مشاهدة تغذيات RSS

Maro

عندما تعلمت أن الأمانة تضرّ ولا تنفع

تقييم هذا المقال
نعم، العنوان هكذا كما قرأتموه...
بصراحة، بدون تجمُّل، وبدون تفلسُف...
هي واقعة قديمة، وقعت في طفولتي، علمتني حينئذٍ أن الأمانة تضرّ ولا تنفع.
ولأني أبغض التفلسُف، فاسمحوا لي أن أبدأ في سرد تلك الواقعة مباشرةً، بدون مقدمات.

لن أضيع وقتكم في مقدمات لا داعي لها...
يعني؛ لن أذكر لكم مثلاً ظروف وقوع تلك الواقعة، والتي وقعت في المدرسة الحكومية التي كنت أدرس بها في المرحلة الإبتدائية...
لن أذكر لكم تفاصيل لا داعي لها عن حال المدارس الحكومية في مصر - أو على الأقل حالها في زمن طفولتي - كيف توفّر المدرسة الحكومية مناخاً مناسباً وبيئةً خصبة لزراعة كافة ألوان الفساد الأخلاقي في أعمارٍ مبكرة للأطفال...
تطرّف، غرائز جنسية، سرقة، عنف، وحتى تشكيل العصابات المسلحة...

لن أخوض في تفاصيل جانبية، فأحكي لكم مثلاً عن الدروس "العملية" التي تعلمتها في البيت من أفراد الأسرة...
كيف تعلمت أن في الصدق مجلبة للعقوبة، وفي الكذب النجاة...
كيف تعلمت أن الجُبن هو سيد الأخلاق... وأن الشجاعة تورد المهالك...
لا، لن أذكر أياً من ذلك، بل سأدخل في صلب الموضوع مباشرةً و...
يا للبؤس...!
قد أضعت وقتكم في المقدمات التي أحاول تجنّبها بالفعل!
عذراً، سأبدأ سرد الواقعة إذن...

لا أذكر حتى كيف بدأ الأمر!
أذكر فقط الفصل الدراسي الذي كنت أدرس فيه بالمرحلة الإبتدائية...
غرفة قبيحة ممتلئة بالمقاعد الخشبية البالية، تكتظ بما يقرب من أربعين أو خمسين طفلاً وطفلة... لا أذكر على وجه الدقة.
الواقعة التي أود ذكرها هي لحظة من لحظات العقاب الجماعي التي يصدر فيها المعلم حكمه المسبق بأن جميع من في غرفة الفصل مذنبٌ...
لا أذكر ماذا كان ذلك الجُرم الذي أوردنا كلنا تلك العقوبة... فقط أذكر أن مجموعة قليلة من التلاميذ هم الذين ارتكبوا تلك الفِعلة...
فلما أتى المعلم ولم يفلح في معرفة الجاني، أخذنا جميعاً بذنب هؤلاء، ولم يتوانَ في إصدار حكمه بعقوبة شاملة على جميع من بالغرفة...
وكانت العقوبة مبتكرة بحقّ!

والمعلمون في مصر بارعون في ابتكار أنواع العقوبات التي يصدرونها على التلاميذ...
كثيراً ما كنت أتخيل الواحد منهم؛ كيف يقضي ليلته في الفراش وهو يخطط ليومه التالي، يفكر في الكيفية التي سيعذّب بها هذا التلميذ أو ذاك، بأسلوب مبتكر لم يسبقه إليه أحد...
أذكر أن كل معلم كانت له أدواته الخاصة، دفتره الخاص، قلمه الخاص، حقيبته الخاصة، وعصاه الخاصة!
كل معلم كان يصنع عصاته بنفسه، وبطريقته المبتكرة... فهناك من يصنع عصاته من سُعُف النخيل، وهناك من يصنعها من الخشب المرن ثم يلفّها بشريط لاصق بلاستيكي لضمان أكبر قدر ممكن من الألم عند كل ضربة على جسد الطفل، وهناك من يبدع أكثر فيستأجر نجاراً ليصنع له عصىً من خشب الزّان الصلب...
أما المعلمات من النساء، فلم تكنّ أساليب التعذيب تسترعيهنّ كثيراً... إذ لم يكن على المعلمة سوى استخدام سلاح المرأة في الصراخ، حتى يأتي معلم آخر من أقرب غرفة مجاورة لكي ينجدها من هؤلاء الأطفال الشياطين، فيبدع هو في البطش بهم أمامها لكي يبرهن لها عن مدى رجولته وقوته.

إنها مأساة! لقد جنحت بكم بعيداً عن الموضوع مرة أخرى !
عذراً، عذراً...

نعود إلى واقعة العقاب الجماعي تلك...
كان هذا المعلم قد أصدر أمره إلى جميع من بالغرفة من التلاميذ بأن يقف كلٌّ منهم ويحمل حقيبته عالياً ولا يرخيها حتى يصدر المعلم أمره بالعفو.
وبالفعل قمنا جميعاً نمتثل لتلك العقوبة الجماعية...
قمت مع القائمين، ورفعت حقيبتي عالياً مع الرافعين...
ثم جلس المعلم يراقبنا في صمت، لئلّا يجرؤ أحدنا على إرخاء ذراعيه قليلاً فيعاجله المعلم بضربة ركنية مباغتة من عصاه فيعيده إلى وضعه قائماً...
لا أذكر كم من الوقت جلس المعلم يرقبنا وعيناه تفيضان بلذة الإنتقام من هؤلاء الأطفال الملاعين...
كان أول ما فكرت فيه في الثوان الأولى من حملي للحقيبة؛ هو أني كنت من أسوأ التلاميذ حظاً، إن لم أكن أسوأهم على الإطلاق...
إذ كنت من التلاميذ الملتزمين بإحضار كافة الكتب والمدونات التي أحتاجها في اليوم الدراسي، كانت هناك خمس أو ست حصص دراسية في اليوم، أي على الأقل خمسة أو ستة كتب، كتاب لكل مادة دراسية، وكل مادة لها مدونة واحدة أو اثنتين... كنت ألتزم دوماً بإحضار كل هذا معي في حقيبتي... مما يزيد وزنها بشكل مُلاحظ... بينما باقي التلاميذ كانت حقائبهم أخف وزناً بكثير!

ظللنا هكذا لفترة، والمعلم يبدو حازماً وقد قرر أنه لا مجال للعفو اليوم...
وفجأة، جاء تلميذ من خارج الفصل بنبأ مبين... لا أذكره أيضاً، لكنه كان أمراً عاجلاً لابد للمعلم أن يذهب إلى خارج الفصل ويعالجه بنفسه...
قام المعلم من على عرشه وأصدر تحذيراً شديد اللهجة إلى كل من بالغرفة؛ أنه سيخرج لمعالجة الأمر ويعود على الفور، وعلى الجميع الاستمرار في أداء العقوبة أثناء غيابه حتى يعود هو بنفسه ويصدر لنا أمره بالعفو، وإذا سوّلت لأحدنا نفسه بأن يرخي حقيبته عن ذراعيه ولو ثانية واحدة قبل عودته؛ فقد توعّده بعذابٍ لا يعذبه أحداً من العالمين!
ثم خرج المعلم...

لم أكن بحاجة إلى وعيد المعلم بالعذاب فأخاف وأمتثل للعقاب الجماعي... لأن المسألة بالنسبة لي كانت مسألة مبدأ، وأمانة!
لم تمضِ ثوانٍ على خروج المعلم حتى بدأت الهمهمات بين التلاميذ، ولم تمضِ دقيقة حتى تحولت الهمهمات إلى ضجيج وصياح...
وكانت نسبة كبيرة من التلاميذ قد تركوا عنهم حقائبهم وأراحوا أذرعهم بالفعل...
وكنت أنا من القلة القليلة الصابرة، الملتزمة بالعهد...
كنت أقول لنفسي أنني خيرٌ من هؤلاء المشاغبين... أنا صاحب مبدأ، أنا أمين...
رحمني الله، كم كنت حماراً كبيراً !
فمع كل دقيقة تمرّ، كان عدد الصامدين يقلّ... كل تلميذ يأخذ منه الإرهاق مأخذه، فيترك الحقيبة تسقط، أو ربما يلقيها هو أرضاً وكأنه يقول لها (اذهبي إلى الجحيم)... ثم يشارك أصدقاءه في الصخب واللعب والضجيج.
لم يمر وقتٌ طويل حتى صرت أنا الوحيد في الفصل كله الملتزم بأداء العقوبة، العقوبة التي لم أكن أستحقها من البداية، لكنها عقوبة جماعية... والمعلم أمرنا بالامتثال لها في غيابه حتى يعود بنفسه ويرفع عنا العقوبة... هكذا كنت أقول لنفسي...
انتظرت عودة المعلم الفورية - كما قالها بنفسه - حتى يرى هؤلاء التلاميذ المشاغبين الذين خانوا العهد في غيابه...
انتظرت دقيقة تلو الأخرى...
وباقي التلاميذ من حولي يلعبون بكل اجتهاد في الصخب والضجيج...
وحقيبتي تتثاقل على ذراعيّ في كل ثانية!
شعرت بمرور الوقت أن ذراعاي قد تيبّسا ولم تعد الدماء تصعد إليهما...
شعرت بأن الحقيبة صارت ثقيلة كالجبل، وعيناي تظلمان شيئاً فشيئاً...
ومن حينٍ لآخر يأتي أحد التلاميذ وينصحنى بأن أترك الحقيبة وأجلس...
وأنا أقول: كلا... سيعود المعلم... سيعود المعلم...
كنت أشعر برغبة في البكاء، وربما نزلت من عيناي بعض الدموع بالفعل... وكنت أحدث نفسي: يا للعار! أتبكي كالنساء؟ كُن رجلاً!
لا أدري بالضبط من أين جائت تلك المعلومة؛ أن البكاء للنساء فقط، لكن هكذا تعلمناها ونحن صغار...
حسناً، حسناً، لن أجنح إلى مواضيع جانبية أخرى...

مرت الدقائق كالدهور عليّ وأنا واقف مثل الألِفْ، أرفع حقيبتي عالياً، والتلاميذ من حولي يأتونني كل حينٍ وآخر...
منهم من يشفق عليّ ويحاول إقناعي بأن المعلم لن يلاحظ شيئاً إذا أنا أخذت قسطاً من الراحة...
ومنهم من يأتيني متعجباً... يا لسذاجته هذا التلميذ المخبول! إنه لا يدري شيئاً من أمور الدنيا!
كل هذا وأنا صامدٌ ثابتٌ على موقفي من التزام الأمانة تجاه المعلم الذي قطع وعداً بأنه سيعود على الفور...
أظلمت الدنيا، وأظنني حينئذٍ قد فقدت القدرة على الكلام...
متى سيأتي هذا المعلم؟!
لقد فقدت حتى القدرة على التفكير...
كل ما كان يشغلني في تلك اللحظات العصيبة هو إبقاء ذراعاي منتصبان لأعلى ويداي ممسكتان بالحقيبة جيداً كي لا تسقط فوق رأسي، كما كنت أحاول جاهداً إبقاء ساقاي قائمتان لئلّا ترتخي إحدى الركبتين قليلاً فأسقط أرضاً كمن تلقّى لكمةً قاضية.

ثم جاء العفو !
لم يعُد المعلم كما وعد... لا...
ولكنه صوت الجَرَس... انطلق مدوياً معلناً إنتهاء الحصة الدراسية...
وسلطة المعلم مقيدة بحدود حصته الدراسية...
فما أن سمعت صوت الجرس، حتى ألقيت بحقيبتي وارتميت جالساً، وأخذتني دوامة من الهذيان!

لا أدري أي الأمور كان أشد بؤساً...
إحساسي المفرط بالإجهاد بعد أن حملت تلك الحقيبة الثقيلة لما يقرب من نصف ساعة...
أم حَنَقي من هذا المعلم الذي التزمت بعهده في أداء عقوبته ولم يلتزم هو بعهده في العودة لرفع العقوبة...
أم شعوري بأني كنت الخاسر الأكبر في تلك التجربة، وأن الأقل خسارةً هم حفنة التلاميذ الذين التزموا بأداء العقوبة لبعض الوقت ثم تركوا مبادئهم، وأما الذي لم يخسر شيئاً في تلك الواقعة كلها؛ فهو كل تلميذ مشاغب لا يراعي الأمانة ولا يحفظ العهد...

وهكذا تنتهى تلك الواقعة التي مرّت عليها عقود الآن، لكني لا أنساها أبداً...
ولن أسهب في شرح الدروس والعِبَر المستفادة منها...
أخبرتكم أني أبغض التفلسُف!
الواقعة أمامكم، فليتعلم كل منكم منها ما يشاء...
المهم عندي أني سردتها لكم كما هي، بكل صدق وأمانة، وبدون مقدمات ولا نتائج...
حسنٌ، ربما أكون قد أسهبت في مقدمات ومواضيع جانبية مرة أو مرتين...
اعذروني!
فلا يزال أخاكم مبتدئاً في موضوع الأمانة هذه.

أرسل "عندما تعلمت أن الأمانة تضرّ ولا تنفع" إلى Google أرسل "عندما تعلمت أن الأمانة تضرّ ولا تنفع" إلى Digg أرسل "عندما تعلمت أن الأمانة تضرّ ولا تنفع" إلى del.icio.us أرسل "عندما تعلمت أن الأمانة تضرّ ولا تنفع" إلى StumbleUpon

تم تحديثها 12-06-2020 في 02:34 AM بواسطة [ARG:5 UNDEFINED] (تصحيح أخطاء كتابية)

التصانيف
غير مصنف

التعليقات

شبكة اصداء