حازم
02-03-2005, 01:59 PM
منقول
1- الأصل في الخالق الوجود فوجوده واجب.
2- ولا يمكن أن يكون السبب في إيجاد الممكن إلا واجب الوجود.
ونسير في هذا الدليل على أربع مراحل.
المرحلة الأولى من الدليل:
لا يشك عاقل في الدنيا بأن الوجود يقابله العدم،
وأنه لا ثالث بين الوجود والعدم، ولا ثالث وراء الوجود والعدم.
هذان اثنان (الوجود والعدم) إذا وُجد أحدهما انتفى الآخر لا محالة، وإذا انتفى أحدهما وُجد الآخر.
وهنا نتساءل مع أنفسنا فنقول أيهما الأصل؟
هل الوجود الذي يقابله العدم العام هو الأصل، أو العدم العام هو الأصل؟
وللإجابة على هذا التساؤل لا بد أن نسلك مسلك افتراض أن أحدهما هو الأصل، ثم ننظر هل يتعارض معه ـ على أنه الأصل ـ ما ينقضه أم لا.
وعلى هذا فلنفرض أن الأصل لكل ما يخطر في الفكر وجوده هو العدم.
ومعنى العدم
نفي ذات ما يخطر بالبال، ونفي صفاته،
فلا ذات ولا قوة ولا إرادة ولا علم ولا حياة ولا أي شيء.
وبحسب هذا الافتراض نتساءل كيف استطاع العدم ـ الذي هو الأصل ـ أن يتحول إلى الوجود؟
ألسنا نشعر بوجود أنفسنا؟ ألسنا نرى موجودات كثيرة من حولنا؟!.
والعدم معناه كما عرّفناه هو النفي العام لكل ما يخطر بالبال؛
فيكف يأتي من هذا العدم العام ذوات وصفات وقوى، فتنطلق بنفسها من العدم إلى الوجود، وانطلاقها لا يكون إلا بقوة، والمفروض أن هذه القوة عدم أيضاً؟!.
إنه من المستحيل بداهة أن يتحول العدم بنفسه إلى الوجود، أو أن يوجد العدمُ أيُّ شيء.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى في سورة الطور: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ
أي هل انتقلوا من العدم إلى الوجود من غير الخالق؟
أم هل كانوا هم الخالقين لأنفسهم في هذا الانتقال؟ وكلاهما من الأمور المستحيلة بداهة.
وهكذا: لو كان العدم هو الأصل العام لم يوجد شيء من هذه الموجودات التي لا حصر لها، ولذلك كان علينا أن نفهم حتماً أن الأصل هو الوجود.
وبهذا الدليل ثبت بشكل عقلي قاطع أنه لا يصح أن يكون العدم هو الأصل.
وحيث كان الأمر كذلك فقد ثبت بشكل عقلي قاطع أيضاً:
أن الأصل هو الوجود لأن الوجود كما سبق نقيض العدم ولا واسطة بينهما.
ثم نقول:
إن ما كان هو الأصل بين شيئين متناقضين لا يحتاج وجوده إلى تفسير أو تعليل، لأنه متى احتاج وجوده إلى تعليل لم يكن أصلاً،
وإنما تطلب الأسباب والتعليلات للأشياء التي ليست هي الأصل.
وبهذا الاستدلال ظهر لدينا بوضوح شيئان:
أ- أن الأصل هو الوجود.
ب- أن الأصل لا يتطلب في حكم العقل سبباً ولا تعليلاً أكثر من يُقال: إنه هو الأصل.
المرحلة الثانية من الدليل:
إذا كان الوجود هو الأصل لا محالة، فهل يمكن أن يكون لهذا الأصل بداية؟
وهل يمكن أن يلحقه العدم؟
وللإجابة على هذا التساؤل نقول:
1- إن ما كان وجوده هو الأصل لا يصح عقلاً أن يكون لوجوده بداية،
لأن ما كان لوجوده بداية فلا بد أن يحتاج في وجوده إلى سبب أوجده،
وما كان كذلك لا يمكن أن يكون وجوده هو الأصل.
2- إن ما كان وجوده هو الأصل لا يمكن أن يلحقه العدم؛ لأن كل زمن لاحق نفرض أن يطرأ فيه العدم على ما أصله الوجود.
نقول فيه أيضاً: لا يزال الوجود هو الأصل ولا سبب لأن يطرأ عليه العدم أبداً، لأنه لا يطرأ العدم على أي موجود من الموجودات، إلاَّ بوصف أن يكون العدم فيه هو اصل.
وإنما انتفى ذلك في زمن ما بسبب من الأسباب، فهو ينتظر زوال السبب حتى يعود إلى أصله وقد ثبت لدينا أن العدم من حيث هو مستحيل أن يكون هو الأصل العام ضد الوجود ولذلك يستحيل عقلاً أن يطرأ العدم على وجود علمنا أنه هو الأصل.
وإلى هذه الحقيقة جاءت الإشارة في قوله تعالى في سورة الفرقان: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ
فالحي الذي لا يموت هو من كان وجوده هو الأصل، وكذلك حياته، وصفات الكمال فيه، فلذلك لا يُمكن أن يطرأ عليه العدم أو الموت.
المرحلة الثالثة من الدليل:
علمنا في المرحلتين السابقتين:
أ- أن الوجود من حيث هو عقلاً أن يكون هو الأصل.
ب- أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له بداية، وأن يطرأ عليه العدم.
والآن: فلنلق نظرة على الموجودات التي تقع تحت مجال إدراكنا الحسيِّ في هذا الكون الكبير، لنرى هل تنطبق عليها فعلاً الحقيقة الأولى، وهي أن الأصل فيها لذاتها الوجود؟ أو ينطبق عليها ضدها وهي أن الأصل فيها العدم؟.
وهنا تبدو لنا حقيقة: أننا لم نكن ثم كنا، ونحن صنف ممتاز التكوين في هذا العالم:
قال تعالى في سورة التين: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
وأن أشياء كثيرة كان في طي العدم في أشكالها وصورها ثم وجدت كما هو مشاهد لنا باستمرار.
كما تبدو لنا صورة التغيرات الكثيرة الدائمة، في كل جزء من أجزاء هذه المواد الكونية التي نشاهدها أو نحس بها أو ندرك قواها وخصائصها.
فمن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، ومن تغيرات في الأشكال والصور إلى تغيرات في الصفات والقوى،
وكل ذلك لا يعلل في عقولنا وفق قوانين هذا الكون الثابتة التي استفدناها من الكون نفسه؛ إلا بالأسباب المؤثرة التي تحمل سرّ هذه التغيرات الكثيرة والمتعاقبة في كل شيء من هذا الكون، على اختلاف جواهره وصفاته، سواء منها المتناهي في الصغر أو المتناهي في الكبر.
ومن هذه الأسباب ما نشاهده، ومنها ما نستنتجه استنتاجاً، ولا نزال نتسلسل مع الأسباب حتى نصل إلى وجود ذات هي وراء كل الأسباب.
وهنا نقول: لو كان الأصل في هذه الموجودات المعروضة على حواسنا هو الوجود،
لم تكن عرضة للتحول والتغير، والزيادة والنقص، والبناء والفناء، ولم تحتج صور وجوداتها وتغيراتها إلى أسباب ومؤثرات.
وحيث أنها عُرضة للتحول والتغير، وحيث أن قوانينها تفرض احتياجاتها إلى الأسباب والمؤثرات لزم عقلاً أن لا يكون الأصل فيها هو الوجود وإنما يجب عقلاً أن يكون الأصل فيها هو العدم.
لذلك فهي تحتاج في وجودها إلى موجد.
وبهذه المرحلة من الدليل ثبت لدينا ما يلي:
أ- أن الأصل هو العدم في جميع هذه الأشياء الكونية القابلة للإدراك الحسيِّ وكل ما شابهها في الصفات.
ب- وحيث أن الأصل في جميع هذه الأشياء الكونية العدم؛ وجب عقلاً أن يكون لها سبب مؤثر نقلها من العدم إلى الوجود في مرحلة وجودها الأول ولا يزال يؤثر باستمرار في جميع صور تغيراتها المتقنة الحكيمة.
وقد عرض القرآن إلى حقيقة أن الأصل فينا العدم، وأننا لم نكن ثم كنا في قوله تعالى في سورة الإنسان: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.
ومعلوم بداهة أن المسبوق بالعدم لا بد له من موجد أوجده، وخالق خلقه وصوره.
المرحلة الرابعة والأخيرة من الدليل:
علمنا من المراحل الثلاث السابقة الحقائق الثلاث التالية:
1- أن الوجود من حيث هو يجب عقلاً أن يكون هو الأصل.
2- أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له ابتداء، وأن يطرأ عليه العدم.
3- أن هذه الأشياء الكونية المعروضة على حواسنا ومداركنا ـ والتي نحن جزء منها ـ وكذلك كل ما شابهها: الأصل فيها العدم. ويحتاج وجودها إلى سبب موجد.
وهنا نقول: حيث اجتمعت لدينا هذه الحقائق الثلاث التي لا مفر منها، ولا محيد عنها،
فلا بد من التوفيق بينها بشكل تقبله العقول قبولاً تاماً من غير اعتراض.
وذلك لا يكون إلا وفق صورة واحدة لا ثانية لها، وهي أن نقول:
أولاً: لا بد عقلاً من وجود موجود عظيم، وجوده هو الأصل في الكائنات وعدمه مستحيل، لذلك فهو واجب الوجود عقلاً.
ثانياً: هذا الكون المشاهد ـ بما فيه من أرض وسماوات، ونجوم ومجرات، وجماد ونبات، وأحياء وأموات ـ الأصل فيه العدم، ولا بد لإخراجه من العدم إلى الوجود من سبب موجد.
ثالثاً: لا يكون السبب الموجد للكون بجميع ما فيه إلا موجوداً عظيماً، وجوده هو الأصل، وهو واجب الوجود وذلك هو (الله سبحانه وتعالى).
خاتمة حول هذا الدليل:
وبهذه الطريقة من الاستدلال يسقط نهائياً تساؤل المتسائلين:
كيف وُجِدَ الله سبحانه؟
لأنه تساؤل لا يعتمد على عقل،
وذلك أن مثل هذا التساؤل إنما يرد في موجود تثبت قوانينه وصفاته أن الأصل فيه العدم، فهو يحتاج إلى موجد حتى يوجده ويبدعه من العدم.
أما الموجود الذي يجب عقلاً أن يكون الأصل فيه الوجود ولا يجوز عليه العدم فلا يمكن أن يتعرض وجوده إلى مثل هذا التساؤل بحالٍ من الأحوال. لأن إيرادِ تساؤل من هذا النوع يتنافى مع الحقيقة الثابتة وهي أن الأصل فيه هو الوجود.
بملاحظتنا لكل شيء في الكون:
سواء كان من الأشياء المادية التي يُمكن أن ندركها ببعض حواسنا كالأرض والنجوم، أو كان صفة من الصفات القائمة في الأشياء المادية التي نستنبط وجودها بعقولنا كالجاذبية الخاصة الموجودة مثلاً في حجر المغناطيس، وكالجاذبية العامة الموجودة مثلاً بين الكتل المادية، وكخواص المركبات المادية التي لا حصر لها في الكون، سواء في ذلك الظواهر الكيميائية أو الفيزيائية.
وبملاحظتنا لمن نعقل عن ظواهر الوحدات المستقلة المتميزة التي لا تدخل في نطاق إحساسنا كالملائكة والجن وكيفية تكوينها وأعراضها وصفاتها.
من خلال ملاحظتنا لجميع هذه الأشياء الكونية، ندرك بداهة في كل واحدة منها أنه كان من الممكن عقلاً أن يتخذ صورة وصفة وحالة غير ما هو عليه الآن،
فهنالك احتمالات كثيرة لا حصر لها في مجال الممكنات،
لا يرى العقل مانعاً من أن تتحول هذه الأشياء الكونية إلى واحد منها.
فالعقل لا يمنع من أن تتخذ مثلاً صورة غير الصورة التي هي عليها، وشكلاً غير الشكل الذي هي عليه، أو حداً غير حدها الواقع كمَّاً وكيفاً.
فتكون أكبر مما هي عليه أو أصغر، أو مركبة غير التركيب الذي هي عليه، أو في حيز من الكون وزمان من الدهر غير حيزها وزمانها، أو أن تكون لها صفات وقوى غير صفاتها وقواها، أو حركات ومدارات وسرعات مغايرة لما هي عليه.
كل هذا وأمثاله من الاحتمالات التي لا حصر لها، مما يجوّزه العقل بداهة، ويعتبره من الممكنات العقلية، التي لو كان تركيب الكون على وفقها لم يكن في ذلك منافاة لأصل عقلي.
فما المانع مثلاً من أن يكون الليل والنهار سرمدين؟
وما المانع العقلي من أن يكون الإنسان على غير هذا الوضع القويم، أو أكبر أو أصغر مما هو عليه جسداً وهامة؟.
وما المانع من أن يكون العقل في البهائم، والنطق في العجماوات؟
وما المانع من أن تكون الأرض أدنى إلى الشمس والعمر من الوضع الذي هي عليه؟
أو غير ذلك من أشياء كثيرة.
فإن قيل: إن الحكمة تقتضي أن تكون هذه الأشياء كما هي عليه الآن؛ وإلا لاختلَّ النظام وفسدت النتائج المرجوة من هذا الكون،
قلنا: الحكمة صفة الحكم، وذلك الحكيم (هو الله تعالى).
ونقول من ناحية أخرى:
حيث أن كل شيء في هذا الكون يحتمل أن يكون على واحد من أوضاع كثيرة غير الوضع الذي هو
عليه؛
فإن عقولنا لا بد أن تحكم بداهة
بأن ما كان كذلك فلا بد له من مخصص قد خصصه باحتمال موافق للحكم والإبداع والإتقان؛ من جملة احتمالات كثيرة.
ولولا وجود المخصص للزم ترجيح أحد المتساوين على الآخر من غير مرجح؛
أو القول بأن: موافقة الحكمة فيما لا حصر له من الأعداد كان على طريق التصادف،
وكلاهما مستحيل عقلاً.
ونحن بوصفنا عقلاء في هذا الكون؛
لا نقبل أن نلتزم المستحيلات بينما نرى أن قوانين هذا الكون ثابتة لا تتخلف أبداً،
ومن قوانينه رفض الترجيح بلا مرجِّح،
ورفض احتمال المصادفة في نظام هذا الكون البديع.
وأي الأمرين أسلم وأكثر قبولاً في العقل: هل إحالة هذا النظام الحكيم البديع في الكون إلى حكم المصادفة المستحيلة في العقل؟
أم إلى حكمة مخصص حكيم قد خصص هذا الممكن في احتماله الموافق للحكمة؟!.
وحيث ثبت لدينا احتياج هذه الممكنات إلى المخصص الحكيم؛
فإن عقولنا تحكم بشكلٍ قاطع:
أن هذا المخصص يجب أن لا تكون ذاته أو صفاته محلاً لأي احتمال من الاحتمالات الممكنة التي تتعرض لها هذه الأشياء الكونية في نظر العقل.
وإنما يجب أن يكون على وضع ثابت واجب عقلاً، لا يقبل العقل ـ بحال من الأحوال ـ أن تحتمل ذاته أو صفاته وضعاً آخر.
هذا الموجود الواجب الثابت في ذاته وفي صفاته،
والذي يوجب العقل أن يسند إليه تخصيص هذه الممكنات في واحد من احتمالاتها الكثيرة؛ هو واجب الوجود، وليس بممكن الوجود حتماً (وهو الله تعالى)
وبذلك يثبت المطلوب ونستطيع أن نسمي هذا الدليل بـ (دليل الإمكان في الكون).
وقد أشار القرآن إلى دليل الإمكان في عدة آيات، منها:
أ- قوله تعالى في سورة (الفرقان): أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً.
ب- وقوله تعالى في سورة (القصص): قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ.
ج- وقوله تعالى في سورة (إبراهيم): أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ.
د- وقوله تعالى في سورة (الملك): قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ.
هـ- وقوله تعالى في سورة (الواقعة): أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ.
فقد بيّن الله سبحانه في هذه الآيات وأمثالها من القرآن الكريم:
أن الصور والأنظمة والأوضاع التي تشاهدنها في الكون من الممكن أن تتخلف وتتغير وأن تتحول من وجود إلى عدم ومن وضع إلى وضع وذلك بقدرة الله تعالى.
فإذا أراد الله أن يسلب هذه النظم الحكيمة القائمة في الكون، وينجم عن ذلك الأضرار بحياة الناس في الأرض، فهل يستطيع أحدٌ غير الله أن يثبتها على أوضاعها؟!.
فلو جعل الله الظل ساكناً لا ينسخه الضياء، ولو جعل الله الليل سرمداً، فماذا سيكون وضع حياة الإنسان على وجه الأرض؟!
لا شك أن ذلك سيكون خطراً محدقاً بالمجموعة البشرية، لأن النهار بشمسه سبب دفئهم ورزقهم، والليل بسكونه وظلمته لباسهم وراحتهم بعد المشقة والتعب.
ثم أليس من المُمكن أن يُذهِبَ الله هذا الخلق ويأتي بغيره؟!.
أليس من المُمكن أن يغوّر الله الماء في الأرض فلا يستطيع الناس له طلباً؟!.
أليس من المُمكن أن يجعل الله الزروع والثمار حطاماً، فيحرم الناس من أرزاقها؟!.
أليس من المُمكن أن ينزل الله الماء من السحاب مالحاً كدراً أجاجاً، غير صالح للشرب وري المزروعات؟!.
إذا كان كل ذلك من الممكنات، فلا بد أن يكون وضعها القائم فعلاً ممكناً أيضاً، لأنه أحد الاحتمالات المقابلة للصور المفروضة، وإذا كان ممكناً، فلا بد أن يكون له مخصص قد خصصه بأحد مُمكناته المُحتملة، وهذا المُخصص هو الموجد الذي أوجدها من عدم إذ الأصل في جميع الممكنات العدم ولا تخرج من العدم إلى الوجود، إلا بموجد قادر حكيم: (وهو الله سبحانه).
«دليل الإتقان في الكون»
من أعظم ما يدهشنا في أنفسنا، وفي الكون من حولنا، هو هذا الإتقان العجيب، في الصنع والتركيب،
فما نُصادف من شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في غاية الإتقان،
مركب أحكم تركيب
يؤدي به إلى غايته التي خلق من أجلها
باعتباره جزءاً من وحدته التي هو أحد أجزائها، أو باعتباره مجموعة هي واحدة من جنس مجموعات كثيرة.
كل ذلك في جملة هذا الكون الذي تنتظمه وحدة مهيمنة، لا يستطيع أي جزء منه أن يتحرر منها، أو يفلت من قانونها.
أليس من الإتقان العجيب هندسة هذا الكون في مخطط كواكبه ونجومه، بحيث إن أي تغيير فيه يؤدي به إلى الخلل والنقص أو الخراب والفساد؟!
سَلْ عالم الفلك يظهر لك من دقائق إتقان الكون ما هو فوق الدهشة والحيرة. أليس من الإتقان المدهش هندسة هذا الإنسان في خلقه وتكوينه سَلْ عالم التشريح عن مخطط جسم الإنسان وإتقانه وخواصه وميزه، يبين لك من صنعه عجباً يدهش العقول ويحير الألباب.
أليس من الإتقان البديع المحير هذه المجموعات الكبرى في عالم الحيوان: سواء منها الطائر السابح، والماشي والزاحف، بأنواعها المُختلفة، المُتقنة في أشكالها وأوضاعها، وألوانها وخواصها، وطبائعها وطرق عيشها، وكبيرها وصغيرها؟!
سَلْ عالم الحيوان عن عجائب الحيوانات وغرائبها وإتقان تكوينها، يبدو لك من أمرها عجباً يسلمك إلى الحيرة والدهشة في مدى حكمه صانعها.
أليس من الإتقان البديع المدهش هذه المجموعات الكبرى في عالم النبات: سواء فيها أشجارها وزروعها، هوائيها ومائيها، بثمارها وأزهارها، وأوراقها وأخشابها، ولدنها وطلبها، بألوانها وأشكالها، وطعومها وروائحها وخواصها؟!
سَلْ عالم النبات عن النباتات، يشرح لك من أمرها ما يفجِّر في قلبك الإيمان بصانعها العظيم، الذي أتقن كل شيء صنعاً.
أليس من الإتقان البديع تكوين الأرض: ببحرها ويابسها، بجبالها وأغوارها، ووديانها وسهولها بصخورها ورمالها، وأتربتها ومعادنها، بينابيعها وأنهارها، بألوانها وطرقها، ببحرها وبرها، وصيفها وشتائها، بليلها ونهارها، بسيرها في فلكها ودورانها حول محورها، بجميع خواصها وصفاتها؟!
سَلْ عالم الجغرافيا، وعالم الكيمياء، وعالم طبقات الأرض، سَلْ عالم الطبيعة أياً كان اختصاصه، يظهروا لك من إتقان تكوين الأرض عجباً يهديك إلى رشدك، ويعرفك بوحدة الصانع الحكيم الذي أتقن كل شيء صنعاً.
إنه كلما تقدم العلم، وازدادت المعارف التجريبية، تعرف الإنسان على دقائق جديدة من إتقان الصنع في هذه الموجودات الكونية، وازداد إيماناً بالصانع العظيم.
ثم إننا لا نرى ترتيباً مُتقناً مُحكماً في أي مركب من المركبات، إلا ويستدعي ذلك في أذهاننا التفكير بمن أتقنه ورتبه هذا الترتيب المُتقن الحكيم.
ذلك أن احتمال الإتقان الموافق للحكمة في مركبات تزيد أجزاؤها على عشرة أجزاء؛ ذو نسبة عددية ضئيلة جداً بالنظر للاحتمالات الأخرى غير المُتقنة التي تفوق كثرتها الحصر، والتي يمكن أن تتألف هذه المركبات على وفقها، لو أنها كانت على سبيل المصادفة.
إن عقولنا حتى لاحظت مركباً على وجه الإتقان والحكمة، فإنها لا شكل تفرض بداهة أن متقناً ما حياً عالماً قادراً مريداً حكيماً قد أتقن ترتيبها. كما أنها ترفض رفضاً قطعياً أن يكون ترتيبها قد جاء على طريقة المصادفة؛ لأن صورة الإتقان على سبيل المصادفة في المركبات ذات الأعداد الكبيرة من المستحيلات في مألوف العقلاء، كما أنها من المستحيلات أيضاً في نظر الحسَّاب الرياضيين.
وفي الأمثلة القريبة البسيطة من حياتك:
تدخل إلى دار فترى أثاثها مرتباً بنظام حسن موافق للمصلحة فتقول بداهة: لا شك أن هذا الترتيب لم يأت عن طريق المصادفة وإنما هو بفعل فاعل مختار ذي نظر صحيح.
ويعرض عليك بائع الساعات ساعة لتشتريها، فتسأل أو ما تسأله، بعد أن يسرّك شكلها ـ عن الصانع الذي صنعها، لتعرف مستوى مهارته، وجودة صناعته وخبرته، حتى تطمئن على حسن سيرها في المستقبل، وعلى دقة ضبطها للوقت، لأنك تعلم أنه يتوقف ما تطلبه منها من ضبط ومتانة على مقدار مهارة الصانع وإتقانه ونصحه.
إننا نؤمن بالصانع بداهة في كل الأمور الجزئية متى كانت موافقة للحكمة والمصلحة.
أفلا نؤمن بالصانع الحكيم، بالله رب العالمين من خلال موجودات لا تُحصى في هذا الكون كل جزء فيها موضوع في مكان لو وضع في غيره لتعطلت الحكمة منه، ولاختلت المصلحة، ولو وضع غيره في مكان لحصل الخلل أيضاً في الترتيب والنظام ووجه الإتقان؟!.
إن إتقان الصنعة في هذا العالم الزاخر بالمتقنات، دليل واضح على الصانع المُتقن الحكيم العليم، يشهده من الناس العالم والجاهل، الغبي والعاقل، الصغير والكبير، ويحكم به بداهة بأن الله حق، وهو على كل شيء قدير وليس فوق حكم البداهة حكم لعاقل.
هذا عرض «لدليل الإتقان»
وقد سماه الكثيرون: «دليل العناية»
لأن ظاهرة الإتقان يلاحظ أو ما يُلاحظ عناية الله الحكيم العليم بخلقه، وتهيئته صور الإتقان المناسب لمصالحهم.
التنبيه القرآني على مضمون هذا الدليل:
ولقد جاء التنبيه إلى مضمون هذا الدليل بشكل مجمل في قوله تعالى في سورة النمل: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ.
كما جاء إيضاحه في كثير من آيات القرآن الكريم، على وجه فيه شيء من التفصيل والتنبيه إلى كثير من صور الإتقان البديع في هذه المتقنات الكونية، حيث لم يوجد شيء منه إلا متقناً محكماً.
ومنها قوله تعالى في سورة النبأ:
أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًاوَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا.
ففي هذه الآيات من سورة النبأ تنبيه إلى جزئيات كثيرة يتجلى فيها إتقان صنع الله لمن تدبر وعقل.
ومنها قوله تعالى في سورة عبس:
قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَه فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ.
وفي هذه الآيات أيضاً من سورة عبس، صورة كثيرة من صور إتقان صنع الله، في خلق الإنسان، وفي خلق ما يحتاجه في حياته من طعام نباتي وطعام حيواني، وما يحتاجه في حياته من وسائل نقل حيوانية إنها صورة متكررة فيما نشاهد في هذه الأرض.
ولكنّ فيها عبراً كثيرة تنطق بعظمة متقنها وخالقها، لمن أراد أن يذكّر أو أراد أن يكون شاكراً لنعم الله التي لا تُحصى.
- ومنها قوله تعالى في سورة الفرقان:
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا.
وهاتان آيتان من سورة الفرقان فيهما تنبيه إلى مظاهر إتقان صنع الله في الشمس والقمر والنجوم وتعاقب الليل والنهار. وفي هذا المظهر من مظاهر صنع الله المُتقن مجال واسع لعلماء الفلك الباحثين.
إنتهى والحمد لله رب العالمين اللهم ماجعل أعمالنا خواتيمها واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله
1- الأصل في الخالق الوجود فوجوده واجب.
2- ولا يمكن أن يكون السبب في إيجاد الممكن إلا واجب الوجود.
ونسير في هذا الدليل على أربع مراحل.
المرحلة الأولى من الدليل:
لا يشك عاقل في الدنيا بأن الوجود يقابله العدم،
وأنه لا ثالث بين الوجود والعدم، ولا ثالث وراء الوجود والعدم.
هذان اثنان (الوجود والعدم) إذا وُجد أحدهما انتفى الآخر لا محالة، وإذا انتفى أحدهما وُجد الآخر.
وهنا نتساءل مع أنفسنا فنقول أيهما الأصل؟
هل الوجود الذي يقابله العدم العام هو الأصل، أو العدم العام هو الأصل؟
وللإجابة على هذا التساؤل لا بد أن نسلك مسلك افتراض أن أحدهما هو الأصل، ثم ننظر هل يتعارض معه ـ على أنه الأصل ـ ما ينقضه أم لا.
وعلى هذا فلنفرض أن الأصل لكل ما يخطر في الفكر وجوده هو العدم.
ومعنى العدم
نفي ذات ما يخطر بالبال، ونفي صفاته،
فلا ذات ولا قوة ولا إرادة ولا علم ولا حياة ولا أي شيء.
وبحسب هذا الافتراض نتساءل كيف استطاع العدم ـ الذي هو الأصل ـ أن يتحول إلى الوجود؟
ألسنا نشعر بوجود أنفسنا؟ ألسنا نرى موجودات كثيرة من حولنا؟!.
والعدم معناه كما عرّفناه هو النفي العام لكل ما يخطر بالبال؛
فيكف يأتي من هذا العدم العام ذوات وصفات وقوى، فتنطلق بنفسها من العدم إلى الوجود، وانطلاقها لا يكون إلا بقوة، والمفروض أن هذه القوة عدم أيضاً؟!.
إنه من المستحيل بداهة أن يتحول العدم بنفسه إلى الوجود، أو أن يوجد العدمُ أيُّ شيء.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى في سورة الطور: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ
أي هل انتقلوا من العدم إلى الوجود من غير الخالق؟
أم هل كانوا هم الخالقين لأنفسهم في هذا الانتقال؟ وكلاهما من الأمور المستحيلة بداهة.
وهكذا: لو كان العدم هو الأصل العام لم يوجد شيء من هذه الموجودات التي لا حصر لها، ولذلك كان علينا أن نفهم حتماً أن الأصل هو الوجود.
وبهذا الدليل ثبت بشكل عقلي قاطع أنه لا يصح أن يكون العدم هو الأصل.
وحيث كان الأمر كذلك فقد ثبت بشكل عقلي قاطع أيضاً:
أن الأصل هو الوجود لأن الوجود كما سبق نقيض العدم ولا واسطة بينهما.
ثم نقول:
إن ما كان هو الأصل بين شيئين متناقضين لا يحتاج وجوده إلى تفسير أو تعليل، لأنه متى احتاج وجوده إلى تعليل لم يكن أصلاً،
وإنما تطلب الأسباب والتعليلات للأشياء التي ليست هي الأصل.
وبهذا الاستدلال ظهر لدينا بوضوح شيئان:
أ- أن الأصل هو الوجود.
ب- أن الأصل لا يتطلب في حكم العقل سبباً ولا تعليلاً أكثر من يُقال: إنه هو الأصل.
المرحلة الثانية من الدليل:
إذا كان الوجود هو الأصل لا محالة، فهل يمكن أن يكون لهذا الأصل بداية؟
وهل يمكن أن يلحقه العدم؟
وللإجابة على هذا التساؤل نقول:
1- إن ما كان وجوده هو الأصل لا يصح عقلاً أن يكون لوجوده بداية،
لأن ما كان لوجوده بداية فلا بد أن يحتاج في وجوده إلى سبب أوجده،
وما كان كذلك لا يمكن أن يكون وجوده هو الأصل.
2- إن ما كان وجوده هو الأصل لا يمكن أن يلحقه العدم؛ لأن كل زمن لاحق نفرض أن يطرأ فيه العدم على ما أصله الوجود.
نقول فيه أيضاً: لا يزال الوجود هو الأصل ولا سبب لأن يطرأ عليه العدم أبداً، لأنه لا يطرأ العدم على أي موجود من الموجودات، إلاَّ بوصف أن يكون العدم فيه هو اصل.
وإنما انتفى ذلك في زمن ما بسبب من الأسباب، فهو ينتظر زوال السبب حتى يعود إلى أصله وقد ثبت لدينا أن العدم من حيث هو مستحيل أن يكون هو الأصل العام ضد الوجود ولذلك يستحيل عقلاً أن يطرأ العدم على وجود علمنا أنه هو الأصل.
وإلى هذه الحقيقة جاءت الإشارة في قوله تعالى في سورة الفرقان: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ
فالحي الذي لا يموت هو من كان وجوده هو الأصل، وكذلك حياته، وصفات الكمال فيه، فلذلك لا يُمكن أن يطرأ عليه العدم أو الموت.
المرحلة الثالثة من الدليل:
علمنا في المرحلتين السابقتين:
أ- أن الوجود من حيث هو عقلاً أن يكون هو الأصل.
ب- أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له بداية، وأن يطرأ عليه العدم.
والآن: فلنلق نظرة على الموجودات التي تقع تحت مجال إدراكنا الحسيِّ في هذا الكون الكبير، لنرى هل تنطبق عليها فعلاً الحقيقة الأولى، وهي أن الأصل فيها لذاتها الوجود؟ أو ينطبق عليها ضدها وهي أن الأصل فيها العدم؟.
وهنا تبدو لنا حقيقة: أننا لم نكن ثم كنا، ونحن صنف ممتاز التكوين في هذا العالم:
قال تعالى في سورة التين: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
وأن أشياء كثيرة كان في طي العدم في أشكالها وصورها ثم وجدت كما هو مشاهد لنا باستمرار.
كما تبدو لنا صورة التغيرات الكثيرة الدائمة، في كل جزء من أجزاء هذه المواد الكونية التي نشاهدها أو نحس بها أو ندرك قواها وخصائصها.
فمن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، ومن تغيرات في الأشكال والصور إلى تغيرات في الصفات والقوى،
وكل ذلك لا يعلل في عقولنا وفق قوانين هذا الكون الثابتة التي استفدناها من الكون نفسه؛ إلا بالأسباب المؤثرة التي تحمل سرّ هذه التغيرات الكثيرة والمتعاقبة في كل شيء من هذا الكون، على اختلاف جواهره وصفاته، سواء منها المتناهي في الصغر أو المتناهي في الكبر.
ومن هذه الأسباب ما نشاهده، ومنها ما نستنتجه استنتاجاً، ولا نزال نتسلسل مع الأسباب حتى نصل إلى وجود ذات هي وراء كل الأسباب.
وهنا نقول: لو كان الأصل في هذه الموجودات المعروضة على حواسنا هو الوجود،
لم تكن عرضة للتحول والتغير، والزيادة والنقص، والبناء والفناء، ولم تحتج صور وجوداتها وتغيراتها إلى أسباب ومؤثرات.
وحيث أنها عُرضة للتحول والتغير، وحيث أن قوانينها تفرض احتياجاتها إلى الأسباب والمؤثرات لزم عقلاً أن لا يكون الأصل فيها هو الوجود وإنما يجب عقلاً أن يكون الأصل فيها هو العدم.
لذلك فهي تحتاج في وجودها إلى موجد.
وبهذه المرحلة من الدليل ثبت لدينا ما يلي:
أ- أن الأصل هو العدم في جميع هذه الأشياء الكونية القابلة للإدراك الحسيِّ وكل ما شابهها في الصفات.
ب- وحيث أن الأصل في جميع هذه الأشياء الكونية العدم؛ وجب عقلاً أن يكون لها سبب مؤثر نقلها من العدم إلى الوجود في مرحلة وجودها الأول ولا يزال يؤثر باستمرار في جميع صور تغيراتها المتقنة الحكيمة.
وقد عرض القرآن إلى حقيقة أن الأصل فينا العدم، وأننا لم نكن ثم كنا في قوله تعالى في سورة الإنسان: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.
ومعلوم بداهة أن المسبوق بالعدم لا بد له من موجد أوجده، وخالق خلقه وصوره.
المرحلة الرابعة والأخيرة من الدليل:
علمنا من المراحل الثلاث السابقة الحقائق الثلاث التالية:
1- أن الوجود من حيث هو يجب عقلاً أن يكون هو الأصل.
2- أن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له ابتداء، وأن يطرأ عليه العدم.
3- أن هذه الأشياء الكونية المعروضة على حواسنا ومداركنا ـ والتي نحن جزء منها ـ وكذلك كل ما شابهها: الأصل فيها العدم. ويحتاج وجودها إلى سبب موجد.
وهنا نقول: حيث اجتمعت لدينا هذه الحقائق الثلاث التي لا مفر منها، ولا محيد عنها،
فلا بد من التوفيق بينها بشكل تقبله العقول قبولاً تاماً من غير اعتراض.
وذلك لا يكون إلا وفق صورة واحدة لا ثانية لها، وهي أن نقول:
أولاً: لا بد عقلاً من وجود موجود عظيم، وجوده هو الأصل في الكائنات وعدمه مستحيل، لذلك فهو واجب الوجود عقلاً.
ثانياً: هذا الكون المشاهد ـ بما فيه من أرض وسماوات، ونجوم ومجرات، وجماد ونبات، وأحياء وأموات ـ الأصل فيه العدم، ولا بد لإخراجه من العدم إلى الوجود من سبب موجد.
ثالثاً: لا يكون السبب الموجد للكون بجميع ما فيه إلا موجوداً عظيماً، وجوده هو الأصل، وهو واجب الوجود وذلك هو (الله سبحانه وتعالى).
خاتمة حول هذا الدليل:
وبهذه الطريقة من الاستدلال يسقط نهائياً تساؤل المتسائلين:
كيف وُجِدَ الله سبحانه؟
لأنه تساؤل لا يعتمد على عقل،
وذلك أن مثل هذا التساؤل إنما يرد في موجود تثبت قوانينه وصفاته أن الأصل فيه العدم، فهو يحتاج إلى موجد حتى يوجده ويبدعه من العدم.
أما الموجود الذي يجب عقلاً أن يكون الأصل فيه الوجود ولا يجوز عليه العدم فلا يمكن أن يتعرض وجوده إلى مثل هذا التساؤل بحالٍ من الأحوال. لأن إيرادِ تساؤل من هذا النوع يتنافى مع الحقيقة الثابتة وهي أن الأصل فيه هو الوجود.
بملاحظتنا لكل شيء في الكون:
سواء كان من الأشياء المادية التي يُمكن أن ندركها ببعض حواسنا كالأرض والنجوم، أو كان صفة من الصفات القائمة في الأشياء المادية التي نستنبط وجودها بعقولنا كالجاذبية الخاصة الموجودة مثلاً في حجر المغناطيس، وكالجاذبية العامة الموجودة مثلاً بين الكتل المادية، وكخواص المركبات المادية التي لا حصر لها في الكون، سواء في ذلك الظواهر الكيميائية أو الفيزيائية.
وبملاحظتنا لمن نعقل عن ظواهر الوحدات المستقلة المتميزة التي لا تدخل في نطاق إحساسنا كالملائكة والجن وكيفية تكوينها وأعراضها وصفاتها.
من خلال ملاحظتنا لجميع هذه الأشياء الكونية، ندرك بداهة في كل واحدة منها أنه كان من الممكن عقلاً أن يتخذ صورة وصفة وحالة غير ما هو عليه الآن،
فهنالك احتمالات كثيرة لا حصر لها في مجال الممكنات،
لا يرى العقل مانعاً من أن تتحول هذه الأشياء الكونية إلى واحد منها.
فالعقل لا يمنع من أن تتخذ مثلاً صورة غير الصورة التي هي عليها، وشكلاً غير الشكل الذي هي عليه، أو حداً غير حدها الواقع كمَّاً وكيفاً.
فتكون أكبر مما هي عليه أو أصغر، أو مركبة غير التركيب الذي هي عليه، أو في حيز من الكون وزمان من الدهر غير حيزها وزمانها، أو أن تكون لها صفات وقوى غير صفاتها وقواها، أو حركات ومدارات وسرعات مغايرة لما هي عليه.
كل هذا وأمثاله من الاحتمالات التي لا حصر لها، مما يجوّزه العقل بداهة، ويعتبره من الممكنات العقلية، التي لو كان تركيب الكون على وفقها لم يكن في ذلك منافاة لأصل عقلي.
فما المانع مثلاً من أن يكون الليل والنهار سرمدين؟
وما المانع العقلي من أن يكون الإنسان على غير هذا الوضع القويم، أو أكبر أو أصغر مما هو عليه جسداً وهامة؟.
وما المانع من أن يكون العقل في البهائم، والنطق في العجماوات؟
وما المانع من أن تكون الأرض أدنى إلى الشمس والعمر من الوضع الذي هي عليه؟
أو غير ذلك من أشياء كثيرة.
فإن قيل: إن الحكمة تقتضي أن تكون هذه الأشياء كما هي عليه الآن؛ وإلا لاختلَّ النظام وفسدت النتائج المرجوة من هذا الكون،
قلنا: الحكمة صفة الحكم، وذلك الحكيم (هو الله تعالى).
ونقول من ناحية أخرى:
حيث أن كل شيء في هذا الكون يحتمل أن يكون على واحد من أوضاع كثيرة غير الوضع الذي هو
عليه؛
فإن عقولنا لا بد أن تحكم بداهة
بأن ما كان كذلك فلا بد له من مخصص قد خصصه باحتمال موافق للحكم والإبداع والإتقان؛ من جملة احتمالات كثيرة.
ولولا وجود المخصص للزم ترجيح أحد المتساوين على الآخر من غير مرجح؛
أو القول بأن: موافقة الحكمة فيما لا حصر له من الأعداد كان على طريق التصادف،
وكلاهما مستحيل عقلاً.
ونحن بوصفنا عقلاء في هذا الكون؛
لا نقبل أن نلتزم المستحيلات بينما نرى أن قوانين هذا الكون ثابتة لا تتخلف أبداً،
ومن قوانينه رفض الترجيح بلا مرجِّح،
ورفض احتمال المصادفة في نظام هذا الكون البديع.
وأي الأمرين أسلم وأكثر قبولاً في العقل: هل إحالة هذا النظام الحكيم البديع في الكون إلى حكم المصادفة المستحيلة في العقل؟
أم إلى حكمة مخصص حكيم قد خصص هذا الممكن في احتماله الموافق للحكمة؟!.
وحيث ثبت لدينا احتياج هذه الممكنات إلى المخصص الحكيم؛
فإن عقولنا تحكم بشكلٍ قاطع:
أن هذا المخصص يجب أن لا تكون ذاته أو صفاته محلاً لأي احتمال من الاحتمالات الممكنة التي تتعرض لها هذه الأشياء الكونية في نظر العقل.
وإنما يجب أن يكون على وضع ثابت واجب عقلاً، لا يقبل العقل ـ بحال من الأحوال ـ أن تحتمل ذاته أو صفاته وضعاً آخر.
هذا الموجود الواجب الثابت في ذاته وفي صفاته،
والذي يوجب العقل أن يسند إليه تخصيص هذه الممكنات في واحد من احتمالاتها الكثيرة؛ هو واجب الوجود، وليس بممكن الوجود حتماً (وهو الله تعالى)
وبذلك يثبت المطلوب ونستطيع أن نسمي هذا الدليل بـ (دليل الإمكان في الكون).
وقد أشار القرآن إلى دليل الإمكان في عدة آيات، منها:
أ- قوله تعالى في سورة (الفرقان): أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً.
ب- وقوله تعالى في سورة (القصص): قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ.
ج- وقوله تعالى في سورة (إبراهيم): أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ.
د- وقوله تعالى في سورة (الملك): قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ.
هـ- وقوله تعالى في سورة (الواقعة): أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ.
فقد بيّن الله سبحانه في هذه الآيات وأمثالها من القرآن الكريم:
أن الصور والأنظمة والأوضاع التي تشاهدنها في الكون من الممكن أن تتخلف وتتغير وأن تتحول من وجود إلى عدم ومن وضع إلى وضع وذلك بقدرة الله تعالى.
فإذا أراد الله أن يسلب هذه النظم الحكيمة القائمة في الكون، وينجم عن ذلك الأضرار بحياة الناس في الأرض، فهل يستطيع أحدٌ غير الله أن يثبتها على أوضاعها؟!.
فلو جعل الله الظل ساكناً لا ينسخه الضياء، ولو جعل الله الليل سرمداً، فماذا سيكون وضع حياة الإنسان على وجه الأرض؟!
لا شك أن ذلك سيكون خطراً محدقاً بالمجموعة البشرية، لأن النهار بشمسه سبب دفئهم ورزقهم، والليل بسكونه وظلمته لباسهم وراحتهم بعد المشقة والتعب.
ثم أليس من المُمكن أن يُذهِبَ الله هذا الخلق ويأتي بغيره؟!.
أليس من المُمكن أن يغوّر الله الماء في الأرض فلا يستطيع الناس له طلباً؟!.
أليس من المُمكن أن يجعل الله الزروع والثمار حطاماً، فيحرم الناس من أرزاقها؟!.
أليس من المُمكن أن ينزل الله الماء من السحاب مالحاً كدراً أجاجاً، غير صالح للشرب وري المزروعات؟!.
إذا كان كل ذلك من الممكنات، فلا بد أن يكون وضعها القائم فعلاً ممكناً أيضاً، لأنه أحد الاحتمالات المقابلة للصور المفروضة، وإذا كان ممكناً، فلا بد أن يكون له مخصص قد خصصه بأحد مُمكناته المُحتملة، وهذا المُخصص هو الموجد الذي أوجدها من عدم إذ الأصل في جميع الممكنات العدم ولا تخرج من العدم إلى الوجود، إلا بموجد قادر حكيم: (وهو الله سبحانه).
«دليل الإتقان في الكون»
من أعظم ما يدهشنا في أنفسنا، وفي الكون من حولنا، هو هذا الإتقان العجيب، في الصنع والتركيب،
فما نُصادف من شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في غاية الإتقان،
مركب أحكم تركيب
يؤدي به إلى غايته التي خلق من أجلها
باعتباره جزءاً من وحدته التي هو أحد أجزائها، أو باعتباره مجموعة هي واحدة من جنس مجموعات كثيرة.
كل ذلك في جملة هذا الكون الذي تنتظمه وحدة مهيمنة، لا يستطيع أي جزء منه أن يتحرر منها، أو يفلت من قانونها.
أليس من الإتقان العجيب هندسة هذا الكون في مخطط كواكبه ونجومه، بحيث إن أي تغيير فيه يؤدي به إلى الخلل والنقص أو الخراب والفساد؟!
سَلْ عالم الفلك يظهر لك من دقائق إتقان الكون ما هو فوق الدهشة والحيرة. أليس من الإتقان المدهش هندسة هذا الإنسان في خلقه وتكوينه سَلْ عالم التشريح عن مخطط جسم الإنسان وإتقانه وخواصه وميزه، يبين لك من صنعه عجباً يدهش العقول ويحير الألباب.
أليس من الإتقان البديع المحير هذه المجموعات الكبرى في عالم الحيوان: سواء منها الطائر السابح، والماشي والزاحف، بأنواعها المُختلفة، المُتقنة في أشكالها وأوضاعها، وألوانها وخواصها، وطبائعها وطرق عيشها، وكبيرها وصغيرها؟!
سَلْ عالم الحيوان عن عجائب الحيوانات وغرائبها وإتقان تكوينها، يبدو لك من أمرها عجباً يسلمك إلى الحيرة والدهشة في مدى حكمه صانعها.
أليس من الإتقان البديع المدهش هذه المجموعات الكبرى في عالم النبات: سواء فيها أشجارها وزروعها، هوائيها ومائيها، بثمارها وأزهارها، وأوراقها وأخشابها، ولدنها وطلبها، بألوانها وأشكالها، وطعومها وروائحها وخواصها؟!
سَلْ عالم النبات عن النباتات، يشرح لك من أمرها ما يفجِّر في قلبك الإيمان بصانعها العظيم، الذي أتقن كل شيء صنعاً.
أليس من الإتقان البديع تكوين الأرض: ببحرها ويابسها، بجبالها وأغوارها، ووديانها وسهولها بصخورها ورمالها، وأتربتها ومعادنها، بينابيعها وأنهارها، بألوانها وطرقها، ببحرها وبرها، وصيفها وشتائها، بليلها ونهارها، بسيرها في فلكها ودورانها حول محورها، بجميع خواصها وصفاتها؟!
سَلْ عالم الجغرافيا، وعالم الكيمياء، وعالم طبقات الأرض، سَلْ عالم الطبيعة أياً كان اختصاصه، يظهروا لك من إتقان تكوين الأرض عجباً يهديك إلى رشدك، ويعرفك بوحدة الصانع الحكيم الذي أتقن كل شيء صنعاً.
إنه كلما تقدم العلم، وازدادت المعارف التجريبية، تعرف الإنسان على دقائق جديدة من إتقان الصنع في هذه الموجودات الكونية، وازداد إيماناً بالصانع العظيم.
ثم إننا لا نرى ترتيباً مُتقناً مُحكماً في أي مركب من المركبات، إلا ويستدعي ذلك في أذهاننا التفكير بمن أتقنه ورتبه هذا الترتيب المُتقن الحكيم.
ذلك أن احتمال الإتقان الموافق للحكمة في مركبات تزيد أجزاؤها على عشرة أجزاء؛ ذو نسبة عددية ضئيلة جداً بالنظر للاحتمالات الأخرى غير المُتقنة التي تفوق كثرتها الحصر، والتي يمكن أن تتألف هذه المركبات على وفقها، لو أنها كانت على سبيل المصادفة.
إن عقولنا حتى لاحظت مركباً على وجه الإتقان والحكمة، فإنها لا شكل تفرض بداهة أن متقناً ما حياً عالماً قادراً مريداً حكيماً قد أتقن ترتيبها. كما أنها ترفض رفضاً قطعياً أن يكون ترتيبها قد جاء على طريقة المصادفة؛ لأن صورة الإتقان على سبيل المصادفة في المركبات ذات الأعداد الكبيرة من المستحيلات في مألوف العقلاء، كما أنها من المستحيلات أيضاً في نظر الحسَّاب الرياضيين.
وفي الأمثلة القريبة البسيطة من حياتك:
تدخل إلى دار فترى أثاثها مرتباً بنظام حسن موافق للمصلحة فتقول بداهة: لا شك أن هذا الترتيب لم يأت عن طريق المصادفة وإنما هو بفعل فاعل مختار ذي نظر صحيح.
ويعرض عليك بائع الساعات ساعة لتشتريها، فتسأل أو ما تسأله، بعد أن يسرّك شكلها ـ عن الصانع الذي صنعها، لتعرف مستوى مهارته، وجودة صناعته وخبرته، حتى تطمئن على حسن سيرها في المستقبل، وعلى دقة ضبطها للوقت، لأنك تعلم أنه يتوقف ما تطلبه منها من ضبط ومتانة على مقدار مهارة الصانع وإتقانه ونصحه.
إننا نؤمن بالصانع بداهة في كل الأمور الجزئية متى كانت موافقة للحكمة والمصلحة.
أفلا نؤمن بالصانع الحكيم، بالله رب العالمين من خلال موجودات لا تُحصى في هذا الكون كل جزء فيها موضوع في مكان لو وضع في غيره لتعطلت الحكمة منه، ولاختلت المصلحة، ولو وضع غيره في مكان لحصل الخلل أيضاً في الترتيب والنظام ووجه الإتقان؟!.
إن إتقان الصنعة في هذا العالم الزاخر بالمتقنات، دليل واضح على الصانع المُتقن الحكيم العليم، يشهده من الناس العالم والجاهل، الغبي والعاقل، الصغير والكبير، ويحكم به بداهة بأن الله حق، وهو على كل شيء قدير وليس فوق حكم البداهة حكم لعاقل.
هذا عرض «لدليل الإتقان»
وقد سماه الكثيرون: «دليل العناية»
لأن ظاهرة الإتقان يلاحظ أو ما يُلاحظ عناية الله الحكيم العليم بخلقه، وتهيئته صور الإتقان المناسب لمصالحهم.
التنبيه القرآني على مضمون هذا الدليل:
ولقد جاء التنبيه إلى مضمون هذا الدليل بشكل مجمل في قوله تعالى في سورة النمل: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ.
كما جاء إيضاحه في كثير من آيات القرآن الكريم، على وجه فيه شيء من التفصيل والتنبيه إلى كثير من صور الإتقان البديع في هذه المتقنات الكونية، حيث لم يوجد شيء منه إلا متقناً محكماً.
ومنها قوله تعالى في سورة النبأ:
أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًاوَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا.
ففي هذه الآيات من سورة النبأ تنبيه إلى جزئيات كثيرة يتجلى فيها إتقان صنع الله لمن تدبر وعقل.
ومنها قوله تعالى في سورة عبس:
قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَه فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ.
وفي هذه الآيات أيضاً من سورة عبس، صورة كثيرة من صور إتقان صنع الله، في خلق الإنسان، وفي خلق ما يحتاجه في حياته من طعام نباتي وطعام حيواني، وما يحتاجه في حياته من وسائل نقل حيوانية إنها صورة متكررة فيما نشاهد في هذه الأرض.
ولكنّ فيها عبراً كثيرة تنطق بعظمة متقنها وخالقها، لمن أراد أن يذكّر أو أراد أن يكون شاكراً لنعم الله التي لا تُحصى.
- ومنها قوله تعالى في سورة الفرقان:
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا.
وهاتان آيتان من سورة الفرقان فيهما تنبيه إلى مظاهر إتقان صنع الله في الشمس والقمر والنجوم وتعاقب الليل والنهار. وفي هذا المظهر من مظاهر صنع الله المُتقن مجال واسع لعلماء الفلك الباحثين.
إنتهى والحمد لله رب العالمين اللهم ماجعل أعمالنا خواتيمها واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله