حازم
01-28-2005, 11:13 PM
بقلم : أبوإسلام أحمد عبدالله
مازالت دعوة الفوضوية تحتل مساحة غير قليلة في عقول من يطلق عليهم فى فرنسا اسم البرجوازية الراديكالية الصغيرة، الذىن اتخذوا من الفوضوية عقيدة، عقدوا لأجلها المنتديات الفكرية وأصدروا الصحف العديدة لنشر مبادئها.
وتعود نشأة هذه العقيدة الفوضوية، إلى فترتي الصرع والصراع المذهبىين اللذىن أصابا أوربا خلال القرن التاسع عشر .
وقد اشتهر الفوضويون بعدائهم الشديد للمرأة، وكوَّنوا جبهة قوية لمواجهة الأفكار الشيوعية التي جعلت من حقوق المرأة تكئة لنشر أفكارها الهدامة، وزعزعة استقرار المؤسسات الدينية والحكومات الرأسمالية، بإشعال الثورات الداخلية، وتنظيم اعتصامات ومظاهرات النساء، لتكون (حطب) النار المؤجَّجَة.
وبغض النظر عن الأهداف السياسية التي تبنّاها الطرفين، فإن الذي يهمنا هنا، هو أشكال الطرح الفكري لـ الفوضويين، في مواجهة جمعيات ومنظمات تحرير المرأة (الشيوعية) التى اشتهرت في فرنسا بـاسم (Feminism) أي (النسوانية).
لم يجد بيير جوزيف برودون (1809 - 1875) المُلقّب بأبي الفوضوية الفرنسية، أية غضاضة من تَلَمُّس أية مبررات لتأكيد وجهة نظره القائمة على احتقار المرأة ودورها السياسي الذي ألبسته إياها التنظيمات الشيوعية، فيشير بإلحاح إلى صغر حجم المرأة من الناحية البدنية - ولعله كان يقصد المرأة الفرنسية تحديداً، ولم ير بدانة الإيطاليات أو الروسيات مثلاً ـ ثم يشير إلى سلبيتها المفترضة فى الفعل الجنسي، فحسب زعمه أن هذين العنصرين هما أهم الشواهد المرئية والملموسة على ضعفها مقارنة بالرجل.
ثم يضيف قائلاً : كما أن كِِبَر حجم الفخذين والحوض والثديين عند المرأة، هي أدلة على تحديد وظيفتها الوحيدة في الحياة، كحاملة للأطفال، ومرضعة لهم.
ويقول ى. هيامز مؤلف كتاب بيير جوزيف، لندن 1979 (ص 274): إن بيير لمزيد من تأكيد وجهة نظره، أشار إلى الحقيقة العلمية التي تؤكد على صِغَر الحجم النسبي لمخ المرأة، لكنه اتخذ من تلك الحقيقة الخلقية (بكسر الخاء)، دليلاً دامغاً على دونيتها العقلية والخلقية (بضم الخاء)، مستخدماً نظاماً عجيباً من القيم الرقمية للمقارنة بين الرجل والمرأة، مفترضاً أن الرجل يعادل 3:2 للمرأة بدنياً، وبناء على هذا النظام الرقمي يصل إلى نتيجة مؤداها أن للمرأة قدرات على التعلم واتخاذ القرار والمبادرة و... لكنها قدرات محدودة تتساوى في الغالب مع قدرات الأطفال والصبيان.
وبالتالي، فإن العبقرية عنده هي رجولة الروح ورجولة الجسد، وهي الملكات المصاحبة لتلك الروح، من قدرة على التجريد والتعميم والإبداع وتكوين المفاهيم، وكلها مواهب - حسب زعمه - يفتقر إليها الطفل والقزم والمرأة على حد سواء.
وباعتبار أن الطبيعة عند الفوضويين هي التي تخلق وترزق وتحيي وتميت، يعود بيير ثانية إلى التكوين الجسدى للمرأة قائلاً: (ص246) إن الطبيعة اختارت المرأة لتكون مجرد أداة لتجديد النوع البشري، وأن وظيفتها الوحيدة التي يفيد منها المجتمع الإنساني، هى حملها للأطفال، وعدا ذلك فإن وجودها بحد ذاته لاداعي له، ولأنها تُكلّف الرجل أكثر مما تكسب، فليس أمامها سوى اختيار واحدة من وظيفتين : إما ربة بيت أو عاهرة)
ثم يلخص بيير رؤية الفوضويون حتى اليوم، حول مكانة المرأة في المجتمع قائلاً : (إن الرجل هو السيد، وعلى المرأة الطاعة).
فلسفة التحرر
فماذا عن حلم التحرر الذي نسجته المرأة الفرنسية، بإيعاز من بعض القوى السياسية والفكرية، في مواجهة قوى سياسية وفكرية ودينية أخرى، ظلت قابعة على أنفاس أوربا سنوات طويلة ؟
يقول بيير برودون: ( إن كل امرأة تحلم بالتحرر، تكون قد فقدت بهذا الحلم صحة روحها، وصفاء عقلها، ونقاء قلبها).
وتحسباً لاحتمالية وقوع المرأة في شِراك هذا الحلم الفاسد، أوصى بيير بأن تشمل الأسباب المشروعة لقتل الزوجة :(الخيانة، الوقاحة السُكر، التهتك، الإسراف، السرقة، الإصرار على عدم الطاعة).
ويحذر المجتمع إلى أن (كون المرأة ليست سوى حيوان جميل، فإن إنصاتها إلى هؤلاء الأقزام الذين يغذونها بشعارات مساواة المرأة ـ الكاذبة ـ سوف ينتهى بها إلى نتيجة حتمية هي: الحب الحر (أي ممارسة البغاء)، وتحقير العلاقات الزوجية، وإدانة الأنوثة النقية، وإثارة الحقد ضد الرجولة، ثم تتويجاً لكل ذلك، فسق لايُخمَد. وتلك هي فلسفة كل امرأة تَدّعي المطالبة بالحرية).
المرأة وملح الطعام
في عام 4681، عندما تأسس في فرنسا الاتحاد الدولى للعمال الذي عُرِف فيما بعد باسم الأممية الأولى، اقترع مجلسه العام، برئاسة كارل ماركس - مؤسس الشيوعية - على السماح بانضمام النساء لعضويته، لكن الوفد الفرنسي رفض الاقتراح بأغلبية كبيرة مبررين موقفهم في محضر الجلسة بأن (مكان المرأة بجانب مدفأة البيت، لا في المنتديات العامة، فللرجال العمل ودراسة المشكلات وللنساء رعاية الأطفال وتزيين البيت) .
ولوجود بعض الوفود النسائية داخل مجلس الاتحاد، فقد رأى المقترعون أن نساء المجلس لن يخضعن لأي قرار يصدره المجلس بشأن مشاركة المرأة في الحقوق السياسية، فوافقت الوفود جميعها على شعار واحد هو (إن أعظم اسم على الأرض هو اسم الأب).
وفي ديباجة الشعار قالوا : ( إن القطاع الذي تختص به المرأة وهو الأسرة، هو حجر الزاوية في البنيان الاجتماعي، وهي الملاذ الحاني للقلوب الحزينة، والأرواح المعذبة المرهقة، وهي المعلم للأولاد، ثم إضافة إلى ذلك: إذا ما صارت الزوجة نائبة للأمة، فمن يضبط ملح الطعام للزوج والأولاد؟ ).
وبذلك خسرت المرأة الفرنسية حقاً كان مقرراً لها في اقتراع للمؤتمر الوطني منذ مايو 5971، يسمح لها بحضور اجتماعات المؤتمر، للفُرجَة، إذا كانت بصحبة رجل يحمل بطاقة (مواطن).
ولمواجهة المد الشيوعي المتمثل فى جمعيات ومنظمات النسوان - بحسب اسمها القانوني والتاريخي - لم تكتف الهيئات والمؤسسات المناهضة بأن يكون الرجل وحده فى مواجهة الصراخ النسوانى، فقد اشتعلت ثورة معاكسة فى نادي كلية الطب في باريس، حيث طالبت عضوات النادي الطبيبات والممرضات، إلقاء القبض فوراً على جميع الزميلات المشتبه في أخلاقهن ممن رفعوا الشعارات الشيوعية حول مساواة المرأة بالرجل، واللاتي يمارسن المهن المخزية في الشوارع العامة، وكذلك السكّيرات اللاتي نسين احترامهن لأنفسهن، وإقفال المقاهي - التي افتتحت لاستقبالهن - في الساعة الحادية عشر ليلاً، ومنع التدخين في الحغلات العامة).
الوجه الآخر للاسطوانة المشروخة
في السطور السابقة استعرضنا الوجه الأول للاسطوانة المشروخة في نادي حرية المرأة، لأنها وإن حملت شيئاً من القيم الأخلاقية، فهي نتاج أهواء ورغبات وحسابات سياسية، في فترة من أسوأ الفترات التي مرت بها أوربا عامة، وباريس خاصة، فيما عرف باسم ثورة الخبز أو انتفاضة الجوع.
لذلك فإن الوجه الآخر من الاسطوانة، كان مشروخاً أيضاً، إذ أن هذه الثورة (ثورة الخبز) التي أخذت طابعاً نسائياً، ورفعت شعار (التحرر)، واستخدمها الساسة لإسقاط خصومهم، هي التي شهدت أولى براعم الأخلاقيات الجنسية الجديدة باسم (التعدد)، كيداً للكنيسة السياسية الكاثوليكية حينذاك في باريس، فَتَلقّى مبدأ الزواج الشرعي نصيبه القاسي من النقد والرفض والإدانة، حتى اضطرت سلطات مجلس عموم مدينة باريس في 01 أبريل 1781، إلى إقرار قانون بصرف معاش لأرامل وأطفال جميع المواطنين الذين قُتِلوا أثناء الدفاع عن حقوق الشعب الجائع، سواءكانت هذه الأرامل زوجات شرعيات للقتلى أم عشيقات، وسواء كان الأطفال شرعيين أو أبناء سفاح.
وكان هذا يعني أن علاقات الزنا عوملت حسب القانون الجديد، على قدم المساواة مع علاقات الزواج الشرعي، تنكيلاً للكنيسة ورجال الدين المتمثلين في مؤسسة الزواج التي ترتبط بصورة أو بأخرى بالعقيدة والكهنة والقساوسة والبابا الأكبر.
وحسب تعبير توني كليف مؤلف كتاب النضال الطبقي وتحرر المرأة، فسريعاً (تجرأت عاهرات الحرية ووقفت واحدة منهن بين الجماهير، داخل كنيسة سانت جاك، على مرمى ومسمع القسس والرهبان، لتصف الزواج بأنه الخطأ الأعظم فى تاريخ البشرية).
ثم اقترحت مشروعاً لقانون بوقف صرف معاشات الأرامل، فقط على عشيقات القتلى من الحرس الوطني الذي واجه الرصاص في سبيل حقوق الشعب، وأعلنت شعاراً رددته خلفها كل الحضور العاهرات: ( كل شىء للنساء الحرة، ولا شىء للجواري) والمقصودات هنا بالجواري، النساء المتزوجات.
صك الحرية والوعد الكاذب
اتفقت المراصد التاريخية لأحداث ثورة الخبز أو انتفاضة الجوع التي اجتاحت فرنسا عام 0781، أن الوجه الذي ظهرت به المرأة الفرنسية، كان أشد عنفاً من كل أشكال الخلل والتطرف والانحراف الذي اشتهرن به (لقد تصرف الجنس الأضعف بصورة فاضحة في تلك الأيام الفظيعة، فأولئك اللائي مارسن كل أنواع المجون مع أعضاء مجلس البلدية - وكن كثيرات - لم يكن لديهن سوى طموح واحد: أن يرتفعهن بأنفسهم فوق مستوى الرجل بالمبالغة في رذائله، كن جميعاً هناك، من كل الطبقات والمهن: خياطات السادة، وصانعات القمصان، ومعلمات المدارس، والخادمات،يُحَرّضن ويصرخن). ثم يضيف أديث توماس فى كتابه: مضرمات الحرائق (لندن 6691، ص 54 ، 64): (كانت النسوان، كالرجال، مُتّقِدات، عنيدات، مجنونات، ولم يحدث من قبل أن ظهرن بكل هذه الأعداد، يواجهن الخطر ويتحدين الموت، ويضمدن الجراح لصالح مجلس عموم فرنسا، فى مواجهة سياسات القوى الرأسمالية والكنيسة المستبدة).
فهل صدق مجلس العموم فى تحقيق وعوده للنسوان الأحرار بعدما انتصروا له ؟
وهل حققت منظمات النسوان مآربهن بمعاداتهم للكنيسة الكاثوليكية وأفكارها الدينية المتطرفة - حسب وصفهن - ؟
اجتمع مجلس العموم، وقرر بإجماع: (عدم الثقة فى المنظمات النسوانية، حتى تلك التي صمدت في مواجهة الرصاص وقاومن خلف المتاريس أطول مما فعل الرجال، اعتقاداً من المجلس بأن المرأة وإن تمردت ضد الصلاة، وإن رفضت الكنيسة، وإن لعنت رجال الدين، فهي أكثر خضوعاً في مواجهة الطقوس الدينية، وبذلك فلن تعطَى للنسوان أية حقوق مدنية من تلك التي كان قد وعد بها مجلس العموم، ولن يُسمح لهن بالمشاركة في الانتخابات، برغم كل الدماء والتضحيات التي بذلوها).
مذبحة العاريات
لم ترض القوى الشيوعية بهزيمة أدواتها النسائية، وساءها غدر مجلس عموم فرنسا بوعوده نحو التحولات الجذرية للمجتمع في إقرار ما طالبت به النسوان من حريات، فبدأن في استعادة تنظيم صفوفهن، ثم على الفور قررن إعلان الثورة من جديد.
غير أن أياماً قليلة لم تمر، حتى أعلن مجلس العموم التخلص من كل النسوان اللائي وقفن معه من قبل فى مواجهة الحكومة، واتهمهن بأثر رجعي، بإشعال الحرائق فى المدينة.
وعلى الفور تم القبض على ألف وخمسمائة امرأة باريسية، وتشكَّل (مجلس حرب) وأصدر المحكمة العسكرية حكمهاب بتجريدهن تماماً من ملابسهن بأيدى الجنود الفرنسيين، ثم قتلهن جميعاً الواحدة تلو الأخرى، بصورة بشعة تُعرف اليوم في التاريخ الفرنسي بـ انتقام فرساى الفظيع.
ثم سُمح للجماعات النسوانية البراجوازية المعادية للمنظمات النسوانية المغدور بها، أن يتنزهن بملابسهن الأنيقة للمتعة، مشياً على أقدامهن بين جثث النسوان القتلى العرايا تماماً، حتى قالت صحيفة لاسييكل المحافظة حينذاك فى عددها 30 مايو 1871: (ورأينا سيدات أنيقات بوجههن المساحيق، يرفعن بطرف مظلاتهن آخر ما بقى يستر جسد أية واحدة من ضحايا المجزرة).
ويعلق تونى كليف (النضال الطبقي وتحرر المرأة) (ص.8): (لم تكن بين هؤلاء النسوان صاحبات السواعد العارية، وبين النسوان البرجوازيات، أي أرض مشتركة، بل كان بينهما صراع حياة أو موت، تصفية لحسابات بين فريقين سياسيين، ولذا لم يَعرف انتقام البرجوازيات وغلَّهن حدوداً تجاه (أخواتهن) العاملات).
الكابوس الماركسي
ومازالت كل مجموعة من المجموعتين ترفع شعاراتها حتى اليوم بالحرية، والمساواة، وحقوق المرأة، حسب قواعد اللعبة السياسية.
ومن خلال بعض المتغربين والمتغربات فى بلادنا، أبت بعض النسوان العربيات، إلا أن يُستدرجن إلى شباك اللعبة.
ويرددن كالببغاوات التبريرات الساذجة لـ كارل ماركس الذي كان بأفكاره التمردية المسمومة، وراء هذه المذابح الدموية للمرأة الفرنسية، ولعشرات الحروب القومية فى العالم، قائلاً: (إن السبب فيما حدث لنسوان فرنسا، هو الإرث الروحي لأجيال فرنسا السابقة، التى ارتبطت بشىء اسمه (الله)، ولأن تقاليد كل الأجيال الميتة، كانت تجثم مثل كابوس على دماغ الأحياء).
ونقول نحن، أن ذلك القول قد ينال نصيباً كبيراً من الصدق بالنسبة لتراث فرنسا الكاثوليكي واستبداد الكنيسة، وبالنسبة لتراث روسيا الإلحادي واستبداد الفاشية، فكلاهما ارتبط بعبادة المال والجنس، أو تجارة صكوك الغفران وعبادة السلطة المطلقة، لكنه من غير المقبول، أن يصدق مثل هذا الخبل على تراث العرب (مسلمين وغير مسلمين) الذي ارتبط بالعدل والإحسان والتواد والتراحم، وضبط العلاقات الزوجية وفق قوانين إلهية، يعجز عن فهمها الشيوعيين والعلمانيين.
مازالت دعوة الفوضوية تحتل مساحة غير قليلة في عقول من يطلق عليهم فى فرنسا اسم البرجوازية الراديكالية الصغيرة، الذىن اتخذوا من الفوضوية عقيدة، عقدوا لأجلها المنتديات الفكرية وأصدروا الصحف العديدة لنشر مبادئها.
وتعود نشأة هذه العقيدة الفوضوية، إلى فترتي الصرع والصراع المذهبىين اللذىن أصابا أوربا خلال القرن التاسع عشر .
وقد اشتهر الفوضويون بعدائهم الشديد للمرأة، وكوَّنوا جبهة قوية لمواجهة الأفكار الشيوعية التي جعلت من حقوق المرأة تكئة لنشر أفكارها الهدامة، وزعزعة استقرار المؤسسات الدينية والحكومات الرأسمالية، بإشعال الثورات الداخلية، وتنظيم اعتصامات ومظاهرات النساء، لتكون (حطب) النار المؤجَّجَة.
وبغض النظر عن الأهداف السياسية التي تبنّاها الطرفين، فإن الذي يهمنا هنا، هو أشكال الطرح الفكري لـ الفوضويين، في مواجهة جمعيات ومنظمات تحرير المرأة (الشيوعية) التى اشتهرت في فرنسا بـاسم (Feminism) أي (النسوانية).
لم يجد بيير جوزيف برودون (1809 - 1875) المُلقّب بأبي الفوضوية الفرنسية، أية غضاضة من تَلَمُّس أية مبررات لتأكيد وجهة نظره القائمة على احتقار المرأة ودورها السياسي الذي ألبسته إياها التنظيمات الشيوعية، فيشير بإلحاح إلى صغر حجم المرأة من الناحية البدنية - ولعله كان يقصد المرأة الفرنسية تحديداً، ولم ير بدانة الإيطاليات أو الروسيات مثلاً ـ ثم يشير إلى سلبيتها المفترضة فى الفعل الجنسي، فحسب زعمه أن هذين العنصرين هما أهم الشواهد المرئية والملموسة على ضعفها مقارنة بالرجل.
ثم يضيف قائلاً : كما أن كِِبَر حجم الفخذين والحوض والثديين عند المرأة، هي أدلة على تحديد وظيفتها الوحيدة في الحياة، كحاملة للأطفال، ومرضعة لهم.
ويقول ى. هيامز مؤلف كتاب بيير جوزيف، لندن 1979 (ص 274): إن بيير لمزيد من تأكيد وجهة نظره، أشار إلى الحقيقة العلمية التي تؤكد على صِغَر الحجم النسبي لمخ المرأة، لكنه اتخذ من تلك الحقيقة الخلقية (بكسر الخاء)، دليلاً دامغاً على دونيتها العقلية والخلقية (بضم الخاء)، مستخدماً نظاماً عجيباً من القيم الرقمية للمقارنة بين الرجل والمرأة، مفترضاً أن الرجل يعادل 3:2 للمرأة بدنياً، وبناء على هذا النظام الرقمي يصل إلى نتيجة مؤداها أن للمرأة قدرات على التعلم واتخاذ القرار والمبادرة و... لكنها قدرات محدودة تتساوى في الغالب مع قدرات الأطفال والصبيان.
وبالتالي، فإن العبقرية عنده هي رجولة الروح ورجولة الجسد، وهي الملكات المصاحبة لتلك الروح، من قدرة على التجريد والتعميم والإبداع وتكوين المفاهيم، وكلها مواهب - حسب زعمه - يفتقر إليها الطفل والقزم والمرأة على حد سواء.
وباعتبار أن الطبيعة عند الفوضويين هي التي تخلق وترزق وتحيي وتميت، يعود بيير ثانية إلى التكوين الجسدى للمرأة قائلاً: (ص246) إن الطبيعة اختارت المرأة لتكون مجرد أداة لتجديد النوع البشري، وأن وظيفتها الوحيدة التي يفيد منها المجتمع الإنساني، هى حملها للأطفال، وعدا ذلك فإن وجودها بحد ذاته لاداعي له، ولأنها تُكلّف الرجل أكثر مما تكسب، فليس أمامها سوى اختيار واحدة من وظيفتين : إما ربة بيت أو عاهرة)
ثم يلخص بيير رؤية الفوضويون حتى اليوم، حول مكانة المرأة في المجتمع قائلاً : (إن الرجل هو السيد، وعلى المرأة الطاعة).
فلسفة التحرر
فماذا عن حلم التحرر الذي نسجته المرأة الفرنسية، بإيعاز من بعض القوى السياسية والفكرية، في مواجهة قوى سياسية وفكرية ودينية أخرى، ظلت قابعة على أنفاس أوربا سنوات طويلة ؟
يقول بيير برودون: ( إن كل امرأة تحلم بالتحرر، تكون قد فقدت بهذا الحلم صحة روحها، وصفاء عقلها، ونقاء قلبها).
وتحسباً لاحتمالية وقوع المرأة في شِراك هذا الحلم الفاسد، أوصى بيير بأن تشمل الأسباب المشروعة لقتل الزوجة :(الخيانة، الوقاحة السُكر، التهتك، الإسراف، السرقة، الإصرار على عدم الطاعة).
ويحذر المجتمع إلى أن (كون المرأة ليست سوى حيوان جميل، فإن إنصاتها إلى هؤلاء الأقزام الذين يغذونها بشعارات مساواة المرأة ـ الكاذبة ـ سوف ينتهى بها إلى نتيجة حتمية هي: الحب الحر (أي ممارسة البغاء)، وتحقير العلاقات الزوجية، وإدانة الأنوثة النقية، وإثارة الحقد ضد الرجولة، ثم تتويجاً لكل ذلك، فسق لايُخمَد. وتلك هي فلسفة كل امرأة تَدّعي المطالبة بالحرية).
المرأة وملح الطعام
في عام 4681، عندما تأسس في فرنسا الاتحاد الدولى للعمال الذي عُرِف فيما بعد باسم الأممية الأولى، اقترع مجلسه العام، برئاسة كارل ماركس - مؤسس الشيوعية - على السماح بانضمام النساء لعضويته، لكن الوفد الفرنسي رفض الاقتراح بأغلبية كبيرة مبررين موقفهم في محضر الجلسة بأن (مكان المرأة بجانب مدفأة البيت، لا في المنتديات العامة، فللرجال العمل ودراسة المشكلات وللنساء رعاية الأطفال وتزيين البيت) .
ولوجود بعض الوفود النسائية داخل مجلس الاتحاد، فقد رأى المقترعون أن نساء المجلس لن يخضعن لأي قرار يصدره المجلس بشأن مشاركة المرأة في الحقوق السياسية، فوافقت الوفود جميعها على شعار واحد هو (إن أعظم اسم على الأرض هو اسم الأب).
وفي ديباجة الشعار قالوا : ( إن القطاع الذي تختص به المرأة وهو الأسرة، هو حجر الزاوية في البنيان الاجتماعي، وهي الملاذ الحاني للقلوب الحزينة، والأرواح المعذبة المرهقة، وهي المعلم للأولاد، ثم إضافة إلى ذلك: إذا ما صارت الزوجة نائبة للأمة، فمن يضبط ملح الطعام للزوج والأولاد؟ ).
وبذلك خسرت المرأة الفرنسية حقاً كان مقرراً لها في اقتراع للمؤتمر الوطني منذ مايو 5971، يسمح لها بحضور اجتماعات المؤتمر، للفُرجَة، إذا كانت بصحبة رجل يحمل بطاقة (مواطن).
ولمواجهة المد الشيوعي المتمثل فى جمعيات ومنظمات النسوان - بحسب اسمها القانوني والتاريخي - لم تكتف الهيئات والمؤسسات المناهضة بأن يكون الرجل وحده فى مواجهة الصراخ النسوانى، فقد اشتعلت ثورة معاكسة فى نادي كلية الطب في باريس، حيث طالبت عضوات النادي الطبيبات والممرضات، إلقاء القبض فوراً على جميع الزميلات المشتبه في أخلاقهن ممن رفعوا الشعارات الشيوعية حول مساواة المرأة بالرجل، واللاتي يمارسن المهن المخزية في الشوارع العامة، وكذلك السكّيرات اللاتي نسين احترامهن لأنفسهن، وإقفال المقاهي - التي افتتحت لاستقبالهن - في الساعة الحادية عشر ليلاً، ومنع التدخين في الحغلات العامة).
الوجه الآخر للاسطوانة المشروخة
في السطور السابقة استعرضنا الوجه الأول للاسطوانة المشروخة في نادي حرية المرأة، لأنها وإن حملت شيئاً من القيم الأخلاقية، فهي نتاج أهواء ورغبات وحسابات سياسية، في فترة من أسوأ الفترات التي مرت بها أوربا عامة، وباريس خاصة، فيما عرف باسم ثورة الخبز أو انتفاضة الجوع.
لذلك فإن الوجه الآخر من الاسطوانة، كان مشروخاً أيضاً، إذ أن هذه الثورة (ثورة الخبز) التي أخذت طابعاً نسائياً، ورفعت شعار (التحرر)، واستخدمها الساسة لإسقاط خصومهم، هي التي شهدت أولى براعم الأخلاقيات الجنسية الجديدة باسم (التعدد)، كيداً للكنيسة السياسية الكاثوليكية حينذاك في باريس، فَتَلقّى مبدأ الزواج الشرعي نصيبه القاسي من النقد والرفض والإدانة، حتى اضطرت سلطات مجلس عموم مدينة باريس في 01 أبريل 1781، إلى إقرار قانون بصرف معاش لأرامل وأطفال جميع المواطنين الذين قُتِلوا أثناء الدفاع عن حقوق الشعب الجائع، سواءكانت هذه الأرامل زوجات شرعيات للقتلى أم عشيقات، وسواء كان الأطفال شرعيين أو أبناء سفاح.
وكان هذا يعني أن علاقات الزنا عوملت حسب القانون الجديد، على قدم المساواة مع علاقات الزواج الشرعي، تنكيلاً للكنيسة ورجال الدين المتمثلين في مؤسسة الزواج التي ترتبط بصورة أو بأخرى بالعقيدة والكهنة والقساوسة والبابا الأكبر.
وحسب تعبير توني كليف مؤلف كتاب النضال الطبقي وتحرر المرأة، فسريعاً (تجرأت عاهرات الحرية ووقفت واحدة منهن بين الجماهير، داخل كنيسة سانت جاك، على مرمى ومسمع القسس والرهبان، لتصف الزواج بأنه الخطأ الأعظم فى تاريخ البشرية).
ثم اقترحت مشروعاً لقانون بوقف صرف معاشات الأرامل، فقط على عشيقات القتلى من الحرس الوطني الذي واجه الرصاص في سبيل حقوق الشعب، وأعلنت شعاراً رددته خلفها كل الحضور العاهرات: ( كل شىء للنساء الحرة، ولا شىء للجواري) والمقصودات هنا بالجواري، النساء المتزوجات.
صك الحرية والوعد الكاذب
اتفقت المراصد التاريخية لأحداث ثورة الخبز أو انتفاضة الجوع التي اجتاحت فرنسا عام 0781، أن الوجه الذي ظهرت به المرأة الفرنسية، كان أشد عنفاً من كل أشكال الخلل والتطرف والانحراف الذي اشتهرن به (لقد تصرف الجنس الأضعف بصورة فاضحة في تلك الأيام الفظيعة، فأولئك اللائي مارسن كل أنواع المجون مع أعضاء مجلس البلدية - وكن كثيرات - لم يكن لديهن سوى طموح واحد: أن يرتفعهن بأنفسهم فوق مستوى الرجل بالمبالغة في رذائله، كن جميعاً هناك، من كل الطبقات والمهن: خياطات السادة، وصانعات القمصان، ومعلمات المدارس، والخادمات،يُحَرّضن ويصرخن). ثم يضيف أديث توماس فى كتابه: مضرمات الحرائق (لندن 6691، ص 54 ، 64): (كانت النسوان، كالرجال، مُتّقِدات، عنيدات، مجنونات، ولم يحدث من قبل أن ظهرن بكل هذه الأعداد، يواجهن الخطر ويتحدين الموت، ويضمدن الجراح لصالح مجلس عموم فرنسا، فى مواجهة سياسات القوى الرأسمالية والكنيسة المستبدة).
فهل صدق مجلس العموم فى تحقيق وعوده للنسوان الأحرار بعدما انتصروا له ؟
وهل حققت منظمات النسوان مآربهن بمعاداتهم للكنيسة الكاثوليكية وأفكارها الدينية المتطرفة - حسب وصفهن - ؟
اجتمع مجلس العموم، وقرر بإجماع: (عدم الثقة فى المنظمات النسوانية، حتى تلك التي صمدت في مواجهة الرصاص وقاومن خلف المتاريس أطول مما فعل الرجال، اعتقاداً من المجلس بأن المرأة وإن تمردت ضد الصلاة، وإن رفضت الكنيسة، وإن لعنت رجال الدين، فهي أكثر خضوعاً في مواجهة الطقوس الدينية، وبذلك فلن تعطَى للنسوان أية حقوق مدنية من تلك التي كان قد وعد بها مجلس العموم، ولن يُسمح لهن بالمشاركة في الانتخابات، برغم كل الدماء والتضحيات التي بذلوها).
مذبحة العاريات
لم ترض القوى الشيوعية بهزيمة أدواتها النسائية، وساءها غدر مجلس عموم فرنسا بوعوده نحو التحولات الجذرية للمجتمع في إقرار ما طالبت به النسوان من حريات، فبدأن في استعادة تنظيم صفوفهن، ثم على الفور قررن إعلان الثورة من جديد.
غير أن أياماً قليلة لم تمر، حتى أعلن مجلس العموم التخلص من كل النسوان اللائي وقفن معه من قبل فى مواجهة الحكومة، واتهمهن بأثر رجعي، بإشعال الحرائق فى المدينة.
وعلى الفور تم القبض على ألف وخمسمائة امرأة باريسية، وتشكَّل (مجلس حرب) وأصدر المحكمة العسكرية حكمهاب بتجريدهن تماماً من ملابسهن بأيدى الجنود الفرنسيين، ثم قتلهن جميعاً الواحدة تلو الأخرى، بصورة بشعة تُعرف اليوم في التاريخ الفرنسي بـ انتقام فرساى الفظيع.
ثم سُمح للجماعات النسوانية البراجوازية المعادية للمنظمات النسوانية المغدور بها، أن يتنزهن بملابسهن الأنيقة للمتعة، مشياً على أقدامهن بين جثث النسوان القتلى العرايا تماماً، حتى قالت صحيفة لاسييكل المحافظة حينذاك فى عددها 30 مايو 1871: (ورأينا سيدات أنيقات بوجههن المساحيق، يرفعن بطرف مظلاتهن آخر ما بقى يستر جسد أية واحدة من ضحايا المجزرة).
ويعلق تونى كليف (النضال الطبقي وتحرر المرأة) (ص.8): (لم تكن بين هؤلاء النسوان صاحبات السواعد العارية، وبين النسوان البرجوازيات، أي أرض مشتركة، بل كان بينهما صراع حياة أو موت، تصفية لحسابات بين فريقين سياسيين، ولذا لم يَعرف انتقام البرجوازيات وغلَّهن حدوداً تجاه (أخواتهن) العاملات).
الكابوس الماركسي
ومازالت كل مجموعة من المجموعتين ترفع شعاراتها حتى اليوم بالحرية، والمساواة، وحقوق المرأة، حسب قواعد اللعبة السياسية.
ومن خلال بعض المتغربين والمتغربات فى بلادنا، أبت بعض النسوان العربيات، إلا أن يُستدرجن إلى شباك اللعبة.
ويرددن كالببغاوات التبريرات الساذجة لـ كارل ماركس الذي كان بأفكاره التمردية المسمومة، وراء هذه المذابح الدموية للمرأة الفرنسية، ولعشرات الحروب القومية فى العالم، قائلاً: (إن السبب فيما حدث لنسوان فرنسا، هو الإرث الروحي لأجيال فرنسا السابقة، التى ارتبطت بشىء اسمه (الله)، ولأن تقاليد كل الأجيال الميتة، كانت تجثم مثل كابوس على دماغ الأحياء).
ونقول نحن، أن ذلك القول قد ينال نصيباً كبيراً من الصدق بالنسبة لتراث فرنسا الكاثوليكي واستبداد الكنيسة، وبالنسبة لتراث روسيا الإلحادي واستبداد الفاشية، فكلاهما ارتبط بعبادة المال والجنس، أو تجارة صكوك الغفران وعبادة السلطة المطلقة، لكنه من غير المقبول، أن يصدق مثل هذا الخبل على تراث العرب (مسلمين وغير مسلمين) الذي ارتبط بالعدل والإحسان والتواد والتراحم، وضبط العلاقات الزوجية وفق قوانين إلهية، يعجز عن فهمها الشيوعيين والعلمانيين.