يكمل الامام رحمه الله في الاستدلال على الاصل الثاني وهو قولنا ان العالم حادث :
اقتباس:
فإن قيل لم تنكرون على من ينازع في الأصل الثاني، وهو قولكم أن العالم حادث، فنقول: إن هذا الأصل ليس بأولي في العقل، بل نثبته ببرهان منظوم من أصلين آخرين هو أنا نقول إذ قلنا أن العالم حادث أردنا بالعالم الآن، الأجسام والجواهر فقط12، فنقول كل جسم فلا يخلو عن الحوادث13 وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث14، فيلزم منه أن كل جسم فهو حادث ففي أي الأصلين النزاع ؟
12 : دليل الحدوث ينطلق فقط من الاستدلال على حدوث هذا العالم الذي نشاهده بابصارنا، وهي اجسام الارض ومجوعتنا الشمسية، وهذا يكفي من اجل اقامة الدليل كما سيتبين، لاننا نحن كمسلمين نؤمن بوجود اكوان اخرى غير هذا العالم كالسماوات السبع والكرسي والعرش وغير ذلك، وقد اشرنا ان الدليل لا يعنى بهذه الموجودات، وفي هذا الكلام جواب على شبهة الاستقراء الذي يثيرها بعض الناس الذين يقولون ان هذا الدليل مبني على استقراء ناقص.
13 : الاصل الاول من المقدمة الثانية للدليل وهو : كل جسم لا يخلو عن الحوادث
14 : الاصل الثاني من المقدمة الثانية للدليل وهو : كل ما لايخلو عن الحوادث فهو حادث
اقتباس:
فإن قيل لم قيل أن كل جسم أو متحيز فلا يخلو عن الحوادث ؟ قلنا: لأنه لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان، فإن قيل: ادعيتم وجودهما ثم حدوثهما، فلا نسلم الوجود ولا الحدوث، قلنا هذا سؤال قد طال الجواب عنه في تصانيف الكلام، وليس يستحق هذا التطويل فإنه لا يصدر قط من مسترشد إذ لا يستريب عاقل قط في ثبوت الأعراض في ذاته من الآلام والأسقام والجوع والعطش وسائر الأحوال، ولا في حدوثها. وكذلك إذا نظرنا إلى أجسام العالم لم نسترب في تبدل الأحوال عليها، وإن تلك التبديلات حادثة، وإن صدر من خصم معاند فلا معنى للاشتغال به، وإن فرض فيه خصم معتقد لما نقوله فهو فرض محال إن كان الخصم عاقلاً، بل الخصم في حدوث العالم الفلاسفة وهم مصرحون بأن أجسام العالم تنقسم إلى السموات، وهي متحركة على الدوام، وآحاد حركاتها حادثة ولكنها دائمة متلاحقة على الاتصال أزلاً وأبداً وإلى العناصر الأربعة التي يحويها مقعر فلك القمر، وهي مشتركة في مادة حاملة لصورها وأعراضها وتلك المادة قديمة والصور والأعراض حادثة متعاقبة عليها أزلاً وأبداً وإن الماء ينقلب بالحرارة هواء، والهواء يستحيل بالحرارة ناراً، وهكذا بقية العناصر، وإنها تمتزج امتزاجات حادثة فتتكون منهما المعادن والنبات والحيوان، فلا تنفك العناصر عن هذه الصور الحادثة ولا تنفك السموات عن الحركات الحادثة أبداً وإنما ينازعون في قولنا أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، فلا معنى للإطناب في هذا الأصل15،
15 : لقد شرح الامام مقصودنا من ان الكون لا يخلو من الحوادث، ولاشك ان كل من قرأ كلامه سيجد نفسه مضطرا للتسليم به، فمن منا لا يرى تغير الاحوال في ذاته وفي الموجودات من حوله ؟ لذلك وجب التنبيه ان ما تقدم هو الاصل الاصيل في اثباتنا ان العالم الذي نشاهده لا يخلو من الحوادث، وما سيعقبه من حديث عن الاعراض ما هو الا رسم الدليل.
ثم يستمر الامام فيعرض رسم الدليل فيقول :
اقتباس:
ولكنا لإقامة الرسم نقول: الجوهر بالضرورة لا يخلو عن الحركة والسكون، وهما حادثان. أما الحركة فحدوثها محسوس وإن فرض جوهر ساكن كالأرض، ففرض حركته ليس بمحال بل نعلم جوازه بالضرورة، وإذا وقع ذلك الجائز كان حادثاً وكان معدماً للسكون، فيكون السكون أيضاً قبله حادثاً لأن القديم لا ينعدم كما سنذكره في إقامة الدليل على بقاء الله تعالى، وإن أردنا سياق دليل على وجود الحركة زائدة على الجسم، قلنا: إنا إذا قلنا هذا الجوهر متحرك أثبتنا شيئاً سوى الجوهر متحرك أثبتنا شيئاً سوى الجوهر بدليل أنا إذا قلنا هذا الجوهر ليس بمتحرك، صدق قولنا وإن كان الجوهر باقياً ساكناً، فلو كان المفهوم من الحركة عين الجوهر لكان نفيها نفي عين الجوهر. وهكذا يطرد الدليل في إثبات السكون ونفيه، وعلى الجملة. فتكلف الدليل على الواضحات يزيدها غموضاً ولا يفيدها وضوحاً12.
16 : أما السكون فقد بين الامام كيف انه حادث، اذ لو كان قديما، لما تبدل بالحركة كما سنوضح، فالقديم لا يزول ابدا، واعلم ايها القارئ انا لانعتبر الحركة والاجسام اشياء وجودية هنا، بل فقط احوالا للاجسام، فان فرضنا زمنين او كونين بقي فيهما الجسم في نقطة معينة، حكمنا عليه انه ساكن، اما ان تغير مكانه وسط هذين الكونين استنتجنا انه تحرك. وهذا ما نقصده بحدوث الحركة، اي بتغير مكان الجسم من زمن لاخر، وعليه اثبتنا ان هذا العالم لا يخلو من الحوادث، فننتقل الى الاصل الاخر.
اقتباس:
فقد بقي الأصل الثاني وهو قولكم إن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فما الدليل عليه ؟ قلنا: لأن العالم لو كان قديماً مع أنه لا يخلو عن الحوادث، لثبتت حوادث لا أول لها وللزم أن تكون دورات الفلك غير متناهية الاعداد، وذلك محال لأن كل ما يفضي إلى المحال فهو محال، ونحن نبين أنه يلزم عيه ثلاثة محالات: الأول- أن ذلك لو ثبت لكان قد انقضى ما لا نهاية له، ووقع الفراغ منه وانتهى، ولا فرق بين قولنا انقضى ولا بين قولنا انتهى ولا بين قولنا تناهى، فيلزم أن يقال قد تناهى ما لا يتناهى، ومن المحال البين أن يتناهى ما لا يتناهى وأن ينتهي وينقضي ما لا يتناهى17.
17 : الدليل الذي عرضه الامام مبني على فرض عدم تحقق اللانهائية، وقد يصاغ الدليل بطريقة اخرى، فنقول ان الحوادث التي مضت ان كانت لانهائية، لما جاز لنا ان نضيف عليها حادثا اخر، لكننا نعلم بالضرورة امكانية حدوث حادث اخر، كطلوع الشمس يوم غد، فان انضاف الى السلسلة الماضية حادث اخر، علمنا بالضرورة ايضا ان السلسلة التي افترضنا انها لانهائية، هي في حقيقة الامر محدودة، والا لما جاز ان ينضاف اليها حدث اخر، وقد صاغ المتكلمون ادلة عدة على بطلان التسلسل لا نطيل النفس في عرضها. واعلم ان العلم الحديث يتقفى خطى هذا الدليل، فاثبت ان لهذه التغيرات بداية في الزمن، تعود لمليارات السنين، في انفجار محتمل. وهذا دليل على قوة الدليل وتناسقه مع معطيات العلم التجريبي، وكيف لا وكل مقدمة منه لا يتسرب اليها الشك.
ثم يجيب الامام على شبهة قد يأتي بها المفتونون باللانهائية :
اقتباس:
فإن قيل: مقدورات الباري تعالى عندكم لا نهاية لها وكذا معلوماته، والمعلومات أكثر من المقدورات إذ ذات القديم تعالى وصفاته معلومة له وكذا الموجود المستمر الوجود، وليس شيء من ذلك مقدوراً. قلنا نحن: إذا قلنا لا نهاية لمقدوراته، لم نرد به ما نريد بقولنا لا نهاية لمعلوماته بل نريد به أن لله تعالى صفة يعبر عنها بالقدرة، يتأتى بها الايجاد، وهذا الثاني لا ينعدم قط. وليس تحت قولنا- هذا الثأني لا ينعدم- إثبات أشياء فضلاً من أن توصف بأنها متناهية أو غير متناهية18، وإنما يقع هذا الغلط لمن ينظر في المعاني من الألفاظ فيرى توازن لفظ المعلومات والمقدورات من حيث التصريف في اللغة، فيظن أن المراد بهما واحد. هيهات لا مناسبة بينهما البتة. ثم تحت قولنا المعلومات لا نهاية لها أيضاً سر يخالف السابق منه إلى الفهم، إذ السابق منه إلى الفهم إثبات أشياء تسمى معلومات لا نهاية لها، وهو محال، بل الأشياء هي الموجودات، وهي متناهية، ولكن بيان ذلك يستدعي تطويلا. وقد اندفع الإشكال بالكشف عن معنى نفي النهاية عن المقدورات، فالنظر في الطرف الثاني وهو المعلومات مستغنى عنه في دفع الالزام، فقد بانت صحة هذا الأصل بالمنهج الثالث من مناهج الأدلة المذكورة في التمهيد الرابع من الكتاب وعند هذا يعلم وجود الصانع إذ بان القياس الذي ذكرناه، وهو قولنا أن العالم حادث وكل حادث فله سبب فالعالم له سبب. فقد ثبتت هذه الدعوى بهذا المنهج، ولكن بعد لم يظهر لنا إلا موجود السبب، فأما كونه حادثاً أو قديماً وصفاً له فلم يظهر بعد فلنشتغل به.
18 : رحم الله الامام فقد اجاد في الجواب عن الشبهة، فمقدورات الله المستقبلية ليس اشياء وجودية حتى توصف بانها لانهائية بل نقول فقط ان لله صفة قدرة يتأتى بها ايجاد الممكنات التي تعلقت بها ارادته ثم نتوقف، فلا احد ينكر أنه تعالى يمكنه ان يخلق الى مالانهاية، فهو تعالى يمكن ان يضيف نعيم اهل الجنة الى غير نهاية، لكن متى اطلعت على مقدروات الله في زمن من الازمان لوجدتها محدودة، وكذلك معلومات الله عز وجل، فبعضها متحقق فعليا في الوجود، اما الذي لم يتحقق فهو ليس موجودا اصلا حتى يوصف بانه لانهائي،لذلك وجب عليك ايها القارئ ان تفرق بين تحقق اللانهائية، وبين امكانية الاضافة الى مالانهاية، فالاول محال والثاني ممكن، ونفس الشيء نعيده بالنسبة لمن يقول ان الاعداد لانهائية، بأنه يتكلم عن مفاهيم ذهنية فقط لا تحقق لها في الواقع، فخد من الامام هذا المعنى الذي وفقه الله له.
النتيجة : بهذا نكون قد اثبتنا ان اجسام العالم لا تخلو من الحوادث، وايضا ان ما لا يخلو من الحوادث فانه حادث، وعليه فاجسام العالم كلها حادثة لا بد لها من محدث، بقي الكلام فقط في اثبات : 1) ان محدث هذا العالم قديم.....2) ان محدث هذه الاجسام كلها واحد 3) ان محدث هذا العالم متصف بالارادة..
ومن الله التوفيق...