مشاهدة تغذيات RSS

هشام بن الزبير

جديد الكوميديا الإلحادية

التقييم: الأصوات 2, بمعدل 4.50.
46- الملحد الصغير


خرج أبو الإلحاد يوما هائما على وجهه غائصا في تأملاته مستغرقا في همومه, حتى سمع جلبة وضحكا وضوضاء, نظر إلى جماعة من الأطفال يلعبون ويتراكضون في خفة الطير, قرأ على وجوههم حروف البراءة, وفي عيونهم بريق الأمل, تذكر طفولته, وقع في روعه أنها امتدت زمانا طويلا ولم يخرجه منها إلا اعتناقه لمذهب التنوير, لقد فقد براءته الأصلية يوم فقد الإيمان, ويوم فقد أباه, ولعل الأمرين حدثا في اليوم نفسه, لم يعد يذكر الأمر بالتفصيل, يبدو أن الإلحاد قد أطفأ شعلة الأمل في نفسه, وصبغه في بحر التعاسة صبغة أنسته طعم الحياة, حنَّ صاحبنا إلى طفولته وودّ لو يسترجع ذكرى تلك الأيام السعيدة.

عاد إلى بيته واستلقى على أريكته ساعة يشاهد مباراة كرة قدم, لكنه لم ير سوى نفسه, خيل إليه أن ليس على أرض الملعب أحد سواه, كأن أولئك المتراكضين قد استُنسِخوا منه, فهم يحملون نفس قسمات وجهه, ويشتركون معه في تيهه, إنهم يركضون مثله خلف سراب عابر, إنه يلهث وراء وهم خادع, كما يعدون خلف جلد حشوه هواء, غاص في تأملاته فرأى نفسه صغيرا رشيقا كما كان, نظر حوله فوجد نفسه في ظل شجرة دانية الأغصان, كأنها نبتت في ذلك المكان من أجله, ثم نظر حوله فلم ير إلا بساطا ممتدا من العشب الأخضر, أخذ نفسا عميقا فخطر له أنه يستنشق الهواء لأول مرة, أحس بانشراح عجيب, ذهب عنه ذلك الضيق البغيض الذي يقال إنه أحد الأعراض الجانبية للإلحاد, لكن مهلا إنه يود أن يحيا بقلب طفل وعقل ملحد, لا بد أن يعود من رحلته في خضم ذكرياته بجواب السؤال المحير: "كيف تكون ملحدا سعيدا؟"

اشتاق إلى لهو الطفولة فعزم أن يبحث عمن يشاركه اللعب, مشى قليلا فلم يسمع شيئا سوى صوت أفكاره, بدا كأن الأفق على مرمى حجر, ركض بأقصى سرعته فوجد نفسه عند ظل الشجرة نفسها, عجبا لقد دار في دقائق حول الكوكب بأكمله! وجد تحت الشجرة الفريدة ثمرة جوز هندي كبيرة يابسة, ها قد وجد شيئا يصلح للعب, بدأ يقذفها كما يصنع لاعبو كرة اليد أو كرة السلة, ويرفعها بأقصى قوته إلى الأعلى, فجأة ارتطمت بحجر فانكسرت شقين, سال منها الشراب البارد اللذيذ, رفع نصفها إلى فيه فشرب ما بقي منه, وأكل الثمرة, ياله من مكان رائع, وضع قشر جوز الهند على رأسه كأنه محارب من زمان آخر, إنه طفل وحيد على كويكب صغير, ليس فيه غير شجرة واحدة.

ركض طوال اليوم حتى آذنت الشمس بالمغيب, خارت قواه فنام على العشب حتى أيقظته أشعة شمس يوم جديد. أحس بالظمإ, أصاخ السمع فسمع صوتا من فوقه, رفع بصره فإذا سحابة بيضاء ,كأنها نُسجت من قطن, تكلمه: "لا تقلق, سآتيك كل صباح بأعذب ماء." وما أكملت كلامها حتى رأى الماء يتحدر على جبينه, ملأ قشر جوز الهند ماء ثم شرب حتى ارتوى, نظر إلى الشجرة فوجدها تحمل في كل غصن لونا آخر من الفاكهة, رأى فيها الموز والإجاص, والعنب والتوت, والتفاح والرمان, والتين والبلح, كانت شجرة عجيبة ناضجة الثمار, دانية القطوف, خيل إليه أنه كلما مد يده لثمرة منها تدانت منه, قطف بضع ثمرات فأكل حتى شبع, ثم حط طائر قرمزي اللون أصفر المنقار على مقربة منه وشرع يغرد بأعذب صوت, ولما اقترب منه سمعه يقول: "سبحان الخالق, سبحان منزل المطر, سبحان مخرج الثمر...".

شعر بالأنس لمرأى شيء تدب فيه الحياة, تمنى لو يكلمه قليلا, فقال له الطائر: "لا تقلق سآتيك كلما شعرت بالملل, وأحدثك بما أصادفه في أسفاري البعيدة, كاد قلب صاحبنا يطير من الفرح, سأله: "أنا لم أر خالقا فكيف أؤمن بخالق لا أراه, أخبرني من أنا, وما اسم هذا المكان؟" نظر إليه الطائر وهو يحرك رأسه قائلا: "لا تسألني عن نفسك أيها الملحد الصغير, أنت أعلم بنفسك, لكن اسألني عن المروج والجبال, والهضاب والوديان, والليل والنهار, والشمس والقمر, أجبك بما رأيت من ذلك كله." طرقت كلمة "الملحد الصغير" سمع صاحبنا, فنظر إلى نفسه, إنه صغير, لكنه لم يفهم بعد معنى "ملحد" وهل يفهم معنى شيء عجيب كالإلحاد أحد؟ رفع بصره إلى الطائر الذي حط على رأس الشجرة يسأله: "ما معنى "ملحد" أيها الطائر القرمزي الجميل ذو المنقار الذهبي اللامع؟" حينها بدأ الطائر يغرد بنغم شجي حزين, كأنه يشكو مصابا نزل به, ثم قال: "الملحد أيها الملحد الصغير هو الذي يشرب الماء النازل من السماء ثم لا يتطلع إليها, ويأكل الثمار التي تنبت بماء السماء فلا يخرج من فيه سوى الجشاء." ثم طار بعيدا حتى اختفى وبقيت كلماته ترن في عقل الملحد الصغير.

مشى صاحبنا على العشب فوجد قردا طاعنا في السن يدب على الأرض فوقف في طريقه, نظر إليه بوجه تملؤه التجاعيد ثم حاد عنه دون أن يعبأ به, ناداه: "مهلا مهلا, هلا سمحت بسؤال: "كيف ينزل الماء من السماء, وتطلع الشمس كل يوم, فتملأ كوكبي نورا, وتنضج على شجرتي مختلف الثمار؟" فأجابه بصوت متهدج دون أن يلتفت إليه: "مفتاح اللغز "سؤال", وروحه "عطاء" وحله "شكر", فلماذا تهتم بالكيف, وتغفل عن المعنى أيها الملحد الصغير؟ لماذا؟"

شعر بالحاجة ليتوقف عن المشي ليتأمل كلمات القرد الحكيم, فهمهم: "لماذا ينزل الماء من السماء؟ لماذا يبدو كل شيء مهيئا لوجودي هنا؟ لماذا أشعر كأن كل شيء من حولي يطاوعني ويخطب ودّي؟" عاد إلى ظل الشجرة, فمد يده إلى ثمرة تين, فشرع يمضغها, فإذا هي في منتهى الحموضة, لفظها ممتعضا, وتساءل: "كيف تكون بعض الفواكه من نفس الشجرة حلوة والأخرى حامضة والسحابة واحدة؟" ما أتم سؤاله حتى تذكر كلمة القرد, فغمغم: "لماذا؟" لكنه عاد فقال يحدث نفسه: "إنها طبيعة الأشياء, فبعض الأشياء سائلة كالماء, وبعضها صلب كالحجر, وبعضها حي يطير, وبعضها يدب على الأرض, ربما كانت تلك الأشياء كلها يوما ما شيئا واحدا فبدأت لسبب ما تتصور في صور مختلفة, تذكر الشبه بين الثمار المختلفة, وبينه وبين القرد, فسيطر عليه هذا الخاطر حتى توهم أنه اكتشف حل لغز وجوده ووجود الأشياء من حوله, لكن أنى له أن يستيقن أنه على الحق؟

رفع بصره إلى السماء, فرأى الطائر القرمزي يحلق في حركة دائرية, فصرخ بأعلى صوته: "أيها الطائر القرمزي ذو المنقار الذهبي, لماذا لا تطير بي لأرى مكانا آخر فقد مللت هذا الكوكب الصغير؟"
حط الطائر على الشجرة وهو يقول: "أيتها الشجرة الكريمة, هل رأيت أعجب من هذا الكائن المغرور الذي لا يكف عن السؤال, هل رأيت شجرة تتمنى أن تنتقل إلى أرض أخرى؟ أم رأيت سلحفاة تتمنى أن تطير؟ لماذا يطلب هذا الملحد الصغير ما لا يكون, ولا يرضى بما هو فيه؟"

هبت ريح فجأة فشعر أبو الإلحاد في نسخته المصغرة بالبرد الشديد, لجأ إلى جذع الشجرة ليحتمي بها, كانت أسنانه تصطك من البرد, سمع صوتا يختلط بصوت هدير الريح, إنها شاة تثغو, جاءت تمشي حتى وقفت بجنبه, كان صوفها الأبيض الناعم يكاد يلامس العشب, نظرت إليه قائلة: "أيها الملحد الصغير, يوشك أن يحل بنا الشتاء, فلنتاقسم هذا الصوف سوية." حمل صاحبنا مقصا وشرع يجز الصوف, حتى اجتمعت لديه كرة كبيرة, أدخل فيها يديه ورجليه فبدا كأنه رجل ثلج, شعر بالدفء أخيرا. إنه الملحد الصغير على كوكبه العجيب, يرى القصد في كل شيء, ثم يقول "صدفة", ويرى الحكمة في كل شيء ثم يقول "عبث" وتحجبه صورة العالم عن معناه, ويطرح سؤال "كيف" وعقله يصرخ به: "لماذا؟"

ارتج المكان بهتاف شديد: "جول, جول, جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــول, هدف رائع للهدّاف اللامع شاشا, بعد تمريرة ذكية من كاكا, يا للروعة, يا للإبداع, اللاعب الأسطورة الأستاذ المبدع العبقري شاشا يحرز هدف النصر في الوقت بدل الضائع, بطل يا شاشا, فنان يا باشا..." عاد أبو الإلحاد ليحط الرحال في هذا العالم, فمد يده وضغط زر آلة التحكم عن بعد ليخرس صوت هذا الغراب البليد, الذي ينطق بكل ذلك الهراء بصوت منكر كأنه يحمل في فمه لقمة حارة يخشى أن يبلعها, فتتنازعه شهوة الطعام فلا يلفظها, وشهوة الكلام فلا يصمت, عجبا لهذا المأفون إنه يتكلم العربية بلكنة إسبانية, لكم وددت أن ينتزع أحد مشجعي الفريق الخاسر أضراسه ضرسا ضرسا بالكماشة حتى يكف عن إصدار تلك الأصوات المنكرة, عجبا شاشا طفل الشوارع الأمي أصبح أستاذا عبقريا فيلسوفا, لأنه يحسن ركل الكرة! اعتدل أبو الإلحاد في جلسته ومد يده إلى الإناء على المائدة, أخذ تفاحة, قضم منها قضمة وعيناه مغمضتان, وحاول أن يتخيل طعم فاكهة الشجرة العجيبة فوق كوكبه الصغير.

أرسل "جديد الكوميديا الإلحادية" إلى Google أرسل "جديد الكوميديا الإلحادية" إلى Digg أرسل "جديد الكوميديا الإلحادية" إلى del.icio.us أرسل "جديد الكوميديا الإلحادية" إلى StumbleUpon

تم تحديثها 04-26-2013 في 10:54 PM بواسطة [ARG:5 UNDEFINED]

التصانيف
غير مصنف

التعليقات

  1. الصورة الرمزية أبو القعقاع الآثرى
شبكة اصداء