المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في زواج زينب بنت جحش .....القرآن أولا



محمد عبد الرحمن
01-29-2005, 10:05 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عندما تزوج الرسول صلى الله عليه و سلم زينب بنت جحش رضي الله عنها أشاع اليهود أراجيف في حق النبي صلى الله عليه و سلم . ثم تناقل تلك الأكاذيب من بعدهم المشركون و الزنادقة ثم القصاص . ومنذ قرنين أراد المستشرقون الطعن في شخصية الرسول صلى الله عليه و سلم فعمدوا إلى نشر مزاعم اليهود ثم تبعهم المنصرون و أخيرا الملاحدة و المستغربون من بني جلدتنا .
و لقد رد كثير من العلماء و المحدثين على هذه الأراجيف بالطعن في أسانيد و متون تلك الروايات و بينوا زيفها و بطلانها .راجع الرابط :
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=802

و إحقاقا للحق رأيت أن أتناول هذا الموضوع كما تناوله القرآن الكريم فهو كلام الله الحق و قد اعتمدت في ذلك على عدة تفاسير من أهمها : المحرر الوجيز لابن عطية - لباب التأويل للخازن - زاد المسير لابن الجوزي- فتح القدير للشوكاني- مفاتيح الغيب للرازي - لطائف الإشارات للقشيري - التحرير و التنوير لابن عاشور - الظلال لسيد قطب رحمنا و رحمهم الله جميعا. .

و سترى أخي القارئ أنك لو تناولت الآيات التي وردت في قصة زواج زينب بنت جحش- لو تناولتها بالشرح و البيان كلمة كلمة بل حرفا حرفا لعلمت أن ما يروج في حق الرسول صلى الله عليه و سلم باطل و لا يمكن بأي حال أن يتماشى و ما جاء في القرآن .

تقول الآية الأولى في هذا الموضوع من سورة الأحزاب : :

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً }36

روي أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في الجماعة المسلمة؛ فيرد الناس سواسية كأسنان المشط. لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وكان الموالي ـ وهم الرقيق المحرر ـ طبقة أدنى من طبقة السادة. ومن هؤلاء كان زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تبناه. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقق المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم، قريبته صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش؛ ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه، في أسرته. وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم تتخذ منه الجماعة المسلمة أسوة، وتسير البشرية كلها على هداه في هذا الطريق.

روى ابن كثير في التفسير قال: قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما : قوله تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ...}. وذلك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله عنه فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها، فقالت: لست بناكحته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بلى فانكحيه ".قالت: يا رسول الله. أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً ..} قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم "! قالت: إذن لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي! "


وروى ابن كثير في التفسير كذلك رواية أخرى قال: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها وكانت أول من هاجر من النساء ـ فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " قد قبلت " فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه فسخطت هي وأخوها، وقال: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبده! قال: فنزل القرآن: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً } .

ثم تختم الآية ببيان أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ويعتزم الأمرَ هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء ..

و نواصل بيان الآيات و شرحها :

{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } 37 { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } 38 { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } 39{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } 40

بعد أن أبطل القرآن حكم التبني جاء هنا بحكم جديد ليدحض ما بناه المنافقون و اليهود الذين غَمزوا مغامز في قضية تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ بنت جحش بعد أن طلّقها زيد بن حارثة فقالوا: تزوج حليلة ابنه وقد نهَى عن تزوج حلائل الأبناء( في سورة النساء :" حرمت عليكم أمهاتكم ...و حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ...") . ولذلك ختمت هذه القصة وتوابعها بالثناء على المؤمنين بقوله:{ هو الذي يصلي عليكم ...}[الأحزاب: 43] . وبالإِعراض عن المشركين والمنافقين وعن أذاهم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّجه أمَّ أيمن مولاته فولدت له أسامة بن زيد وطلقها. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجه زينب بنت جَحش الأسدي حليف آل عبد شمس وهي ابنة عمته أُميمة بنت عبد المطلب، وهو يومئذٍ بمكة. ثم بعد الهجرة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب

وزوجُ زيد المذكورة في الآية هي زينبُ بنت جَحْش الأسدية وكان اسمها بَرَّة فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سمّاها زَينب، وأبوها جحش من بني أسد بن خزيمة وكان أبوها حليفاً لآل عبد شمس بمكة وأمها أُميمة بنت عبد المطلب عمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزّوجها زيد بن حارثة في الجاهلية ثم طلّقها بالمدينة، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة خمس، وتوفيت سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة، فتكون مولودة سنة ثلاث وثلاثين قبل الهجرة، أي سنة عشرين قبل البعثة

والإِتيان بفعل القول بصيغة المضارع ( و إذ تقول ) لاستحضار صورة القول وتكريره مثل قوله تعالى:{ يجادلنا في قوم لوط }[هود: 74] وقوله:{ ويصنع الفلك }[هود: 38]، وفي ذلك تصوير لحثِّ النبي صلى الله عليه وسلم زيداً على إمساك زوجه وأن لا يطلقها، ومعاودته عليه.

والتعبير عن زيد بن حارثة هنا بالموصول ( الذي ) دون اسمه العَلم الذي يأتي في قوله: { فلما قضى زيد } حتى يشعر القارئ بتنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمال ولائه لحمله على تطليق زوجه، لأن المقصود أن زيداً أخص الناس به، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أحرص على صلاحه وأنه أشار عليه بإمساك زوجه لصلاحها به، .

و المأثور الصحيح في هذه الحادثة: أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين فلم تلد له، فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلّت عليه بسؤددها وغضّت منه بولايته فلما تكرّر ذلك عزم على أن يطلقها وجاء يُعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزمه على ذلك لأنه تزوجها من عنده.


و { أمسك عليك } معناه: لازِم عشرتها، فالإِمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيهاً للصاحب بالشيء الممسَك باليد وزيادة { عليك } لدلالة (على) على الملازمة والتمكن مثل{ أولئك على هدى من ربهم }[البقرة: 5] أو لتضمن { أمسك } معنى احبس، أي ابق في بيتك زوجك، وأمرُه بتقوى الله تابع للإِشارة بإمساكها، أي اتق الله في عشرتها كما أمر الله ولا تحِدْ عن واجب حسن المعاشرة، أي اتق الله بملاحظة قوله تعالى:{ فإمساك بمعروف }

وأما إشارة النبي عليه الصلاة والسلام على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة، وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحةً وهو يوقن أن إشارته لا تمتثل. والتخليط بين الحالين تخليط بين التصرف المستند لما تقتضيه ظواهر الأحوال وبين ما في علم اللَّه في الباطن، وأشبه مقام به مقام موسى مع الخضر في القضايا الثلاث. وليس هذا من خائنة الأعين، كما توهمه من لا يُحسن، لأن خائنة الأعين المذمومة ما كانت من الخيانة والكيد.

وليس هو أيضاً من الكذب لأن قول النبي عليه الصلاة والسّلام لزيد { أمسك عليك زوجك واتق الله } لا يناقض علمه بتزوجها لاحقاوإنما يناقضه لو قال:" إنّي أُحب أن تمسك زوجك "، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار. ومن حق المستشار إعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير، وإن كان صلاح المشير في خلافه، فضلاً على كون ما في هذه القصة إنما هو تخالُف بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نصحه لا يؤثّر.


والإِتيان بالفعل المضارع في قوله: { وتخفي } للدلالة على تكرر إخفاء ذلك وعدم ذكره والذي في نفسه علمه بأنه سيتزوج زينب وأن زيداً يُطَلّقها وذلك سرّ بينه وبين ربّه ليس مما يجب عليه تبليغه ولا مما للناس فائدة في علمه حتى يبلَّغوه؛

فالقصد من " في نفسك " هو التزوج بزينب وهو الشيء الذي سيبديه الله لأن الله أبدى ذلك في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها ولم يكن أحد يعلم أنه سيتزوجها ولم يُبْدِ الله شيئاً غير ذلك، فلزم أن يكون ما أخفاه في نفسه أمراً يصلح للإظهار في الخارج، أي أن يكون من الصور المحسوسة.

وجملة { وتخشى الناس } عطف على جملة { وتخفي في نفسك } ، أي تخفي ما سيبديه الله وتخشى الناس من إبدائه.

والخشية هنا كراهية ما يرجف به المنافقون، والكراهةُ من ضروب الخشية فليست هي خشية خوف، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخاف أحداً من ظهور تزوجه بزينب، ولم تكن قد ظهرت أراجيف المنافقين بعدُ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوسم من خبثهم وسوء طويتهم ما يبعثهم على القالة في الناس لفتنة الأمة، فكان يعلم ما سيقولونه ويمتعض منه، كما كان منهم في قضية الإِفك، ولم تكن خشيةً تبلغ به مبلغَ صرفه عما يرغبه بدليل أنه لم يتردد في تزوج زينب بعد طلاق زيد، ولكنها استشعار في النفس وتقدير لما سيرجفه المنافقون .

والتعريف في { الناس } للعهد، أي تخشى المنافقين، أن يؤذوك بأقوالهم

و { أحق } اسم تفضيل مسلوب المفاضَلَة فهو بمعنى حقيق، إذ ليس في الكلام السابق ما يفيد وقوع إيثار خشية الناس على خشية الله، ولا ما يفيد تعارضاً بين الخشيتين حتى يحتاج إلى ترجيح خشية الله على خشية الناس، والمعنى: والله حقيق بأن تخشاه.

وليس في هذا التركيب ما يفيد أنه قدم خشية الناس على خشية الله، لأن الله لم يكلفه شيئاً فعمل بخلافه.

وبهذا تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل إلا ما يرضي الله، وقد قام بعمل الصاحب الناصح حين أمر زيداً بإمساك زوجه وانطوى على علم صالح حين خشي ما سيفترصه المنافقون من القالة إذا تزوج زينب خشية أن يكون قولهم فتنة لضعفاء الإِيمان كقوله للرجلين اللذين رأياه في الليل مع زينبَ فأسرعا خُطاهما فقال: " على رسلكما إنما هي زينب ". فكبر ذلك عليهما وقالا: سبحان الله يا رسول اللَّه. فقال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما ". فمقام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة مقام الطبيب الناصح في بيمارستانَ يحوي أصنافاً من المرضى إذا رأى طعاماً يجلب لما لا يصلح ببعض مرضاه أن ينهى عن إدخاله خشية أن يتناوله من المرضى من لا يصلح ذلك بمرضه ويزيد في علته أو يفضي إلى انتكاسه.

وليس في قوله: { وتخشى الناس } عتاب ولا لوم، ولكنه تذكير بما حصل له من توقيه قالة المنافقين. وحمله كثير من المفسرين على معنى العتاب وليس من سياق الكلام ما يقتضيه ( فهو لم يؤمر بالتوبة و لا بالاستغفار ) ، ولكنه تشجيع له وتحقير لأعداء الدين وتعليم له بأن يمضي في سبيله ويتناول ما أباح الله له ولرسله من تناول ما هو مباح من مرغوباتهم ومحباتهم إذا لم يصدهم شيء من ذلك عن طاعة ربهم كما قال تعالى:{ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله}[الأحزاب: 38، 39]، وأن عليه أن يعرض عن قول المنافقين، وعلى نحو قوله:{ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين }[الشعراء: 3]، فهذا جوهر ما أشارت إليه الآية، وليس فيها ما يشير إلى غير ذلك.

ثم قال تعالى: { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـٰكَهَا } أي لما طلقها زيد وانقضت عدتها وذلك لأن الزوجة ما دامت في نكاح الزوج فهي تدفع حاجته وهو محتاج إليها، فلم يقض منها الوطر بالكلية ولم يستغن وكذلك إذا كان في العدة له بها تعلق لإمكان شغل الرحم فلم يقض منها بعد وطره، وأما إذا طلق وانقضت عدتها استغنى عنها ولم يبق له معها تعلق فيقضي منها الوطر وهذا موافق لما في الشرع لأن التزوج بزوجة الغير أو بمعتدته لا يجوز فلهذا قال: { فَلَمَّا قَضَىٰ }

. فطلق زيد زوجه في النهاية. وهو لا يفكر لا هو ولا زينب، فيما سيكون بعد. لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له. حتى بعد إبطال عادة التبني في ذاتها. ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء. إنما كان حادث زواج النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة. بعدما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار.

ثم نأتي إلى بيت القصيد وهو قوله تعالى :{ زوجناكها لكي ..}
و لو قمنا بـ " تشريح " العبارة :
زوج : فعل ماض مبني .. و جاءت صيغة الماضي للتأكيد على أن أمر الزواج قـُضي و قـُدر وهو صائر بأمر الله عز و جل .
نا : ضمير متصل يعود إلى الله سبحانه و تعالى , مبني على السكون في محل رفع فاعل .
ك :ضمير متصل للمخاطب مفعول به أول يعود إلى النبي صلى الله عليه و سلم .
ها : ضمير متصل للغائبة مفعول به ثان يعود إلى زوجة زيد رضي الله عنهما .
لـ :حرف جر للتعليل
كي : مصدرية و للتعليل تنصب الفعل المضارع .

وهنا سؤال : لماذا قال الله تعالى " زوجناكها لكي لا يكون ..." و لم يقل مثلا : " زوجناكها لئلا يكون .." أو " زوجناكها كي لا يكون .." ؟ أليس في هذا تأكيد للتعليل و كأن القصد هو استبعاد أي سبب آخر لزواج النبي صلى الله عليه و سلم من شهوة أو أي غرض آخر . فكانت حكمة الله سبحانه و تعالى التي أرادها و التي اتضحت لاحقا في الجمع بين حرفي التعليل اللام و كي لتأكيد التعليل . و ليس في هذا ما يشير إلى غير ذلك .. و رغم ذلك يصر بعض الجهلة على سرد روايات و قصص على غرار سيناريوهات مؤلفات جرجي زيدان في التاريخ الإسلامي قصد التشويه و التحقير... حقا إنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور .

و نعود إلى كلمة { زوجناكها } قال أنس: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سموات، وقال الشعبي: " كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث ما من امرأة من نسائك تدل بهن جدي وجدك واحد وإني أنكحنيك الله في السماء وإن السفير جبريل عليه السلام "

وكذلك قوله: { لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أي إذا طلقوهن وانقضت عدتهن، وفيه إشارة إلى أن التزويج من النبـي عليه السلام لم يكن لقضاء شهوة النبـي عليه السلام بل لبيان الشريعة بفعله فإن الشرع يستفاد من فعل النبـي وقوله: { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء ماضياً مفعولاً لا محالة.

{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله }..

فقد فرض له أن يتزوج زينب، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء. وإذن فلا حرج في هذا الأمر، وليس النبي ـصلى الله عليه وسلم فيه بدعاً من الرسل.

{ سنة الله في الذين خلوا من قبل }..

فهو أمر يمضي وفق سنة الله التي لا تتبدل. والتي تتعلق بحقائق الأشياء، لا بما يحوطها من تصورات وتقاليد مصطنعة لا تقوم على أساس.

{ وكان أمر الله قدراً مقدورا }..

فهو نافذ مفعول، لا يقف في وجهه شيء ولا أحد. وهو مقدر بحكمة وخبرة ووزن، منظور فيه إلى الغاية التي يريدها الله منه. ويعلم ضرورتها وقدرها وزمانها ومكانها. وقد أمر الله رسوله أن يبطل تلك العادة ويمحو آثارها عملياً، ويقرر بنفسه السابقة الواقعية. ولم يكن بد من نفاذ أمر الله.

وسنة الله هذه قد مضت في الذين خلوا من قبل من الرسل:{ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله }..

فلا يحسبون للخلق حساباً فيما يكلفهم الله به من أمور الرسالة، ولا يخشون أحداً إلا الله الذي أرسلهم للتبليغ والعمل والتنفيذ.

{ وكفى بالله حسيباً }..

فهو وحده الذي يحاسبهم، وليس للناس عليهم من حساب.

{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } فزينب ليست حليلة ابنه، وزيد ليس ابن محمد. إنما هو ابن حارثة. ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة.والعلاقة بين التبي محمد صلى الله عليه وسلم وبين جميع المسلمين ـ ومنهم زيد بن حارثة ـ هي علاقة النبي بقومه، وليس هو أباً لأحد منهم:

{ ولكن رسول الله وخاتم النبيين }..

ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشرية؛ وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير.

{ وكان الله بكل شيء عليماً }..

فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، وما يصلحها؛ وهو الذي فرض على النبي ما فرض، واختار له ما اختار. ليحل للناس أزواج أدعيائهم، إذا ما قضوا منهن وطراً، وانتهت حاجتهم منهن، وأطلقوا سراحهن.. قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء. ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين؛ ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين.

و أخيرا أختم بكلمات من كلام صاحب " التحرير و التنوير " إذ قال رحمه الله :

وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة، فلا تصْغ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر زيداً بإمساك زوجه، فإن ذلك من مختلقات القصاصين؛ فإما أن يكون ذلك اختلاقاً من القصاص لتزيين القصة، وإما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم فتلقفه القصاص وهو الذي نجزم به. ومما يدل لذلك أنك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثراً مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى زيد أو إلى زينب أو إلى أحد من الصحابة رجالهم ونسائهم، ولكنها كلها قصص وأخبار وقيل وقال...
وأشار إلى حكمة هذا التزويج في إقامة الشريعة، وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دَعِيِّه، فلما أبطله الله بالقول إذ قال:{ وما جعل أدعياءكم أبناءكم }[الأحزاب: 4] أكد إبطاله بالفعل حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل: إن ذاك وإن صار حلالاً فينبغي التنزه عنه لأهل الكمال، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعيّ من أفضل الناس وهو النبي صلى الله عليه وسلم .اهـ .

و الله أعلم .