ابوالمنذر
08-07-2007, 07:41 AM
(10)الأسباب التي تُنال بها رحمة أرحم الراحمين أو ( المرحومون في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة ).
( المرحومون فى كلام الله U )
1- المؤمنون.
2- المطيعون لله U ورسوله r .
3،4- المتبعون لكلام الله المنصتون بقلوبهم وأرواحهم.
5- المستغفرون.
6- التوابون.
7- المتقون.
8- الصابرون.
9- المجاهدون والمهاجرون فى سبيل الله U.
10- المحسنون.
11- المنفقون فى سبيل الله U
12- المصلحون.
13- أهل الإتلاف والجماعة .
14- بعض الخصال السابقة وزاد عليها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
1- الإيمان بالله U :
قال U {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء:175)
قال الشيخ السعدي ’: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ } أي: اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل، وتنزيهه من كل نقص وعيب. { وَاعْتَصَمُوا بِهِ } أي: لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرؤوا من حولهم وقوتهم واستعانوا بربهم. { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } أي: فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة، فيوفقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات، ويدفع عنهم البليات والمكروهات{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } أي: يوفقهم للعلم والعمل، معرفة الحق والعمل به([1]).
وقال U { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } (الجاثـية:30) وقال U { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (الحديد:28) .
2- طاعة الله U ورسوله r :
قال U {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132) قال العلامة السعدي ’: فى قوله U { وأطيعوا الله والرسول } بفعل الأوامر امتثالا واجتناب النواهي { لعلكم ترحمون }
فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } الآيات([2]).
وقال U {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (النور:56)
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ t أَنَّهَا قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شَقَقْنَ أَكْنَفَ - قَالَ ابْنُ صَالِحٍ أَكْثَفَ - مُرُوطِهِنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا.
3- إتباع القرآن والعمل به:
قال U { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155)
قال العلامة السعدي ’:
{ وَهَذَا } القرآن العظيم، والذكر الحكيم. { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أي: فيه الخير الكثير والعلم الغزير، وهو الذي تستمد منه سائر العلوم، وتستخرج منه البركات، فما من خير إلا وقد دعا إليه ورغب فيه، وذكر الحكم والمصالح التي تحث عليه، وما من شر إلا وقد نهى عنه وحذر منه، وذكر الأسباب المنفرة عن فعله وعواقبها الوخيمة { فَاتَّبِعُوهُ } فيما يأمر به وينهى، وابنوا أصول دينكم وفروعه عليه { وَاتَّقُوا } الله تعالى أن تخالفوا له أمرا { لَعَلَّكُمْ } إن اتبعتموه { تُرْحَمُونَ } فأكبر سبب لنيل رحمة الله إتباع هذا الكتاب، علمًا وعملًا([3]).
4- الاستماع و الإنصات للقرآن وتدبره:
قال U {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف:204)
قال العلامة السعدي ’:
هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب اللّه يُتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.
وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يُتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب اللّه حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير.
ومن أوكد ما يؤمر به مستمع القرآن، أن يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: إن اشتغاله بالإنصات، أولى من قراءته الفاتحة، وغيرها([4]).
5- الاستغفار:
قال U على لسان صالح u { قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النمل:46)
قال الشوكاني ’ ([5])
{ قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } أي قال صالح u للفريق الكافر منهم منكراً عليهم : لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ قال مجاهد : بالعذاب قبل الرحمة . والمعنى : لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدّمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون : ائتنا يا صالح بالعذاب { لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله } هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا .
قال العلامة السعدي ’:
{ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } أي: لم تبادرون فعل السيئات وتحرصون عليها قبل فعل الحسنات التي بها تحسن أحوالكم وتصلح أموركم الدينية والدنيوية؟ والحال أنه لا موجب لكم إلى الذهاب لفعل السيئات؟. { لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ } بأن تتوبوا من شرككم وعصيانكم وتدعوه أن يغفر لكم، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فإن رحمة الله تعالى قريب من المحسنين والتائب من الذنوب هو من المحسنين([6]) .
6- التوبة :
قال U {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:54)
قال العلامة السعدي ’:
وإذا جاءك المؤمنون، فحَيِّهم ورحِّب بهم ولَقِّهم منك تحية وسلاما، وبشرهم بما ينشط عزائمهم وهممهم، من رحمة الله، وسَعة جوده وإحسانه، وحثهم على كل سبب وطريق، يوصل لذلك.
ورَهِّبْهم من الإقامة على الذنوب، وأْمُرْهم بالتوبة من المعاصي، لينالوا مغفرة ربهم وجوده، ولهذا قال: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } أي: فلا بد مع ترك الذنوب والإقلاع، والندم عليها، من إصلاح العمل، وأداء ما أوجب الله، وإصلاح ما فسد من الأعمال الظاهرة والباطنة.
وقال U { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53) .
قال العلامة السعدي ’:
يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه، ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال: { قُلْ } يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه، مخبرا للعباد عن ربهم: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، والسعي في مساخط علام الغيوب.
{ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار. { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي: وصفه المغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مائمة للموجود، تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته، .ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غيره، الإنابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد، فهلم إلى هذا السبب الأجل، والطريق الأعظم([7]).
7- التقوى :
قال U على لسان نوح u {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الأعراف:63)
قال العلامة السعدي ’([8]):
وقوله: { لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي: لينذركم العذاب الأليم، وتفعلوا الأسباب المنجية من استعمال تقوى اللّه ظاهرا وباطنا، وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة اللّه الواسعة.
وقال U { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ}(الأعراف: من الآية156)
قال العلامة السعدي ’([9]):
{ قَالَ } اللّه تعالى { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ } ممن كان شقيا، متعرضا لأسبابه، { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة اللّه، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } المعاصي، صغارها وكبارها.
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } الواجبة مستحقيها { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ومن تمام الإيمان بآيات اللّه معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك إتباع النبي r ظاهرا وباطنا، في أصول الدين وفروعه.
8- الصبر عند المصائب:
قال U { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ( 157) البقرة) .
قال العلامة السعدي ’([10]):
أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن، ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ } من الأعداء { وَالْجُوعِ } أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك.
{ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ } وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية، وغرق، وضياع، وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة، وقطاع الطريق وغير ذلك.
{ وَالأنْفُسِ } أي: ذهاب الأحباب من الأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه، { وَالثَّمَرَاتِ } أي: الحبوب، وثمار النخيل، والأشجار كلها، والخضر ببرد، أو برد، أو حرق، أو آفة سماوية، من جراد ونحوه.
فهذه الأمور، لا بد أن تقع، لأن العليم الخبير، أخبر بها، فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع، حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران، وحصل [له] السخط الدال على شدة النقصان.
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط، قولا وفعلا واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
فالصابرين، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.
{ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ } أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد، علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك، الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجع إليه، من أقوى أسباب الصبر.
{ أُولَئِكَ } الموصوفون بالصبر المذكور { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: ثناء وتنويه بحالهم { وَرَحْمَةٌ } عظيمة، ومن رحمته إياهم، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع، علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.
ودلت هذه الآية، على أن من لم يصبر، فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة، والضلال والخسارة، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين، وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، لتخف وتسهل، إذا وقعت، وبيان ما تقابل به، إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر، بضد حال الصابر.
وأن هذا الابتلاء والامتحان، سنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تبديلا وبيان أنواع المصائب.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t : نعم العدْلان ونعمت العلاوة { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فهذان العدلان { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء، أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا([11]).
وقد خصت بعض الإحاديث بعض هذه المصائب كونها رحمة منها :-
- فقد الولد وبوب البخاري ’ بقوله ( بَاب فَضْل مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَد فَاحْتَسَبَ )
وقَوْله تعالى : ( وَقَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ ) ثم ذكر أحاديث منها:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ :عَنْ النَّبِيِّ ‘ قَالَ : (( لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ))
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ (محمد بن إسماعيل البخاري ’)
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا }
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‘ قَالَ : ((لِنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبَهُ إِلَّا دَخَلَتْ الْجَنَّةَ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ أَوْ اثْنَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَوْ اثْنَيْنِ([12]) ))
عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ‘ : (( مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ ([13])))
قَوْله : ( بَاب فَضْل مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَد فَاحْتَسَبَ )
قَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير : عَبَّرَ الْمُصَنِّف بِالْفَضْلِ لِيَجْمَع بَيْن مُخْتَلِف الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة الَّتِي أَوْرَدَهَا ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّل دُخُول الْجَنَّة ، وَفِي الثَّانِي الْحَجْب عَنْ النَّار ، وَفِي الثَّالِث تَقْيِيد الْوُلُوج بِتَحِلَّةِ الْقَسَم ، وَفِي كُلّ مِنْهَا ثُبُوت الْفَضْل لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ . وَيُجْمَع بَيْنهَا بِأَنْ يُقَال : الدُّخُول لَا يَسْتَلْزِم الْحَجْب فَفِي ذِكْر الْحَجْب فَائِدَة زَائِدَة لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِم الدُّخُول مِنْ أَوَّل وَهْلَة ، وَأَمَّا الثَّالِث فَالْمُرَاد بِالْوُلُوجِ الْوُرُود وَهُوَ الْمُرُور عَلَى النَّار كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْث فِيهِ عِنْد قَوْله " إِلَّا تَحِلَّة الْقَسَم " وَالْمَارّ عَلَيْهَا عَلَى أَقْسَام : مِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْمَع حَسِيسهَا وَهُمْ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْحُسْنَى مِنْ اللَّه كَمَا فِي الْقُرْآن ، فَلَا تَنَافِي مَعَ هَذَا بَيْن الْوُلُوج وَالْحَجْب ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ " وَلَد " لِيَتَنَاوَل الْوَاحِد فَصَاعِدًا وَإِنْ كَانَ حَدِيث الْبَاب قَدْ قُيِّدَ بِثَلَاثَةٍ أَوْ اِثْنَيْنِ ، لَكِنْ وَقَعَ فِي بَعْض طُرُقه ذِكْر الْوَاحِد.......ثم قال ’: وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْ هَذِهِ الطُّرُق مَا يَصْلُح لِلِاحْتِجَاجِ .... ثم قال ’: وَهَذِهِ الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة أَصَحّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَة ، لَكِنْ رَوَى الْمُصَنِّف مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاق مَرْفُوعًا " يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِن عِنْدِي جَزَاء إِذَا قَبَضْت صَفِيّه مِنْ أَهْل الدُّنْيَا ثُمَّ اِحْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّة " وَهَذَا يَدْخُل فِيهِ الْوَاحِد فَمَا فَوْقه ، وَهُوَ أَصَحّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ ، وَقَوْله " فَاحْتَسَبَ " أَيْ صَبَرَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّه رَاجِيًا فَضْله ، وَلَمْ يَقَع التَّقْيِيد بِذَلِكَ أَيْضًا فِي أَحَادِيث الْبَاب ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْض طُرُقه أَيْضًا كَمَا فِي حَدِيث جَابِر بْن سَمُرَة الْمَذْكُور قَبْلُ ، وَكَذَا فِي حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه ، وَفِي رِوَايَة اِبْن حِبَّان وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق حَفْص بْن عُبَيْد اللَّه بْن أَنَس عَنْ أَنَس رَفَعَهُ " مَنْ اِحْتَسَبَ مِنْ صُلْبه ثَلَاثَة دَخَلَ الْجَنَّة " الْحَدِيث ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَرْفُوعًا " لَا يَمُوت لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَة مِنْ الْوَلَد فَتَحْتَسِبهُمْ إِلَّا دَخَلَتْ الْجَنَّة " الْحَدِيث ، وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِر رَفَعَهُ " مَنْ أَعْطَى ثَلَاثَة مِنْ صُلْبه فَاحْتَسَبَهُمْ عَلَى اللَّه وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة " وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ أَبِي النَّضْر السُّلَمِيّ رَفَعَهُ " لَا يَمُوت لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَة مِنْ الْوَلَد فَيَحْتَسِبهُمْ إِلَّا كَانُوا جُنَّة مِنْ النَّار " الْحَدِيث . وَقَدْ عُرِفَ مِنْ الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة أَنَّ الثَّوَاب لَا يَتَرَتَّب إِلَّا عَلَى النِّيَّة ، فَلَا بُدّ مِنْ قَيْد الِاحْتِسَاب ، وَالْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة مَحْمُولَة عَلَى الْمُقَيَّدَة ، وَلَكِنْ أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيّ إِلَى اِعْتِرَاض لَفْظِيّ فَقَالَ : يُقَال فِي الْبَالِغ اِحْتَسَبَ وَفِي الصَّغِير اِفْتَرَطَ اِنْتَهَى . وَبِذَلِكَ قَالَ الْكَثِير مِنْ أَهْل اللُّغَة ، لَكِنْ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْن ذَلِكَ هُوَ الْأَصْل أَنْ لَا يُسْتَعْمَل هَذَا مَوْضِع هَذَا ، بَلْ ذَكَرَ اِبْن دُرَيْد وَغَيْره اِحْتَسَبَ فُلَان بِكَذَا طَلَبَ أَجْرًا عِنْد اللَّه ، وَهَذَا أَعَمّ مِنْ أَنْ يَكُون لِكَبِيرٍ أَوْ صَغِير ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ حُجَّة فِي صِحَّة هَذَا الِاسْتِعْمَال .
قَوْله : ( وَقَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ )
فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَالْأَصِيلِيّ " وَقَالَ اللَّه " وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة وَقَدْ وُصِفَ فِيهَا الصَّابِرُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) فَكَأَنَّ الْمُصَنِّف أَرَادَ تَقْيِيد مَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيث بِهَذِهِ الْآيَة الدَّالَّة عَلَى تَرْك الْقَلَق وَالْجَزَع ، وَلَفْظ " الْمُصِيبَة " فِي الْآيَة وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَنَاوَل الْمُصِيبَة بِالْوَلَدِ فَهُوَ مِنْ أَفْرَاده ([14]) .
عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ‘ : (( مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ ([15])))
قَوْله : ( لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْث ) )
وَفَسَّرَهُ بِأَنَّ الْمُرَاد لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَعْمَلُوا الْمَعَاصِي ، قَالَ وَلَمْ يَذْكُرهُ كَذَلِكَ غَيْره ، وَالْمَحْفُوظ الْأَوَّل ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم فَتُكْتَب عَلَيْهِمْ الْآثَام . قَالَ الْخَلِيل : بَلَغَ الْغُلَام الْحِنْث إِذَا جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَم ، وَالْحِنْث الذَّنْب قَالَ اللَّه تَعَالَى ( وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْث الْعَظِيم ) وَقِيلَ الْمُرَاد بَلَغَ إِلَى زَمَان يُؤَاخَذ بِيَمِينِهِ إِذَا حَنِثَ ، وَقَالَ الرَّاغِب : عَبَّرَ بِالْحِنْثِ عَنْ الْبُلُوغ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَان يُؤَاخَذ بِمَا يَرْتَكِبهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا قَبْله ، وَخُصَّ الْإِثْم بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَحْصُل بِالْبُلُوغِ لِأَنَّ الصَّبِيّ قَدْ يُثَاب ، وَخَصَّ الصَّغِير بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفَقَة عَلَيْهِ أَعْظَم وَالْحُبّ لَهُ أَشَدّ وَالرَّحْمَة لَهُ أَوْفَر ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ بَلَعَ الْحِنْث لَا يَحْصُل لِمَنْ فَقَدَهُ مَا ذُكِرَ مِنْ هَذَا الثَّوَاب وَإِنْ كَانَ فِي فَقْد الْوَلَد أَجْر فِي الْجُمْلَة ، وَبِهَذَا صَرَّحَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء ، وَفَرَّقُوا بَيْن الْبَالِغ وَغَيْره بِأَنَّهُ يُتَصَوَّر مِنْهُ الْعُقُوق الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الرَّحْمَة بِخِلَافِ الصَّغِير فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّر مِنْهُ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ ، وَقَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير : بَلْ يَدْخُل الْكَبِير فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيق الْفَحْوَى لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الطِّفْل الَّذِي هُوَ كَلّ عَلَى أَبَوَيْهِ فَكَيْفَ لَا يَثْبُت فِي الْكَبِير الَّذِي بَلَغَ مَعَهُ السَّعْي وَوَصَلَ لَهُ مِنْهُ النَّفْع وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَاب بِالْحُقُوقِ ؟ قَالَ : وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِلْغَاء الْبُخَارِيّ التَّقْيِيد بِذَلِكَ فِي التَّرْجَمَة . اِنْتَهَى . وَيُقَوِّي الْأَوَّل قَوْله فِي بَقِيَّة الْحَدِيث " بِفَضْلِ رَحْمَته إِيَّاهُمْ " لِأَنَّ الرَّحْمَة لِلصِّغَارِ أَكْثَر لِعَدَمِ حُصُول الْإِثْم مِنْهُمْ ، وَهَلْ يَلْتَحِق بِالصِّغَارِ مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مَثَلًا وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ ؟ فِيهِ نَظَر لِأَنَّ كَوْنهمْ لَا إِثْم عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي الْإِلْحَاق ، وَكَوْن الِامْتِحَان بِهِمْ يَخِفّ بِمَوْتِهِمْ يَقْتَضِي عَدَمه ، وَلَمْ يَقَع التَّقْيِيد فِي طُرُق الْحَدِيث بِشِدَّةِ الْحُبّ وَلَا عَدَمه ، وَكَانَ الْقِيَاس يَقْتَضِي ذَلِكَ لِمَا يُوجَد مِنْ كَرَاهَة بَعْض النَّاس لِوَلَدِهِ وَتَبَرُّمه مِنْهُ وَلَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ ضَيِّق الْحَال ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَلَد مَظِنَّة الْمَحَبَّة وَالشَّفَقَة نِيطَ بِهِ الْحُكْم وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي بَعْض الْأَفْرَاد .
قَوْله ( إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّه الْجَنَّة )
فِي حَدِيث عُتْبَة بْن عَبْد اللَّه السُّلَمِيّ عِنْد اِبْن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَن نَحْو حَدِيث الْبَاب لَكِنْ فِيهِ " إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة الثَّمَانِيَة مِنْ أَيّهَا شَاءَ دَخَلَ " وَهَذَا زَائِد عَلَى مُطْلَق دُخُول الْجَنَّة ، وَيَشْهَد لَهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح مِنْ حَدِيث مُعَاوِيَة بْن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا فِي أَثْنَاء حَدِيث " مَا يَسُرّك أَنْ لَا تَأْتِي بَابًا مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة إِلَّا وَجَدْته عِنْده يَسْعَى يُفْتَح لَك " .
قَوْله ( بِفَضْلِ رَحْمَته إِيَّاهُمْ )
أَيْ بِفَضْلِ رَحْمَة اللَّه لِلْأَوْلَادِ . وَقَالَ اِبْن التِّين : قِيلَ إِنَّ الضَّمِير فِي رَحْمَته لِلْأَبِ لِكَوْنِهِ كَانَ يَرْحَمهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُجَازَى بِالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَة وَالْأَوَّل أَوْلَى ، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ فِي رِوَايَة اِبْن مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْه " بِفَضْلِ رَحْمَة اللَّه إِيَّاهُمْ " وَلِلنَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ " إِلَّا غَفَرَ اللَّه لَهُمَا بِفَضْلِ رَحْمَته " وَلِلطَّبَرَانِيّ وَابْن حِبَّانَ مِنْ حَدِيث الْحَارِث بْن أُقَيْش وَهُوَ بِقَافٍ وَمُعْجَمَة مُصَغَّر مَرْفُوعًا " مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوت لَهُمَا أَرْبَعَة أَوْلَاد إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّه الْجَنَّة بِفَضْلِ رَحْمَته " وَكَذَا فِي حَدِيث عَمْرو بْن عَبَسَة كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : الظَّاهِر أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " إِيَّاهُمْ " جِنْس الْمُسْلِم الَّذِي مَاتَ أَوْلَاده لَا الْأَوْلَاد ، أَيْ بِفَضْلِ رَحْمَة اللَّه لِمَنْ مَاتَ لَهُمْ ، قَالَ وَسَاغَ الْجَمْع لِكَوْنِهِ نَكِرَة فِي سِيَاق النَّفْي فَتُعَمَّمَ اِنْتَهَى . وَهَذَا الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ ظَاهِر لَيْسَ بِظَاهِرٍ ، بَلْ فِي غَيْر هَذَا الطَّرِيق مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الضَّمِير لِلْأَوْلَادِ ، فَفِي حَدِيث عَمْرو بْن عَبَسَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ " إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّه بِرَحْمَتِهِ هُوَ وَإِيَّاهُمْ الْجَنَّة " وَفِي حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة الْأَشْجَعِيّ الْمُقَدَّم ذِكْره " أَدْخَلَهُ اللَّه الْجَنَّة بِفَضْلِ رَحْمَته إِيَّاهُمْ " قَالَهُ بَعْد قَوْله " مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدَانِ " فَوَضَح بِذَلِكَ أَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله " إِيَّاهُمْ " لِلْأَوْلَادِ لَا لِلْآبَاءِ وَاَللَّه أَعْلَم([16]) .
- الطاعون رحمة فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ t زَوْجِ النَّبِىِّ r قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ r عَنِ الطَّاعُونِ ، فَأَخْبَرَنِى « أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِى بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ » ([17]).
قَوْله : ( فَجَعَلَهُ اللَّه رَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ )
أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة ، وَفِي حَدِيث أَبِي عَسِيب عِنْد أَحْمَد " فَالطَّاعُون شَهَادَة لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة لَهُمْ ، وَرِجْس عَلَى الْكَافِر " وَهُوَ صَرِيح فِي أَنَّ كَوْن الطَّاعُون رَحْمَة إِنَّمَا هُوَ خَاصّ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا وَقَعَ بِالْكَفَّارِ فَإِنَّمَا هُوَ عَذَاب عَلَيْهِمْ يُعَجَّل لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْل الْآخِرَة ، وَأَمَّا الْعَاصِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة فَهَلْ يَكُون الطَّاعُون لَهُ شَهَادَة أَوْ يَخْتَصّ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِل ؟ فِيهِ نَظَر . وَالْمُرَاد بِالْعَاصِي مَنْ يَكُون مُرْتَكِب الْكَبِيرَة وَيَهْجُم عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ مُصِرّ ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يُقَال لَا يُكَرَّم بِدَرَجَةِ الشَّهَادَة لِشُؤْمِ مَا كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اِجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الطَّاعُون يَنْشَأ عَنْ ظُهُور الْفَاحِشَة ، أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ " لَمْ تَظْهَر الْفَاحِشَة فِي قَوْم قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُون وَالْأَوْجَاع الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافهمْ " الْحَدِيث ،...ثم ذكر أحاديث وَلِأَحْمَد مِنْ حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعًا " لَا تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ وَلَد الزِّنَا ، فَإِذَا فَشَا فِيهِمْ وَلَد الزِّنَا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمْ اللَّه بِعِقَابٍ " وَسَنَده حَسَن . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّ الطَّاعُون قَدْ يَقَع عُقُوبَة بِسَبَبِ الْمَعْصِيَة ، فَكَيْف يَكُون شَهَادَة ؟ وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال : بَلْ تَحْصُل لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة لِعُمُومِ الْأَخْبَار الْوَارِدَة ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْله عَنْ أَنَس " الطَّاعُون شَهَادَة لِكُلِّ مُسْلِم " وَلَا يَلْزَم مِنْ حُصُول دَرَجَة الشَّهَادَة لِمَنْ اجْتَرَحَ السَّيِّئَات مُسَاوَاة الْمُؤْمِن الْكَامِل فِي الْمَنْزِلَة ، لِأَنَّ دَرَجَات الشُّهَدَاء مُتَفَاوِتَة كَنَظِيرِهِ مِنْ الْعُصَاة إِذَا قُتِلَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيل اللَّه لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا مُقْبِلًا غَيْر مُدْبِر ، وَمِنْ رَحْمَة اللَّه بِهَذِهِ الْأُمَّة الْمُحَمَّدِيَّة أَنْ يُعَجَّل لَهُمْ الْعُقُوبَة فِي الدُّنْيَا ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَحْصُل لِمَنْ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُون أَجْر الشَّهَادَة ، وَلَا سِيَّمَا وَأَكْثَرهمْ لَمْ يُبَاشِر تِلْكَ الْفَاحِشَة ، وَإِنَّمَا عَمَّهُمْ - وَاَللَّه أَعْلَم - لِتَقَاعُدِهِمْ عَنْ إِنْكَار الْمُنْكَر . وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَد وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث عُتْبَة بْن عُبَيْد رَفَعَهُ " الْقَتْل ثَلَاثَة : رَجُل جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل اللَّه ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَل ، فَذَاكَ الشَّهِيد الْمُفْتَخِر فِي خَيْمَة اللَّه تَحْت عَرْشه لَا يَفْضُلهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّة . وَرَجُل مُؤْمِن قَرَفَ عَلَى نَفْسه مِنْ الذُّنُوب وَالْخَطَايَا ، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل اللَّه ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَل فَانْمَحَتْ خَطَايَاهُ ، إِنَّ السَّيْف مَحَّاء لِلْخَطَايَا . وَرَجُل مُنَافِق جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله حَتَّى يُقْتَل فَهُوَ فِي النَّار ، إِنَّ السَّيْف لَا يَمْحُو النِّفَاق " وَأَمَّا الْحَدِيث الْآخَر الصَّحِيح " إِنَّ الشَّهِيد يُغْفَر لَهُ كُلّ شَيْء إِلَّا الدَّيْن " فَإِنَّهُ يُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الشَّهَادَة لَا تُكَفِّر التَّبِعَات ، وَحُصُول التَّبِعَات لَا يَمْنَع حُصُول دَرَجَة الشَّهَادَة ، وَلَيْسَ لِلشَّهَادَةِ مَعْنًى إِلَّا أَنَّ اللَّه يُثِيب مَنْ حَصَلَتْ لَهُ ثَوَابًا مَخْصُوصًا وَيُكْرِمهُ كَرَامَة زَائِدَة ، وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيث أَنَّ اللَّه يَتَجَاوَز عَنْهُ مَا عَدَا التَّبِعَات ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ لِلشَّهِيدِ أَعْمَالًا صَالِحَة وَقَدْ كَفَّرَتْ الشَّهَادَة أَعْمَاله السَّيِّئَة غَيْر التَّبِعَات فَإِنَّ أَعْمَاله الصَّالِحَة تَنْفَعهُ فِي مُوَازَنَة مَا عَلَيْهِ مِنْ التَّبِعَات وَتَبْقَى لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة خَالِصَة ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَال صَالِحَة فَهُوَ فِي الْمَشِيئَة ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( فَلَيْسَ مِنْ عَبْد )
أَيْ مُسْلِم
( يَقَع الطَّاعُون )
أَيْ فِي مَكَان هُوَ فِيهِ
( فَيَمْكُث فِي بَلَده )
فِي رِوَايَة أَحْمَد " فِي بَيْته " ، وَيَأْتِي فِي الْقَدَر بِلَفْظِ " يَكُون فِيهِ وَيَمْكُث فِيهِ وَلَا يَخْرُج مِنْ الْبَلَد " أَيْ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُون .
قَوْله : ( صَابِرًا )
أَيْ غَيْر مُنْزَعِج وَلَا قَلِق ، بَلْ مُسَلِّمًا لِأَمْرِ اللَّه رَاضِيًا بِقَضَائِهِ ، وَهَذَا قَيْد فِي حُصُول أَجْر الشَّهَادَة لِمَنْ يَمُوت بِالطَّاعُونِ ، وَهُوَ أَنْ يَمْكُث بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقَع بِهِ فَلَا يَخْرُج فِرَارًا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ النَّهْي عَنْهُ فِي الْبَاب قَبْله صَرِيحًا .
وَقَوْله : " يَعْلَم أَنَّهُ لَنْ يُصِيبهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَهُ "
قَيْد آخَر ، وَهِيَ جُمْلَة حَالِيَّة تَتَعَلَّق بِالْإِقَامَةِ ، فَلَوْ مَكَثَ وَهُوَ قَلِق أَوْ مُتَنَدِّم عَلَى عَدَم الْخُرُوج ظَانًّا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمَا وَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَأَنَّهُ بِإِقَامَتِهِ يَقَع بِهِ فَهَذَا لَا يَحْصُل لَهُ أَجْر الشَّهِيد وَلَوْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ ، هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه مَفْهُوم هَذَا الْحَدِيث كَمَا اِقْتَضَى مَنْطُوقه أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة يَحْصُل لَهُ أَجْر الشَّهِيد وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ وَيَدْخُل تَحْته ثَلَاث صُوَر : أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ فَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُون فَمَاتَ بِهِ ، أَوْ وَقَعَ بِهِ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ ، أَوْ لَمْ يَقَع بِهِ أَصْلًا وَمَاتَ بِغَيْرِهِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا .
قَوْله : ( مِثْل أَجْر الشَّهِيد )
لَعَلَّ السِّرّ فِي التَّعْبِير بِالْمِثْلِيَّةِ مَعَ ثُبُوت التَّصْرِيح بِأَنَّ مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ كَانَ شَهِيدًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالطَّاعُونِ كَانَ لَهُ مِثْل أَجْر الشَّهِيد وَإِنْ لَمْ تَحْصُل لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة بِعَيْنِهَا وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا أَعْلَى دَرَجَة مِمَّنْ وُعِدَ بِأَنَّهُ يُعْطَى مِثْل أَجْر الشَّهِيد ، وَيَكُون كَمَنْ خَرَجَ عَلَى نِيَّة الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا فَمَاتَ بِسَبَبٍ غَيْر الْقَتْل ، وَأَمَّا مَا اِقْتَضَاهُ مَفْهُوم حَدِيث الْبَاب أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة وَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُون ثُمَّ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْصُل لَهُ ثَوَاب الشَّهِيد فَشَهِدَ لَهُ حَدِيث اِبْن مَسْعُود الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن عُبَيْد بْن رِفَاعَة أَنَّ أَبَا مُحَمَّد أَخْبَرَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُول اللَّه ‘ قَالَ . " إِنَّ أَكْثَر شُهَدَاء أُمَّتِي لَأَصْحَاب الْفُرُش ، وَرُبَّ قَتِيل بَيْن الصَّفَّيْنِ اللَّه أَعْلَم بِنِيَّتِهِ " وَالضَّمِير فِي قَوْله أَنَّهُ لِابْنِ مَسْعُود فَإِنَّ أَحْمَد أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَد اِبْن مَسْعُود وَرِجَال سَنَده مُوَثَّقُونَ ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْ الْحَدِيث أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُون فَمَاتَ بِهِ أَنْ يَكُون لَهُ أَجْر شَهِيدَيْنِ ، وَلَا مَانِع مِنْ تَعَدُّد الثَّوَاب بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَاب كَمَنْ يَمُوت غَرِيبًا بِالطَّاعُونِ ، أَوْ نُفَسَاء مَعَ الصَّبْر وَالِاحْتِسَاب ، وَالتَّحْقِيق فِيمَا اِقْتَضَاهُ حَدِيث الْبَاب أَنَّهُ يَكُون شَهِيدًا بِوُقُوعِ الطَّاعُون بِهِ وَيُضَاف لَهُ مِثْل أَجْر الشَّهِيد لِصَبْرِهِ وَثَبَاته ، فَإِنَّ دَرَجَة الشَّهَادَة شَيْء وَأَجْر الشَّهَادَة شَيْء ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة وَقَالَ : هَذَا هُوَ السِّرّ فِي قَوْله " وَالْمَطْعُون شَهِيد " وَفِي قَوْله فِي هَذَا : " فَلَهُ مِثْل أَجْر شَهِيد " وَيُمْكِن أَنْ يُقَال : بَلْ دَرَجَات الشُّهَدَاء مُتَفَاوِتَة ، فَأَرْفَعهَا مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة وَمَاتَ بِالطَّاعُونِ ، وَدُونه فِي الْمَرْتَبَة مَنْ اِتَّصَفَ بِهَا وَطُعِنَ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ ، وَدُونه مَنْ اِتَّصَفَ وَلَمْ يُطْعَن وَلَمْ يَمُتْ بِهِ . وَيُسْتَفَاد مِنْ الْحَدِيث أَيْضًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِف بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة لَا يَكُون شَهِيدًا وَلَوْ وَقَعَ الطَّاعُون وَمَاتَ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوت بِغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ يَنْشَأ عَنْ شُؤْم الِاعْتِرَاض الَّذِي يَنْشَأ عَنْهُ التَّضَجُّر وَالتَّسَخُّط لِقَدَرِ اللَّه وَكَرَاهَة لِقَاء اللَّه ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور الَّتِي تَفُوت مَعَهَا الْخِصَال الْمَشْرُوطَة ، وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض الْأَحَادِيث اِسْتِوَاء شَهِيد الطَّاعُون وَشَهِيد الْمَعْرَكَة ، فَأَخْرَجَ أَحْمَد بِسَنَدٍ حَسَن عَنْ عُتْبَة بْن عَبْد السُّلَمِيّ رَفَعَهُ " يَأْتِي الشُّهَدَاء وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ ، فَيَقُول أَصْحَاب الطَّاعُون : نَحْنُ شُهَدَاء ، فَيُقَال : اُنْظُرُوا فَإِنْ كَانَ جِرَاحهمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاء تَسِيل دَمًا وَرِيحهَا كَرِيحِ الْمِسْك فَهُمْ شُهَدَاء ، فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ " . وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة أَخْرَجَهُ أَحْمَد أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَن أَيْضًا بِلَفْظِ " يَخْتَصِم الشُّهَدَاء وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشهمْ إِلَى رَبّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي الَّذِينَ مَاتُوا بِالطَّاعُونِ ، فَيَقُول الشُّهَدَاء : إِخْوَاننَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا ، وَيَقُول الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى فُرُشهمْ إِخْوَاننَا مَاتُوا عَلَى فُرُشهمْ كَمَا مُتْنَا ، فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : اُنْظُرُوا إِلَى جِرَاحهمْ ، فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاح الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ ، فَإِذَا جِرَاحهمْ أَشْبَهَتْ جِرَاحهمْ " زَادَ الْكَلَابَاذِيّ فِي " مَعَانِي الْأَخْبَار " مِنْ هَذَا الْوَجْه فِي آخِره " فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ " ([18]).
9- الجهاد والهجرة فى سبيل الله U:
قال U { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة:218)
قال العلامة السعدي ’([19]):
هذه الأعمال الثلاثة، هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان، من الربح والخسران، فأما الإيمان، فلا تسأل عن فضيلته، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد، قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل، ولا فرض، ولا نفل.
وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف، لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله، وأهله، وخلانه، تقربا إلى الله ونصرة لدينه.
وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله، وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه، أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر، لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.
فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا.
فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله، لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل، وعدم القيام بالأسباب، فهذا عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه، ونقص عقله، بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح، ووجود الغلة بلا بذر وسقي، ونحو ذلك.
وفي قوله: { أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها، ويعول عليها، بل يرجو رحمة ربه، ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه، وستر عيوبه.
ولهذا قال: { وَاللَّهُ غَفُورٌ } أي: لمن تاب توبة نصوحا { رَحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء، وعم جوده وإحسانه كل حي.
وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة، حصل له مغفرة الله، إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.
وإذا حصلت له المغفرة، اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة، التي هي آثار الذنوب، التي قد غفرت واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة، حصل على كل خير في الدنيا والآخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم، فلولا توفيقه إياهم، لم يريدوها، ولولا إقدارهم عليها، لم يقدروا عليها، ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولا وآخرا، وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.
وقال U { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ(20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)} (التوبة) ، وقال U فى الجهاد { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً(95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) } (النساء) ، والشهادة فى سبيله Y قال U { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (آل عمران:157) .
10- الإحسان :
قال U { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(56) }(الأعراف) .
قال العلامة السعدي ’:
الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فأمر بدعائه { تَضَرُّعًا } أي: إلحاحا في المسألة، ودُءُوبا في العبادة، { وَخُفْيَةً } أي: لا جهرا وعلانية، يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصا للّه تعالى.
{ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي: المتجاوزين للحد في كل الأمور، ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل لا تصلح له، أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه.
{ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } بعمل المعاصي { بَعْدَ إِصْلاحِهَا } بالطاعات، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق، كما قال تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، وأحوال الدنيا والآخرة.
{ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها، وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاهٍ.
وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء: الإخلاص فيه للّه وحده، لأن ذلك يتضمنه الخفية، وإخفاؤه وإسراره، وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة، وهذا من إحسان الدعاء، فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ولهذا قال: { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه، المحسنين إلى عباد اللّه، فكلما كان العبد أكثر إحسانا، كان أقرب إلى رحمة ربه، وكان ربه قريبا منه برحمته، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى([20]).
11- الإنفاق فى سبيل الله U :
قال U { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (التوبة:99)
{ وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } في الجهاد والصدقات { قربات } أسباباً للقربة { عَندَ الله } وهو مفعول ثان ل { يَتَّخِذُ } { وصلوات الرسول } أي دعاءه لأنه Àكان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله «اللهم صل على آل أبي أوفى» { أَلا إِنَّهَا } أي النفقة أو صلوات الرسول { قُرْبَةٌ لَّهُمْ } { قُرْبَةٌ } نافع . وهذا شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه ، والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك { سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ } أي جنته وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله من المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها { إِنَّ الله غَفُورٌ } يستر عيب المخل { رَّحِيمٌ } يقبل جُهد المقل([21]).
{ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ } أي: يحتسب نفقته، ويقصد بها وجه اللّه تعالى والقرب منه { و } يجعلها وسيلة لـ { صَلَوَاتِ الرَّسُولِ } أي: دعائه لهم، وتبريكه عليهم، قال تعالى مبينا لنفع صلوات الرسول: { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } تقربهم إلى اللّه، وتنمي أموالهم وتحل فيها البركة. { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } في جملة عباده الصالحين إنه غفور رحيم، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه، ويعم عباده برحمته، التي وسعت كل شيء، ويخص عباده المؤمنين برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات، ويحميهم فيها من المخالفات، ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات([22]).
12- الإصلاح بين المسلمين ( إصلاح ذات البين):
قال U {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الحجرات:10)
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } هذا عقد، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون، ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النبي r آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبع أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا المؤمن أخو المؤمن،لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره" (2) .
وقال r "المؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبك r بين أصابعه.
ولقد أمر الله ورسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، وبما به يحصل التآلف والتوادد، والتواصل بينهم كل هذا، تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها [وتدابرها]، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم.
ثم أمر بالتقوى عمومًا ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى الله، الرحمة [ فقال: { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وإذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا والآخرة، ودل ذلك، على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة.
وفي هاتين الآيتين من الفوائد غير ما تقدم: أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا كان من أكبر الكبائر، وأن الإيمان والأخوة الإيمانية، لا تزول مع وجود القتال كغيره من الذنوب الكبار التي دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل، وعلى وجوب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى أمر الله، وعلى أنهم لو رجعوا، لغير أمر الله بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه والتزامه أنه لا يجوز ذلك، وأن أموالهم معصومة لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصةدون أموالهم([23]).
13- الإئتلاف والجماعة :
قال U {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118 ) إِلَّا مَنْ رَحِمَ (119)}(هود) وثبت فى السنة أن الجماعة رحمة فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ _ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ -‘- عَلَى الْمِنْبَرِ « مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ »([24]).
قال علامة القصيم ’: يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره.
{ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي.وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.
وقوله: { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد، عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء.{ وَ } لأنه { تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } فلا بد أن ييسر للنار أهلا يعملون بأعمالها الموصلة إليها([25]).
14- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
و قال U {َالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71)
وقوله: { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } كما قال تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران:104]
وقوله تعالى: { وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي: يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه، { وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: فيما أمر، وترك ما عنه زجر، { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } أي: سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: عزيز، من أطاعه أعزه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، { حَكِيمٌ } في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله، تبارك وتعالى([26]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) التفسير 217
([2]) التفسير 148
([3]) التفسير281
([4]) التفسير صـ 314 .
([5]) فتح القدير
([6]) التفسير
([7]) التفسير
([8]) التفسير
([9]) التفسير
([10]) التفسير
([11])تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 468)
([12]) متفق عليهما
([13]) متفق عليه وهذا لفظ البخاري
([14]) فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 273)
([15]) متفق عليه وهذا لفظ البخاري
([16]) فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 274)
([17]) ورووى الإمام أحمد فى مسنده بسنده عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الأَشْعَرِىِّ عَنْ رَابِّهِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ كَانَ خَلَفَ عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ أَبِيهِ كَانَ شَهِدَ طَاعُونَ عَمَوَاسَ قَالَ لَمَّا اشْتَعَلَ الْوَجَعُ قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ t فِى النَّاسِ خَطِيباً فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنْهُ حَظَّهُ. قَالَ: فَطُعِنَ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ t فَقَامَ خَطِيباً بَعْدَهُ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّ مُعَاذاً يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لآلِ مُعَاذٍ مِنْهُ حَظَّهُ. قَالَ فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاذٍ فَمَاتَ ثُمَّ قَامَ فَدَعَا رَبَّهُ لِنَفْسِهِ فَطُعِنَ فِى رَاحَتِهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ يُقَبِّلُ ظَهْرَ كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِمَا فِيكِ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا. فَلَمَّا مَاتَ اسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ t فَقَامَ فِينَا خَطِيباً فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ فَتَجَبَّلُوا مِنْهُ فِى الْجِبَالِ. قَالَ فَقَالَ لَهُ أَبُو وَاثِلَةَ الْهُذَلِىُّ كَذَبْتَ وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ r وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارِى هَذَا. قَالَ وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ وَايْمُ اللَّهِ لاَ نُقِيمُ عَلَيْهِ. ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَدَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ - فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t مِنْ رَأْىِ عَمْرٍو فَوَاللَّهِ مَا كَرِهَهُ.( قَالَ الشيخ شعيب الأرنؤوط ’ : صحيح وهذا إسناد ضعيف لضعف شهر : وهو ابن حوشب.)
([18]) فتح الباري لابن حجر
([19]) التفسير
([20]) التفسير
([21])تفسير النسفي - (ج 1 / ص 461)
([22])تفسير السعدي - (ج 1 / ص 349)
([23])تفسير السعدي - (ج 1 / ص 800)
([24])رواه عبد الله بن الإمام أحمد فى زوائده على المسند وحسنه الألباني فى الصحيحة برقم 667.
([25])تفسير السعدي - (ج 1 / ص 392)
([26])تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 175)
( المرحومون فى كلام الله U )
1- المؤمنون.
2- المطيعون لله U ورسوله r .
3،4- المتبعون لكلام الله المنصتون بقلوبهم وأرواحهم.
5- المستغفرون.
6- التوابون.
7- المتقون.
8- الصابرون.
9- المجاهدون والمهاجرون فى سبيل الله U.
10- المحسنون.
11- المنفقون فى سبيل الله U
12- المصلحون.
13- أهل الإتلاف والجماعة .
14- بعض الخصال السابقة وزاد عليها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
1- الإيمان بالله U :
قال U {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء:175)
قال الشيخ السعدي ’: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ } أي: اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل، وتنزيهه من كل نقص وعيب. { وَاعْتَصَمُوا بِهِ } أي: لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرؤوا من حولهم وقوتهم واستعانوا بربهم. { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } أي: فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة، فيوفقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات، ويدفع عنهم البليات والمكروهات{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } أي: يوفقهم للعلم والعمل، معرفة الحق والعمل به([1]).
وقال U { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } (الجاثـية:30) وقال U { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (الحديد:28) .
2- طاعة الله U ورسوله r :
قال U {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران:132) قال العلامة السعدي ’: فى قوله U { وأطيعوا الله والرسول } بفعل الأوامر امتثالا واجتناب النواهي { لعلكم ترحمون }
فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } الآيات([2]).
وقال U {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (النور:56)
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ t أَنَّهَا قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شَقَقْنَ أَكْنَفَ - قَالَ ابْنُ صَالِحٍ أَكْثَفَ - مُرُوطِهِنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا.
3- إتباع القرآن والعمل به:
قال U { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155)
قال العلامة السعدي ’:
{ وَهَذَا } القرآن العظيم، والذكر الحكيم. { كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أي: فيه الخير الكثير والعلم الغزير، وهو الذي تستمد منه سائر العلوم، وتستخرج منه البركات، فما من خير إلا وقد دعا إليه ورغب فيه، وذكر الحكم والمصالح التي تحث عليه، وما من شر إلا وقد نهى عنه وحذر منه، وذكر الأسباب المنفرة عن فعله وعواقبها الوخيمة { فَاتَّبِعُوهُ } فيما يأمر به وينهى، وابنوا أصول دينكم وفروعه عليه { وَاتَّقُوا } الله تعالى أن تخالفوا له أمرا { لَعَلَّكُمْ } إن اتبعتموه { تُرْحَمُونَ } فأكبر سبب لنيل رحمة الله إتباع هذا الكتاب، علمًا وعملًا([3]).
4- الاستماع و الإنصات للقرآن وتدبره:
قال U {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف:204)
قال العلامة السعدي ’:
هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب اللّه يُتلى، فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه.
وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يُتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه، ولهذا رتب اللّه حصول الرحمة عليهما، فدل ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمع له وينصت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير.
ومن أوكد ما يؤمر به مستمع القرآن، أن يستمع له وينصت في الصلاة الجهرية إذا قرأ إمامه، فإنه مأمور بالإنصات، حتى إن أكثر العلماء يقولون: إن اشتغاله بالإنصات، أولى من قراءته الفاتحة، وغيرها([4]).
5- الاستغفار:
قال U على لسان صالح u { قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النمل:46)
قال الشوكاني ’ ([5])
{ قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } أي قال صالح u للفريق الكافر منهم منكراً عليهم : لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ قال مجاهد : بالعذاب قبل الرحمة . والمعنى : لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدّمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون : ائتنا يا صالح بالعذاب { لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله } هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا .
قال العلامة السعدي ’:
{ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } أي: لم تبادرون فعل السيئات وتحرصون عليها قبل فعل الحسنات التي بها تحسن أحوالكم وتصلح أموركم الدينية والدنيوية؟ والحال أنه لا موجب لكم إلى الذهاب لفعل السيئات؟. { لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ } بأن تتوبوا من شرككم وعصيانكم وتدعوه أن يغفر لكم، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فإن رحمة الله تعالى قريب من المحسنين والتائب من الذنوب هو من المحسنين([6]) .
6- التوبة :
قال U {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:54)
قال العلامة السعدي ’:
وإذا جاءك المؤمنون، فحَيِّهم ورحِّب بهم ولَقِّهم منك تحية وسلاما، وبشرهم بما ينشط عزائمهم وهممهم، من رحمة الله، وسَعة جوده وإحسانه، وحثهم على كل سبب وطريق، يوصل لذلك.
ورَهِّبْهم من الإقامة على الذنوب، وأْمُرْهم بالتوبة من المعاصي، لينالوا مغفرة ربهم وجوده، ولهذا قال: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } أي: فلا بد مع ترك الذنوب والإقلاع، والندم عليها، من إصلاح العمل، وأداء ما أوجب الله، وإصلاح ما فسد من الأعمال الظاهرة والباطنة.
وقال U { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53) .
قال العلامة السعدي ’:
يخبر تعالى عباده المسرفين بسعة كرمه، ويحثهم على الإنابة قبل أن لا يمكنهم ذلك فقال: { قُلْ } يا أيها الرسول ومن قام مقامه من الدعاة لدين اللّه، مخبرا للعباد عن ربهم: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } باتباع ما تدعوهم إليه أنفسهم من الذنوب، والسعي في مساخط علام الغيوب.
{ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعا من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار. { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي: وصفه المغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مائمة للموجود، تسح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنع، والرحمة سبقت الغضب وغلبته، .ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأت بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غيره، الإنابة إلى اللّه تعالى بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد، فهلم إلى هذا السبب الأجل، والطريق الأعظم([7]).
7- التقوى :
قال U على لسان نوح u {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الأعراف:63)
قال العلامة السعدي ’([8]):
وقوله: { لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي: لينذركم العذاب الأليم، وتفعلوا الأسباب المنجية من استعمال تقوى اللّه ظاهرا وباطنا، وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة اللّه الواسعة.
وقال U { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ}(الأعراف: من الآية156)
قال العلامة السعدي ’([9]):
{ قَالَ } اللّه تعالى { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ } ممن كان شقيا، متعرضا لأسبابه، { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة اللّه، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } المعاصي، صغارها وكبارها.
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } الواجبة مستحقيها { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ومن تمام الإيمان بآيات اللّه معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك إتباع النبي r ظاهرا وباطنا، في أصول الدين وفروعه.
8- الصبر عند المصائب:
قال U { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ( 157) البقرة) .
قال العلامة السعدي ’([10]):
أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن، ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان، ولم يحصل معها محنة، لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان، ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ } من الأعداء { وَالْجُوعِ } أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك.
{ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ } وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية، وغرق، وضياع، وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة، وقطاع الطريق وغير ذلك.
{ وَالأنْفُسِ } أي: ذهاب الأحباب من الأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه، { وَالثَّمَرَاتِ } أي: الحبوب، وثمار النخيل، والأشجار كلها، والخضر ببرد، أو برد، أو حرق، أو آفة سماوية، من جراد ونحوه.
فهذه الأمور، لا بد أن تقع، لأن العليم الخبير، أخبر بها، فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالجازع، حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران، وحصل [له] السخط الدال على شدة النقصان.
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط، قولا وفعلا واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
فالصابرين، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.
{ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ } أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد، علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك، الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله، فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورا عنده، وإن جزعنا وسخطنا، لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله، وراجع إليه، من أقوى أسباب الصبر.
{ أُولَئِكَ } الموصوفون بالصبر المذكور { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } أي: ثناء وتنويه بحالهم { وَرَحْمَةٌ } عظيمة، ومن رحمته إياهم، أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع، علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.
ودلت هذه الآية، على أن من لم يصبر، فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة، والضلال والخسارة، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين، وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، لتخف وتسهل، إذا وقعت، وبيان ما تقابل به، إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر، وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر، بضد حال الصابر.
وأن هذا الابتلاء والامتحان، سنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تبديلا وبيان أنواع المصائب.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t : نعم العدْلان ونعمت العلاوة { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فهذان العدلان { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء، أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا([11]).
وقد خصت بعض الإحاديث بعض هذه المصائب كونها رحمة منها :-
- فقد الولد وبوب البخاري ’ بقوله ( بَاب فَضْل مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَد فَاحْتَسَبَ )
وقَوْله تعالى : ( وَقَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ ) ثم ذكر أحاديث منها:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ :عَنْ النَّبِيِّ ‘ قَالَ : (( لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ))
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ (محمد بن إسماعيل البخاري ’)
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا }
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‘ قَالَ : ((لِنِسْوَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبَهُ إِلَّا دَخَلَتْ الْجَنَّةَ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ أَوْ اثْنَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَوْ اثْنَيْنِ([12]) ))
عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ‘ : (( مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ ([13])))
قَوْله : ( بَاب فَضْل مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَد فَاحْتَسَبَ )
قَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير : عَبَّرَ الْمُصَنِّف بِالْفَضْلِ لِيَجْمَع بَيْن مُخْتَلِف الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة الَّتِي أَوْرَدَهَا ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّل دُخُول الْجَنَّة ، وَفِي الثَّانِي الْحَجْب عَنْ النَّار ، وَفِي الثَّالِث تَقْيِيد الْوُلُوج بِتَحِلَّةِ الْقَسَم ، وَفِي كُلّ مِنْهَا ثُبُوت الْفَضْل لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ . وَيُجْمَع بَيْنهَا بِأَنْ يُقَال : الدُّخُول لَا يَسْتَلْزِم الْحَجْب فَفِي ذِكْر الْحَجْب فَائِدَة زَائِدَة لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِم الدُّخُول مِنْ أَوَّل وَهْلَة ، وَأَمَّا الثَّالِث فَالْمُرَاد بِالْوُلُوجِ الْوُرُود وَهُوَ الْمُرُور عَلَى النَّار كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْث فِيهِ عِنْد قَوْله " إِلَّا تَحِلَّة الْقَسَم " وَالْمَارّ عَلَيْهَا عَلَى أَقْسَام : مِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْمَع حَسِيسهَا وَهُمْ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْحُسْنَى مِنْ اللَّه كَمَا فِي الْقُرْآن ، فَلَا تَنَافِي مَعَ هَذَا بَيْن الْوُلُوج وَالْحَجْب ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ " وَلَد " لِيَتَنَاوَل الْوَاحِد فَصَاعِدًا وَإِنْ كَانَ حَدِيث الْبَاب قَدْ قُيِّدَ بِثَلَاثَةٍ أَوْ اِثْنَيْنِ ، لَكِنْ وَقَعَ فِي بَعْض طُرُقه ذِكْر الْوَاحِد.......ثم قال ’: وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْ هَذِهِ الطُّرُق مَا يَصْلُح لِلِاحْتِجَاجِ .... ثم قال ’: وَهَذِهِ الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة أَصَحّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَة ، لَكِنْ رَوَى الْمُصَنِّف مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاق مَرْفُوعًا " يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِن عِنْدِي جَزَاء إِذَا قَبَضْت صَفِيّه مِنْ أَهْل الدُّنْيَا ثُمَّ اِحْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّة " وَهَذَا يَدْخُل فِيهِ الْوَاحِد فَمَا فَوْقه ، وَهُوَ أَصَحّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ ، وَقَوْله " فَاحْتَسَبَ " أَيْ صَبَرَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّه رَاجِيًا فَضْله ، وَلَمْ يَقَع التَّقْيِيد بِذَلِكَ أَيْضًا فِي أَحَادِيث الْبَاب ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْض طُرُقه أَيْضًا كَمَا فِي حَدِيث جَابِر بْن سَمُرَة الْمَذْكُور قَبْلُ ، وَكَذَا فِي حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه ، وَفِي رِوَايَة اِبْن حِبَّان وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق حَفْص بْن عُبَيْد اللَّه بْن أَنَس عَنْ أَنَس رَفَعَهُ " مَنْ اِحْتَسَبَ مِنْ صُلْبه ثَلَاثَة دَخَلَ الْجَنَّة " الْحَدِيث ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيق سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَرْفُوعًا " لَا يَمُوت لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَة مِنْ الْوَلَد فَتَحْتَسِبهُمْ إِلَّا دَخَلَتْ الْجَنَّة " الْحَدِيث ، وَلِأَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِر رَفَعَهُ " مَنْ أَعْطَى ثَلَاثَة مِنْ صُلْبه فَاحْتَسَبَهُمْ عَلَى اللَّه وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة " وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ أَبِي النَّضْر السُّلَمِيّ رَفَعَهُ " لَا يَمُوت لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَة مِنْ الْوَلَد فَيَحْتَسِبهُمْ إِلَّا كَانُوا جُنَّة مِنْ النَّار " الْحَدِيث . وَقَدْ عُرِفَ مِنْ الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة أَنَّ الثَّوَاب لَا يَتَرَتَّب إِلَّا عَلَى النِّيَّة ، فَلَا بُدّ مِنْ قَيْد الِاحْتِسَاب ، وَالْأَحَادِيث الْمُطْلَقَة مَحْمُولَة عَلَى الْمُقَيَّدَة ، وَلَكِنْ أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيّ إِلَى اِعْتِرَاض لَفْظِيّ فَقَالَ : يُقَال فِي الْبَالِغ اِحْتَسَبَ وَفِي الصَّغِير اِفْتَرَطَ اِنْتَهَى . وَبِذَلِكَ قَالَ الْكَثِير مِنْ أَهْل اللُّغَة ، لَكِنْ لَا يَلْزَم مِنْ كَوْن ذَلِكَ هُوَ الْأَصْل أَنْ لَا يُسْتَعْمَل هَذَا مَوْضِع هَذَا ، بَلْ ذَكَرَ اِبْن دُرَيْد وَغَيْره اِحْتَسَبَ فُلَان بِكَذَا طَلَبَ أَجْرًا عِنْد اللَّه ، وَهَذَا أَعَمّ مِنْ أَنْ يَكُون لِكَبِيرٍ أَوْ صَغِير ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ حُجَّة فِي صِحَّة هَذَا الِاسْتِعْمَال .
قَوْله : ( وَقَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ )
فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَالْأَصِيلِيّ " وَقَالَ اللَّه " وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة وَقَدْ وُصِفَ فِيهَا الصَّابِرُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) فَكَأَنَّ الْمُصَنِّف أَرَادَ تَقْيِيد مَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيث بِهَذِهِ الْآيَة الدَّالَّة عَلَى تَرْك الْقَلَق وَالْجَزَع ، وَلَفْظ " الْمُصِيبَة " فِي الْآيَة وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَنَاوَل الْمُصِيبَة بِالْوَلَدِ فَهُوَ مِنْ أَفْرَاده ([14]) .
عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ‘ : (( مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ ([15])))
قَوْله : ( لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْث ) )
وَفَسَّرَهُ بِأَنَّ الْمُرَاد لَمْ يَبْلُغُوا أَنْ يَعْمَلُوا الْمَعَاصِي ، قَالَ وَلَمْ يَذْكُرهُ كَذَلِكَ غَيْره ، وَالْمَحْفُوظ الْأَوَّل ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُم فَتُكْتَب عَلَيْهِمْ الْآثَام . قَالَ الْخَلِيل : بَلَغَ الْغُلَام الْحِنْث إِذَا جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَم ، وَالْحِنْث الذَّنْب قَالَ اللَّه تَعَالَى ( وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْث الْعَظِيم ) وَقِيلَ الْمُرَاد بَلَغَ إِلَى زَمَان يُؤَاخَذ بِيَمِينِهِ إِذَا حَنِثَ ، وَقَالَ الرَّاغِب : عَبَّرَ بِالْحِنْثِ عَنْ الْبُلُوغ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَان يُؤَاخَذ بِمَا يَرْتَكِبهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا قَبْله ، وَخُصَّ الْإِثْم بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَحْصُل بِالْبُلُوغِ لِأَنَّ الصَّبِيّ قَدْ يُثَاب ، وَخَصَّ الصَّغِير بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفَقَة عَلَيْهِ أَعْظَم وَالْحُبّ لَهُ أَشَدّ وَالرَّحْمَة لَهُ أَوْفَر ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ بَلَعَ الْحِنْث لَا يَحْصُل لِمَنْ فَقَدَهُ مَا ذُكِرَ مِنْ هَذَا الثَّوَاب وَإِنْ كَانَ فِي فَقْد الْوَلَد أَجْر فِي الْجُمْلَة ، وَبِهَذَا صَرَّحَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء ، وَفَرَّقُوا بَيْن الْبَالِغ وَغَيْره بِأَنَّهُ يُتَصَوَّر مِنْهُ الْعُقُوق الْمُقْتَضِي لِعَدَمِ الرَّحْمَة بِخِلَافِ الصَّغِير فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّر مِنْهُ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ ، وَقَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير : بَلْ يَدْخُل الْكَبِير فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيق الْفَحْوَى لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الطِّفْل الَّذِي هُوَ كَلّ عَلَى أَبَوَيْهِ فَكَيْفَ لَا يَثْبُت فِي الْكَبِير الَّذِي بَلَغَ مَعَهُ السَّعْي وَوَصَلَ لَهُ مِنْهُ النَّفْع وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَاب بِالْحُقُوقِ ؟ قَالَ : وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي إِلْغَاء الْبُخَارِيّ التَّقْيِيد بِذَلِكَ فِي التَّرْجَمَة . اِنْتَهَى . وَيُقَوِّي الْأَوَّل قَوْله فِي بَقِيَّة الْحَدِيث " بِفَضْلِ رَحْمَته إِيَّاهُمْ " لِأَنَّ الرَّحْمَة لِلصِّغَارِ أَكْثَر لِعَدَمِ حُصُول الْإِثْم مِنْهُمْ ، وَهَلْ يَلْتَحِق بِالصِّغَارِ مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مَثَلًا وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ ؟ فِيهِ نَظَر لِأَنَّ كَوْنهمْ لَا إِثْم عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي الْإِلْحَاق ، وَكَوْن الِامْتِحَان بِهِمْ يَخِفّ بِمَوْتِهِمْ يَقْتَضِي عَدَمه ، وَلَمْ يَقَع التَّقْيِيد فِي طُرُق الْحَدِيث بِشِدَّةِ الْحُبّ وَلَا عَدَمه ، وَكَانَ الْقِيَاس يَقْتَضِي ذَلِكَ لِمَا يُوجَد مِنْ كَرَاهَة بَعْض النَّاس لِوَلَدِهِ وَتَبَرُّمه مِنْهُ وَلَا سِيَّمَا مَنْ كَانَ ضَيِّق الْحَال ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَلَد مَظِنَّة الْمَحَبَّة وَالشَّفَقَة نِيطَ بِهِ الْحُكْم وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي بَعْض الْأَفْرَاد .
قَوْله ( إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّه الْجَنَّة )
فِي حَدِيث عُتْبَة بْن عَبْد اللَّه السُّلَمِيّ عِنْد اِبْن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَن نَحْو حَدِيث الْبَاب لَكِنْ فِيهِ " إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة الثَّمَانِيَة مِنْ أَيّهَا شَاءَ دَخَلَ " وَهَذَا زَائِد عَلَى مُطْلَق دُخُول الْجَنَّة ، وَيَشْهَد لَهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح مِنْ حَدِيث مُعَاوِيَة بْن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا فِي أَثْنَاء حَدِيث " مَا يَسُرّك أَنْ لَا تَأْتِي بَابًا مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة إِلَّا وَجَدْته عِنْده يَسْعَى يُفْتَح لَك " .
قَوْله ( بِفَضْلِ رَحْمَته إِيَّاهُمْ )
أَيْ بِفَضْلِ رَحْمَة اللَّه لِلْأَوْلَادِ . وَقَالَ اِبْن التِّين : قِيلَ إِنَّ الضَّمِير فِي رَحْمَته لِلْأَبِ لِكَوْنِهِ كَانَ يَرْحَمهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُجَازَى بِالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَة وَالْأَوَّل أَوْلَى ، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ فِي رِوَايَة اِبْن مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْه " بِفَضْلِ رَحْمَة اللَّه إِيَّاهُمْ " وَلِلنَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ " إِلَّا غَفَرَ اللَّه لَهُمَا بِفَضْلِ رَحْمَته " وَلِلطَّبَرَانِيّ وَابْن حِبَّانَ مِنْ حَدِيث الْحَارِث بْن أُقَيْش وَهُوَ بِقَافٍ وَمُعْجَمَة مُصَغَّر مَرْفُوعًا " مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوت لَهُمَا أَرْبَعَة أَوْلَاد إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّه الْجَنَّة بِفَضْلِ رَحْمَته " وَكَذَا فِي حَدِيث عَمْرو بْن عَبَسَة كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا . وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ : الظَّاهِر أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " إِيَّاهُمْ " جِنْس الْمُسْلِم الَّذِي مَاتَ أَوْلَاده لَا الْأَوْلَاد ، أَيْ بِفَضْلِ رَحْمَة اللَّه لِمَنْ مَاتَ لَهُمْ ، قَالَ وَسَاغَ الْجَمْع لِكَوْنِهِ نَكِرَة فِي سِيَاق النَّفْي فَتُعَمَّمَ اِنْتَهَى . وَهَذَا الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ ظَاهِر لَيْسَ بِظَاهِرٍ ، بَلْ فِي غَيْر هَذَا الطَّرِيق مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الضَّمِير لِلْأَوْلَادِ ، فَفِي حَدِيث عَمْرو بْن عَبَسَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ " إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّه بِرَحْمَتِهِ هُوَ وَإِيَّاهُمْ الْجَنَّة " وَفِي حَدِيث أَبِي ثَعْلَبَة الْأَشْجَعِيّ الْمُقَدَّم ذِكْره " أَدْخَلَهُ اللَّه الْجَنَّة بِفَضْلِ رَحْمَته إِيَّاهُمْ " قَالَهُ بَعْد قَوْله " مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدَانِ " فَوَضَح بِذَلِكَ أَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله " إِيَّاهُمْ " لِلْأَوْلَادِ لَا لِلْآبَاءِ وَاَللَّه أَعْلَم([16]) .
- الطاعون رحمة فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ t زَوْجِ النَّبِىِّ r قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ r عَنِ الطَّاعُونِ ، فَأَخْبَرَنِى « أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِى بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا ، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ » ([17]).
قَوْله : ( فَجَعَلَهُ اللَّه رَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ )
أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة ، وَفِي حَدِيث أَبِي عَسِيب عِنْد أَحْمَد " فَالطَّاعُون شَهَادَة لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة لَهُمْ ، وَرِجْس عَلَى الْكَافِر " وَهُوَ صَرِيح فِي أَنَّ كَوْن الطَّاعُون رَحْمَة إِنَّمَا هُوَ خَاصّ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا وَقَعَ بِالْكَفَّارِ فَإِنَّمَا هُوَ عَذَاب عَلَيْهِمْ يُعَجَّل لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْل الْآخِرَة ، وَأَمَّا الْعَاصِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة فَهَلْ يَكُون الطَّاعُون لَهُ شَهَادَة أَوْ يَخْتَصّ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِل ؟ فِيهِ نَظَر . وَالْمُرَاد بِالْعَاصِي مَنْ يَكُون مُرْتَكِب الْكَبِيرَة وَيَهْجُم عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ مُصِرّ ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يُقَال لَا يُكَرَّم بِدَرَجَةِ الشَّهَادَة لِشُؤْمِ مَا كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اِجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عُمَر مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الطَّاعُون يَنْشَأ عَنْ ظُهُور الْفَاحِشَة ، أَخْرَجَهُ اِبْن مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ " لَمْ تَظْهَر الْفَاحِشَة فِي قَوْم قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُون وَالْأَوْجَاع الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافهمْ " الْحَدِيث ،...ثم ذكر أحاديث وَلِأَحْمَد مِنْ حَدِيث عَائِشَة مَرْفُوعًا " لَا تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ وَلَد الزِّنَا ، فَإِذَا فَشَا فِيهِمْ وَلَد الزِّنَا أَوْشَكَ أَنْ يَعُمّهُمْ اللَّه بِعِقَابٍ " وَسَنَده حَسَن . فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّ الطَّاعُون قَدْ يَقَع عُقُوبَة بِسَبَبِ الْمَعْصِيَة ، فَكَيْف يَكُون شَهَادَة ؟ وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال : بَلْ تَحْصُل لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة لِعُمُومِ الْأَخْبَار الْوَارِدَة ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْله عَنْ أَنَس " الطَّاعُون شَهَادَة لِكُلِّ مُسْلِم " وَلَا يَلْزَم مِنْ حُصُول دَرَجَة الشَّهَادَة لِمَنْ اجْتَرَحَ السَّيِّئَات مُسَاوَاة الْمُؤْمِن الْكَامِل فِي الْمَنْزِلَة ، لِأَنَّ دَرَجَات الشُّهَدَاء مُتَفَاوِتَة كَنَظِيرِهِ مِنْ الْعُصَاة إِذَا قُتِلَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيل اللَّه لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا مُقْبِلًا غَيْر مُدْبِر ، وَمِنْ رَحْمَة اللَّه بِهَذِهِ الْأُمَّة الْمُحَمَّدِيَّة أَنْ يُعَجَّل لَهُمْ الْعُقُوبَة فِي الدُّنْيَا ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَحْصُل لِمَنْ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُون أَجْر الشَّهَادَة ، وَلَا سِيَّمَا وَأَكْثَرهمْ لَمْ يُبَاشِر تِلْكَ الْفَاحِشَة ، وَإِنَّمَا عَمَّهُمْ - وَاَللَّه أَعْلَم - لِتَقَاعُدِهِمْ عَنْ إِنْكَار الْمُنْكَر . وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَد وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان مِنْ حَدِيث عُتْبَة بْن عُبَيْد رَفَعَهُ " الْقَتْل ثَلَاثَة : رَجُل جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل اللَّه ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَل ، فَذَاكَ الشَّهِيد الْمُفْتَخِر فِي خَيْمَة اللَّه تَحْت عَرْشه لَا يَفْضُلهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِدَرَجَةِ النُّبُوَّة . وَرَجُل مُؤْمِن قَرَفَ عَلَى نَفْسه مِنْ الذُّنُوب وَالْخَطَايَا ، جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله فِي سَبِيل اللَّه ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَل فَانْمَحَتْ خَطَايَاهُ ، إِنَّ السَّيْف مَحَّاء لِلْخَطَايَا . وَرَجُل مُنَافِق جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله حَتَّى يُقْتَل فَهُوَ فِي النَّار ، إِنَّ السَّيْف لَا يَمْحُو النِّفَاق " وَأَمَّا الْحَدِيث الْآخَر الصَّحِيح " إِنَّ الشَّهِيد يُغْفَر لَهُ كُلّ شَيْء إِلَّا الدَّيْن " فَإِنَّهُ يُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الشَّهَادَة لَا تُكَفِّر التَّبِعَات ، وَحُصُول التَّبِعَات لَا يَمْنَع حُصُول دَرَجَة الشَّهَادَة ، وَلَيْسَ لِلشَّهَادَةِ مَعْنًى إِلَّا أَنَّ اللَّه يُثِيب مَنْ حَصَلَتْ لَهُ ثَوَابًا مَخْصُوصًا وَيُكْرِمهُ كَرَامَة زَائِدَة ، وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيث أَنَّ اللَّه يَتَجَاوَز عَنْهُ مَا عَدَا التَّبِعَات ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ لِلشَّهِيدِ أَعْمَالًا صَالِحَة وَقَدْ كَفَّرَتْ الشَّهَادَة أَعْمَاله السَّيِّئَة غَيْر التَّبِعَات فَإِنَّ أَعْمَاله الصَّالِحَة تَنْفَعهُ فِي مُوَازَنَة مَا عَلَيْهِ مِنْ التَّبِعَات وَتَبْقَى لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة خَالِصَة ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَال صَالِحَة فَهُوَ فِي الْمَشِيئَة ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( فَلَيْسَ مِنْ عَبْد )
أَيْ مُسْلِم
( يَقَع الطَّاعُون )
أَيْ فِي مَكَان هُوَ فِيهِ
( فَيَمْكُث فِي بَلَده )
فِي رِوَايَة أَحْمَد " فِي بَيْته " ، وَيَأْتِي فِي الْقَدَر بِلَفْظِ " يَكُون فِيهِ وَيَمْكُث فِيهِ وَلَا يَخْرُج مِنْ الْبَلَد " أَيْ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّاعُون .
قَوْله : ( صَابِرًا )
أَيْ غَيْر مُنْزَعِج وَلَا قَلِق ، بَلْ مُسَلِّمًا لِأَمْرِ اللَّه رَاضِيًا بِقَضَائِهِ ، وَهَذَا قَيْد فِي حُصُول أَجْر الشَّهَادَة لِمَنْ يَمُوت بِالطَّاعُونِ ، وَهُوَ أَنْ يَمْكُث بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقَع بِهِ فَلَا يَخْرُج فِرَارًا مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ النَّهْي عَنْهُ فِي الْبَاب قَبْله صَرِيحًا .
وَقَوْله : " يَعْلَم أَنَّهُ لَنْ يُصِيبهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَهُ "
قَيْد آخَر ، وَهِيَ جُمْلَة حَالِيَّة تَتَعَلَّق بِالْإِقَامَةِ ، فَلَوْ مَكَثَ وَهُوَ قَلِق أَوْ مُتَنَدِّم عَلَى عَدَم الْخُرُوج ظَانًّا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمَا وَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَأَنَّهُ بِإِقَامَتِهِ يَقَع بِهِ فَهَذَا لَا يَحْصُل لَهُ أَجْر الشَّهِيد وَلَوْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ ، هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه مَفْهُوم هَذَا الْحَدِيث كَمَا اِقْتَضَى مَنْطُوقه أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة يَحْصُل لَهُ أَجْر الشَّهِيد وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ وَيَدْخُل تَحْته ثَلَاث صُوَر : أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ فَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُون فَمَاتَ بِهِ ، أَوْ وَقَعَ بِهِ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ ، أَوْ لَمْ يَقَع بِهِ أَصْلًا وَمَاتَ بِغَيْرِهِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا .
قَوْله : ( مِثْل أَجْر الشَّهِيد )
لَعَلَّ السِّرّ فِي التَّعْبِير بِالْمِثْلِيَّةِ مَعَ ثُبُوت التَّصْرِيح بِأَنَّ مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ كَانَ شَهِيدًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالطَّاعُونِ كَانَ لَهُ مِثْل أَجْر الشَّهِيد وَإِنْ لَمْ تَحْصُل لَهُ دَرَجَة الشَّهَادَة بِعَيْنِهَا وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا أَعْلَى دَرَجَة مِمَّنْ وُعِدَ بِأَنَّهُ يُعْطَى مِثْل أَجْر الشَّهِيد ، وَيَكُون كَمَنْ خَرَجَ عَلَى نِيَّة الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا فَمَاتَ بِسَبَبٍ غَيْر الْقَتْل ، وَأَمَّا مَا اِقْتَضَاهُ مَفْهُوم حَدِيث الْبَاب أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة وَوَقَعَ بِهِ الطَّاعُون ثُمَّ لَمْ يَمُتْ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْصُل لَهُ ثَوَاب الشَّهِيد فَشَهِدَ لَهُ حَدِيث اِبْن مَسْعُود الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَد مِنْ طَرِيق إِبْرَاهِيم بْن عُبَيْد بْن رِفَاعَة أَنَّ أَبَا مُحَمَّد أَخْبَرَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُول اللَّه ‘ قَالَ . " إِنَّ أَكْثَر شُهَدَاء أُمَّتِي لَأَصْحَاب الْفُرُش ، وَرُبَّ قَتِيل بَيْن الصَّفَّيْنِ اللَّه أَعْلَم بِنِيَّتِهِ " وَالضَّمِير فِي قَوْله أَنَّهُ لِابْنِ مَسْعُود فَإِنَّ أَحْمَد أَخْرَجَهُ فِي مُسْنَد اِبْن مَسْعُود وَرِجَال سَنَده مُوَثَّقُونَ ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْ الْحَدِيث أَنَّ مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة ثُمَّ وَقَعَ بِهِ الطَّاعُون فَمَاتَ بِهِ أَنْ يَكُون لَهُ أَجْر شَهِيدَيْنِ ، وَلَا مَانِع مِنْ تَعَدُّد الثَّوَاب بِتَعَدُّدِ الْأَسْبَاب كَمَنْ يَمُوت غَرِيبًا بِالطَّاعُونِ ، أَوْ نُفَسَاء مَعَ الصَّبْر وَالِاحْتِسَاب ، وَالتَّحْقِيق فِيمَا اِقْتَضَاهُ حَدِيث الْبَاب أَنَّهُ يَكُون شَهِيدًا بِوُقُوعِ الطَّاعُون بِهِ وَيُضَاف لَهُ مِثْل أَجْر الشَّهِيد لِصَبْرِهِ وَثَبَاته ، فَإِنَّ دَرَجَة الشَّهَادَة شَيْء وَأَجْر الشَّهَادَة شَيْء ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة وَقَالَ : هَذَا هُوَ السِّرّ فِي قَوْله " وَالْمَطْعُون شَهِيد " وَفِي قَوْله فِي هَذَا : " فَلَهُ مِثْل أَجْر شَهِيد " وَيُمْكِن أَنْ يُقَال : بَلْ دَرَجَات الشُّهَدَاء مُتَفَاوِتَة ، فَأَرْفَعهَا مَنْ اِتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة وَمَاتَ بِالطَّاعُونِ ، وَدُونه فِي الْمَرْتَبَة مَنْ اِتَّصَفَ بِهَا وَطُعِنَ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ ، وَدُونه مَنْ اِتَّصَفَ وَلَمْ يُطْعَن وَلَمْ يَمُتْ بِهِ . وَيُسْتَفَاد مِنْ الْحَدِيث أَيْضًا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِف بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة لَا يَكُون شَهِيدًا وَلَوْ وَقَعَ الطَّاعُون وَمَاتَ بِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُوت بِغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ يَنْشَأ عَنْ شُؤْم الِاعْتِرَاض الَّذِي يَنْشَأ عَنْهُ التَّضَجُّر وَالتَّسَخُّط لِقَدَرِ اللَّه وَكَرَاهَة لِقَاء اللَّه ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور الَّتِي تَفُوت مَعَهَا الْخِصَال الْمَشْرُوطَة ، وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض الْأَحَادِيث اِسْتِوَاء شَهِيد الطَّاعُون وَشَهِيد الْمَعْرَكَة ، فَأَخْرَجَ أَحْمَد بِسَنَدٍ حَسَن عَنْ عُتْبَة بْن عَبْد السُّلَمِيّ رَفَعَهُ " يَأْتِي الشُّهَدَاء وَالْمُتَوَفَّوْنَ بِالطَّاعُونِ ، فَيَقُول أَصْحَاب الطَّاعُون : نَحْنُ شُهَدَاء ، فَيُقَال : اُنْظُرُوا فَإِنْ كَانَ جِرَاحهمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاء تَسِيل دَمًا وَرِيحهَا كَرِيحِ الْمِسْك فَهُمْ شُهَدَاء ، فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ " . وَلَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث الْعِرْبَاض بْن سَارِيَة أَخْرَجَهُ أَحْمَد أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَن أَيْضًا بِلَفْظِ " يَخْتَصِم الشُّهَدَاء وَالْمُتَوَفَّوْنَ عَلَى فُرُشهمْ إِلَى رَبّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي الَّذِينَ مَاتُوا بِالطَّاعُونِ ، فَيَقُول الشُّهَدَاء : إِخْوَاننَا قُتِلُوا كَمَا قُتِلْنَا ، وَيَقُول الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى فُرُشهمْ إِخْوَاننَا مَاتُوا عَلَى فُرُشهمْ كَمَا مُتْنَا ، فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : اُنْظُرُوا إِلَى جِرَاحهمْ ، فَإِنْ أَشْبَهَتْ جِرَاح الْمَقْتُولِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ ، فَإِذَا جِرَاحهمْ أَشْبَهَتْ جِرَاحهمْ " زَادَ الْكَلَابَاذِيّ فِي " مَعَانِي الْأَخْبَار " مِنْ هَذَا الْوَجْه فِي آخِره " فَيَلْحَقُونَ بِهِمْ " ([18]).
9- الجهاد والهجرة فى سبيل الله U:
قال U { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة:218)
قال العلامة السعدي ’([19]):
هذه الأعمال الثلاثة، هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان، من الربح والخسران، فأما الإيمان، فلا تسأل عن فضيلته، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد، قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل، ولا فرض، ولا نفل.
وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف، لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله، وأهله، وخلانه، تقربا إلى الله ونصرة لدينه.
وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله، وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه، أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر، لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.
فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا.
فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله، لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل، وعدم القيام بالأسباب، فهذا عجز وتمن وغرور، وهو دال على ضعف همة صاحبه، ونقص عقله، بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح، ووجود الغلة بلا بذر وسقي، ونحو ذلك.
وفي قوله: { أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها، ويعول عليها، بل يرجو رحمة ربه، ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه، وستر عيوبه.
ولهذا قال: { وَاللَّهُ غَفُورٌ } أي: لمن تاب توبة نصوحا { رَحِيمٌ } وسعت رحمته كل شيء، وعم جوده وإحسانه كل حي.
وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة، حصل له مغفرة الله، إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.
وإذا حصلت له المغفرة، اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة، التي هي آثار الذنوب، التي قد غفرت واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة، حصل على كل خير في الدنيا والآخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم، فلولا توفيقه إياهم، لم يريدوها، ولولا إقدارهم عليها، لم يقدروا عليها، ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولا وآخرا، وهو الذي منّ بالسبب والمسبب.
وقال U { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ(20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)} (التوبة) ، وقال U فى الجهاد { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً(95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) } (النساء) ، والشهادة فى سبيله Y قال U { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (آل عمران:157) .
10- الإحسان :
قال U { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(56) }(الأعراف) .
قال العلامة السعدي ’:
الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فأمر بدعائه { تَضَرُّعًا } أي: إلحاحا في المسألة، ودُءُوبا في العبادة، { وَخُفْيَةً } أي: لا جهرا وعلانية، يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصا للّه تعالى.
{ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي: المتجاوزين للحد في كل الأمور، ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل لا تصلح له، أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه.
{ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } بعمل المعاصي { بَعْدَ إِصْلاحِهَا } بالطاعات، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق، كما قال تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، وأحوال الدنيا والآخرة.
{ وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها، وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاهٍ.
وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء: الإخلاص فيه للّه وحده، لأن ذلك يتضمنه الخفية، وإخفاؤه وإسراره، وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة، وهذا من إحسان الدعاء، فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ولهذا قال: { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه، المحسنين إلى عباد اللّه، فكلما كان العبد أكثر إحسانا، كان أقرب إلى رحمة ربه، وكان ربه قريبا منه برحمته، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى([20]).
11- الإنفاق فى سبيل الله U :
قال U { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (التوبة:99)
{ وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } في الجهاد والصدقات { قربات } أسباباً للقربة { عَندَ الله } وهو مفعول ثان ل { يَتَّخِذُ } { وصلوات الرسول } أي دعاءه لأنه Àكان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله «اللهم صل على آل أبي أوفى» { أَلا إِنَّهَا } أي النفقة أو صلوات الرسول { قُرْبَةٌ لَّهُمْ } { قُرْبَةٌ } نافع . وهذا شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه ، والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك { سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ } أي جنته وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله من المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها { إِنَّ الله غَفُورٌ } يستر عيب المخل { رَّحِيمٌ } يقبل جُهد المقل([21]).
{ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ } أي: يحتسب نفقته، ويقصد بها وجه اللّه تعالى والقرب منه { و } يجعلها وسيلة لـ { صَلَوَاتِ الرَّسُولِ } أي: دعائه لهم، وتبريكه عليهم، قال تعالى مبينا لنفع صلوات الرسول: { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } تقربهم إلى اللّه، وتنمي أموالهم وتحل فيها البركة. { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } في جملة عباده الصالحين إنه غفور رحيم، فيغفر السيئات العظيمة لمن تاب إليه، ويعم عباده برحمته، التي وسعت كل شيء، ويخص عباده المؤمنين برحمة يوفقهم فيها إلى الخيرات، ويحميهم فيها من المخالفات، ويجزل لهم فيها أنواع المثوبات([22]).
12- الإصلاح بين المسلمين ( إصلاح ذات البين):
قال U {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الحجرات:10)
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } هذا عقد، عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أي شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخ للمؤمنين، أخوة توجب أن يحب له المؤمنون، ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون له ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النبي r آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبع أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا المؤمن أخو المؤمن،لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره" (2) .
وقال r "المؤمن للمؤمن، كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبك r بين أصابعه.
ولقد أمر الله ورسوله بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض، وبما به يحصل التآلف والتوادد، والتواصل بينهم كل هذا، تأييد لحقوق بعضهم على بعض، فمن ذلك، إذا وقع الاقتتال بينهم، الموجب لتفرق القلوب وتباغضها [وتدابرها]، فليصلح المؤمنون بين إخوانهم، وليسعوا فيما به يزول شنآنهم.
ثم أمر بالتقوى عمومًا ورتب على القيام بحقوق المؤمنين وبتقوى الله، الرحمة [ فقال: { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وإذا حصلت الرحمة، حصل خير الدنيا والآخرة، ودل ذلك، على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة.
وفي هاتين الآيتين من الفوائد غير ما تقدم: أن الاقتتال بين المؤمنين مناف للأخوة الإيمانية، ولهذا كان من أكبر الكبائر، وأن الإيمان والأخوة الإيمانية، لا تزول مع وجود القتال كغيره من الذنوب الكبار التي دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل، وعلى وجوب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى أمر الله، وعلى أنهم لو رجعوا، لغير أمر الله بأن رجعوا على وجه لا يجوز الإقرار عليه والتزامه أنه لا يجوز ذلك، وأن أموالهم معصومة لأن الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بغيهم خاصةدون أموالهم([23]).
13- الإئتلاف والجماعة :
قال U {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118 ) إِلَّا مَنْ رَحِمَ (119)}(هود) وثبت فى السنة أن الجماعة رحمة فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ _ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ -‘- عَلَى الْمِنْبَرِ « مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ »([24]).
قال علامة القصيم ’: يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره.
{ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي.وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.
وقوله: { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد، عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء.{ وَ } لأنه { تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } فلا بد أن ييسر للنار أهلا يعملون بأعمالها الموصلة إليها([25]).
14- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
و قال U {َالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71)
وقوله: { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } كما قال تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران:104]
وقوله تعالى: { وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي: يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه، { وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: فيما أمر، وترك ما عنه زجر، { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } أي: سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: عزيز، من أطاعه أعزه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، { حَكِيمٌ } في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله، تبارك وتعالى([26]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) التفسير 217
([2]) التفسير 148
([3]) التفسير281
([4]) التفسير صـ 314 .
([5]) فتح القدير
([6]) التفسير
([7]) التفسير
([8]) التفسير
([9]) التفسير
([10]) التفسير
([11])تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 468)
([12]) متفق عليهما
([13]) متفق عليه وهذا لفظ البخاري
([14]) فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 273)
([15]) متفق عليه وهذا لفظ البخاري
([16]) فتح الباري لابن حجر - (ج 4 / ص 274)
([17]) ورووى الإمام أحمد فى مسنده بسنده عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الأَشْعَرِىِّ عَنْ رَابِّهِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ كَانَ خَلَفَ عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ أَبِيهِ كَانَ شَهِدَ طَاعُونَ عَمَوَاسَ قَالَ لَمَّا اشْتَعَلَ الْوَجَعُ قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ t فِى النَّاسِ خَطِيباً فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لَهُ مِنْهُ حَظَّهُ. قَالَ: فَطُعِنَ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ t فَقَامَ خَطِيباً بَعْدَهُ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةُ رَبِّكُمْ وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّ مُعَاذاً يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لآلِ مُعَاذٍ مِنْهُ حَظَّهُ. قَالَ فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاذٍ فَمَاتَ ثُمَّ قَامَ فَدَعَا رَبَّهُ لِنَفْسِهِ فَطُعِنَ فِى رَاحَتِهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ يُقَبِّلُ ظَهْرَ كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِى بِمَا فِيكِ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا. فَلَمَّا مَاتَ اسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ t فَقَامَ فِينَا خَطِيباً فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ فَتَجَبَّلُوا مِنْهُ فِى الْجِبَالِ. قَالَ فَقَالَ لَهُ أَبُو وَاثِلَةَ الْهُذَلِىُّ كَذَبْتَ وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ r وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارِى هَذَا. قَالَ وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ وَايْمُ اللَّهِ لاَ نُقِيمُ عَلَيْهِ. ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَدَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ - فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t مِنْ رَأْىِ عَمْرٍو فَوَاللَّهِ مَا كَرِهَهُ.( قَالَ الشيخ شعيب الأرنؤوط ’ : صحيح وهذا إسناد ضعيف لضعف شهر : وهو ابن حوشب.)
([18]) فتح الباري لابن حجر
([19]) التفسير
([20]) التفسير
([21])تفسير النسفي - (ج 1 / ص 461)
([22])تفسير السعدي - (ج 1 / ص 349)
([23])تفسير السعدي - (ج 1 / ص 800)
([24])رواه عبد الله بن الإمام أحمد فى زوائده على المسند وحسنه الألباني فى الصحيحة برقم 667.
([25])تفسير السعدي - (ج 1 / ص 392)
([26])تفسير ابن كثير - (ج 4 / ص 175)