic)، في الكتيب الذي وضعه عن فن الرسم، رسم أشخاص رسماً تخطيطياً وهم يجلسون في مدخل بيت مظلم فيقول: «هذا الأسلوب في معالجة وتكثيف الضوء والظل يضيف الشيء الكثير إلى جمال الوجوه». غير أن الضوء يكتسب بهاء خاصا وإشراقاً قوياً عندما يقسم إلى ألوان. ومن هنا جمال غروب الشمس، وقوس قزح، والأسماك الاستوائية، والفراش، والأزهار، ومن دواعي إعجابنا بالرسوم الانطباعية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر أنها تؤكد على الجمال الاستثنائي للضوء واللون.
أما بخصوص الموسيقا فمما لا سبيل إلى إنكاره أن وضوح الصوت عنصر من عناصر جماله. يقول آرون كوبلاند (Aaron Copland): «أن الجرس في الموسيقا هو نظير الضوء في لوحة الرسم». فالجرس أو «اللون النغمي» يمكن الأذن من التمييز بين الناي والبوق حتى حين تعزف الآلتان كلناهما النغمة نفسها. وفي القرن التاسع عشر أخذ الملحنون يستخدمون اللون النغمي لإنتاج تألق موسيقي أشبه بتألق الألوان الملاحظ في الرسوم اللانطباعية. ويعلق رمسكي –كورساكوف (Rimsky -Korsakov) على هذه الحركة في الموسيقا بقوله: «إن عصرنا الذي أعقب عصر فاغنر هو عصر التألق والإبداع الخيالي في تلوين الجرس الأوركستري. وقد بلغ برلييوز (Berlioz) وغلينكا (Glinka)، وليست (Liszt)، وفاغنر (Wagner) وغيرهم بهذا الجانب من الفن الموسيقي الذروة، فتفوقوا بهذه الصفة على أسلافهم» إذاً فالتألق واللون كلاهما من عناصر الجمال في الرسم والموسيقا على السواء.
ويشدد الفيزيائي ستيفن فاينبيرغ (Steven Weinberg) على الوحدة الجديدة بين العلم والفنون الجميلة فيقول: «هناك أوجه شبه معينة بين العلم والفن، أولها أن العلماء يلتمسون الجمال والبساطة، ونحن نلتمس ذلك لاعتقادنا بان القوانين الأساسية التي تشكل ركائز الطبيعة لابد من أن تكون بسيطة. ولذلك نفتش عن أوجه بساطة قد تعكس أوجه البساطة المطلقة في نواميس الطبيعة. وقد اكتشفنا في مجال تخصصي- وهو فيزياء الجسيمات الأولية –أن الطبيعة أبسط كثيراً مما تبدو في ظاهرها. وهذه البساطة تتخذ شكل مبادئ التماثل. ومن ذلك مثلا أن هناك تماثلاً عميقاً بين جسمين أوليين –النيوترون والإلكترون- رغم ما يبدو في الظاهر من اختلاف تام بين خواص كل منهما».
ويشير فاينبيرغ إلى وجه شبه آخر يكمن في الطريقة التي يعمل بها كل من العلماء والفنانين فيقول: «العلماء، شأنهم في ذلك شأن الفنانين، يعتمدون اعتماداً شديداً على الحدس. فغالباً ما أعرض عن منهج كامل في البحث لمجرد إحساسي بأنه غير صحيح، أو قد أمضي شهوراً في تطوير منهج آخر لمجرد إحساسي بأنه صحيح».
وهكذا فالبساطة والتناسق والتماثل والتناسب والتألق والوضوح –وهي عناصر نلحظها في أجمل النظريات الفيزيائية- لها نظائر موازية في الجمال الذي نده في الرسم والموسيقا. وليس من العسير أن نتصور أن هذه المعايير الجمالية ذاتها تنطبق كذلك على الشعر والرقص وغيرهما من الفنون. والنظرة الجديدة تبين أن عناصر الجمال غير المرئي والذهني في الفيزياء تماثل عناصر الجمال المرئي والمسموع في الفنون الجميلة. إن العالم والفنان في النظرة الجديدة ينشدان الهدف الجمالي نفسه عبر مسالك مختلفة. يقول هايزنبيرغ: «لعل من الصواب أن نقول إن عالم الشعر كان مألوفاً لدى جميع العلماء الكبار حقاً. ومهما يكن من أمر فالفيزيائي يحتاج كذلك إلى اكتشاف أوجه التناسق بين الظواهر الطبيعية».
eeww2000
10-16-2004, 06:27 AM
الفصل الرابع
الله
وفقاً للنظرة العملية القديمة، المادة أساسية والعقل ثانوي. وهذه البديهة تتجلى في أسلوب النظرة القديمة إلى الإنسان في العالم: نظرة زراية للعقل البشري وإعلاء لشأن الكون المادي اللامحدود واللاشخصي، تذهب إلى أن الإنسان، إذا قيس بالأرض أو الشمس أو المجرة، تافه من حيث الحجم وغير ذي شأن من حيث القوة. والنظرة القديمة تنكر على الإنسان ما تعتبره مغالاة منه في إحساسه بأهميته الذاتية قائلة: إن كوبرنيكوس (Copernicus) قد خلع الإنسان المغرور عن عرشه في مركز الكون، وأن عليه أن يدرك أنه مخلوق بالغ الصغر يسكن كوكباً تافهاً يدور حول نجم لا شأن له.
ذلك أن منطق المادية ينكر الغائية، ذاهباً إلى أن الكون ليس سوى مادة، وبالتالي لا يمكن أن يكون في الأشياء الطبيعية أي هدف، لأن المادة لا تستطيع أن تقصد هدفاً أو ترسم خطة، بل تتصرف بضرورة ميكانيكية داخلية فحسب. وبالتالي يتحتم على التفسيرات العلمية أن تقتصر على الأسباب المادية والميكانيكية فحسب. وبيكون (Bacon)، وديكارت (Descartes) كلاهما يستبعد من العلوم الطبيعية أي دعوة إلى الغائيه. يقول بيكون: «إن مطلب الغائية يفسد العلوم بدلا ان يرقى بها " و ديكارت يقول نفس الشىء " كل ضروب الغائية لا قيمة لها في الأشياء المادية أو الطبيعية». وصحيح أن هذا الرفض يستند إلى أسباب تتعلق بالمنهجية، إذ إن بيكون وديكارت لم يكونا من المؤمنين بالمذهب المادي أو من الملاحدة، ولكن النتيجة تظل واحدة، وهي أنه لا مكان للغائية في علوم النظرة القديمة.
فهل لله مكان في مثل هذا الكون؟ لقد كان نيوتن يؤمن بذلك، فحاول أن يحتفظ بمكان للألوهية في نظامه الميكانيكي الخاص بالسماوات. ففي رسالة وجهها إلى الدكتور ريتشارد بنتلي (Richard Bentley) في عام 1692 أكد نيوتن على أن الله ضروري لإحداث حركة الكواكب وإرساء البنية الأصلية للمجموعة الشمسية قائلاً: «إن حركات الكواكب الراهنة لا يمكن أن تكون قد انبثقت من أي علة طبيعية فحسب، بل كانت مفروضة بفعل قوة عاقلة».
وإذا كان نيوتن غير مستعد لاستبعاد الله من العلوم فلم يكن هذا شأن غيره. ومن أمثلة ذلك أن الرياضي والفلكي الشهير بيير –سيموت لابلاس –(Pierre Simon Laplace)، حين سأله نابليون عن مكان الله في نظامه الميكانيكي الخاص بالأجرام السماوية، أجابه بما يلي: «يا سيدي لست بحاجة إلى هذا الافتراض». وبحلول القرن التاسع عشر كان الكثيرون يذهبون إلى أن الله لا يرى بالعقل ولا بالعين. وأصبحت العلوم شيئاً فشيئاً أقرب إلى اللاأدرية (أو الغنوصية). والواقع أن لفظة «لا أدرية» كانت في ابتكار عالم الأحياء توماس هكسلي في عام 1869. ويعرب كارل ف. غاوس (Carl F. Gauss) وهو أعظم علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر، عن هذه الشكوك فيقول: «هنالك مشاكل أعلق على حلها أهمية تفوق بما لا حد له، تلك التي أوليها للمسائل الرياضية، كتلك المتعلقة بالأخلاق، أو بعلاقتنا بالله، أو بقدرنا ومستقبلنا، ولكن حلها خارج كلياً عن متناولنا، وهو يقع كلياً خارج ميدان العلم».
وذهب مفكرون آخرون إلى أن العلم لا يفسح المجال للاأدرية. وحجتهم في ذلك أن الكون آلة تدير نفسها بنفسها وبالتالي لا تحتاج البتة إلى أي سبب فوق الطبيعة. وإذا كانت المادة أزلية فلا يبدو أن هناك حاجة إلى خالق. وهكذا اعتبر الكثيرون أن الإلحاد أدنى إلى الصدق وأكثر اتساقاً مع النظرة العلمية القديمة.
وفرويد هو أحد ممثلي هذا الموقف من الدين في النظرة القديمة، فهو يعلن أن «أديان البشر يجب أن تصنف باعتبارها وهماً من أوهام الجماهير». فالإنسان في الأديان إنما يبحث عن مهرب من الواقع. ويتابع فرويد حديثه قائلاً: «إن الأفكار الدينية نشأت من ضرورة حماية الإنسان لنفسه من قوة الطبيعة المتفوقة والساحقة». والناس في رأي فرويد يميلون إلى الاعتقاد بوجود أب وراء هذا الكون لأنهم، بوصفهم أطفالاً، بحاجة ماسة إلى رعاية أب. وهكذا فإن الإنسان هو الذي يخلق الله، لا العكس، ويضيف فرويد أن البشر «لابد لهم من أن يعترفوا لأنفسهم بكامل عجزهم وتفاهة دورهم في آلية الكون. فهم لا يستطيعون بعد اليوم أن يكونوا محور الخليقة أو موضع عناية آلهية خيرة». وفيما يتعلق بالدين يتنبأ فرويد بأن «هذه الطفولية Infantalsm مقدور لها أن تتجاوز بالتأكيد»، ويتحتم على الإنسان أن يتحلى بالشجاعة للاعتراف بأنه وحيد في هذا الكون الفسيح واللاشخصي.
وقد أنتجت النظرة القديمة في القرن التاسع عشر بعض المؤلفات التي تتسم بحماسة استثنائية وتهاجم الدين باسم العلم. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر أن عام 1975 شهد صدور كتاب «تاريخ الصراع بين الدين والعلم» (The History of the Conflict between Religion and Science) لمؤلفه جون و. دريبر (John W. Draper)، وهو أول رئيس للجمعية الأمريكية لعلوم الكيمياء. وبعد ذلك بعشرين عاماً، في 1895، ألف أندرو د. وايت (Andrew D. White)، وهو أول رئيس لجامعة كورنيل، كتابه «تاريخ المعركة بين العلم واللاهوت في المسيحية» (Ahistory of the warfare of Science with Theolgy in Christendom). ويكفي عنواناً الكتابين دليلاً على الاتجاه السائد آنذاك.
فماذا تقول النظرة العلمية الجديدة عن كل هذا؟ أولاً، إن لديها أنباء مثيرة عن الكون ذاته. يقول عالم الفيزياء الفلكية دنيس شياماً (Dennis Sciama) «لعل أهم اكتشاف علمي من اكتشافات القرن العشرين هو أن الكون بأكمله، بوصفه كلية واحدة، قابل للبحث العقلاني باستخدام أساليب علمي الفيزياء الفلك». وقد تيسرت هذه النظرة الجديدة إلى الكون بمجيء نظرية النسبية العامة لأينشتاين وهي، خلافاً لنظرية نيوتن في الفيزياء، قد جمعت بين الجاذبية والمكان والزمان. يقول ويلر: «لقد علمنا أينشتاين أن المكان عنصر مشارك في الفيزياء، لا ميدان للفيزياء فحسب». والشيء نفسه ينطبق على الزمان. وعملية التوحيد هذه زودت الفيزيائيين للمرة الأولى بأدوات البحث المفصل في بنية الكون بأكمله وفي أصله ومآله. فبعد نشر النسبية العامة رأينا الفلكي ويلم دي سيتر (Willem de Sitter)، والرياضي ألكساندر فريدمان (Alezander Friedmann) يستنتجان من النظرية الجديدة، كل على حدة، أن الكون آخذ في التمدد. وسرعان ما ثبت ذلك بالمشاهدة. فخلال العشرينات من هذا القرن اكتشف الفلكي ادوين هبل (Edwin Hubble)، أثناء تحليله للضوء المنبعث من المجرات البعيدة، أن جميع المجرات الممكن رصدها يتباعد بعضها عن بعض. وكان هذا هو أول مفتاح لأسرار تاريخ الكون. فإذا كانت المجرات تتباعد الأن بعضها عن بعض فلابد إذاً من أنها كانت في الماضي السحيق متحدة، مما يدل على أن للكون بداية.
ثم جاءت إشارة ثانية من مجال الفيزياء النووية. فلقد كان كيميائيو القرن التاسع عشر يعرفون أن الشمس لا يمكن أن تحرق وقوداً تقليدياً. فالاحتراق الكيميائي العادي لم يكن يصلح تفسيراً لطاقة الشمس، إذ لو كانت كتلة الشمس كلها فحماً لأحرقت نفسها في غضون ثلاثمائة عام. وظلت الشمس لغزاً إلى حين اكتشاف الطاقة النووية في السنوات الأولى من القرن العشرين. وأخيراً تمكن الفيزيائيان هانز بيته (Hans Bethe)، وكارل فون فايتزساكر (Carl Von Weizsacker) في عام 1938 من تقديم تفسير كامل لكيفية إنتاج الشمس للطاقة من خلال تحول العناصر النووية. ففي قلب الشمس يتحول لهيدروجين للطاقة من خلال تحول العناصر النووية. ففي قلب الشمس يتحول الهيدروجين إلى هليوم، منتجاً الطاقة والضوء. وعلى مدى ملايين السنين كانت العمليات التي تتم داخل كل نجم تكون شيئاً فشيئاً لا الهليوم فحسب، بل جميع العناصر الأثقل: الكربون والأكسجين والسليكون والحديد وسائر العناصر. وكان معنى ذلك أنه إذا كانت كل العناصر الثقيلة في الكون قد تكونت من الهيدروجين في قلوب النجوم فلابد إذاً من أن الكون كله تقريباً كان مركباً في البداية من الهيدروجين. وهذا يدل مرة أخرى على أن للكون بداية.
وأخيراً، تقدم الفيزيائي جورح غاموف (George Gamow) في عام 1948، بعد أن جمع الأدلة المستمدة من تباعد المجرات ومن دورة حياة النجوم، برأي مفاده أن الكون نفسه نشأ من تمدد بدئي للمادة أطلق عليه اسم «الانفجار العظيم». ويفترض أن كرة النيران فائقة الحرارة قد تمددت بسرعة كالانفجار ثم بردت. وباستخدام الفيزياء النووية بين غاموف كيف أن الجسيمات دون الذرية التي كانت موجودة في أسبق المراحل أنتجت، بتأثير درجات الحرارة والضغوط اللاحقة، ذرات الكون حديث لنشأة. وفضلاً عن ذلك بين أنه، نتيجة لعمليات التمدد والتبريد، لابد من تشتت وهج خافت من الإشعاع الأساسي بشكل منتظم في جميع أرجاء الكون.
وظل تنبؤ غاموف معلقاً طوال عدة أعوام. ثم اكتشف آرنوبنزياس (Arno Penzias) ، وروبرت ويلسون (Robert Wilson) في عام 1965، بمحض الصدفة، وباستخدام جهاز ضخم لالتقاط الموجات الصغرى، إشعاعاً ضعيفاً منبعثا من الفضاء. وبعد أن قاس بنزياس وويلسون هذا الإشعاع بدقة لم يسبق لها مثيل وجدا أنه يقرب من 3.5 درجة فوق الصفر المطلق. ولم يكن الإشعاع أشد كثافة في اتجاه الشمس أو في اتجاه مجرة التبانة (Milky Way). ولذا لا يمكن أن تكون المجموعة الشمسية أو المجرة مصدر هذا الإشعاع. فلم يبق إلا تفسير واحد وهو أنه بقية من الإشعاع الأصلي الناتج من «الانفجار العظيم».وهذا الدليل القائم على المعاينة أكد نظرية الانفجار العظيم.
فعالمنا، إذاً، تولد في أعقاب تمدد هائل في المادة. ويشير حجم التمدد ومعدل سرعته الحاليان إلى أن الكون بدأ منذ ما يتراوح ما بين 12 و20 مليار سنة. وفي جزء من السكستليون Sextillion (1000000 6) من الثانية بعد البداية كانت كل المادة الموجودة في الكون معبأة في مساحة أصغر كثيراً من الحيز الذي يشغله بروتون واحد. وكانت الكثافة في تلك المرحلة تهول الخيال: تصور أن الكواكب والنجوم والمجرات بكاملها، وكل المادة والطاقة في الكون كانت جميعها محتواة في حيز لا يكاد حجمه يعادل شيئاً. وفي لحظة الصفر من بداية الزمن كانت الكثافة غير متناهية دون حدوث أي تمدد في المكان على الإطلاق. وكانت تلك اللحظة لحظة بداية المكان والزمان والمادة. وينبغي ألا نتصور أن الانفجار العظيم أحدث تمدداً في المادة في مكان قائم بالفعل. فالانفجار العظيم هو نفسه تمدد المكان. وهذا يمكن أن يفهمه العقل، ولكن لا يمكن أن يتصوره الخيال.
على أن أنصار النظرة القديمة لم يرتاحوا إلى فكرة بداية مطلقة. ومن أجل ذلك استنبطوا نظريات بديلة في أصل الكون لاستنقاذ أزلية المادة. وقد وضع الفلكي السير فريد هويل (Sir Fred Hoyle) واحدة من هذه النظريات البديلة، هي فرضية استقرار حال الكون Steady –state Hypothesis. وهذه الفرضية تستلزم تولد الهيدروجين تلقائياً في جميع أرجاء الكون. غير أن اكتشاف إشعاع الأساس الكوني أدى إلى استبعاد هذا البديل بشكل قاطع.
وهناك فرضية أخرى طرحت تجنباً لافتراض بداية للكون، هي نظرية نوسان الكون Oscillating Universe. ومؤدي هذه النظرية أنه إذا كان في الكون كمية كافية من المادة فإن شد الجاذبية سوف يوقف في نهاية المطاف التمدد الحالي ويعكسه، بحيث ينتج من ذلك آخر الأمر انهيار ثان لكل المادة في ما قد يصح أن نطلق عليه اسم «الانكماش العظيم». وتوحي نظرية النوسان (الذبذبة) هذه بأن «انفجارا عظيماً» آخر يرجح أن يعقب عملية الانهيار، وأن الكون ربما ظل ينوس على هذا النحو بين عمليات «انفجار» و«انكماش» إلى الأبد. وبهذه الطريقة يمكن الحفاظ على أزلية المادة. وعلى هذه النظرية يعلق ستيفن فاينبيرغ مؤلف كتاب «الدقائق الثلاث الأولى» (The First Three Minutes)، وهو وصف دقيق للمراحل الأولى من نشأة الكون، قائلاً: «بعض المتخصصين في علم الكونيات تشدهم نظرية نوسان الكون فلسفياً، خصوصاً وأنها تتجنب ببراعة، شأن نظرية استقرار حال الكون، مشكلة النشأة الأولى. غير أنها تواجه صعوبة نظرية شديدة واحدة: ففي كل دورة من تمدد الكون وانكماشه تطرأ على نسبة الفوتونات إلى الجسيمات النووية (أو على الأصح درجة التعادل الحراري لكل جسيم نووي) زيادة طفيفة بفعل نوع من الاحتكاك يعرف بلزوجة الحجم (bulk viscosity). وفي هذه الحالة، في حدود ما نعلم، سيبدأ الكون كل دورة جديدة بنسبة جديدة للفوتونات إلى الجسيمات النووية تكون أكبر من سابقتها بقليل. وهذه النسبة ضخمة في الوقت الحاضر ولكنها متناهية، بحيث يصعب أن نتصور كيف يمكن أن يكون العالم قد مر في السابق بعدد من الدورات غير متناه».
وتستند حجة فاينبيرغ في هذه المسألة إلى نتيجة محتومة مترتبة على إحدى الخواص الجوهرية للمادة، وهي القانون الثاني للديناميكاً الحرارية. ويقول هذا القانون إن المادة إذا ضغطت سخنت وارتفعت درجة تعادلها الحراري (الأنتروبيا). وهكذا كلما ازداد عدد «الانكماشات العظيمة» للكون ازدادت حرارته ودرجة تعادله الحراري. وحيث إن درجة حرارة الكون ودرجة تعادله الحراري محدودتان في الوقت الراهن فلابد من أنه كانت له بداية. ومن المفترض أن يبدأ كل «انفجار عظيم»، في إطار نوسان الكون، بدرجة حرارة أعلى من درجة حرارة الانفجار الذي سبقه، ومن هنا لزم أن تكون درجة حرارة الكون في ختام سلسلة طويلة من الانفجارات العظيمة والانكماشات العظيمة أعلى كثيراً من 3.5 درجة مطلقة.
والواقع أن الحجج المستفيضة المتعلقة بالديناميكا الحرارية لا تشير إلى أي تكرار على الإطلاق في عملية التمدد الأصلي. يقول الفيزيائي سدني أ. بودمان (Sidney A. Blidman): «إن عالمنا لا يمكن له أن يرتد في المستقبل. والأكوان المغلقة المنسوبة إلى فريدمان (Friedmann) كانت تسمى فيها مضي الأكوان المتذبذبة. ونحن ندرك الأن أن أي كون مغلق لا يمكن أن يمر إلا بدورة واحدة من دورات التمدد والانكماش بسبب ضخامة الأنتروبيا المتولدة في كوننا الذي هو أبعد ما يكون عن النوسان. وسواء أكان الكون مغلقاً أم مفتوحاً، مرتداً أم متمدداً على وتيرة واحدة، فإن التحولات غير العكوسة في أطوار الكون تدل على أن للكون بداية ووسطاً ونهاية محددة». كذلك فإن نظرية النوسان لا تنسجم مع النسبية العامة. ومن هنا يخلص جون ويلر إلى أن عملية انكماش كبيرة واحدة من شأنها أن تنهي الكون إلى الأبد، فيقول: "لو حصل انهيار في الجاذبية فسنكون قد وصلنا إلى نهاية الزمن. وما من أحد قط استطاع أن يجد في معادلات النسبية العامة أدنى حجة تؤيد القول «بعملية تمدد أخرى» أو بوجود «كون ذي دورات»، أو أي شيء آخر سوى النهاية.
يبدو إذاً أن المادة ليست أزلية بالرغم من كل شيء. وكما يعلن عالم الفيزياء الفلكية جوزف سلك (Joseph Silk) فإن «بداية الزمن أمر لا مناص منه». كما يخلص الفلكي روبرت جاسترو (Robert Jastrow) إلى أم «سلسلة الحوادث التي أدت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة.
فهل من مكان لإله في كون كهذا؟ الفيزيائي ادموند ويتيكر (Edmund Whittaker) يعتقد كذلك. فهو يقول: «ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم». وينتهي الفيزيائي إدوارد ميلن (Edward Milne)، بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة: أما العلة الأولى للكون في سباق التمدد فأمر إضافتها متروك للقارئ. ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله».
أما النظرة العلمية الجديدة فترى أن الكون بمجموعة –بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان- حدث وقع في وقت واحد وكانت له بداية محددة. ولكن لابد من أن شيئاً ما كان موجوداً على الدوام، لأنه إذا لم يوجد أي شيء من قبل على الإطلاق فلا شيء يمكن أن يوجد الآن. فالعدم لا ينتج عنه إلا العدم. والكون المادي لا يمكن أن يكون ذلك الشيء الذي كان موجوداً على الدوام لأنه كان للمادة بداية. وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل 12 إلى 20 مليار سنة. ومعنى ذلك أن أي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي. ويبدو أن الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل (أنظر الفصل الثاني). فإذا كان العقل هو الشيء الذي وجد دائماً فلابد من أن تكون المادة من خلق عقل أزلي الوجود. وهذا يشير إلى وجود عاقل وأزلي خلق كل الأشياء. وهذا هو الذي نعنيه بعبارة «الله».
ولكن ما هو رد النظرة الجديدة على ادعاء النظرة القديمة أن أهمية الإنسان تتضاءل بجانب الكون واسع الأرجاء، وأن الإنسان «لم يعد يستطيع أن يكون محور الخليقة أو موضع عناية إلهية خيرة».
إن النظرة الجديدة تبدأ بتصحيح سوء فهم يقول براندون كارتر (Brandon Carter) عالم الفيزياء بجامعة كيمبرج: «لقد علمنا كوبرنيكوس درساً حصيفاً جداً، وهو أنه يجب ألا نفترض دون مسوغ أننا نحتل موقعاً مركزياً محظوظاً في الكون. ولكن مما يؤسف له أنه كانت هناك دائماً نزعة (ليست دوما على هامش الشعور) لتوسيع نطاق هذا الدرس ليشمل عقيدة، هي موضع شك كبير، تقول إن وضعنا ليس له امتياز بأي معنى من المعاني».
ويقول كارتر إنه ينبغي اعتبار بعض ظروف الكون الأولية، التي كانت مواتية للحياة بشكل مدهش، أنها «تؤكد نظريات الفيزياء وعلم الكونيات (النسبية العامة والانفجار العظيم). وكان يمكن من حيث المبدأ استخدام هذه النظريات للتنبؤ مسبقاً بجميع هذه الظروف قبل رصدها. غير أن هذه التنبوءات تتطلب الاستعانة بما يمكن أن يطلق عليه اسم «المبدأ الإنسان». ومفاده أن ما يمكن أن نتوقع رصده لابد من أن يكون مقيداً بالظروف الضرورية لوجودنا كمشاهدين (فبالرغم من أن موقعنا ليس مركزياً بالضرورة فإن له امتيازاً إلى حد ما).
ويشير ستيفن هوكنغ ((Steven Hawking عالم الفيزياء الفلكية بجامعة كيمبرج، إلى المبدأ الإنساني «لدي تصديه للتساؤل عن مبررات القول إن الكون يتمدد بمعدل السرعة المناسب تماماً لتفادي انهيار آخر فيقول»: إن «التفسير الوحيد الذي نستطيع أن نقدمه يستند إلى رأي طرحه ديك (Dicke) (1961). وكارتر (1970)، وهو أن هناك ظروفاً معينة ضرورية لتطور كائنات حية عاقلة: ففي كل الأكوان الممكن تصورها لن توجد كائنات تشاهد الكون إلا حيث تتوفر هذه الظروف. ولذلك يقتضي وجودنا أن تكون للكون خواص معينة. ومن ضمن هذه الخواص في ما يبدو وجود نظم متماسكة بفعل الجاذبية كالنجوم والمجرات، وفترة زمنية متطاولة تكفي لحدوث تطور بيولوجي. فلو كان الكون يتمدد ببطء مفرط لما كانت له هذه الخاصية الثانية لأنه كان سينهار سريعاً من جديد. ولو كان يتمدد بسرعة مفرطة لكانت المناطق التي تزيد كثافتها عن المتوسط زيادة طفيفة، أو التي تكون سرعة تمددها أقل بقليل، ستظل تتمدد إلى ما لا نهاية بحيث لا تشكل نظماً متماسكة. وهكذا يبدو أن الحياة ممكنة لا لشيء إلا لأن الكون يتمدد بالسرعة المطلوبة بالضبط لتفادي انهيار آخر.
ونخلص من ذلك إذاً إلى أن خواص لكون ووجودنا، كليهما، نتيجتان لتمدد الكون بمعدل السرعة الحرجة تماماً. وحيث إننا لم نكن نستطيع أن نشاهد العالم في شكل آخر، لو لم نكن هنا، فإن في وسع المرء أن يقول إن توحد خواص الكون هو، بمعنى ما، نتيجة مترتبة على وجودنا».
ويمكن تفسير حجة هوكنغ بطريقتين مختلفتين. فالنظرة القديمة كانت تعتبر أن أي شيء في الكون يفضي إلى الحياة هو من باب الصدفة، وأن «الكون، سواء أكان له معنى أم لم يكن، كان على أي حال سيظهر إلى حيز الوجود ويجري مجراه حتى لو كانت الظروف الثابتة والأولية تحول إلى الأبد دون تطور الحياة والوعي. فالحياة جاءت اتفاقاً وهي طارئة على آلية الكون» كما يصور ويلر موقف النظرة القديمة.
أما البديل فهو أن ننظر إلى الكون على أنه يستهدف الحياة والإنسان. وهذا يتطابق مع ما يطلق عليه كارتر اسم «المبدأ الإنساني القوي» الذي يقول إن الكون (وبالتالي الثوابت الجوهرية التي يتوقف عليها) لابد من أن يكون بحيث يسمح بقبول مراقبين داخلة في مرحلة ما». وبهذه الروح يتساءل ويلر: «أي معنى يمكن استخلاصه من الحديث عن «الكون» ما لم يكن هناك أحد واعياً لوجوده. ولكن الوعي يتطلب الحياة. والحياة، أياً كان تصورنا لها، تتطلب عناصر ثقيلة. وعملية إنتاج عناصر ثقيلة من الهيدروجين الأصلي تتطلب احترافاً نووياً حرارياً. وهذا أمر يتطلب بدوره طبخاً في باطن النجم يستغرق مدة تساوي عدة مرات حاصل ضرب الرقم 10 في نفسه 9 مرات من السنين. ولكن لكي يمر على الكون مثل هذه المدة من الزمن فلابد من أن يكون له، وفقاً للنسبية العامة، امتداد في المكان يقرب مما يقطعه الضوء في حاصل ضرب الرقم 10 في نفسه 9 مرات من السنين. فلماذا يكون العالم إذاً بهذه الضخامة؟ لأننا موجودون فيه»!
eeww2000
10-16-2004, 06:28 AM
إنه قلب مذهل لتصور النظرة القديمة. فضخامة الكون تعتبر سبباً في جعل الحياة ممكنة. هذا إلى أن المبدأ الإنساني ليس مقصوراً على علم الكونيات. فالفيزيائي فريمان دايسن (Freeman Dyson) يبين كيف أن القوى التي تربط بين النيوترونات والبروتونات في نواة الذرة لابد من أن تكون –حتى هي- على ما هي عليه كيما تصبح الحياة ممكنة. يقول: «لو أن القوى النووية كانت أقوى بقدر طفيف مما هي عليه لوجد الدبروتون، ولا تحد كل الهيدروجين المودة في الكون تقريباً، متحولاً إلى دبروتونات أو نوى أثقل، ولكان الهيدروجين عنصراً نادراً، وتعذر وجود نجوم كالشمس تعيش طويلاً باحتراق الهيدروجين في قلوبها احتراقاً بطيئاً. ومن جهة أخرى، لو كانت القوى النووية أضعف بقدر ملحوظ مما هي عليه الآن لما أمكن احتراق الهيدروجين مطلقاً، ولما كنت هناك عناصر ثقيلة، وبالتالي لما وجدت الحياة. فإذا كان تطور الحياة، كما يبدو مرجحاً، يتطلب نجماً كالشمس يزود طاقة بمعدل ثابت طوال مليارات السنين فمعنى ذلك أن شدة القوى النووية كان لابد لها من أن تنحصر في نطاق السنين فمعنى ذلك أن شدة القوى النووية كان لابد لها من أن تنحصر في نطاق ضيق نوعاً ما لجعل الحياة ممكنة».
ويمكن إيراد العديد من الأمثلة الأخرى. فعلى سبيل المثال يلاحظ دايسن أنه: لو تبدلت القوانين بحيث لا تتوقف الإلكترونيات عن استبعاد بعضها بعضاً لما بقيت أي عملية من العمليات الكيماوية الأساسية التي نعرفها. وهناك العديد من المصادفات المواتية الأخرى في الفيزياء الذرية. ومن دون هذه المصادفات ما كان للماء أن يوجد على هيئة سائل، ولا لمجموعات ذرات الكربون أن تشكل جزئيات عضوية معقدة، ولا لذرات الهيدروجين أن تشكل جسوراً بين الجزئيات قابلة للكسر».
إذاً فخواص المادة، على أصغر نطاق وعلى الكون كله، تبدو ملاءمة للحياة ملاءمة فذة. ولا توجد هناك شواهد كثيرة على ذلك فحسب، بل إن حدوث أدنى زيادة أو نقصان في الكمية الثابتة يجعل من الحياة في كل حالة أمراً مستحيلاً. ويتحدث ويلر عن جملة الأكوان، ولكنه يشير إلى أن عدداً صغيراً جداً منها كان يمكن أن يصلح للحياة. وبعد أن استعرض دايسن هذا النمط العريض ينتهي إلى أن ذلك يدل على غاية مستهدفة، لا على الصدفة، قائلاً: «كلما ازددت دراسة للكون وفحصاً لتفاصيل هندسية وجدت مزيداً من الأدلة على أن الكون كان يعرف بطريقة ما أننا قادمون». فبعض الظروف الضرورية للحياة كان قد ركب تركيباً في الانفجار العظيم منذ بداية البداية.
ويؤكد ويلر أنه «لم يظهر سبب واحد يفسر لماذا يكون لبعض الثوابت والظروف الأولية ما لها من القيم سوى أنه لولا ذلك لما تيسرت المراقبة كلما نعرفها». وهو تبعاً لذلك، ولابد من أن يعزو المسألة إلى الصدفة، نراه يتساءل: أليس من الأرجح أن نقول إنه «ما من كون يمكن أن يبرز إلى حيز الوجود ما لم يكن مضموناً له أن ينتج لحياة والوعي والشهود في مكان ما ولمدة قصيرة من الزمن في تاريخه المقبل؟ «إن الحياة لم تأت اتفاقاً، بل إن ويلر، على نقيض ذلك، يؤكد أن» ميكانيكا الكم قادتنا إلى أن نأخذ بجدية ونفحص وجهة النظر المعاكسة تماماً، وهي أن المراقب لازم لخلق الكون لزوم الكون نفسه لخلق المراقب». ومع أن الإنسان ليس مادياً فى مركز الكون فهو علي ما يظهر في مركز الغاية من خلقه. وكما يقول ايرون شرود نفر فالكون من دون الإنسان يكون أشبه بمسرحية تمثل في قاعة تخلو مقاعدها من جمهور المشاهدين.
والكون الذي يستهدف ظهور الإنسان يستلزم بداهة وجود عقل يوجهه، لأن المدة لا تستطيع من تلقاء نفسها أن تهدف إلى أي شيء. ومن هنا فلنظرة الجديدة تقود مرة أخرى إلى الاعتقاد بوجود عقل يوجه الكون بأكمله وجميع نواميس الطبيعة وجميع خواص المادة إلى غاية. ونحن نطلق على هذا العقل اسم الله. ويصف هايزنبيرع منهجية النظرة القديمة فيقول: إن ميكانيكا نيوتن وجميع الأجزاء الأخرى من الفيزياء الكلاسيكية التي صيغت على نسقها انطلقت من الافتراض القائل إن المرء يستطيع أن يصف العالم من غير التحدث عن الله أو عن أنفسنا»، أي عن عالم ليس وراءه عقل يدبره. ولكن النظرة الجديدة تبين أن العكس هو الصحيح في كلتا الحالتين. فالانفجار العظيم والمبدأ الإنساني كلاهما يشير إلى وجود عقلين في كلا طرفي الكون.
والنظرة الجديدة لا تقتصر على تأكيد أولية العقل في الكون، بل هي تؤكد أيضاً أن الجمال جزء من بنية العالم (أنظر الفصل الثالث). وهذه النظرة الجديدة تقودنا كذلك إلى الأدلة على وجود الله.
إن الطبيعة تزخر بالجمال. ففي عالم الجماد، مثلاً تظهر الجيودات (geodes)* والأحجار الكريمة البلورات جمالاً في التناسق واللون والإشراق لا سبيل إلى إنكاره. ومن الأمثلة اللافتة للنظر على ذلك الندف الثلجية. ويوضح الشكل 3 التنوع المدهش في أنماط الندف الثلجية وكلها تستند إلى الشكل السداسي. والندف الثلجية الاثنتا عشرة المبينة في الشكل 3 تظهر في «البلورات الثلجية" (Snow Crystals)، وهو كتاب يحتوي على ألفي شكل لندف ثلجية بذل د. أ. بنتلي في تصوريها غاية جهده وعنايته طوال مدة تقرب من خمسين عاماً. ويقدم و. ج همفريز (W.J. Humphreys) لهذا الكتاب بالنظرة التأملية التالية: إن الثلج، الثلج الجميل، الذي يصفه الشاعر النشوان بأنه غطاء الشتاء النظيف الأملس للغابة والحقل، ما برح منذ قديم الزمن يتحدى الأقلام أن تصفه، والفراش أن ترسمه وتصور آثاره العجيبة. والجمال الذي تشيعه في النفس أصغر ندفة منه أو أصغر بلورة تسبح بتؤدة بين السماء والأرض لا يقل عن ذلك سحراً. وهو يلح علينا بإصرار لأنه لا يقتصر على أن يحرك فينا الاستجابة للرقة والأناقة التي تجعل منا بشراً، بل يثير أيضاً رغبتنا وحب استطلاعنا في معرفة كيفية وسبب وجود هذه الجوهرة بالغة النقاء ذات الجمال الفائق والأشكال التي لا حصر لها».
ومصممو المنسوجات والفنانون يستوحون الأفكار من فهرس الندف الثلجية الذي وضعه بنتلي، ويستعينون بما يسميه همفريرز معرض الطبيعة الدائم للزخرفة التوشيعية وتصاميم الجواهر والحلي».
إن صغرى العواصف الثلجية تسقط على الأرض تربليونات من الندف الثلجية. وربما كانت كل ندفة منها فريدة من نوعها. وما من أحد استطاع حتى الآن أن يفهم مجمل العمليات والظواهر الفيزيائية لكيفية تشكل الندف الثلجية وإن كان جيمز لانغر (James Langer) الذي يعمل في مركز الفيزياء النظرية في سانتا بابرا، قد وضع لها، بعد سنوات طويلة من العمل المضني، نموذجاً رياضياً يبعث على التفاؤل.
فهل تستطيع آليات الطبيعة أن تفسر جمال الندف الثلجية، أو زبد البحر، أو أقواس قزح، أو غروب الشمس؟ إن جمال هذه الجوامد ينتج بالضرورة من قوانين الفيزياء والكيمياء، وهي قوانين جميلة في ذاتها كما رأينا في الفصل الثالث. وبفضل قوانين الطبيعة هذه لا يمكن أن يتولد من ذلك كون بشع. فجمال الجوامد مركب في آلية الطبيعة ذاتها. لنأخذ قياساً تمثيلياً لذلك. فقد يستطيع أحدنا أن يبني مصنع سيارات مجهزاً كلياً بمعدات ميكانيكية لإنتاج عربات جميلة. بل هو قد يستطيع أن يركب في الآلية الجمال الناتج عن التصميم واللون. ولكن الجمال في السيارة لا يصبح بذلك ضرورة مطلقة، إذ تظل العربات البشعة قادرة على أن تنقل الركاب بفعالية. ومن الممكن اختراع آلات لإنتاج عربات كهذه وبالطريقة نفسها. ليست هنالك أي ضرورة مطلقة تفرض في المقام الأول أن تشتمل القوانين الفيزيائية للطبيعة على البساطة والتنسيق. ولنا أن تتصور كوناً آخر ذا قوانين طبيعية غير متماثلة ومعقدة لغير ضرورة ينتج ندفاً ثلجية بشعة بضرورة ميكانيكية.
الضرورة، إذاً، لا تقدم تفسيراً نهائياً للجمال الذي نجده في الجوامد، كما أنها لا تستطيع أن تفسر الجمال الموجود في النباتات والحيوانات. إن عالم الأحياء أدولف بورتمان (Adolf Portmann)، وهو حجة معترف به في موضوع أشكال الكائنات الحية وعلاماتها المميزة، يشير إلى سمات كثيرة لا تفسرها الضرورة. ويشير بورتمان كذلك إلى أن الأوراق ضرورية للشجرة لإنتاج طعامها، «ولكن هناك الشيء الكثير، في شكل الورقة وخطوطها، مما ليس تكيفاً مع البيئة، بل هو تصوير ذاتي محض». إن متطلبات التخليق الضوئي (Photosy- nthesis) تفسر سبب وجود الأوراق على الشجرة في المقام الأول، ولكنها لا تفسر سبب اختلاف ورقة القيقب عن ورقة البلوط.
والشيء نفسه يصح على الحيوانات. ففيما يتعلق بريش الطيور، مثلاً، يلاحظ بورتمان أنه «ساد الاعتقاد مدة طويلة من الزمن أن الريش ليس له دور سوى تيسير عمليتي تعديل الحرارة والطيران. ولكن علينا الآن أن نضيف دوراً ثالثاً وهو التعبير عن الذات، لأن هناك أصنافاً كثيراً من الريش تغلب على تركيبها الخارجي الزخرفة».
وجسم الإنسان يبرهن على أن الضرورة لا تفسر الجمال. فصوت الإنسان أكثر براعة وتعبيراً من أي آلة موسيقية. والضرورة لا تستلزم أن يكون للإنسان صوت قادر على إخراج أنغام حلوة، إذ كان يكفي أن يكون له صوت رتيب وممل، أو صوت خشن، للاستغاثة أو للتعبير عن حاجات بدنه. وداروين نفسه أقر بأن الضرورة لا تستطيع أن تفسر ما حيي به الإنسان من مواهب موسيقية فطرية. فقد قال: «وحيث أن الاستمتاع بالأنغام الموسيقية والقدرة على إطلاقها ليسا من الملكات التي تعود على الإنسان بأدنى منفعة في عاداته اليومية الحياتية، فلا بد من تصنيفهما في عداد أكثر الملكات التي حيي بها غموضاً». والضرورة قد تفسر لماذا يكون صوت عصفور جميلاً في عين عصفور آخر، ولكنها لا تفسر لماذا يكون جميلاً في عين الإنسان. وعلى هذا الاعتبار نسأل: لماذا ينبغي أن يكون النمر أو الشوك جميلاً في عين الإنسان؟
ولكن إذا كانت الضرورة لا تفسر الجمال فلعله نتيجة الصدفة. وإذا كان الأمر كذلك لزم إن يكون الجمال نادراً. ولكن الواقع خلاف ذلك. فالطبيعة تزخر بالجمال. يقول ديفيد بوم إن «كل ما يمكن العثور عليه في الطبيعة، تقريباً، يتبدى عن شيء من الجمال سواء في الإدراك الفوري له وفي التحليل الفكري». من ذلك مثلاً أن جميع الحيوانات تقريباً تكشف عن شيء من التناسق كما يشير إلى ذلك بورتمان. بل إن بعض أجناس الحيوان تكشف عن درجة مذهلة من التناسق تضاهي بها الآثار الفنية الرائعة . والواقع أن كل مستوى من مستويات البحث يكشف عن عوالم جديدة من الجمال في الطبيعة. ويصف ثورو (Thoreau)، على سبيل المثال، جمال حقل أعشاب فيقول: «وإذ كنت واقفاً على أرض ج. ب. براون في الجهة الجنوبية راقبت مروحة الخصبة والريانة غير المقصوصة في الجهة الشمالية وهي تتموج بفعل الريح الشرقية. إنه لمشهد جميل. كانت الأعشاب تتحرك كأمواج من الضوء والظل على امتداد عرض أرضه، وكبخار منخفض الارتفاع يلتف فوقها فيضفي حياة عجيبة على المنظر الطبيعي، وكأنها ثوب متلون يتعاوره الضوء والظل. إنها صورة مثيرة يسهل أن تغفلها العين، وتوحي بأننا نخوض ونبحر في اللحظة الحاضرة في خضم من العشب وهو يلين ويتموج تموج الماء تحت الريح».
وقد صور كبار الرسامين اليابانيين الأناقة البسيطة التي يشهدها المرء في لفيف واحد من الأعشاب. وتبدو في الشكل (5) لوحة للخيرزان، وهو أكبر أنواع الأعشاب.
ويكشف المجهر عن الهندسة الخفية لتركيب الخلايا في ورقة عشب واحدة. وفي صالات العرض والمتاحف صور لأجزاء من النبات إلتقطت لجمالها الفتان بالمجاهر العادية وبمجاهر المسح الإلكتروني.
وفي داخل الخلية الحية تكشف الأشعة السينية عن تركيب جزئ الـ (DNA) وهو قالب الحياة – الذي يصفه واتسن المشترك في اكتشاف تركيبه بأنه جميل. وأخيراً، فإن المكونات الذرية لهذا الجزئ ذاته تفهم بلغة معادلات رياضية تتسم بجمال ذهني كما يقول الفيزيائيون.
وهكذا نرى أن الشاعر والرسام وعالم الأحياء والكيميائي والفيزيائي يلتقون جميعاً بجمال العشب. وجمال الطبيعة ليس جمالاً سطحياً، بل هو متغلغل في الأعماق. وفي جميع الأشياء الطبيعية، حية وغير حية، وفي كل مستوى داخل كل شيء حي، من مروج الأعشاب إلى الإلكترون والبروتون والنيوترون، نرى الجمال متغلغلاً في الطبيعة. وهذا الجمال الوفير هذه الوفرة والمتنوع هذا التنوع في شتى المستويات لا يمكن أبداً أن ينشأ من الصدفة. وينتهي الفيزيائي هنري مارجينوا إلى أن جمال الطبيعة لا يمكن عزوه إلى الصدفة أو الضرورة فيقول: إننا لا نعتقد أن الجمال منحصر في عين الناظر، بل إن هناك سمات موضوعية تكمن على الأقل وراء بعض التجارب الجمالية، إن لم نقل وراءها جميعاً، مثل معدلات تردد أنغام الوتر الكبير، أو تناسق الأشكال الهندسية، أو الجاذبية الجمالية للألوان المتنامية المتجاورة. صحيح أنه ليس في أي من هذه الأشياء ما يساعد على البقاء، ولكنها جميعاً منتشرة في الطبيعة انتشاراً يصعب جداً أن يكون مجرد صدفة. ونحن نذهل لتغريد العصافير، ونسق الألوان في الأزهار (هل للحشرات حس جمالي؟)، ولتناسق ألوان ريش الطيور، وللجمال الذي لا يضاهى في ورقة القيقب الذاوية، ولونها عميق الحمرة، وعروقها الزرقاء، وأطرافها الذهبية. فهل في هذه ما يساعد على البقاء حين تكون الورقة مشرفة على السقوط؟».
فإذا كانت الصدفة والضرورة، كلتاهما عاجزتين عن تفسير الجمال فلابد من وجود شيء غير هذين البديلين. فحيثما تصرفت العلة بفعل ضرورة فلابد من وجود داع لهذا التصرف، ولكنه تصرف أغلقت دونه جميع المسالك باستثناء مسلك واحد. أما الصدفة فهي من الناحية الأخرى تقبل البدائل، ولكن ليس هناك سبب يفسر تحقيق بديل دون غيره. والطريق الوسط بين هذين الطرفين علة تقبل البدائل، ولكن لديها في الوقت ذاته سبباً يفسر اختيارها لواحد منها دون سواه. فهل من شيء في تجاربنا يعمل بهذه الطريقة؟ واضح أن هناك شيئاً كهذا: إنه عقل كل منها.
تأمل، للحظة قصيرة، حرفياً يصنع سكيناً لتقطيع الخبز لاستخدامه الشخصي. من الجلي بالضرورة أنه ستكون للسكين الجديدة شفرة، إذ أنه من دونها لن يستطيع قطع الخبز. أما تصميم المقبض المزخرف والمرصع فلا نستطيع عزوه إلى الضرورة لأن السكين قادر على أن يقطع الخبز بنجاح دون حاجة إلى أي زخرفة على الإطلاق. والحرفي يختار بمحض إرادته أن يزين أداته بالزخارف. ففي وسعه أن يضيف الزخارف أو لا يضيفها. فإذا اختار أضافتها توفرت له تشكيلة غير محدودة من التصاميم ينتقي منها ما يشاء. فزخرفة السكين تقبل البدائل؛ ومع ذلك فهناك سبب لوجودها وهو أن الفنان لا يريد سكيناً نافعاً فحسب، بل سكيناً جميلاً أيضاً. فالزخرفة إذاً ليست نتاج الصدفة ولا الضرورة، بل هي تصرف يتسم بحرية الاختيار. والعقل الذي يختار بحرية، إذاً، هو الطريق الوسط بين الصدفة والضرورة.
وعلى النحو ذاته، لما كان الجمال في الطبيعة بالغ الوفرة فلا يمكن أن يكون ناشئاً من الصدفة، إذ لا بد له من سبب. ولكن هذا السبب لا يمكن حصره في نهج واحد، إذ ليس من ضرورة مطلقة تفرض أصلا وجود الجمال في الحيوان والنبات والجماد. وعلى ذلك يبدو أن الجمال المشاهد في الطبيعة ناشئ من علة لا تحكمها الضرورة، ولكن لديها مع ذلك سبباً يفسر تصرفها. وهذه العلة هي عقل، ومن ثم فإن هناك عقلاً مسؤولاً عن جمال الطبيعة وهذا العقل القائم وراء الطبيعة يطلق عليه كل الناس اسم «الله».
رأينا في الفصل الثالث كيف أن النظرة الجديدة تجمع مجدداً بين العلوم والفنون الجميلة من خلال فهم الجمال. كما أن الشعراء، في تأملهم جمال الطبيعة، يدركون بدورهم أنه من صنع عقل ما. ومن أمثلة ذلك أن «ثورو»، إذ يرى أن الجمال لا يمكن أن تفسره الضرورة، يستبين الفنان الآلهي وراء الطبيعة، فيقول: «السماء تمطرنا وتسقط علينا ثلوجاً كالدرر. يا له من عالم عجيب هذا الذي نعيش فيه! أين متاجر الجواهر والحلي من ذلك؟ ليس هناك ما هو أجمل من ندفة ثلج أو قطرة ندى. أكاد أقول إن صانع هذا العالم تتجلى براعته في كل ندفة ثلج أو قطرة ندى يسقطها علينا. ونحن نظن أن الأولى تتماسك بطريقة ميكانيكية وأن الأخرى تسيل فتتهاوى بكل بساطة، ولكنهما في الحقيقة حصيلة حماس، ونتاج نشوة، أضيفت عليهما اللمسات الأخيرة بأقصى مهارة الفنان».
والبشر يلحظون يد الله في ندفة الثلج وفي غروب الشمس وفي حقل الأعشاب. وعظمة الجمال وجلاله يحملان توقيع الله الذي لا شبهة فيه. يقول توماس مان (Thomas Mann) الجمال وحده إلهي ومرئي في آن معاً». أما إمرسون (Emerson) فيقدم لنا النصيحة التالي: إياك أن تفوت أي فرصة لمشاهدة أي شيء جميل لأن الجمال خط بيد الله. إنه قداس يقام على جانب الطريق. رحب بالجمال في كل وجه حسن، وفي كل سماء صافية، وفي كل زهرة جميلة، واشكر الله على ذلك.». وتعبر اليزابيث باريت برواننغ (Elizabeth Barret Browning) عن هذا الإحساس ذاته في بيتين من الشعر قصيرين:
*********
وهكذا ففي النظرة الجديدة نجد أن أصل الكون وبنيته وجماله تفضي جميعاً إلى النتيجة نفسها، وهي أن الله موجود.
----------------يتبع--------------
متابعة إشرافية
الموحد
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب قيم جداً .......... جزاك الله خيراً eeww2000
احمد المنصور
10-27-2004, 09:07 AM
يرفع
جزاك الله خيراً eeww2000
جابر عثرات الكرام
10-27-2004, 09:22 AM
**********
هل يجوز ترجمة كلام كهذا نرجو التعديل أو الحذف
الموحد
10-28-2004, 07:48 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ جابر
تم حذف بيت الشعر من مداخلة الاخ eeww2000 , وجزاك الله خيراً على التنبيه .
سيف الكلمة
10-30-2004, 09:22 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
جازاك الله خيرا أخى
eeww2000
وبارك فيك
والفائدة أصبحت مزدوجة بإضافة الأخ أحمد المنصور رابط كتاب موريس بوكاى بالعربية
شكر الله لكما
احمد المنصور
12-10-2004, 09:00 PM
الاخ الفاضل الموحد, الاخ الفاضل جابر عثراث الكرام,
بارك الله فيكما لغيرتكما ولكن اسمحا لى ان اعارضكما بخصوص: هل يجوز ترجمة مثل هذا الكلام وبخصوص ازالة النص. لا أتذكر ما جاء فى هتين البيتين فإن كان فيهما سب أو شتم فأتفق معكما (مع إني لا ا تذكر شيئا من هذا).
اما اذا كان هو مجرد قصور في تعبير الكاتب فأرى من الامانة العلمية هي ترك النص. وحبذا لو بدل القص تمت اضافة ملاحظة لتنيه القارئ (أو لتبين عظمة هذا الدين القيم الذي اتى بما عجز عنه البلاغاء حتى فى اقصى لحظات صدقهم). وسيكون هذا اجمل وأصدق. ومن ناحية اخرى لو اتخدنا هذا كسبيل فى التعامل مع النصوص الذى يوردها الملحدون واللادينيون فسنصل الى نتيجة غلق المنتدى لانه لا يصح ترك الكلام الاشنع وقص الالطف.
الكلام المكتوب ليس من تأليف استاذنا الكبير eeww2000 ولكن من ترجمته. والصدق فى الترجمة من شروط النقل.
عموماً أقترح على الاخوة المشرفين نقل الموضوع الى ساحة المكتبة.
وأسأل الله العلى القدير لى ولكم التوفيق.
eeww2000
12-13-2004, 05:00 PM
الاخ الفاضل المشرف :
هذه هى بقية الكتاب و اعتذر عن التاخير لظروف خارجة عن ارادتى و الامر مفوض لحذف ما تراه مخالف لشريعتنا لان ظروفى لم تسمح لى بمراجعته بدقة و لك و لكل الاخوة خالص الاحترام و المودة و السلام عليكم و رحمة الله
الفصل الخامس
الإنسان والمجتمع
لو كان الإنسان مجرد كائن مادي، كما تزعم النظرة القديمة، لكان من المعقول أن تتخذ أشياء مادية أبسط، كالآلات، نماذج للسلوك البشري. فلكل آلة دافعة تشغلها، كالبخار أو الكهرباء أو الاحتراق الداخلي. وعلى ذلك كان أهم عنصر في الإنسان، وفقاً لعلم النفس في النظرة القديمة، هو قوته الدافعة. والقوى المادية في الآلة الإنسانية تتخذ شكل غرائز وانفعالات، هي مصدر جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان. أما العقل فلا يملك زمام الأمر لأنه نتاج ثانوي للمادة. إذاً فمفتاح سر النفس البشرية يكمن في اكتشاف أقوى غريزة أو عاطفة تدفع الإنسان وتطغى على كل ما عداها.
وعلماء النفس في النظرة القديمة يتفقون على أن الغرائز والانفعالات هي التي تقود الإنسان، ولكنهم يختلفون بصدد تحديد الغريزة الأساسية. فبعضهم، مثل هوبز (Hobbes)، يزعمون أنها الخوف من الموت، بينما يقول مالثوس (Malthus) إنها غريزة الجوع، وفرويد (Freud) يقول إنها غريزة الجنس. ولكن متى تحدد الدافع الأساسي فعلوم النفس في النظرة القديمة تبدو متماثلة.
لقد وضع هوبز، مثلاً، واحدة من أقدم النظريات النفسية في النظرة القديمة. وفي الثلاثينات من القرن السابع عشر ارتحل هوبز إلى القارة الأوروبية حيث تعرف على الأوساط العلمية. فالتقى بغاليليو (Galileo) في فلورنسا وأصبح من الأنصار المتحمسين للعلوم التجريبية حديثة النشأة، وأعتنق هوبز المذهب المادي المنهجي وجرى بحماس وراء إمكانية التوصل إلى فهم علمي جديد للإنسان بالإستناد إلى المادة فحسب.
ويورد هوبز في مقدمة كتابه المسمى (Leviathan) مقارنة صريحة للإنسان بالآلة، كما يشبه أجزاء المجتمع البشري بأجزاء الآلة. وهو في تفسيره للسلوك البشري يولي الدور الأساسي للعواطف، ويعزو تفاوت الذكاء بين الناس إلى ما بينهم من فوارق في العواطف. فيقول: «إن هذا الاختلاف في الفطن يرجع إلى الاختلاف في العواطف». وبناء على ذلك، فالإنسان الذي يخلو من عواطف قوية يفتقر إلى الحافز: «فقد يكون هذا الإنسان حتى الآن رجلاً فاضلاً بحيث لا يسيء إلى غيره، ولكنه لن يستطيع أبداً أن يكون ذا خيال واسع أو رأي حصيف. فكما أن انعدام الرغبة يعني الموت، كذلك يعني وهن العواطف بلادة الحس».
ويصف هوبز ما ينجم عن طبيعة الإنسان الانفعالية من صراع محتوم فيقول: «إن التنافس على الثروة والشرف والسيادة أو على غيرها من أسباب السلطة يبعث على النزاع والعداوة والحرب، لأن سبيل المتنافس إلى تحقيق رغباته هو قتل منافسه أو إخضاعه أو الحلول محله أو صده».
ويقول هوبز إنه لو كان الإنسان يعيش في ظروفه الطبيعية من غير أن يخضع لقيود السلطة الحاكمة لما انفسح المجال لأسباب الحضارة في حياتنا: «فلا فنون، ولا آداب، ولا مجتمع، بل –وهذا أسوأ الأحوال- خوف متواصل، وخطر يهدد الإنسان بالموت العنيف، وحياة عزلة وانزواء وكراهية وبهيمية قصيرة الأجل».
إنها صورة قائمة. ولكن الإنسان اخترع نظام الدولة لعلاج هذا الوضع الذي لا يطاق. ويشرح هوبز كيف أن حفظ الذات هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع السياسي فيقول: «إن الغاية النهائية أو الغرض النهائي الذي ينشده الناس (وهم المفطورون على عشق الحرية والهيمنة على غيرهم) من فرض هذا القيد على أنفسهم (حيث نراهم يعيشون في مجتمعات تربط بين أعضائها مصالح مشتركة) هي حفظ ذواتهم والإخلاد من ثم إلى حياة أدعى إلى الطمأنينة ، أي بتخليص أنفسهم من حالة الحرب البائسة المترتبة بالضرورة (كما أوضحنا من قبل) على أهواء الناس الفطرية».
وعلى هذا الأسس يقول هوبز إن الدولة يجب أن تكون دكتاتورية، إذا لن يكفي لكبح أهواء الناس إلا السلطة المطلقة.
وبعد هوبز بثلاثمائة عام يبدأ فرويد دراسته للإنسان مفترضاً أن لا وجود إلا للمادة: فالمحللون النفسيون «هم في صميمهم أنصار للآلية والمادية شديدو العناد». وفرويد يعتبر أن هذا هو النهج العلمي الوحيد في دراسة النفس البشرية. وهو بالتالي يتبنى نموذج الإنسان الميكانيكي العام الذي وضعه هوبز. وهو يبين ذلك حين يصف نفسه بأنه «عالم نفسي أصر دائماً على ضآلة الدور الذي يقوم به العقل في شئون الإنسان حين تقارنه بالحياة الغريزية».
ويؤكد فرويد أن غريزة الجنس هي القوة الدافعة للإنسان فيقول: «إن الحب الجنسي قد أعطانا أعمق ما خبرناه من إحساس بالمتعة يطغى على ما سواه، وبذلك زودنا بنمط للبحث عن سعادتنا». ولكن سرعان ما يكتشف المرء أن حافز المتعة هذا يؤدي إلى الصراع: «إن ما يحدد الغاية من الحياة لا يعدو أن يكون برنامج مبدأ المتعة. وهذا المبدأ يسيطر على عمل الجهاز العقلي منذ البداية. وما من شك في فعالية هذا المبدأ، وإن كان برنامجه في صدام مع العالم بأكمله –العالم الأكبر والعالم الأصغر على حد سواء. وليس هناك بتاتاً أي إمكانية لإنجاز هذا البرنامج إذ إن جميع قوانين الكون تصطدم معه».
ويرى فرويد أن إحباط غريزة المتعة –وهو أمر لا مناص منه –يجبرنا على البحث عن بدائل: «فالحياة كما نجدها أصعب من أن تطاق. فهي تسبب لنا من الآلام والإخفاق أكثر مما ينبغي، وتحملنا مهمات مستحيلة مفرطة في الكثرة. ولكي نطبقها لا نملك الاستغناء عن تدابير ملطفة. وربما كان هناك ثلاثة تدابير من هذا النوع: ازاغات (deflections) قوية تجعلنا نستهين بالبؤس الذي نحن فيه، وإشباعات بديلة تخفف من هذا البؤس، ومسكرات تبلد إحساسنا به. والنشاط العلمي هو ازاغة من هذا القبيل، وكذلك الإشباع الاستعاضي الذي يوفره الفن، وهما وهمان على تناقض مع الحقيقة، ولكنهما مع ذلك فعالان من الناحية النفسية».
ويواصل فرويد حديثه قائلاً: «وعمليات النقل هذه من الدوافع الجنسي الغريزي (اللبيدو) displacements of libido كالمتعة التي يحس بها الفنان وهو يبدع أو العالم وهو يحل المسائل أو يكتشف الحقائق، قد تبدو «أجمل وأسمى»، ولكن حدتها أخف إذا قيست بحدة المتعة المستمدة من إشباع الحوافز الغريزية الأساسية والفظة. فهي لا تهز كياننا البدني». وهكذا «فالخدر الخفيف الذي يحدثه الفن فينا لا يستطيع أن يفعل أكثر من أن يلهينا إلهاء مؤقتاً عن ضغط الحاجات الحيوية، وهو ليس من القوة بحيث ينسينا الشقاء الحقيقي».
وهذا النهج، حين يترجم إلى لغة طب النفس الإكلينيكي، يسبب أحياناً صعوبات للمريض. فعلى سبيل المثال، يذكر الطبيب النفساني لورنس هاترر Lawrence Hatterer) أن كثيراً من الفنانين يشعرون بعد مغادرة عيادة الطبيب النفساني بالسخط لسماع تفسيرات من هذا النوع: إن الأديب يكتب لأنه يهوى جمع المظالم أو لأنه ماسوشي سادي (Sadomasochist)، وأن الرسام يرسم ليتغلب على نظام الأمعاء الصارم بالتلطيخ الحر».
وأسوأ من ذلك أن حوافز الإنسان الغريزية الفظة تتضارب في نظر فرويد مع أهداف المجتمع. وهذا ما ينتج بالضرورة إذا كان «لابد من بناء كل حضارة على الإكراه وإنكار الغرائز»، وإذا كان «من جملة هذه الرغبات الغريزية غشيان المحارم، وأكل لحوم البشر، وشهوة القتل». وكل مجتمع يريد مجرد الحفاظ على نفسه لا مفر له من كتب هذه الرغبات في الإنسان. وعند فرويد أن هذا الكبت يولد في نفس الفرد إحساساً بالحرمان والإحباط. ولهذا السبب يعلن فرويد أن «كل فرد هو عدو محتمل للحضارة، وإن كان يفترض أن الحضارة موضع اهتمام الجنس البشري بأسره».
ونتيجة ذلك فالإنسان لا يمكنه أبداً أن يكون سعيداً في المجتمع لأن المجتمع يتناقض مع ميوله الفطرية. وعلى ذلك يخلص فرويد إلى أنه «إذا كانت الحضارة تفرض مثل هذه التضحيات الكبيرة لا على نشاط الإنسان الجنسي فحسب، بل على نزعته العدوانية، فنحن نستطيع أن نفهم على وجه أفضل لماذا يصعب على الإنسان أن يحس بالسعادة في كنف الحضارة. فالواقع أن الإنسان البدائي كان أحسن حالاً إذ لم يعرف قيوداً فرضت على غرائزه». والمجتمع الذي هو بعيد عن أن يكون العلاج الذي ظنه هوبز يزيد في رأي فرويد من حدة إحساس الإنسان بالشقاء.
وبعد فرويد ظهر في العشرينات من هذا القرن تطور آخر في مدرسة علم النفس التابعة للنظرة القديمة، ونعني بذلك المذهب السلوكي. ومؤسس هذا المذهب هو جون ب. واتسن (John B. Watson) الذي حاز على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة شيكاغو عام 1903. فبعد أن قام واتسن بإجراء تجارب واسعة النطاق على الجرذان والعصافير والقرود سعى إلى إرساء علم النفس كفرع موضوعي كلياً من فروع العلم الطبيعي، ليس أحوج إلى ما سماه الاستبطان من علم الكيمياء أو الفيزياء، على أساس أن السلوك، من بين جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان، هو وحده القابل للمراقبة من الخارج بالتجارب الموضوعية. ففي رأي واتسن أن السلوك وحده، لا الوعي، هو الموضوع الصحيح لعلم النفس.
والسلوكية لا تحاول أن تستمد العقل من المادة، ولكنها تسأل لماذا ينبغي للعلم أن يعترف بالعقل أصلاً إذا لم يكن قط مصدراً لأي تفسير علمي. وتبعاً لذلك تؤكد السلوكية أن جسم الإنسان هو الحقيقة الإنسانية الوحيدة، وأن من الواجب أن يستبعد «العقل» ومعه جميع بهارجه من مجال العلوم. والسلوكية بهذا المعنى أكثر ايغالاً في المادية من علم النفس الفرويدي. ويمثل التحول عن مذهب فرويد إلى المذهب السلوكي تقدماً في أفول نجم العقل.
ففي إطار السلوكية أصبح لزاماً أن يستبعد كل ما كان يعزي في السابق إلى العقل، أو أن يصاغ تعريفه من جديد بوصفه سلوكاً يمكن أن يراقب من الخارج.
ويذكر واتسن أن أول خطوة كان عليه أن يتخذها كعالم نفسي ملتزم بالمنهج العلمي أن يسقط من «مفرداته العلمية جميع العبارات الذاتية كالإحساس والإدراك والصورة الذهنية والرغبة والغاية، بل التفكير والعاطفة لانطوائهما على تعريف ذاتي». ويضيف قائلاً: «إن السلوكي لا يعترف بما يسمى السمات الذهنية أو النزعات أو الميول». أما جوانب العقل التي لا يمكن إنكارها فيتحتم أن تعرف من جديد بعبارات سلوكية فحسب. وهكذا أصبح التفكير يسمى «التكلم دون الصوتي Subvical». ويعلن واتسن أن «التكلم والتفكير، إذا فهما على الوجه الصحيح، يسهمان إسهاماً كبيراً في تحطيم الخرافة القائلة إن هناك شيئاً يدعى «الحياة العقلية».
فأي صورة للإنسان تسفر عنها السلوكية؟ وتتجلى مادية واتسن المنهجية حين يتحدث عن دواعي التصرفات الإنسانية فيقول: «إن الإنسان بوصفه نتيجة طبيعية للطريقة التي ركب بها وللمادة التي جبل منها، لابد له من أن يتصرف كما يتصرف بالفعل (إلى أن يعيد التعلم صياغته)». والسلوكية تطرح المادة وتركيبات المادة باعتبارها الأسباب الوحيدة لتصرفات الإنسان. والإنسان بهذا المنظار، قطعة هامدة من المادة لابد من تشغيلها بقوى خارجية.
ومن الجلي أن هذا النموذج مأخوذ عن الفيزياء: فالجسم الساكن يظل ساكناً ما لم تؤثر فيه قوة من الخارج. والإنسان لا يتصرف من تلقاء نفسه، بل يخضع لتصرفات تفرض عليه. وهذا ما يفسر نزوع واتسن إلى تفاسير من قبيل «لحافز والاستجابة». فهو يقول: «إن المقياس أو قضيب القياس الذي يضعه السلوكي أمامه دائماً هو كالتالي: هل أستطيع أن أصف هذا الجزء الصغير من السلوك بلغة الحافز والاستجابة؟. ويقصد واستن بكلمة «الحافز» أي شيء يحدث تغيراً فسيولوجياً في الكائن الحي. أما «الاستجابة» فيقصد بها السلوك القابل للملاحظة، والذي يفضل أن يكون قابلاً للقياس. ومن الجدير بالذكر أن لفظة Stimulus (الحافز) اللاتينية كانت تعني في الأصل «المهماز».
ويذكر واتسن للسلوكية هدفين اثنين: «التنبؤ بالنشاط الإنساني»، و «صياغة قوانين ومبادئ يستطيع المجتمع المنظم بواسطتها ضبط تصرفات الإنسان». فإذا لم يكن الإنسان أكثر من كيان مادي فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بعدم إمكانية برمجته كما تبرمج الآلة. وقد اصطدمت نظريات واتسن بمقاومة عنيفة من جبهات متعددة. ويعلق واتسن قائلاً: «إن السلوكية لا تناسب الموسوسين. ومن ذلك قوله مثلاً: «الناس على استعداد للاعتراف بأنهم حيوانات ولكنهم «بالإضافة إلى ذلك شيء آخر». وهذا الشيء الآخر «هو الذي يخلق المشاكل، ويندرج تحت هذا «الشيء الآخر» كل ما يعرف بالدين، والحياة بعد الموت، والأخلاق، وحب الأطفال والوالدين والوطن وما شاكل ذلك. والحقيقية العارية هي أنك، كعالم نفسي، لابد لك في هذه الحالة، إذا أردت أن تظل علمي المنهج، أن تصف سلوك الإنسان بعبارات لا تختلف عن تلك التي تستخدمها في وصفك لسلوك الثور الذي تنحره، وهذه الحقيقة قد صرفت وما فتئت تصرف الكثيرين من ذوي النفوس الرعديدة عن السلوكية». على أن «الشيء الآخر» من ذوات الناس الذي يريدون الاستمساك به بعناد هو العقل. ونظراً لما تعرضت له آراء واتسن من نقد، ولأسباب أخرى، اعتزل واتسن المجتمع الأكاديمي نهائياً في عام 1921 وأخذ يشتغل بمهنة تجارية في الميدان الإعلاني.
ولقد رأينا في فصول سابقة كيف بدأت النظرة العلمية الجديدة بنظرية النسبية وميكانيكا الكم اللتين برهنتا على محورية العقل حتى في مجال الفيزياء. وذكرنا ثانياً ما حظيت به النظرة الجديدة من تأييد كبار العلماء، في مبحث الأعصاب في هذا القرن، الذين كشفوا النقاب عن أدلة تثبت استقلال العقل واستحالة إرجاعه إلى المادة «انظر الفصل الثاني». وفي علم النفس المعاصر حركة تتجه إلى النتيجة ذاتها، وهي أولية العقل. ففي أعقاب الحرب العالمية لثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي، وإلغاء العقل في السلوكية، قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته في علم النفس، معتبرين أن هذا موقف لا يطاق في فرع من فروع المعرفة مكرس لخدمة الجنس البشري.
وأخيراً التحمت في الخمسينات من هذا القرن «قوة ثالثة» في علم النفس (إلى جانب القوتين الأخريين : التحليل النفسي والسلوكية).
ويصف العالم النفسي فرانك ت. سفرين (Frank T. Severin) هذه الحركة الجديدة بقوله: إن أتباعها «لا يتكلمون بصوت واحد، ولا يشكلون مدرسة فكرية مستقلة، ولا هم متخصصون في أي مجال ذي مضمون محدد. بل إن كل ما يجمع بينهم هو الهدف لمشترك المتمثل في «أنسنة» علم النفس. ففي اجتماع وطني للرابطة الأمريكية لعلم النفس عقد في عام 1971، قررت هذه الحركة الجديدة أن تطلق على نفسها اسم «علم النفس الإنساني». وهذه هي سيكولوجيا النظرة لعلمية الجديدة. وسنبدأ أولاً بوصف أهداف هذه الحركة الجديدة ومناهجها، ثم نتناول بالبحث ما عندها من أقوال عن الإنسان وعن سعادته وعن علاقة الفرد بالمجتمع.
ويشرح العالم النفسي ايرفن ل. تشايلد (Irvin L. Child)، الأستاذ بجامعة بيل، المنحي الأساسي لعلم النفس الجديد فيقول: «يعرف علم النفس الإنساني بالإنسان الذي يتخذه نموذجاً له، وبإصراره على أن جملة المعارف العلمية ستتنامى بأقصى قدر من المنفعة إذا هي اهتدت بتصور للإنسان كما يعرف هو نفسه، لا بأي محاكاة غير إنسانية». وما الذي يجعلنا بحاجة إلى نموذج للإنسان إذا كنا نحن أنفسنا من بني الإنسان» فالنموذج شبه مؤقت يؤخذ من شيء يقع خارج موضوع البحث ذاته. وهو يفيد حين تكون طبيعة الشيء بعيدة عنا أو مبهمة. فالنموذج الكوكبي للذرة الذي وضعه نيلزبور (Niels Bohr) يفيد في أغراض معينة، إذ لا سبيل أمامنا لنعرف ما هي أحاسيس الذرة، ولكن لدينا بالفعل معلومات من داخلنا عن كيفية إحساس الإنسان بنفسه. ويواصل تشايلد حديثه قائلاً: «فعلم النفس الإنساني، إذاً، يتكون من جميع تيارات علم النفس الفكرية التي ينظر فيها إلى الإنسان، على ما نحو ما، كما ينظر هو عادة إلى نفسه، أي بوصفه إنساناً، لا مجرد حيوان أو آلة. فالإنسان قوة واعية، وهذه هي نقطة الانطلاق. فهو يجرب، وهو يقرر، وهو يتصرف. فإذا وجدت ظروف يمكن في ظلها أن تتحقق منفعة بالنظر إلى الإنسان تماماً من الخارج، كما لو كان يستجيب لحافز خارجي استجابة آلية منتظمة يتسنى التنبؤ بها، فربما كان الأخذ بنموذج آلي مفيداً في مثل هذه الظروف. ولكن علم النفس الإنساني ينطلق من افتراض كون مثل هذه الظروف حالات خاصة، ومن أن تأسيس علم النفس بأكمله عليها سيكون افتقاراً لهذا العلم، وقيدا من شأنه أن يحول دون تطبيقه العام على فهم طبيعة الإنسان».
الإنسان قوة واعية: هذه هي نقطة الانطلاق. فأولية العقل هي جوهر علم النفس الإنساني، كما أنها الموضوع الرئيس الذي تدور حوله النظرة العلمية الجديدة. ويضيف سفرين، بوصف ذلك خصيصه جوهرية من خصائص علم النفس الإنساني، أن «الوعي أو الإدراك هو أهم العمليات النفسية الأساسية». أما فيما يتعلق بالمنهج فيتابع سفرين حديثه قائلاً: «إن النظريات السلوكية للعلم ترتكز إلى حد بعيد على نظريات القرن التاسع عشر التي لم تعد تعتبر صحيحة. ومن شأن علماء النفس أن يتمكنوا، بإدماجهم الجديد بما اكتنهه الفيزيائيون والفلاسفة، من وضع منهجيات تكون أكثر انسجاماً مع موضوع بحثهم الفريد من نوعه».
والعالم النفسي كارل روجرز (Carl Rogers) يردد الرأي نفسه فيقول: «لقد سعى علم النفس، في محاولة منه للمغالاة في منهجه العلمي، إلى اقتفاء أثر فيزياء نيوتن. وقد أعرب أوبنهايمر (Oppenheimer) عن أفكاره بقوة حول هذا الموضوع قائلاً: إن أسوأ ما يمكن تصوره من حالات سوء الفهم هو أن يتأثر علم النفس تأثراً يجعله بصوغ نفسه على غرار فيزياء لم يعد لها الآن وجود، فيزياء عفي عليها الزمن. وأعتقد أن هناك إجماعاً في الرأي على أن هذا هو الطريق الذي قادتنا إليه السلوكية الوضعية المنطقية».
وفضلاً عن ذلك، إذا كان الإنسان يملك حرية الاختيار فلا داعي إذ ذاك إلى قصر كل السلوك الإنساني على آليات غريزية أدنى من مستوى البشر، ولا حاجة إلى أن يفترض أن الدوافع الواعية للإنسان المعافى ليست هي الأسباب الحقيقية لتصرفاته. وهذا ما يحذر منه العالم النفسي فكتور فرانكل (Victor Frankl) بقوله: «إن كشف الأقنعة عملية مشروعة تماماً، غير أني أرى أن الواجب يقضي بالتوقف عن ذلك حالماً يواجه المرء ما هو أصيل الصدق –ما هو إنساني حقاً- في الإنسان. فإذا لم توقف العملية عند هذا الحد فالشيء الوحيد الذي يكشف عنه «العالم النفسي لكاشف» فعلاً هو «دافعه الخفي»، وأعني به حاجته اللاواعية إلى الحط والانتقاص من إنسانية الإنسان».
والإنسان في النظرة الجديدة ليس رزمة من ردود الفعل أو الدافع أو الآليات النفسانية، ولا هو نتاج فرعي لقوى خارجية، فالنظرة الجديدة تنشد نموذجاً إنسانياً لدراسة الإنسان، نموذجاً لن تستطيع من دونه أبداً أن نمد يد العون للمحتاجين. ويحذرنا فرانكل قائلاً: «لن نستطيع فعلاً أن نغيث لإنسان في ورطته إذا كنا نصر على أن تصورنا للإنسان ينبغي أن يصاغ على نمط «نموذج الآله» أو على «نموذج الجرذ». ويقول العالم النفسي رولو ماي (Rollo May): «إذا كنا عازمين على أن ندرس الإنسان ونفهمه فنحن بحاجة إلى نموذج إنساني. وقد يبدو هذا أمراً بديهياً، بل ينبغي أن يكون كذلك. غير أن المدهش في الأمر هو أنه ليس كذلك على الإطلاق. فأنا في عجب متواصل للدهشة التي يعرب عنها زملاؤنا العلماء في بعض حقول المعرفة الأخرى كالفيزياء وعلم الأحياء حين يكتشفون أننا نأخذ نماذجنا لا من علومهم فحسب، بل في أحيان كثيرة من أشكال بالية من علمهم كانوا هم أنفسهم قد نبذوها».
والشكل البالي من العلم الذي يشير إليه ماي آلية لنظرة القديمة وماديتها.
فالإنسان يملك القدرة على التصرف من أجل تحقيق أهداف ينتقيها هو نفسه. غير أن الأهداف تستند إلى قيم. وعلى ذلك فإن علم النفس في النظرة الجديدة يشمل دراسة القيم، ويوضح روجرز أن علم النفس الجديد يشمل ثروات الفرد الروحية والعقلية فيقول: «في هذا العالم من المعاني الروحية والعقلية ما يستطيع هذا العلم أن يبحث جميع المسائل التي ليس لها معنى لدى السلوكي: الغايات، والأهداف، والقيم، والاختيار، وفهم الذات، وفهم الآخرين، والتصورات الشخصية التي نبني بها عالمنا، والمسئوليات التي نقبلها أو نرفضها وكل عالم الفرد المدرك بالحواس بنسيجه الضام للمعنى».
ويضيف سفرين قائلاً: «إن أي علم يتصور نفسه متحرراً من القيم هو علم بال وقديم». ويوافق العالم في مبحث الأعصاب. روجر سبري (Roger Sperry)، على ذلك قائلاً: «وفقاً لتصوراتنا الجديدة عن الوعي تصبح القيم الأخلاقية والأدبية جزءاً مشروعاً جداً من علم الدماغ إذ لم تعد تتصور قابلة لأن تحصر في فسيولوجيا لدماغ. ونحن الأن، بدلاً من ذلك، نرى أن القيم الذاتية نفسها تمارس تأثيراً سببياً قوياً في وظيفة الدماغ وسلوكه. وهي عوامل عالمية حاسمة في كل ما يتخذه الإنسان من قرارات، وهي تشكل بالفعل أشد القوى السببية الضابطة التي توجه الأن مجرى الأحداث العالمية».
ومؤدي ذلك أن حياة الإنسان الفكرية وحياته الأخلاقية وحياته الروحية هي حقائق تماماً مثل حقيقة حياته البيولوجية. ولو كان للعقل حياة خاصة به، مستقلة عن المادة، لكانت محاولة إرجاع الفن والدين والتاريخ والأخلاق والسياسة والمؤسسات الإنسانية إلى الغرائز البدائية والضرورات البيولوجية برنامجاً لا أمل في تحقيقه، ولكن من شأن الإصرار عليه أن يعزلنا عن فهم الإنسان فهماً حقيقياً.
وإنسان اليوم ينتظر من علم النفس أن يهديه إلى ما هو خير في الشئون الإنسانية. يقول رولو ماي باسم علماء النفس: «نحن ممثلي العلم الجديد المعينين للعمل في ملكوت عقل الإنسان وروحه. وقد أحال إلينا المجتمع، شئنا ذلك أم أبيناه، مهمة تقديم إجابات عن الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالأخلاق والروح».
وأحد الأسئلة الأساسية المتعلقة بالأخلاق ينصب على أولوية بعض القيم على غيرها. ونحن نختار أشياء لاعتقادنا بأنها خير لنا. ولكن هل بعض الأشياء أفضل في جوهرها من غيرها؟ وهل من سبيل إلى تصنيف مراتب السلع الإنسانية؟
لو كان الإنسان مادة فحسب لكان من المتوقع أن تشدد النظرة القديمة على السلع المادية لجسدية، ولكان يمكن أن يبدو السعي وراء الفنون، بل حتى السعي وراء العلم ذاته، بدائل شاحبة لإشباع الحوافز الغريزية الفظة والأولية». والعالم النفسي أبراهام ماسلو (Abraham Maslow) ينتقد أولئك الذين يحصرون جميع الأنشطة الإنسانية في دائرة الدوافع والغرائز فيقول: «لأن الحاجات الأدنى والأشد إلحاحاً هي حاجات مادية، كالمأكل والمأوى والملبس وما إلى ذلك، فإنهم يجنحون إلى تعميم ذلك على علم نفس مادي بالدرجة الأولى يقوم على الحوافز، ويفوتهم أن هناك كذلك حاجات أسمى، غير مادية، هي أيضاً «أساسية».
ولكن إذا لم يكن عقل الإنسان من صنع المادة، كما تؤكد النظرة الجديدة، فهذا يعني أن له حياة خاصة به ومستقلة عن المادة، بحيث تكون هناك سلع روحية وسلع مادية على السواء. ونحن نعني بالسلع الروحية القيم الأخلاقية والفكرية والجمالية. ويعرض فرانكل نهج النظرة الجديدة فيقول: «إن طموحات الإنسان الروحية وكذلك احباطاته الروحية ينبغي أن تؤخذ بمعانيها الظاهرة، كما ينبغي عدم التهوين من أثرها، وعدم تحليلها على نحو يفقدها معناها».
فما هي السلع الروحية عند الإنسان؟ إن من الممكن تقسيمها إلى فئتين عريضتين هما: سلع الفكر وسلع الشخصية. وتشمل الفئة الأولى المعرفة العقلية، لا العلم وحده، وكذلك المهارة الفنية، وسداد الرأي في الشئون العملية، والحكمة. أما الفئة الثانية فتشمل جميع خصال الإرادة الجديرة بالإطراء كالكرم والشجاعة والأمانة.
وأول ما نلاحظه بشان هذه السلع الروحية أنها لا تكتسب إلا بالاختيار الحر. وعلى حد تعبير فرانكل: «القيم لا تحفز الإنسان ولا تدفعه، بل هي على الأصح تشده. فلا يمكن أن يوجد في الإنسان أي شيء يشبه الحافز الأخلاقي، أو حتى الحافز الديني، بنفس طريقة الغرائز الأساسية. فالإنسان لا يدفع أبداً إلى السلوك الأخلاقي دفعاً، ولكنه في كل حالة يقرر أن يتصرف تصرفاً أخلاقياً.
أما السلع المادية فيمكن أن تأتينا من الطبيعة أو عن طريق الصدفة. فالإنسان قد يولد قوياً في بدنه، أو قد يكسب ثروة في اليانصيب وعلى نقيض ذلك، يصبح المرء عالماً بيولوجياً أو يكون أميناً لا بالفطرة أو بالصدفة، بل باختياره فقط. فالسلع الروحية لابد من اختيارها. وقد شهد فرانكل تحلل الإنسان من المبادئ الأخلاقية عندما كان سجيناً في عدد من معسكرات الاعتقال النازية إبان الحرب العالمية الثانية. وهو يقول: لقد شهدنا بعضا من رفاقنا يتصرفون كالخنازير في حين كان آخرون يتصرفون كالقديسيين. فالإنسان تكمن فيه كلتا الإمكانيتين. وتحقيق أي منهما يتوقف على قرارات، لا على ظروف».
والسلع الروحية هي تلك التي يتميز بها الإنسان، وهي تكتسب بالاختيار وحده ويمكن أن تفقد بالاختيار وحده. فمن غير المستطاع مثلا، أن يجرد أحد قسرا من سلع شخصيته. قد يستطيع شخص ما بالقوة، أن يستولى على ممتلكاتنا، أو يعتدي علينا بدنيا. ومن الممكن أن نخسر سلعنا المادية على كره منا. ولكن لا أحد يستطيع أن يكرهنا على أن نكون ظالمين أو جبناء ما لم نرتض ذلك. وغيرنا يستطيع أن يعاملنا كالبهائم، ولكن أن نتصرف كبهائم، حتى داخل معسكر اعتقال، فأمر متروك لنا كلياً.
والشيء نفسه ينطبق على السلع الفكرية. فهي وحدها التي تبقى لنا حين نكون قد جردنا من كل ما عداها. ويمثل ماى على ذلك بإيراد حالة عجيبة في بابها: «كريستوفر بيرني، وهو شاب بريطاني كان ضابطاً في هيئة الجاسوسية، أنزل بمظلة وراء خطوط العدو في الحرب العالمية الثانية وقبض عليه الألمان. وقد وضع في حبس انفرادي بلا كتاب ولا قلم ولا أوراق للكتابة طوال ثمانية عشر شهراً. على أن بيرني، وهو في زنزانته البالغة مساحتها ستة أقدام في ستة أقدام، قرر أن يراجع كل يوم في ذهنه الدروس التي تعلمها في المدرسة وفي الكلية الواحد تلو الآخر. فأخذ يراجع النظريات الهندسية، وفكر سبنوزا وغيره من الفلاسفة، ويستعرض في ذهنه الملامح العامة للآثار الأدبية التي قرأها، وهكذا دواليك. وهو في كتابه «الحبس الانفرادي» (Solitary Confinement) يبين كيف أن «حرية العقل»، كما يسميها، أبقته سليم العقل خلال عزلة دامت ثمانية عشر شهراً».
ويشهد فرانكل على أن السلع الروحية تمد بقوة تفوق قوة السلع البدنية. وهو يتذكر كيف أن ذوي الموارد الروحية من زملائه الأسرى في معسكر الاعتقال في آوشفيتس كانوا أحسن حالاً من أولئك الذين يتمتعون بقوة بدنية أعظم. يقول: «الأشخاص ذوو الشعور المرهف الذين كانوا متعودين على حياة فكرية خصبة ربما قاسوا كثيراً من الآلام (كانوا في الغالب ضعيفي البنية)، غير أن الضرر الذي أصاب كيانهم الروحي والعقلي كان أخف وطأة. فقد كان في مقدورهم أن ينسحبوا بأنفسهم من وسطهم الرهيب إلى حياة تتسم بالغنى الداخلي والحرية الروحية. وبهذه الطريقة وحدها يستطيع المرء أن يفسر التناقض الظاهري المتمثل في أن بعض الأسرى من ذوي البنية الأقل متانة كانوا في الغالب أقدر على تحمل حياة المعسكر من الأسرى ذوي البنية القوية».
إن قدرة الإنسان على الاختيار، بقطع النظر عن تنشئته أو تاريخ حياته، وعلى تقرير اتجاهه في الحياة لا تلقي على كاهله مسئولية جسيمة فحسب، بل ترفعه إلى منزلة تسمو سمواً بعيداً على منزلة العالم المادي.
وعلم النفس في النظرة الجديدة يقر بأن العقل والعزيمة هما أسمى ملكات الإنسان. وهكذا فلعقل، بدلاً من أن يكون مهرباً أو وهماً كما عند فرويد، هو ملكوت الواقع وتحقيق الذات. وإذا كان العقل والإرادة يميزان الإنسان من الحيوان فدراسة الفنون الجميلة والعلوم وثروات الشخصية هي أسمى أنشطة الإنسان.
ويصف سبرى النظرة الجديدة إلى العقل فيقول: «العقل والإرادة يحتلان مقعد القيادة، إذا جاز لنا التعبير، فهما يصدران الأوامر ويدفعان ويوجهان فسيولوجيا الجسم والعمليات الفيزيائية والكيميائية بقدر ما توجههما هذه العمليات أو أكثر. وهذه النظرة تعيد العقل إلى مكانته فوق المادة إلى حد ما، لا تحتها أو خارجها أو بجانبها. والفعالية السببية لفكرة أو لمثل أعلى تصبح حقيقة كحقيقة الجزئ، أو الخلية، أو نبضة العصب».
والعقل والإرادة لا يسيطران على الجسم فحسب، بل يسيطران أيضاً على الانفعالات ويبطلانها عند الضرورة. وبإخضاع الانفعالات للعقل يصبح الوئام والسعادة في متناول الإنسان. ويصف ماسلو، بعد خبرة مهنية طويلة، الشخص الذي وفق بين جميع مكونات طبيعته، لا بالقضاء على انفعالاته، بل بتوجيهها وفقاً لحكم العقل، فيقول: «لا يوجد إلا في الأشخاص الأصحاء علاقة متبادلة بين الابتهاج بالتجربة، والدافع إلى التجربة أو الرغبة فيها، وبين «الحاجة الأساسية» إلى التجربة (فهي تنفعهم في المدى البعيد). وهؤلاء وأمثالهم وحدهم يتوقون باطراد إلى ما فيه خيرهم وخير الآخرين، وإذ ذاك يستطيعون التمتع به بكل جوارحهم، ويقرونه. والفضيلة في نظر هؤلاء الناس هي التي تكافئ نفسها بنفسها، بمعنى أنها تكون متعة في حد ذاتها. ويغلب على هؤلاء الناس أن يفعلوا الخير بصورة عفوية لأن هذا ما يريدون أن يفعلوه، وما يحتاجون إلى فعله، وما يتمتعون بفعله، وما يستحسنون أن يفعل، وما سيظلون ينعمون به».
وعلى نقيض ذلك، يختار بعض الناس في العادة أن يطلقوا العنان لأهوائهم حتى وإن كانت تناقض ما يعرف العقل أنه خير. والصراع الداخلي هو الذي يتسم به هؤلاء الأشخاص كما يشرح ماسلو: «ما يريد أن يفعله قد يضر به، حتى لو فعله فقد لا يستسيغه، وحتى لو استساغه فقد يستنكره في الوقت ذاته، بحيث تصبح المتعة ذاتها مسمومة أو قد تتلاشى بسرعة. وما يستمتع به في البداية قد لا يستمتع به في وقت لاحق. وهكذا تصبح حوافزه ورغباته وملذاته دليلاً شيئاً للعيش. وتبعاً لذلك يتحتم عليه أن يرتاب في حوافزه وملذاته التي تضلله وأن يخافها. وهكذا يتورط في صراع وانفصام وحيرة. وباختصار يتورط في حرب أهلية».
إذاً فالانسجام داخل طبيعة الإنسان أمر ممكن في النظرة الجديدة، وكذلك الانسجام بين الفرد والمجتمع للسبب ذاته. أما الصراع بين الناس فيبدو ناجماً عن تركيز النظرة القديمة على السلع المادية. فالمال والسلطان، مثلاً، يؤديان فعلاً إلى التنافس، أما السلع الروحية فلا تؤدي إلى ذلك إذ إنها بطبيعتها سلع مشتركة. وهي تعزز التعاون لأن كل واحد يستطيع أن يكون له فيها سهم دون الإنقاص من حصة أي من الآخرين. والقيم الروحية كالصدق والجمال والطيبة توضح هذه النقطة.
فالصدق سلعة مشتركة. وهو، خلافاً للسلع المادية، يمكن تشاطره دون خسارة. ويصف الكساندر سولجنتسن (Alexandr Solzhenitsyn) في كتابه «أرخبيل غولاغ» (Gulag Archipelago) معسكراً سوفيتياً لأسرى الحرب درت فيه طائفة من العلماء والمفكرين من جميع الأمتعة البدنية والخارجية وفرضت عليها أشغال شاقة. وكانت تعطي ما لا يزيد على بضع أو نصات من الخبز يومياً فيقول: «في معسكر سماركا كانت طائفة من رجال الفكر في عام 1946 قد وصلت إلى شفا الهلاك. فقد أنهكهم الجوع والبرد، والشغل الذي يفوق طاقتهم. بل لقد حرموا حتى من النوم. ولم يكن لديهم مكان يستلقون فيه إذ لم تكن قد بنيت ثكنات المخابئ. فهل لجأوا إلى السرقة؟ هل اشتكوا؟ هل تذمروا من حياتهم المتلفة؟ كلا. ولما كانوا يتوقعون اقتراب الموت منهم في غضون أيام لا أسابيع فانظر إلى الطريقة التي قضوا بها أوقات الفراغ التي اتسمت بالأرق وهم يجلسون متكئين على الحائط. لقد جمعهم تيموفييف ريسوفسكي على شكل ندوة دراسية، وبادروا إلى تشاطر ما كان يعرفه أحدهم ويجهله الآخر. وهكذا ألقى كل منهم محاضرته الأخيرة على الآخرين. الأب سافلي تحدث عن «الموت غير المشين»، وتحدث مهندس كهربائي عما سيكون عليه علم الطاقة في المستقبل، وتكلم عالم اقتصادي من لينينغراد عما لاقته الجهود الرامية إلى وضع مبادئ علم الاقتصاد السوفياتي من فشل بسبب الافتقار إلى أفكار جديدة. وتحدث تيموفييف نفسه عن مبادئ علم فيزياء الجسيمات الدقيقة. ومن جلسة إلى أخرى أخذ عدد المشتركين يتناقص، فقد صاروا فعلاً في مستودع الجثث.
هذا الصنف من الرجال هو الذي يستطيع أن يبدي اهتماماً بكل ذلك وهو يحس فعلاً بخدر الموت الداهم. هذا الصنف من الرجال هو المفكر».
يا لها من إشادة بحياة العقل! فالسلع الروحية ليست دائماً في المتناول فحسب، بل يمكن تقاسمها عندما يكون قد أخذ كل ما سواها.
والجمال كذلك سلعة مشتركة يمكن تقاسمها دون خسارة حتى في ظل ظروف من الحرمان الشديد. إن فكتور فرانكل يروي من تجربته الشخصية في أحد معسكرات الاعتقال النازية ما يلي: «في المعسكر أيضاً ربما لفت الرجل انتباه رفيقه الذي يعمل بجانبه إلى منظر جميل لشمس الغروب وهي تسطع من خلال الأشجار الباسقة في غابات بافاريا (كما في اللوحة المائية المشهورة للرسام دورر) وهي نفس الغابات التي كنا قد بنينا فيها مصنعاً مخبوءاً للذخيرة ضخم الحجم- وذات مساء فيما نحن مستقلون للراحة على أرضية السقيفة نكاد نموت من شدة الإعياء وفي أيدينا طاسات الحساء دخل علينا أحد زملائنا السجناء على عجل وسألنا أن نهرع إلى ساحة التجمع لنشاهد غروب الشمس الرائع. وفيما نحن وقوف خارج السقيفة شاهدنا الغيوم المنذرة بالشؤم تتوهج في الناحية الغربية والسماء كلها متلبدة بالغيوم ذات الأشكال والألوان المتغيرة على الدوام، من الأزرق الرصاصي إلى الأحمر القاني. وكانت سقائف الطين الرمادية الكثيبة تكشف عن فروق صارخة بالمقارنة، في حين كانت بريكات الماء على الأرض الموحلة تعكس صورة السماء المتوهجة».
والشيء نفسه يصح على الطيبة، إن الشخصية الخيرة تنفع الناس جميعاً. فالرجل الكريم الشجاع الصادق لا ينفع نفسه فحسب، بل كل ما حوله. الرجل الخير هو خير عام. ويسجل فرانكل في كتابه المسمى «بحث الإنسان عن معنى» (Man’s Search for Meaning) العديد من الأعمال البطولية فيقول: «نحن الذين عشنا في معسكرات الاعتقال نستطيع أن نتذكر الرجال الذين كانوا يمشون بين السقائف وهم يواسون غيرهم فيهبون آخر كسرة لهم من الخبز».
ولأن السلع الروحية تعزز التعاون، بدلاً من الصراع بين الناس يخلص ماسلو إلى أننا «نستطيع الآن أن نرفض الخطأ الذي يكاد عالمي النطاق وهو أن مصالح الفرد والمجتمع هي بالضرورة متنافية ومتضادة، أو أن الحضارة هي بالدرجة الأولى آلية تحكم وضبط لحوافز الإنسان الشبيهة بالغرائز».
______يتبع________
eeww2000
12-14-2004, 03:54 AM
الفصل السادس
العالم
ينطلق تصور النظرة القديمة للعالم من طريقة فهمه للإدراك الحسي الذي يعتبره تغييراً مادياً. وإذا تأملنا التغييرات المادية نلاحظ أن السبب الواحد يسفر عن آثار مختلفة. عرض 10 غرامات من الشمع، و10 غرامات من الماء، و10 غرامات من البارود للكمية نفسها من الحرارة تجد أن الشمع يذوب والماء يغلي والبارود ينفجر في نفثة من الدخان. وهذه الفروق ليست راجعة إلى العلة، إذ إنها متماثلة في كل من هذه الحالات، وإنما ينشأ اختلاف النتائج عن طبيعة المادة المعنية وعن تركيب جزيئاتها الداخلي. فالذوبان والغليان والانفجار وقائع تتعلق بالشمع والماء والبارود، لا بمصدر الحرارة.
والنظرة العلمية القديمة تطبق هذا النموذج المادي على الإدراك الحسي. فهي تقول: إذا أحدث حافز خارجي تغييراً في أحد أعضاء الحس فإن استجابة ذلك العضو يمليها نوع المادة المصنوع منها ونمط تركيبه. وهذا يستتبع أن الإدراك الحسي هو في المقام الأول حقيقة تتعلق بعضو الحس ذاته، ولا يتصل بالعلة الخارجية إلا على نحو غير مباشر. ولو أخذنا بهذه النظرة لما استطعنا أبداً أن نعزو أي خاصة من خواص أحاسيسنا إلى عوامل خارجية، مثلما لا نستطيع أن نعزو الذوبان أو الغليان أو الانفجار إلى اللهب الذي يسخن الشمع والماء والبارود. وفي وسعنا أن نفترض أن شيئاً خارجياً، في حد ذاته، يسبب أحاسيسنا، ولكن من غير المستطاع أبداً معرفة أي شيء عنه لأن كل مضمون الإدراك يأتي من عضو الحس ذاته. وهذا النوع من الاستدلال ذاته يصح على عقل الإنسان وعلى ملكاته الإدراكية الأخرى. وعلى ذلك، إذا صح أن الإحساس تغير مادي فمعنى ذلك أن معرفة العالم مستحيلة.
هذا الفهم المادي لملكات الإنسان الإدراكية وما يلازمه من شكوكية يطغى على النظرة العلمية القديمة منذ بدايتها. على أن النظرة القديمة لم تنته إلى نفي إمكانية معرفة العالم إلا بشكل تدريجي. حدث ذلك حين بدأ السير فرانسيس بيكون، وهو أول من استنبط الطريقة الاستقرائية (Inductive method) في العلوم، بإثارة الشكوك حول الحواس بصفة عامة قائلاً: «عندما تدرك الحاسة شيئاً ما فإدراكها لا يمكن التعويل عليه كثيراً لأن شهادة الحاسة وما يرد إليها من معلومات ترجع على الدوام إلى الإنسان، لا إلى الكون. ومن الخطأ الكبير أن نجزم بأن الحاسة هي مقياس الأمور».
هذا إلى أن الشك لا يقف عند الحواس، بل يشمل أيضاً أسمى ملكات الإنسان، وهي العقل البشري. وعن ذلك يقول بيكون: «العقل أشد عرضة للخطأ من الحاسة كثيراً. دع الناس يتيهون كما يحلو لهم عجباً بالعقل البشري، عجباً يكاد يبلغ حد العبادة. فالشيء المؤكد هو أنه مثلما تحرف المرآة غير المستوية أشعة الأجسام تبعاً لشكلها ومقطعها، كذلك لا يستطاع التعويل على العقل، حين يتلقى صور الأشياء عن طريق الحاسة، في أن يكون أميناً في نقلها، إذ إنه في نقل انطباعاته يخلط بين طبيعته الخاصة وطبيعة الأشياء».
وبيكون يأخذ ضمنياً بنموذج مادي للعقل حين يقول: إن العقل، «في نقل انطباعاته، يخلط بين طبيعته الخاصة وطبيعة الأشياء». ولكن إذا لم يكن في مقدور الإنسان أن يثق بحواسه ولا بعقله فكيف له أن يتحقق من أي شيء؟ في اعتقاد بيكون أن لديه البلسم الشافي: إنه التجربة. فهو يأمل أن يصحح خداع الحواس «بتجارب تستنبط بمهارة وببراعة بقصد البت في المسألة. فأنا لا أقيم كبير وزن لإدراك الحاسة المباشر في حد ذاته، ولكنني أحتال للأمر بحيث تقف وظيفة الحاسة عند الحكم على التجربة، ثم تقوم التجربة ذاتها بإصدار الحكم».ولكن في هذه النقطة، يثور السؤال الجلي التالي: إذا لم يكن في المستطاع أن نعول على الحواس في نقل صورة صادقة للعالم فكيف نعول عليها في نقل التجارب؟ وبيكون لا يحل هذه المعضلة، ولكنه يصر على أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف العالم إلا بالاختبار العلمي. ويؤكد بيكون أن «طبيعة الأشياء أيسر كشفاً عن ذاتها تحت ضغط الحيلة البارعة منها وهي تمتع بحريتها الطبيعية». ومنذ عهد بيكون أكدت النظرة القديمة أولوية الاختبار على التجربة العادية.
أما غاليلو فيعتبر الرياضيات السمة الرئيسة للمنهج العلمي الذي يستطيع وحدة تمكين الإنسان من اكتساب معرفة صحيحة بالعالم الطبيعي. فهو يقول عن الكون: «نحن لا نستطيع أن نفهمه ما لم نبدأ أولاً بتعلم اللغة التي كتب بها ونستوعب رموزها. وهذا الكتاب مكتوب باللغة الرياضية، والرموز الواردة فيه هي مثلثات ودوائر وأشكال هندسية أخرى، لولاها لكان من المستحيل فهم كلمة واحدة منه، ومن دونها يهيم المرء عبثاً في متاهة مظلمة».
ويرى غاليليو أن الرياضيات هي المنطق الجديد للعلم: «نحن لا نتعلم الاستدلال من كثيبات المنطق، بل من الكتب الزاخرة بالبراهين، وهي كتب الرياضيات لا كتب المنطق».
وهو مطمئن إلى أن الرياضيات هي مفتاح سر الطبيعة نظراً لاكتشافاته العديدة في مجال الميكانيكا حيث تسير الظواهر الطبيعية وفقاً لمبادئ الهندسة. وهذه الوفرة من الحقائق الرياضية في العلم الطبيعي توحى إلى غاليليو أن العالم الذي يقع خارج العقل مكون من خواص رياضية فقط. وفي كتاب له صدر عام 1623 تحت عنوان «المختبر» (The Assayer) يشرح المعنى الذي يفهمه من المادة: «كلما تصورت أي جسم مادي أو عيني أشعر تواً بالحاجة إلى تخيله شيئاً له حدود، وله هذا الشكل أو ذاك، وأنه كبير أو صغير بالقياس إلى أشياء أخرى، وأنه في مكان ما محدد في أي وقت معين، وأنه متحرك أو ساكن، وأنه ملامس أو غير ملامس لجسم آخر، وأنه وحيد عددياً أو هو قليل الوجود أو كثيرة. فأنا لا أستطيع أن أفصل مثل هذا الجسم عن هذه الظروف مهما أطلقت لخيالي العنان».
وهذا يعني، بعبارة واحدة، أن المادة تتمثل في مقادير وقيم رياضية. وخواص المادة الكمية والقابلة للقياس، كالحدود والشكل والحجم والمكان والزمان والحركة والملامسة والعدد، هي وحدها التي يمكن اعتبارها جزءاً من العالم الحقيقي. أما لماذا نجد غاليليو مطمئناً كل هذا الاطمئنان إلى أن هذه الخواص موجودة في الأجسام الخارجية فذلك لأنه لا يتصور وجود جسم من غيرها يقول: «إنني لا أستطيع أن أفصل عن هذه الظروف أي جسم مهما أطلقت لخيالي العنان». وهذا يستتبع ضمناً أن تيقننا من حقيقة هذه الخواص يرجع إلى الطريقة التى لابد لنا من أن نفكر بها، أي من طبيعة عقولنا ذاتها.
وماذا عن الخواص غير الرياضية؟ من أين تأتي؟ غاليليو يرى أنها لا تأتي من العالم، بل من عندنا نحن. يقول: «إن الكثير من الأحاسيس التي يفترض أنها خواص كامنة في الأجسام الخارجية ليس له وجود حقيقي إلا فينا». وهو يشرح ذلك بقوله: «أعتقد أن هذه الطعوم والروائح والألوان وغيرها، على هامش الشيء الذي يبدو أنها كامنة فيه، ما هي إلا مجرد أسماء، وهي لا تكمن إلا في الجسم رقيق الإحساس، بحيث ستتلاشى كل واحدة من هذه الخصائص وتبيد لو أزيل الحيوان «إلا أنه لا يطلق الحكم نفسه على الخواص الرياضية، بل يقول: «لو نزعت الآذان والألسنة والأنوف لبقيت الأشكال والأرقام والحركات، لكن دون الروائح أو الطعون أو الأصوات».
ولقد رأينا في الفصول السابقة كيف تزعم النظرة القديمة أن لا وجود، في نظر العلم، إلا للمادة. أما هنا (في نظرية غاليليو) فنجد تكثيفاً لهذا الادعاء يذهب إلى أن السمات الكمية للأشياء هي وحدها الحقيقة. أما الألوان والروائح والمذاقات والأصوات (ولعلنا نستطيع أن نضيف الجمال والغائية) فليست جزء من العالم الحقيقي.
وعلى ذلك، ووفقاً للنظرة العلمية القديمة، فليس هناك عالم واحد، بل عالمان اثنان. فمنذ عصر بيكون وغاليليو تبنت النظرة القديمة الفصل التام بين عالم العقل وعالم المادة، بوصف ذلك جزءاً من المنهج العلمي. ثم جاء حين أطلق فيه على هذين الشطرين اسماً «الذاتي» و «الموضوعي» (بدأ الاستعمال الحديث لهاتين العبارتين في القرن السابع عشر). وتترتب على هذا التقسيم إلى عالمين اثنين ثلاث نتائج من حيث المنهج العلمي. أولاً: أن على العلم، في النظرة القديمة، أن يدرس عالم المادة «الموضوعي» لا ملكوت العقل «الذاتي»، إذ إن هدف العلم هو وصف العالم دون الرجوع إلى العقل. ثانياً: أن يصبح الارتياب والتشكك جزءً أصيلا من المنهج العلمي. ثالثاً: أن المنهج العلمي، باستخدامه التجارب وبالتعبير عن نفسه بلغة الرياضيات، هو وحده الذي يقدم معلومات عن العالم.
وقد كان لآراء النظرة القديمة هذه آثار حاسمة على الفلسفة والفنون. ففي الإمكان أن تفهم الفلسفة الحديثة بوصفها تجلياً تدريجياً لنتائج افتراض كون الإحساس والفهم تغيرين مادتين. فديكارت، الذي يعد أبا الفلسفة الحديثة، يصف الإدراك الحسي كما لو كان نشاطاً من أنشطة المادة فيقول: «علينا أن نفكر أن الشكل الخارجي للجسم المحس يتغير فعلاً بالشيء المحسوس تماماً كما يتغير سطح الشمع بالختم». وقد أفضت هذه البداية بديكارت إلى الارتياب في حواسه وعقله تماماً كما فعل بيكون. فهو يتساءل: ما الذي يضمن أن أياً من أفكاري وأحاسيسي يمثل أي شيء خارج كياني؟ ولكنه لا يلبث أن يرى أنه لا يستطيع أن يشك في أن أفكاره هو موجودة. فحتى لو كانت هذه الأفكار لا تمثل شيئاً خارج نطاق عقله فهي مع ذلك حقيقة. فالتفكير ذاته حقيقة لا سبيل إلى الشك فيها. ومن ثم فهو يقول كلمته المأثورة: «أنا أفكر، إذاً أنا موجود». وعند ديكارت أن «الأنا» هي أدنى إلى اليقين من وجود العالم.
ويكاد كل الفلاسفة الذين جاءوا من بعد ديكارت يلتزمون بهذا المنطق المتسم بالذاتية، مبتدئين بالذات المفكرة بدلاً من العالم. ولا تزال هذه تعتبر البداية الطبيعية للفلسفة حتى يومنا هذا. من ذلك مثلاً أن جان بول سارتر (Jean Paul Sarter) يعلن أن «ذاتية الفرد هي حقاً نقطة انطلاقنا، وذلك لأسباب فلسفية بحصر المعنى. فلا يمكن أن تكون هناك حقيقة أخرى ننطلق منها عدا هذه: «أنا أفكر، إذاً أنا موجود». فنحن بذلك نملك الحقيقة المطلقة: حقيقة الوعي الذي يصبح واعياً لذته». ويوافق ألبير كامو (Albert Camus) على هذا فيقول: «كل شيء يبدأ بالوعي ولا شيء يساوي شيئاً من دونه».
إذاً فالحقيقة اليقينية الأولى عند ديكارت ليست العالم، بل الذات المفكرة وبنقطة الانطلاق هذه يصبح وجود العالم وجود العالم ووجود عقول أخرى مشكلة جدية لدى ديكارت، ولدى جميع مذاهب الفلسفة الغربية التي جاءت من بعده. ويستخدم ديكارت وسيلتين للاستدلال على وجود العالم خارج ذاته، وهما فكرته عن الله وأفكاره هو الواضحة والمتميزة. أما المفكرون الذين جاءوا من بعده فلم يكونوا مقتنعين بأي من هاتين الوسيلتين. وعلى حد قول أحد المؤرخين كان كل الناس مقتنعين بوجود العالم الخارجي إلى أن برهن عليه ديكارت. ولكن العالم الذي يزعم ديكارت استعادته بعد تبدد شكوكه في الكون، بصرف النظر عن مدى صحة منهجه أو عدم صحته، ليس عالم التجربة العادية الذي انطلق منه، بل هو عالم المادة لدى غاليليو، العالم الذي لا يقوم فيه العقل بأي دور. فالمادة ذاتها عند ديكارت تفتقر إلى كل خواص الإدراك باستثناء الكم، والكون المادي كله، بما فيه جسم ديكارت نفسه، آلة تتصرف بفعل الضرورة الميكانيكية.
وديكارت، برغم الحتمية المادية التي يقول بها، يحاول القول بوجود إله وبأن العقل البشري غير مادي. ولهذا السبب قد يخلط المرء، للوهلة الأولى، بين فلسفته وبين النظرة العلمية الجديدة. ولكن من شأن إنعام النظر في هذه الفلسفة أن يبين أن ديكارت يصر أيضاً على العناصر لجوهرية التي تتكون منها صورة العالم في النظرة العلمية القديمة. فهو، كما رأينا في الفصلين الثالث والرابع، يبعد الجمال والغائية عن مجال العلم الطبيعي. كما يأخذ بتقسيم غاليليو لخواص الحواس إلى خواص يعتبرها حقيقة، وأخرى لا وجود لها إلا في العقل. والعالم الذي ينتهي إليه ديكارت بعد شكوكه المريبة هو عالم غاليليو الرياضي الميكانيكي، عالم لا يفسح مجالاً لحرية الاختيار، أو الجمال، أو الغائية، أو العقل. يضاف إلى ذلك أن هذا العالم لا يقدم لديكارت دليلاً على وجود الله ولا على وجود روح في الإنسان. فجميع حجج ديكارت بصدد هذه المعتقدات تستند إلى الاستبطان الآتي من داخل عقل ديكارت وحده. وهذا يغاير تمام المغايرة النظرة العلمية الجديدة، التي تستمد أدلتها على وجود الجمال وحرية الاختيار والغاية والله لا على مادية العقل من العالم ذاته: الانفجار العظيم، والمبدأ الإنساني، ومبحث الأعصاب الحديث، وفيزياء القرن العشرين.
وديكارت يجد نفسه موزع الهوى بين عالمين متنافرين: عالم المادة الميكانيكي الخارجي، وعالم العقل الداخلي غير المرتبط بالأول. وهو لا يفلح أبداً في التوفيق بينهما، ويحاول المفكرون الذين جاءوا في أعقابه أن يحلوا هذا التوتر إما بنفسي لا مادية العقل وتوكيد مادية كاملة، وإما بإنكار العالم والإصرار على عقل ذاتي صرف، وهكذا يغلب على الفلاسفة المعاصرين أن يكونوا إما مادتين وإما مثاليين.
ويعد ديكارت اختزل عالم التجربة العادية اختزالاً آخر على يد الفيلسوف جورج باركلي (George Berkeley) الذي يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه غاليليو وديكارت. فباسم الدفاع عن الدين من تحدي علم النظرة القديمة يحاول باركلي أن يضعف الثقة بالمادية بإنكاره وجود المادة. وتنصب إحدى حججه على مهاجمة المركز ذي الامتياز الذي يحظى به ما يعرف باسم الخواص الموضوعية فيقول: «فلينظر أي كان تلك الحجج التي يعتقد على ما يبدو أنها تثبت ألا وجود للألوان والطعون إلا في الذهن، فسيجد أن في المستطاع استخدام هذه الحجج ذاتها بالقوة نفسها لإثبات الشيء ذاته فيما يتعلق بالامتداد والشكل والحركة». بل إن باركلي يستعير بعضا من حجج أسلافه لإقامة الدليل على صحة هذه الدعوى. من ذلك مثلا أنه يسترعي الانتباه إلى أن أي جسم، إذا قرب إلى العين، يبدو أكبر حجماً مع أنه ليس هناك تغير حقيقي في هذا الجسم. ومن هنا يخلص إلى أن الحجم ليس شيئاً مطلقاً في الجسم، بل هو مجرد تصور ماثل في أذهاننا.
وباركلي يقول إن جوهرية المادة تغدو فرضية لا حاجة إليها، إذ لم تعد هناك ضرورة لدعم الامتداد والحركة وغير ذلك من الخواص الرياضية. ولما كانت جميع الخواص مجرد أفكار في عقولنا فهو ينتهي من ذلك إلى أن الضرب الوحيد من الوجود الجوهري هو الذات أو العقل الذي توجد فيه جميع الأفكار. وهكذا لا يعترف باركلي إلا بالوجود الروحي. يقول: «لا وجود بالمعنى الضيق للكلمة إلا لأشخاص، أي لأشياء واعية. أما الأشياء الأخرى فوجودها لا يعدو أن يكون نوعاً من وجود الأشخاص».
وبهذه الطريقة يعجل باركلي بأقوال العالم الذي كان قد بدأه غاليليو وديكارت. ففي فلسفة باركلي تختفي المادة ذاتها من العالم، فلا يبقى إلا عالم الروح. أما الخطوة التالية، التي تكاد تكون محتومة، فقد خطاها ديفيد هيوم (David Hume) الذي يأخذ بالظواهرية (Phenomenalism) الكاملة وينكر كلا من عالم المادة وعالم الروح. ففي أي هيوم لا شيء يبقى إلا المدركات الذاتية نفسها. وهو بالإضافة إلى ذلك هجوماً شكوكياً، أصبح مشهوراً هذه الأيام، على معرفة الإنسان بالعلة والمعلول، ليختزلها إلى مجرد عادة.
لقد اكتمل كسوف العالم، فلا سبيل إلى معرفة المادة. ولكن إذا صح ذلك فالعلم نفسه يغدو مستحيلاً. فإذا كنا لا نعرف شيئاً سوى إدراكاتنا وأفكارنا فكيف نستطيع ممارسة الفيزياء؟ وكيف يمكن لفيزياء نيوتن أن تتنبأ بالظواهر؟ إن امانويل كانت (Immanuel Kant) ينبري لحل هذه المشكلة بالذات، وهو إذ يسلم لهيوم بأن الخبرة الإنسانية لا تعدو أن تكون سلسلة من الإدراكات أو الظواهر، يقوم بمحاولة بارعة لإرساء ضرورة القوانين العلمية لا في الطبيعة، بل في بنية العقل البشري. ويقول كانت إن قوانين العلم الطبيعي ذات طابع عالمي لمجرد أن الإنسان لا يقدر أن يفكر في الأشياء الطبيعية بأي طريقة أخرى: «الفكر لا يستمد قوانينه من الطبيعة، ولكنه يفرضها عليه»ويمكن تبين أحد آثار هذا النهج في احتجاج غاليليو بأن الخواص الرياضية لابد من وجودها في المادة لأنه لا يتصور خلو أي جسم منها.
ويرى كانت أن الفيلسوف هو الذي يجب أن ينهض بمهمة تحديد ووصف مختلف أصناف العقل الضرورية والأشكال البديهية التي يفرضها الإحساس على الأشياء. ويعلن كانت، وهو يحاول ذلك، أن المكان الإقليدي وجميع مقولات نيوتن في الفيزياء هي الطريقة الحتمية التي لابد للعقل البشري- بحكم تكوينه ذاته- من أن يفهم بها العالم المادي. ومن الملاحظ أن استمداد عالمية العلم وضرورته من بنية العقل يستلزم وجود النموذج المادي للعقل الذي شاهدناه في بداية هذا الفصل.
ويذهب كانت إلى أن حرية الإرادة والخلود والله كانت مسلمات ضرورية للأخلاق، أمور لا سبيل إلى إثباتها، وأن العالم المادي لا يقدم أي دليل يؤيد هذه المعتقدات. وهذا التناقض الظاهري ناشئ عن اشتمال فلسفة كانت على عالمين، لا عالم واحد. فهناك أولاً العالم الداخلي للعقل الذي يتراءى لنا فيه أننا أحرار في تصرفاتنا، وهناك ثانياً عالم الظاهرات الخارجية التي تخضع لقوانين فيزياء نيوتن الحتمية. وهكذا نرى كانت، شأنه في ذلك شأن ديكارت، يشعر أنه مضطر إلى افتراض وجود عالمين لا سبيل إلى التوفيق بينهما.
وفي أعقاب ذلك حاول جورج هيغل (Georg Hagel) أن يتغلب على أسباب التوتر والتنافر بين عالمي كانت، بافتراضه أن عالم الظواهر الخارجية هو من إسقاط العقل ذاته. ويحاول هيغل أن يبني نظاماً ذهنياً بكليته، لا يكون فيه الفن والدين والعلم، والتاريخ الإنساني وكل الطبيعة، بما في ذلك «الشيء نفسه»، جميعها سوى مخلوقات من صنع العقل البشري الجماعي، أو «الروح المطلقة» كما يسميها هيغل. فبينما يقول بيكون إن العقل، «في نقل انطباعاته، يخلط بين طبيعته الخاصة وطبيعة الأشياء»، يذهب هيغل إلى أن انطباعات العقل هي طبيعة الأشياء. وعند هيغل أن الوعي الإنساني الجماعي ذاته هو علة كل الموجودات ومصدرها وتفسيرها, فالعقل هو الذي يخلق الواقع ويخلق العالم ويخلق الحقيقة. ويزعم هيغل أنه حقق بذلك وحدة كبيرة بين العالم والعقل. ولكن بأي ثمن؟ ما قيمته «حقيقة» هي مجرد ابتداع ذهني محض؟ فهي لا تقول لنا شيئاً عن العالم الذي يقع خارج أفكارنا نحن. وتنزع الفلسفة المعاصرة، كرد فعل إزاء نظام هيغل، إلى الارتياب في كل الفكر التأملي، الذي تعتبره مجرد تركيب نظم مصطنعة ابتدعها العقل البشري. ومن المفترض عموماً أن التوصل إلى أي حقيقة عن العالم أمر مستحيل. يقول سارتر: «باستثناء عبارة ديكارت «أنا أفكر، إذاً أنا موجود»، كل الآراء لا تتجاوز نطاق الاحتمال». أو كما يقول ألبير كامو: «جميع الأفكار مصوغة على طريقة البشر. والعقل الذي يهدف إلى فهم الواقع لا يكتفي إلا بحصره في أنماط فكرية». فكل تفكير هو تشويه أو اختراع. ويفترض كامو ضمنياً، شأن جميع أسلافه منذ بيكون وغاليليو أن الحواس والعقل يتأثران بطريقة التأثير نفسها في المادة. ويلزم من ذلك بالضرورة أننا لا نستطيع ان نعرف إلا إدراكاتنا، لا طبيعة الأشياء بذاتها لأن جميع الأفكار مصوغة على طريقة البشر.
أما الوجوديون الالحاديون فيشددون على خلو العالم من المعنى وعلى عدم إمكانية فهمه. يقول كاموا: «إن ما يتصف به العالم من تبلد وغرابة هو العبث بعينه». ثم يمضي متسائلاً «ما الذي يمكن أن يشكل أساس ذلك الصراع وتلك القطيعة بين العالم وعقلي إن لم يكن هو الوعي به؟» فلو لم يكن للإنسان عقل لاستطاع على الأقل أن ينعم بسعادة كسعادة الحيوان. ولكن حيث إن الإنسان ابتلى بعقل فهو المخلوق الوحيد الذي يبحث في أرجاء الكون عن معنى ليس بموجود. ما نفع العقل إذا لم يكن قادراً على معرفة أي شيء؟ ويحتج كامو قائلاً: «لو كنت شجرة بين الأشجار، أو قطا بين الحيوانات، لكان لهذه الحياة معنى، أو على الأصح لما كانت المشكلة مطروحة لأنني أكون منتمياً إلى هذا العالم –هذا العالم الذي أقاومه الآن بكل إدراكي-. إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني متضاداً مع كل الموجودات».
إن الفلسفة المعاصرة تتصف بيأس فكري كلي، هو التخلي عن أمل في معرفة العالم. ويلاحظ كاموا أن «الناس في هذا العصر، باستثناء العقلانيين المحترفين، يائسون من الوصول إلى المعرفة الحقيقية». والمضمون نفسه يأتي من جهات عديدة: العقل عاجز.
ويشتكي الفيلسوف فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche) من أن الفلسفة الحديثة بكاملها «تنحصر في نظرية عن المعرفة، وهي فلسفة لا تستطيع أن تتخطى عتبة ذاتها، وقد حرصت كل الحرص على إنكار حقها في الدخول. هذه بالتأكيد فلسفة تلفظ أنفاسها الأخيرة –إنها نهاية، واحتضار، وشيء يثير الشفقة». ويقترح نيتشه نفسه التخلي عن فكرة الحقيقة نفسها والاستعاضة عنها بإرادة القوة.
إذاً فكسوف العالم، في الفلسفة المعاصرة، كسوف كامل ومطلق. إن البذرة شديدة الضآلة، البريئة في الظاهر، التي زرعها بيكون وغاليليو في القرن السابع عشر قد استغرقت نبفا وثلاثمائة عام لتثمر في عصرنا هذا ثمرة اليأس الفكري المرة، والعدمية (Nihilism)، وانفصام الإنسان عن العالم. هذه هي المحصلة النهائية للفلسفة في إطار النظرة القديمة. وهذا يستتبع بالضرورة أنه، إذا كنا لا نستطيع أن نعرف أي شيء عن العالم فسنكون أيضاً قد خسرنا العلم. ذلك أنه هو أيضاً قد لا يعدو أن يكون نظام تراكيب عقلية وضع على طريقة البشر. وهكذا –ويا للتناقض- نجد أن النتائج الفلسفية التي انتهت إليها النظرة القديمة تفوض أركان هذه النظرة ذاتها.
هذا إلى أن الصراع في النظرة القديمة بين عالم العقل الذاتي وعالم المادة الموضوعي لا يسري في الفلسفة الحديثة فحسب، بل في الفن الحديث أيضاً.
فالرسام التعبيري الألماني فرانتز مارك، في معرض وصفه لأهداف فن المستقبل، يظهر المشاكل الفنية التي يثيرها وجود عالمين في النظرة القديمة فيقول: «سوف ينعتق الفن من حاجات الإنسان ورغباته. فنحن بعد اليوم لن نرسم غابة أو بيتاً كما يحلو لنا أو كما يبدو لنا، بل على ما هو عليه في الحقيقة». ولكن أني للفنان أن يعرف شيئً ما بطريقة غير تلك التي يبدو بها لناظريه أو لخياله أو لعقله؟ إن مشكلة «الشيء في ذاته» تؤرق الفنان المعاصر والفيلسوف على السواء.
والرسام بيت موندريان (Piet Mondrian) يناصر قضية الفن غير الرمزي لأنه «يبين أن» الفن «ليس تعبيراً عن نظهر الواقع كما يتراءى لنا، ولا تعبيراً عن الحياة التي نحياها، بل هو تعبير عن الواقع الحقيقي والحياة الحقيقية وهما غير قابلين للتعريف، ولكن قابلين للتحقيق في اللدائن». فالإنسان لابد من أن يطرد من عالم الفن تماماً كما هو مستبعد من عالم العلم «الموضوعي». ويلخص الرسام والناقد ادوارد وادزويرث (Edward Wadsworth) المبدأ الموضوعي في الفن فيقول: «لم تعد اللوحة نافذة يطل المرء من خلالها على جزء صغير جذاب من الطبيعة، ولا هي وسيلة لإظهار مشاعر الفنان الشخصية، ولكنها هي ذاتها شيء محسوس. فالرسام لا يرسم ما يراه، بل ما يعرف أنه موجود».
والأدب الحديث كذلك أحس بما تتطلبه الموضوعية. ويصح هذا بصفة خاصة على أولئك الأدباء الذين يحاكون عن وعي أساليب العلم. والمثل الأعلى الذي ينشده بعضهم هو أن يصبحوا كالمراقب الحيادي عند نيوتن. فهم يحرصون على تجنب إصدار أي حكم عن الخير والشر. ويزيد غوستاف فلوبير (Gustav Flaubert) المسألة إيضاحاً فيقول: «لا أظن أن على الروائي أن يعرب عن رأيه في شئون هذا العلم. ولذا ترانى أقتصر على بيان الأشياء كما تبدو لي، وعلى التعبير عما يبدو لي أنه الحقيقة. وينبغي للفن أن يرفع فوق مستوى الميول الشخصية والحساسيات العصبية. لقد آن لنا أن نضفي عليه دقة العلوم الفيزيائية باستخدام أسلوب شديد الصرامة».
ويعكس أنطون تشيكوف (Anton Chekhov) اليأس الفكري للنظرة القديمة قائلاً: إن على الكاتب أن يتحاشى إصدار أي حكم، شأنه في ذلك شأن مراسل صحيفة أو شاهد في محكمة: «ليس من شأن كتاب القصص الخيالي أن يحلوا مسائل كمسألة وجود اله، أو التشاؤم وما إلى ذلك. فمهمة الأديب تقتصر على وصف من كان يتحدث عن الله أو عن التشاؤم، وبأي طريقة، وفي أي ظروف. وليس للفنان أن ينصب نفسه حكماً على شخصياته أو على أحاديثهم، بل ينبغي له أن يكون شاهداً محايداً لا أكثر. لقد سمعت محادثة عابرة بين روسيين عن التشاؤم –وهي محادثة لا تحسم شيئاً-، وعلي أن أنقل تلك المحادثة كما سمعتها. أما الحكم على قيمتها فأمره متروك لهيئة التحكيم، أي للقراء. ومهمتي لا تعدو أن أكون موهوباً، أي أن أعرف كيف أميز الأقوال المهمة من غير المهمة، وكيف ألقي الضوء على الشخصيات وأتحدث بلغتهم. لقد آن للأدباء، وخصوصاً الفنانين منهم، أن يدركوا أنه لا سبيل إلى فهم أي شيء في هذا العالم».
والفن في النظرة القديمة، شأنه شأن الفلسفة، حبيس الصراع بين الموضوعية والذاتية. فلكي يكون الأثر الأدبي «موضوعياً» يبدو أن عليه أن يتفادى القيم والمضمون فيصبح بالتالي قصة إكلينيكية. أما إذا كان الأثر الأدبي «ذاتياً» فهو لا يرتفع عن مستوى المزاج الفردي، و «الحساسيات العصبية». وعلى هذا الاعتبار يصبح شكسبير مجرد رد فعل مزاج بعينه إزاء إنكلترا في عصر الملكة اليزابيث، وموزارت (Mozart)، ومايكل أنجلو (Michelangelo) مجرد تعبيرات عن العصرين اللذين عاشا فيهما. ويزيد في تعقيد الأمور أن الجمهور لا يستطيع أن يرى شكسبير إلا من خلال العدسة الخاصة التي ينظر بها هذا الجمهور إلى عصره. وهذا الوضع يبدو ميؤساً منه. يقول أناتول فرانس (Anatole France) شاكياً: «ليس هناك شيء اسمه نقد موضوعي مثلما أنه ليس هناك فن موضوعي. وكل الذين يزدهون بأنهم يضعون أي شيء في آثارهم إلا أنفسهم منخدعون بأكذب الأوهام. فالحقيقة هي أن المرء لا يملك أبداً أن يتجرد من ذاته. ونحن محبوسون في داخلنا كما لو كنا في سجن مقيم. ويبدو لي أن أحسن ما نستطيع عمله هو أن نعترف عن طيب خاطر بهذا الوضع الرهيب، ونقر بأننا نتحدث عن أنفسنا في كل مرة لا نقوى فيها على الصمت. وإذا أراد الناقد أن يتوخى الصراحة كل الصراحة فعليه أن يقول: «أيها السادة، سوف أتحدث عن نفسي حول موضوع شكسبير، أوراسين، أو باسكال، أو غوته».
لقد تلاشت الحقيقة، فلم يبق هناك إلا وجهات نظر.
وقبل أن ننتقل إلى النظرة الجديدة، لنلخص بإيجاز ما رأيناه حتى الآن. إن زعم النظرة القديمة أن الإحساس تغير مادي يعني ضمنا استحالة معرفة العالم. ولإنقاذ العلم يقسم غاليليو العالم إلى نطاق عقل «ذاتي»، وإلى عالم «موضوعي» رياضي. ومن هنا ينبغي للعلم، إذا أراد معرفة العالم، أن يعتمد لا على الخبرة العامة، بل على التجارب المتخصصة والرياضيات. على أن الفلسفة الحديثة تكشف تمام الكشف عما يترتب على نظرية الإحساس والفهم المادية من نتائج، مبينة أن نهجا كهذا يفضي إلى كسوف العالم التدريجي، وإلى يأس فكري محتمل، وسخافة تمتع الإنسان بعقل، وتفويض أركان العلم ذاته. وأخيراً فإن الفن في النظرة القديمة يشله الصراع بين الموضوعية والذاتية، وهو فن عاجز عن إدخال القيم في موضوعاته وعن تحديد شخصيته بمعزل عن فكرة انعكاس المزاج.
أما مبحث الأعصاب في القرن العشرين فهو يؤكد، على نقيض النظرة القديمة، أن الإدراك الحسي ليس تغيراً مادياً ولا نشاطاً من أنشطة المادة (أنظر الفصل الثاني). إن شرنغتون واكلس وبنفيلد يتفقون على أن التغيرات الفيزيائية في عضو الحس وفي مسارات الأعصاب وفي الدماغ توصلنا إلى عتبة الإحساس فقط. والإدراك الحسي، وإن كان يقتضي تغيراً مادياً، هو في ذاته غير مادي. وهذا يعني أن الإحساس عمل سلبي صرف وعملية تلق محض. وملكة الإدراك لا تخلط، كما كان بيكون يظن، بين طبيعتها هي وطبيعة الأشياء لأنه ليس له طبيعة مادية. والشيء نفسه يصح بدرجة أكبر على العقل البشري الذي ليس له عضو بدني على ما يظهر.
وإذا كانت حواسنا لا تضيف شيئاً إلى الجسم المحس فالذي تنقله إلينا لابد من وجوده في العالم. وهذا يعني أن ليس هناك إلا عالم واحد –عالم تعرفنا به حواسنا تعريفاً صحيحاً- وكما يقول شرودنغر: «العالم ينقل إلي مرة واحدة فقط. فليس هناك عالم موجود وآخر محسوس. والذات والموضوع شيء واحد لا غير. ولا يصح أن يقال إن الحاجز الذي يفصل بينهما قد انهار نتيجة التجربة الأخيرة في العلوم الفيزيائية لأن هذا الحاجز غير موجود «. وقد قادتنا اكتشافات مبحث الأعصاب في القرن العشرين إلى الإقرار بأن هذا الحاجز لم يكن له وجود قط.
وعندما يقف شخص على ميزان فتشير إبرته إلى الرقم «187» يكون هذا الرقم حقيقة تنصب على كل من الإنسان والميزان. وبالطريقة نفسها فالمعرفة حقيقة تنصب على العارف وعلى الشيء المعروف. والتقسيم إلى عالمين أحدهما «موضوعي» والآخر «ذاتي» ليس طبيعياً ولا حتمياً، ومن المؤكد أنه ليس من الأسلوب العلمي في شيء. ولا حاجة لنا بهذا التقسيم لاكتشاف أي حقيقة عن العالم، بل إنه –إذا أخذ مأخذ الجد- يجعل معرفة العالم أمراً مستحيلاً كل الاستحالة. وتقسيم العالم إلى اثنين أحدهما «ذاتي» والآخر «موضوعي» ليس ضرورياً إلا في المذهب المادي الذي تأخذ به النظرة العلمية القديمة. وما دامت النظرة الجديدة لا تسلم بصحة المادية فلا داعي لها أن ترفض إدراكاتنا كتجارب «ذاتية» وتقسم العالم إلى جزأين اثنين. ويخلص اكلس إلى أن «هذا التمييز بين الموضوعي والذاتي وهم من الأوهام».
فإذا كانت ثنائية الموضوعية والذاتية تقسيماً كاذباً للتجربة، فما هو التقسيم البديل الذي تقدمه النظرة الجديدة؟ أن فيرنر هايزنبيرغ يجيب عن ذلك بما يلي: «منذ عصر غاليليو كانت التجربة تشكل المنهج الأساسي الذي قام عليه العلم الطبيعي. وقد أتاح المنهج الانتقال من الخبرة العامة إلى الخبرة المتخصصة، أي إلى اختيار حوادث مميزة في الطبيعة يمكن منها دراسة «قوانينها» بصورة مباشرة أكثر مما تفعله الخبرة العامة».
وتقسيم الخبرة إلى خبرة عامة وخبرة متخصصة تقسيم صحيح. فالخبرة العامة مثلا تكفي لتدلنا على أن الأجسام الثقيلة تسقط، ولكن الخبرة المتخصصة (كالتجارب والقياسات والحسابات الرياضية) تكون ضرورية إذا أردنا أن نعرف ما هي سرعة سقوط الأجسام الثقيلة، أو هل يكون سقوطها حركة متماثلة أم متسارعة.
والرياضيات لا تسقط التفكير العادي من الفيزياء. فأول تصور لنظرية فيزيائية هو تصور غير رياضي. ويبدي أينشتاين الملاحظة التالية: «الأفكار الجوهرية تقوم بأهم دور في صوغ النظرية الفيزيائية، والكتب التي تتناول علم الفيزياء مليئة بالمعادلات الرياضية المعقدة. غير أن التصورات والأفكار، لا المعادلات، هي البداية لكل نظرية فيزيائية. وفي وقت لاحق لابد للأفكار من أن تتخذ الشكل الرياضي لنظرية كمية لتجعل في الإمكان المقارنة بالتجربة».
بل إن العالم حين يعبر عن اكتشافاته لا يستطيع أن يعتمد على الرياضيات أو على المصطلحات التقنية الداخلة في حقل اختصاصه دون غيرها، إذ لابد له من تركيب فرع اكتشافه في جذع الخبرة العامة التي تعبر عن نفسها باللغة الدارجة. ويصر هايزنبيرغ على أن «الوصف بلغة واضحة، حتى فيما يتعلق بالفيزيائي، يعد مقياساً لمدى الفهم الذي تم التوصل إليه». ويضيف نيلز بور أن «أي وصف للتجربة الفيزيائية يستند بالطبع، في نهاية المطاف، إلى لغة مشتركة مكيفة وفقاً لتوجيهات محيطنا ولتتبع العلاقات القائمة بين العلة والمعلول».
على أن النظرة العلمية القديمة ترفض الخبرة العامة إذ تعتبرها غير جديرة بالثقة. ويحاول بيكون وغاليليو ديكارت الاستعاضة عنها بخبرة العلم المتخصصة. إلا أن علماء النظر الجديدة يولون الخبرة العامة اهتماماً كبيراً، مشيرين إلى أن العلم لا يحل محلها، بل هو يبني عليها بوصفها أساساً له. ويعلن هايزنبيرغ، مثلا، أن «من أهم سمات تطوير وتحليل الفيزياء حديثة التجربة المتمثلة في أن مفاهيم اللغة الطبيعية، على ما يكتنف تعريفها من غموض، تبدو أكثر ثباتاً في توسيع نطاق المعرفة من الاصطلاحات الدقيقة للغة العلمية، المشتقة كنموذج مثالي من مجموعات محددة من الظواهر فحسب. والواقع أن هذا لا يدعو إلى الدهشة إذ إن مفاهيم اللغة الطبيعية تصاغ بالاتصال المباشر بالواقع. إنها تمثل الواقع».
فالخبرة العامة متصلة اتصالاً مباشراً بالواقع وبالعالم. وبوجود هذه الخبرة لا تتدخل بيننا وبين العالم أي نظرية، أو وسيلة، أو وساطة أخرى. فللخبرة العامة بداهة حاسة اللمس التي تطل دائماً على ما تدركه. ويواصل هايزنبيرغ حديثه عن الموضوع ذاته فيقول: «المفاهيم العلمية ذات صياغة مثالية. فهي مشتقة من الخبرة المستفادة بوسائل تجريبية مصقولة ومحددة تحديداً دقيقاً. غير أنه من خلال عملية الصياغة المثالية والتعريف يفتقد الاتصال المباشر بالواقع. والمفاهيم لا تزال تطابق الواقع مطابقة دقيقة جداً في ذاك الجزء من الطبيعة موضوع البحث، غير أن المطابقة قد تزول في أجزاء أخرى تشتمل على مجموعات أخرى من الظواهر».
إن استرجاع النظرة الجديدة للخبرة العامة يعيد العالم مرة أخرى إلى الإنسان، لا عالم غاليليو أو عالم ديكارت، المجرد من معظم خواص الحواس ومن العقل، ولا أيا من العوالم الذاتية الأضيق أفقاً لدى باركلي، أو هيوم، أو كانت، أو سارتر، بل العالم الذي نعيش فيه بكليته وثرائه. وقد سبق لنا أن رأينا في الفصول الثاني والثالث والخامس كيف أن النظرة الجديدة تؤيد ما كانت الخبرة العامة تقوله دائماً عن قدرتنا على حرية الاختيار، وعن جمال الطبيعة، وعن ماهية الإنسان. ويلاحظ سبري أن العالم «كان يعتبر مسألة تقرها الفطرة السليمة إلى أن جاس العلم وأخذ يقول لنا خلاف ذلك. ومنذ ذلك الحين كان هناك صراع متزايد بين العلماء وسائر أفراد المجتمع حول مفهوم الحضارة والنظرة إلى العالم. وكان هذا الصراع يبلغ ذروة الحدة في العلوم الإنسانية، وخصوصاً في فروع المعرفة التي تعني أكثر من غيرها بالقيم الأخلاقية. وربما كان كلامي في هذا المقام اعترافاً فعلياً بأن العلوم الإنسانية والفطرة السليمة كانت منذ البداية تسير في الاتجاه الصحيح، وبأننا نحن المشتغلين بالعلوم قد ضللنا الطريق».
ويضيف هايزنبيرغ قائلاً: إن الاعتراف بالخبرة العامة يستلزم بالضرورة نظرة إلى العالم تغاير النظرة القديمة: «إذا وضع المرء نصب عينيه الاستقرار الجوهري لمفاهيم اللغة الطبيعية في مسيرة التطور العلمي فسيلاحظ، بعد تجربة الفيزياء المعاصرة، أن موقفنا من مفاهيم معينة كالعقل، أو الروح الإنسانية، أو الحياة، أو الله يختلف عن مفاهيم القرن التاسع عشر، لأن هذه المفاهيم تنتمي إلى اللغة الطبيعية وهي بالتالي ذات اتصال مباشر بالواقع».
eeww2000
12-14-2004, 03:57 AM
وهناك نتيجة إضافية هي أن العلم مؤسس على اليقين، لا على الشك. فإذا كان هناك في أي وقت تشكيك في نظرية ما يستطيع المرء أن يلجأ إلى حقيقة أعم وأكثر ثباتاً. فالشك ليس مبدأ من مبادئ الاكتشاف العلمي. إن الدهشة، لا الشك، هي التي تبث الحياة في العلوم. ويلاحظ ايرون شرودنغر أن «حب الاستطلاع هو الحافز. فأول شرط ينبغي توفره في رجل العلم هو حبه للاستطلاع. ولابد له من أن يكون قادراً على الاندهاش وتواقا إلى اكتشاف الحقيقة». فالقدرة على التساؤل هي التي تميز العالم الكبير. ويشهد الفيزيائي ليوبولد انفلد (Leopold Infled)، معاون أينشتاين، على ما كان أينشتاين يتسم به من قدرة عظيمة على التساؤل، فيقول: «منذ كان أينشتاين في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره (هذا ما قاله لي في مناسبات عديدة) كان يطيل النظر في هذه المسألة: ما الذي سيحدث لو أن شخصاً ما حاول الإمساك بشعاع من الضوء؟ لقد فكر في هذه المسألة ذاتها سنوات طويلة فانتهى بأن قاده حلها إلى نظرية النسبية. ونحن نرى في هذا المثال الواحد بعضاً من السمات الهامة لعبقرية أينشتاين. وأول هذه السمات وأهمها القدرة على التساؤل».
والنظرة القديمة تعتبر القوة أو المنفعة هدف العلم. ومن هنا مساواة بيكون المشهورة بين العلم والقوة. فالنظرة القديمة تتصور العلم إما محاولا غزو طبيعة معادية والسيطرة عليها، وإما ساعياً وراء نعيم مادي مثالي على الأرض من خلال مخترعات علمية بارعة. ولكن إذا كان التساؤل، وفقاً للنظرة الجديدة، هو الذي يستحث العلم فليست القوة إذا هدفه، بل التفكر في الحقيقة. ويعلق انفلد على ذلك بقوله: «من الخطأ أن يفترض أن تطوير العلم بأكمله هو نفعي الطابع. إنه ليس كذلك، فالكثير من تأملاتنا في الذرات وفي الكون إنما تولد من حب الإنسان للاستطلاع، ومن رغبته في التغلغل إلى أعمق أعماق المجهول. فالقيمة النفعية للعديد من نظرياتنا قد تكون صفراً، ولكنها تعيننا على فهم العالم الذي نعيش فيه».
واسترجاع الخبرة العامة في النظرة الجديدة يعود علينا بمنفعة أخرى: فهو يتيح قيام وحدة جديدة بين العالم المتخصص والرجل العادي. فالتخصص الشديد يخلق صعوبات في كافة حقول المعرفة. يقول شرودنغر: «التخصص ليس فضيلة، ولكنه شر لابد منه»، وهو يضيق أفق العقل إذا كان مفصولاً عن فهم أعم. ويبدي عالم الرياضيات موريس كلاين (Morris Kline) هذه الملاحظة: «إن ثمن التخصص هو العقم. وربما تطلب التخصص براعة فائقة، ولكن قلما يكون ذا معنى». ويؤكد شرونغر مبدأ يقول: إن «المعرفة المعزولة التي تحصلها طائفة من المتخصصين في حقل ضيق لا قيمة لها البتة إلا إذا أدمجت في سائر حقوق المعرفة» والمعرفة الناشئة عن الخبرة العامة تتيح أرضية مشتركة يستطيع أن يلتقي عليها جميع المتخصصين في العلوم والفلسفة والفنون. ولو حاول المرء الاستعاضة عن الخبرة العامة بالمعرفة المتخصصة، كما تقترح النظرة القديمة، لتعسر وجود أي سبب للاتصال فيما بين المتخصصين، أو بين المتخصص وغير المتخصص. ويصر شرودنغر على أنه في أي علم أو حقل من حقول المعرفة «إذا كنت لا تستطيع، على المدى البعيد، أن تروي لكل الناس ما كنت تعمله فعملك كله عديم الجدوى».
أما بخصوص الفلسفة فالنظرة العلمية الجديدة تتدارك ما يعيب لفلسفة منذ ديكارت من فقر في الخبرة. ويعلق كارل فون فايتزساكر على ذلك بقوله: «إن الذات التي يتحدث عنها ديكارت ذات منزوية. فصلاتها الطبيعية بالواقع مبتورة. لا ذات غير ذات ديكارت تستطيع أن تزعم أن تفكيرها وحده هو الحقيقة المباشرة الوحيدة». والنظرة الجديدة لا ترى سبباً يمنع من أن يكون عالم العالم وعالم الفيلسوف هو عين العالم الذي نعيش جميعنا فيه. ويدعو فكتور فرانكل إلى الاعتراف بيقينيات «حياة عادية لا تحرفها النظريات عن طريقها». وعلى يقينيات الخبرة العامة هذه يمكن تأسيس فلسفة مفعمة بالحكمة وجديرة بالإنسان.
وأخيراً، فإن تأكيد النظرة الجديدة لأهمية الخبرة العامة لا ينتقص من شأن الفنون، بل يثريها ويضفي عليها صبغة إنسانية. والآثار الفنية العظيمة كانت دائماً تحترم الاستمرارية بين الخبرة العامة والخبرة المتخصصة. ويصف موزارت إحدى قطعه الموسيقية في رسالة وجهها إلى صديق له فيقول: «ثمة مقاطع متناثرة هنا وهناك لا ترضي إلا أهل الخبرة. غير أن هذه المقاطع مكتوبة بأسلوب لا يفوت على الأشخاص الأقل خبرة أن يستمتعوا بها حتى من غير أن يعرفوا السبب». وكل أثر أدبي أو فني فذ يقدم شيئاً ما للناس على اختلاف مستويات خبرتهم. فمسرحيات شكسبير، التي تبلغ من الرفعة ما يكفي لتغذية أوسع العقول ثقافة، هي مع ذلك على قدر من الحسية يكفي للتسلية.
والفنان، بتأسيس عمله على الخبرة العامة، يستطيع أن ينتج آثاراً خالدة وعالمية. فليس ثمة أثر فني كلاسيكي يمثل مجرد تعبير عن مزاج أو مجرد انعكاس لعصره. يقول الملحن روجر سشنز (Roger Sessions): «إن باخ وموزارت وبتهوفن لم يعكسوا صورة ألمانياً، بل هم ساعدوا على خلقها. ولذلك فأكثر ما نطلبه من ملحنينا ليس موسيقياً «أمريكية»، بل موسيقا عميقة وشاملة التصور، هي نتاج رؤية ناضجة للحياة».
في النظرة الجديدة يستطيع الرجل العادي والعالم والفيلسوف أن يعرفوا العالم، ويستطيع الفنان أن يصور في فنه خصوبة هذا العالم وثراءه. وقد وجه غوته النصيحة التالية للشعراء، ولكنها تنطبق بالقدر نفسه على أي فنان أو عالم أو فيلسوف: «الشاعر لا يكون جديراً بهذا اللقب ما دام يقتصر على التعبير عن عواطفه الذاتية القليلة، ولكنه ما إن يستطيع تملك العالم والتعبير عنه حتى يصير شاعراً. وإذ ذاك لا ينضب له معين ويستطيع أن يظل جديداً على الدوام. هذا بينما نرى آخر ذا طبيعة ذاتية لا يلبث أن يستنزف سريعاً ما عنده من موارد داخلية نزرة، وأن ينتهي إلى إفسادها بالتكلف. والناس يتحدثون دوماً عن القدماء ولكن المعنى الوحيد لهذه العبارة هو أنها تدعوك إلى أن تلتفت إلى العالم الحقيقي، وأن تحاول التعبير عنه، لأن هذا هو ما صنعه القدماء عندما كانوا أحياء».
الفصل السابع
الماضي
ما هو الموقف الذي يتخذه أنصار النظرة القديمة من أسلافها؟ إن تطوير العلم التجريبي الحديث في أواخر عصر النهضة استهل النظرة القديمة. وأسلافها إذاً هم مفكروا العالم القديم ومفكروا العصور الوسطى. وهؤلاء المفكرون، وقفا للنظرة القديمة، لا يكادون يستطيعون أن يسهموا إلا بقدر نزر من معارفنا عن الطبيعة لأنهم جميعاً عاشوا قبل مجئ عصر التجارب والآلات المعقدة والرياضيات الحديثة. ومعنى ذلك أن العلم الحديث لا يمكن أن يبنى على أسس قديمة. وهذا ما يفصح عنه بيكون في عرضه لموقف النظرة القديمة بقوله: «من العبث توقع إحراز تقدم هام في العلوم بتطعيم الجديد بالقديم. فلابد لنا من أن نبدأ مرة أخرى بداية جديدة كل الجدة».
والنظرة القديمة تغريها فكرة حلول العلم الحديث محل كل شيء آخر. فهي تعتقد أن التقدم العلمي ياتي بالقطيعة مع الماضي لا بمواصلة السير على هديه. وقد اتخذ الفيزيائي ايرنست ماخ (Ernst Mach) في عام 1903 موقفاً متشدداً يذكرنا بموقف بيكون. فهو يقول: لقد نالت حضارتنا بالتدريج استقلالاً تاماً، محلقة بأجنحتها إلى أعلى بكثير مما بلغته العصور القديمة. وهي تسير الأن في اتجاه جديد كل الجدة، وتركز على التنويرين الرياضي والعلمي. أما بقايا الأفكار القديمة التي لا تزال عالقة بالفلسفة وعلم القانون والفنون والعلوم فهي تشكل عوائق لا مزايا، وهي على المدى الطويل لن تصمد أمام تنامي آرائنا نحن». وعند ماخ أن الماضي الذي سبق عصر العلم هو المقام الأول مستودع أخطاء وافتراضات لا تقوم على أساس. ولا اعتراض عنده على إبداء اهتمام تاريخي محض بالماضي، ولكن ينبغي للمرء ألا يعتبر العصور القديمة مصدراً من مصادر التنوير الفكري.
وهذا الموقف ذاته من الماضي نجده في فلسفة النظرة القديمة. وديكارت هو أول من سلم بأن دراسة آثار القدماء قد تفيد في أغراض معينة، ولكنه يحذر من أن «هناك خطراً كبيرً إذا نحن انغمسنا انغماساً مفرطا في دراسة تلك الآثار أن نصاب بعدوى أخطائها». وديكارت في تطويره لفلسفته ينحي أسلافه جانباً، ويتكل على ذاته فقط وبعد طول دراسة وسفر كتب ديكارت يقول: «لم أكن قادراً على أن أختار لنفسي شخصاً بعينه يبدو رأيه جديراً بالإيثار، ولذلك لم يكن أمامي اختيار إلا أن ألتمس الهداية من ذاتي».
والنظرة القديمة تشجع الفنان على رفض أسلافه والتخلي عن الاستمرار مع الماضي، ذاهبة إلى أن الاتكال على الفنانين السابقين يشكل عاتقاً يحول دون الأصالة والإبداع الحر. وقد أعد أمبيرتو بوتشيوني (Umberto Boccioi) في عام 1910 بياناً رسمياً باسم الرسامين المستقبليين يعبر عن هذا الموقف تعبيراً جيداً إذ يقول: نريد أن نحارب بلا هوادة دين الماضي المتعصب وغير المسئول والمتغطرس الذي يغذيه وجود المتاحف المقيت. ونحن نأبى الإعجاب الذليل باللوحات القديمة والتماثيل القديمة والتحف القديمة، والتحمس لكل ما أكلته العثث ولكل قذر وبال، ونعتبر الاحتقار المألوف لكل ما هو حديث وجديد ونابض بالحياة عملاً جائراً وإجرامياً.
ونحن بموالاتنا الحماسية للمستقبلية نعتزم تحطيم عبادة الماضي، واستحواذ القديم علينا، والتحذلق، وتمسك المعاهد بالشكليات، والازدراء التام لكل محاكاة، وتمجيد كل شكل من أشكال الابتكار مهما بلغ من الجرأة والعنف، وإبعاد كل الموضوعات التي سبق تناولها في مجال الفن، وتصوير وتمجيد الحياة المعاصرة التي تمر بتحول متواصل وعنيف بفضل انتصار العلم.
إذاً فموقف النظرة القديمة من الماضي واضح في ميادين العلم والفلسفة والفنون. فما موقف النظرة الجديدة من الماضي؟ يحسن بنا أن نبدأ بإلقاء نظرة على الموقف الذي تتخذه النظرة الجديدة من النظرة القديمة.
النظرة الجديدة، قبل كل شيء، لا ترفض النظرة القديمة جملة وتفصيلاً. فهي تحتفظ بجميع ما اكتشف من حقائق عن المادة في ظل المذهب المادي بوصفها حقائق صالحة على الدوام. هكذا يلاحظ هايزنبيرغ «أن الفيزياء الحديثة لم تغير شيئاً في ميادين العلم الكلاسيكية العظيمة كالميكانيكا والبصريات والحرارة». كذلك تحتفظ النظرة الجديدة بجميع المبادئ السليمة «للمنهج» الذي استحدثه رواد النظرة القديمة، بما فيها ضرورة التجارب والآلات والرياضيات المتطورة في دراسة الطبيعة.
أما العنصر الوحيد الذي لا تتمثله النظرة الجديدة من عناصر النظرة القديمة فهو منهجها المادي. فالنظرة الجديدة تأخذ عن بيكون منهجه التجريبي، ولكن دون تشكيكه الجذري في ملكات الإنسان، هذا التشكيك الناجم عن نموذجه المادي للإحساس والفهم. كما تتبنى نظرة غاليليو القائلة بمحورية الرياضيات في إحراز التقدم في العلم الطبيعي، ولكنها ترفض دعواه بأن لا حقيقة إلا في الخواص الرياضية.
والنظرة الجديدة تقبل جميع المكتشفات الحقيقية التي تمت في ظلال المذهب المادي، ولكنها لا تقبل الدعوى القائلة إن تلك المكتشفات تضفي الشرعية على المذهب المادي. ويمثل اكلس موقف النظرة الجديدة حين يقول: «إنني بالطبع أؤيد كل التأييد البحوث العلمية عن السلوك وردود الفعل الشرطية، بل جميع البرامج الحالية لعلم النفس السلوكي. وفضلاً عن ذلك أوافق على أن جزءاً كبيراً من السلوك البشري يمكن أن يفسر تفسيراً شافياً بالاستناد إلى المفاهيم المستحدثة بصدد هذه التجارب. على أنني اختلف اختلافا جذرياً مع السلوكيين في دعواهم بأنهم يقدمون تفسيراً كاملاً لسلوك الإنسان في حين أعلم أنها لا تفسر ذاتي لذاتي لأنها تتجاهل تجاربي الواعية أو تسند إليها دوراً مجرداً من المعنى. وهذه التجارب تشكل في نظري أنا- ومن غير شك في نظر كل واحد منكم أعزائي القراء- الحقيقة الأولى».
ويتخذ كارل روجرز الموقف نفسه من علوم النفس في النظرة القديمة فيقول: «لكل تيار في علم النفس فلسفته الضمنية الخاصة به عن الإنسان. وهذه الفلسفات، وإن كانت في الأغلب لا تطرح بصراحة، تمارس نفوذها بأساليب خفية هامة. فالإنسان عند السلوكي مجرد آلة، آلة معقدة ولكنها مع ذلك قابلة للفهم، وفي وسعنا أن نتعلم كيف نؤثر فيه بمهارة متزايدة إلى أن يفكر الأفكار، ويتحرك في الاتجاهات، ويتصرف بالطرائق التي نختارها له. والإنسان عند الفرويديين كائن غير عقلاني، رهين ماضيه بلا فكاك وحصيلة ذلك الماضي، أي عقله اللاواعي. وليس من الضروري أن ننكر اشتمال كل من هذه المناهج على حقائق لكي نعترف بأن هناك وجهة نظر أخرى».
والابتكار، في النظرة العلمية الجديدة، لا يعني تسخيف المتوارث من المعتقدات والأعراف. فبناء نظرية جديدة لا تستلزم هدم النظرية السابقة من أساسها. حتى الثورات العلمية تبقى على استمرارية مع الماضي. ومن ذلك مثلاً أن أينشتاين يقول في معرض شرحه لنظريته في الجاذبية ومقارنتها بنظرية نيوتن: لا يظنن أحد أن ابتكار نيوتن العظيم يمكن أن تطيح به –بأي معنى من المعاني- هذه النظرية أو أي نظرية غيرها. فأفكاره الواضحة وواسعة المدى ستحتفظ بأهميتها إلى الأبد بوصفها الأساس الذي قامت عليه تصوراتنا الحديثة لعلم الفيزياء».
على أن لفظة ثورة قد تكون مدعاة للتضليل. فالنسبية قد أطاحت بفيزياء نيوتن كنظام عالمي. غير أن قانون نيوتن للتربيع العكسي لا يزال كافياً كل الكفاية لتفسير التجربة العادية. ويمكن في الواقع استنتاجه من النسبية العامة على سبيل المقاربة. يقول ليوبولد انفلد: «ليس صحيحاً كل الصحة أن يقال أن إينشتاين أثبت عدم صلاحية ميكانيكاً نيوتن للتطبيق، بل الأصح أن يقال إنه بين أوجه قصورها. غير أن النطاق الذي تصلح فيه للتطبيق لا يزال واسعاً». ومن الضروري إدخال دقة نظرية النسبية فقط عند التحدث عن حالات خاصة، كحالة السرعات التي تقترب من سرعة الضوء. ولقد كانت معادلات نيوتن كافية كل الكفاية لن توصل الإنسان إلى القمر ثم تعيده إلى الأرض سالماً.
وكل تقدم في العلم لابد له من استبقاء حقائق الماضي والتأسيس عليها. ويقدم الفيزيائي لويس دو بروجلي صيغة الثبوت على الوجه التالي: متى تم التحقق على نحو يقيني من قانون ما تحققا تقريبيا (فكل عملية تحقق تنطوي على قدر من التقريب) أصبحت نتيجته ثابتة بصورة نهائية، بحيث لا تستطيع أي محاولة تنظير لاحقة أن تنقضها. ولو لم يكن الأمر كذلك لما تيسرت أي معرفة». ولربما أتت نظرية جديدة بدقة تفوق دقة أخرى أقدم منها، ولكنها لا تعكس أبداً أي شيء تم التثبت منه تثبتاً حقيقياً. فقد يحدث أحياناً أن ننبهر بالعنصر الجديد المثير في نظرية جديدة، فتغيب عن أذهاننا الاستمرارية الأساسية. وما لم يفطن المرء إلى تلك الاستمرارية فقد يخيل إليه أن الفيزياء في تقلب متواصل وأنها لا تقوم على أي أساس.
والنظرة الجديدة لا تقيم استمرارية جديدة مع الماضي العلمي فحسب، بل هي تتيح تناسقاً جديداً مع عصر ما قبل العلم. والواقع أن المبادئ الرئيسة للنظرة الجديدة تتفق مع نظرة العصرين الوسيط والقديم إلى العالم. والنظرة الكونية التي كانت سائدة قبل عصر غاليليو وبيكون هي فيزياء أرسطو. وعلى ذلك، وبغية إيضاح تلك النظرة، سنشير إلى أرسطو في المقام الأول، فلا نستشهد بآراء غيره من المؤلفين إلا على سبيل التكملة.
يؤكد أرسطو، كما تفعل النظرة العلمية الجديدة، أن العقل لا يمكن أن يرد إلى مادة. وهو، كما يفعل شرنغتون واكلس، يعرف الإدراك الحسي بوصفه نشاطاً غير مادي. يقول: «المراد بالحس ما له القدرة على أن يستقبل في داخله الأشكال الحسية من دون المادة». ويضيف أرسطو قائلاً: إن الفهم ليس نشاطاً مادياً، ويؤكد، شأن بنفيلد، أن العقل الإنساني ليس له عضو بدني. وسواء أكان أرسطو يؤمن بخلود الفرد أم لا فالمسألة هي مثار جدل بين العلماء. على أنه يقول بالفعل: «العقل وحده هو الخالد والأزلي». ولما كان أرسطو لا يستخدم نموذجاً مادياً لتفسير المعرفة فهو لا يتورط في الصعوبات المتعلقة بقضية الذات والموضوع، التي ما برحت تؤرق الفلاسفة منذ أيام ديكارت.
ويؤكد أرسطو كذلك أن للإنسان قدرة على الاختيار الحر، وهو أمر يتفق مع إقراراه بلا مادية العقل. وهو يميز بوضوح بين الإرادة والعواطف، مؤكداً أن الإرادة هي شهوة عقلانية. ويعرف الاختيار بأنه قرار ناتج عن تشاور داخل العقل فيقول: «الاختيار رغبة مدروسة في الأشياء التي هي في متناولنا».
ويذهب أرسطو كذلك إلى أن عناصر الشخصية لا تكتسب إلا بالاختيار الحر فيقول: «العناصر الخارجية تأتي من تلقاء نفسها والصدفة هي التي توجدها، ولكن ما من أحد يكون عادلاً أو معتدلاً بفعل الصدفة أو من خلالها»، وهناك فقرات عديدة في كتابيه اللذين يتناولان الأخلاق والسياسة يورد فيها أسباباً لسمو العناصر الروحية على كافة العناصر المادية. وهو يثني على حياة العقل والحياة الأخلاقية، حيث يحكم العقل تصرفات الإنسان وعواطفه، ثناء يفوق ثناءه على جميع أنشطة الإنسان الأخرى.
وأما الجمال فيعلن أرسطو أنه موجود في مختلف جوانب الطبيعة، وخصوصاً في الأحياء. وأرسطو في كتابه «طبائع الحيوان» (Parts Of Animals) * يشجع المبتدئ على: «دراسة مختلف فئات الحيوانات من غير نفور لأن كلا منها يكشف لنا عن شيء طبيعي وعن شيء جميل. وانتفاء المصادفة وإفضاء كل شيء إلى غاية يتبديان في منتجات الطبيعة إلى أبعد الحدود، والمحصلة الناشئة عن توليداتها وتركيباتها هي شكل من الأشكال الجمالية».
ويستند أرسطو في حججه إلى بساطة الطبيعة. من ذلك مثلاً أنه، في كتابه «الطبيعة»، ينتقد آناكساغوراس الذي كان يقول بوجود عدد غير محدود من مبادئ الطبيعة فيقول: من الأفضل أن نفترض، كما يفعل امبيدوكليس. جود عدد من المبادئ أصغر ومحدود».
زد على ذلك أن عناصر الجمال الثلاثة التي عرضنا لها في الفصل الثالث موجودة في كتابات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم من المفكرين في عصر ما قبل العلم. فعلى سبيل المثال، كتب توما الاكويني (Thomas Aquinas يقول: «الجمال يتطلب ثلاثة عناصر: أولها وثانيها التناسب الواجب أو التناسق، وثالثها الإشراق لأن الأشياء ذات الألوان الزاهية توصف بأنها جميلة». وهذه هي العناصر الثلاثة نفسها التي حددها أينشتاين وجيل –مان بعد ذلك بسبعمائة عامة.
ويؤكد أرسطو أيضاً أن «الطبيعة عامة، بل هي علة تعمل لغاية». وهو يرى أن هناك صلة قربي وثيقة بين بساطة الطبيعة وجمالها وغائيتها، فيقول: «الطبيعة لا تصنع أبداً أي شيء من دون غاية ولا تهمل ما هو ضروري». فلا تفريط ولا إفراط. ويصر أرسطو في كثير من مصنفاته على أن الغاية لا غنى عنها في حسن فهم الأشياء الطبيعية ولا سيما الكائنات الحية. وليست الأعضاء الفردية هي وحدها التي ينبغي فهمها ودراستها في ضوء ما صنعت من أجله، بل أن أجزاء الكون في مجموعة موجهة إلى غاية مشتركة. فهو يقول: «علينا أن ننظر أيضاً بأي طريقة من طريقتين تشمل طبيعة الكون الحسن والأحسن. هل كشيء منفصل وقائم بذاته أم كمجموع أجزاء؟ ربما بالطريقتين كلتيهما كما هو شأن الجيش. ذلك أن صالحه يكمن في نظامه وفي قائده على السواء، ولا سيما في الأخير لأنه لا يعتمد على المجموع، بل المجموع يتوقف عليه. والأشياء كلها مرتبة على نحو ما، ولكنها ليست كلها متشابهة. فهناك أسماك وطيور ونباتات. والعالم ليس مرتباً بحيث لا يتصل الجزء الواحد منه بالآخر، ولكنهما مترابطان».
ومن المبادئ الأخرى للنظرة الجديدة مفهوم المراقبة كما نراه في النسبية وفيزياء الكم. فأرسطو وكثيرون من المفكرين الذين جاءوا من بعده في عصر ما قبل العلم يعترفون بدور الإنسان الفريد كمراقب. ويصدر أرسطو كتابه المسمى « ما بعد الطبيعة» بالعبارة المشهورة التالية: «كل الناس تواقون بفطرتهم إلى المعرفة». وهو لا يرى في الحيوانات أي دليل على التأمل الجمالي أو الفكري في الطبيعة قائلاً: «لحيوانات باستثناء الإنسان تعيش بالمظاهر والذكريات وليس لها إلا اليسير من التجربة المترابطة». فهي تستخدم حواسها للمنفعة فقط، لا لمجرد تحصيل المعرفة أو تذوق الجمال: «الكلاب لا تبتهج برائحة الأرنب البرية، بل بأكلها، غير أن الرائحة هي التي دلتها على مكان الأرانب. كما أن الأسد لا يبتهج بخوار الثور، بل بأكله، ولكنه أدرك من خوار الثور أنه قريب منه، ولذلك يبدو مبتهجاً بالخوار».
وهناك عدد كبير من المفكرين القدامى الآخرين جنحوا إلى الأخذ بمفهوم المراقبة. يقول شيشرون (Cicero) مثلاً: «إن الإنسان نفسه ظهر إلى حيز الوجود لغرض التفكر في العالم». وإبيقطيطوس (Epictetus) يقول: «إن الله أوجد الإنسان ليكون شاهداً على الله وآثاره، ولكن ليس كمشاهد لهذه الآثار فحسب، بل كمفسر لها أيضاً». ويلاحظ القديس أوغسطين أن العالم يظل ناقصاً لولا وجود الإنسان كمراقب فيقول: «الأشياء تسهم في جعل هذا النسق من العالم المرئي على كل هذا الجمال. فكأنها أرادت، تعويضاً عن عجزها عن المعرفة، أن تصبح معروفة لدينا». وهناك شاعر بوذي ينتمي إلى مذهب زن (Zen)، عاش حوالي القرن السابع للميلاد، صور بلغة شعرية جميلة كيف أن مراقبة الإنسان تكمل العالم:
الوزات البرية لا تقصد إلقاء صورها في الماء إذ إن الماء لا يملك العقل اللازم لالتقاط صورها.
وإلى جانب مفهوم المراقبة، يعثر المرء لدى أرسطو على شيء يقابل «المبدأ الإنساني» ويجد له تعبيراً أوفي وأوضح في العصور الوسطى. فأرسطو، إذ يتحدث عن علاقة الإنسان بالطبيعة يقول: «إننا نستخدم كل شيء كما لو وجد من أجلنا. ونحن كذلك بمعنى ما غاية». وهو يضيف عبارة «بمعنى ما» لأن الطبيعة لم تبدع على هدي متطلبات الإنسان فحسب، بل كذلك على هدي غاية الكون المشتركة المشار إليها آنفا. والعلماء المعاصرون، باستنادهم إلى «المبدأ الإنساني» يبينون كيف أن افتراض كون الإنسان غاية الطبيعة يفسر بعض خواص المادة. ويقول أرسطو بالروح نفسه، في مصنفاته البيولوجية، إننا نستطيع فهم جسم الإنسان على أحسن وجه في ضوء علاقته بعقل الإنسان.
وبحلول العصور الوسطى يزداد المفهوم المرادف للمبدأ الإنساني وضوحاً على وضوح. فقد كتب توما الاكويني يقول: «تلك المخلوقات التي هي أقل نبلا من الإنسان إنما وجدت من أجل الإنسان»، ملبية إما حاجاته البدنية وإما حاجاته العقلية إذ إنه بدراسة هذه المخلوقات يستطيع آخر الأمر أن يرقي إلى معرفة الله. والإنسان في منظور عالم ما قبل العلم هو محور الكون لأن له عقلاً، لا بسبب الاعتقاد بأن الكواكب والنجوم تدور حول الأرض.
eeww2000
12-14-2004, 03:59 AM
ويرى أرسطو في العالم أدلة وافرة على وجود الله فهو، إذ يرى غائية في الطبيعة، ينتهي إلى أن وراءها عقلاً، قائلاً: «الطبيعة مخططة تخطيطاً آلهياً، وإن لم تكن هي نفسها آلهية». وعلاوة على ذلك، يقر أرسطو بأن الطبيعة زاخرة بالجمال، وهو جمال لا يمكن تفسيره بالضرورة المادية أو بالصدفة. وهو لذلك يعزو جمال الطبيعة للإله بارع الصنعة. وهكذا فهو، إذ ينصح المبتدئين في دراسة علم الأحياء إلا يحجموا بنفور عن دراسة الحيوانات الأكثر تواضعاً، يقول: «لأنه إذا لم يكن لبعضها من الحس والرشاقة ما يستهوي الحس فحتى هذا البعض، بكشفه للإدراك الذهني عن الروح بارعة الصنعة التي صممتها، يعطي لذة عظيمة لجميع أولئك القادرين على تتبع روابط العلية والميالين إلى الفلسفة». والواقع أن تشبيه الله بالصانع الماهر قديم قدم الفلسفة الغربية ذاتها. هكذا نرى طاليس الملطي (Tales of Miletus)، أول فلاسفة الإغريق، يعلن أن «الله هو أسبق الكائنات لأنه غير مخلوق، وأن الكون أجمل هذه الكائنات لأنه من صنع الله».
أما فيما يتعلق بالطريقة فيعترف أرسطو، شأن علماء النظرة الجديدة، بأولية الخبرة العامة. وهو، خلافاً لغاليليو وبيكون، لا يستبعد أياً من يقينيات الخبرة العامة. بل إنه على نقيض ذلك يؤسس عليها كل دراسته للطبيعة. هذا إلى أن أرسطو يرى أن الدهشة، لا المنفعة، هي العامل الحفاز للعلم. يقول: «إن الناس لا يبحثون اليوم في الفلسفة، كما لم يبحثوا فيها بادئ ذي بدء، إلا بداعي اندهاشهم. فلقد كانوا، بادئ ذي بدء في دهشة أمام الصعوبات الواضحة ثم تقدموا شيئاً فشيئاً. ولما كانوا يتفلسفون طلباً للتحرر من الجهل فمن الجلي أنهم درسوا العلوم لذات المعرفة، لا لأي غرض نفعي».
وأخيراً يتضح موقف أرسطو من أسلافه في كتابه المسمى «في النفس» حيث يقول: «لأغراض دراستنا للنفس لا بد لنا من التداول في أفكار أسلافنا الذين انتهوا إلى أي رأي حول الموضوع، عسى أن ننتفع بكل ما هو سديد في أطروحاتهم وأن نتفادى أخطاءهم».
وهو يكاد يصدر كل بحث من بحوثه بدراسة متروية لما قاله سابقوه. فهو، قبل أن يصنف كتابه المسمى «السياسة» قد حلل دساتير 158 حكومة. بل إنه كان حتى بعد أن يسوق حججه توصلاً إلى نتيجة ذات خطر، يجشم نفسه غالباً عناء الرجوع إلى آراء الآخرين. ومن ذلك مثلاُ أنه، بعد أن تناول موضوع السعادة، كتب يقول: «إلا أن علينا أن ننظر فيها لا في ضوء استنتاجاتنا ومقدماتنا فحسب، بل في ضوء ما يقال عنها عموماً لأن البيانات تتفق متى كان الرأي صحيحاً، ولكن الحقائق لا تلبث أن تتصادم متى كان الرأي خاطئاً». وهذا أيضاً يدل على احترامه الخبرة العامة.
من هذه اللمحة الموجزة نرى أن النظرة العلمية الجديدة ونظرة أرسطو إلى العالم تتماثلان تماثلا يبعث على الدهشة. فكلتاهما تؤكد أن العقل لا مادي، وكلتاهما تعترف بحرية الاختيار عند الإنسان، وبتفوق الروحانيات، وبجمال الطبيعة، وبوجود غائية في الكون، وبالمراقبة، وبالمبدأ لإنساني، كما تعترف بالله، وبأولوية الخبرة العامة، وبالتساؤل بوصفه الحافز إلى العلم، وبأن من الحكمة استطلاع آراء الأسلاف. وجميع هذه المسائل، لتي تنكرها النظرة العلمية القديمة، هي عناصر وحدة بين النظرة العلمية الجديدة وبين نظرة عصر ما قبل العلم إلى العالم. وإذا وضعنا في اعتبارنا التجانس الكبير بين هاتين النظرتين إلى العالم فلن يدهشنا أن نرى هايزنبيرغ يشير دونما تحفظ إلى مفهوم «ما هو بالقوة» بمعناه في الفلسفة الأرسطوطالية لشرح نوع الكينونة الموجودة في الجسيمات دون الذرية. ذلك أن هايزنبيرغ يتجه إلى فيزياء أرسطو، لا إلى مادية النظرة القديمة، لأن الفلسفة الأساسية للأولى أقرب كثيراً إلى علم القرن العشرين منها إلى الثانية.
ولكن كيف تيسرت كل هذه الاكتشافات التي تحققت منذ قرون بالغة الكثرة دون الاستعانة بالنسبية وبفيزياء الكم ومبحث الأعصاب المعاصر والفيزياء الفلكية؟ إن ما حدث هو أن أرسطو وغيره من المفكرين في عصر ما قبل العلم قد توصلوا إلى هذه الحقائق على أساس الخبرة العامة. والمبادئ الأساسية للنظرة الجديدة، التي تم التوصل إليها من خلال خبرة العلم الحديث المتخصصة، إنما هي إعادة اكتشاف لحقائق معروفة منذ زمن طويل ومؤسسة على الخبرة العامة للبشر جميعاً. وفي هذا الصدد يقول ايرون شرودنغر: «إن علم الفيزياء بشكله الحالي هو لنتاج المباشر للعالم القديم واستمرار مطرد له». ومن هذه الزاوية يتبدى أن النظرة العلمية القديمة تشكل انحرافاً عن الاتجاه السائد في الفكر الغربي دام ثلاثمائة عام.
من هنا ننتهي إلى أن عناصر النظرة الجديدة لا تستند فحسب إلى ما اكتسبه العلم الحديث من خبرة متخصصة، بل كذلك إلى حجة أكبر كثيراً، هي الخبرة العامة. وبهذا الروح يقول الفيزيائي يوجين فيغنر في كتابه «تماثلات وخواطر» (Symmetries and Reflections): «إن الحجة الرئيسة ضد المادية ليست أنها لا تتفق مع نظرية الكم، بل هي أن عمليات التفكير والوعي أمور لا سبيل إلى إنكارها». فلخبرة المتخصصة للعلم الحديث قد ذكرت الإنسان المعاصر بأشياء ما كان ينبغي له أن ينساها أصلا.
ولا ريب في أن هناك أخطاء وقعت في الاستنتاجات الفرعية للنظرة الارسطوطالية إلى العالم. ومن ذلك مثلاً أن أرسطو كان يعتقد أن الشمس تدور حول الأرض، وأن المادة التي تتكون منها الكواكب والنجوم تختلف في جوهرها عن جميع عناصر الأرض، وأن الحياة تستطيع في حالات خاصة أن تتولد تلقائياً من المادة الجامدة. ولكن تصحيح هذه الأخطاء لا يقتضي رفض أي من المبادئ الجوهرية التي نعثر عليها في كتابات أرسطو وفي النظرة القديمة على السواء، إذ لم يكن ينبغي لأي من مكتشفات كويرنيكوس أو غاليليو أو أي شخص آخر أن يتطلب من العلم إنكار حرية الاختيار أو الغائية أو الجمال أو الله.
على أن الاتفاق الرائع بين نظرة العالم القديم والعلم الحديث ينبغي ألا يفضي بنا إلى أن نظن أن النظرة الجديدة لا تتضمن أي عنصر جديد. فعالمنا العلمي يختلف اختلافاً هاما عن عالم القدامى: فهؤلاء كانوا يعتقدون أن العالم هو أساساً في حالة سكون. أما فهمنا المعاصر للعالم فيقوم على أن كل شيء له تاريخ، حتى المادة ذاتها. فالانفجار العظيم والنظريات الفيزيائية الموحدة لكلية تشير إلى بداية تاريخية حتى لأهم قوانين الفيزياء. والنظرة الجديدة تقدم لنا وحدة هي أفخم وأعمق مما تصوره القدامى في أي وقت مضى. فلابد من أن أرسطو كان سيذهل لو علم أن كل عناصر من عناصر أجسامنا قد صنع في قلب نجم قبل مليارات السنين. والتجارب المتقنة، والآلات المعقدة، والرياضيات البارعة المطبقة في الفيزياء المعاصرة تتيح لنا التغلغل في الطبيعة إلى أعماق لم يكن ليحلم بها أفلاطون أو أرسطو، والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن التكنولوجيا العلمية قد غيرت ثقافتنا اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وبفضل سلطان هذه التكنولوجيا اكتسب الإنسان المعاصر أيضاً سلطة أكبر من ذي قبل بشأن رفاهه المادي. وأخيراً فالإنسان المعاصر هو وحده الذي عايش النظرة القديمة إلى النهاية. فلم يحدث قط أن هيمنت المادية على نظرة العالم القديم، كما أن القدماء لم يذوقوا قط كرب كامو، ولا عرفوا الخواء الإنساني الذي أسفرت عنه النظريات النفسية في ظل النظرة القديمة، أو كآبة كون يعتبر بلا خالق وبلا غاية وبلا جمال. والإنسان المعاصر، بعد أن عايش النظرة القديمة ثلاثمائة عام، هو في وضع أفضل من غيره للحكم عليها.
أما النظرة العلمية الجديدة فتصل بين الإنسان المعاصر والمآثور من حكمة القدماء. وتنطبق الاستمرارية ذاتها على الفنون. فما من فنان كبير سفه أسلافه قط. استمع إلى تنبيه موزارت إذ يقول: «مخطئ من يظن أني نلت فني بمثل هذه السهولة. فما من أحد كرس من وقته وتفكيره مثل ما كرسته للتأليف. وليس ثمة أستاذ كبير لم أعكف على دراسة موسيقاه مراراً وتكراراً».
إن التقاليد هي الصابورة ballast التي تحفظ للحضارة توازنها، فلولاها لوجدنا رياح الطرز اعتباطية التغير تقذف بنا في كل ناحية. استمع للرسام جان أوغوست أنغر (Jean Augusts Ingres) وهو يتحدى عبادة الجديد التي يمكن أن تكون شديدة التخريب للفنون فيقول: «لا أريد أن أسمع بعد اليوم ذلك الشعار السخيف: «نحن بحاجة إلى الجديد، وبحاجة إلى مجاراة عصرنا، فكل شيء يغير وكل شيء قد تغير». كل ذلك سفسطة. هل الطبيعة تتغير؟ هل يتغير الضوء والهواء؟ وهل تغيرت أهواء القلب البشري منذ أيام هوميروس؟ إن من الجنون أو الكسل أن نزعم أن في وسعنا الاستغناء عن دراسة القديم أو أدب الإغريق والرومان. فذلك مذهب الذين يريدون أن ينتجوا من غير أن يعملوا، وأن يعرفوا من غير أن يتعلموا».
ويقول ايغور سترافنسكي (Igor Stravinsky): إن السير على التقاليد في الموسيقا لا يقيد الفنان، بل يعزز القدرة على الإبداع ويضمن تواصل لفن: «إن النهج التقليدي حقاً ليس أثراً من آثار عصر ولي إلى غير رجعة، بل هو قوة حية تنير الحاضر وتبث فيه الحياة. والأخذ بالتقاليد لا يعني أبداً تكرار ما حدث، بل يفترض مسبقاً حقيقة ما يستطيع الدوام. فهو يبدو كالمتاع الموروث يتلقاه المرء بشرط أن يجعله يؤتي ثماره قبل أن يسلمه إلى ذريته. والتقاليد تتناقل كيما تأتي بما هو جديد. وهي إذاً تضمن دوام الإبداع».
ثم إن التقاليد لا تعني المحاكاة العمياء لما فات أوانه. وعلى هذا الصعيد يتفق ت. س إيليوت (T.S. Rliot) مع سترافنسكي على أن التقليد ثروة لا نستطيع أن نتلقاها من موقف سلبي، شارحا دور هذا التقليد في تمكين الفنان من رؤية الأثر الخالد في الأثر الزائل فيقول: «إذا كان الشكل الوحيد للتقليد وتوريثه يكمن في اتباع سنن أهل الجيل الذي سبقنا مباشرة فيما أفلحوا فيه اتباعاً أعمى، أو التزاما بما حققوه من نجاح فينبغي بالتأكيد عدم التشجيع عليه. فقد رأينا كثيراً من هذه التيارات البسيطة لا تلبث أن غابت في الرمال، والتجديد خير من التكرار. أما التقليد الحق فذو دلالة أوسع نطاقاً من ذلك كثيراً. إنه ليس تركة قابلة للتوريث، فإذا أردته كان من المحتم عليك أن تبلغه بالعمل المضني. وهو ينطوي، في لمقام الأول، على الحس التاريخي الذي لا يكاد يستطيع الاستغناء عنه كل من أراد أن يظل في عداد الشعراء إلى ما بعد الخامسة والعشرين من عمره. والحس التاريخي ينطوي على أن تدرك لا مضي الماضي فحسب، بل حضوره أيضاً. والحس التاريخي يلزم المرء بأن يكتب وهو يحس في عظامه لا بالجيل الذي هو جيله فحسب، بل كذلك بأن كل الأدب الأوروبي منذ هوميروس – ومن ضمنه كل أدب بلده ذاته- ذو وجود متزامن ويشكل نظاماً متزامنا. وهذا الحس التاريخي- وهو إحساس بالأثر الخالد والموقوت معاً- هو الذي يجعل من الكاتب كاتباً تقليدياً. وهو في الوقت ذاته يجعله يحس إحساساً مرهفاً بمكانه من الزمن وبكونه حقاً من أبناء عصره».
والتقليد، كما يدل أصل الكلمة (في اللغات الغربية)، هو «التوريثك العمدي لشيء سرمدي في حقيقته أو عالمي في جماله. والوريث الأجدر بهذا الاسم هو الذي يستطيع أن يجعل الميراث يؤتي ثماراً جديداً. ولذلك كان على الفنان الذي يسعى وراء الجمال، والعالم الذي يجاهد في سبيل الحقيقة، كليهما، أن يستعينا بمعاصريهما وبأسلافهما. فالجمال والحقيقة سلعتان مشتركتان ويتطلبان جهداً مشتركاً.
والتقاليد تجمع الدنس البشري بأسره على خير مشترك يمتد امتداد القرون ولولاها لما كان هناك رجال من مثال سترافنسكي، أو أينشتاين، أو موزارت، أو إيليوت، ولكانت تلك خسارة ماحقة. ذلك أن سمفونياتهم ونظرياتهم وقصائدهم هي هدايا للجنس البشري بأكمله. فالناس الذين سبقونا يثرون خبراتنا ويضاعفون ملكاتنا. ونحن نستطيع أن نرى بأعينهم، ونفهم بعقولهم، ونحس بفضل نبضات قلوبهم. وبهذه الطريقة وحدها نستطيع أن نبلغ أقصى ما في طوق البشر بلوغه من درجات الكمال.
eeww2000
12-14-2004, 04:01 AM
الفصل الثامن
الحاضر
حتى الآن ركزنا في حديثنا على أوجه التضاد بين النظرة العلمية القديمة والنظرة العلمية الجديدة في مجالات المادة والعقل والجمال والله وعلم النفس والعالم والماضي. ونحن الآن على استعداد للموازنة بين هاتين النظرتين بوصفهما وحدتين كاملتين. ونتوقع من أي نظرة كونية أن تكفل ثلاثة عناصر: الرحابة والوحدة والنور: فمن رحابتها نتوقع أن تحتفظ بوفرة ما نخبره ونحس به، ومن حدتها أن تحقق الانسجام بين الأشياء بطريقة بسيطة، ومن نورها أن يجعلنا نفهم أشياء هي لولاه غامضة.
وفي كل من هذه الفئات الثلاث تقصر النظرة القديمة عن النظرة الجديدة. فمن حيث الرحابة تتسم النظرة القديمة بضيق الأفق، ذاهبة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة أي شيء ما خلا المادة وخواصها. وهي تواجه عناء في التوفيق بين القيم الأخلاقية والجمالية والفكرية والغاية والله. ويشتكي ايرون شرودنغر في كتابه «العقل والمادة» (Mind and Matter) من الصورة الهزيلة التي يقدمها «عالم العلم». ولكن إذا تدبرنا كلماته أدركنا أنه إنما يتحدث عن النظرة القديمة. يقول: «لقد أضحى «عالم العلم» من الايغال الرهيب في الموضوعية حيث لم يعد يترك مجالاً للعقل ولأحاسيسه المباشرة. وعالم العلم مجرد من كل ما كان معناه مرتبطاً على وجه الحصر بالذات المتأملة والمدركة والواعية. وأنا أعني بالدرجة الأولى القيم الأخلاقية والجمالية، بل أي قيم أخرى من أي نوع، أي كل ما له صلة بمعنى ونطاق الموضوع بأكمله.
ويوافق روجر سبري على أن مادية النظرة القديمة ضيقة الأفق قائلاً: «الوعي وحرية الإرادة والقيم، ثلاث شوكات قديمة العهد في جنب العلم. وقد أثبت العلم المادي عجزه عن معالجتها حتى بصورة مبدئية لا لمجرد كونها عسيرة المركب فحسب، بل لإنها تتعارض تعارضاً مباشراً مع النماذج الأساسية. ولقد اضطر العلم إلى التخلي عنها، بل إلى إنكار وجودها، أو إلى القول إنها تقع خارج نطاقه. وهذه العناصر الثلاثة تشكل، عند السواد الأعظم من الناس بالطبع، بعض أهم الأشياء في الحياة. وعندما ينكر العلم أهميتها، بل وجودها، أو يقول إنها خارج نطاقه، فلابد للمرء من أن يتساءل عن جدوى العلم».
ويسهب شرودنغر في كتابه «الطبيعة والإغريق» (Nature and the Greeks) في بيان أوجه قصور النظرة العلمية القديمة فيقول: «إن الصورة التي يرسمها العلم للعالم الحقيقي حولي صورة ناقصة جداً. صحيح إنه يقدم حشداً ضخماً من المعلومات الواقعية، ويسلك كل تجربتنا في نظام رائع الاتساق، ولكنه يسكت سكوتاً فاضحاً عن كل ما هو قريب فعلا إلى قلوبنا، كل ما يهمنا حقاً أنه لا يستطيع أن يقول لنا كلمة واحدة عن الحمرة والزرقة، عن المرارة والحلاوة، عن الآلم الجسدي واللذة الجسدية، ولا هو يعرف شيئاً عن الجمال والقبح، عن الخير والشر، أو عن الله والأزلية، صحيح أن العلم يدعي أحياناً أنه يجيب عن أسئلة في هذه المجالات، إلا أن الأجوبة هي في الأغلب على قدر من السخف لا نميل معه إلى أخذها مأخذ الجد».
ويوافق فيرنر هايزنبيرغ على أن مادية النظرة القديمة ضيقة الأفق قائلاً: «لقد استحدث القرن التاسع عشر إطاراً بالغ الجمود للعلم الطبيعي، لم يكن يشكل إطاراً للعلم وحده، بل لوجهة نظر جماهير غفيرة من الناس، وفيه كانت المادة هي الحقيقة الأولية. كان ينظر إلى تقدم العلوم وكأنه حملة صليبية لغزو عالم المادة، وكانت المنفعة شعار ذلك العصر.
ولقد كان هذا الإطار من الضيق والجمود بحيث تعسر وجود مكان فيه الكثير من المفاهيم في لغتنا، وهي مفاهيم كانت دائماً تدخل في صميم هذه اللغة، كالعقل أو النفس البشرية أو الحياة. وكان من العسير جدا أن تعثر في هذا الإطار على متسع لأجزاء الحقيقة التي كانت محور الدين التقليدي والتي أمست تتراءى الأن كالوهم تقريباً. وزاد عداء العلم للدين، فلم تستثن من هذا الاتجاه، بصورة مؤقتة على الأقل، إلا القيم الأخلاقية للدين المسيحي. وهكذا حلت الثقة في الأسلوب العلمي وفي التفكير العقلاني محل سائر ضمانات العقل البشري الأخرى».
والنظرة القديمة، بسبب جمود إطارها، لا تطرح أبداً أسئلة معينة. فكثير من المسائل يصبح نتائج مقررة محتومة. من ذلك مثلا أن فرويد يفترض أن الله خرافة ثم يحاول أن يفسر سبب إيمان الناس بهذه الخرافة. وهو لا يورد أي ذكر للحجج المؤيدة أو المناقضة لوجود الله. وينهج داروين نهجاً مشابهاً لهذا: ففي كتابه «أصل الإنسان» The Descent of Man)) تراه لا يناقش مسألة وجود الله أو عدم وجوده، بل يقصر حديثه على الإيمان بالله وبالخلود، ثم يرجم بالغيب حول الطريقة التي أمكن بها ظهور هذه المعتقدات بوصفها نتيجة «ثقافة متقادمة العهد». وهذه إجراءات طبيعية ومنطقية إذا نحن افترضنا أن لا حقيقة إلا في المادة.
أما النظرة الجديدة فهي، على عكس ذلك، تشمل حقائق العالم المادي وتفسح المجال للبحث في الحقائق الروحية أيضاً. والعقل في النظرة الجديدة ليس مدعاة للارتباك، بل هو على عكس ذلك، إذ إن استقلال العقل ومحوريته في الكون هما مدار البحث. فالنظرة الجديدة لا تنتقص، على أي نحو، من أهمية أو سلامة الأبحاث في الدماغ، أو البيولوجيا الجزيئية، أو الدراسات التي تتناول سلوك الحيوان، ولكنها تقول لنا ببساطة إنه لا ينبغي أن نتوقع من هذه العلوم أن تفسر ظاهرة العقل. ويعلق هابزنبيرغ على ذلك بقوله: «تلك الجوانب من الواقع التي توصف بكلمات مثل «الوعي» أو «الروح» يمكن ربطها على نحو جديد بالتصور العلمي السائد في عصرنا».
أما بخصوص الوحدة فالنظرة القديمة تعدنا ببساطة جذابة: كل شيء مادة فحسب. ولكن المرء لا يلبث أن يرى أن هذا إغراق واهم في تبسيط الأمور، إذ إن النظرة القديمة لا تفلح أبداً في التوحيد بين العلوم. ويعلق هابزنبيرغ على ما يتسم به القرن التاسع عشر من مادية وآلية فيقول: «كانت الميكانيكا المثال المنهجي لكل العلوم. ولئن كانت هذه النظرة إلى الطبيعة قد عجلت على نحو حاسم بتقدم العلوم فلم يلبث أن تجلى عجزها عن خلق وحدة باقية بين فروعها المختلفة. وأخيراً لم يكن في المستطاع وجود مكان مناسب في هذه النظرة إلى الطبيعة لذاك المجال العظيم من ملكوت الواقع الذي يشمل العمليات الذهنية».
والنظرة القديمة، إلى جانب عجزها عن التوحيد بين العلوم، تخلق قطيعة بين العلوم والفنون. فهي ترى أن العلوم هي مجال الحقيقة، ولكنها حقيقة مجردة من كل القيم. وهي تعتبر الفنون مجال قيم فردية لا أساس لها من الحقيقة (أنظر الفصل الثالث). والنظرة القديمة تولد خصومة بين العلم والدين (أنظر الفصل الرابع)، وتضع خبرة العلوم المتخصصة والخبرة العامة على طرفي نقيض (أنظر الفصل السادس). والنظرة القديمة لا ترى استمرارية بين العلم الحديث والفكر القديم (أنظر الفصل السابع). وأخيراً فإن مادية النظرة القديمة تقوض في نهاية الأمر أسس العلم ذاته (أنظر الفصل السادس). وهي بهذا المعنى لا تتفق حتى مع نفسها، ومن العسير تصور افتقار إلى الوحدة يفوق هذا الافتقار.
أما النظرة الجديدة فهي، بالمقابل، تضفي على العلوم وحدة جديدة مذهلة، وحدة عميقة وبعيدة المدى في آن معاً. ففي القرن العشرين تلتقي الفيزياء ومبحث الأعصاب وعلم النفس الإنساني عند المبدأ نفسه، مبدأ عدم قابلية إرجاع العقل إلى مادة. وأولية العقل تربط نظرية النسبية بميكانيكا الكم، وبحوث الدماغ بالانفجار العظيم، وشدة القوى النووية بحجم الكون. والنظرة الجديدة، فضلا عن توحيدها للعلوم، توحد من جديد بين العلم والفن لأن كلاً منهما يدرس الجمال وينشده بطرائق مختلفة كما مر بنا في الفصل الثالث. كذلك فالنظرة الجديدة تتيح التوفيق بين العلم والدين (انظر الفصل الرابع)، وتبين كيف أن الخبرة العامة تشكل أساس فروع المعرفة، بما فيها العلم نفسه (انظر الفصل السادس). وأخيراً فالنظرة الجديدة تعود بالعلم الحديث ثانية إلى المآثور من حكمة القدماء، وقد تجلى ذلك في ما استشهدنا به من آراء المفكرين في عصر ما قبل العلم (الفصل السابع) الذين استطاعوا أن يفهموا، سائرين في ذلك على هدي الخبرة العامة، المبادئ الأساسية التي تشكل في رأينا النظرة الجديدة. فوحدة النظرة الجديدة أمر لافت للنظر.
أما فيما يتعلق بالضوء فثمة أشياء كثيرة، كالجمال، لا أمل للنظرة القديمة في تفسيرها. فالمادية لا تعترف إلا بنوعين من العلل: الصدفة والضرورة. ولكن أيا من هذين النوعين لا يستطيع، كما رأينا في الفصل السادس، أن يفسر الجمال المشاهد في الطبيعة. ولهذا السبب يرى داروين أن النظرة القديمة لا تلقي ضوءاً على المسألة التالية فيقول: «إن كيفية الإحساس أول ما تطور في عقل الإنسان مسألة غامضة جداً».
بل إن المادية، كما رأينا في الفصلين الأول والرابع، عاجزة حتى عن أن تقدم لنا فهما كاملاً للمادة. أما الحقائق غير المادية فالنظرة القديمة لا تلقي عليها أي ضوء. فهي لا تستطيع أن تفهم العقل لأنها تتصوره نتاجاً ثانوياً للمادة. وقد اتخذت محاولة إرجاع العقل إلى مادة أشكالاً متنوعة في إطار برنامج النظرة القديمة. فبعضهم يفترض أن المادة تطورت إلى عقل من تلقاء نفسها، بينما يأمل آخرون أن يقدم مبحث الأعصاب آخر الأمر تفسيراً للعقل بلغة الفيزياء والكيمياء. بل إن هناك بعضاً آخر ما زال يأخذ بنموذج مادي لكيفية أداء الدماغ لوظائفه. فأنصار فكرة «الذكاء الاصطناعي» يبحثون عن قواعد في التفكير تمكنهم من إنتاج فهم ومنطق حقيقيين في قطعة معدنية. هذا مع أن التحدث عن «قوانين» العقل، أو عن «بنية» العقل يعني في حد ذاته افتراض نموذج مادي.
يقول جون اكلس: «تروعني سذاجة الأقوال والحجج التي يسوقها أنصار فكرة محاكاة الحاسبة الالكترونية للإنسان. فليس ثمة من دليل إطلاقاً على صحة ما يدلي به من أقوال تفيد أن الحاسبات الإلكترونية، متى بلغت مستوى كافياً من التعقيد، ستحقق هي الأخرى وعياً بذاتها».
ويحتج جوزيف وايزنباوم (Joseph Weizenbaum)، أستاذ علم الحاسبات الإلكترونية بمعهد ماستشوستس للتكنولوجيا، قائلاً: «لقد سادت تفكير الأوساط الشعبية والعلمية على السواء فكرة عن الذكاء مفرطة في السذاجة كل الإفراط. فالإنسان ليس بآلة. والحاسبة الإلكترونية والإنسان ليسا نوعين من جنس واحد».
وذلك أن النظرة القديمة، حين يتعذر عليها تفسير الحقائق الروحية بلغة المادة وحدها، تفزع في الغالب إلى المستقبل، مفترضة أن الجواب سيأتي بعد قرن آخر أو قرنين آخرين من البحوث. وهذا ما يسميه اكلس «مادية وعود مسرفة وغير قابلة للإنجاز». أما النظرة الجديدة فهي، على نقيض ذلك، مؤسسة على ما هو معروف الآن، لا على اكتشاف خيالي يأتي به المستقبل. فالنظرة القديمة هي دائماً حلم، أو وعد، أو أمل لا يتحقق أبداً. وباكتشاف نظرية النسبية وميكانيكا الكم أصبح الناس ينظرون إلى البرنامج المادي نظرتهم إلى شيء غير قابل للتحقق من حيث مبدؤه ذاته. والحلم العقيم بأن يأتي يوم تستطيع فيه المادة أن تقدم تفسيراً للعقل، أو لحرية الإرادة، أو للجمال، شبيه بحلم الكيميائيين القدامى أن يحولوا الرصاص إلى ذهب.
وعلاوة على ذلك، تستمد المادية الكثير من أضوائها من الخيال، ذاهبة إلى أنه إذا كانت المادة وحدها هي الموجودة فكل ما هو واقعي لابد من أن يكون قابلاً للتصوير. ذلك أن جزءاً من جاذبية النظرة القديمة يعود إلى كونها تصور العالم بتعابير يسيرة التصور، مثل المكان الأقليدي وذرات نيوتن التي تشبه كريات البلياردو صغيرة الحجم. ولكن الحقائق الجديدة، التي تمثلتها نظرية النسبية وفيزياء الكم، قد حملت العلم على تجاوز التفكير بالصور. فالذرة ، كما يعرفها عالم الفيزياء في القرن العشرين، قابلة للفهم، ولكنها غير قابلة للتصوير الحرفي. وكذلك شأن المكان رباعي الأبعاد في نظرية النسبية، الذي يمكن فهمه، لا تصويره. والنظرة الجديدة أقرب إلى الفكر وبالتالي تتطلب أكثر مما تتطلبه النظرة القديمة.
ومن شأن الإصرار على التفكير بالصور أن يقلل من نور العلم بشكل خطير، إذ أن الكثير من الأشياء لا يمكن فهمها أبداً إذا هي أخضعت لهذا القيد. والفيزيائي ويليام تومسون (السير كلفن)، وهو من علماء القرن التاسع عشر، يواجه مشاكل لاعتقاده بأن التفسير العلمي معناه تفسير مادي ميكانيكي ممكن التصور. فهو يقول: «لا تشعر نفسي أبداً بالرضا حتى أستطيع أن أصنع للشيء نموذجاً ميكانيكيا. فإذا تمكنت من صنع نموذج ميكانيكي استطعت فهمه. ولكن ما دمت غير قادر على أن أصنع نموذجاً ميكانيكاً منذ البداية حتى النهاية فلا أستطيع فهمه. وهذا هو سبب عجزي عن فهم نظرية الضوء الكهرومغنطيسية».
إن من شأن الاقتصار على الاعتراف بتفاسير مادية، ميكانيكية، أن يعوق تقدم العلم. ومن حسن الحظ أن النظرة الجديدة أعتقت العلم من استبداد الخيال وأعادت إلى العقل حقه المشروع في الهيمنة. فالنظرة الجديدة تستطيع أن تفهم الذرات والمكان رباعي الأبعاد والعقل اللامادي دون أن تتقيد بنماذج مادية ميكانيكية ممكنة التصوير.
إن افتقار المادية إلى الضوء قد كبل العلم الحديث، فجعله ينزع إلى تكييف الموضوع قسراً تبعاً للطريقة بدلاً من تكييف الطريقة تبعاً لمتطلبات الموضوع محل البحث. فالمادية ترفض الجزء الأكبر من الخبرة العامة، بما فيه الجمال والقيم والغائية والعقل وحرية الإرادة، بوصفها وهما من الأوهام. والنظرة القديمة، كما ذكر شرودنغر فيما تقدم، لا تستطيع أن تفسر أعمق اهتمامات الإنسان. ولكنها تعللها تعليلاً مرفوضاً. فالبرنامج المادي الميكانيكي الذي ساد في القرن الماضي كان مقدوراً له الفشل بسبب افتقاره إلى الضياء. ويلاحظ أينشتاين أن «العلم لم يفلح في تنفيذ البرنامج الميكانيكي بطريقة مقنعة. وما من عالم فيزيائي في العصر الحاضر يؤمن بإمكانية إنجازه».
ولكن، إذا كانت المادية واهنة كل هذا الوهن من حيث الرحابة والوحدة والضياء فكيف بدت هذه النظرة إلى العالم معقولة، حتى كمنهجية، لغاليليو ولغيره من المفكرين؟ الجواب على ذلك هو أنهم كانوا يكافحون الفلسفة المدرسية السائدة في عصرهم. وقد جاء مدرسيو عصر الانحطاط بعد نحو 300 سنة من كبار اللاهوتيين في العصور الوسطى أمثال توما الاكويني وبونافنتورا، وكانوا مفكرين تعوزهم الأصالة والاستنارة. وقد هيمنت مذاهبهم العقيمة على المدارس والمعاهد في أواخر عصر النهضة. ويشتكي بيكون وديكارت وهوبزولوك وكثيرون غيرهم ممن تعلموا في هذه المدارس من مشاحنات المدرسين المتواصلة ومماحكاتهم التافهة التي تغرق في المجردات دون أن تقدم حلاً لأي شيء، وكانت دروسهم وكتاباتهم تسف في الغالب فتستحيل إلى جدل عنيف. والمدرسيون، بتطبيقهم الخاطئ للأسلوب اللاهوتي على الفلسفة والعلوم الطبيعية، قد أسبغوا على آثار أرسطو حجية مغالى فيها تكاد تعادل حجية الكتاب المقدس.
وكان واضحاً لكل ذي عقل سليم أنه لابد من صوغ نموذج جديد للعلم. وكان ينبغي لهذا النموذج الجديد، على عكس الفلسفة المدرسية المتداعية التي كانت فيها الغيبيات والخوارق تبدو طاغية على كل شيء، أن يعود إلى الأشياء الملموسة والحقيقية التي لا تقبل الجدل، إلى عالم المادة الفيزيائي. وهذا التحول الفكري في تصور العالم عن العصور الوسطى إلى عصر النهضة يمكن أن يوصف بكثير من العمومية بأنه تحول عن الروحانيات إلى الماديات. وكان التحول في أول الأمر يبدو أكثر تشديداً على عالم المادة منه رفضاً لعالم الروح. ويتجلى هذا التغير في علوم عصر النهضة وفلسفته وفنونه تمييزاً له من العصور الوسطى. وقد سبق أن رأينا في الفصل السادس كيف يأخذ غاليليو بمادية منهجية، كما نلحظ ذلك أيضاً لدى فرانسيس بيكون الذي يعتبر العلوم الطبيعية «أم العلوم» وأصلها جميعاً، ويعلن أن «لا وجود في الطبيعة إلا لأجسام فردية تقوم بأعمال فردية محضة وفقاً لقانون ثابت». ويضيف قائلاً: «ينبغي أن تكون المادة، لا الأشكال، موضع اهتمامنا». على أن المادية لم تصبح عقيدة قائمة بذاتها، تولد في النفوس رغبة في تفسير كل الأشياء بلغة المادة، إلا في وقت متأخر.
ثم إنه، تصحيحاً لإساءة استعمال المدرسين للسلطة، كان ينبغي للنموذج الجديد للعلم ألا يؤسس على الوحي أو على سلطة البشر، بل كان لابد من تأسيس العلوم الطبيعية على التجربة والعقل فحسب. وهناك ما يسوغ شكوى بيكون من أن المدرسين في عصر الانحطاط أحالوا العلم عقماً بسلطة استبدادية فيقول: «تقف الفلسفة والعلوم العقلية كالتماثيل، تعبد وتمجد، ولكن لا تحرك ولا تقدم. لأنه متى حدث أن عهد الناس بآرائهم إلى غيرهم ليعنوا بها فهم منذ تلك اللحظة لا يوسعون دائرة العلوم ذاتها، ولكنهم ينحطون إلى المهمة الذليلة المتمثلة في تنميق آثار كتاب معينين وزيادة بطانتهم. وأولئك الكتاب أنفسهم اغتصبوا نوعاً من الدكتاتورية في العلوم».
وليس بالمستغرب أن يعارض غاليليو وآخرون غيره التعلق بفيزياء أرسطو تعلقاً ينم عن عناد وقلة بصيرة. ذلك أن غاليليو، في رسالة وجهها إلى كبلر (Kepler)، يورد مثالاً مشهوراً فيقول: «آه يا عزيزي كبلر، كم كنت أود أن نشترك معاً في ضحكة مجلجلة. فهنا، في «بادو» يقيم كبير أساتذة الفلسفة، الذي رجوته مراراً وبإلحاح أن ينظر إلى القمر والكواكب من خلال منظاري، فكان يرفض ذلك بعناد. ليتك كنت هنا معي، إذاً لانفجرنا في ضحكات مدوية ونحن نصغي إلى هذه الحماقة الفريدة، حين نسمع أن أستاذ الفلسفة في بيزا يكد ذهنه في حضرة الدوق الكبير بحجج منطقية، كما لو كانت تعاويذ، يستخدمها لجعل الكواكب الجديدة تختفي من السماء».
لقد ظن الأستاذ أن لا حاجة له أن ينظر من خلال المنظار لأن أرسطو لم يذكر أقمار المشترى، وبالتالي لا يمكن أن يكون له وجود. ويقول غاليليو في مكان آخر
eeww2000
12-14-2004, 04:03 AM
لزائفة، يبدي الملاحظة التالية: «من المحتم أن هناك أخطاء أخرى من هذا القبيل لا حصر لها، أخطاء لا يستطيع أي إنسان حي أن يستبينها بسبب الضباب الذي يغلفنا به النوع الذي نأخذ به من الثقافة الغربية. فالمؤثرات الثقافية قد حددت الافتراضات التي ننطلق منها بصدد العقل والجسد والكون. وهي تطرح الأسئلة التي نلقيها، وتؤثر في الوقائع التي تلتمسها، وتقرر التفسير الذي نعطيه لهذه الوقائع، وتوجه ردود أفعالنا إزاء هذه التفاسير والاستنتاجات».
ولما كانت مادية النظرة القديمة تشكل الأساس الذي تقوم عليه جوانب شديدة التنوع من ثقافتنا فقد اكتسبت هالة من الحصانة بحيث لا تجدي مهاجمتها بالحجج لأنها أشمل وأبعد مدى من أن تتأثر بهذا النوع من النقد. والسبيل الوحيد إلى إسقاطها عن عرشها هو الاستعاضة عنها بنظرة جديدة كل الجدة، وهذه مهمة يستحيل على أي شخص بمفرده أن يقوم بها. وهذا بالذات هو التفسير الذي يقدمه اللاجئ السوفياتي يوري غلازوف (Yuri Glasov) حين يشرح كيف أن قوة الماركسية، مثلاً، لا تقوم على الحقيقة، بل على ضخامتها وعلى مزعوم احتكارها للكمال. يقول: «الاتحاد السوفيتي هو بلد الأيديولوجية الماركسية اللينينية الرسمية، هذه الأيديولوجية أتى تتغلغل في كافة مستويات المجتمع تغلغلاً شاملاً ومستعصياً قد يفوق تغلغل الدين في ظل أي حكومة كهنوتية. وهناك أناس كثيرون يتراءى لهم أن التلقين الماركسي يسري في عروقهم، ولكن حتى هذا الشعور بأنهم أشربوا فيضا من الأيديولوجية الماركسية لا يمدهم بأي قوة للصمود أمامها. فمن الخصال التي يتسم بها المواطن السوفياتي أنه ينتقد النظام أو أيديولوجيته في بعض تفاصيلها، ولكنه لا ينتقده أبداً في مجمله. وكلما تعمق الفرد في دراسة الماركسية اللينينية تفاقم إحساسه بأنه، رغم معارفه وخليفته، عاجز عن الإطاحة بالتراث الماركسي. ذلك أنه يشعر برهبة استثنائية إزاء تصوره أنه سيجد نفسه في الخواء دون أي نظرية أو أيديولوجية البتة، إذ ليس لديه أي شيء يستعيض به عنها –لا نظرية مقبولة ومختبرة، ولا منظور عالمي مثل هذه السمات».
والماركسية لا تعدو أن تكون ضرباً واحداً من مادية النظرة القديمة، ولكنها مثال جلي على صعوبة الفكاك من نظرة كونية مستحكمة. صحيح أن المرء قد يختلف مع النظرة السائدة في حضارته إلى العالم، بل قد يكافحها، ولكنه لن يكون في أي حسن صنواً لها كقوة اجتماعية.
ومادية النظرة القديمة قد هيمنت منذ عصر النهضة على ثقافتنا، فأثرت اختيارنا للمناهج، وفي مقولاتنا الفكرية، وفي تخيلاتنا، بل فيما نستخدمه من مفردات. فمنذ أيام هوبز، مثلاً، يستخدم معظم الكتابات في علم النفس مفردات ميكانيكية من غير أن يدرك أصحابها في الغالب أصلها المستمد من النموذج الآلي للإنسان. ومنذ عصر داروين تتردد عبارة «البقاء» على جميع الألسنة لتفسير كل الأشياء تقريباً.
والنظرة الكونية تحظى بقوة عظيمة وتتخلل كل شيء، ولكنها ليست أهم عنصر من عناصر المعرفة الإنسانية. فالخبرة المشتركة بين الناس كافة هي التي تشكل الأساس المطلق الذي تقوم عليه المعرفة الإنسانية. لماذا، إذاً، لم يلجأ أحد إلى الخبرة العامة بغية تصحيح ضيق المذهب المادي؟ الجواب هو أن هذا لم يكن وارداً لأن النظرة القديمة قوضت وسفهت حجية الخبرة العامة، كما مر بنا في الفصل السادس. وهكذا رأينا النظرة القديمة، بمجرد أن رسخت أقدامها، تبدأ بتقديم تفسير جديد للمعلومات المستفادة من الخبرة العامة، مبرزة بعضها ورافضة بعضها الآخر. ورأيناها تقرر، لرجل العلم ولرجل الشارع على السواء، ما هو حقيقي وما ليس بحقيقي، وتحدد المكان الذي ينبغي له فيه أن يبحث عن إجابات عن تساؤلاته، وتقرر نيابة عنه ما الذي يستطيع أن يتوقعه، وكيف ينبغي له أن يفسر النتائج. وبهذه الطريقة اغتصبت مادية النظرة القديمة، تدريجياً مهمة الخبرة العامة ذاتها.
وبسبب رفض النظرة القديمة للخبرة العامة لم يكن في المستطاع التغلب عليها إلا بسلطة واحدة فقط هي سلطة الخبرة العلمية المتخصصة، تلك الخبرة التي تشكل مصدر النظرة الجديدة. وهذه النظرة الجديدة، ما تأكيدها على استقلال العقل وأوليته، لا تقوم في أي من جوانبها على الإدعاء بأنها تقدم «عزاء» أكبر مما تقدمه المادية. فلو كانت النظرة القديمة صحيحة لكان لزاماً علينا أن نتعلم التعايش معها، أيا كان مبلغها من العدمية أو الإزعاج. ولكن الواقع هو أن تلك النظرة أثبتت قصورها لتعذر المواءمة ما بين منهجها وبين الحقائق التي كشفتها نظرية النسبية، وميكانيكا الكم، ومبحث الأعصاب، والفيزياء الفلكية. وهكذا يصر يوجين فيغنر على أنه، في فيزياء القرن العشرين، «قادت دراسة العالم الخارجي ذاتها إلى ما يفيد أن مضمون الوعي هو حقيقة مطلقة». وعلى ذلك، فإن ضرورة الاستعاضة عن النظرة القديمة لا تنشأ عن كون هذه النظرة لا تقدم لنا عزاء، بل عن كونها مضللة. وكل ما في الأمر هو أن المادية، بعد أن اختبرت على أوسع نطاق ممكن في جميع فروع العلم، قد أخفقت في اجتياز امتحان التجربة.
وفي الوقت الراهن، تتأرجح ثقافتنا بين النظرة القديمة والنظرة الحديثة، وكما رأينا في الفصول السابقة فإن علم الفيزياء ومبحث الأعصاب في القرن العشرين يعترفان باستقلال العقل وعدم قابلية إرجاعه إلى مادة. غير أن هناك فروعاً أخرى من المعرفة لا تزال إلى حد بعيد خاضعة لنفوذ النظرة القديمة، وبعض العلماء يناصر النظرة الجديدة بوضوح وثبات، وكان هؤلاء أول من تخطى النظرة القديمة لأن كشوفهم العلمية الكبرى قادتهم إلى التخلي عن المادية. ومن المفكرين المعاصرين من يواصل عمله بشكل يكون كلياً ضمن إطار النظرة القديمة. كما أن هناك آخرين يعترفون ببعض عناصر النظرة الجديدة، ولكنهم يحاولون الاحتفاظ بالإطار العام لمنحي النظرة القديمة. على أن الترابط القائم داخل النظرة القديمة من جهة وداخل النظرة الجديدة من جهة أخرى يجعل قيام تسوية لا تناقض فيها بين النظرتين أمراً بعيد الاحتمال.
أما فيما يتعلق بالمستقبل فلا تزال هناك أشياء كثيرة عن المادة ينبغي اكتشافها، ولكن المادية ذاتها تبدو كأنها أصيبت بالإرهاق. صحيح أنها تستطيع أن تبقى، ولكنها لن تبقى إلا على حساب تحولها لتصبح تدريجياً أكثر ضيقاً وأشد تعصباً وظلامية. أما النظرة العلمية الجديدة، من جهة أخرى، فينتظر لها مستقبل مرموق. وقد رأينا أنها غيرت بالفعل طبيعة الفيزياء المعاصرة. ومن المنتظر أن تتجه حقول المعرفة التي قولبت نفسها على غرار الفيزياء القديمة إلى التكيف في نهاية الأمر مع الفيزياء الجديدة، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج. فأولية العقل تعطي لكافة العلوم منظوراً جديداً ونوراً جديداً. والنظرة الجديدة تبشر بتحرير وإنارة كل حقل من حقول المعرفة، ميسرة بذلك قيام نهضة حقيقية في عصرنا.
وفي وسعنا أن نتوقع تحول الفلسفة المعاصرة، تشجعها على ذلك النظرة الجديدة، عن يأسها الفكري إلى بحث صحي ونشيط عن حكمة ترتكز على يقينيات الخبرة العامة. أما فيما يتعلق بالدين فالظاهر أن مستقبل النظرة الجديدة يوحى بالعودة بثقافتنا إلى الإيمان بوجود الله الواحد، وبإعادة التأكيد على الجانب الروحي من طبيعة الإنسان. وأخيراً، وعلى صعيد الفنون، تزيل النظرة الجديدة من علم النفس وعلم الكونيات أسباب النفور والعبثية، مستعيضة عنهما بالغائية والله والجمال والعناصر الروحية وكرامة الإنسان. وهكذا نجد للفنون مرة أخرى ما يستحق أن تمجده وللشاعر ما هو جدير بأنشودته: إن الكون هو المكان الطبيعي للإنسان.
تم بحمد الله
حسن المرسى
12-25-2010, 02:35 AM
يرفع للفائدة
الكتاب يتناول قضايا مهمة
ومواضيع مثيرة
باقتباسات من كلام كبار العلماء الغربيين
حسن المرسى
05-10-2012, 11:07 PM
يرفع
د. هشام عزمي
06-07-2013, 09:52 PM
للرفع
واسطة العقد
06-08-2013, 04:43 AM
الكتاب بي دي اف
http://ia600205.us.archive.org/5/items/aalam_almaarifa/134.pdf
حسن المرسى
06-08-2013, 07:46 PM
كتاب قيم
Powered by vBulletin™ Version 4.2.1 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, ENGAGS © 2010