أبو مريم
09-21-2004, 03:34 PM
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على صاحب الخلق العظيم وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين..
أما بعد
لعل الهدف من تأسيس علم للأخلاق كان هو وضع الضوابط والمعايير التى يسير بمقتضاها الإنسان فى حياته فتنتظم سيرته مع ربه ومع أفراد جنسه والكون من حوله وقد صيغت منذ فجر التاريخ نماذج لنظريات أخلاقية تأثرت بمجتمعاتها أكثر مما أثرت فيها ثم تطورت فى العصر الحديث واشتملت على مذاهب أكثر تعقيدًا وإن لم ترق بالإنسانية إلى ما كانت تصبو إليه بل لعلها قد تأخرت من هذا المنظور عن سابقتها ولقد تجاذبتها المناهج السائدة بعيدًا عن المقصد الذى وضع لأجله هذا العلم .
ولقد وجدنا المدارس الفقهية تضع القواعد العامة والضوابط التى تحكم حياة الناس فى معاملاتهم وعلاقاتهم معتمدة فى ذلك على القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وما اجتمعت عليه الأمة وعبرت عن تلك الضوابط والمعايير بعبارات دينية كالحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز بحيث يمتزج المعنى الأخلاقى بالأمر الدينى ذى الأبعاد العقائدية الإلزامية وبحيث يشمل ذلك كل الأفراد بلا استثناء ويشمل حياتهم اليومية .
ثم وجدنا ذلك قد أتى فى إطار منهج عملى متكامل لم يكتف بالنموذج النظرى الذى ألفناه فى النتاج الفلسفى ، كما وجدناه يتميز إلى جانب ذلك بالواقعية والشمول والروح الاجتماعية مما يشكل نموذجا عمليًا لحياة أخلاقية واقعية شاملة تهدف إلى صلاح الدنيا من أجل صلاح الآخرة .
موضوع البحث
لقد عنى الفلاسفة بتفسير السلوك الإنسانى الخلقى على أنه موضوع علم الأخلاق ، فتعرضوا لمعرفته وتحديد القيمة الخلقية ، وغايته ، ودوافعه ، ومصادر الإلزام الخلقى ، وأما الجانب التقويمى فقد أخذ منحًا نظريًا لدى بعض الفلاسفة ممن عنوا به كافلاطون بينما ذهب آخرون إلى استحالته وأن الناس يولدون اخيارًا أو أشرارًا وأنه لا يسع علم الأخلاق إلا أن يصف سيرة الناس كما يصف علم التاريخ الطبيعى سيرة الحيوان بل وعدّ بعضهم ذلك شرطًا فى اعتباره علمًا .
والواقع ان فى ذلك خروجًا عن الدور المنشود لعلم الأخلاق وهو ما عنى به الفقه الإسلامى وتميز به عن المذاهب الفلسفية الأخلاقية .
وإذا كان الجانب التقويمى العملى يظل هو المميز للبعد الأخلاقى فى الفقه الإسلامى فإن الحديث عن الجانب النظرى مما يظهر محاسن الشريعة وجهود الفقهاء مقارنة بغيرهم.
أولاً الجانب النظرى:
وسوف أتناول فيه باختصار شديد - أرانى مدفوعًا إليه- ولن يكون مخلاً إن شاء الله تعالى الحديث عن دوافع الفعل الأخلاقى أو مصادر الإلزام ، والغاية الأخلاقية ، والقيمة الأخلاقية.
1- دوافع الفعل الأخلاقى :
إن عناية الفقه الإسلامى بدوافع الفعل الأخلاقى إنما تنبع من أهمية معرفة ذلك فى خطاب النفوس وتوجيهها إلى انتهاج منهج أخلاقى ، لكن الذى يلفت الانتباه أن النظرة الفقهية إلى النفس البشرية تميزت بالشمول والواقعية :
فهو يخاطب دوافع الإيمان والذى يتمثل فى توحيد القلوب لله تعالى وإخلاصها له بحيث يكون المرأ مع الله تعالى بلا خلق ومع الخلق بلا نفس ومع النفس بلا هوى وهو ما يتضح من ربط الأوامر والنواهى بالإيمان بالله تعالى وأما ما يتقوى به ذلك من فطرة سليمة وعقل مستنير فيناسبه توضيح ما فى هذه الأوامر والنواهى من علل مطردة تتفق مع ما يراه العقل وتطمئن إليه الفطرة .
ومن ناحية أخرى فإنه لما كان كل عمل إنسانى أصله المحبة والإرادة والمقصود منه الفوز بالمراد المحبوب سواء كان ذلك طاعة الله تعالى والانقياد لأمره أو الفوز بالجنة أو حتى نيل حظوظ الدنيا حتى صار ذلك اعم الدوافع وأشملها .. فقد خوطب المكلفون بذلك فى كل عمل حتى إن العمل إذا تجرد من الحظ بالمقصد الأول كالعبادات والولايات العامة كان لصاحبه من الحظ بالمقصد الثانى من جعله عمدة فى الدين وفى إقامة الشهادة ومن توقير المكلفين وقيامهم بحظوظه ... ما يفوق ما كان من الأعمال مراعيًا للحظ بالمقصد الأول حتى يعلم المكلف ان التجرد من الحظوظ فى الشرع لا يجرد صاحبها منها إذا كان ممتثلاً لأمر الله تعالى .
لكن من الناس من تعوذهم الفطنة ، ومنهم جهال لا يسمعون ولا يعقلون ما فى أور الله تعالى من الخير فكانت مهمة الفقه أن يبين لهؤلاء ويرشدهم .
غير أن من هؤلاء من لا يفتقر إلى هداية البيان فحسب ولا يزعه إلا عصى الجماعة دون أن يخرجه ذلك عن صفة الإيمان وأهلية الخطاب ، بل إن له حظًا من الإيمان والفطرة السليمة كما أن لكل مؤمن نصيب من اتباع الغرائز.
وقد نظر الفقه الإسلام إلى هذه الدوافع على أنها مختلطة وممتزجة وغير مجردة فالعقل هو مناط التكليف ، والإيمان شرط الامتثال ، ولا يعمل الإنسان إلا بحظ ولا ينتهى إلا إذا أيقن بما يجره عليه التمادى من الآلام فى الآخرة أو فى الدنيا أعظم من لذة قد تكون فى المخالفة .
إن نظرة الفقه للإنسان ككائن أخلاقى تميزت بالشمول والواثعية ونأت عن المثالية والتجرد الذى ادعاه المثاليون والذى جعل من ( الأخلاق ) علمًا مجردًا عن الواقع
2-الغاية الأخلاقية
تباينت أقوال الفلاسفة وعلماء الأخلاق فى الغاية من السلوك الأخلاقى غير أنها تدور حول جلب المصالح ودفع المفاسد عن الإنسان أو عن النوع الإنسانى.
وباستقراء الشريعة قد تبين أنها قد وضعت وفق مصالح العباد ، وهو ما لا ينازع فيه منكرو التعليل من المتكلمين والقائلون به بمعنى الأمارة أو العلامة ؛ فالأحكام العادية تدور مع مصالح العباد وجودًا وعدمًا ، والشىء الواحد قد يمنع فى حال لا تكون فيه مصلحة للعبد فإن وجدت فيه المصلحة جاز ، والإذن دائر معها حيث دارت ، بل إن النصوص الدالة على ذلك أكثر من أن تحصى :
فمن العام قوله تعالى (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ومن الخاص قوله تعالى (( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )).
وقد يمكن مراعاة ذلك أيضًا فى سائر العبادات كما ذهب الأحناف ، كما أن ذلك التصور قد أدى بالمالكية إلى القول بالمصالح المرسلة والاستحسان الذى قال عنه المالكية إنه تسعة أعشار العلم .
فتكاليف الشريعة ترجع عند الفقهاء إلى حفظ مقاصدها فى الخلق ، وقد قسم الفقهاء مقاصد الشريعة إلى أصلية وتابعة :
أما الأصلية فلا تعدو ثلاثة أقسام : أن تكون ضرورية ، أو حاجية ، أو تحسينية .
فالضرورية ما لا بد منه لقيام مصالح الدين والدنيا ، والحفظ لها يكون بأمرين :
إقامة أركانها ؛ ولهذا شرعت الأحكام فى باب العبادات لحفظ الدين من جانب الوجود ، وفى باب العادات لحفظ النفس والعقل ، وفى باب المعاملات لحفظ النسل والمال ... ثم من جانب ما يدرأ اختلالها ؛ ولهذا شرعت الأحكام فى باب الجنايات لحفظ الجميع من جهة العدم .
وأما الحاجيات فهى ما يفتقر إليه فى التوسعة ورفع الضيق المؤدى فى الغالب غلى الحرج وإن لم يبلغ مبلغ الفساد فى الضروريات ؛ ولهذا شرعت الرخص فى العبادات والمعاملات .
وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات ويجمعها قسم مكارم الأخلاق .
وهذه جملة المصالح الأصلية التى تقصد الشريعة إلى حفظها ودفع ما يضادها وشرعت لأجلها الأحكام التكليفية وهى إما عينية أو كفائية :
فعينية من جهة ما أمر به المكلف من حفظ نفسه ونسله وماله وعقله ودينه ، وكفائية من حيث توجيه الطلب للملف بأن يقوم بها على العموم فى جميع المكلفين وغيرهم لتستقيم الأحوال العامة والتى لا تقوم الخاصة إلا بها لتستقيم الأحوال والتى لا تقوم الخاصة إلا بها ، فهو مأمور بإقامة الوجود فى نفسه وغيره ومأمور بخلافة الله فى عباده على حسب قدرته ، ولا يجوز ترك شىء من ذلك لأن فى تركه فساد للعالم .
وأما المقاصد التابعة فهى التى روعى فيها حظ المكلف من تحصيل مقتضى ما جبل عليه من نيل شهوات واستمتاع بلذات وسد خلات .
وتشترك الغاية الأخلاقية فى الشريعة الإسلامية مع الغاية الأخلاقية فى الفكر الفلسفى عامة فى أمور كما تختص بأمور أخرى :
فأما ما تشترك به فهو أنها غايات مطلقة ، وأنها كلية وعامة وأبدية :
فهى ( مطلقة )وإن كانت مصالح الإنسان الدنيوية على غير ذلك فهى لا تتمحض وكذلك المفاسد إلا أن المعتبر شرعًأ ما غلب من الطرفين فإن كانت المصلحة غالبة كانت هى متعلق الخطاب فإن تبعها مفسدة او مشقة فليست بمقصودة ، وكذلك المفسدة يكون منعها على اتم وجه إن كانت هى الغالبة ، فالمصالح والمفاسد لا تتمحض فى هذه الدار لكن نقصود الشرع بالأمر والنهى ما غلب منها خالصًا غير مشوب .
وقد أرجع الفقهاء هذه القاعدة إلى منع التكليف بما بما لا يطاق فى شريعة الإسلام .
( وهى كلية )لأن فى ذلك كمال النظاموالذى يأبى أن ينخرم ما وضع له وهو المصالح ، فالأمر فى المصالح مطرد شرعًا ولا يتخلف من باب إلى باب ولا يختص به محل وفاق دون محل خلاف ، وإن خصص فعلى وجه كلى كذلك ، وإن تخاف فى بعض الجزئيات كما فى القصاص فإن إهمال ذلك الجزئى هو عين اعتبار الكلى ثم غن ذلك قد وقع لعارض هو الجناية وهو بذلك غير قادح فى الكلى .
(وهى عامة) يدخل تحتها كل مكلف فلا يباح لأحد ما يباح لغيره ، وما أوهم خلاف ذلك كإباحة إيغال للبعض فإنه مقرون بشرط القدرة وهو بذلك كلى من حيث تشتراط القدرة .
( وهى أبدية )بمعنى أنها غير قابلة للنسخ وإنما النسخ من أحكام الجزئيات لا الكليات .
وأما ما تختص به مقاصد الشريعة فكونها:
( توقيفية ) من وضع الشارع : اما على قاعدة نفى التحسين والتقبيح العقليين فإن كون هذه مصلحة وتلك مفسدة راجع إلى الشارع ولا عمل فيه لعقل ولا عرف ولا هوى .
وأما على القول بخلافه فغنه لما كانت المنافع والمضار إضافية غالبصا وبذلك تختلف من شخص إلى شخص ، والشىء قد يكون فيه مصلحة لشخص مفسدة لآخر ؛ فلا ينبغى ترك ذلك لدوافع الأهواء ولذلك فقد وضعت قواعد الشريعة وفق المصالح مطلقًا وافق ذلك الأغراض أو خالفها ن فضلاص عن أنه من مقاصد الشرع المعتبرة إخراج المكلف عن دواعى الهوى حتى يكون عبدصا لله تعالى وليس ذلك موكولاً للعقل أو للعرف دائمًأ فإن الشرع لما جاء بعد فترة تبين ما كان عليه أهل تلك الفترة من انحراف وخروج عن مقتضى الاعتدال ولو كان كما قيل لم يحتج إلى الشرع إلا فى بيان مصالح الآخرة ، وليس كذلك .
فالشريعة وإن كانت موضوعة لمصالح العاد فهى عائدة إلى ذلك بحسب أمر الشارع وحده لا على مقتضى الأهواء أو ما تحكم له العقول أو ما تواضع عليه الناس ، وفيها ثبوت الخظ و المصلحة الخاصة من حيث أثبته الشرع .
(وهى معتبرة من حيث إقامة مصالح الدنيا للآخرة)
فالدنيا لإنما خلقت لبذل التعم والخيرات للعباد ليشكروا الله تعالى عليها فيجازيهم بها فى الآخرة ، فكانت الشريعة مبنية على بيان وجه الشكر فى كل نعمة وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة الخاص منها والعام لتكون عونًا على ذلك الشكر ، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى (( ها أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناخ سميعًا بصيرًا إنا هدينا السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا )).
والشكر هو صرف ما أنعم به الله تعالى فى مرضاته سواء فى العبادات أو العادات ، وكونه قاصدًا لإقامة مصالح الدنيا للآخرة ليس خروجًا عن مقتضى إقامة مصالح الدنيا وإنما هو إقامة تلك الغاية كوسيلة لغاية قصوى هى السعادة الحقيقية حيث تتمحض الخيرات .
3-القيمة الأخلاقية :
اختلف الفلاسفة والمفكرون حول القيمة فى الفعل الخلقى هل هى راجعة إلى البواعث ام إلى الغايات ، والواقع أن الفقهاء قد اشترطوا الأمرين معًا :
فالعلة فى الأحكام الفقهية إنما هى المصلحة نفسها أو المفسدة أو مظانهما سواء كان ذلك ظاهرًا أو غير ظاهر منضبطًا أو غير منضبط فالفعل يمكن أن يوصف بكونه أخلاقيًا فى حد ذاته بمقدار ما يحققه من غايات ومقاصد أخلاقية ، وقد فاضل الفقهاء بين الأعمال وفقًا لهذه القاعدة :
فأعلاها فضلاً أشدها حفاظًأ على الضروريات ، كما يكتسب الفعل قيمته الأخلاقية بمقدار تحقيقه لكليات هذه الضروريات حتى إن المطلوب الشرعى بالجزء ليصير أشد طلبًا بالكل ... وعليه فإن كان العمل ينتج أمرًا كليًا ضروريًا كان فى أرفع درجات المطلوبات والواجبات حتى يصير من أركان الدين وإن كان مما ينتج أمرًا مضادًا كان من كبائر الذنوب ، وإلا كان من النوافل أو المكروهات أو المخيرات ، فالأعمال عند الفقهاء تأخذ قيمتها الأخلاقية من كونها مؤدية إلى صلاح العالم أو كمال ذلك الصلاح.
لكن إذا ظهرت البواعث والنيات كان الحكم بفضيلة العمل يتخذ بعدًا آخر ، كما يعنى الفقهاء بهذا الجانب لدوره فى تهذيب الأخلاق وإصلاح النفوس وترقيتها فى مكارم الأخلق .
فالأعمال بمقاصدها كما أنها بنتائجها ، والنيات معتبرة فى التصرفات بل الواقع أنه لا بد لكل عمل من باعث ، والمقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة وفى العبادة بين ما هو واجب وغير واجب وفى العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم وفى المعاملا ت بين ما هو صحيح وبين ما هو فاسد ..
والعمل الواحد يقصد به أمر فيصير طاعة ويقصد به آخر فيصير غير ذلك ، بل يقصد به أمر فيصير إيمانًا ويقصد به آخر فيصير كفرًا كالسجود ..
والعمل إذا تعلق به قصد تعلقت به الأحكام الفقهية وإذا عرى عن القصد لم يتعلق به شىء كفعل الساهى ، فإن تعلق به حكم فهو حكم الوضع لا حكم التكليف وذلك إذا تعلق بحقوق الاخرين كرد الودائع حيث تحصل به الفائدة قلا يطالب بإعادته .
فإذا وافقت النية مقصد الشرع فى اعتقاد المكلف وفى الواقع أو خالفته فالأمر فى ذلك قريب لا خلاف فيه حتى لو وقع الفعل على خلاف المتوقع وكذا لو خالفت النية مقصد الشرع فى اعتقاد المكلف وفى الواقع مع خلاف يسير ، لكن الإشكال فيما لو خالف المكلف مقصد الشرع ناويًا مطابقته أو طابقه ناويًا مخالفته وهو ما نما فيه الخلاف بين الفقهاء :
فمال فريق من الفقهاء إلى مراعاة النية مع تلافى ما يجب تلافيه من العبادات ، ومال فريق آخر إلى مراعاة مقصد الشرع فأبطلوا كل معاملة تخالف مقصد الشرع ..والواقع أن لا تسوية بين فعلين أحدهما خالف الشرع مكافحًا والآخر خالفه عن جهل أو نسيان .
وتوسط فريق ثالث فأعمل مقتضى الموافقة فى إسقاط الحدود والعقوبات مطلقًا وأعمل مقتضى المخالفة فى عدم البناء على الفعل ... والأمر يحتاج لبحث مستفيض .
لكن هل يعنى الفقهاء بضرورة مطابقة قصد المكلف لمقصد الشرع العمل لمجرد الامتثال أو العمل لأجل المقاصد الأصلية مجردًا عن الحظوظ ؟
لا شك فى صعوبة ذلك وقد أمرنا الله -تعالى- جميعًا بالإخلاص فلو كان المقصود به مجرد الامتثال أو العمل للمقاصد الأصلية من صلاح العالم وخلافة الله تعالى فى الأرض وإقامة ذلك لمصالح الآخرة لكان أشبه بالتكليف بما لا يطاق ، بل إنما يجعل الإنسان حظه مقصدًا والعمل وسيلة وإلا لم يكن ثم عمل يطلب ..
والواقع أم فى المسألة تفصيلاً عند الفقهاء :
فمن عمل للامتثال المجرد أو المقاصد الأصلية فلا شك فى صحة عمله وأنه فى أعلى المراتب ، فالامتثال المجرد محض العبودية وكان دأب النبى صلى الله عليه وسلم حتى كان طلبه للحظوظ عاريًا عن الحظوظ ، ومن قام بمراعاة المقاصد الأصلية صار العمل بالنسبة له عبادة سواء كان من العبادات أو العادات فهو إذا فهم مقصد الشرع وعمل بمقتضاه فهو إنما يعمل من حيث طلب منه أن يعمل وينتقل عمله إلى دائرة الوجوب من حيث صار حفاظًا على المقاصد الأصلية بخلاف البناء على المقاصد التابعة ، وقد يحصل ذلك أيضًا مع تجريد الامتثال .
أما إن عمل المكلف للمقاصد التابعة أو الحظوظ ففيه تفصيل :
فإن راعاها من حيث دخولها تحت الطلب لا من حيث الحظ كالوكيل فى مال اليتيم الذى إن احتاج أكل بالمعروف فهو صحيح .
وإن أخذها من حيث الحظ فقد مال بعض الفقهاء إلى تصحيح فعله واعتباره داخلاً تحت الطلب ، وفرق بعضهم فصححه فى المعاملات لأنه رأى أن مقصد الشرع فيها مراعاة حظوظ المكلفين ولو كان قصدها قادحًا فى المعاملات لالتحقت بالعبادات وليس كذلك ..
على أنه ينبغى التفريق بين المغاير للمقاصد الأصلية والمناقض لها ، وبين الحظوظ التى هى مقاصد شرعية بالتبع كالذى يرجع منها إلى صلاح الهيئة وتحسين الظن مع الغفلة عن الرياء وبين الحظوظ التى هى باطلة شرعًأ فإنها محبطة للعمل .
ثانيًا الجانب العملى
إذا كان الفقه فى تعريف الأصوليين هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية فإن مهمة الفقه الأخلاقية تتمثل فى اكتساب الأحكام الأخلاقية من الأدلة الشرعية والتى تحكم حياة المكلفين .
غير أن التعريف يتضمن الإشارة إلى مصدر تلك الأحكام مما يعطى الإلزام بها صبغة عقدية ، وإشارة إلى الطبيعة العملية للفقه .
وقبل الشروع فى الحديث عن قواعد استنباط تلك الأحكام وسياسية الإلزام العملية بها تجدر الإشارة إلى طبيعة تلك الأحكام وأقسامها من حيث اعتبارها خطابًا موجهًا من الشارع إلى المكلقف .
خطاب التكليف :
عرف الأصوليون خطاب التكليف بأنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير .
ومن التعريف يتضح أركان الخطاب وأقسامه فأما الأركان فهى :
1-الحاكم : وهو الشرع لا العقل ، وقد علم طلب الشرع المجرد بالنص عليه بالأمر والنهى ، أما معرفة درجاته ومعرفة الجزم وعدمه فجاء من اتباع المعانى والنظر فى المصالح والمفاسد.
2-المحكوك به : وهو التكليفات الشرعية ، وهى لغة ما فيه مشقة ، غير أن ذلك غير مقصود شرعًا - إلا أن يكون ذلك بمعنى مغالبة دواعى الطبع والهوى - فالتكليفات الشرعية ما وضعه الشارع من أسباب ينتج عنها مسببات هى إقامة مصالح الدنيا للآخرة ، وقد انبنى على ذلك اصلان أخلاقيان :
الأول : أن المكلف مسئول عن الأسباب وإن لم تؤد إلى المسببات التى هى من فعل الله تعالى ، وذلك كمن شرب الخمر ولم يسكر ...
الثانى : أن المكلف مسئول عن المسببات التى دخل فى الأسباب الشرعية الموضوعة لها شرعًا سواء قصد وقوع المسبب أو لم يقصد لأن قصد السبب دون المسبب لغو لا يعتبر شرعًا ، وقد يؤدى هذا الأصل إلى أن تتعلق بالمكلف تبعات عظيمة لم تكن فى الحسبان كما ورد بالنصوص .
3-المجكوم عليه : وهوالمكلف يشترط فيه الإسلام والبلوغ والعقل ،وشرط الإسلام يترتب عليه هل الكافر مكلف بالفروع أم لا ؟
وشرط البلوغ والعقل راجع إلى اشتراط القدرة فى الإلزام بالفعل وقد انبنى على ذلك أصولاً منها :
(أولاً) انه ليس فى شريعة الإسلام تكليف بما لا يطاق ؛ فلا يطالب المكلف بما يناقض ما جبل عليه ، ولا بما يشق عليه مشقة خارجة عن المعتاد سواء فى ذات العمل أو فى تكراره ، وما ورد خلاف ذلك فهو مصروف إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه .
(ثانيا)أن من لا علم له بالتكليف لا يؤاخذ بفعله المخالفة فالمسؤولية فرع عن العلم بالتكليف إلا ان يكون معلومًا من الدين بالضرورة لا يسعه جهله .
أما أقسامه فتدخل تحت الاقتضاء والتخيير ؛ فالفعل أو الترك إما أن يكون مطلوبًا شرعًا أو غير مطلوب ؛فإن كان الأول فإما أن يكون الطلب جازمًا أو غير جازم ؛ فإن كان الأول فهو منقسم إلى مطلوب الفعل وهو ما يمدح فاعله لحسنه ويذم تاركه ، ومطلوب الترك وهو ما يمدح فاعله لقبحه ويذم فاعله وهو الحرام .
وإن كان الثانى فهو منقسم إلى مطلوب الفعل وهو ما يمدح فاعله فقط وهو المندوب ومندوب الترك وهو ما يمدح تاركه فقط وهو المكروه .
وإن كان الثانى فهو المباح وهو ما لا يتعلق به مدح ولا ذم ولا يوصف بالحسن ولا بالقبح - على رأى الجمهور - وإنما غرض الشارع فيه تخيير المكلف .
فهذه الأحكام هى التى يوصف بها الفعل وصفًا شرعيًا يحدد درجة إلزام المكلف به فعلاً أو تركًا أو تخييرًا ، وهى تطلق ولا تكون على درجة واحدة فى ذاتها فالمطلوب بالجزء يصير أشد طلبًا بالكل كما يصير غير الجازم بالجزء جازمًا بالكل، وقد وضع الفقهاء لكل درجة منها حدًا وضابطًا .
ومن مقاصد الشرع التمييز بين تلك الأحكام ؛ فلا يساوى بين المندوب والواجب ، ولا بين المباح والمكروه ، ولا بين المكروه والحرام اعتقادًا ، وذلك مطلوب من كل من يقتدى به فعلاً.
قواعد استناط الأحكام :
الأصل فى معرفة الأحكام أن تؤخذ من النصوص مباشرة وهى هنا تأتى إما مطلقة كالأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى ، ويترك ما يناسب معرفة كل حال لاجتهاد المكلف ، أو مقيدة بمقادير معلومة وأسباب معلومة سدًا لذرائع الانتشار وضبطًا لوحدة المصالح وذلك إذا تعذر على المكلف معرفة التفصيلات والرجوع فيها إلى أصل الشرع .
لكن لما تعذر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى فى كل حال بعد انقطاع النص أظهر الله تعالى لخلقه بأمور محسوسة نصبها لهم أسبابًا لأحكام وجعلها موجبة لها ومقتضية للأحكام على مثل اقتضاء العلة الحسية معلولها .
فالقياس إذن يعتمد على قبول الحكم للتعدى ومعرفة ذلك يتطلب معرفة العلة التى شرع لأجلها الحكم وهى المصلحة ، اما فى العادات فظاهر واما فى العبادات :فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصيام يسد مسالك الشيطان ويعين على العفة وغض البصر ... وكذلك سائر العبادات لا تخلو من شبه ذلك على ما فيها من معنى شكر الله تعالى .
فإذا تبين ذلك افتقر إلى الجهات التى تعرف بها المقاصد فى كل حكم وإلا كان القول بتعدية الحكم تحكمًا بغير دليل .
وقد بين الأصوليون هذه الجهات وهى :
1-صريح الأمر والنهى الابتدائى : وقيد بالصريح احتراز من الضمنى ، وبالابتدائى احتراز من غيره كتأكيد الطلب ، ذلك ان الأمر والنهى يقتضى الفعل او الكف بمجرده وومخالفة ذلك مخالفة لمقصود الشرع .
2- اعتبار العلل بمسالكها المعروفة : فإن العلة إذا كانت معلومة بالنص اتبعت فيثبت الحكم حيث ثبتت وينتفى حيث انتفت وإلا عرفت بمسالكها من الطرد والعكس والدوران ...فإذا تبيت وثبتت علم أن مقصود الشرع مقتضى هذه العلة وإلا فإن تبين أنها غير معلومة تعين التوقف لأن الأصل عدم التعدى حتى يعلم أن ذلك مقصود الشرع .
3- النظر فى المصالح التابعة : فالشارع قد شرع للأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة وكل ما لم ينص عليه مما من شأنه تأكيد أو تقوية أو إدامة المقصد الأصلى فهو مقصود أيضأ ويوافق مقصود الشرع ، وما يقابل ذلك يناقض مقصود الشرع .
4- سكوت الشرع عن الإذن مع قيام الداعى للإذن : فإن سكوت الشرع إن كان فى حادثة وقعت زمان التشريع مع قيام المقتضى لإقرارحكم معين زائد على ما كان فى هذا الزمان دليل على أن مقصود الشرع الا يزيد ولا ينقص على ما كان من حكم متعارف .
فإذا ثبت ان الحكم معلل بوصف وتبين وجود ذلك الوصف فى الفرع لزم حصول ذلك الحكم فى الفرع والعمل بذلك جائز عند جمهور أهل العلم .
غير أن القياس غير معمول به على الإطلاق فإن هناك قواعد فقهية أخرى قد تسوغ مخالفة القياس ومن ذلك :
1- ما يعرف عند الفقهاء بالنظر فى المآل :وما ينبنى على ذلك من أصول ؛ فإنه إذا كانت المصلحة أو المفسدة هى علة الأحكام فإن النظر فى مألات ذلك مفيد شرعًا ، فقد يكون الفعل ظاهره جلب مصلحة ثم يئول إلى مفسدة زائدة على تلك المصلحة ، ذلك أن الشرع قاصد المسببات من الأسباب .ومن أمثلة ذلك النهى عن التشديد على النفس فى العبادة خوف الانقطاع واختلاف الحكم فى ذلك من شخص إلى آخر .
2- قاعدة سد الزرائع : وقد حكمها المالكية فى أكثر أبواب الفقه لأن حقيقتها التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة ، ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعى فإنه اعتبر المآل فى أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان كما يكون من سب الأصنام وأشباه ذلك .
3- قاعدة إبطال الحيل : وحقيقة الحيل تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعى ، كالواهب ماله عند رأس الحول ، وهو فرع عن القاعدة السابقة مع توافر القصد من الفاعل ، وقد ورد عن ابى حنيفة القول بجواز الحيل مع عدم القصد إلى خرم قاعدة الشرع وإلا لحرم ما كان مثل الهبة عند رأس الحول على ما فيه من مصلحة للموهوب له .
4-قاعدة الاستحسان : وهو مذهب المالكية الأخذ بمصلحة جزئية فى مقابل دليل كلى ومقتضاه تقديم الاستدلال المرسل على القياس ن ذلك ان القياس قد يؤدى إلى مفسدة أو مشقة بالغة .
والعمل بمقتضى الاستحسان غير خارج عن مقاصد الشرع وإنما يرجع إلى ما علم منها وقد جاء فى الشرع أمثلة عليه كالقرض فإنه عبارة عن درهم بدرهم إلى أجل ففيه معنى الربا لكنه إجيز رفعًا للحرج .
أما الأحناف فيرون إلى جانب ذلك ضرورة أن يوافق قولاً لبعض الصحابة .
5- ومن ذلك ما كان فيه تعارض بين القياسين وما كان من مظان النزاع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة ؛ فإنه إذا كانت المصلحة والمفسدة إضافية غالبًا فقد يكون مصلحة الشخص مفسدة لغيره ن فلا ينبغى ترك ذلك لمدافعة الأهواء وإنما توضع الأحكام وفق المصلحة المطلقة وافق ذلك الأغراض أو خالفها ن والكلام فيه على ضربين :
الأول تعارض المصلحة العامة والخاصة : فإن كانت المصلحة العامة لا تتم إلا بذلك وقد أهمل الشرع جانب المصلحة الخاصة كما فى الحدود لعلة هى الجناية والتعذيرات روعى فى ذلك ألا يقع على الجانى تبعة تزيد على حكم الأصالة وإلا ترك وما فعل ، ولا يزول الضرر بضرر أشد كما جاء فى حادثة البائل فى المسجد ، وإلا نظر فى الجمع بينهما إن أمكن ، وإلا إن كانت المشقة العامة أعظم رجح جانبها وأهمل جانب الخاصة أو العكس ، وإلا فالتوقف .
وقد جاء عن بعض الفقهاء جواز إتلاف المرء نفسة من أجل المصلحة العامة كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم فى بعض الغزوات والمعارك .
الثانى تعارض المصالح الخاصة: فإن أمكن الجمع بينهما وإلا قدم حق الجالب للمصلحة لأنها مقصد الشرع ، ومن سبق كان أحق بها ، إلا أن يؤدى ذلك إلى إضرار بالغير أشد من تلك المصلحة :ان تكون حاجية أو تحسينية فيقدم حق الغير لقاعدة منع الضرر .
هذا ويراعى ضمن أصول الفقه حال المجتهد وحال المستفيد ، فبالإضافة إلى العلم بأدلة الأحكام وقواعدها فبشترط فى الناظر فى تلك القواعد لاستنباط الأحكام أن يكون على علم تام بمقاصد الشرع ، وأن يكون له من القدرة ما يمكنه من الاجتهاد فى استنباط الأحكام ووفقًا لها ، ومن معرفة مناط كل حكم ومحله؛ وذلك أن الاجتهاد نوعان : نوع يتعلق بمعرفة الأحكام ، ونوع يتعلق بتحقيق المناط ، فعندما يثبت الحكم بمدركه الشرعى يبقى النظر فى تعيين محله ، وذلك أن الشارع إذا قال مثلاً (( وأشهدوا ذوى عدل منكم )) ثبت الحكم وهو اشتراط العدالة وافتقر إلى نوع آخر من الاجتهادفى تعيين المحل وهو ذا العدل ، وهو يتطلب معرفة كذلك بحال المكلف .
وعلى المقلد أن يرجح بين المجتهدين كما يرجح المجتهد بين الأدلة بما أظهره الله تعالى له من معانى التقوى والأعلمية لا بالهوى والتشهى :
فلا يقلد العالم فى زلته لأنه لم يصدر منه ذلك عن اجتهاد فى الحقيقة ، ولا يذهب إلى القول بأن اختلاف اهل العلم حجة على الجواز ، ولا يتتبع الرخص فى كل مذهب لأنه مفض إلى ترك الدليل والقول بتلفيق المذاهب وانخرام قانون السياسة الشرعية ، بل إنما يجوز الانتقال عن مذهب إلى مذهب بالكلية ، ولا يأخذ بأيسر القولين دائمًا اعتمادًا على قوله تعالى (( ما جعل عليكم فى الدين من حرج )) فإنه إعمال للنص فى غير محله وذلك مؤذن بترك التكليف بالكلية بل يأخذ بالأحوط احتياطًا لدينه .
هذا مع الترغيب الأكيد فى طلب العلم ومعرفة الأحكام بأدلتها وألا يلجأ إلى التقليد إلا مضطرًا .
سياسة الإلزام الخلقى :
إن الطابع العام للفكر الأخلاقى ليبرز فى سياسة الإلزام بالأحكام الأخلاقية وسياسة النفوس للامتثال لمقاصدها إذ ليس كافياً التعريف بتلك الأحكام ولا ربط تلك الأوامر والنواهى بالعقيدة حتى تنقاد إليها النفوس جميعًا على ما فيها من نوازع وما بينها من تعارض واختلاف ، بل إنه لا بد لذلك من سياسة تميزت بها الشريعة ، وقد بنيت على أصول منها :
1- أنه لا بد كى تقام الأخلاق الاجتماعية العامة من إقامة الأخلاق الخاصة ولا يكون ذلك إلا باعتبار اختلاف الطبائع .
فالأصل فى الإلزام الخلقى أن ينبع من النفس المؤمنة ، لكن النظرة الواقعية الشاملة للفقه الإسلامى ترى إلى جانب ذلك النفوس الضعيفة وفترات الضعف البشرى اللازمة .
فالناس فى اللالتزام بمقاصد الشرع أصناف كما أن لكل صنف منهم أحوالاً ؛ فمنهم كالخازن على بيت المال وفيهم نزل قوله تعالى (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )) ، وقسم كالوكيل فى مال اليتيم إن استغنى عف وإن احتاج أكل بالمعروف كما جاء فى الحديث الشريف ( إن الأشعريين إذا أرملوا فى الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم فى ثوب واحد ثم قسموه بينهم فى إناء واحد فهم منى وأنا منهم ) فكيف بحال هؤلاء فى معاملاتهم وإعطائهم الناس حقوقهم ؟ لا شك أنه يبالغون فى النصيحة لأنهم كالوكلاء للناس على أنفسهم .
أما القسم الثالث فهم أصحاب الحظوظ لكنهم أخذوها من حيث أذن لهم فيها وعلامتهم الانكفاف إذا طلب منهم ذلك .
وقسم قصر عن ذلك أو تردد بينه وبين الوقوع فى حدود الله .
وإذا كانت الشريعة كلية عامة فإن كل طبقة منها داخلة تحت قاعدة كلية ثم يشمل ذلك القاعدة الكلية الكبرى وهى حفظ الكليات وما يتضمنه ذلك من صلاح العالم ودرء الفساد عنه.
2-أن الشريعة جارية فى التكليف بمقتضاها بين الرفق والحزم على الطريق الوسط الأعدل ، الآخذ من كل طرف بقسط ، الداخل تحت قدرة العبد وكسبه من غير مشقة ولا انحلال ، فإن كان فى التشريع ميل ظاهر إلى جهة فذلك فى مقابل واقع أو متوقع .
وليس معنى الإلزام فى الفقه الإسلامى قهر المكلف على اتباع الشريعة بدعوى أن الشرع جاء ناقلاً عن الأصل ، ذلك أن الإلزام إنما شرع كى تستقيم النفوس على أمر الله تعالى ، وهذا يتطلب إلى جانب الحزم ضروبًا من الرفق والمسامحة كما يتضح من :اعتبار الشرع حظوظ المكلف ، والتدرج فى التشريع ، ورفع الحرج عن المكلفين ، وتلافى الخطأ الذى أوقعوا فيه أنفسهم ، وتشريع التوبة والكفارات ، ومصاحبة الرفق المكلف حتى إذا فصد بنفسه الإعنات ...
3-أن الإلزام بالأحكام الأخلاقية ليس على درجة واحدة كما أن ذلك التدرج راجع إلى عوامل مختلفة ، فدرجة الإلزام كما أن لها علاقة مطردة بالقيمة الأخلاقية فإن لها علاقات أخرى كالعلاقة المنعكسة بالباعث الطبيعى وهو ما يتضح من تفريق الشريعة بين ما كان للمكلف فيه حظ عاجل كقيامه بمصالح نفسه وما يلحق به من معاملات ، فهذا لما كان الباعث فيه طبيعيًا ولم يكن له معارض لم يؤكد فيه الطلب بل جاء على الجملة مندوبًأ فالإلزام هنا كالحوالة على الداعى والباعث الطبيعى ، فإن لم يكن فيه حظ ونازعه باعث طبيعى كالقيام بحقوق الغير أوجبه الشرع عينيًأ أو كفائيًأ وتأكد الطلب فى حقه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على صاحب الخلق العظيم وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين..
أما بعد
لعل الهدف من تأسيس علم للأخلاق كان هو وضع الضوابط والمعايير التى يسير بمقتضاها الإنسان فى حياته فتنتظم سيرته مع ربه ومع أفراد جنسه والكون من حوله وقد صيغت منذ فجر التاريخ نماذج لنظريات أخلاقية تأثرت بمجتمعاتها أكثر مما أثرت فيها ثم تطورت فى العصر الحديث واشتملت على مذاهب أكثر تعقيدًا وإن لم ترق بالإنسانية إلى ما كانت تصبو إليه بل لعلها قد تأخرت من هذا المنظور عن سابقتها ولقد تجاذبتها المناهج السائدة بعيدًا عن المقصد الذى وضع لأجله هذا العلم .
ولقد وجدنا المدارس الفقهية تضع القواعد العامة والضوابط التى تحكم حياة الناس فى معاملاتهم وعلاقاتهم معتمدة فى ذلك على القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وما اجتمعت عليه الأمة وعبرت عن تلك الضوابط والمعايير بعبارات دينية كالحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز بحيث يمتزج المعنى الأخلاقى بالأمر الدينى ذى الأبعاد العقائدية الإلزامية وبحيث يشمل ذلك كل الأفراد بلا استثناء ويشمل حياتهم اليومية .
ثم وجدنا ذلك قد أتى فى إطار منهج عملى متكامل لم يكتف بالنموذج النظرى الذى ألفناه فى النتاج الفلسفى ، كما وجدناه يتميز إلى جانب ذلك بالواقعية والشمول والروح الاجتماعية مما يشكل نموذجا عمليًا لحياة أخلاقية واقعية شاملة تهدف إلى صلاح الدنيا من أجل صلاح الآخرة .
موضوع البحث
لقد عنى الفلاسفة بتفسير السلوك الإنسانى الخلقى على أنه موضوع علم الأخلاق ، فتعرضوا لمعرفته وتحديد القيمة الخلقية ، وغايته ، ودوافعه ، ومصادر الإلزام الخلقى ، وأما الجانب التقويمى فقد أخذ منحًا نظريًا لدى بعض الفلاسفة ممن عنوا به كافلاطون بينما ذهب آخرون إلى استحالته وأن الناس يولدون اخيارًا أو أشرارًا وأنه لا يسع علم الأخلاق إلا أن يصف سيرة الناس كما يصف علم التاريخ الطبيعى سيرة الحيوان بل وعدّ بعضهم ذلك شرطًا فى اعتباره علمًا .
والواقع ان فى ذلك خروجًا عن الدور المنشود لعلم الأخلاق وهو ما عنى به الفقه الإسلامى وتميز به عن المذاهب الفلسفية الأخلاقية .
وإذا كان الجانب التقويمى العملى يظل هو المميز للبعد الأخلاقى فى الفقه الإسلامى فإن الحديث عن الجانب النظرى مما يظهر محاسن الشريعة وجهود الفقهاء مقارنة بغيرهم.
أولاً الجانب النظرى:
وسوف أتناول فيه باختصار شديد - أرانى مدفوعًا إليه- ولن يكون مخلاً إن شاء الله تعالى الحديث عن دوافع الفعل الأخلاقى أو مصادر الإلزام ، والغاية الأخلاقية ، والقيمة الأخلاقية.
1- دوافع الفعل الأخلاقى :
إن عناية الفقه الإسلامى بدوافع الفعل الأخلاقى إنما تنبع من أهمية معرفة ذلك فى خطاب النفوس وتوجيهها إلى انتهاج منهج أخلاقى ، لكن الذى يلفت الانتباه أن النظرة الفقهية إلى النفس البشرية تميزت بالشمول والواقعية :
فهو يخاطب دوافع الإيمان والذى يتمثل فى توحيد القلوب لله تعالى وإخلاصها له بحيث يكون المرأ مع الله تعالى بلا خلق ومع الخلق بلا نفس ومع النفس بلا هوى وهو ما يتضح من ربط الأوامر والنواهى بالإيمان بالله تعالى وأما ما يتقوى به ذلك من فطرة سليمة وعقل مستنير فيناسبه توضيح ما فى هذه الأوامر والنواهى من علل مطردة تتفق مع ما يراه العقل وتطمئن إليه الفطرة .
ومن ناحية أخرى فإنه لما كان كل عمل إنسانى أصله المحبة والإرادة والمقصود منه الفوز بالمراد المحبوب سواء كان ذلك طاعة الله تعالى والانقياد لأمره أو الفوز بالجنة أو حتى نيل حظوظ الدنيا حتى صار ذلك اعم الدوافع وأشملها .. فقد خوطب المكلفون بذلك فى كل عمل حتى إن العمل إذا تجرد من الحظ بالمقصد الأول كالعبادات والولايات العامة كان لصاحبه من الحظ بالمقصد الثانى من جعله عمدة فى الدين وفى إقامة الشهادة ومن توقير المكلفين وقيامهم بحظوظه ... ما يفوق ما كان من الأعمال مراعيًا للحظ بالمقصد الأول حتى يعلم المكلف ان التجرد من الحظوظ فى الشرع لا يجرد صاحبها منها إذا كان ممتثلاً لأمر الله تعالى .
لكن من الناس من تعوذهم الفطنة ، ومنهم جهال لا يسمعون ولا يعقلون ما فى أور الله تعالى من الخير فكانت مهمة الفقه أن يبين لهؤلاء ويرشدهم .
غير أن من هؤلاء من لا يفتقر إلى هداية البيان فحسب ولا يزعه إلا عصى الجماعة دون أن يخرجه ذلك عن صفة الإيمان وأهلية الخطاب ، بل إن له حظًا من الإيمان والفطرة السليمة كما أن لكل مؤمن نصيب من اتباع الغرائز.
وقد نظر الفقه الإسلام إلى هذه الدوافع على أنها مختلطة وممتزجة وغير مجردة فالعقل هو مناط التكليف ، والإيمان شرط الامتثال ، ولا يعمل الإنسان إلا بحظ ولا ينتهى إلا إذا أيقن بما يجره عليه التمادى من الآلام فى الآخرة أو فى الدنيا أعظم من لذة قد تكون فى المخالفة .
إن نظرة الفقه للإنسان ككائن أخلاقى تميزت بالشمول والواثعية ونأت عن المثالية والتجرد الذى ادعاه المثاليون والذى جعل من ( الأخلاق ) علمًا مجردًا عن الواقع
2-الغاية الأخلاقية
تباينت أقوال الفلاسفة وعلماء الأخلاق فى الغاية من السلوك الأخلاقى غير أنها تدور حول جلب المصالح ودفع المفاسد عن الإنسان أو عن النوع الإنسانى.
وباستقراء الشريعة قد تبين أنها قد وضعت وفق مصالح العباد ، وهو ما لا ينازع فيه منكرو التعليل من المتكلمين والقائلون به بمعنى الأمارة أو العلامة ؛ فالأحكام العادية تدور مع مصالح العباد وجودًا وعدمًا ، والشىء الواحد قد يمنع فى حال لا تكون فيه مصلحة للعبد فإن وجدت فيه المصلحة جاز ، والإذن دائر معها حيث دارت ، بل إن النصوص الدالة على ذلك أكثر من أن تحصى :
فمن العام قوله تعالى (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ومن الخاص قوله تعالى (( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )).
وقد يمكن مراعاة ذلك أيضًا فى سائر العبادات كما ذهب الأحناف ، كما أن ذلك التصور قد أدى بالمالكية إلى القول بالمصالح المرسلة والاستحسان الذى قال عنه المالكية إنه تسعة أعشار العلم .
فتكاليف الشريعة ترجع عند الفقهاء إلى حفظ مقاصدها فى الخلق ، وقد قسم الفقهاء مقاصد الشريعة إلى أصلية وتابعة :
أما الأصلية فلا تعدو ثلاثة أقسام : أن تكون ضرورية ، أو حاجية ، أو تحسينية .
فالضرورية ما لا بد منه لقيام مصالح الدين والدنيا ، والحفظ لها يكون بأمرين :
إقامة أركانها ؛ ولهذا شرعت الأحكام فى باب العبادات لحفظ الدين من جانب الوجود ، وفى باب العادات لحفظ النفس والعقل ، وفى باب المعاملات لحفظ النسل والمال ... ثم من جانب ما يدرأ اختلالها ؛ ولهذا شرعت الأحكام فى باب الجنايات لحفظ الجميع من جهة العدم .
وأما الحاجيات فهى ما يفتقر إليه فى التوسعة ورفع الضيق المؤدى فى الغالب غلى الحرج وإن لم يبلغ مبلغ الفساد فى الضروريات ؛ ولهذا شرعت الرخص فى العبادات والمعاملات .
وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات ويجمعها قسم مكارم الأخلاق .
وهذه جملة المصالح الأصلية التى تقصد الشريعة إلى حفظها ودفع ما يضادها وشرعت لأجلها الأحكام التكليفية وهى إما عينية أو كفائية :
فعينية من جهة ما أمر به المكلف من حفظ نفسه ونسله وماله وعقله ودينه ، وكفائية من حيث توجيه الطلب للملف بأن يقوم بها على العموم فى جميع المكلفين وغيرهم لتستقيم الأحوال العامة والتى لا تقوم الخاصة إلا بها لتستقيم الأحوال والتى لا تقوم الخاصة إلا بها ، فهو مأمور بإقامة الوجود فى نفسه وغيره ومأمور بخلافة الله فى عباده على حسب قدرته ، ولا يجوز ترك شىء من ذلك لأن فى تركه فساد للعالم .
وأما المقاصد التابعة فهى التى روعى فيها حظ المكلف من تحصيل مقتضى ما جبل عليه من نيل شهوات واستمتاع بلذات وسد خلات .
وتشترك الغاية الأخلاقية فى الشريعة الإسلامية مع الغاية الأخلاقية فى الفكر الفلسفى عامة فى أمور كما تختص بأمور أخرى :
فأما ما تشترك به فهو أنها غايات مطلقة ، وأنها كلية وعامة وأبدية :
فهى ( مطلقة )وإن كانت مصالح الإنسان الدنيوية على غير ذلك فهى لا تتمحض وكذلك المفاسد إلا أن المعتبر شرعًأ ما غلب من الطرفين فإن كانت المصلحة غالبة كانت هى متعلق الخطاب فإن تبعها مفسدة او مشقة فليست بمقصودة ، وكذلك المفسدة يكون منعها على اتم وجه إن كانت هى الغالبة ، فالمصالح والمفاسد لا تتمحض فى هذه الدار لكن نقصود الشرع بالأمر والنهى ما غلب منها خالصًا غير مشوب .
وقد أرجع الفقهاء هذه القاعدة إلى منع التكليف بما بما لا يطاق فى شريعة الإسلام .
( وهى كلية )لأن فى ذلك كمال النظاموالذى يأبى أن ينخرم ما وضع له وهو المصالح ، فالأمر فى المصالح مطرد شرعًا ولا يتخلف من باب إلى باب ولا يختص به محل وفاق دون محل خلاف ، وإن خصص فعلى وجه كلى كذلك ، وإن تخاف فى بعض الجزئيات كما فى القصاص فإن إهمال ذلك الجزئى هو عين اعتبار الكلى ثم غن ذلك قد وقع لعارض هو الجناية وهو بذلك غير قادح فى الكلى .
(وهى عامة) يدخل تحتها كل مكلف فلا يباح لأحد ما يباح لغيره ، وما أوهم خلاف ذلك كإباحة إيغال للبعض فإنه مقرون بشرط القدرة وهو بذلك كلى من حيث تشتراط القدرة .
( وهى أبدية )بمعنى أنها غير قابلة للنسخ وإنما النسخ من أحكام الجزئيات لا الكليات .
وأما ما تختص به مقاصد الشريعة فكونها:
( توقيفية ) من وضع الشارع : اما على قاعدة نفى التحسين والتقبيح العقليين فإن كون هذه مصلحة وتلك مفسدة راجع إلى الشارع ولا عمل فيه لعقل ولا عرف ولا هوى .
وأما على القول بخلافه فغنه لما كانت المنافع والمضار إضافية غالبصا وبذلك تختلف من شخص إلى شخص ، والشىء قد يكون فيه مصلحة لشخص مفسدة لآخر ؛ فلا ينبغى ترك ذلك لدوافع الأهواء ولذلك فقد وضعت قواعد الشريعة وفق المصالح مطلقًا وافق ذلك الأغراض أو خالفها ن فضلاص عن أنه من مقاصد الشرع المعتبرة إخراج المكلف عن دواعى الهوى حتى يكون عبدصا لله تعالى وليس ذلك موكولاً للعقل أو للعرف دائمًأ فإن الشرع لما جاء بعد فترة تبين ما كان عليه أهل تلك الفترة من انحراف وخروج عن مقتضى الاعتدال ولو كان كما قيل لم يحتج إلى الشرع إلا فى بيان مصالح الآخرة ، وليس كذلك .
فالشريعة وإن كانت موضوعة لمصالح العاد فهى عائدة إلى ذلك بحسب أمر الشارع وحده لا على مقتضى الأهواء أو ما تحكم له العقول أو ما تواضع عليه الناس ، وفيها ثبوت الخظ و المصلحة الخاصة من حيث أثبته الشرع .
(وهى معتبرة من حيث إقامة مصالح الدنيا للآخرة)
فالدنيا لإنما خلقت لبذل التعم والخيرات للعباد ليشكروا الله تعالى عليها فيجازيهم بها فى الآخرة ، فكانت الشريعة مبنية على بيان وجه الشكر فى كل نعمة وبيان وجه الاستمتاع بالنعم المبذولة الخاص منها والعام لتكون عونًا على ذلك الشكر ، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى (( ها أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناخ سميعًا بصيرًا إنا هدينا السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا )).
والشكر هو صرف ما أنعم به الله تعالى فى مرضاته سواء فى العبادات أو العادات ، وكونه قاصدًا لإقامة مصالح الدنيا للآخرة ليس خروجًا عن مقتضى إقامة مصالح الدنيا وإنما هو إقامة تلك الغاية كوسيلة لغاية قصوى هى السعادة الحقيقية حيث تتمحض الخيرات .
3-القيمة الأخلاقية :
اختلف الفلاسفة والمفكرون حول القيمة فى الفعل الخلقى هل هى راجعة إلى البواعث ام إلى الغايات ، والواقع أن الفقهاء قد اشترطوا الأمرين معًا :
فالعلة فى الأحكام الفقهية إنما هى المصلحة نفسها أو المفسدة أو مظانهما سواء كان ذلك ظاهرًا أو غير ظاهر منضبطًا أو غير منضبط فالفعل يمكن أن يوصف بكونه أخلاقيًا فى حد ذاته بمقدار ما يحققه من غايات ومقاصد أخلاقية ، وقد فاضل الفقهاء بين الأعمال وفقًا لهذه القاعدة :
فأعلاها فضلاً أشدها حفاظًأ على الضروريات ، كما يكتسب الفعل قيمته الأخلاقية بمقدار تحقيقه لكليات هذه الضروريات حتى إن المطلوب الشرعى بالجزء ليصير أشد طلبًا بالكل ... وعليه فإن كان العمل ينتج أمرًا كليًا ضروريًا كان فى أرفع درجات المطلوبات والواجبات حتى يصير من أركان الدين وإن كان مما ينتج أمرًا مضادًا كان من كبائر الذنوب ، وإلا كان من النوافل أو المكروهات أو المخيرات ، فالأعمال عند الفقهاء تأخذ قيمتها الأخلاقية من كونها مؤدية إلى صلاح العالم أو كمال ذلك الصلاح.
لكن إذا ظهرت البواعث والنيات كان الحكم بفضيلة العمل يتخذ بعدًا آخر ، كما يعنى الفقهاء بهذا الجانب لدوره فى تهذيب الأخلاق وإصلاح النفوس وترقيتها فى مكارم الأخلق .
فالأعمال بمقاصدها كما أنها بنتائجها ، والنيات معتبرة فى التصرفات بل الواقع أنه لا بد لكل عمل من باعث ، والمقاصد تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة وفى العبادة بين ما هو واجب وغير واجب وفى العادات بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم وفى المعاملا ت بين ما هو صحيح وبين ما هو فاسد ..
والعمل الواحد يقصد به أمر فيصير طاعة ويقصد به آخر فيصير غير ذلك ، بل يقصد به أمر فيصير إيمانًا ويقصد به آخر فيصير كفرًا كالسجود ..
والعمل إذا تعلق به قصد تعلقت به الأحكام الفقهية وإذا عرى عن القصد لم يتعلق به شىء كفعل الساهى ، فإن تعلق به حكم فهو حكم الوضع لا حكم التكليف وذلك إذا تعلق بحقوق الاخرين كرد الودائع حيث تحصل به الفائدة قلا يطالب بإعادته .
فإذا وافقت النية مقصد الشرع فى اعتقاد المكلف وفى الواقع أو خالفته فالأمر فى ذلك قريب لا خلاف فيه حتى لو وقع الفعل على خلاف المتوقع وكذا لو خالفت النية مقصد الشرع فى اعتقاد المكلف وفى الواقع مع خلاف يسير ، لكن الإشكال فيما لو خالف المكلف مقصد الشرع ناويًا مطابقته أو طابقه ناويًا مخالفته وهو ما نما فيه الخلاف بين الفقهاء :
فمال فريق من الفقهاء إلى مراعاة النية مع تلافى ما يجب تلافيه من العبادات ، ومال فريق آخر إلى مراعاة مقصد الشرع فأبطلوا كل معاملة تخالف مقصد الشرع ..والواقع أن لا تسوية بين فعلين أحدهما خالف الشرع مكافحًا والآخر خالفه عن جهل أو نسيان .
وتوسط فريق ثالث فأعمل مقتضى الموافقة فى إسقاط الحدود والعقوبات مطلقًا وأعمل مقتضى المخالفة فى عدم البناء على الفعل ... والأمر يحتاج لبحث مستفيض .
لكن هل يعنى الفقهاء بضرورة مطابقة قصد المكلف لمقصد الشرع العمل لمجرد الامتثال أو العمل لأجل المقاصد الأصلية مجردًا عن الحظوظ ؟
لا شك فى صعوبة ذلك وقد أمرنا الله -تعالى- جميعًا بالإخلاص فلو كان المقصود به مجرد الامتثال أو العمل للمقاصد الأصلية من صلاح العالم وخلافة الله تعالى فى الأرض وإقامة ذلك لمصالح الآخرة لكان أشبه بالتكليف بما لا يطاق ، بل إنما يجعل الإنسان حظه مقصدًا والعمل وسيلة وإلا لم يكن ثم عمل يطلب ..
والواقع أم فى المسألة تفصيلاً عند الفقهاء :
فمن عمل للامتثال المجرد أو المقاصد الأصلية فلا شك فى صحة عمله وأنه فى أعلى المراتب ، فالامتثال المجرد محض العبودية وكان دأب النبى صلى الله عليه وسلم حتى كان طلبه للحظوظ عاريًا عن الحظوظ ، ومن قام بمراعاة المقاصد الأصلية صار العمل بالنسبة له عبادة سواء كان من العبادات أو العادات فهو إذا فهم مقصد الشرع وعمل بمقتضاه فهو إنما يعمل من حيث طلب منه أن يعمل وينتقل عمله إلى دائرة الوجوب من حيث صار حفاظًا على المقاصد الأصلية بخلاف البناء على المقاصد التابعة ، وقد يحصل ذلك أيضًا مع تجريد الامتثال .
أما إن عمل المكلف للمقاصد التابعة أو الحظوظ ففيه تفصيل :
فإن راعاها من حيث دخولها تحت الطلب لا من حيث الحظ كالوكيل فى مال اليتيم الذى إن احتاج أكل بالمعروف فهو صحيح .
وإن أخذها من حيث الحظ فقد مال بعض الفقهاء إلى تصحيح فعله واعتباره داخلاً تحت الطلب ، وفرق بعضهم فصححه فى المعاملات لأنه رأى أن مقصد الشرع فيها مراعاة حظوظ المكلفين ولو كان قصدها قادحًا فى المعاملات لالتحقت بالعبادات وليس كذلك ..
على أنه ينبغى التفريق بين المغاير للمقاصد الأصلية والمناقض لها ، وبين الحظوظ التى هى مقاصد شرعية بالتبع كالذى يرجع منها إلى صلاح الهيئة وتحسين الظن مع الغفلة عن الرياء وبين الحظوظ التى هى باطلة شرعًأ فإنها محبطة للعمل .
ثانيًا الجانب العملى
إذا كان الفقه فى تعريف الأصوليين هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية فإن مهمة الفقه الأخلاقية تتمثل فى اكتساب الأحكام الأخلاقية من الأدلة الشرعية والتى تحكم حياة المكلفين .
غير أن التعريف يتضمن الإشارة إلى مصدر تلك الأحكام مما يعطى الإلزام بها صبغة عقدية ، وإشارة إلى الطبيعة العملية للفقه .
وقبل الشروع فى الحديث عن قواعد استنباط تلك الأحكام وسياسية الإلزام العملية بها تجدر الإشارة إلى طبيعة تلك الأحكام وأقسامها من حيث اعتبارها خطابًا موجهًا من الشارع إلى المكلقف .
خطاب التكليف :
عرف الأصوليون خطاب التكليف بأنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير .
ومن التعريف يتضح أركان الخطاب وأقسامه فأما الأركان فهى :
1-الحاكم : وهو الشرع لا العقل ، وقد علم طلب الشرع المجرد بالنص عليه بالأمر والنهى ، أما معرفة درجاته ومعرفة الجزم وعدمه فجاء من اتباع المعانى والنظر فى المصالح والمفاسد.
2-المحكوك به : وهو التكليفات الشرعية ، وهى لغة ما فيه مشقة ، غير أن ذلك غير مقصود شرعًا - إلا أن يكون ذلك بمعنى مغالبة دواعى الطبع والهوى - فالتكليفات الشرعية ما وضعه الشارع من أسباب ينتج عنها مسببات هى إقامة مصالح الدنيا للآخرة ، وقد انبنى على ذلك اصلان أخلاقيان :
الأول : أن المكلف مسئول عن الأسباب وإن لم تؤد إلى المسببات التى هى من فعل الله تعالى ، وذلك كمن شرب الخمر ولم يسكر ...
الثانى : أن المكلف مسئول عن المسببات التى دخل فى الأسباب الشرعية الموضوعة لها شرعًا سواء قصد وقوع المسبب أو لم يقصد لأن قصد السبب دون المسبب لغو لا يعتبر شرعًا ، وقد يؤدى هذا الأصل إلى أن تتعلق بالمكلف تبعات عظيمة لم تكن فى الحسبان كما ورد بالنصوص .
3-المجكوم عليه : وهوالمكلف يشترط فيه الإسلام والبلوغ والعقل ،وشرط الإسلام يترتب عليه هل الكافر مكلف بالفروع أم لا ؟
وشرط البلوغ والعقل راجع إلى اشتراط القدرة فى الإلزام بالفعل وقد انبنى على ذلك أصولاً منها :
(أولاً) انه ليس فى شريعة الإسلام تكليف بما لا يطاق ؛ فلا يطالب المكلف بما يناقض ما جبل عليه ، ولا بما يشق عليه مشقة خارجة عن المعتاد سواء فى ذات العمل أو فى تكراره ، وما ورد خلاف ذلك فهو مصروف إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه .
(ثانيا)أن من لا علم له بالتكليف لا يؤاخذ بفعله المخالفة فالمسؤولية فرع عن العلم بالتكليف إلا ان يكون معلومًا من الدين بالضرورة لا يسعه جهله .
أما أقسامه فتدخل تحت الاقتضاء والتخيير ؛ فالفعل أو الترك إما أن يكون مطلوبًا شرعًا أو غير مطلوب ؛فإن كان الأول فإما أن يكون الطلب جازمًا أو غير جازم ؛ فإن كان الأول فهو منقسم إلى مطلوب الفعل وهو ما يمدح فاعله لحسنه ويذم تاركه ، ومطلوب الترك وهو ما يمدح فاعله لقبحه ويذم فاعله وهو الحرام .
وإن كان الثانى فهو منقسم إلى مطلوب الفعل وهو ما يمدح فاعله فقط وهو المندوب ومندوب الترك وهو ما يمدح تاركه فقط وهو المكروه .
وإن كان الثانى فهو المباح وهو ما لا يتعلق به مدح ولا ذم ولا يوصف بالحسن ولا بالقبح - على رأى الجمهور - وإنما غرض الشارع فيه تخيير المكلف .
فهذه الأحكام هى التى يوصف بها الفعل وصفًا شرعيًا يحدد درجة إلزام المكلف به فعلاً أو تركًا أو تخييرًا ، وهى تطلق ولا تكون على درجة واحدة فى ذاتها فالمطلوب بالجزء يصير أشد طلبًا بالكل كما يصير غير الجازم بالجزء جازمًا بالكل، وقد وضع الفقهاء لكل درجة منها حدًا وضابطًا .
ومن مقاصد الشرع التمييز بين تلك الأحكام ؛ فلا يساوى بين المندوب والواجب ، ولا بين المباح والمكروه ، ولا بين المكروه والحرام اعتقادًا ، وذلك مطلوب من كل من يقتدى به فعلاً.
قواعد استناط الأحكام :
الأصل فى معرفة الأحكام أن تؤخذ من النصوص مباشرة وهى هنا تأتى إما مطلقة كالأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى ، ويترك ما يناسب معرفة كل حال لاجتهاد المكلف ، أو مقيدة بمقادير معلومة وأسباب معلومة سدًا لذرائع الانتشار وضبطًا لوحدة المصالح وذلك إذا تعذر على المكلف معرفة التفصيلات والرجوع فيها إلى أصل الشرع .
لكن لما تعذر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى فى كل حال بعد انقطاع النص أظهر الله تعالى لخلقه بأمور محسوسة نصبها لهم أسبابًا لأحكام وجعلها موجبة لها ومقتضية للأحكام على مثل اقتضاء العلة الحسية معلولها .
فالقياس إذن يعتمد على قبول الحكم للتعدى ومعرفة ذلك يتطلب معرفة العلة التى شرع لأجلها الحكم وهى المصلحة ، اما فى العادات فظاهر واما فى العبادات :فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والصيام يسد مسالك الشيطان ويعين على العفة وغض البصر ... وكذلك سائر العبادات لا تخلو من شبه ذلك على ما فيها من معنى شكر الله تعالى .
فإذا تبين ذلك افتقر إلى الجهات التى تعرف بها المقاصد فى كل حكم وإلا كان القول بتعدية الحكم تحكمًا بغير دليل .
وقد بين الأصوليون هذه الجهات وهى :
1-صريح الأمر والنهى الابتدائى : وقيد بالصريح احتراز من الضمنى ، وبالابتدائى احتراز من غيره كتأكيد الطلب ، ذلك ان الأمر والنهى يقتضى الفعل او الكف بمجرده وومخالفة ذلك مخالفة لمقصود الشرع .
2- اعتبار العلل بمسالكها المعروفة : فإن العلة إذا كانت معلومة بالنص اتبعت فيثبت الحكم حيث ثبتت وينتفى حيث انتفت وإلا عرفت بمسالكها من الطرد والعكس والدوران ...فإذا تبيت وثبتت علم أن مقصود الشرع مقتضى هذه العلة وإلا فإن تبين أنها غير معلومة تعين التوقف لأن الأصل عدم التعدى حتى يعلم أن ذلك مقصود الشرع .
3- النظر فى المصالح التابعة : فالشارع قد شرع للأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة وكل ما لم ينص عليه مما من شأنه تأكيد أو تقوية أو إدامة المقصد الأصلى فهو مقصود أيضأ ويوافق مقصود الشرع ، وما يقابل ذلك يناقض مقصود الشرع .
4- سكوت الشرع عن الإذن مع قيام الداعى للإذن : فإن سكوت الشرع إن كان فى حادثة وقعت زمان التشريع مع قيام المقتضى لإقرارحكم معين زائد على ما كان فى هذا الزمان دليل على أن مقصود الشرع الا يزيد ولا ينقص على ما كان من حكم متعارف .
فإذا ثبت ان الحكم معلل بوصف وتبين وجود ذلك الوصف فى الفرع لزم حصول ذلك الحكم فى الفرع والعمل بذلك جائز عند جمهور أهل العلم .
غير أن القياس غير معمول به على الإطلاق فإن هناك قواعد فقهية أخرى قد تسوغ مخالفة القياس ومن ذلك :
1- ما يعرف عند الفقهاء بالنظر فى المآل :وما ينبنى على ذلك من أصول ؛ فإنه إذا كانت المصلحة أو المفسدة هى علة الأحكام فإن النظر فى مألات ذلك مفيد شرعًا ، فقد يكون الفعل ظاهره جلب مصلحة ثم يئول إلى مفسدة زائدة على تلك المصلحة ، ذلك أن الشرع قاصد المسببات من الأسباب .ومن أمثلة ذلك النهى عن التشديد على النفس فى العبادة خوف الانقطاع واختلاف الحكم فى ذلك من شخص إلى آخر .
2- قاعدة سد الزرائع : وقد حكمها المالكية فى أكثر أبواب الفقه لأن حقيقتها التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة ، ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعى فإنه اعتبر المآل فى أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان كما يكون من سب الأصنام وأشباه ذلك .
3- قاعدة إبطال الحيل : وحقيقة الحيل تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعى ، كالواهب ماله عند رأس الحول ، وهو فرع عن القاعدة السابقة مع توافر القصد من الفاعل ، وقد ورد عن ابى حنيفة القول بجواز الحيل مع عدم القصد إلى خرم قاعدة الشرع وإلا لحرم ما كان مثل الهبة عند رأس الحول على ما فيه من مصلحة للموهوب له .
4-قاعدة الاستحسان : وهو مذهب المالكية الأخذ بمصلحة جزئية فى مقابل دليل كلى ومقتضاه تقديم الاستدلال المرسل على القياس ن ذلك ان القياس قد يؤدى إلى مفسدة أو مشقة بالغة .
والعمل بمقتضى الاستحسان غير خارج عن مقاصد الشرع وإنما يرجع إلى ما علم منها وقد جاء فى الشرع أمثلة عليه كالقرض فإنه عبارة عن درهم بدرهم إلى أجل ففيه معنى الربا لكنه إجيز رفعًا للحرج .
أما الأحناف فيرون إلى جانب ذلك ضرورة أن يوافق قولاً لبعض الصحابة .
5- ومن ذلك ما كان فيه تعارض بين القياسين وما كان من مظان النزاع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة ؛ فإنه إذا كانت المصلحة والمفسدة إضافية غالبًا فقد يكون مصلحة الشخص مفسدة لغيره ن فلا ينبغى ترك ذلك لمدافعة الأهواء وإنما توضع الأحكام وفق المصلحة المطلقة وافق ذلك الأغراض أو خالفها ن والكلام فيه على ضربين :
الأول تعارض المصلحة العامة والخاصة : فإن كانت المصلحة العامة لا تتم إلا بذلك وقد أهمل الشرع جانب المصلحة الخاصة كما فى الحدود لعلة هى الجناية والتعذيرات روعى فى ذلك ألا يقع على الجانى تبعة تزيد على حكم الأصالة وإلا ترك وما فعل ، ولا يزول الضرر بضرر أشد كما جاء فى حادثة البائل فى المسجد ، وإلا نظر فى الجمع بينهما إن أمكن ، وإلا إن كانت المشقة العامة أعظم رجح جانبها وأهمل جانب الخاصة أو العكس ، وإلا فالتوقف .
وقد جاء عن بعض الفقهاء جواز إتلاف المرء نفسة من أجل المصلحة العامة كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم فى بعض الغزوات والمعارك .
الثانى تعارض المصالح الخاصة: فإن أمكن الجمع بينهما وإلا قدم حق الجالب للمصلحة لأنها مقصد الشرع ، ومن سبق كان أحق بها ، إلا أن يؤدى ذلك إلى إضرار بالغير أشد من تلك المصلحة :ان تكون حاجية أو تحسينية فيقدم حق الغير لقاعدة منع الضرر .
هذا ويراعى ضمن أصول الفقه حال المجتهد وحال المستفيد ، فبالإضافة إلى العلم بأدلة الأحكام وقواعدها فبشترط فى الناظر فى تلك القواعد لاستنباط الأحكام أن يكون على علم تام بمقاصد الشرع ، وأن يكون له من القدرة ما يمكنه من الاجتهاد فى استنباط الأحكام ووفقًا لها ، ومن معرفة مناط كل حكم ومحله؛ وذلك أن الاجتهاد نوعان : نوع يتعلق بمعرفة الأحكام ، ونوع يتعلق بتحقيق المناط ، فعندما يثبت الحكم بمدركه الشرعى يبقى النظر فى تعيين محله ، وذلك أن الشارع إذا قال مثلاً (( وأشهدوا ذوى عدل منكم )) ثبت الحكم وهو اشتراط العدالة وافتقر إلى نوع آخر من الاجتهادفى تعيين المحل وهو ذا العدل ، وهو يتطلب معرفة كذلك بحال المكلف .
وعلى المقلد أن يرجح بين المجتهدين كما يرجح المجتهد بين الأدلة بما أظهره الله تعالى له من معانى التقوى والأعلمية لا بالهوى والتشهى :
فلا يقلد العالم فى زلته لأنه لم يصدر منه ذلك عن اجتهاد فى الحقيقة ، ولا يذهب إلى القول بأن اختلاف اهل العلم حجة على الجواز ، ولا يتتبع الرخص فى كل مذهب لأنه مفض إلى ترك الدليل والقول بتلفيق المذاهب وانخرام قانون السياسة الشرعية ، بل إنما يجوز الانتقال عن مذهب إلى مذهب بالكلية ، ولا يأخذ بأيسر القولين دائمًا اعتمادًا على قوله تعالى (( ما جعل عليكم فى الدين من حرج )) فإنه إعمال للنص فى غير محله وذلك مؤذن بترك التكليف بالكلية بل يأخذ بالأحوط احتياطًا لدينه .
هذا مع الترغيب الأكيد فى طلب العلم ومعرفة الأحكام بأدلتها وألا يلجأ إلى التقليد إلا مضطرًا .
سياسة الإلزام الخلقى :
إن الطابع العام للفكر الأخلاقى ليبرز فى سياسة الإلزام بالأحكام الأخلاقية وسياسة النفوس للامتثال لمقاصدها إذ ليس كافياً التعريف بتلك الأحكام ولا ربط تلك الأوامر والنواهى بالعقيدة حتى تنقاد إليها النفوس جميعًا على ما فيها من نوازع وما بينها من تعارض واختلاف ، بل إنه لا بد لذلك من سياسة تميزت بها الشريعة ، وقد بنيت على أصول منها :
1- أنه لا بد كى تقام الأخلاق الاجتماعية العامة من إقامة الأخلاق الخاصة ولا يكون ذلك إلا باعتبار اختلاف الطبائع .
فالأصل فى الإلزام الخلقى أن ينبع من النفس المؤمنة ، لكن النظرة الواقعية الشاملة للفقه الإسلامى ترى إلى جانب ذلك النفوس الضعيفة وفترات الضعف البشرى اللازمة .
فالناس فى اللالتزام بمقاصد الشرع أصناف كما أن لكل صنف منهم أحوالاً ؛ فمنهم كالخازن على بيت المال وفيهم نزل قوله تعالى (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )) ، وقسم كالوكيل فى مال اليتيم إن استغنى عف وإن احتاج أكل بالمعروف كما جاء فى الحديث الشريف ( إن الأشعريين إذا أرملوا فى الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم فى ثوب واحد ثم قسموه بينهم فى إناء واحد فهم منى وأنا منهم ) فكيف بحال هؤلاء فى معاملاتهم وإعطائهم الناس حقوقهم ؟ لا شك أنه يبالغون فى النصيحة لأنهم كالوكلاء للناس على أنفسهم .
أما القسم الثالث فهم أصحاب الحظوظ لكنهم أخذوها من حيث أذن لهم فيها وعلامتهم الانكفاف إذا طلب منهم ذلك .
وقسم قصر عن ذلك أو تردد بينه وبين الوقوع فى حدود الله .
وإذا كانت الشريعة كلية عامة فإن كل طبقة منها داخلة تحت قاعدة كلية ثم يشمل ذلك القاعدة الكلية الكبرى وهى حفظ الكليات وما يتضمنه ذلك من صلاح العالم ودرء الفساد عنه.
2-أن الشريعة جارية فى التكليف بمقتضاها بين الرفق والحزم على الطريق الوسط الأعدل ، الآخذ من كل طرف بقسط ، الداخل تحت قدرة العبد وكسبه من غير مشقة ولا انحلال ، فإن كان فى التشريع ميل ظاهر إلى جهة فذلك فى مقابل واقع أو متوقع .
وليس معنى الإلزام فى الفقه الإسلامى قهر المكلف على اتباع الشريعة بدعوى أن الشرع جاء ناقلاً عن الأصل ، ذلك أن الإلزام إنما شرع كى تستقيم النفوس على أمر الله تعالى ، وهذا يتطلب إلى جانب الحزم ضروبًا من الرفق والمسامحة كما يتضح من :اعتبار الشرع حظوظ المكلف ، والتدرج فى التشريع ، ورفع الحرج عن المكلفين ، وتلافى الخطأ الذى أوقعوا فيه أنفسهم ، وتشريع التوبة والكفارات ، ومصاحبة الرفق المكلف حتى إذا فصد بنفسه الإعنات ...
3-أن الإلزام بالأحكام الأخلاقية ليس على درجة واحدة كما أن ذلك التدرج راجع إلى عوامل مختلفة ، فدرجة الإلزام كما أن لها علاقة مطردة بالقيمة الأخلاقية فإن لها علاقات أخرى كالعلاقة المنعكسة بالباعث الطبيعى وهو ما يتضح من تفريق الشريعة بين ما كان للمكلف فيه حظ عاجل كقيامه بمصالح نفسه وما يلحق به من معاملات ، فهذا لما كان الباعث فيه طبيعيًا ولم يكن له معارض لم يؤكد فيه الطلب بل جاء على الجملة مندوبًأ فالإلزام هنا كالحوالة على الداعى والباعث الطبيعى ، فإن لم يكن فيه حظ ونازعه باعث طبيعى كالقيام بحقوق الغير أوجبه الشرع عينيًأ أو كفائيًأ وتأكد الطلب فى حقه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين