فلسفة العذاب في الإسلام

معنى كلمة عذاب أو تعذيب : كلمة تعذيب على وزن تفعيل وهي مشتقة من عذب - العذب : الكف - أعذبه عن الطعام : منعه وكفه عنه - العذب : هو الطيب الذي لا ملوحة فيه - العذب : المنع - عذبه : منعه وفطمه عن الأمر - وسمي الماء الحلو عذبا : لمنعه العطش - العذب : كل مستساغ - العذب : الماء الطيب - وكل من منعته شيئا : فقد أعذبته وعذبته - العذاب : التنكيل والعقاب - فكل من العذاب أو التعذيب بمعنى المنع والكف - وعذاب المعاقب لمنعه العودة لجرمه مرة أخرى
يقول القرآن (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا)
ومن الصواب أن نقول تعذيب مياه الشرب ولا نقول تحلية مياه الشرب لأن التحلية تعني إضافة شيء حو كالسكر للشاي وماء الشرب لا يوصف بأنه حلو وإنما يوصف بأنه عذب ومن المعروف أن الماء العذب عديم الطعم واللون والرائحة
ومن هذه المعاني نستطيع أن نستخلص أن منع الملوحة عن الماء يسمى عذاب أو تعذيب الماء - وتطهير الماء المالح يسمى عذاب أو تعذيب - وتعذيب الماء تنقيته من الأملاح العالقة به , والعذاب أو التعذيب لا يمنع المعذب من ارتكاب الجرم فحسب بل ينقي أيضا المعذب من الذنوب التي علقت به ويجعله نقيا من ذنوبه - تماما كما أن تعذيب الماء يعني تنقيته من الأملاح ويجعله عذبا نقيا من الملوحة
والقرآن الكريم يستعمل كلمة العذاب بالنسبة للإنسان أي تعذيب النفس البشرية التي هي حقيقة الإنسان , لأن الإنسان من المعروف أنه عبارة عن روح ونفس وجسد ( الروح هو الوحي والنفس هي الإنسان والجسد هيكل تسعى به ) والله سبحانه وتعالى خلق النفس عذبة نقية طاهرة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) وهى المكلفة بالعبادة والمنوطة بالعذاب من عدمه وهي قلب الإنسان الروحي وليس المادي
والعذاب في الإسلام ليس لمجرد العذاب , الغرض من العذاب هو المنع والكف عن المعصية كل ذلك فإن الصفات الخاصة بالعذاب تنبثق أيضا من الرحمة يقول تعالى (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) ويقول (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ولتوضيح كيف أن الصفات الإلهية التي تختص بالعذاب إنما تختص أيضا بالرحمة أو تنبثق أيضا من الرحمة فنتصور المشهد التالي :
نفترض أنه يوجد طبيب حادق وجراح ماهر وهذا الطبيب رب أسرة , وبما أنه السبب في وجود هذه الأسرة فمن حبه ورحمته بأفرادها يعطف ويشفق ويخشى عليهم من التعرض للأمراض , ولذلك فهو دائما ينصح أفراد أسرته نصيحة الخبير بحقائق الأمور , ويحذرهم تحذير الحريص المحب بأن لا يتناولوا الخضروات والفواكه بدون أن يغسلوها جيدا لإزالة جميع آثار المواد الكيماوية التي ترش بها هذه النباتات , لأنه يعلم تماما أن تناول هذه المواد تسبب سرطان لمن يتناولها , ولكن واحد من أولاده لا يلقي بالا لنصائح أبيه ولا يعبأ بتحزيراته ويغافل أمه ومن وراءها يتناول بعض الفاكهة التي لم تُغسل جيدا , وهذا الأب الطبيب الجراح يعلم بطريقته الخاصة أن ابنه كان بيخالف أمره وبيعصيه ولا كان بيقدر نصائحه ولا كان بيهتم بتحزيراته وكان بيأكل من الخضروات والفواكه بدون غسل , ورغم ذلك لم يتوانى الأب لحظة واحدة عن النصح والتحذير من مخاطر سموم المواد الكيماوية التي في الخضروات والفواكه وكان يسوق له بعض الأبناء لينصحوه ويحذروه بل ويحرضهم على معاقبته , ولكنه كان لا يأخذ بكل ما سبق , وبعد مرور فترة من الزمان والابن مستمر في معصية أبيه , وبعد أن تتراكم سموم المواد الكيماوية في جسمه تبدأ آثار السرطان في الظهور عليه , ويصاب بدوار وصداع أليم نتيجة لورم خبيث أصاب خلايا مخه والعياذ بالله , ويكاد يفقد بصره ويكاد يفقد القدرة على السمع والكلام بل تأثرت هذه المراكز المخية بالسرطان ويكاد الطفل يفقد حياته , فالأب الطبيب رغم عناد ابنه واستمراره في العصيان إلا أن حبه ورحمته له يدفعه لتخليص ابنه من المصير المؤسف الذي ينتظره فيسير به إلى المستشفى لإجراء العلاج اللازم , وهذا العلاج متمثل في إجراء عملية جراحية شديدة جدا تقتضي نشر عظام جمجمة الابن العاصي بالمنشار لكي يفتح الأب الطبيب الجراح الماهر جمجمة ابنه ثم يستأصل من المخ الأجزاء التي أصابها الورم الخبيث وبعدين يعالج آثار السرطان وتأثيره على جسم الطفل , وهو يعلم بطبيعة الحال أنه سوف يعرض ابنه لكثير من الآلام سواء في مرحلة إعداده لإجراء العملية الجراحية أو أثناء الجراحة نفسه أو بعدها , إلا أنه يعلم أن هذا الألم الذي سوف يتعرض له الطفل رغم شدته وقسوته إلا أنه سوف يأتي له بالشفاء ويخلصه من سموم المرض , وبعد ذلك لم يعصى الابن أبيه أبدا , وسوف يزداد حبه لأبيه تقديرا لصنيعه معه , وإجلالا لقدرته على تخليصه من آلامه ومعاناته 0
هكذا حال الإنسان هو الذي يعصي الله تعالى وهو الذي يتباعد عنه ويخالف أمره ويعصاه ولا يعمل بنصائحه فيرتكب الآثام ويمتلأ قلبه ( نفسه ) بالأمراض فتكون نتيجة ذلك أنه يحرم نفسه من الاستفادة بالصفات الربانية الخاصة بالأمن والسلام وغيرها فيفقد الإحساس بالأمن والسلام ودائما ينتابه الشعور بالحزن والألم والفزع والهلع وتظهر عليه جميع نتائج أعماله التي اقترفها في الدنيا ولأن صفة المحبة والرحمة من الصفات الإلهية فإنه لا يتخلى أبدا حتى عن هؤلاء الذين عصوه ولا يهمل حتى أولئك الذين لم يطيعوه وإنما يسرع بهم إلى المستشفى ( جهنم ) كي يعالج أمراضهم ويطهر قلوبهم ( نفوسهم ) ويزيل عنهم سموم الإثم والمعصية , صحيح إن في هذا العلاج الكثير من الآلام والمعاناة والتعذيب , ولكن إحداث الألم وفرض المعاناة وإيقاع التعذيب ليس لمجرد التشفي والإيلام وإنما هو للعلاج وتطهير القلب ( النفس ) من كل ما علق بها من آثار آثام البعد عن الله تعالى ومخالفة أمره ومعصيته وعدم العمل بنصائحه
(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)) أي قلب روحي سليم عذب خالي من الأمراض الدنيوية
ولعل هذا المشهد بين الأب الطبيب وأحد أبناءه قد أعطى للعذاب المعنى الحقيقي له - ولله المثل الأعلى - هذا والله أعلم
شبكة اصداء