أبو عمران
09-21-2004, 01:27 AM
الدين والكبت
انظروا ماذا قال علماء النفس الغربيون عن الدين ؟
قالوا إنه يكبت النشاط الحيوي للإنسان ، ويظل ينكّد عليه حياته نتيجة الشعور بالإثم ، ذلك الشعور الذي يستولي على المتدينين خاصة فيخيل لهم أن كل ما يصنعونه خطايا لا يطهرها إلا الامتناع عن ملذات الحياة . وقد ظلت أوربا غارقة في الظلام طيلة تمسكها بالدين ، فلما نبذت قيود الدين السخيفة ، تحررت مشاعرها من الداخل ، وانطلقت في عالم العمل والإنتاج .
أفتريدون إذن أن تعودوا إلى الدين ؟ تريدون أن تكبلوا المشاعر التي أطلقناها – نحن التقدميين – وتنكدوا على الشباب المتدفق بقولكم : هذا حرام وهذا حلال ؟* * *
ونترك أوربا تقول في دينها ما تشاء . ولا يعنينا هنا أن نصدقه أو نكذبه ، لأننا لا نتحدث عن الدين عامة ، وإنما نتحدث عن الإسلام .
وقبل أن نذكر شيئاً عن كبت الإسلام للنشاط الحيوي أو عدم كبته له ، ينبغي أولاً أن نعرف ما هو الكبت ، لأن هذه اللفظة كثيراً ما يساء فهمها واستخدامها في كلام المثقفين أنفسهم ، فضلاً عن العوام والمقلدين .
ليس الكبت هو الامتناع عن إتيان العمل الغريزي كما يخيل للكثيرين . إنما ينشأ الكبت من استقذار الدافع الغريزي في ذاته ، وعدم اعتراف الإنسان بينه وبين نفسه أن هذا الدافع يجوز أن يخطر في باله أو يشغل تفكيره . والكبت بهذا المعنى مسألة لا شعورية . وقد لا يعالجها إتيان العمل الغريزي . فالذي يأتي هذا العمل وفي شعوره أنه يرتكب قذارة لا تليق به ، شخص يعاني الكبت حتى ولو " ارتكب " هذا العمل عشرين مرة كل يوم . لأن الصراع سيقوم في داخل نفسه كل مرة بين ما عمله وما كان يجب أن يعمله . وهذا الشد والجذب في الشعور وفي اللاشعور هو الذي ينشئ العقد والاضطرابات النفسية .
ونحن لا نأتي بهذا التفسير لكلمة الكبت من عندنا ، بل هو تفسير فرويد نفسه الذي أنفق حياته العلمية كلها في هذه المباحث ، وفي التنديد بالدين الذي يكبت نشاط البشرية . فهو يقول في ص82 من كتاب Three Contributions to the Sexual Theory " " : " ويجب أن نفرق تفريقاً حاسماً بين هذا " الكبت الشعوري " وبين عدم الإتيان بالعمل الغريزي ، فهذا مجرد " تعليق للعمل " .
والآن وقد عرفنا أن الكبت هو استقذار الدافع الغريزي وليس تعليق التنفيذ إلى أجل معين ، نتحدث عن الكبت في الإسلام !
ليس في أديان العالم ونظمه ما هو أصرح من الإسلام في الاعتراف بالدوافع الفطرية ، وتنظيف مكانها في الفكر والشعور . يقول القرآن : " زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث ( ) " فيجمع في هذه الآية شهوات الأرض ويقرر أنها أمر واقع مزين للناس ، لا اعتراض عليه في ذاته ، ولا إنكار على من يحس بهذه الشهوات .
صحيح أنه لا يبيح للناس أن ينساقوا مع هذه الشهوات إلى المدى الذي يصبحون فيه مستعبدين لها ، لا يملكون أمرهم منها . فالحياة لا تستقيم بهذا الوضع . والبشرية لا تستطيع أن تحقق طبيعتها التي تهدف إلى التطور الدائم نحو الارتفاع ، إذا هي ظلت عاكفة على ملذاتها تستنفد فيها كل طاقتها ، وتتعود فيها على الهبوط والانتكاس نحو الحيوانية .
نعم لا يبيح الإسلام للناس أن يهبطوا لعالم الحيوان . ولكن هناك فرقاً هائلاً بين هذا وبين الكبت اللاشعوري ، بمعنى استقذار هذه الشهوات في ذاتها ، ومحاولة الامتناع عن الإحساس بها رغبة في التطهر والارتفاع .
وطريقة الإسلام في معاملة النفس الإنسانية هي الاعتراف بالدوافع الفطرية كلها من حيث المبدأ وعدم كبتها في اللاشعور ، ثم إباحة التنفيذ العملي لها في الحدود التي تعطي قسطاً معقولاً من المتاع ، وتمنع وقوع الضرر سواء على فرد بعينه أو على المجموع كله .
والضرر الذي يحدث للفرد من استغراقه في الشهوات ، هو إفناء طاقته الحيوية قبل موعدها الطبيعي ، واستعباد الشهوات له بحيث تصبح شغله الشاغل وهمه المقعد المقيم ، فتصبح بعد فترة عذاباً دائماً لا يهدأ ، وجوعة دائمة لا تشبع ولا تستقر .
أما الضرر الذي يحدث للمجتمع فهو استنفاد الطاقة الحيوية التي خلقها الله لأهداف شتى، في هدف واحد قريب ، وإهمال الأهداف الأخرى الجديرة بالتحقيق . فضلاً عن تحطيم كيان الأسرة ، وفك روابط المجتمع ، وتحويله إلى جماعات متفرقة لا يجمعها رابط ولا هدف مشترك : " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " مما يسهل على غيرهم غزوهم وتحطيمهم كما حدث لفرنسا .
وفي هذه الحدود - التي تمنع الضرر - يبيح الإسلام الاستمتاع بطيبات الحياة ، بل يدعو إليه دعوة صريحة فيقول مستنكراً : " قل : من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ( ) " ؟ ويقول : " ولا تنس نصيبك من الدنيا ( ) " ويقول : " كلوا من طيبات ما رزقناكم ( ) " " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ( ) "
بل يصل في صراحته في الاعتراف بالإحساس الجنسي خاصة - وهو مدار الحديث عن الكبت في الأديان - أن يقول الرسول الكريم : " حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة " ( ) . فيرفع الإحساس الجنسي إلى درجة الطيب أزكى رائحة في الأرض ، ويقرنها إلى الصلاة أزكى ما يتقرب به الإنسان لله . ويقول في صراحة كذلك : إن الرجل يثاب على العمل الجنسي يأتيه مع زوجته . فإذا قال المسلمون متعجبين : " يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ " قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " ( ) !
ومن هنا لا ينشأ الكبت إطلاقاً في ظل الإسلام . فإذا أحس الشباب بالرغبة الجنسية الدافقة فليس في ذلك منكر ، ولا يوجد داع لاستقذار هذا الإحساس والنفور منه .
وإنما يطلب الإسلام من هذا الشباب أن " يضبط " هذه الشهوات فقط دون أن يكبتها . يضبطها في وعيه وبإرادته ، وليس في لاشعوره ، أي يعلق تنفيذها إلى الوقت المناسب . وليس تعليق التنفيذ كبتاً باعتراف فرويد ، وليس فيه من إرهاق الأعصاب ما في الكبت ، وليس يؤدي مثله إلى العقد والاضطرابات النفسية .
وليست هذه الدعوة إلى ضبط الشهوات تحكماً يقصد به الإسلام حرمان الناس من المتاع . فهذا هو التاريخ في الإسلام وفي غير الإسلام يقرر أنه ما من أُمة استطاعت أن تحافظ على كيانها وهي عاجزة عن ضبط شهواتها ، والامتناع بإرادتها عن بعض المتاع المباح . كما يقرر من الجانب الآخر أنه ما من أُمة ثبتت في الصراع الدولي إلا كان أهلها مدربين على احتمال المشقات ، قادرين على إرجاء ملذاتهم - أو تعليقها - حين تقتضي الضرورة ساعات أو أياماً أو سنوات .
ومن هنا كانت حكمة الصوم في الإسلام .
والمتحللون اليوم من التقدميين والتقدميات ، يحسبون أنفسهم قد اكتشفوا حقيقة هائلة حين يقولون : ما هذا السخف الذي يدعو إلي تعذيب الأبدان بالجوع والعطش ، وحرمان النفس مما تتوق إليه من طعام وشراب ومتاع .. في سبيل لا شيء ، وإطاعة لأوامر تحكمية لا حكمة لها ولا غاية ؟
ولكن .. ما الإنسان بلا ضوابط ؟ وكيف يصبح إنساناً وهو لا يطيق الامتناع سويعات عما يريد ؟ وكيف يصبر على جهاد الشر في الأرض ، وهذا الجهاد يتطلب منه حرمان نفسه من كثير ؟
وهل كان الشيوعيون - الذين يسخر دعاتهم في الشرق الإسلامي بالصيام وغيره من " الضوابط " التي تدرب النفوس - هل كانوا يستطيعون الصمود كما صمدوا في ستالنجراد ، لو انهم لم يدربوا على احتمال المشقات العنيفة التي تعذب الأبدان والنفوس ، أم إنهم " يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً " ؟ يحلّونه حين يصدر الأمر به من " الدولة " لأنها سلطة مرئية تملك العقاب السريع ، ويحرمونه – هو ذاته – حين يصدر الأمر به من الله خالق الدول والأحياء !
وماذا في الإسلام من العبادات غير الصيام ؟ الصلاة ؟ كم تستغرق من وقت المسلم التقي ؟ هل تستغرق في الأسبوع كله أكثر مما تستغرق زيارة واحدة للسينما في كل أسبوع ؟ وهل يضحي الإنسان بهذه الفرصة المتاحة للاتصال بالله ، وتلقِّي المعونة منه ، والاطمئنان إليه ، واسترواح الراحة في رحابه ، إلا وفي قلبه مرض وفي نفسه انحراف ؟
أما ما يقال من تنكيد الدين على أتباعه ، ومطاردتهم بشبح الخطيئة في يقظتهم ومنامهم فما أبعد الإسلام عنه ، وهو الذي يمنح المغفرة قبل أن يذكر العذاب !
إن الخطيئة في الإسلام ليست غولاً يطارد الناس ، ولا ظلاماً دائماً لا ينقشع . خطيئة آدم الكبرى ليست سيفاً مصلتاً على كل البشر ، ولا تحتاج إلى فداء ولا تطهير : " فتلقَّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ( ) ". هكذا في بساطة ودون أيَّة إجراءات .
وأبناء آدم كأبيهم ليسوا خارجين من رحمة الله حين يخطئون . فالله يعلم طبيعتهم فلا يكلفهم إلا وسعهم ، ولا يحاسبهم إلا في حدود طاقتهم : " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( ) " " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ( ) " .
وآيات الرحمة والمغفرة والتوبة عن العباد كثيرة في القرآن . ولكنا نختار منها واحدة فقط لعمق دلالتها على رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء : " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " ( ) .
يا الله، ما أشد رحمتك بعبادك ! إن الإنسان لا يملك نفسه من التأثر وهو يرى رحمة الله بالناس . ومتى ؟ وهم يفعلون الفاحشة ! إنه لا يقبل منهم التوبة فحسب . ولا يقيلهم من ذنبهم فحسب ، بل يمنحهم رضاءه ورحمته ، ويرفعهم إلى درجة المتقين ! !
فهل بعد ذلك شك في عفو الله ومغفرته ؟ وأين يطارد العذاب نفوس الناس والله يلقاهم بهذا العطف والترحيب ، بكلمة واحدة صادقة يقولونها : التوبة ؟ !
لسنا نحتاج إلى نصوص أخرى تؤيد ما نقول . ولكنا مع ذلك نذكر هذا الحديث من أحاديث الرسول فهو شاهد عجيب : " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ( ) " .
إنها إذن إرادة ذاتية لله أن يغفر للناس ويتجاوز عن سيئاتهم .
وهذه الآية العجيبة : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ وكان الله شاكراً عليماً ( )"
نعم ؟ ما يفعل الله بتعذيب الناس ؟ وهو الذي يحب أن يمنحهم الرحمة والغفران ! ؟ !
التوقيع / المفكر الاسلامي محمد قطب حفظه الله تعالى
انظروا ماذا قال علماء النفس الغربيون عن الدين ؟
قالوا إنه يكبت النشاط الحيوي للإنسان ، ويظل ينكّد عليه حياته نتيجة الشعور بالإثم ، ذلك الشعور الذي يستولي على المتدينين خاصة فيخيل لهم أن كل ما يصنعونه خطايا لا يطهرها إلا الامتناع عن ملذات الحياة . وقد ظلت أوربا غارقة في الظلام طيلة تمسكها بالدين ، فلما نبذت قيود الدين السخيفة ، تحررت مشاعرها من الداخل ، وانطلقت في عالم العمل والإنتاج .
أفتريدون إذن أن تعودوا إلى الدين ؟ تريدون أن تكبلوا المشاعر التي أطلقناها – نحن التقدميين – وتنكدوا على الشباب المتدفق بقولكم : هذا حرام وهذا حلال ؟* * *
ونترك أوربا تقول في دينها ما تشاء . ولا يعنينا هنا أن نصدقه أو نكذبه ، لأننا لا نتحدث عن الدين عامة ، وإنما نتحدث عن الإسلام .
وقبل أن نذكر شيئاً عن كبت الإسلام للنشاط الحيوي أو عدم كبته له ، ينبغي أولاً أن نعرف ما هو الكبت ، لأن هذه اللفظة كثيراً ما يساء فهمها واستخدامها في كلام المثقفين أنفسهم ، فضلاً عن العوام والمقلدين .
ليس الكبت هو الامتناع عن إتيان العمل الغريزي كما يخيل للكثيرين . إنما ينشأ الكبت من استقذار الدافع الغريزي في ذاته ، وعدم اعتراف الإنسان بينه وبين نفسه أن هذا الدافع يجوز أن يخطر في باله أو يشغل تفكيره . والكبت بهذا المعنى مسألة لا شعورية . وقد لا يعالجها إتيان العمل الغريزي . فالذي يأتي هذا العمل وفي شعوره أنه يرتكب قذارة لا تليق به ، شخص يعاني الكبت حتى ولو " ارتكب " هذا العمل عشرين مرة كل يوم . لأن الصراع سيقوم في داخل نفسه كل مرة بين ما عمله وما كان يجب أن يعمله . وهذا الشد والجذب في الشعور وفي اللاشعور هو الذي ينشئ العقد والاضطرابات النفسية .
ونحن لا نأتي بهذا التفسير لكلمة الكبت من عندنا ، بل هو تفسير فرويد نفسه الذي أنفق حياته العلمية كلها في هذه المباحث ، وفي التنديد بالدين الذي يكبت نشاط البشرية . فهو يقول في ص82 من كتاب Three Contributions to the Sexual Theory " " : " ويجب أن نفرق تفريقاً حاسماً بين هذا " الكبت الشعوري " وبين عدم الإتيان بالعمل الغريزي ، فهذا مجرد " تعليق للعمل " .
والآن وقد عرفنا أن الكبت هو استقذار الدافع الغريزي وليس تعليق التنفيذ إلى أجل معين ، نتحدث عن الكبت في الإسلام !
ليس في أديان العالم ونظمه ما هو أصرح من الإسلام في الاعتراف بالدوافع الفطرية ، وتنظيف مكانها في الفكر والشعور . يقول القرآن : " زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث ( ) " فيجمع في هذه الآية شهوات الأرض ويقرر أنها أمر واقع مزين للناس ، لا اعتراض عليه في ذاته ، ولا إنكار على من يحس بهذه الشهوات .
صحيح أنه لا يبيح للناس أن ينساقوا مع هذه الشهوات إلى المدى الذي يصبحون فيه مستعبدين لها ، لا يملكون أمرهم منها . فالحياة لا تستقيم بهذا الوضع . والبشرية لا تستطيع أن تحقق طبيعتها التي تهدف إلى التطور الدائم نحو الارتفاع ، إذا هي ظلت عاكفة على ملذاتها تستنفد فيها كل طاقتها ، وتتعود فيها على الهبوط والانتكاس نحو الحيوانية .
نعم لا يبيح الإسلام للناس أن يهبطوا لعالم الحيوان . ولكن هناك فرقاً هائلاً بين هذا وبين الكبت اللاشعوري ، بمعنى استقذار هذه الشهوات في ذاتها ، ومحاولة الامتناع عن الإحساس بها رغبة في التطهر والارتفاع .
وطريقة الإسلام في معاملة النفس الإنسانية هي الاعتراف بالدوافع الفطرية كلها من حيث المبدأ وعدم كبتها في اللاشعور ، ثم إباحة التنفيذ العملي لها في الحدود التي تعطي قسطاً معقولاً من المتاع ، وتمنع وقوع الضرر سواء على فرد بعينه أو على المجموع كله .
والضرر الذي يحدث للفرد من استغراقه في الشهوات ، هو إفناء طاقته الحيوية قبل موعدها الطبيعي ، واستعباد الشهوات له بحيث تصبح شغله الشاغل وهمه المقعد المقيم ، فتصبح بعد فترة عذاباً دائماً لا يهدأ ، وجوعة دائمة لا تشبع ولا تستقر .
أما الضرر الذي يحدث للمجتمع فهو استنفاد الطاقة الحيوية التي خلقها الله لأهداف شتى، في هدف واحد قريب ، وإهمال الأهداف الأخرى الجديرة بالتحقيق . فضلاً عن تحطيم كيان الأسرة ، وفك روابط المجتمع ، وتحويله إلى جماعات متفرقة لا يجمعها رابط ولا هدف مشترك : " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " مما يسهل على غيرهم غزوهم وتحطيمهم كما حدث لفرنسا .
وفي هذه الحدود - التي تمنع الضرر - يبيح الإسلام الاستمتاع بطيبات الحياة ، بل يدعو إليه دعوة صريحة فيقول مستنكراً : " قل : من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ( ) " ؟ ويقول : " ولا تنس نصيبك من الدنيا ( ) " ويقول : " كلوا من طيبات ما رزقناكم ( ) " " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ( ) "
بل يصل في صراحته في الاعتراف بالإحساس الجنسي خاصة - وهو مدار الحديث عن الكبت في الأديان - أن يقول الرسول الكريم : " حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة " ( ) . فيرفع الإحساس الجنسي إلى درجة الطيب أزكى رائحة في الأرض ، ويقرنها إلى الصلاة أزكى ما يتقرب به الإنسان لله . ويقول في صراحة كذلك : إن الرجل يثاب على العمل الجنسي يأتيه مع زوجته . فإذا قال المسلمون متعجبين : " يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ " قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " ( ) !
ومن هنا لا ينشأ الكبت إطلاقاً في ظل الإسلام . فإذا أحس الشباب بالرغبة الجنسية الدافقة فليس في ذلك منكر ، ولا يوجد داع لاستقذار هذا الإحساس والنفور منه .
وإنما يطلب الإسلام من هذا الشباب أن " يضبط " هذه الشهوات فقط دون أن يكبتها . يضبطها في وعيه وبإرادته ، وليس في لاشعوره ، أي يعلق تنفيذها إلى الوقت المناسب . وليس تعليق التنفيذ كبتاً باعتراف فرويد ، وليس فيه من إرهاق الأعصاب ما في الكبت ، وليس يؤدي مثله إلى العقد والاضطرابات النفسية .
وليست هذه الدعوة إلى ضبط الشهوات تحكماً يقصد به الإسلام حرمان الناس من المتاع . فهذا هو التاريخ في الإسلام وفي غير الإسلام يقرر أنه ما من أُمة استطاعت أن تحافظ على كيانها وهي عاجزة عن ضبط شهواتها ، والامتناع بإرادتها عن بعض المتاع المباح . كما يقرر من الجانب الآخر أنه ما من أُمة ثبتت في الصراع الدولي إلا كان أهلها مدربين على احتمال المشقات ، قادرين على إرجاء ملذاتهم - أو تعليقها - حين تقتضي الضرورة ساعات أو أياماً أو سنوات .
ومن هنا كانت حكمة الصوم في الإسلام .
والمتحللون اليوم من التقدميين والتقدميات ، يحسبون أنفسهم قد اكتشفوا حقيقة هائلة حين يقولون : ما هذا السخف الذي يدعو إلي تعذيب الأبدان بالجوع والعطش ، وحرمان النفس مما تتوق إليه من طعام وشراب ومتاع .. في سبيل لا شيء ، وإطاعة لأوامر تحكمية لا حكمة لها ولا غاية ؟
ولكن .. ما الإنسان بلا ضوابط ؟ وكيف يصبح إنساناً وهو لا يطيق الامتناع سويعات عما يريد ؟ وكيف يصبر على جهاد الشر في الأرض ، وهذا الجهاد يتطلب منه حرمان نفسه من كثير ؟
وهل كان الشيوعيون - الذين يسخر دعاتهم في الشرق الإسلامي بالصيام وغيره من " الضوابط " التي تدرب النفوس - هل كانوا يستطيعون الصمود كما صمدوا في ستالنجراد ، لو انهم لم يدربوا على احتمال المشقات العنيفة التي تعذب الأبدان والنفوس ، أم إنهم " يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً " ؟ يحلّونه حين يصدر الأمر به من " الدولة " لأنها سلطة مرئية تملك العقاب السريع ، ويحرمونه – هو ذاته – حين يصدر الأمر به من الله خالق الدول والأحياء !
وماذا في الإسلام من العبادات غير الصيام ؟ الصلاة ؟ كم تستغرق من وقت المسلم التقي ؟ هل تستغرق في الأسبوع كله أكثر مما تستغرق زيارة واحدة للسينما في كل أسبوع ؟ وهل يضحي الإنسان بهذه الفرصة المتاحة للاتصال بالله ، وتلقِّي المعونة منه ، والاطمئنان إليه ، واسترواح الراحة في رحابه ، إلا وفي قلبه مرض وفي نفسه انحراف ؟
أما ما يقال من تنكيد الدين على أتباعه ، ومطاردتهم بشبح الخطيئة في يقظتهم ومنامهم فما أبعد الإسلام عنه ، وهو الذي يمنح المغفرة قبل أن يذكر العذاب !
إن الخطيئة في الإسلام ليست غولاً يطارد الناس ، ولا ظلاماً دائماً لا ينقشع . خطيئة آدم الكبرى ليست سيفاً مصلتاً على كل البشر ، ولا تحتاج إلى فداء ولا تطهير : " فتلقَّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ( ) ". هكذا في بساطة ودون أيَّة إجراءات .
وأبناء آدم كأبيهم ليسوا خارجين من رحمة الله حين يخطئون . فالله يعلم طبيعتهم فلا يكلفهم إلا وسعهم ، ولا يحاسبهم إلا في حدود طاقتهم : " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( ) " " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ( ) " .
وآيات الرحمة والمغفرة والتوبة عن العباد كثيرة في القرآن . ولكنا نختار منها واحدة فقط لعمق دلالتها على رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء : " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " ( ) .
يا الله، ما أشد رحمتك بعبادك ! إن الإنسان لا يملك نفسه من التأثر وهو يرى رحمة الله بالناس . ومتى ؟ وهم يفعلون الفاحشة ! إنه لا يقبل منهم التوبة فحسب . ولا يقيلهم من ذنبهم فحسب ، بل يمنحهم رضاءه ورحمته ، ويرفعهم إلى درجة المتقين ! !
فهل بعد ذلك شك في عفو الله ومغفرته ؟ وأين يطارد العذاب نفوس الناس والله يلقاهم بهذا العطف والترحيب ، بكلمة واحدة صادقة يقولونها : التوبة ؟ !
لسنا نحتاج إلى نصوص أخرى تؤيد ما نقول . ولكنا مع ذلك نذكر هذا الحديث من أحاديث الرسول فهو شاهد عجيب : " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ( ) " .
إنها إذن إرادة ذاتية لله أن يغفر للناس ويتجاوز عن سيئاتهم .
وهذه الآية العجيبة : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ وكان الله شاكراً عليماً ( )"
نعم ؟ ما يفعل الله بتعذيب الناس ؟ وهو الذي يحب أن يمنحهم الرحمة والغفران ! ؟ !
التوقيع / المفكر الاسلامي محمد قطب حفظه الله تعالى