المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقال التاسع - رياض النعيم - شهود رحمة ارحم الراحمين



ابوالمنذر
07-08-2007, 11:01 AM
{9}شهود رحمة ارحم الراحمين كما قال عزوجل{ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهٌِ }





{ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ } [الروم/50]

(فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة :

فبرحمته أرسل لنا رسوله r و أنزل علينا كتابه وعصمنا من الجهالة وهدانا من الضلالة وبصرنا من العمى وأرشدنا من الغي ، وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفاته و أفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا ، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم ، وأرشدنا لمصالح ديننا و دنيانا([1])).

إنها أعظم الرحمة رحمة الدلالة عليه U ، بمعرفة أسمائه وصفاته ، ومعرفة ما يحبه ويقربنا إليه U ، ومعرفة ما يكرهه ويبغضه ، بل وحرمه علينا وحذرنا منه ، ورحمة شريعته وما يسر الله U لنا فلو لا رحمته من أحكام حفظت علينا ديننا و دنيانا.

فرحمة الله U بنا في رسالته تتضمن :

- رحمة في جانب الاعتقاد:

قال الشيخ السعدي ’ ([2]) ( فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره: هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة. وبفواتها يفوت الصلاح كله. وهي كلها ميسرة مسهلة، كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه، ولا تكلفه، عقائده صحيحة بسيطة. تقبلها العقول السليمة، والفطر المستقيمة ) وكفى بقضية التوحيد راحة للعبد في دينه ودنياه ،واعتقد في أسماء البر والرحمة وأسماء الجبروت والعظمة ، وغيرها من أسمائه U الحسنى ما يكفي لتربية قلب المؤمن ، ويصله بربه متعبدًا له بهذه الأسماء([3]).

وعَددَ الأستاذ المودودي ’ ([4]) بعض آثار عقيدة التوحيد في حياة المسلم فقال :(إن الإيمان بالله إذا استقر في قلب([5]) الإنسان مع التصور الواضح لصفات الله U يرجع عليه بعدة منافع عظيمة لا يمكن أن ترجع بها أي عقيدة أخرى فمن هذه المنافع :

1- سعة النظر.

2- الأنفة والعزة في ذات الله U.

3- الرجاء في رحمة الله U ؛ وطمأنينة القلب به.

4- الشجاعة والجرأة في ذات الله U .

5- تحرير القلب من العبودية و الذلة لغير الله U .

6- إصلاح نظام الحياة على أساس الإيمان بالله U ربًا فكل مربوب ، وكونه إلهًا فكل يبذل العبودية ويرتدى لباس التقوى له وحده U .

هذا كله يتضأل أمام فضل التوحيد عند الله U في الدنيا و الآخرة ([6]).



- رحمة في جانب السلوك والأخلاق:

وهذا الجانب يتضح جليّاً في الرحمة المهداة والنعمة المسداة رسول الله r ، وهذا سوف نتناوله بالتفصيل في ( خلق الرحمة في حياة رسول الله r ) ، وهو يتضمن أيضًا جانبًا من التشريع ، ثم خلق الرحمة في حياة السلف رحمهم الله تعالى ، ثم خلق الرحمة في حياة المسلم ، ثم الكلام عن القسوة والقساة - نعوذ بالله من الخذلان - وهذا كله في ثنايا البحث بفضل الله U .

- رحمة في جانب التشريع :

وهذا سوف نتناوله هنا بشيئ من التفصيل في الصفحات التالية، أما قضية العقوبات والحدود الشرعية فسوف نتناولها بإسهاب فى باب الرد على شبهات حاول مفهوم الرحمة الإلهية ( العقوبات تنفى الرحمة )، وربنا الرحمن المستعان.

(إذا كان الغربيون يتباهون بأن حضارتهم كانت أول حضارة سبقت و أعلنت حقوق الإنسان رسمياً في مختلف دولها لأول مرة في التاريخ و يتفاخرون بأنهم لأول مرة في التاريخ و يتفاخرون بأنهم في القرن العشرين وضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و يعتبرونه النموذج المثالي لهذه الحقوق فإنهم نسوا أو تناسوا أن القرآن الكريم قد قرر هذه الحقوق منذ أربعة عشر قرناً بأسمى مبدأ للبشرية جمعاء يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) .

و الخطاب في هذه الآية موجه للناس جميعاً و أنهم خلقوا على اختلاف أجناسهم و ألوانهم و دياناتهم من رجل واحد و امرأة واحدة و أنهم متساوون في الميلاد و الأصل ، والقرآن بهذه الآية يركز على وحدة الجنس البشري و لا فضل لأحد إلا بالتقوى .

و قد أشتمل القرآن على كثير من المبادئ السامية التي تدل على عظمته و أصالته و منها :

1. مبدأ حرية العقيدة و الرأي في قوله تعالى :{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }(البقرة: من الآية256) و قوله تعالى : { بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [الكافرون/1-6]

2. قواعد عادلة في المعاملات : في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة/1] و قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا }(النحل: من الآية91) و قوله تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (البقرة:275) و قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } (البقرة:282)

3. قوانين الأحوال الشخصية : و هي قواعد عادلة و مستقرة لتعلقها بِأحوال الإنسان الشخصية في الأسرة ، فوضع الشرع لها نظاماً كاملاً مفصلاً في مسائل الزواج و الطلاق و الحمل و العدة و الرضاع و النفقة و الميراث و حقوق الأبناء و ذوي القربى و توسع في أحكامها الكلية و جعلها مرنة و قابلة لاجتهاد المجتهدين من الفقهاء في استنباط أحكامها بما يساير الزمان و المكان .

4. القانون الجنائي : وهو بحق أعظم برهان يدل على عظمة القرآن في تشريعه لجرائم الحدود التي بين نوعها و حدد عقوباتها التي تتمثل فيها العدالة و الحكمة و الرحمة بما فيه الكفاية للردع و الزجر بصورة تكفل الأمن و السلام للعباد و البلاد .

· دعائم الشريعة الإسلامية :

لابد لكل تشريع من دعائم يقوم عليها و تساعد على بقائه و دوامه بين الناس راضين بدالته و مطمئنين إلى حكمته و تمشيه مع مصالح الأفراد و الجماعة ، و الشريعة الإسلامية بحمد الله لها دعائمها الثابتة و خصائصها التي تجعل الناس تنقاد إليها عن قناعة و ثقة لأنها تتفق مع الفطرة السليمة و هي فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ، و هي كما تشهد لها جميع الشواهد شريعة تخاطب العقول السليمة و تحض على العمل وتدعو للجهاد في سبيل الله و تنادي بالتسامح و الحرية و المساواة والبر و ا لتقوى .

و من أهم دعائم الشريعة الإسلامية ما يأتي:

1. أنها شريعة سمحة لا تكلف الناس فوق طاقتهم لأن تكاليفها كلها ميسرة لا مشقة فيها في حدود استطاعة كل إنسان، و يقول الله سبحانه و تعالى في وصفها: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }(الحج: من الآية78)كما يقول سبحانه:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا }(البقرة: من الآية286).

2. أنها جاءت شريعة عامة لا نظر فيها إلى حالات فردية أو جزئية أو شخصية قال U { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}(لأعراف: من الآية158)، وقال U {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (سـبأ:28) .

3. يسر تكاليفها: لأنها اقتصرت على الأركان الخمسة و ما يتصل بها و يقول الرسول ‘: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها، و حرم أشياء فلا تنتهكوها، و سكت عن أشياء رحمة بكم فلا تبحثوا عنها ([7])"؛وعن أبي هريرة _ قال: قال رسول الله ‘: (( إن الدين يُسْر ([8])))

يقول الشيخ السعدي ’ : ( ما أعظم هذا الحديث، وأجمعه للخير والوصايا النافعة، والأصول الجامعة. فقد أَسّس ‘ في أوله هذا الأصل الكبير. فقال: "إن الدين يسر" أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه... ثم قال ’....وفرائضه أسهل شيء.

أما الصلوات الخمس: فإنها تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات في أوقات مناسبة لها. وتمم اللطيف الخبير سهولتها بإيجاب الجماعة والاجتماع لها؛ فإن الاجتماع في العبادات من المنشطات والمسهلات لها ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان، وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب للمؤمن أن يستحليها، ويحمد الله على فرضه لها على العباد؛ إذ لا غنى لهم عنها.

وأما الزكاة: فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب زكوي. وإنما تجب على الأغنياء تتميماً لدينهم وإسلامهم، وتنمية لأموالهم، وأخلاقهم، ودفعاً للآفات عنهم وعن أموالهم، وتطهيراً لهم من السيئات، ومواساة لمحاويجهم، وقياماً لمصالحهم الكلية. وهي مع ذلك جزءٌ يسير جداً بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق.

وأما الصيام: فإن المفروض شهر واحد من كل عام، يجتمع فيه المسلمون كلهم، فيتركون فيه شهواتهم الأصلية - من طعام وشراب ونكاح - في النهار, ويعوضهم الله على ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم، وزيادة كمالهم، وأجره العظيم، وبره العميم، وغير ذلك مما رتبه على الصيام من الخير الكثير، ويكون سبباً لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل الخيرات كلها، وترك المنكرات.

وأما الحج: فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع، وفي العمر مرة واحدة. وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن تعداده. وقد فصلنا مصالح الحج ومنافعه في محلّ آخر. قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحجّ:28], أي: دينية ودنيوية.

ثم بعد ذلك بقية شرائع الإسلام التي هي في غاية السهولة الراجعة لأداء حق الله وحق عباده. فهي في نفسها ميسرة. قال تعالى {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185], ومع ذلك إذا عرض للعبد عارض مرض أو سفر أو غيرهما، رتب على ذلك من التخفيفات، وسقوط بعض الواجبات، أو صفاتها وهيئتها ما هو معروف و يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد:

القاعدة الأولى: التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم.

القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير وقت حصولها. ([9]).

وهذا الذي سنتناوله في الفقرة التالية بشيئ من التفصيل .



4. أنها سنت للناس رخصاً عند الضرورة رفعاً للضرر و منعاً للمشقة، فمثلاً فرضت الشريعة الصيام و لكنها رخصت بالفطر للمسافر و المريض و غير ذلك من الرخص ، يقول العلامة السعدي ’ : ( فأوامر الشريعة كلها معلقة بقدرة العبد واستطاعته، فإذا لم يقدر على واجب من الواجبات بالكلية: سقط عنه وجوبه. وإذا قدر على بعضه -وذلك البعض عبادة- وجب ما يقدر عليه منه، وسقط عنه ما يعجز عنه.

ويدخل في هذا من مسائل الفقه والأحكام ما لا يعد ولا يحصى, فيصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع صلى قاعداً، فإن لم يستطع صلى على جنبه. فإن لم يستطع الإيماء برأسه أومأ بطرفه. ويصوم العبد ما دام قادراً عليه. فإن أعجزه مرض لا يُرْجى زواله، أطعم عنه كل يوم مسكين. وإن كان مرضاً يرجى زواله: أفطر، وقضى عدته من أيام أخر.

وكما يستدل على هذا الأصل بتلك الآية وذلك الحديث، فإنه يستدل عليها بالآيات والأحاديث التي نفى الله ورسوله فيها الحرج عن الأمة، كقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق7]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} [المائدة:6]، {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]،{يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} [النساء:28].

فالتخفيفات الشرعية في العبادات وغيرها بجميع أنواعها داخلة في هذا الأصل، مع ما يستدل على هذا بما لله تعالى من الأسماء والصفات المقتضية لذلك، كالحمد والحكمة، والرحمة الواسعة، واللطف والكرم والامتنان. فإن آثار هذه الأسماء الجليلة الجميلة كما هي سابغة وافرة واسعة في المخلوقات والتدبيرات، فهي كذلك في الشرائع، بل أعظم؛ لأنها هي الغاية في الخلق. وهي الوسيلة العظمى للسعادة الأبدية.

فالله تعالى خلق المكلفين ليقوموا بعبوديته. وجعل عبوديته والقيام بشرعه طريقاً إلى نيل رضاه وكرامته. كما قال تعالى -بعد ما شرع الطهارة بأنواعها- {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]. فظهرت آثار رحمته ونعمته في الشرعيات والمباحات، كما ظهرت في الموجودات. فله تعالى أتمّ الحمد وأعلاه، وأوفر الشكر والثناء وأغلاه، وغاية الحب والتعظيم ومنتهاه. وبالله التوفيق([10]).

5. التدريج في الأحكام: لأنها عالجت العادات الذميمة المتأصلة في النفوس بالتدرج في استئصالها شيئاً فشيئاً من غير تشديد و لا تعقيد في النهي عنها و تحريمها، فمثلاً في عادة شرب الخمر جاء الإسلام بالأحكام متدرجة في تحريمها بأسلوب حكيم لم يشعر الناس معه بغضاضة أو حرج أو مشقة.

6.رعاية مصالح الناس: و ذلك أنه شرع بعض الأحكام ثم نسخها إذا كان في ذلك المصلحة العامة كما حدث في بعض الأحكام الخاصة بالوصية و آيات المواريث، و كذلك تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بمكة المكرمة، كما أن بعض الأحكام السنة نسخت، فقد روى عن رسول الله ‘ أنه قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترقق القلب و تدمع العين و تذكر بالآخرة ".

أهم المبادئ التي جاءت التي جاءت بها الشريعة الإسلامية:

جاءت الشريعة الإسلامية بالمبادئ الآتية:

1. مبدأ التوحيد: فقد جمع الناس إله واحد. قال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً }(آل عمران: من الآية64).

2. مبدأ الاتصال المباشر بالله دون وساطة فقال سبحانه تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر: 60) و قوله جل شأنه :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }(البقرة: من الآية186).

3. مبدأ التخاطب مع العقل: فالتشريع الإسلقال:عل العقول مناط التكليف خصوصاً فيما يتعلق بأمور الدنيا و بمعرفة الخالق لقوله تعالى: { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(الحشر: من الآية2} و قوله سبحانه: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}(البقرة: من الآية44)

4. مبدأ إحاطة العقيدة بالأخلاق الفاضلة لقوله تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } (الفرقان:63)

5. مبدأ التآخي بين الدين و الدنيا في التشريع فقد جاءت أحكامه بأمور الدين و الدنيا و دعا إليهما مصداقاً لقوله تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا }(القصص: من الآية77)

6. مبدأ المساواة و العدالة بين الناس جميعاً لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13)

و قول رسول الله ‘ لأبنته : " أعملي يا فاطمة فإني لا أغني عنك من الله شيئاً ".

7. مبدأ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هو في الحقيقة دستور لجميع نواحي الإصلاح قال U {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )(آل عمران: من الآية110}،وقال U {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104).

8. مبدأ الشورى لقوله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }(آل عمران: من الآية159) ، وقوله U { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(الشورى: من الآية38).

9. مبدأ التسامح ، وهو من أسمى و أهم ما يعرف اليوم بمبدأ التعايش السلمي قال U {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة:8).

10.مبدأ الحرية لقوله تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(البقرة: من الآية256).

11.مبدأ التكافل الاجتماعي فقد جعل الله الزكاة فيها حق الفقير في مال الغني و ليست تفضلاً من الأغنياء على الفقراء لقوله U {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (التوبة:60).

و هذه المبادئ تدل على متانة بناء التشريع الإسلامي و قوة أركانه و صلاحيته للأحكام في كل زمان و مكان بين جميع الأجناس، و يدل على ذلك أن الأمة الإسلامية ازدهرت و قويت شوكتها حينما كانت تخضع في جميع شؤنها للشرع الإسلامي ، و أنها ضعفت و تفككت حينما انصرفوا عن شريعته و حاولوا أن يخضعوا التشريع لأهوائهم و شهواتهم و أدى ذلك على الاستعانة بالقوانين الوضعية على اعتبار أن الفقه الإسلامي لم يعد يتفق مع التطورات العالمية و ما تقضيه المدنية الحديثة من مجاراة الدول القوية الغنية([11])).















· الرحمة العامة :

يقول ابن القيم ’ :

(وبرحمته أطلع الشمس والقمر ، وجعل الليل والنهار ، وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتا ً للأحياء والأموات ، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر ، وأطلع الفواكه و الأقوات والمرعى .

ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل والدر .

وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليترحموا بها ، وكذلك بين سائر الحيوان.

فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته ، واشتق لنفسه منها اسما الرحمن الرحيم ، وأوصل إلى خلقه معاني خطابه برحمته ، وبصرهم ومكن له أسباب مصالحهم برحمته ، وأوسع المخلوقات عرشه وأوسع الصفات رحمته ، فاستوى على عرشه الذي وسع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء ، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقه من صفته وتسمى به دون خلقه ، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى بين الخلق كتابا ، فهو عنده وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه ، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم والعفو عنهم ، والمغفرة والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة ، فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر .

وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها ، فبرحمته خُلقت وبرحمته عمرت بأهلها وبرحمته وصلوا إليه ، وبرحمته طاب عيشهم فيها وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور ، ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ،ومن رحمته إنه يعيذ من سخطه برضاه ، ومن عقوبته بعفوه ومن نفسه بنفسه .

ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثي من جنسه ، و ألقى بينها المحبة والرحمة ليقع بينهما التواصل الذي به دوام التناسل و انتفاع الزوجين ، ويمتع كل منهما صاحبه .

ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلي بعض لتتم مصالحهم ، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم وانحل نظامها ، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغنى والفقير ، والعزيز والذليل ، والعاجز والقادر ، والراعي والمرعي ، ثم أفقر الجميع إليه ، ثم عم الجميع برحمته .

ومن رحمته أنه خلق مئة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فأنزل منها إلي الأرض رحمة واحدة نشرها بين الخلقية ليتراحموا بها ، فبها تعطف الوالدة على ولدها والطير والوحش والبهائم ، وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه .

وتأمل قوله تعالى {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) } [الرحمن/1-4]كيف جعل الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة متعلقاً باسم الرحمن ، وجعل معاني السورة مرتبطة بهذا الاسم وختمها بقوله { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن/78]فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة ، إذ مجيء البركة كلها منه([12]) ، وبه وضعت البركة في كل مبارك ، فكل ما ذكر عليه بورك فيه وكل ما أخلي منه نزعت منه البركة ، فإن كان مذكى وخلى منه اسمه كان ميتة ، وإن كان طعاماً شارك صاحبه فيه الشيطان ، وإن كان مدخلاً دخل معه فيه ، وإن كان حدثاً لم يرفع عند كثير من العلماء ، وإن كان صلاة لم تصح عند كثير منهم.

ولما خلق سبحانه الرحم واشتق لها من اسمه ، فأراد إنزالها إلي الأرض تعلقت به سبحانه فقال : مه ، قالت : هذا مقام العائذ بك من القطعية ، قال : ألا ترضين أن أقطع من قطعك وأصل من وصلك ؟ وهى متعلقة بالعرش لها حنحنة كحنحنة المغزل ، وكان تعلقها بالعرش رحمة منه بها ، وإنزالها إلي الأرض رحمة منه بخلقه ، ولما علم سبحانه ما تلقاه من نزولها إلى الأرض ومالاقتها لما اشتقت منه رحمها بتعلقها بالعرش واتصالها به ، وقوله ( ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك )([13])، ولذلك كان من وصل رحمه لقربه من الرحمن ورعاية حرمة الرحم قد عمر دنياه واتسعت له معيشته وبورك له في عمره ونسيء له في أثره ،فإنه وصل ما بينه وبين الرحمن Y مع ذلك وما بينه وبين الخلق بالرحمة والإحسان تم له أمر دنياه وأخراه ، وإن قطع ما بينه وبين الرحم وما بينه وبين الرحمن بالرحمة أفسد عليه أمر دنياه وآخرته ، ومحق بركته ورزقه وأثره كما قال r ( ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع مل يدخر له من العقوبة يوم القيامة من البغي وقطيعة الرحم )([14])، فالبغى معاملة الخلق بضد الرحمة وكذلك قطعية الرحم ، وإن القوم ليتواصلون وهم فجرة فتكثر أموالهم ويكثر عددهم ، وإن القوم ليتقاطعون فتقل أموالهم ويقل عددهم وذلك لكثرة نصيب هؤلاء من الرحمة وقلت نصيب هؤلاء منها ، وفى الحديث (إن صلة الرحم تزيد العمر )([15]).

وإذا أراد الله بأهل الأرض خيراً نشر عليهم أثراً من آثار اسمه الرحمن فغمر به البلاد و أحيا به العباد ، وإذا أراد بهم شراً أمسك عنهم ذلك الأثر فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن ، ولهذا إذا أراد الله سبحانه أن يخرب هذه الدار ويقيم القيامة أمسك عن أهلها أثر هذا الاسم وقيضه شيئاً فشيئاً ، حتى إذا جاء وعده قبض الرحمة التي أنزلها إلي الأرض ، فتضع لذلك الحوامل ما في بطونها ، وتذهل المراضع عن أولادها فيضيف سبحانه تلك الرحمة التي رفعها وقبضها من الأرض إلى ما عنده من الرحمة فيكمل بها مائة رحمة فيرحم بها أهل طاعته وتوحيده وتصديق رسله وتابعهم .

وأنت لو تأملت العلم بعين البصيرة لرأيته ممتلئاً بهذه الرحمة الواحدة كامتلأ البحر بمائه والجو بهوائه ، وما في خلاله من ضد ذلك فهو مقتضى قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) فالمسبوق لابد لاحق وإن أبطأ ، وفيه حكمة لا تناقضا الرحمة فهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ([16]) .

وقال U {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (فاطر:2)

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ما يفتحه للناس من رحمته وإنعامه عليهم بجميع أنواع النعم ، لا يقدر أحد كائناً من كان أن يمسكه عنهم ، وما يمسكه عنهم من رحمته وإنعامه لا يقدر أحد كائناً من كان أن يرسله إليهم ، وهذا معلوم بالضرورة من الدِّين ، والرحمة المذكورة في الآية عامّة في كل ما يرحم الله به خلقه من الإنعام الدنيوي والأخروي ، كفتحه لهم رحمة المطر ، كما قال تعالى : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ } [ الروم : 50 ] .وقوله تعالى : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] . وقوله تعالى : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } [ الشورى : 28 ] الآية ، ومن رحمته إرسال الرسل ، وإنزال الكتب كقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ القصص : 86 ] كما تقدّم إيضاحه في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] الآية ([17]).

وفى ظلالها يترنم الأستاذ سيد قطب ’ فيقول (ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد؛ ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكوينه ، وتكريمه بما كرمه؛ وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته؛ وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير .

ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح . ويجدها من يفتحها الله له في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حال ، وفي كل مكان . . يجدها في نفسه ، وفي مشاعره؛ ويجدها فيما حوله ، وحيثما كان ، وكيفما كان . ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان . . ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء ، وفي كل وضع ، وفي كل حالة ، وفي كل مكان . ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان!

وما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة . وما من محنة تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة . . ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله فإذا هو مهاد . وينام على الحرير -وقد أمسكت عنه فإذا هو شوك القتاد . ويعالج أعسر الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر . ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت رحمة الله فإذا هي مشقة وعسر .

ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام . ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!

ولا ضيق مع رحمة الله . إنما الضيق في إمساكها دون سواه . لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن ، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك . ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم ، وفي مراتع الرخاء . فمن داخل النفس برحمة الله تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة . ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة!

هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب ، وتوصد جميع النوافذ ، وتسد جميع المسالك . . فلا عليك . فهو الفرج والفسحة واليسر والرخاء . . وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع . وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء!

هذا الفيض يفتح ، ثم يضيق الرزق . ويضيق السكن . ويضيق العيش ، وتخشن الحياة ، ويشوك المضجع . . فلا عليك . فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة . وهذا الفيض يمسك . ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء . فلا جدوى . وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء!

المال والولد ، والصحة والقوة ، والجاه والسلطان . . تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله . فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان .

يبسط الله الرزق مع رحمته فإذا هو متاع طيب ورخاء؛ وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة . ويمسك رحمته ، فإذا هو مثار قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار .

ويمنح الله الذرية مع رحمته فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله . ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء ، وسهر بالليل وتعب بالنهار!

ويهب الله الصحة والقوة مع رحمته فإذا هي نعمة وحياة طيبة ، والتذاذ بالحياة . ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي ، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ، ويدخر السوء ليوم الحساب!

ويعطي الله السلطان والجاه مع رحمته فإذا هي أداة إصلاح ، ومصدر أمن ، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر . ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما ، ومصدر طغيان وبغي بهما ، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار ، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ، ويدخر بهما للآخرة رصيداً ضخماً من النار!

والعلم الغزير . والعمر الطويل . والمقام الطيب . كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . . مع الإمساك ومع الإرسال . . وقليل من المعرفة يثمر وينفع ، وقليل من العمر يبارك الله فيه . وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة . والجماعات كالآحاد . والأمم كالأفراد .

في كل أمر وفي كل وضع ، وفي كل حال . . ولا يصعب القياس على هذه الأمثال!

ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك . ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة . ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة . وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة . والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها . وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبداً : { إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(يوسف: من الآية87) ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال . وجدها إبراهيم Àفي النار . ووجدها يوسف Àفي الجب كما وجدها في السجن . ووجدها يونس Àفي بطن الحوت في ظلمات ثلاث . ووجدها موسى Àفي اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه . ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور . فقال بعضهم لبعض : { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} (الكهف: من الآية16)ووحدها رسول الله - ‘ - وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار . . ووجدها كل من آوى إليها يأساً من كل ما سواها . منقطعاً عن كل شبهة في قوة ، وعن كل مظنة في رحمة ، قاصداً باب الله وحده دون الأبواب .

ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها . ومتى أمسكها فلا مرسل لها . ومن ثم فلا مخافة من أحد . ولا رجاء في أحد . ولا مخافة من شيء ، ولا رجاء في شيء . ولا خوف من فوت وسيلة ، ولا رجاء مع الوسيلة . إنما هي مشيئة الله . ما يفتح الله فلا ممسك . وما يمسك الله فلا مرسل . والأمر مباشرة إلى الله . . { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(فاطر: من الآية2) . . يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك . ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك .

{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا }(فاطر: من الآية2). .

وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه ، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي استسلام .

{ وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}(فاطر: من الآية2)فلا رجاء في أحد من خلقه ، ولا خوف لأحد من خلقه . فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله .

أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟!

آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة؛ وتنشئ في الشعور قيماً لهذه الحياة ثابتة؛ وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها . ذهبت أم جاءت . كبرت أم صغرت . جلت أم هانت . كان مصدرها الناس أو الأحداث أو الأشياء!

صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث والأشياء والأشخاص والقوى والقيم والاعتبارات .

ولو تضافر عليها الإنس والجن . وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها ، ولا يمسكونها حين يفتحها . . { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(فاطر: من الآية2) . .

وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام . الفئة التي صنعت على عين الله بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة ، تنشئ في الأرض ما شاء الله أن ينشئ من عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، ونظم وأوضاع . وتقر في الأرض ما شاء الله أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام . الفئة التي كانت قدراً من قدر الله يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو ومن إثبات . ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن ، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها . . وكفى . . ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن ، وتعيش في واقعها بها ، ولها . .

وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس ، قادراً على أن ينشئ بآياته تلك أفراداً وفئات تمحو وتثبت في الأرض بإذن الله ما يشاء الله . . ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب ، فتأخذها جداً ، وتتمثلها حقاً . حقاً تحسه ، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار . .

ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية . .

لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة . واجهتني في لحظة جفاف روحي ، وشقاء نفسي ، وضيق بضائقة ، وعسر من مشقة . . واجهتني في ذات اللحظة . ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها . وأن تسكب حقيقتها في روحي؛ كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني . حقيقة أذوقها لا معنى أدركه . فكانت رحمة بذاتها . تقدم نفسها لي تفسيراً واقعياً لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا . وقد قرأتها من قبل كثيراً . ومررت بها من قبل كثيراً . ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها ، وتنزل بحقيقتها المجردة ، وتقول : هأنذا . . نموذجاً من رحمة الله حين يفتحها . فانظر كيف تكون!

إنه لم يتغير شيء مما حولي . ولكن لقد تغير كل شيء في حسي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود ، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية . نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها؛ ولكنه قلما يقدر على تصويرها ، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة . وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها . وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي . وها أنا ذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق . وأنا في مكاني! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته ([18]).











{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}(الأعراف: من الآية156)



· من آثار رحمته U فى الكون :

قال U بسم الله الرحمن الرحيم

{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)}[الرحمن/1-12] قال U {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)}[الذاريات/48، 49] .

ومن آثار رحمته U إعداد الأرض لساكنيها ، فقد خلق الله I الأرض فى مكان مناسب لسكنى البشر ، ولفها بغلاف مائي يغطى حوالى أربعة أخماسها ، وغلاف هوائي يعلوها بسمك (1000)كيلو متر([19]) .

ومن آثار رحمة الله U فى إعداد الأرض وتمهيدها لسكنى المخلوقات ما يلى :

1- لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي عليه بمقدار بضع أقدام لامتص ثاني أكسيد الكربون والأكسجين ولما أمكن وجود الحياة.

2- ولو كان الهواء أقل ارتفاعا مما هو عليه فإن بعض الشهب التي تحترق بالملايين كل يوم في الهواء الخارجي كانت تضرب في جميع أجزاء الكرة الأرضية وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق.

3- ولو أن شمسنا أعطت نصف إشعاعها الحالي لكنا تجمدنا ولو أنها زادت بمقدار النصف لكنا رمادا منذ زمن بعيد.

4- ولو كان قمرنا يبعد عنا 20000 ميلا بدلا من بعده الحالي ولم لا وقمر المريخ يبعد عنه 60000 ميل لكان المد يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأرضي تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح الجبال نفسها.

5- ولو كان ليلنا أطول مما هو عليه الآن عشر مرات لأحرقت شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار وفي الليل يتجمد كل ما نبت على الأرض.

6- ولو كان الأوكسجين بنسبة 50 بالمئة أو أكثر من الهواء بدلا من 21 بالمئة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال لدرجة أن أول شرارة في البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة كلها ولو كانت نسبة الأوكسجين 10 بالمئة لتعذر أن يكون التمدن الإنساني على ما هو عليه اليوم.

7- ولولا المطر لكانت الأرض صحراء لا تقوم حياة عليها فلولا الرياح والبحار والمحيطات لما كانت حياة ولولا أن الماء يتبخر بشكل يخالف تبخر الملح لما كانت حياة ولولا أن البخار أخف من الهواء لما كانت الحياة.

8- ولو كانت مياه المحيطات حلوة لتعفنت وتعذرت بعد ذلك الحياة على الأرض حيث إن الملح هو الذي يمنع حصول التعفن والفساد ولولا أن الكلور يتحد مع الصوديوم لما كان ملح وبالتالي ما كانت حياة.

9- ولو كانت الأرض كعطارد لا يدير إلا وجها واحدا منه نحو الشمس ولا يدول حول محوره إلا مرة واحدة في خلال الدورة الكاملة للشمس أو بتعبير آخر لو كان قسم من الأرض ليلا دائما والآخر نهارا دائما لما عاش أحد حيث الليل قائم أو النهار دائم ولا كانت حياة.

10- ولو لم تكن قوانين الجاذبية موجودة فمن أين تلتقي الذرات وجزيئات الذرات ومن أين تكون الشمس شمسا والأرض أرضا ولو كانت فمن أين تبقى في مكانها الحالي ولو بقيت فكيف تكون الحياة وكيف يسير الإنسان.

11- وبوجود قانون الجاذبية لو كانت الأرض صغيرة كالقمر أو حتى لو كان قطرها ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها ولصارت الحرارة بالغة حد الموت.

12- ولو كانت الإلكترونات ملتصقة بالبروتونات داخل الذرة والذرات ملتصقة ببعضها بحيث تنعدم الفراغات لكانت الكرة الأرضية بحجم البيضة فأين يمكن أن يكون الإنسان وغيره وعندما تكون المسألة كذلك يتغير كل ما نشاهده الآن على فرض وجود جرم بحجم الأرض بدون فراغات بين جزيئات ذراته.

13- ولو كانت العناصر لا تتحد مع بعضها لما أمكن وجود تراب ولا ماء ولا شجر ولا حيوان ولا نبات إن مواقع الإلكترونات في غلاف الذرة أي في المدار الخارجي تنتظم في ترتيب معين فهي لا تزيد عن ثمانية إلكترونات إلا في المدار الأول فإنه لا يتسع لأكثر من إلكترونين فإذا بلغ عدد الإلكترونات في المدار الأخير الثمانية يفتتح مدار آخر فمثلا إذا كان للعنصر أحد عشر إلكترونا اتخذ اثنان المدار الأول والمدار الثاني يتسع لثمانية فقط فيتخذ الإلكترون المتبقي مدارا ثالثا وهكذا بحيث لا تزيد إلكترونات المدار الخارجي عن ثمانية علما بأن بعض المدارات الداخلية تتسع لأكثر من ثمانية إلكترونات واتحاد العناصر ببعضها يتماشى على أساس هذا الترتيب ذلك أن اتحاد العناصر يتم بواسطة الاتحاد بين إلكتروناتها فإذا كان عدد إلكترونات المدار الخارجي للعنصر أقل من ثمانية فإنه يستطيع أن يتحد مع عنصر آخر فالذي في مداره الخارجي سبعة يتحد مع الخارجي إلكترونان أما الذي في مداره الخارجي ثمانية فهو خامل ولا يستقبل إلكترونا واحدا.

14- ولولا قوانين الحرارة لما بردت الأرض ولما كانت صالحة للحياة.

15- ولولا الجبال لتناثرت الأرض ولما كان لها مثل هذه القشرة الصالحة للحياة.

16- ولولا أن في الأرض أرزاقها لما استمرت الحياة.([20])

· آثار رحمة اختلاف الليل والنهار :

قال U { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)}[القصص/71-74] قال U { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} [البقرة/164]

هذه الآية من الآيات العظيمة في القرآن الكريم ، والقرآن كله عظيم وقد أمرنا رسولنا محمد ‘ أن نتفكر فيها ، وفي هذا الموضوع سوف نتعرض للتفسير العلمي لقوله تعالى : (واختلاف الليل والنهار ) لنتدبر جانباً من الإعجاز النباتي في الآية السابقة .

1. أهمية النهار لاستمرار الحياة على الأرض :

المعلوم علمياً أن النهار وضوء الشمس وما تمدنا به من حرارة وإشعاعات من أهم العوامل التي سخرها الله سبحانه وتعالى لقيام الحياة واستمرارها على كرتنا الأرضية فعندما يسقط ضوء الشمس على النباتات الخضراء فإنها ، بما أودع الله سبحانه وتعالى فيها من خصائص حيوية ، تحول تلك الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية على هيئة روابط في المواد السكرية ، بعملية البناء الضوئي حيث يثبت النبات ثاني أكسيد الكربون في وجود الماء ولولا عملية البناء الضوئي ما كانت على الأرض أي حياة ، فجميع صور الطاقة على الأرض تقريباً وجميع المواد الغذائية عليها مصدرها عملية البناء الضوئي ولولا الضوء ما تمت تلك العملية ولفنيت البشرية وجميع الكائنات الحية كما حدثناكم سابقاً .

2. أهمية الليل لاستمرار الحياة على الأرض:

كما أن أهم العلميات الحيوية تتم في الضوء ، فإنه توجد الملايين من العلميات الحيوية المهمة لا تتم إلا في الليل فالعلماء يقسمون تفاعلات البناء الضوئي إلى تفاعلات الضوء وهي التي لا تتم إلا في الضوء (النهار ) وتفاعلات الظلام وهي تتم في الليل أولاً تحتاج إلى الضوء حتى تتم .

3. أهمية اختلاف الليل والنهار لاستمرار الحياة:
اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً نوراً وإظلاماً برودة ودفئاً من أهم عوامل استمرار الحياة على الأرض

ففي النباتات الزهرية إذا لم تتكون الأزهار لا تتكون الثمار ولا الحبوب وهذه الأزهار لا تتكون في أي نبات إلا إذا تكونت فيه أولاً مادة كيميائية حيوية تؤدي إلى عملية الإزهار هذه المادة تسمى هرمون الإزهار وهذه المادة تتكون فقط عندما يختلف الليل والنهار في حياة النبات فتكوين هذا الهرمون متوقف على تتابع فترة الإضاءة وفترة الإظلام ومدة كل منهما واستمرارها، وشدة الضوء والظلام .

فقد خلق الله سبحانه وتعالى في المملكة النباتية نباتات تحتاج إلى فترة إظلام يومية لا تقل عن عدد معين من الساعات حتى تزهر ولذلك سميت هذه النباتات بنباتات الليل الطويل .

وتوجد أيضاً نباتات تحتاج إلى فترة إضاءة يومية لا تقل عن عدد معين من الساعات حتى تزهر ولذلك سميت بنباتات النهار الطويل .

إذا نقلنا نبات من نباتات الليل الطويل إلى بيئة فيها النهار أطول فإن هذه النباتات تفشل في تكوين الأزهار والثمار والحبوب .

إذا قطعنا ليل النباتات المحتاجة إلى ليل طويل بالضوء الصناعي فإن عملية تكوين هرمون الإزهار تفشل وتقف ، ويقف الإزهار وتكوين الثمار .ولذلك نحذر من الخلل البيئي العظيم الذي ينجم عن استخدام مرآة كبيرة من قبل بعض العابثين لتحويل الليل إلى نهار في بعض أجزاء الأرض ، عندها ستختل العمليات الحيوية للنبات ويحدث إفساد كبير في البيئة المضادة توجد في الكائنات الحية الأخرى غير النبات كائنات حية لا تنشط إلا في الليل وأخرى لا تنشط إلا في النهار.

توجد جراثيم لا تخرج من مكامنها إلا ليلاً وأخرى لا تخرج إلا نهاراً . الهائمات البحرية تصعد إلى الطبقات السطحية للمياه في الصباح وتهبط إلى الطبقات السفلية في وسط النهار.

وجد بالتجربة أن طبقة الأوزون تحمي كائنات الأرض من شدة الإضاءة ونوعيتها وزيادة الضوء عن الحد المقدر يؤدي إلى هلاك الكائنات الحية ، فعندما زادت كمية الضوء وتغيرت نوعيتها بالنسبة إلى بعض النباتات انخفضت نسبة البروتين فيها 20% عن المعدل ووجد أن الليل ضروري لحماية تلك النباتات والحفاظ عليها من الهلاك .

مما سبق ومن غيره من الحقائق العلمية نرى أن خلق الليل ضروري لاستمرار الحياة على الأرض وعندما بحثت في آيات القرآن الكريم التي تتكلم عن الليل والنهار وجدت أن كلمة الليل في كثير منها تسبق كلمة النهار ، وهذا يدل على أن الليل ضروري ومفضل في القرآن الكريم مثله مثل النهار تماماً .

وأيضاً فإن النهار حيوي وضروري واختلاف الليل والنهار قصراً وطولاً ضروري من الناحية العلمية وعلى من ينكر آيات الله أن يثبت لنا عكس ذلك ([21]) .

· آثار رحمة الله U فى المطر:

قال U {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الروم:36) {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الروم:46)

ويقول أ.د زغلول النجار ( المطر فضل من الله ورحمة ([22]))

عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِي أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ‘ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِي ‘ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ"؟! قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ" (رواه البخاري).

إن نزول المطر من السحاب لا يزال قضية غير مفهومة بتفاصيلها من الوجهة العلمية, وكلّ ما يعرفه العلماء أن الأرض هي أغنى كواكب المجموعة الشمسية بالماء الذي تُقدّر كمّيّته بحوالي (1360 – 1385) مليون مليون كيلومتر مكعب, أغلبه في البحار والمحيطات (97.2 %), وأقله ماء عذب (2.8%)، وأغلب هذا الماء العذب (2.052% إلى 2.15%) محبوس على هيئة سمك هائل من الجليد فوق قطبي الأرض, وفي قمم الجبال, والباقي مختزن في صخور القشرة الأرضية (0.27%)، وفي بحيرات الماء العذب (0.33%)، وعلى هيئة رطوبة في تربة الأرض (0.18%)، وعلى هيئة رطوبة كذلك في الغلاف الغازي للأرض (0.36%)، وأقل ذلك كله هي المياه الجارية في الأنهار والجداول (0.0047%).

وهذا الماء الأرضي أخرجه ربنا تبارك وتعالى كلّه من باطن الأرض عن طريق ثورة البراكين, ووزّعه بتقدير حكيم, وأداره في دورة منضبطة بين الأرض وغلافها الغازي (السماء). ولولا هذه الدورة المحكمة لفسد ماء الأرض لوجود بلايين البلايين من الكائنات الحية التي تحيا وتموت في مختلف الأوساط المائية, والتي كان من الممكن أن تحول هذا الماء إلى ماء عفن لولا دورته حول الأرض.
وقد اقتضت مشيئة الله الخالق جلّ وعلا أن يسكن في الأرض هذا القدر المحدّد من الماء, وأن يوزعه بدقّة بالغة بين البحار والمحيطات, والأنهار والبحيرات, وأن يختزن جزءاً منه في صخور القشرة الأرضية, أو يحبسه على هيئة المجالد في قمم الجبال وفوق القطبين, أو ينشره برقة على هيئة درجة من الرطوبة في كلٍّ من الجو وتربة الأرض, وهذا كلّه بالقَدْر المنضبط الكافي لمتطلبات الحياة الأرضية, وللتوازن الحراري على سطح الأرض من مكان إلى آخر ومن فصل مناخي إلى آخر, وهذا القدر الموزون من الماء لو زاد قليلاً لغمر الأرض وغطى سطحها بالكامل, ولو قلّ قليلاً لقصر دون متطلبات الحياة على سطحها.

وحرارة الشمس تبخّر ماء الأرض من أسطح البحار والمحيطات, والأنهار والبحيرات, والبرك والمستنقعات, ومن أسطح تجمعات الجليد, وحتى من المياه المختزنة تحت سطح الأرض, ومن تَنَفُّس كلٍّ من الإنسان والحيوان, ونتح النباتات, وغير ذلك من مختلف مصادر المياه؛ فيرتفع بخار الماء إلى الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض (نطاق المناخ) وتتناقص فيه درجات الحرارة مع الارتفاع ويقل الضغط مما يساعد على تكثف بخار الماء الصاعد من الأرض على نوى دقيقة من الغبار العالق بالهواء تعرف باسم نوى التكثف, مما يعين على عودة ماء الأرض إليها على هيئة مطر أو برَد أو ثلج أو ضباب أو ندى .
ويتبخر من ماء الأرض 380 ألف كيلومتر مكعب في كل سنة، أغلبها (320 ألف كيلومتر مكعب) من أسطح البحار والمحيطات, وأقلها (60 ألف كيلومتر مكعب) من أسطح اليابسة. وتعود هذه الكمية إلى الأرض بمعدلات مختلفة (284 ألف كيلومتر مكعب على البحار والمحيطات, 96 ألف كيلومتر مكعب على اليابسة), ويفيض الفارق في الحالتين (36 ألف كيلومتر مكعب) من اليابسة إلى البحار والمحيطات.

وأُكرّر القول بأن نزول المطر من السحاب لا تزال عملية غير مفهومة علميّاً بتفاصيلها الدقيقة؛ وذلك لأنها تتم بعدد من العمليات غير المشاهدة بطريقة مباشرة؛ ولذلك وُضعت لها أعداد من الفروض والنظريات منها: تأثير حركة الرياح الأرضية, والغبار الذي تثيره من فوق سطح الأرض, ومنها الشحنات الكهربية في السحابة الواحدة, أو بين السحب المنفصلة عند التقائها وتصادمها مع بعضها البعض, ومنها تأثير الرياح الشمسية على أغلفة الأرض وأجوائها المختلفة. وفوق ذلك وقبله وبعده إرادة الخالق العظيم, كما هو واضح من توجيه الحديث النبوي الشريف الذي نحن بصدده.
ومن المعروف أن نسبة الماء في السحب ضئيلة جدّاً؛ إذ لا تتعدى (2 %) من الماء الموجود في الغلاف الجوي للأرض الذي لا تكاد نسبته تتعدى (0.36%) من مجموع ماء الأرض, وتقدّر كمية المياه في الغلاف الغازي للأرض بحوالي (15) ألف مليون كيلومتر مكعب.

ويوجد الماء في نطاق المناخ للأرض على هيئة قطرات صغيرة جدّاً (أكبر قليلاً من واحد ميكروت) وتلتصق تلك القطرات المائية بالهواء للزوجتها, وشدّة توتّرها السطحي, وذلك في السحب العادية التي تحملها الرياح دون أن تسقط مطراً على الأرض إلا بعد تلقيحها بامتزاج سحابتين إحداهما ساخنة, والأخرى باردة, أو تحمل إحداهما شحنة كهربية موجبة والأخرى سالبة, أو بواسطة عدد من الجسيمات الصلبة الدقيقة للغبار الذي تثيره الرياح من فوق سطح الأرض ملقّحة بها السحب؛ فتعين على تكثف بخار الماء فيها وهطوله مطراً بإذن الله, وحينما يشاء. والمطر عادة ينزل بقطرات دقيقة, ولكنه قد ينزل أحياناً بقطرات كبيرة (يزيد قطرها في بعض الحالات على 4 – 8 ملليمتر). وتنتج هذه القطرات الكبيرة من تكثف بخار الماء على نوى من الغبار كبيرة نسبيّاً تنمو بالتدريج حتى تصل إلى تلك الأحجام بتوالي تكثف بخار الماء عليها.
وتوفر هذه الشروط مجتمعة أو منفردة يتطلّب تقديراً مسبقاً, ولا يمكن أن يتم بعشوائية أو صدفة, ويتضح من ذلك أن تكوّن المطر هو سرّ من أسرار الكون لم يتمكن الإنسان من فهمه بعدُ فهماً كاملاً, ولكن يد القدرة الإلهية واضحة فيه وضوح الشمس, ويتضح ذلك بشكل أكثر إعجازاً في توزيع المطر على سطح الأرض بإرادة الخالق العظيم. ومن هنا كان حديث رسول الله ‘ الذي نحن بصدده, وكان التفصيل القرآني الذي يقول فيه الحق تبارك وتعالى:
1 – (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأعراف: 57).
2 – (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) (الحجر: 22).
3 – (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 21- 22).
4 – (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام: 99).
5 – (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى) (طه: 53).
6 – (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) (المؤمنون: 18).
7 – (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً) (الفرقان: 48).
وهذه الآيات الكريمة وغيرها من آي القرآن العظيم تنسب الفعل كله لله تعالى, ومن هنا جاء نص حديث رسول الله r الذي نحن بصدده داعماً نبوته ورسالته, وشاهداً على أنه كما وصف القرآن الكريم: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3-4).





· آثار رحمة فى عالم الحيوان :



عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ t قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ « جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا ، وَأَنْزَلَ فِى الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ »([23]).

وفى رواية عنه ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً))([24]) وفى رواية أخرى ((إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))([25]) وفى رواية عَنْ سَلْمَانَ t قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘: (( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ))([26]) وفى رواية لأحمد بسنده إلى جُنْدُب t قَالَ: ((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ عَقَلَهَا ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ‘ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ‘ أَتَى رَاحِلَتَهُ فَأَطْلَقَ عِقَالَهَا ثُمَّ رَكِبَهَا ثُمَّ نَادَى اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تُشْرِكْ فِي رَحْمَتِنَا أَحَدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘: (( أَتَقُولُونَ هَذَا أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ قَالُوا بَلَى قَالَ لَقَدْ حَظَرْتَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ رَحْمَةً وَاحِدَةً يَتَعَاطَفُ بِهَا الْخَلَائِقُ جِنُّهَا وَإِنْسُهَا وَبَهَائِمُهَا وَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ أَتَقُولُونَ هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيرُهُ))([27])

وأبسط مثال على الإيثار هو سلوك عاملات النحل فهي تقوم بلسع أي حيوان يدخل إلى خليتها مع علمها يقيناً أنها ستموت، فإبرتها اللاسعة تبقى مغروزة في الجسم الذي تلسعه ونظراً لارتباط هذه الإبرة الوثيق بالأعضاء الداخلية للحشرة تسحب معها هذه الأعضاء خارجاً متسببة في موت النحلة. يتّضح من ذلك أنّ النحلة العاملة تضحي بحياتها من أجل سلامة باقي أفراد الخلية.

أمّا ذكر البطريق وأنثاه فيقومان بحراسة عشهما حتى الموت، فالذكر يسهر على رعاية الفرخ الجديد بين ساقيه طيلة أربعة أشهر متصلة دون انقطاع، ولا يستطيع طيلة هذه الفترة أن يتناول شيئاً من الغذاء أمّا الأنثى فتذهب إلى البحر لتجلب الغذاء وهي تجمعه في بلعومها وتأتي به إلى فرخها ويبديان تفانياً ملحوظاً من أجل فرخهما.

ويعرف عن التمساح كونه من الحيوانات المتوحشة إلا أنّ الرعاية التي يوليها لأبنائه تثير الحيرة الشديدة، فعندما تخرج التماسيح الصغيرة بعد فقس البيض تقوم الأم بجمعها في فمها حتى تصل بها إلى الماء ثم تعكف على رعايتها وحملها حتى تكبر ويشتد عودها وتصبح قادرة على مواجهة المصاعب بنفسها، وعندما تشعر التماسيح الصغيرة بأي خطر سرعان ما تلوذ بالفرار ملتجئة إلى فم أمّها وهو الملجأ الأمين بالنسبة إليها. إن هذا السلوك يثير الاستغراب خاصة إذا علمنا أن التماسيح حيوانات متوحشة والمنتظر منها أن تأكل أبناءها وتلتهمهم لا أن ترعاهم وتحميهم…

وهناك بعض الأمّات من الحيوانات تترك القطيع الذي تعيش فيه لترضع أولادها، فتتخلف الأم مع ولدها وتظل ترضعه حتى يشبع معرّضة حياتها لخطر جسيم. والمعروف عن الحيوانات أنها تهتم بأولادها الذين ولدوا حديثاً أو الذين خرجوا من البيض لمدد طويلة تصل إلى أيام أو أشهر أو حتى بضع سنين فتوفر هذه الحيوانات لصغارها الغذاء والمسكن والدفء وتقوم بالدفاع عنهم من خطر الأعداء المفترسين. وأغلب أنواع الطيور يقوم بتغذية صغاره من 4 – 20 مرة في الساعة خلال اليوم الواحد، أمّا إناث اللبان فأمرها مختلف إذ يحتم عليها أن تتغذى جيداً عندما ترضع صغارها حتى توفر لهم اللبن الكافي، وطيلة هذه الفترة يزداد الرضيع وزناً بينما تفقد الأم من وزنها بشكل ملحوظ.

أما الطبيعي والمتوقع في هذه الحالات فهو أن تهمل هذه الحيوانات غير العاقلة صغارها وتتركها وشأنها لأنها لا تفهم معنى الأمومة أو العطف ولكنها على العكس من ذلك تتحمل مسؤولية رعايتها والدفاع عنها بشكل عجيب.

الملاجئ الثلجية للدب القطبي
تنشئ أنثى الدب القطبي ملجأ ثلجياً عندما تكون حاملاً أو بعد وضعها لوليدها، وهذا الملجأ تحت ركام الجليد، وعدا هذا فإنها لا تعيش في ملاجئ أو مساكن معينة. وعموماً تضع الأنثى وليدها في منتصف الشتاء، يكون الوليد الصغير لحظة ولادته أعمى وعارياً من الشعر إضافة إلى صغر حجمه، لذا فالحاجة ماسة إلى ملجأ لرعاية هذا المولود الصغير الضعيف. والملجأ التقليدي يتم إنشاؤه على شكل مترين طولاً ونصف متر عرضاً فيكون الملجأ على شكل كرة ارتفاعها نصف متر أيضاً. ولكن هذا المسكن أو الملجأ لم ينشأ هكذا دون أي اهتمام أو تخطيط بل حفر تحت الجليد بكل عناية واهتمام وسط بيئة مغطاة بالجليد، وتم توفير كل وسائل الراحة والرعاية للوليد الصغير فيه. وعموماً فإن لهذه الملاجئ أكثر من غرفة تنشئها الأنثى بمستوى أعلى قليلاً من مدخل الملجأ كي لا يسمح للدفء بالتسرب إلى الخارج.

وطيلة فصل الشتاء تتراكم الثلوج على الملجأ ومدخله وتحافظ الأنثى على قناة صغيرة للتهوية والتنفس، ويكون سقف الملجأ بسمك يتراوح ما بين 75 سم ومترين. ويقوم هذا السقف بدور العازل الحراري ليحافظ على الدفء الموجود في الداخل ولهذا تبقى درجة الحرارة ثابتة.

قام أحد الباحثين في جامعة أوسلو النروجية ويدعى Paul Watts بتثبيت محرار في سقف أحد ملاجىء الدببة لقياس درجة الحرارة فتوصل إلى نتيجة مذهلة، مفادها أن درجة الحرارة خارج الملجأ كانت حوالي 30 تحت الصفر أما داخل الملجأ فلم تنزل الحرارة تحت 2 – 3 أبداً. والظاهرة الملفتة للانتباه هي كيفية قياس أنثى الدب لسمك السقف الثلجي كي يتواءم مع درجة عزله الحراري لما في داخل الملجأ إضافة إلى كون الوسط داخل الملجأ بهذه الحرارة ملائماً من ناحية تنظيم استهلاك مخزونها الدهني في جسمها أثناء سباتها الشتوي، والأمر الآخر المحير هو خفض أنثى الدب القطبي جميع فعالياتها الحيوية إلى درجة كبيرة أثناء سباتها الشتوي كي لا تصرف طاقة زائدة ولتساعد على إرضاع صغيرها، وطيلة سبعة أشهر تحول الدهن الموجود في جسمها إلى بروتين لتغذية صغارها، أما هي فلا تتغذى أبداً وتنخفض دقات قلبها من 70 ضربة في الدقيقة إلى ثمان ضربات في الدقيقة وبالتالي تنخفض فعالياتها الحيوية، ولا تقوم بقضاء حاجاتها أيضاً وبهذه الطريقة لا تصرف طاقتها اللازمة لتنشئة الصغار الذين سيولدون في تلك الفترة.

بطريق الإمبراطور وصبره الخيالي
هناك حيوان يظهر عزماً غريباً وصبراً لا مثيل له وتفانياً مثيراً للدهشة في الحفاظ على بيضه، إنه بطريق الإمبراطور.

هذا الحيوان يعيش في القطب الجنوبي الذي يتميز بظروف بيئية قاسية جداً. تبدأ أعداد كبيرة من هذا الحيوان تقدر بـ 25000 بطريق رحلتها التي تقدر بعدة كيلومترات لاختيار المكان المناسب للتزاوج، وتبدأ هذه الرحلة في شهر مارس وأبريل (بداية موسم الشتاء في القطب الجنوبي)، ومن ثم تضع الأنثى بيضة واحدة في شهر مارس أو حزيران. وهنا نجدد الإشارة إلى أن البطريق الزوج لا يقوم ببناء عش لبيضته لعدم وجود ما يبني به في بيئة مغطاة بالجليد. بيد أنه لا يترك بيضته تحت رحمة برودة الجليد حتى لا تتعرض للتجمد نتيجة البرودة القاسية، لذا يحمل بطريق الإمبراطور بيضه على قدميه ويقترب الذكر من الأنثى بعد وضعها للبيضة الوحيدة بعد ساعات لاصقاً صدره بصدرها ويرفع البيضة بقدميه. ويحرص كلاهما أشد الحرص على ألا تمس البيضة الجليد، يقوم الذكر بتمرير أصابع قدميه تحت البيضة ومن ثم يرفع الأصابع ليدحرج البيضة باتجاهه. وهذه العملية تتم بكل هدوء وإتقان لتجنب كسر البيضة. وأخيراً يقوم بحشرها تحت ريشه السفلي لتوفير الدفء اللازم.

وعملية وضع البيضة تستهلك معظم الطاقة الموجودة في جسم الأنثى لذا فإنها تذهب إلى البحر لتجمع غذاءها وتسترجع طاقتها في حين يبقى الذكر لحضن البيض، تمتاز فترة حضن البيض لدى بطريق الإمبراطور بصعوبة مقارنة بباقي أنواع الطيور، إضافة إلى حاجتها الشديدة للصبر من جانب الذكر، فهو يقف دون حراك مدة طويلة وإذا لزمت الحركة فإنه لا يفعل ذلك إلا لأمتار قليلة. وعند الخلود إلى الراحة يستند الطير على ذنبه كما لو أنه قدم ثالثة ويرفع أصابع قدميه بصورة قائمة كي لا تلمس البيضة الجليد. ومن الجدير بالذكر أن درجة الحرارة في الأقدام المغطاة بالريش السفلي أكثر ب: 80 درجة عن المحيط الخارجي لذلك لا تتأثر البيضة بظروف البيئة الخارجية القاسية.

وتزداد ظروف البيئة قسوة كلما تقدم فصل الشتاء بأيامه وأسابيعه حتى أن الرياح والعواصف تبلغ سرعتها 120 – 160 كم في الساعة، وبالرغم من ذلك يبقى الذكر ولمدة أشهر دون غذاء ودون حراك إلا للضرورة ضارباً مثلاً مثيراً للدهشة في التضحية من أجل العائلة، وتبدي العائلة تضامناً كبيراً لمقاومة البرودة القاسية إذ إن حيوانات البطريق تتراص واضعة مناقيرها على صدورها وبذلك يصبح ظهرها مستوياً مشكلة دائرة فيما بينها وسداً منيعاً من الريش في مواجهة البرد القارس. وتحدث هذه العمليات بإخلاص وتنظيم دقيق دون أن تحدث أية مشكلة بين الآلاف من هذه الطيور المتراصة، وتظل هكذا لمدة أشهر عديدة بصورة من التعاون المدهش والمثير للحيرة والإعجاب. فالإنسان تصيبه مشاعر الملل والأنانية في هذه الظروف القاسية رغم كونه مخلوقاً عاقلاً يسير وفق مقاييس أخلاقية وعقلية. ولكن البطريق يبقى متعاوناً متكاتفاً ويعمل الفرد من أجل المجموعة بأكمل صورة ممكنة، والتضحية التي يبديها هذا الحيوان للحفاظ على البيض تحت هذه الظروف القاسية تعتبر منافية لمفهومات نظرية التطور التي تدعي أن البقاء للأصلح والأقوى، ونكتشف أن الطبيعة ليست مسرحاً للصراع بل معرضاً للتفاني والتضحية التي يبديها القوي للحفاظ على حياة الضعيف. وبعد ستين يوماً من الظروف القاسية يبدأ البيض في الفقس، ويستمر الذكر في تفانيه من أجل الصغير علماً أن هذا الذكر لم يتغذ أبداً طيلة فترة الرقود على البيض. ومن المعلوم أن البطريق الخارج لتوه من البيض ضعيف يحتاج إلى تغذية وعناية مستمرة فيفرز الذكر من بلعومه مادة سائلة شبيهة بالحليب يتم إعطاؤها للفرخ الصغير ليتغذى عليها. وفي هذه الفترة الحرجة تبدأ الإناث بالعودة مصدرة أصوات مميزة فيرد عليها الذكور بصوت مقابل وهي الأصوات نفسها التي استخدمت في موسم التزاوج وبواسطتها يعرف الذكر والأنثى أحدهما الثاني. وقد وهبها الله I قدرة التمييز الخارقة بين الأصوات وهو اللطيف الخبير.

تكون الأنثى قد تغذت جيداً طيلة فترة الغياب ويكون لديها مخزون جيد للغذاء، تضع هذا المخزون أمام الفرخ الصغير وهو أول طعام حقيقي يتناوله بعد خروجه من البيض. وقد يتبادر إلى الذهن أن عودة الأنثى تعني خلود الذكر للراحة ولكن هذا لا يحدث أبداً، فالذكر يظل على اهتمامه ورعايته لمدة عشرة أيام أخرى ويقوم خلالها بمسك الفرخ الصغير بين قدميه، ثم يبدأ رحلة بعد ذلك إلى البحر ليتغذى بعد حوالي أربعة أشهر من الصيام عن الحركة والغذاء. ويظل الذكر غائباً من ثلاثة إلى أربعة أسابيع يعود بعدها إلى الاهتمام بالفرخ كي ترجع الأنثى بدورها إلى البحر لتصيب من الغذاء ما تيسر لها. تكون هذه الفراخ الصغيرة في المراحل الأولى من حياتها غير قادرة على تنظيم حرارة أجسامها لذا تكون معرضة للموت في حالة تركها وحيدة تحت ظروف البرد القاسية، لذا يتناوب الذكر والأنثى في عملية الحفاظ على حياة الصغير وتوفير الدفء والغذاء له .

وكما هو واضح في هذا المثال فكلاهما يتفانى ويضحي حتى بحياته إذا اقتضى الأمر في سبيل الحفاظ على حياة الفرخ الصغير. إن الإلهام الإلهي هو التفسير الوحيد لهذه التضحية والتعاون اللذين يبديهما الذكر والأنثى. إن المتوقع من هذا الحيوان أن يترك هذا البيض وشأنه ويفكر في الخلاص والنجاة من البرد القاسي إلا أن لطف الله سبحانه وتعالى بهذه الحيوانات جعلها ترأف ببيضها وفراخها وتظهر هذه الصورة الرائعة من التكاتف والتعاون والتضحية.

كل شيء من أجل الصغار
غالباً ما يكون الصغار محتاجين إلى الرعاية والاهتمام وهم يخطون خطواتهم الأولى في الحياة، وعموماً يكون هؤلاء إما عمياناً أو عراة أو لا يملكون مهارات كافية في الصيد، لذا وجب الاعتناء بهم وتوفير الرعاية لهم من قبل الأبوين أو القطيع إلى حين النضوج وإلا فإنهم قد يهلكون نتيجة الجوع والبرد. ولكن العناية الإلهية قضت بأن يعتني الكبار بالصغار في صور رائعة من الفداء والتضحية.

تصبح الكائنات الحية خطيرة وحساسة جداً في حالة تعرض صغارها لأي خطر، ورد فعلها عند شعورها بخطر هو الفرار إلى أماكن آمنة، وإذا تعذر عليها النأي بأنفسها عن الخطر تصبح هذه الكائنات متوحشة وحادة حفاظاً على حياة الصغار بشكل أساسي، فالطيور والخفافيش (الوطاويط) على سبيل المثال لا تتوانى عن مهاجمة الباحثين الذين يأخذون صغارها من الأعشاش لغرض البحث والدراسة ، وكذلك الحمير الوحشية أو الزيبرا التي تعيش على شكل مجموعات. وعندما يتهدد الخطر حيوانات مثل ابن آوى تقوم المجموعة بتوزيع الأدوار فيما بينها لحماية الصغار والذود عنهم بكل شجاعة وإقدام.

وتحمي الزرافة صغيرها تحت بطنها وتهاجم الخطر بساقيها الأماميتين، أما الوعول والظباء فتتميز بحساسية مفرطة وتهرب عند إحساسها بالخطر، وإذا كان هناك صغير يجب الذود عنه فلا تتردد في الهجوم مستخدمة أظلافها الحادة.

أما اللبائن الأصغر حجماً والأضعف جسماً فتقوم بإخفاء صغارها في مكان آمن وعندما تحاصر تصبح متوحشة ومتوثبة في وجه العدو الذي يجابهها. فالأرنب على سبيل المثال مع فرط حساسيته وضعفه يتحمل المشقة والصعاب من أجل حماية صغاره، فهو يسرع إلى عشه أو وكره ويعمد إلى ركل عدوه بأرجله الخلفية، ويكون هذا السلوك أحياناً كافياً لإبعاد الحيوانات المفترسة.

وتتميز الغزلان بكونها تعمد إلى الجري وراء صغارها عند اقتراب الخطر منها، فالحيوانات المفترسة غالباً ما تهاجم من الخلف لذلك فإن الغزالة تكون بذلك أقرب ما تكون من صغارها وتبعدهم عن مواطن الخطر، وفي حالة اقتراب الخطر تجتهد في صرف نظر الحيوان المفترس بهدف حماية صغيرها.

وهناك بعض اللبائن تستخدم ألوان أجسامها للتمويه وسيلة لدرء الخطر إلا أن صغارها تحتاج إلى توجيه وتدريب على وسيلة الاختفاء هذه، ومثال على ذلك حيوان اليحمور حيث تقوم الأنثى بالاستفادة من لون صغيرها في خطة للتنكر بهدف الإفلات من الأعداء، تخفي صغيرها بين شجيرات وتجعله ساكناً لا يتحرك، ويكون جلد الصغير بني اللون مغطى ببقع بيضاء، هذه التركيبة اللونية مع أشعة الشمس المنعكسة تكون خير وسيلة للانسجام مع لون الشجيرات التي تحيط به. فطريقة التخفي هذه تكون كافية لخداع الحيوانات المفترسة التي تمر بالقرب منه، أما الأم فتبقى على بعد مسافة قصيرة تراقب ما يحدث دون أن تثير انتباه الأعداء، غير أنها تقترب أحياناً من صغيرها لكي ترضعه. وقبل ذهابها إلى الصيد تجبر صغيرها على الجلوس بواسطة منخرها، ويكون الصغير عادة متيقظاً وحذراً، وعندما يسمع صوتاً غير عادي سرعان ما يعود إلى الجلوس والاختفاء خوفاً من أن يكون مصدر خطر بالنسبة إليه. ويظل الوليد على هذا الشكل حتى يصبح قادراً على الوقوف على قدميه والتنقل مع أمه.

وثمة حيوانات تظهر رد فعل عنيف تجاه العدو بل وتوجيه ضربات بهدف تخويفه وإبعاده مثل البوم وبعض أنواع الطيور التي تسلك سلوكاً استعراضياً يتمثل في مد جناحيه ليبدو أكبر من حجمه الطبيعي. وهناك طيور تقلد فحيح الأفاعي لإرهاب الأعداء مثل طائر ذو الرأس الأسود الذي يصدر أصواتاً صاخبة ويرفرف بجناحيه داخل عشه، ويبدو الأمر مخيفاً داخل العش المظلم وسرعان ما يلوذ العدو بالفرار أمام هذه الضوضاء والحركة .

والظاهرة الملحوظة لدى الطيور التي تعيش على شكل تجمعات هي العناية التي يوليها الكبار للصغار وحرصهم على حمايتها وخصوصاً من خطر طيور "النورس" إذ ينطلق فرد أو اثنان بالغان ويحومان حول مكان تجمع الأسراب لترهيب النوارس وإبعادها عن الصغار. ومهمة الحماية هذه يتم تنفيذها بالتناوب بين الطيور البالغة وكل من ينهي مهمته يذهب إلى مكان آخر بعيد تتوفر فيه المياه للصيد والتغذية وجمع الطاقة للعودة مرة أخرى.

وتتميز الوعول بروح التضحية من أجل درء المخاطر التي تداهم صغارها خصوصاً عندما تشعر بخطر ما، تقوم بحركة غاية في الغرابة إذ تلقي بنفسها أمام هذا الحيوان المفترس لتلهيه عن افتراس ولدها الصغير. هذا السلوك يمكن ملاحظته عند العديد من الحيوانات مثل أنثى النمر التي تجتهد في القيام بما في وسعها حتى تصرف انتباه الأعداء المتربصين بصغارها. أما الراكون فأول ما يفعله عند إحساسه بالخطر الداهم هو أن يأخذ صغاره إلى قمة أقرب شجرة ثم يسرع نازلاً إلى الحيوانات المفترسة ويكون وجهاً لوجه معها، ومن ثم يبدأ بالفرار إلى ناحية بعيدة عن مكان الصغار ويستمر في الابتعاد حتى يطمئن إلى زوال الخطر وعندئذ يتسلل خلسة عائداً إلى صغاره. وهذه المحاولات لا يكتب لها النجاح دائماً فقد ينجو الصغار من خطر المفترسين إلا أن الأبوين يتعرضان للموت والهلاك في حالات كثيرة.

وهناك طيور تقوم بتمثيل دور الجريح لصرف نظر العدو المفترس عن الفراخ الصغيرة، فعند إحساس الأنثى باقتراب الحيوان المفترس تتسلل بهدوء من العش ولما تصل إلى مكان وجود العدو تبدأ في التخبط وضرب أحد جناحيها على الأرض وإصدار أصوات مليئة بالاستغاثة وطلب النجدة، بيد أن هذه الأنثى تأخذ حذرها اللازم فهي تمثل هذا الدور على بعد مسافة ما من الحيوان المفترس، ويتوهم أن الأنثى المستغيثة تعتبر غنيمة سهلة ولكنه بذهابه في اتجاهها يكون قد ابتعد عن مكان وجود الفراخ الصغار، ثم تنهي الأنثى تمثيلها وتهب طائرة مبتعدة عن الحيوان المفترس. إن هذا المشهد التمثيلي يتم أداؤه بمهارة مقنعة للغاية، وكثيراً ما تنطلي هذه الحيلة على القطط والكلاب والأفاعي وحتى على بعض أنواع الطيور. أما تلك التي تبني أعشاشها على مستوى سطح الأرض فيعتبر التمثيل أداة فعالة وناجحة في حماية فراخها من الأعداء المفترسين، فالبط على سبيل المثال يقوم بتمثيلية العاجز عن الطيران من على الماء عند إحساسه بقدوم الحيوانات الخطرة، ويظل هكذا يضرب بجناحيه على سطح الماء مع احتفاظه بمسافة أمان بينه وبين الحيوان المتربص به، وعندما يطمئن بأن الحيوان المفترس قد ابتعد عن عش الفراخ يقطع مشهده التمثيلي ويعود إلى عشه. هذا السيناريو الذي يتم تمثيله من قبل بعض أنواع الطيور لم يجد التفسير الكافي والمقنع من قبل علماء الأحياء.

هل باستطاعة الطير أن يعد مثل هذا السيناريو؟ لاشك، يجب أن يكون على درجة عالية من الذكاء والنباهة. فهذا السلوك يقتضي وجود صفات مثل الذكاء والتقليد والقابلية فضلاً عن الشجاعة المثيرة للإعجاب عندما يتصدى للحيوان المفترس دفاعاً عن الصغار، فهو يجعل من نفسه صيداً مطارداً بدون أي تردد أو خوف. والغريب في الأمر أن هذه الطيور لا تتعلم هذا السلوك من غيرها من الحيوانات لأن هذا يتسم بكونه مكتسباً بالولادة.

والأمثلة التي أوردناها في هذا العرض السريع ما هي إلا غيض من فيض في عالم الإحياء لأن ملايين الأنواع من الكائنات الحية تختلف من حيث أساليب الدفاع عن النفس وطرق الحماية، ولكن النتيجة المتأتية من هذه الأساليب هي مبعث الغرابة في هذا المجال، لأنه يصعب أن نفترض أن الطير يضحي بنفسه من أجل صغيره من منطلق سلوك عاقل منطقي.

ويجب ألا ننسى أننا بصدد الحديث عن مخلوقات غير عاقلة ولا يمكن أن يتصف تفكيرها غير الموجود أصلاً بالرحمة والمودة والرأفة، والتعليق الوحيد الوارد في تفسير هذه الأنماط السلوكية يتلخص في كون الله سبحانه وتعالى هو الذي ألهم الكائنات الحية سلوكاً ملؤه الرحمة والتضحية ليضرب لنا الأمثال برحمته التي وسعت كل شيء.

الحشرات أيضاً تحمي صغارها من المهالك

يعتبر عالم الأحياء السويدي "أدولف مودر" أول من اكتشف رعاية الأبوين للصغار في عالم الحشرات وذلك سنة 1764 عندما كان يجري أبحاثه على حشرة "المدرع الأوروبي" فوجد أن الأنثى تجلس على بيضها دون أكل أو شرب وتصبح هذه الأنثى مقاتلة شرسة عندما يقترب الخطر من بيضها.

وكان العلماء والباحثون في تلك الفترة أو ما قبلها لا يقبلون فكرة رعاية الحشرات لصغارها، وسبب ذلك يورده لنا البروفسور دوغلاس.و.تللاني /من جامعة ديلاور والذي يعمل أستاذاً في علم الحشرات ويؤمن بنظرية التطور كالآتي:

«تجابه الحشرات مخاطر عديدة أثناء دفاعها عن صغارها ويتساءل العلماء في مجال الحشرات عن السر في عدم انقراض هذه الخصلة (خصلة الدفاع والحماية) أثناء عملية التطور، لأن وضع البيض بأعداد كبيرة أفضل استراتيجياً من اتباع وسيلة الدفاع المحفوفة بالمخاطر والمهالك» .

ويعلق دوغلاس.و.تللاني أحد دعاة التطور على هذا التساؤل المحير ويرى أنه يجب أن تنقرض هذه الميزة حسب فرضيات نظرية التطور، ولكن الموجود والملاحظ في الطبيعة أنها لا تزال موجودة وبصور عديدة سواء في عالم الحشرات أو غيرها وليس دفاعاً عن الصغار فحسب بل عن الكبار أيضاً. ونورد أيضاً المثال الآتي عن التضحية في سبيل الأحياء الصغيرة وهو متعلق بسلوك حشرة الدانتيلا التي تعيش في المناطق الجنوبية الغربية من أمريكا وتتخذ من بعض النباتات وخاصة atsrgan مسكناً لها، وأنثى هذه الحشرة تسهر على حماية بيضها واليرقات التي تخرج منها وتضحي بنفسها في سبيل ذلك. وألد أعداء هذه اليرقات هي حشرة =kz = التي تتميز بمقدمة فمها الشبيه بالمنقار ويكون صلباً وحاداً. تلتقم هذه الحشرة اليرقات في لقمة سائغة، ولا تملك حشرة "الدانتيلا" أي سلاح فعال تجاه أعدائها سوى الضرب بجناحيها وامتطاء ظهور خصومها لإزعاجهم وإبعادهم. وفي تلك الأثناء تنتهز اليرقات فرصة انشغال الأعداء بالصراع مع الأم للهرب باقتفاء العرق الرئيسي للورقة النباتية التي يعيشون عليها ويتخذون هذا العِرق طريقاً رئيسياً للانتقال إلى ورقة أخرى طرية وملتوية للاختفاء داخلها. وإذا استطاعت الأنثى أن تنجو بحياتها فإنها تتبع طريق صغارها إلى الورقة التي اختفوا داخلها وتتولى حراستهم ورعايتهم في غصن تلك الورقة قاطعة الطريق أمام الأعداء الذين قد يكونون اقتفوا أثرها. وأحياناً تنجح هذه الحشرات في طرد حشرات "kiz " ثم تمنع يرقاتها من الذهاب إلى أية ورقة طرية أخرى ولا يتم ذلك اعتباطاً وإنما تختار هي بنفسها الورقة الأكثر أمناً لاتخاذها ملجأ لهم. وغالباً ما تموت هذه الحشرات عند الدفاع عن يرقاتها ولكنها توفر لهذه اليرقات إمكانية الهرب والاختفاء عن نظر الأعداء .

الدجاج البري وحمله الماء لسقي كتاكيته:

إن الانسجام بين المظهر الخارجي والبيئة التي يعيش فيها الكائن الحي أمر مطرد في كل الأحياء. ومثال آخر لهذا الانسجام هو الدجاج البري. فهذا الطير لا يملك مكاناً معيناً يستقر فيه. وعند اقتراب موسم التبييض يضع ثلاث بيضات في مكان منعزل وسط الرمال. وعند خروج الفراخ من البيض يبدؤون على الفور في البحث عن الغذاء الذي يتألف من البذور النباتية، بيد أنه ليس لديهم القدرة للبحث عن الماء لعجزهم عن الطيران. ومسؤولية جلب الماء تقع على الذكر. وبعض أنواع الطيور يجلب الماء لصغاره في منقاره، إلا أن ذكر الدجاج البري يضطر إلى جلب الماء من مسافة بعيدة لذلك فهو يحتاج إلى شيء من هذا الماء لإرواء عطشه نتيجة هذه الرحلة الطويلة الشاقة. ولهذا الطير طريقة خاصة وغريبة لحمل الماء تتمثل في أن الريش الذي يغطي صدر الطائر وبطنه متميز بطبقة ليفية من الداخل. وعندما يصل الطير إلى مصدر الماء فإن أول ما يفعله هو التمسح بالرمل بأسفل جسمه للتخلص من الملمس الدهني للريش الذي يمنع التبلل، ثم يقترب من ضفة الماء ويبدأ بإرواء عطشه أولاً ثم يلج في الماء رافعاً جناحيه وذنبه ومحركاً جسمه للأمام والخلف لتبليل ريشه بأكبر كمية ممكنة من الماء، وتمثل الطبقة الليفية للريش إسفنجاً يعمل على امتصاص الماء. ويكون الماء المحمول بواسطة الريش بعيداً عن تأثير التبخر ومع هذا يتبخر جزء منه في حالة القيام برحلة أطول من 25 ميلاً. وفي النهاية يصل الطير إلى فراخه الذين ما زالوا يبحثون عن طعام لهم . وعند رؤيتهم لأبيهم يسرعون نحوه، وعندئذٍ يرفع الذكر جسمه إلى الأعلى ويبدأ الفراخ بمص الماء الموجود في الريش في وضعية أشبه برضاعة اللبائن لصغارها. وبعد انتهاء عملية سقي الصغار يمسح الذكر جسمه في الرمل لتجفيف الريش. ويستمر على هذا الشكل لمدة شهرين حتى ينهي الصغار عملية إسقاط الزغب وتغييره مرتين وتصبح لهم القدرة على الاعتماد على أنفسهم في إرواء عطشهم .

إن هذا السلوك الغريب للدجاج البري يثير في أذهاننا تساؤلات عديدة، فإن هذا الطير يعرف جيداً كيفية الاستفادة من خواص مظهره الخارجي وملاءمتها لظروف البيئة التي يعيش فيها، هو يفعل ذلك لأن مصدر سلوكه العجيب الإلهام الإلهي الذي منحه القدرة على التصرف وفق البيئة التي يعيش فيها.

إن هذا التوازن والنظام في الطبيعة دليل واضح على قدرة الله الخلاق العليم، وكل من شاهد هذه الأمثلة الحية في الطبيعة يقف حائراً ومندهشاً من هذا السلوك العاقل المستند على مشاعر حساسة التي يسلكها حيوان غير عاقل وعديم المشاعر أيضاً، ومن الذين شاهدوا وبحثوا هذه الأمثلة الحية عالم وباحث في الطب الفيزيولوجي "كينيث ووكر" حيث سجل مشاهداته في رحلة صيد في شرق إفريقيا كما يلي:

هناك أمثلة عديدة للتعاون المتبادل بين الحيوانات ما زالت حية في ذاكرتي عندما رأيتها في رحلة صيد قمت بها في شرق إفريقيا قبل سنوات، وشاهدت بأم عيني كيف أن قطعاناً من الغزلان والحمير الوحشية تتعاون فيما بينها في سهول "آهتي" حيث يضعون من يترصد العدو القادم لينبه القطيع حين قدومه، ولم أكن خارجاً لصيد الحمار الوحشي ولكني فشلت في اصطياد غزال واحد، لأنني كلما اقتربت من غزال لاصطياده ينبه الحمار الوحشي القطيع بقدومي وبذلك يفلت مني، ووجدت هناك تعاوناً بين الزرافة والفيل فالفيل لديه حاسة سمع قوية وآذانه الواسعة تعتبر راداراً لاقطاً لأي صوت مقابل حاسة بصر ضعيفة، أما الزرافة فلها حاسة بصر قوية وتعتبر كمراصد مرتفعة للمراقبة، وعندما تتحد جهود الفريقين لا يغلبان لا من نظر ولا من سمع ولا يمكن الاقتراب من قطعانهما، والمثال الأغرب هو التعاون بين وحيد القرن (الخرطيط) والطير الذي يحط على ظهره لالتقاط الطفيليات الموجودة على جلده، فكلما تحس الطيور باقترابي تبدأ بإخراج صوت معين تنبه به وحيد القرن وعندما يبدأ الحيوان بالهرب تبقى الطيور على ظهره كأنها راكبة عربة قطار تهتز باهتزازه .

ومشاهدات "كينيث ووكر" ما هي إلا جزء يسير من أمثلة عديدة يمكن لنا أن نشاهدها على التعاون المتبادل بين الأحياء، ويمكن للإنسان أن يجد أمثلة لهذا التعاون بين الحيوانات التي تعيش بالقرب منه، والمهم أن يتفكر الإنسان في ماهية هذه الأمثلة.

هل هناك معنى لسلوك كائن حي بهذا التفاني والإيثار خصوصاً أنه يفترض أنه جاء إلى هذه الحياة بالمصادفة؟ وبمعنى آخر هل يمكن لنا أن نتوقع مثل هذا السلوك المنطقي من مثل هذا الكائن الحي؟ بالطبع لا لأنه لا يمكن لمخلوق غير عاقل نشأ بالمصادفة أن يبدي سلوكاً عاقلاً، ولا يمكن له أن يفكر بحماية الآخرين، ولا يمكن تفسير الأنماط السلوكية لهذه الكائنات إلا بشيء واحد وهو الإلهام الإلهي. وفي الأمثلة القادمة سيتضح لنا بدليل ساطع أن هذه الكائنات الحية تخضع لمدبر ملهم..



تنبيه الكائنات الحية بعضها البعض بالخطر القادم :
إنَّ أهم فوائد العيش ضمن تجمعات هي التنبيه للخطر القادم وتوفير وسائل الدفاع بصورة أكثر فاعلية، لأن الحيوانات التي تعيش ضمن تجمعات تقوم عند إحساسها بالخطر القادم بتنبيه الباقين بدلاً من الهرب والنجاة، ولكل نوع من أنواع الأحياء طريقته الخاصة بالتنبيه، على سبيل المثال فالأرانب والأيايل تقوم برفع ذيولها بصورة قائمة عند قدوم العدو المفترس كوسيلة لتنبيه باقي أفراد القطيع، أما الغزلان فتقوم بأداء رقصة على شكل قفزات .

أما الطيور الصغيرة فتقوم بإصدار أصوات خاصة عند قدوم الخطر، فطيور sansama تقوم بإصدار أصوات ذات ترددات عالية مع فواصل متقطعة، وأذن الإنسان تتحسس هذا النوع من الصوت على شكل صفير وأهم ميزة لهذا الصوت هي عدم معرفة مصدره .

هذا يكون لصالح الطير المنبه بالطبع، لأن الخطورة تكمن في معرفة مكان الطير الذي يقوم بوظيفة التنبيه بالخطر وتقل نسبة الخطورة لعدم معرفة هذا الصوت.

أما الحشرات التي تعيش ضمن مستعمرات فوظيفة التنبيه والإنذار تقع على عاتق أول فرد يرى ويحس وفي حال أحس العدو برائحة المادة المفرزة للإنذار، فإن المنذر يضحي بحياته من أجل سلامة المستعمرة.

أما الكلاب البرية فتعيش ضمن مجموعات يربو عدد كل منها على 30 فرداً وعلى شكل مساكن شبيهة بمدينة صغيرة، ويعرف الأفراد بعضهم بعضاً في هذه المستعمرة، وهناك دائماً حراس مناوبون في مداخل هذه المدينة الصغيرة، يقفون على أطرافهم الخلفية مراقبين البيئة من جميع الجهات وإذا حدث أن أحد المراقبين رأى عدواً يقترب يبدأ من فوره بنباح متصل شبيه بصوت الصفير، ويقوم باقي الحراس بتأكيد هذا الخبر بواسطة النباح أيضاً وعندئذٍ تكون المجموعة قد علمت بقدوم الخطر ودخلت مرحلة الاستعداد للمجابهة .

وهنا نقطة مهمة يجب التأكيد عليها، فتنبيه الكائنات الحية عند قدوم الخطر مسألة تثير الاهتمام والفضول، والأهم من ذلك أن هذه الكائنات تفهم بعضها ، والأمثلة التي أوردناها أعلاه مثل الأرنب الذي يرفع ذيله عند إحساسه بالخطر هي علامات يفهمها باقي الحيوانات ويدخلون مرحلة التيقظ على هذا الأساس، حيث يبتعدون إن أوجب الأمر الابتعاد أو يختفون إن كان هناك مجال للاختفاء، والأمر المثير للاهتمام هو: أن هذه الحيوانات متفقة فيما بينها مسبقاً على هذه الإشارات بحيث تكون بإشارة واحدة متنبهة، إلا أن هذا الافتراض لا يمكن أن يكون مقبولاً من أي إنسان ذي تفكير ومنطق، إذن فالأمر المحتم قبوله هو أن هذه الكائنات الحية مخلوقة من قبل خالق واحد وتتحرك وفق إلهامه وتوجيهه.

أما المثال المتعلق بالصفير الذي يطلقه الطير عند إحساسه بالخطر ويفهم من قبل وحيد القرن، يظهر أمامنا سلوك عاقل ومنطقي يثير الحيرة فينا، فمن غير الممكن أن تفكر حيوانات غير عاقلة بتنبيه باقي الحيوانات بقدوم الخطر وتكون تلك الحيوانات قد فهمت الإشارة واستوعبتها، وهنا يبرز أمامنا تفسير واحد لسلوك حيوان غير عاقل بهذه الصورة المنطقية وهو: كون هذه الحيوانات قد اكتسبت هذه القابليات والأنماط السلوكية، من طرف خالق سواها وهو الله الخلاق العليم الذي يتغمدها برحمته الواسعة.



مجابهة الأحياء للخطر جماعياً :
لا تكتفي الحيوانات التي تعيش على شكل مجموعات بإنذار بعضها بقدوم الخطر بل تشارك أيضاً بمجابهته، فالطيور الصغيرة مثلاً، تقوم بمحاصرة الصقر أو البوم الذي يتجرأ ويدخل مساكنها، وفي تلك الأثناء تقوم بطلب المساعدة من الطيور الموجودة في تلك المنطقة، وهذا الهجوم الجماعي الذي تقوم به يكفي لطرد الطيور المفترسة .

ويشكل السرب الذي تطير ضمنه الطيور خير وسيلة للدفاع، فطيور الزرزور مثلاً تترك فيما بينها مسافات طويلة أثناء الطيران وإذا رأت طائراً مفترساً يقترب كالصقر سرعان ما تقلل ما بينها من مسافات مقتربة من بعضها مقللة بذلك من إمكانية اقتحام الصقر للسرب وإذا أمكن له ذلك فسيجد مقاومة شديدة وربما يصاب بجروح في جناحيه ويعجز عن الصيد .

أما اللبائن فإنها تتصرف على هذه الشاكلة أيضاً خصوصاً إذا كانت تعيش ضمن قطعان، ومثال على ذلك الحمار الوحشي، يدفع بصغاره نحو أواسط القطيع أثناء هربه من العدو المفترس، وهذه الحالة درسها جيداً العالم البريطاني "جون كودول" في شرق إفريقيا فقد سجل في مشاهداته كيف أن ثلاثة من الحمر الوحشية تخلفت عن القطيع وحوصرت من قبل الحيوانات المفترسة وعندما أحس القطيع بذلك سرعان ما قفل راجعاً مهاجماً الحيوانات المفترسة بحوافره وأسنانه ونجح القطيع مجتمعاً في إخافة هؤلاء الأعداء وطردهم من المكان .

وعموماً فإن قطيع الحمر الوحشية عندما يتعرض للخطر يظل زعيم القطيع متخلفاً عن باقي الإناث والصغار الهاربين، ويبدأ الذكر يجري بصورة ملتوية موجهاً ركلات قوية إلى عدوه وفي بعض الأحيان يرجع لمقاتلته .

ويعيش "الدلفين" ضمن جماعات تسبح سوياً وتقوم بمهاجمة عدوها اللدود {الكواسج} بصورة جماعية أيضاً، وعندما يقترب الكوسج من هذه الجماعة يشكل خطراً جسيماً على صغار الدلفين فيبتعد اثنان من الدلافين عن الجماعة ليلفتا انتباه الكوسج إليهما ويبعدانه عن الجماعة، وعندئذٍ تنتهز الجماعة تلك الفرصة في الهجوم فجأة وتوجيه الضربات تلو الضربات لهذا العدو المفترس .

وتسلك سلوكاً غريباً آخر حيث إنها تسبح بموازاة جماعات سمك "التونة" التي تشكل مصدراً غذائياً مهماً لها، لهذا السبب فإن صيادي سمك "التونة" يتخذون الدلفين دليلاً لهم في اصطياد هذا النوع من السمك ولسوء الحظ هناك حالات كثيرة يقع فيها في شباك الصيادين ولكون هذا الحيوان ليناً غير قادر على السفر تحت الماء فسرعان ما يصاب بالهلع ويبدأ بالوقوع نحو قاع الماء، وفي تلك الأثناء يبدأ باقي الدلافين بنجدته مما يدل على الترابط العائلي الموجود في الجماعة، ويبدأ كافة أفراد الجماعة بالنزول إلى الأسفل ومحاولة دفع الشباك إلى الأعلى لإنقاذ حياة زميلهم، ولكن هذه المحاولات كثيراً ما تبوء بالفشل وتنتهي بالموت للكثير منهم لعدم قدرتهم على التنفس تحت الماء، وهذا السلوك عام لكافة أنواع الدلفين.

أما الحيتان الرمادية فيتسابق ذكر أو اثنان منها لنجدة أنثى مصابة بجروح عن طريق دفعها نحو سطح الماء لتسهيل تنفسها وكذلك حمايتها من هجمات الحوت القاتل .

وتقوم ثيران المسك بتشكيل دائرة فيما بينها تجاه العدو، حيث تخطو خطوات للوراء دون أن تجعل ظهرها نحو العدو، والهدف هو حماية الصغار الذين يبقون داخل هذه الدائرة متمسكين بشعر أمّاتهم المتدلي الطويل، وبهذا الشكل الدائري تنجح الثيران البالغة في المحافظة على حياة الصغيرة، وعندما يهجم أحد أفراد هذه الدائرة على هذا العدو سرعان ما يرجع إلى نفس موقعه في الدائرة كي لا يختل النظام الأمني .

وهناك أمثلة أخرى تتبعها الحيوانات أثناء الصيد شبيهة بسلوكها أثناء الحماية والدفاع عن النفس فالبجع يقوم بصيد السمك بصورة جماعية، حيث تشكل نصف دائرة قريبة من الضفة وتضيق من هذه الدائرة شيئاً فشيئاً ومن ثم تبدأ بصيد الأسماك المحاصرة في هذه الدائرة، وينقسم البجع في الأنهار الضيقة والقنوات إلى مجموعتين، وعندما يحل المساء تنسحب هذه الطيور إلى مكان تستريح فيه ولا يمكن أن ترى متشاحنة أو متعاركة فيما بينها سواء في الخلجان أو في أماكن استراحتها.

تثير هذه الأنماط السلوكية التي تبديها الحيوانات من تعاون وتكاتف وتكافل وتضحية أسئلة عديدة في مخيلة الإنسان، فهذه النماذج التي يدور الكلام حولها غير عاقلة أي أنه يدور حول حمر وحشية أو طيور أو حشرات أو دلافين وغيرها. ولا يمكن للإنسان العاقل أن يفترض أرضية منطقية وعاقلة كتفسير لسلوك هذه الحيوانات، والتفسير الوحيد الذي يمكن للإنسان العاقل أن يتوصل إليه أمام هذه الأمثلة هو: أن الطبيعة ومحتوياتها ما هي إلا مخلوقات خلقها خالق واحد قدير لا حد لقدرته، وهذا الخالق هو الذي خلق كافة الأحياء من إنسان أو حيوان أو حشرة أو نبات وخلق كل شيء وهو الله البارئ المصور ذو القدرة والرحمة والرأفة والحكمة، وكما ورد في القرآن الكريم:

قوله تعالى: ] فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [ [الجاثية: 36 ـ 37].

ويقول تعالى: ] رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ [ [ص: 66].



الحيوانات المتعاونة عند الولادة

تكون الحيوانات وخصوصاً اللبائن أكثر تعرضاً للخطر أثناء الولادة، لأن الأم ووليدها يكونان لقمة سائغة للحيوانات المفترسة، ولكن الملاحظ أن هذه الحيوانات تكون بحماية أحد أفراد القطيع عندما تضع وليدها، على سبيل المثال تختار أنثى الانتيلوب مكاناً أميناً بين الأعشاب الطويلة لتضع وليدها ولا تكون وحدها أثناء الولادة بل تكون بجانبها أنثى أخرى من القطيع نفسه كي تساعدها وقت الحاجة.

وهناك مثال آخر للتعاون بين الحيوانات أثناء الولادة وهو "الدلفين" فالوليد الصغير عندما يخرج تواً من رحم أمه عليه أن يخرج إلى سطح الماء للتنفس، لذلك تدفعه أمه بأنفها إلى أعلى كي يستطيع التنفس، وتكون الأم ثقيلة الحركة قبل الولادة، وتقترب منها أنثيان من الجماعة نفسها لمساعدتها لحظة الولادة، وتكون هاتان المساعدتان تسبحان إلى جانبي الأم لحظة الولادة لمنع أي ضرر يلحق بها في تلك اللحظة الحرجة، خصوصاً أن الأم تكون ثقيلة الحركة ومعرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى.

ويكون الوليد الجديد لصيقاً بأمه طيلة الأسبوعين الأولين، ثم يبدأ السباحة شيئاً فشيئاً بعد ولادته بفترة قصيرة وتدريجياً يبدأ بالاستقلال عن أمه، وفي هذه الحالة تكون الأم ضعيفة بعض الشيء ولا تستطيع أن تتأقلم مع حركات الوليد الجديد لذا تتدخل أنثى أخرى لحماية الصغير وتوفير العون الكامل للأم حتى تلتقط أنفاسها .

وعلى الأسلوب نفسه تلد الفيلة أولادها، حيث تكون هناك أنثى دوماً لمساعدة الأم أثناء الولادة، تختفي الأم ووصيفتها داخل الأعشاب الطويلة بكل مهارة حتى تنتهي عملية الولادة وتستمران في رعاية الفيل الجديد طيلة حياتهما، وتتميز الأم بحساسية مفرطة خصوصاً عندما تكون بجانب وليدها .

وهناك أسئلة عديدة تطرح نفسها في هذا المجال مثلاً: كيف تتفاهم الفيلة أو غيرها من الحيوانات مع بعضها، أو الأنثى التي تصبح مساعدة كيف تفهم أو تشعر باقتراب موعد الولادة لقريبتها؟

لا تملك هذه الحيوانات عقلاً مفكراً أو إرادة فاعلة لتحديد هذه الأمور الحياتية، إضافة إلى أن هذه الفيلة السالفة الذكر تسلك السلوك نفسه في أية بقعة أخرى من العالم، الشيء نفسه يقال للدلفين أو غيره من الحيوانات، وهذا دليل على كونها مخلوقة من قبل خالق واحد وتتحرك في إطار ناموس واحد كذلك.



الحيوانات الحاضنة لصغار غيرها :

تمتاز اللبائن بأنها تنشئ علاقات قرابة وطيدة فيما بينها، على سبيل المثال تعيش الذئاب ضمن عائلة واحدة تتألف من ذكر وأنثى وصغيرهما وربما واحد أو اثنين من ولادات سابقة، وكل الحيوانات البالغة تقوم بمهمة حماية الصغار، وأحياناً تبقى إحدى الإناث في الوكر لتقوم بمهمة الحاضنة لأحد الصغار طول الليل بينما تقوم الأم بالخروج إلى الصيد مع باقي أفراد الجماعة.

تعيش كلاب الصيد الإفريقية ضمن جماعات تتألف الواحدة منها من عشرة أفراد، وتبدأ بتوزيع الواجبات بين الذكور والإناث التي تتلخص بحماية الصغار وتغذيتهم، وتتسابق فيما بينها على رعايتهم، وعند اصطيادها فريسة تقوم بتشكيل حلقة حولها حماية لها من هجوم الضباع ولإفساح المجال للصغار بالتغذي عليها .

يعيش "البابون" أيضاً ضمن جماعة يقوم زعيمها برعاية المرضى والجرحى من أفرادها، حتى أن البالغين يتبنون "بابوناً" صغيراً في حالة فقدانه لأبويه، فيأذنون له بالسير معهم نهاراً والمبيت عندهم ليلاً، وقد تغير الجماعة مكانها عندئذٍ تقوم بمسك صغيرها ليمشي الهوينى في حالة كونه صغيراً جداً لا تستطيع ضبط توازنه أثناء حملها له، والصغير قد يتعب أثناء سيره ويتسلق ظهر أمه غالباً، وهذا يؤدي إلى تقهقرهما عن الجماعة، ولو فطن زعيم الجماعة لهذا الأمر لقفل راجعاً إلى حيث تقف الأم ويبدأ بمرافقتهما أثناء المسير .

أما بنات آوى فتعيش مع أمّاتها حتى بعد انقطاعها عن الرضاعة وتصبح يافعة تساعد أمها عند ولادتها لرضيع جديد، فتجلب الغذاء للصغار أو تذهب بهم إلى مكان بعيد إلى حين ابتعاد الخطر الداهم .

وليس بنات آوى وحدهم الذين يهتمون برعاية أشقائهم بل تقوم بالمهمة نفسها طيور مثل دجاج الماء والسنونو.

كما يتخذ التعاون في عالم الطيور شكلاً آخر لأنه يكون بين أزواج الطيور مثل طير النحل، يتعاون الزوجان في تنشئة أطفالهما وهذا التعاون من الممكن مشاهدته لدى الطيور بكثرة .

إن الرعاية التي تبديها الحيوانات تجاه صغار لا تعود إليهم تعتبر من الأدلة القوية لنسف مزاعم دعاة "التطور"، وكما أسلفنا القول فإن المؤمنين بهذه النظرية يفسرون سلوك الحيوانات المتسم بالتضحية على كونها ليست تضحية بل أنانية لأنها تهدف إلى الحفاظ على الجينات الوراثية ونقلها إلى أجيال لاحقة فقط.

ولكن اتضح من الأمثلة السالفة أن هذه الحيوانات لا تبدي اهتماماً ورعاية لأبنائها من حملة جيناتها فقط وإنما تجاه حيوانات لا تحمل أية جينات منها أصلاً. أي أن هذه الفرضية فرضية "الجين الأناني" التي ساقها المؤمنون بنظرية "التطور" قد أفلست تماماً وثبت عدم صحتها بالمرة. ومن المستحيل أن يفكر حيوان غير عاقل بنقل جيناته إلى جيل لاحق. ولو قبلنا أن تكون هذه الحيوانات مبرمجة على عملية نقل الجينات فيجب علينا أن نقبل وجود مبرمج لهذا البرنامج. وكل حيوان نصادفه في الطبيعة وندرس طبائعه وخصائصه يقودنا إلى خالق واحد لهذا الوجود. وهذا الخالق بلا شك هو الله الرحمن الرحيم.



معالم التضحية في مستعمرة النمل :

1. من أهم معالم الميزة لمستعمرة النمل المشاركة في الغذاء. فإذا تقابلت نملتان وكانت إحداهما جائعة أو عطشى والأخرى تملك شيئاً في بلعومها لم يمضغ بعد فإن الجائعة تطلب شيئاً من الأخرى التي لا ترد الطلب أبداً وتشاركها في الأكل والشرب. وتقوم النملات العاملات بتغذية اليرقات بالغذاء الموجود في بلعومها. وفي أغلب الأحيان تكون كريمة مع غيرها وبخيلة على نفسها بشأن الغذاء .

2. هناك توزيع في أداء الواجبات ضمن المستعمرة الواحدة وكل نملة تؤدي ما عليها من واجب بكل تفان وإخلاص. وإحدى هذه النملات هي البوابة أو حارسة الباب. وهي المسؤولة عن السماح بدخول النمل من أبناء المستعمرة فقط ولا يسمح للغرباء بالدخول أبداً وتكون رؤوس هذه الحارسات بحجم بوابة المستعمرة بحيث تستطيع أن تسد هذه البوابة برأسها. وتظل الحارسات طيلة اليوم يقمن بواجبهن في حراسة مدخل المستعمرة لذلك فإن أول من يجابه الخطر هؤلاء الحارسات.

3. لا تكتفي النملات بمشاركة أخواتها بالطعام الذي تحمله في معدتها بل تقوم بتنبيه الباقيات إلى وجود طعام أو كلأ في مكان ما صادفته. وهذا السلوك لا يحمل في طياته أي معنى للأنانية وأول نملة تكشف الغذاء تقوم بملء بلعومها منه ثم تعود إلى المستعمرة. وفي طريق العودة تقوم بلمس الأرض بطرف بطنها تاركة مادة كيماوية معينة ولا تكتفي بذلك بل تتجول في أنحاء المستعمرة بسرعة ملحوظة ثلاث أو ست مرات وهذه الجولة تكفي لإخبار باقي أفراد المستعمرة بالكنز الذي وجدته. وعند عودة النملة المكتشفة إلى مصدر الغذاء يتبعها طابور طويل من أفراد المستعمرة.

4. هناك نمل يدعى قطاع الورق تكون عاملاته متوسطة الطول مشغولات طيلة اليوم بحمل أجزاء الورقة النباتية إلى المستعمرة. ولكنها تكون في غاية الضعف عند حملها لها خصوصاً تجاه الذباب أو أبناء جنسه. ويترك الذباب بيضه على رأس هذا النمل. وتنمو يرقة هذا الذباب متغذية من مخ هذه النملة وهو ما يؤدي إلى موتها. وتكون عائلات هذا النوع من النمل في غاية الضعف أمام سلوك هذا الذباب خصوصاً عند حملهن للورقة النباتية. ولكن هناك من يحميهن من هجوم هذا الذباب وهو النمل الذي من المستعمرة نفسها، وقصيرو القامة يقومون بوظيفة حراسة العاملات بواسطة جلوسهم فوق الورقة النباتية وعلى أهبة الاستعداد لرد أي هجوم من الذباب على أعقابه .

5. هناك نوع من النمل يدعى نمل العسل وسبب هذه التسمية أنه يتغذى على فضلات بعض الحشرات المتطفلة على الأوراق النباتية وتكون فضلات هذه الحشرات غنية بالمواد السكرية. وتحمل هذه النملات ما مصته من فضلات سكرية إلى مستعمراتها وتخزنها في أسلوب عجيب وغريب. لأن بعضاً من هذه النملات العاملات يستخدم جسمه كمخزن للمواد السكرية. وتقوم العاملات اللاتي حملن المواد السكرية بتفريغ حمولتهن داخل أفواه العاملات أو – المخازن الحية – والتي بدورها تملأ الأجزاء السفلية من بطونها بهذا السكر حتى تنتفخ بطونها ويصبح حجمها في بعض الأحيان بحجم حبة العنب. ويوجد من هذه العاملات في كل غرفة من غرف الخلية عدد يتراوح بين 25 و 30 نملة ملتصقات بواسطة سيقانهن بسقف الغرفة في وضع مقلوب. ولو تعرضت إحداهن للسقوط تسارع العاملات الأخريات إلى إلصاقها من جديد. والمحلول السكري الذي تحمله كل نملة يكون أثقل بثماني مرات من وزن النملة نفسها. وفي موسم الجفاف أو الشتاء تقوم باقي النملات بزيادة هذه المخازن الحية لأخذ احتياجاتها من الغذاء – السكر – اليومي. حيث تلصق النملة الجائعة فمها بفم النملة المنتفخة وعندئذٍ تقوم الأخيرة بتقليص بطنها لإخراج قطرة واحدة إلى فم أختها. ومن المستحيل أن يقوم النمل بتطوير هذه المخازن وابتكارها بهذه الطريقة العجيبة ومن تلقاء نفسها. وإضافة إلى ذلك التفاني والتضحية اللذان تتسم بهما النملة المنتفخة حيث تحمل ما هو أكثر من وزنها ثماني مرات فضلاً عن بقائها ملتصقة بالمقلوب مدة طويلة جداً ودون مقابل. وإن هذا الأسلوب المبتكر وفقاً لبنية تلك النملة ليس من المصادفة وحدها. لأن هناك نملاً متطوعاً لأن يصبح مخزناً حياً في كل جيل جديد وطيلة أجيال سابقة ولاحقة، لاشك في أن سلوكها هذا من تأثير الإلهام الإلهي الذي خلقهن وسواهن U.

6. هناك أسلوب للدفاع عن المستعمرة يتبعه النمل أحياناً وهو الهجوم على العدو والتضحية حتى الموت. وتوجد أشكال عديدة لهذا الهجوم الانتحاري. منها الأسلوب الذي يتبعه النمل الذي يعيش في الغابات المطرية في ماليزيا فجسم هذا النوع يتميز بوجود غدة سمية تمتد من رأس النمل حتى مؤخرة جسمه. وإن حدث أن حوصرت النملة من كل جهة تقوم بتقليص عضلات بطنها بشدة تكفي لتفجير هذه الغدة بما فيها من السم بوجه أعدائها ولكن النتيجة موتها بالطبع .

7. يقدم ذكر النمل ومثله الأنثى تضحية كبيرة في سبيل التكاثر. فالذكر المجنح يموت بعد فترة قصيرة من التزاوج. أما الأنثى فتبحث عن مكان مناسب لإنشاء المستعمرة وعندما تجد هذا المكان فإن أول عمل تقوم به هو التخلي عن أجنحتها. وبعد ذلك تسد مدخل المكان وتظل كامنة داخله لأسابيع وحتى لشهور دون أكل أو شرب. وتبدأ بوضع البيض باعتبارها ملكة المستعمرة. وتتغذى في هذه الفترة على جناحيها اللذين تخلت عنهما. وتغذي أول اليرقات بإفرازاتها هي وهذه الفترة تعتبر الوحيدة بالنسبة للملكة التي تعمل فيها منفردة بهذا الجهد والتفاني وهكذا تبدأ الحياة بالمستعمرة.

8. إذا حدث هجوم مفاجئ من قبل الأعداء على المستعمرة تقوم العاملات ببذل ما بوسعهن للحفاظ على حياة الصغار. ويبدأ النمل المقاتل بالتحرك صوب الجهة التي هجم منها العدو ومجابهته فوراً. أما العاملات فيسرعن نحو الغرف التي توجد فيها اليرقات لتحملها بواسطة فكوكها إلى مكان معين خارج المستعمرة لحين انتهاء المعركة والمتوقع من حيوان كالنمل في مثل هذا الموقف العصيب أن يفر هارباً ويختفي فيه عن أنظار الأعداء، ولكن الذي يجري في المستعمرة غاية في التضحية والتفاني من أجل سلامة المستعمرة، فلا النمل المقاتل ولا حراس البوابة ولا العاملات يفكرون في أنفسهم فقط، فالكل يفكر في المستعمرة بأكملها، وهذا ديدن النمل منذ ملايين السنين.

بلا شك فإن الأمثلة سالفة الذكر تعتبر أمثلة محيرة من عالم الأحياء، والمحير فيها أن هذه الأنماط السلوكية صادرة عن كائنات حية صغيرة كالنمل وهو ما يصادفه الإنسان في حياته اليومية دون أن يشعر بتفاصيل حياة هذا المخلوق. ولو دققنا في هذه التفاصيل لوجدنا أموراً عجيبة وغريبة تجبرنا على التفكير بروية في ماهيتها لأن هذه الحيوانات تمتاز بوجود جهاز عصبي دقيق للغاية ومخ محدود الحجم والارتباطات العصبية، مع هذا تقوم بسلوكيات لا يمكن القول عنها إلا إنها محض واعية، والسبب كونها منفذة مطيعة لما أمرت به منذ ملايين السنين دون فوضى أو إهمال أو تقصير، وما هذا الأمر إلا إلهام إلهي من الخلاّق العليم جل جلاله. وهذا الانقياد التام من الكائنات الحية للخالق عزَّ وجلَّ يصور من قبل القرآن كما يلي:

] أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ[ [آل عمران : 83].



صور من التضحية في خلية النحل

هناك تشابه شبه كلي بين حياة كل من النمل والنحل. في كلا العالمين تتفانى في سبيل الحفاظ على حياة وسلامة الملكة واليرقات علماً أن هذه العاملات عقيمة وهذه اليرقات ليست من صغارها. تتألف خلية النحل من الملكة والذكور المسؤولة عن تلقيح الملكة والعاملات، التي تعتبر المسؤولة الأولى والأخيرة عن إدارة الخلية بمختلف نشاطاتها الحيوية اليومية مثل إنشاء الغرف الشمعية، ونظافة الخلية، وأمن الخلية، وتغذية الملكة والذكور، والاعتناء باليرقات وإنشاء الغرف حسب نوع النمل الذي يخرج من البيض من ملكة أو ذكر أو عاملة، وتهيئة هذه الغرف بصورة مناسبة، وتنظيفها، إضافة إلى توفير الدفء والرطوبة اللازمين للبيض، وتوفير الغذاء لليرقات حسب الحاجة {الغذاء الملكي، العسل الممزوج برحيق الأزهار} وجمع المواد اللازمة لصنع الغذاء مثل خلاصة الفواكه، رحيق الأزهار، الماء ونسغ الأشجار…

ويمكننا أن نرتب المراحل أو الأطوار الحياتية التي تمر بها النحلة العاملة وفق التسلسل الزمني كما يلي:

1. (تعيش النحلة العاملة من 4 – 6 أسابيع. وعندما تخرج العاملة من الشرنقة كاملة النمو تظل تعمل داخل الخلية فترة ثلاثة أسابيع تقريباً أو أقل قليلاً، وأول عمل تقوم به الاهتمام بتنشئة اليرقات ورعايتها. وتتغذى النحلة العاملة على ما تأخذه من العسل ورحيق الأزهار المتوفرين في مخازن خاصة داخل الخلية إلا أنها تقدم جزءاً كبيراً مما تحصل عليه لليرقات كي تتغذى عليها، وتتم عملية تغذية اليرقات عن طريق إخراج جزء مما تغذت عليه سابقاً من معدتها والجزء الآخر يتم إفرازه من غدد خاصة موجودة في منطقة الرأس وهذه الغدد تفرز مادة جيلاتينية تعتبر غذاء اليرقات.

وهناك سؤال يطرح نفسه:

كيف يمكن لكائن حي خرج تواً من الشرنقة أن يعرف ما عليه أن يفعله دون اعتراض وهذا يشمل كل النحل؟

والمفروض على هذه العاملات أن تفكر في إدامة حياتها وكيفية الحفاظ عليها لحظة خروجها من الشرنقة دون تفكير في التضحية من أجل غيرها أو دون الإقدام على أي سلوك شعوري، ولكن الحاصل غير ذلك تماماً، فهي تتصرف انطلاقاً من مسؤولية كبيرة تشعر بها تجاه اليرقات وتقوم بحضنهن والاهتمام بهن.

2. عندما تدخل النحلة العاملة يومها الثاني عشر في الحياة تنضج غددها التي تفرز شمع العسل عندئذٍ تبدأ العاملات ببناء الغرف الدراسية وترميم الموجود منها المخصصة لكل من اليرقات وتخزين الغذاء.

3. في الفترة المحصورة بين اليوم الثاني عشر ونهاية الأسبوع الثالث تقوم العاملات بجمع رحيق لأزهار وخلاصة العسل اللذين جلبا من قبل الذاهبين خارج الخلية. وتقوم بتحويل خلاصة العسل إلى عسل وتخزنه فيما بعد، وفي تلك الأثناء تقوم بتنظيف الخلية من الفضلات والأوساخ وأجساد النحل الميت رامية إياها خارج الخلية.

4. تصبح الخلية العاملة في نهاية الأسبوع الثالث جاهزة لأن تخرج لجمع خلاصة العسل ورحيق الأزهار والماء ونسغ النباتات.

تبدأ النحلات العاملات بالخروج للبحث عن الأزهار التي تحتوي على خلاصة العسل.

وهذه العملية (عملية جمع الغذاء) مرهقة للغاية، فتصبح النحلة العاملة مرهقة ومتعبة حتى الموت في نهاية أسبوعين أو ثلاثة من العمل المرهق . والملاحظ هنا أن هذه النحلة العاملة تفرز عسلاً بمقدار يفوق حاجتها بكثير. وهذه الملاحظة تحتاج إلى تفسير طبعاً، إن السفسطة التي يقول بها دعاة التطور لا يمكن لها أن تفسر هذا السلوك المتفاني من كائن حي يفترض فيه أن يهتم بسلامة وإدامة حياته فقط.

وهنا تتجلى لنا آية من آيات الله I كما أوضحنا في صفحات سابقة بأن الله U هو الذي ألهم النحل هذا السلوك العجيب استناداً لما ورد في سورة النحل، وهذا هو التفسير الوحيد لما يقع في عالم النحل الذي يلبي دعوة الرحمن وإلهامه إياه دون تقصير أو كلل، وما على الإنسان إلا أن يتفكر أمام هذه الحقيقة الساطعة استجابة للآية القرآنية الآتية:

قوله تعالى: ] ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون [ [النحل: 69].

5. تنتظر العاملات مهمة أخرى محتاجة للتنفيذ قبل خروجهن لجلب الغذاء وهي مهمة الحراسة.

هناك عدد من النحل في باب كل خلية مهمتهم حراستها من دخول الغرباء، فكل من لا يحمل رائحة التبعية إلى الخلية يعتبر مصدر خطر على حياة الخلية.

وإذا حدث أن شوهد غريب في مدخل الخلية تبدأ الحارسات بالهجوم عليه بشدة، ويعتبر رنين أجنحة الحارسات الشديد كصفارة إنذار بقدوم الخطر لباقي سكان الخلية، وتستخدم الحارسات إبرهن اللاسعة كسلاح فعال ضد العدو الغريب، تفرز الحارسات سماً له رائحة مميزة تنتشر في كافة أنحاء الخلية كعلامة للخطر الداهم. عندئذٍ يتجمع سكان الخلية في المدخل للمساهمة في القتال ضد العدو الغريب. وعند لدغ الحارسة عدوها بإبرتها تبدأ بإفراز السم مما يؤدي إلى انتشار الرائحة أكثر فأكثر، وكلما ازدادت رائحة السم داخل الخلية ازداد النحل هيجاناً وشراسة ضد العدو الغاصب

إن مهمة الدفاع عن الخلية تعتبر بمثابة انتحار، لأن إبرة النحل اللاسعة تحتوي على رؤوس مدببة مثل أشواك القنفذ، ولا يمكن للنحلة أن تسحب إبرتها بعد غرزها في جسم غريب بسهولة وعند محاولتها الطيران تبقى الإبرة مغروزة في جسم الحيوان (العدو) وتتعرض النحلة بذلك إلى جرح مميت نتيجة تعرض بطنها إلى شق عميق من ناحية الخلف، حيث توجد الغدد التي تفرز السم والعقد العصبية التي تتحكم بها وعندما تلفظ النحلة أنفاسها الأخيرة يقوم باقي النحل بالاستفادة من موتها عن طريق أخذ السم الموجود في غدد القتيلة والاستمرار بنضحه في جرح العدو الغريب .

بعد هذا الاستعراض، كيف لنا أن نفسر سلوك كائن حي يبدأ منذ أول مرة خطوة له في الحياة بالعمل الدؤوب والمثابرة وحتى تضحيته بحياته دون كلل أو ملل من أجل راحة غيره وسلامته؟ إضافة إلى أن هذه الأنماط السلوكية هي نفسها في كل أنواع النحل والنمل أينما وجدت على الكرة الأرضية ومنذ ملايين السنين، والحقيقة تبرز أمامنا بوضوح، حقيقة سلوك هذه الكائنات الصغيرة بحجمها والكبيرة بتضحياتها من تأثير إلهام الله عزَّ وجلَّ لها.

قال تعالى: ] إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ [هود: 56].

الخاتمة

بعد هذا العرض الموجز لأمثلة الكائنات الحية المختلفة يتضح لنا أن هنالك قاسماً مشتركاً بين الأنماط السلوكية التي تبديها وهو التضحية والرحمة والشفقة، وكل منها يراعي صغيره ويدافع عنه ويحمي عائلته أو أي حيوان آخر بأروع صورة، وكل منها يضرب لنا مثلاً بالرحمة والمودة وفي الوقت نفسه يتكاتف عند الخطر وفق سلوك عقلاني مدهش، كما يقوم بتغذية بعضه بأساليب ذكية، وتبني هذه الحيوانات بيوتها ببراعة مهندس معماري حاذق ومهارة بناء خبير.

ومن النقاط التي يجب التأكيد عليها طيلة هذا الكتاب: أن الحديث يدور عن كائنات حية منها الصغير مثل الحشرات ومنها الكبير كالفيل والزرافة والطيور والضفادع، وهل لنا أن ندعي أن هذه الكائنات التي لا تملك إلا ما يشبه المخ أو ما يقوم مقامه تخترع شيئاً جديداً أو تبتكر وسيلة ما ناجعة في الحياة؟

وهل تعي الطيور أو الحشرات عملية إبداء سلوك يتم بالرحمة والشفقة؟

كيف لنا أن نفسر سلوك ذكر البطريق المليء بالتضحية والفداء من أجل سلامة أنثاه وأولاده؟

لماذا ترمي الغزلان أو الحمير الوحشية نفسها أمام خطر المفترس كحاجز بينه وبين صغارها؟

والحقيقة أمامنا ساطعة كالشمس وهي أن سلوك هذه الأحياء المتصف بالرحمة والشفقة والتفاني والتضحية بتأثير الإلهام من الله الرحمن الرحيم الذي وسع كرسيه كل شيء رحمة وعلماً.

وإن الأمثلة التي أوردناها في هذا الكتاب دليل على قوة ورحمة وقدرة الله تعالى على جعل هذه الكائنات تتبع هذا السلوك المتميز، فالطير أو الغزال الذي يدافع عن صغيره ويذود عنه ويعمل جاهداً لتنشئته سليماً آمناً لا يفعل كل ذلك إلا بإلهام إلهي.

ورحمة الله التي وسعت كل شيء لا ترى أمثلتها في الحيوانات فقط بل يمكن رؤيتها في الإنسان أيضاً، فالذين يتفكرون ويتمتعون في أصل ومصدر الأشياء لا شك سيصلون إلى النتيجة البديهية: ] فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [ [هود: 57] .

] وَقُل رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [ [المؤمنون: 118] .





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) ابن القيم في (مختصر الصواعق المرسلة - جـ 2).

([2]) الشيخ السعدي - (بهجة قلوب الأبرار - حديث رقم 21 - الدين يسر)

([3]) قال مقيده عفا الله عنه وعن والديه :تناولنا جزء منه في باب ما دل عليه الاسمين الكريمين من صفات- وباب الفوائد والأثار العقدية والتعبدية في نهاية البحث.

([4]) الحضارة الإسلامية أسسها ومبادئها صـ بشيئ من التصرف .158:139

([5]) في الأصل: ذهن.

([6]) ذكرنا طرف منه في خاتمة البحث.

([7]) سبق تخريجه .

([8]) متفق عليه

([9]) الشيخ السعدي - (بهجة قلوب الأبرار - حديث رقم 21 - الدين يسر).

([10])الشيخ السعدي - (بهجة قلوب الأبرار - حديث رقم 81- النهي عن كثرة السؤال ).

([11]) عن كتاب القرآن و إعجازه التشريعي - تأليف الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم- بشيئ من التصرف .

([12])قال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية ’ فى كتابه القيم (بدع الفوائد جـ2 صـ185- بتصرف187) فصل البركة المضافة لله :وأما البركة فكذلك نوعان أيضا

أحدهما : بركة هي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك ويتعدى بنفسه تارة وبأداة على تارة وبأداة في تارة والمفعول منها مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى.

والنوع الثاني : بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل منها تبارك ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز وجل فهو سبحانه المبارك وعبده ورسوله كما قال المسيح u {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } [مريم/31]فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك وأما صفته تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف/54] {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك/1] {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون/14]{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض}[الزخرف/85] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان/1]{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا }[الفرقان/10]{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان/61]

أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوهما فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمها وسعتها وهذا معنى قوله من قال من السلف تبارك تعاظم.

وقال آخر معناه أن تجيء البركات من قبله فالبركة كلها منه.

وقال غيره كثر خيره وإحسانه إلى خلقه ،وقيل اتسعت رأفته ورحمته بهم ، وقيل تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ومن هنا قيل معناه تعالى وتعاظم ، وقيل تبارك تقدس والقدس الطهارة وقيل تبارك أي باسمه يبارك في كل شيء ،وقيل تبارك ارتفع والمبارك المرتفع ذكره البغوي ،وقيل تبارك أي البركة تكتسب وتنال بذكره

وقال ابن عباس جاء بكل بركة ، وقيل معناه ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال ذكره البغوي أيضا وحقيقة اللفظة أن البركة كثرة الخير ودوامه ولا أحد أحق بذلك وصفا وفعلا منه تبارك وتعالى .

وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين وهما متلازمان لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدس وتعاظم

أن البركة كلها له تعالى ومنه فهو المبارك ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك ولهذا كان كتابه مباركا وبيته مباركا والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة فليلة القدر مباركة وما حول الأقصى مبارك وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة وتدبر قول النبي r في حديث ثوبان t الذي رواه مسلم في صحيحه عند انصرافه من الصلاة ((اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ))[رواه مسلم وأبو داود وأحمد] فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثناء أعني ثناء التنزيه والتسبيح وثناء الحمد والتمجيد بأبلغ لفظ وأوجزه وأتمه معنى فأخبر أنه السلام ومنه السلام فالسلام له وصفا وملكا وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام وأن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه كلها سلام وكذا الحمد كله له وصفا وملكا فهو المحمود في ذاته وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محمودا فيهبه حمدا من عنده وكذلك العزة كلها له وصفا وملكا وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه ومن عز من عباده فبإعزازه له وكذلك الرحمة كلها له وصفا وملكا،وكذلك البركة فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاء من خلقه وعليه فيصير بذلك مباركا فتبارك الله رب العالمين وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون وهذا بساط وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه وأطرافه وأما ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق بالله وأقربهم إلى الله وأعظمهم عنده جاها r (( لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ))[رواه مسلم]وقال r في حديث الشفاعة الطويل ((فأخر ساجدا لربي فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن ))[رواه البخاري ومسلم]وفي دعاء الهم والغم ((أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) فدل على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده دون خلقه لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ،وحسبنا الإقرار بالعجز والوقوف عند ما أذن لنا فيه من ذلك فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه وبالله التوفيق .

(1)أخرجه البخاري جـ10 حـ 2987، ومسلم جـ4/ 16/حـ 2554،وأحمد جـ6حـ62 عن أبي هريرة.

(2)أخرجه أبو داود والترمذى وابن ماجة والحاكم والبغوي (شرح السنة ) وصححه الالبانى في صحيح الجامع حـ5704 وفى الصحيحة حـ918

(3)متفق عليه من حديث أنس t بلفظ "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه "

(2) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة جـ2

([17]) الشيخ الشنقيطي أضواء البيان - (ج 6 / ص 395)

([18]) في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 134:131)

([19]) د/ زين محمد شحاته فى كتابه القيم (المنهاج الأسنى فى شرح أسماء الله الحسنى) وهوحفظه الله نقل من كتاب الشيخ سعيد حوى ’ فعدت إلى الأصل.

([20]) الشيخ سعيد حوى وكتابه (الله Y ).

([21]) كتاب آيات معجزات من القرآن وعالم النبات - الدكتور نظمي خليل أبو العطا دكتور الفلسفة في العلوم ( نبات) جامعة عين شمس .

([22]) مجلة الفرقان .

([23]) صحيح البخاري كتاب الأدب باب جعل الله الرحمة في مائة جزء ح (5654) وصحيح مسلم كتاب التوبة باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه ح (2752) وسنن الدارمي من كتاب الرقاق باب ان الله مائة رحمة ح (2785) ومسند الإمام أحمد بن حنبل مسند أبي هريرة رضى الله تعالى عنه 2/378 ح (8910)

([24]) رواه البخاري ومسلم

([25]) رواه مسلم وأحمد وابن ماجة

([26]) رواه مسلم وأحمد ولابن ماجة عن أبى سعيد t.

([27]) رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي و قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5130 في صحيح الجامع ، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده ضعيف لاضطرابه فقد اختلف فيه على الجريري وهو سعيد بن إياس.