إلى الراغبين في دراسة عقيدة السلف في القضاء والقدر وكيف تكون علاجا
إلى الراغبين في دراسة عقيدة السلف في القضاء والقدر وكيف تكون علاجا
شافيا لكل حائر ، وردا كافيا لكل شبهة .
مجموعة محاضرات
للدكتور محمود عبد الرازق الرضواني
يتابعها بنفسه مع طلاب العلم الرغبين في دراسة عقيدة السلف في القضاء والقدر
أولا : بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الأولى
المرتبة الأولى العلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا) (النساء/1) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر/18) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون) (آل عمران/102) ، أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
اليوم نتحدث بإذن الله تعالى عن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقضاء والقدر ومسؤولية الإنسان عن أفعاله ، فمن آثار الإيمان بتوحيد الربوبية إفراد الله بمراتب القضاء والقدر ، مراتب القضاء والقدر من أهم الموضوعات التي استحوذت على فكر الناس وعقيدتهم ، أسئلة كثيرة تدور بينهم ، هل الإنسان مسير في أفعاله مجبور ، أم أنه حر مخير مسئول ؟ هل أفعال العباد مقدرة مكتوبة قبل خلقهم ووجودهم ؟ وإذا كانت الأعمال مقدرة على العباد سلفا فما الفائدة من الاجتهاد والعمل ؟ وهل العمر يطول أو يقصر عند الأخذ بالأسباب مع كونه مكتوبا في أم الكتاب ؟ وهل المقتول مات بأجله ؟ وغير ذلك من التساؤلات التي كثر فيها النقاش ؟ واليوم نبدأ معكم الحديث في هذه المحاضرة عن مراتب القضاء والقدر .
الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان ، فأركان الإيمان حصرها رسول الله صلي الله عليه وسلم في ستة أركان ، روى الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه قَال: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ قَال بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلعَ عَليْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لا يُرَى عَليْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلسَ إِلى النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلى فَخِذَيْهِ وَقَال يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِليْهِ سَبِيلا قَال صَدَقْتَ قَال فَعَجِبْنَا لهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ قَال أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَال صَدَقْتَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ قَال أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَال فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ قَال مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلمَ مِنَ السَّائِل قَال فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا قَال أَنْ تَلدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ قَال ثُمَّ انْطَلقَ فَلبِثْتُ مَليًّا ثُمَّ قَال لي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ قُلتُ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلمُ قَال فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلمُكُمْ دِينَكُمْ) .
فأركان الإِيمَانِ التي ذكرها رسول الله لجبريل وهو في صورة الأعرابي أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، وقد صدقه جبريل على ذلك ، وهذه الأركان حملت في ترتيبها معنا مقصودا ، يراه أصحاب البصيرة مشهودا ، وبين الكلمات موجودا ، فتأخير الركن السادس كان أمرا مقصودا ، فالمعنى الموضوع بين أركان الإيمان ، أن تؤمن بالله الذي أنزل ملائكته بكتبه على رسله ليحذروا العباد من اليوم الآخر ، فإذا انتهى الناس بعد العرض والحساب ، واستقروا في الآخرة للثواب والعقاب ، عندها يتم قدر الله كما ورد في أم الكتاب ، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وهذه حقيقة الإيمان بالقدر خيره وشره ، فمن حديث عمرو بن العاص رضى الله عنه الذي رواه الإمام مسلم في كتاب القدر أنه قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ:كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) .
وروى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال: يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال: (فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ) .
وقبل أن نبد في تفصيل الموضوع لا بد من التنبيه على أن توحيد الربوبية هو أساس الفهم الصحيح لقضية الإيمان بالقضاء والقدر ، فالسلف يؤسسون فهمهم للقضاء والقدر على توحيد الربوبية ، وإفراد الله بالخلقية ، وما يلزم ذلك من صفات الله كالعلم والإدارة والقدرة ، فيستحيل عندهم حدوث شيء أو فعل بدون علمه أو قدرته سبحانه وتعالى ، فلا يخرج عن قدرته مقدور ، ولا ينفك عن حكمه مفطور ، ولا يعذب عن علمه معلوم ، يفعل ما يريد ، ويخضع لحكمه العبيد ، ولا يجرى في سلطانه إلا ما يشاء ، ولا يحصل في ملكه إلا ما سبق به القضاء ، ما علم أنه يكون من المخلوقات أراد أن يكون ، وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون ، فهو سبحانه وتعالى عالم بما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون .
فمن شروط صحة إيمان العبد أن يصدق بجميع أقدار الله تعالى خيرها وشرها ، أنها من الله تعالى ، سابقة في علمه جارية في خلقه بحكمه ، فلا حول لهم عن معصيته إلا بعصمته ، ولا قوة لهم على طاعته إلا برحمته ، ولا يستطعيون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا بمشيئته .
فتوحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله ؟ أو إفراد الله بالخلق والتدبير ، فلا لا خالق إلا الله ، ولا مدبر للكون سواه ، فالرب في اللغة هو من أنشأ الشيء شيئا فشيئا إلى حد التمام ، وهو مبنى على التربية أو إصلاح شئون الآخرين ورعاية أمورهم ، وأول ركن في توحيد الربوبية إفراد الله بالخلق والتقدير والتكوين وإنشاء الشيء من العدم ، ومن ثم إفراده بلوازم ذلك من العلم والمشيئة والقدرة ، والملك والغنى والقوة والإحياء والإبقاء والهداية ، والرزق والإمداد والرعاية ، والإفناء والإماتة والإعادة ، والهيمنة والعزة والإحاطة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الأفعال لتخليق الشيء وتصنيعه ، فالخالق هو الذي يستغنى بنفسه فلا يحتاج إلى غيره ، وأن يحتاج إليه كل من سواه .
ومن اللوازم المترتبة على إفراد الله بالخلق ، إفراده بمراتب القضاء والقدر ، ما المقصود بمراتب القدر ؟ من المعلوم أن المُصَنِّعَ الذي يشيد البنيان لا بد أن يبدأ مشروعه أولا بفكرة في الأذهان ومعلومات مقننة بدقة وإتقان ، درسها جيدا وقام فيها بتقدير حساباته وضبط أموره وإمكانياته ، ثم يقوم بكتابة هذه المعلومات ويخط لها في بضع ورقات أنواعا من الرسومات التي يمكن أن يخاطب من خلالها مختلف الجهات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئته وإرادته في التفيذ وتوقيت الفعل إن توفرت لديه القدرة والإمكانيات ، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي البنيان كما قدر له في الأذهان ، فهذه مراحل تصنيع الأشياء بين المخلوقات بحكم العقل والفطرة ، فلا بد لصناعة الشيء من العلم والكتابة والمشيئة ومباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله : مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب: المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها ، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها ، المرتبة الثالثة مشيئته لها ، والرابعة خلقه لها .
وسوف نتناول هذه المراتب بشيء من التفصيل لما لها من دور كبير في بيان حقيقة القضاء والقدر ، فالمرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم السابق علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور المخلوقات قبل إيجادها وإمدادها ، فهذا العلم هو التقدير الجامع التام وحساب النظام العام ، الذي يسير عليه الكون من بدايته إلى نهايته ، وهذا العلم اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة ، وخالفهم مجوس الأمة القدرية المعتزلة وكتابته السابقة تدل على علمه بها قبل كونها ، وقد قال تعالى:
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) وفيها مراتب العلم .
روى البخاري من حديث 1039 ابْنِ عُمَرَ قَال رَسُولُ اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ مِفْتَاحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلمُهَا إِلا اللهُ لا يَعْلمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ وَلا يَعْلمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الأَرْحَامِ وَلا تَعْلمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ المَطَرُ) .
وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) (لقمان:34) .
وعند الإمام أحمد 15773 من حديث لقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أنه خَرَجَ وَافِدًا إِلى رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فقال: يَا رَسُول اللهِ مَا عِنْدَكَ مِنْ عِلمِ الغَيْبِ ؟ فَضَحِكَ وَقَال: ضَنَّ رَبُّكَ عَزَّ وَجَل بِمَفَاتِيحِ خَمْسٍ مِنَ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا اللهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ قُلتُ وَمَا هِيَ قَال عِلمُ المَنِيَّةِ قَدْ عَلمَ مَنِيَّةَ أَحَدِكُمْ وَلا تَعْلمُونَهُ وَعِلمُ المَنِيِّ حِينَ يَكُونُ فِي الرَّحِمِ قَدْ عَلمَهُ وَلا تَعْلمُونَ وَعَلمَ مَا فِي غَدٍ وَمَا أَنْتَ طَاعِمٌ غَدًا وَلا تَعْلمُهُ وَعَلمَ اليَوْمَ الغَيْثَ يُشْرِفُ عَليْكُمْ آزِلينَ آدِلين - متعبين مثقلين بالذنوب - مُشْفِقِينَ فَيَظَلُّ يَضْحَكُ قَال لقِيطٌ لنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا وَعَلمَ يَوْمَ السَّاعَةِ .
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ) مفاتح في اللغة الفصيحة جمع مفتح ، ويقال مفتاح ويجمع مفاتيح ، والمفتح عبارة عن كل ما يحل غلقا محسوسا كالقفل الموضوع على البيت أو يحل غلقا معقولا كالفهم والنظر .
و مَفَاتِحُ الغَيْبِ في الآية هي الأسرار التي بها يتم تكوين المخلوقات ، كما يتوصل بالمفتاح إلى خزانة متينة تحتوى أسرار المشرعات الكبرى والمقتنيات العظمى ، ولذلك قال بعضهم المفتاح مأخوذ من قول الناس افتح على كذا أي أعطني أو أعلمني ما أتوصل إليه به ، فالله تعالى عنده علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو ، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه ، ولا يكون ذلك إلا لأنبيائه ورسله ، بدليل قوله تعالى:
(وَمَا كَانَ اللهُ ليُطْلعَكُمْ عَلى الغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179) .
ومن هنا نعلم أن الكهان والعرافين والمنجمين كاذبون على رب العالمين ، في إدعائهم علم الغيب وإخبارهم عما يحدث للإنسان ، وذلك لأنهم لا يخلقون شيئا في الملك ، وليس لهم شركة مع الله في إنشاء الخلق ، وليس لهم شيء في تدبير الأمر .
وفي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلهُ عَنْ شَيْءٍ لمْ تُقْبَل لهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ ليْلةً) ، والعراف هو الحازر الذي يرجم بالغيب ، والمنجم الذي يدعى علم الغيب ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها ، والكهانة ادعاء علم الغيب .
فالله عز وجل عنده مفاتح الغيب يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا ، فذكر سقوط الورقة ولم يذكر إنشاءها ، لأن ذلك أبلغ في الدلالة على علم الله ، فالعلم الله له مراتب:
1- علمه بالشيء قبل كونه وهو سر الله في خلقة ، ضن به ربنا سبحانه وتعالى ، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل وهو المقصود بالمرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهو علم مفاتح الغيب وتقدير الأمور ، كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ) (يعلم مابين أيديهم) (اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد:8) (قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل:65) (قُل أَنْزَلهُ الذِي يَعْلمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان:6) .
ومن حديث عَليٍّ بن أبى طالب رَضِي الله تعالى عَنْه الذي وراوه البخاري ومسلم أنه قَال: (كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ فَأَتَانَا النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ - العود الصغير - فَنَكَّسَ -أطرق برأسه إلى الأرض - فَجَعَل يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ - يعنى يضرب بها في الأرض ضربا خفيفا - ثُمَّ قَال: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلا قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً فَقَال رَجُلٌ يَا رَسُول اللهِ أَفَلا نَتَّكِلُ عَلى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَل ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْل الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل الشَّقَاوَةِ ، قَال رسول الله ص: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل السَّعَادَةِ وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لعَمَل الشَّقَاوَةِ ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِل وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى) .
2- علمه بالشيء وهو في اللوح بعد كتابته وقبل إنفاذ مشيئته ، فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم ، فالمخلوقات في اللوح عبارة عن كلمات ، وتنفيذ ما في اللوح من معلومات تضمنتها الكلمات ، مرهون بمشيئته في تحديد الأوقات المناسبة لأنواع الابتلاءات ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حسابات وتقديرات ، يقول تعالى: (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) ، وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ ، لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُل مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد:23) يقول ابن كثير في تفسيره: (يخبر سبحانه وتعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية أنه ما من مصيبة تحدث في الآفاق أو في النفوس إلا كتبها في اللوح المحفوظ ، وقوله: (مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا) أي من قبل أن نخلق الخليقة ، وفي حديث مسلم: (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء) وعند أبى داود وصححه الشيخ الألباني: (أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال: رب وماذا أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) ، فعلمه بالمكتوب في اللوح أحد مراتب العلم .
3- علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ، وخلقه وتصنيعه ، كما قال تعالى: (اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار ٍ عَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَال) (وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَليفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لكَ قَال إِنِّي أَعْلمُ مَا لا تَعْلمُونَ) (البقرة:30) (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) (يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ) (سبأ:2) (هُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد:4) (هُوَ أَعْلمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلمُ بِمَنِ اتَّقَى) (لنجم:32) .
4- علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه وإحاطته الشاملة والكاملة بعد تمامه وفنائه: فالله عز وجل لما قال: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ - للدلالة على الإحاطة بكل شيء من بدايته إلى نهايته - إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ، وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأنعام:60) ولما قال (يَعْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال: (وَمَا خَلفَهُمْ) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلماً) .
(قَدْ عَلمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ) (قّ:4) (أَوَلا يَعْلمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلنُونَ) (البقرة:77) (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلمُ مَا تَكْسِبُونَ) (الأنعام:3) (أَلمْ يَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الغُيُوبِ) (التوبة:78) (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ليَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلنُونَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (هود:5) (أَلا إِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلمُ مَا أَنْتُمْ عَليْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِليْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (النور:64) (وَرَبُّكَ يَعْلمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلنُونَ) (القصص:69) (فَاعْلمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لذَنْبِكَ وَللمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلمُ مُتَقَلبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد:19) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (المجادلة:7) (قُل إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلمْهُ اللهُ وَيَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:29) (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود:6) ، فالله عز وجل علم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون ، فهذه مراتب علم الله ، المرتبة الأولى من العلم هى المرتبة الأولى من مراتب القدر ، فعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير .
فالله عز وجل قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة ، فكانت كما علم فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم ، لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على ايجادها ، كما قال تعالى: (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك:14) ، ربنا أمرت فعصينا ، ونهيت فلما انتهينا ، وما كان ذلك جزاء إحسانك إلينا ، أنت العليم بما أعلنا وما أخفينا ، والمحيط بما لم نأت وما أتينا ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليما ً) (الأحزاب:56) فاللهم صلي وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الثانية
المرتبة الثانية الكتابة
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما ، من غير إغفال ولا نسيان ، من ذا يكيف ذاته أوصافه أفعاله ، وهو العظيم مكون الأكوان ، سبحانه ملكا على العرش استوى ، وحوى جميع الملك والسلطان ، وكلامه القرآن أنزل آيه ، وحيا على المبعوث من عدنان ، صلى عليه الله خير صلاته ، ما لاح في فلكيهما القمران ، هو جاء بالقرآن من عند الذي ، لا تعتريه نوائب الثقلان ، تنزيل رب العالمين ووحيه ، بشهادة الأحبار والرهبان .
عبد الله إذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان ، فاستحي من نظر الإله وقل لها ، إن الذي خلق الظلام يراني ، كن طالبا للعلم واعمل صالحا ، فكلاهما في الحق مقترنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أقر بأن الله منفرد بالقضاء وتقدير المقادير ، وتصريف الأحكام بأنواع التدبير ، هي المقادير تجري في أعنتها فاصبر فليس لها صبر على حال ، يوما تريك خسيس الأصل ترفعه إلى العلاء ويوما تخفض العالي ، أما بعد . .
فقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بمراتب القدر وعلمنا أن المقصود بمراتب القدر المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة قدرت في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، وقد ضربنا لمراتب القدر مثلا بأن أي مشروع من المشروعات العملاقة ، لا بد أن تبدأ بدراسة جدوى ، وترتيب الأفكار في الأذهان ، معلومات مدروسة بدقة وإتقان تقدر فيها الحسابات والإمكانيات ، ثم بعد ذلك تكتب هذه المعلومات في بضع ورقات ، وتوضع مختلف الرسومات التي يخاطب بها أصحاب المشرع مختلف الجهات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئة من تتوفر لديه الإمكانيات ، ثم يبدأ في التنفيذ إلى أن ينتهي المشرع وفق ما قدر له من حسابات .
هذه مراحل تصنيع الأشياء بحكم العقل والبديهيات ، فلا بد لصناعة الشيء وتكوينه من العلم والكتابة والمشيئة ومباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى عند السلف كما ذكرنا المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة مقدرة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهى عندهم أربع مراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، وقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن المرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهى علم الله السابق ، علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، واليوم نستكمل الموضوع ونتحدث عن المرتبة الثانية من مراتب القدر ، المرتبة المتعلقة باللوح المحفوظ ، مرتبة كتابة المعلومات ، وتدوينها بالقلم في كلمات ، فكل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه ، كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة ، كما قال الإمام الطحاوى رحمه الله: (ونؤمن باللوح والقلم ، وبجميع ما فيه قد رقم) .
وروى أبو داود في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث (4692) عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ أنه قال لابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيْمَانِ حَتَّى تَعْلمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَك َ ، وَما أخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ ، سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ أوَّل مَا خَلقَ الله تَعَالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ مَاتَ عَلى غَيْرِ هذَا فَليْسَ مِنِّي) .
وروى الترمذي (2181) من حديث عبد الوَاحِدِ بن سُليمٍ ، قال: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَلقِيتُ عَطَاءَ بنَ أبي رَبَاحٍ فَقُلتُ لهُ: يَا أَبَا محمدٍ ، إِنَّ أَهْل البَصْرَةِ يَقُولُونَ في القَدَرِ ، قال: يَا بُنَيَّ ، أَتَقْرَأ القُرْآنَ ؟ قُلتُ: نَعَمْ ، قال: فَاقْرَأْ الزُّخْرُفَ قال: فَقَرَأْتُ: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَليٌّ حَكِيمٌ) .
قال: أَتَدْرِي مَا أُمُّ الكِتَاب ِ ؟ قُلتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلمُ ، قال: فَإِنَّهُ كِتَابٌ كَتَبَهُ الله قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّماءَ وَقَبْل أَنْ يَخْلُقَ الأَرْضَ ، فِيهِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَهْل النَّارِ ، وَفِيهِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهَبٍ وَتَبَّ) .
قال عَطَاءٌ: فَلقِيتُ الوَليدَ بنَ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ صَاحِبَ رسول الله ، فَسَأَلتُهُ: مَا كَانَتْ وَصِيَّةُ أَبِيكَ عِنْدَ المَوْتِ ؟ قال: دَعَانِي فَقَال: يَا بُنَيَّ اتَّقِ الله ، وَاعْلمْ أَنَّكَ لنْ تَتَّقِىَ الله حَتَّى تُؤْمِنَ بِالله وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، فَإِنْ مُتَّ عَلى غَيْرِ هَذَا دَخَلتَ النَّارَ ، إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله يقولُ: (إِنَّ أَوَّل مَا خَلقَ الله القَلمَ . فقال: اكْتُبْ ، قال: مَا أَكْتُبُ ؟ قال: اكْتُبْ القَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى الأَبَد) .
وعند أحمد في المسند (22327) أن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (أَوْصَانِي أَبِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى فَقَال: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ أَنْ تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَإِنَّكَ إِنْ لمْ تُؤْمِنْ أَدْخَلكَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى النَّارَ ، قَال: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ أَوَّلُ مَا خَلقَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى القَلمُ ثُمَّ قَال لهُ اكْتُبْ قَال وَمَا أَكْتُبُ قَال فَاكْتُبْ مَا يَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ) .
أخبرنا الله عز وجل أنه قبل وجود السماوات والأرض كان العرش والماء ، فقال تعالى: (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) ، وعند البخاري من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (كَانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ ثُمَّ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ) .
ومن باب الفضول ربما يسأل سائل ويقول: وماذا قبل العرش والماء ؟ والجواب ، أن الله قد شاء أن يوقف علمنا بالمخلوقات عند معرفة العرش والماء ، فقال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) ، وقال أيضا:
(ومَا أُوتِيتُمْ مِنْ العِلمِ إِلا قَليلا) ، فالله أعلم بوجود مخلوقات قبل العرش والماء أم لا ، لكننا نعتقد أن وجودها أمر ممكن في قدرة الله تعالى ، لأنه أخبرنا أنه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ، (قال كَذَلكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقال: (ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ) ، فالله متصف بصفات الأفعال ، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام أزلا وأبدا ، سواء كان ذلك قبل العرش والماء أو بعد العرش والماء ، لكن الله أوقف علمنا عند هذا الحد ، فقال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلما) .
ثم خلق الله عز وجل بعد العرش والماء القلم واللوح ، روى الحاكم في المستدرك ، والطبراني في الكبير بسند صحيح (81611) من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (إن مما خلق الله لوحا محفوظا من درة بيضاء ، دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، ففي كل مرة منها يخلق ويرزق ، ويحيى ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى: (كل يوم هو في شأن) .
وقد اختلف العلماء هل القلم أول المخلوقات أو العرش ؟ والصحيح أن العرش قبل القلم ، لما ثبت في صحيح مسلم من عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أنه قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ) وفي رواية الترمذي 2156 (قَدَّرَ اللهُ المَقَادِيرَ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) .
فهذا الحديث صريح في أن التقدير وقع بعد خلق العرش ، أما ما جاء في حديث عُبَادَة بنُ الصَّامِتِ رضي الله عنه: (إن أوَّل مَا خَلقَ الله تَعَالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) فعلى معنيين عند العلماء:
الأول: أنه عند أول ما خلق القلم قال له اكتب ؟ فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء .
المعنى الثاني: هو أول المخلوقات من هذا العالم بعد العرش والماء ، إذ أن الحديث صريح في أن العرش سابق على التقدير ، وأن التقدير مقارن لخلق القلم .
والأقلام التي وردت في كتاب الله وفي سنة رسوله أنواع سوف نتحدث عنها بالتفصيل في أنواع التقدير والتدبير ، وعند البخاري من حديث 3342 ابْن عَبَّاسٍ وَأَبى حَيَّةَ الأَنْصَارِيَّ أنهما كَانَا يَقُولانِ إن النَّبِي صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال ليلة المعراج: (ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأَقْلامِ) حيث فَرَضَ اللهُ عَلي نبيه خَمْسِينَ صَلاةً ثم صارت خَمْسا في الفعل وخَمْسين في الأجر .
وما دون في أم الكتاب لا يقبل المحو والتبديل أو التعديل والتغيير ، فكل ما كتب فيه واقع لا محالة ، كما قال تعالى: (قُل لنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُؤْمِنُون َ) (التوبة:51) .
ما السر في عدم التغيير والتبديل ؟ السر في عدم التغيير والتبديل ، أن الخلق والتصنيع والتكوين قائم علي ما دون فيه ، فالمخلوقات وسائر المصنوعات إلى قيام الساعة ، أحكم الله غاياتها وقضى في اللوح أسبابها ومعلولاتها ، فلا يتغير بنيان الخلق الذي حكم به الحق إلا بعد استكماله وتمامه ، ولا يتبدل سابق الحكم في سائر الملك إلا بقيامه وكماله ، وهذه مشيئة الله في خلقه ، وما قضاه وقدره في ملكه ، فالله عز وجل على عرشه في السماء يفعل ما يشاء ، وبيده أحكام التدبير والقضاء ، حكم بعدله أن يقوم الخلق على الابتلاء ، ثم يتحول العالم إلى دار الجزاء ، فالله عز وجل يخلق ما يشاء ، ولكن حكمة سبقت فيما تم به القضاء ، ولذلك ينبهنا الله في بعض المواطن إلى هذه الحقيقة ، وأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يفعل ما يشاء ، لولا ما دون في الكتاب من أحكام القضاء:
(لوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) (لأنفال:68) (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلفُوا وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلفُونَ) (يونس:19) (وَلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلفَ فِيهِ وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (هود:110) (وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لكَانَ لزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً) (طه:129) (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً لقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (الشورى:14) (أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلوْلا كَلمَةُ الفَصْل لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالمِينَ لهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (الشورى:21) .
والعقلاء يعلمون أن العلماء من البشر ، لو اجتمعوا على وضع خطة محكمة لبناء مشروع عملاق أو أي مشروع من المشروعات ، درسوا فيها جميع الجوانب بمختلف المقاييس والدراسات ، وراعوا في خطتهم الموازنة بين السلبيات والإيجابيات ، ثم وضعوا تخطيطا محكما لا مجال فيه للإضافات ، ثم انتهوا إلى تقرير شامل دونوه في كتاب كامل أو مجموعة من الملفات ، ثم قدموا هذا المكتوب لإدرارة التنفيذ والمشروعات ، هل يصح بعد ذلك لعامل جاهل ينقصه العلم والفهم أن يعترض أو يغير أو يبدل في هذا المشروع الضخم ؟
هل يصح أن يعبث فيه حسب هواه ، أو يغير في تخطيطه على وفق ما يراه ؟ فالله وله المثل الأعلى كتب مقادير كل شيء ورفعت الأقلام وجفت الصحف حتى يتم الخلق على ما قضى به الحق ، روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث 2516 ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: (كُنْتُ خَلفَ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَوْمًا فَقَال يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَاعْلمْ أَنَّ الأُمَّةَ لوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لكَ وَلوِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَليْكَ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) .
وفي المسند 2800 (يَا غُلامُ أَوْ يَا غُليِّمُ أَلا أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ فَقُلتُ بَلى فَقَال احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِليْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ قَدْ جَفَّ القَلمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلوْ أَنَّ الخَلقَ كُلهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَليْكَ لمْ يَقْدِرُوا عَليْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَليْكَ لمْ يَقْدِرُوا عَليْهِ وَاعْلمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا) .
فالمخلوقات ولله المثل الأعلى كمشروع عملاق كامل ، موضوع على تخطيط محكم شامل ، لا يصح العبث فيه من قبل أحمق جاهل ، روى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال: يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال: (فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ) .
روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال التَقَى آدَمُ وَمُوسَى فَقَال مُوسَى لآدَمَ آنْتَ الذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ قَال آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالتِهِ وَاصْطَفَاكَ لنَفْسِهِ وَأَنْزَل عَليْكَ التَّوْرَاةَ قَال نَعَمْ قَال: أَتَلُومُنِي عَلى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَليَّ قَبْل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً) .
ولا تعارض بين ذكر الأربعين وبين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ) .
وذلك كما ذكر العلماء أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وآخرها ابتداء خلق آدم ، وقال ابن الجوزي: المعلومات كلها قد أحاط بها علم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها ، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة ، وكذلك ما رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني 2882 من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلفَيْ عَامٍ أَنْزَل مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ وَلا يُقْرَأَانِ فِي دَارٍ ثَلاثَ ليَالٍ فَيَقْرَبُهَا شَيْطَانٌ .
فالزمان السابق يختلف في مقداره عن الزمان اللاحق ، فضلا عن الزمان الذي يسبق خلق السماوات والأرض ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(فالذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب ، أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله كما أخبر في القرآن أنه استوى إلى السماء وهي دخان أي بخار فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ، وقد كان قبل ذلك مخلوق غيره كالعرش والماء ، كما قال تعالى: (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) (هود/7) وخلق ذلك في مدة غير مقدار حركة الشمس والقمر ، كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، والشمس والقمر هما من السموات والأرض وحركتهما بعد خلقهما والزمان المقدر بحركتهما وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما إنما حدث بعد خلقهما ، وقد أخبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخرى غير حركة الشمس والقمر) .
واللوح فوق العرش عند رب العرش لما ثبت عند البخاري 7554 من حديث أبى هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْهم أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقَ الخَلقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ) ، ويقول تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يّس:12) فجمع الله في الآية بين كتابين اثنين ، اللوح المحفوظ وهو الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم وخلقهم ، والكتاب الحافظ لأعمالهم المقارن لأفعالهم ، وأخبر قبل ذلك أنه يحييهم بعد ما أماتهم ، يحييهم للبعث ويجازيهم بأعمالهم (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) .
وقال أنس وابن عباس: نزلت هذه الآية في بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد النبوي وكانت منازلهم بعيدة فلما نزلت قالوا بل نمكث مكاننا ، وروى مسلم من حديث (1469) جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَال: خَلتِ البِقَاعُ حَوْل المَسْجِدِ . فَأَرَادَ بَنُو سَلمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلى قُرْبِ المَسْجِدِ . فَبَلغَ ذلكَ رَسُول اللّهِ . فَقَال لهُمْ: (إِنَّهُ بَلغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ المَسْجِدِ) قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُول اللّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذلك ، فَقَال: (يَا بَنِي سَلمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ)
فقوله تعالى في سورة يس: (وَكُل شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يعنى اللوح المحفوظ أو أم الكتاب أو الذكر الذي كتب فيه كل شيء ، وقوله أَحْصَيْنَاهُ يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها ، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها ، وحفظه لها ، والإحاطة بعددها ، واثباتها في اللوح .
ويقول تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) وقد قيل إن الكتاب في قوله مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء ، فإنه قال وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ، وهذا يدل على أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والتدبير والتقدير ، وأنها لم تخلق سدى بل لها حكم وعلل مدونة فيما قضى ، قدر خلقها وأجلها واستوفي لها رزقها ، وما تصير إليه ، ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ، فقال: (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فذكر مبدأها ونهايتها ، وذكر بين المبدأ والنهاية قوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) أي كلها قد كتبت وقدرت وأحصيت قبل أن توجد .
وقال تعالى: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لعَلكُمْ تَعْقِلُون وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَليٌّ حَكِيمٌ) (الزخرف:4) أُمِّ الكِتَابِ هو اللوح المحفوظ كما قال ابن عباس ، وأم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض كما قال تعالى: (بَل هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج:22) يقول ابن القيم: (أجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب) .
فكتابة العلم هي المرتبة الثانية من مراتب القدر ، ولك أن تتصور لو أن البشر ، اجتمعوا على كتابة ما يخص إنسانا واحدا أو مخلوقا واحد ، من أمور العلم والتقدير التي تخص عدد خلاياه ، وعدد نبضات القلب على مدار الوقت الذي يعيشه في هذه الحياة ، وعدد ذرات الهواء في كل نفس أخرجته رئتاه ، وما عدد ذرات الدم الذي سيره الله في مجراه ، وما مقدار طعامه وشرابه ، ورزقه الذي سيناله في دنياه ، ثم عمله ومقدار الحسنات والسيئات التي قدمها لأخراه ، أو اسأل المتخصصين عن عدد الكلمات التي كتبوا بها تنوع الشفرة الوراثية في الأحماض النووية في كل خلية بشرية ، أو حيوانية أو نباتية ؟
ستعلم أن البحر لو كان مِدَاداً لكَلمَاتِ رَبِّي لنَفِدَ البَحْرُ قَبْل أَنْ تَنْفَدَ كَلمَاتُ رَبِّي وَلوْ جِئْنَا بِمِثْلهِ مَدَداً ، (قُل لوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لكَلمَاتِ رَبِّي لنَفِدَ البَحْرُ قَبْل أَنْ تَنْفَدَ كَلمَاتُ رَبِّي وَلوْ جِئْنَا بِمِثْلهِ مَدَداً) (الكهف:109) (وَلوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27) فالكتاب الذي فوق العرش احتوى على الكلمات ، والكلمات احتوت على المعلومات ، وكل ذل ذلك مكتوب في اللوح قبل أن يخلق الله المخلوقات ، أو قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
لكن هنا سؤال هام ؟ نحن علمنا أن المرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم والمرتبة الثانية هي الكتابة في اللوح ، والمرتبة الثالثة التي سنتحدث عنها هي المشيئة ، ثم المرتبة الرابعة وهي الخلق والتنفيذ ؟ السؤال لما ذا كتب الله المقادير ؟ ألا يكفي علم الله وتقديره السابق ؟ وهل الله ينسي حتى يتذكر بالكتابة في اللوح ؟
والإجابة على ذلك أن الكتابة من لوازم كمال الحكمة ، ومن الأمور الضرورية لقيام الحجة ، وإذا كان الصانع الحكيم ، لا يصنع إلا ومخطط الصناعة بين يديه ، والمهندسون ينفذون ويشرفون عليه ، ثم بعد ذلك يطابقون المصنوع علي دليل التصنيع وقياس الرسومات ، ومراقبة الجودة تدقق في المواصفات وتطبيق القياسات ، ولا يمكن أبدا الاستغناء عن الكتابة في مثل هذه الضروريات ، أليست للخالق من باب أولي ، فكتابة مقادير المخلوقات من لوازم الحكمة والكمال ، ولا يحتاج إليها رب العزة والجلال ، كما أنه لا يحتاج إلي خلقه ولا يفتقر إليهم بأي حال ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي عن رب العزة: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلى? أَتْقَى? قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذ?لكَ فِي مُلكِي شَيْئاً ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلى? أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلكِي شَيْئاً ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ ، مَا نَقَصَ ذ?لكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَليَحْمَدِ اللّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذ?لكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ) .
كما أن كتابة الأعمال والمقادير فيها قيام الحجة على الخلق ، فربما يوجد أحمق كفرعون أو غيره يشكك في حكمة ربه (قَال فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولى قَال عِلمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى الذِي جَعَل لكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلكَ لكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَل مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لأُولي النُّهَى مِنْهَا خَلقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه:55) ، والعبد يكون بين يدي الحق ويكذب ربه ويقسم علي أنه يقول الصدق: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلفُونَ لهُ كَمَا يَحْلفُونَ لكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ) (المجادلة:18) (ثُمَّ لمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَل عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:24) ، (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَليْكُمْ بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثـية:29) (وَكُل إِنْسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفي بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَليْكَ حَسِيباً) (الإسراء:14) (وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلتَنَا مَال هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49) (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يّس:65)
فالكتابة هي المرتبة الثانية من مراتب القدر ، ومراتب القدر العلم والكتابة والمشيئة والخلق ، وقفنا عند الكتابة ونلتقي في المحاضرة القادمة بإذن الله مع المرتبة الثالثة مرتبة المشيئة وصلى الله على نبينا محمد وعلي آله وصحبه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الثالثة
المرتبة الثالثة المشيئة
الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ، والذي أمات وأحيا ، والذي حكم على خلقه في هذه الدار بالموت والفنا ، والبعث إلي دار الجزاء والفصل والقضا ، لتجزى كل نفس بما تسعي ، كما قال في كتابه جل وعلا: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِل الصَّالحَاتِ فَأُوْلئِكَ لهُمْ الدَّرَجَاتُ العُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدِينَ فِيهَا وَذَلكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّي) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لم تزل على ألسنة الرسل ، شهادة تضيء لنا أقوم السبل ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أظهر الله دينه على سائر الملل ، وأصلي وأسلم على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله ، صاحب المقام المحمود والحوض المورود ، واللواء المعقود ، فأكرم بمقامه وحوضه ولوائه ، وارضي اللهم عن آله وصحبه وأوليائه ، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ الفَائِزُونَ لوْ أَنْزَلنَا هَذَا القُرْآنَ على جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا للنَّاسِ لعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أما بعد .
يقول ابن القيم رحمه الله: مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها ، لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها ، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها ، المرتبة الثالثة مشيئته لها ، والرابعة خلقه لها ، والمقصود بمراتب القدر عند السلف المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله في الأزل إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا ، وهذه المراتب تشمل كل صغيرة وكبيرة في الوجود ، كل مخلوق مهما كبر حجمه أو دق وزنه أو زاد قدره أو قل شأنه ، وقد ضربنا مثلا لذلك بأن أي مشروع أو بنيان تراه في أي مكان لا يأتي في لحظة أو ثوان ، بلا لا بد أن يمر بعدة مراحل ، فيبدأ المشروع أولا بفكرة في الأذهان ودراسة جدوى بدقة وإتقان ، قام فيها المهندسون بتقدير الحسابات وتحديد الإمكانيات ، ثم أعدوا تقريرا كتبوا فيه هذه المعلومات ، وجعلوا لها مجموعة من الملفات ، ثم يتوقف الأمر بعد ذلك على مشيئة صاحب المشروع ، وإرادته لتفيذ الموضوع ، فإن وافق تأتى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التنفيذ الفعلي للمشروع فينموا تحت إشراف المهندسين المختصين إلى أن يحين وقت كماله وتمام بنيانه ، فهذه مراحل تصنيع الأشياء بحكم العقل والفطرة ، فلا بد لصناعة الشيء من العلم والكتابة والمشيئة ثم مباشرة التصنيع والفعل ، فالله سبحانه وله المثل الأعلى منفرد بمراتب القضاء والقدر ، وهى العلم والكتابة والمشيئة ثم الخلق والتكوين .
وقد تحدثنا فيما سبق عن مرتبة العلم ومرتبة الكتابة ، واليوم نتحدث عن المرتبة الثالثة وهى مشيئة الله وإرادته الكونية ، فالمرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر هي مرتبة المشيئة ، وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله ، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه ، وجميع أدلة المعقول والمنقول ، وليس في الوجود أمر إلا بمشيئة الله وحده ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا أصل عقيدة التوحيد ، وأساس بنيانها الذي لا يقوم إلا به ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن .
التوحيد الحق أن يعلق العبد أفعاله علي مشيئة الله عز وجل في جميع الأوقات ، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل فكل يجري بتقديره ومشيئته ، ومشيئته تنفذ ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم ، فما شاء لهم كان ، وما لم يشأ لم يكن يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي فضلاً ، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً ، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله .
التوحيد الحق أن يعلق الموحد أفعاله بمشيئة الله عز وجل في جميع الأوقات ، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، فقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن المسلم يقول فيما وقع من الأحداث ومضى انتهى: قدر الله وما شاء فعل ، ولا يقول: لو كان كذا وكذا ، لكان كذا وكذا ، فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، لاسيما بعد نفاذ أمره ووقوعه ، وإنما يجوز أن يقول ذلك فيما يستقبل ، فقد روى مسلم في صحيحه (6725) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أن رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُل خَيْرٌ ، احْرِصْ عَلى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ وَلاَ تَعْجِزْ ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُل: لوْ أَنِّي فَعَلتُ كان كذا وكذا ، لم يُصبني كذا ، وَلكِنْ قُل: قَدَرُ اللّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل ، فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ) .
وهنا تأتي المحاجة التي حدثت بين آدم وموسي عليهما وعلي نبينا أفضل الصلاة والسلام ، وموقف المسلم من الاحتجاج بالقدر ومشيئة الله علي معصيته فعند البخاري عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: حاجَّ موسى آدَمَ فقال له: أنتَ الذي أخرجتَ الناسَ من الجنةِ بذَنبكَ وأشقَيتَهم ، قال آدمُ: يا موسى أنتَ الذي اصطَفَاكَ اللهُ برسالاتِهِ وبكلامِهِ ، أتلومُني على أمر كتبهُ اللهُ عليّ قبل أن يَخلُقَني ، أو قَدَّرَهُ عليَّ قبل أن يَخلُقني ؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدمُ موسى ، والاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره على المعصية له نوعان:
النوع الأول: وهو باطل عند السلف وهو الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ولم يتب منها العبد أو ما زال قائما عليها وهذا هو مذهب الجبرية ، يفعلون المنكر ويحتجون بقدر الله وأن ذلك فعله بهم ومشيئته التي لا يستطيعون دفعها كقولهم: (سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَليْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُل إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلى اللهِ مَا لا تَعْلمُونَ) (لأعراف:28) يقول ابن الجوزي : (ومن جملة ما لبس عليهم إبليس أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ، أي لو لم يرض شركنا لحال بيننا وبينه ، فتعلقوا بالمشيئة وتركوا الأمر ، ومشيئة الله تعم الكائنات) وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر فقال وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره .
فالذين يعتقدون أن العبد مجبور على أفعاله قسرا ، ولا فعل له أصلا كالريشة تحركها الريح في اتجاه الهواء ، رفعوا اللوم عن كل كافر وفاسق وعاص وأن الله يعذبهم على فعله لا على فعلهم وأعمالهم القبيحة ، ثم اعتقدوا أن المعاصي التي نهى الله عنها في كتبه وعلى ألسنة رسله إذا عملوها صارت طاعات لأنهم يقولون أطعنا مشيئة الله الكونية فينا ، وهذا كفر لم يسبقهم إليه إلا إمامهم إبليس اللعين ، إذ يحتج على الله تعالى بحجتهم هذه فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر:39) (قَال فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ) (لأعراف:16) .
وقد جاء واحد من أهل الكتاب إلي شيخ الإسلام ابن تيمية يسأله عن القدر ويحتج به على معصيته فقال: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة ، إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه منى فما وجه حيلتي ، دعاني وسد الباب عنى فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي قضيتي ، قضى بضلالي ثم قال ارض بالقضا فما أنا راض بالذي فيه شقوتي ، فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا فربى لا يرضى بشؤم بليتي ، فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي فقد حرت دلوني على كشف حيرتي ، إذا شاء ربى الكفر منى مشيئة فهل أنا عاص في إتباع المشيئة ، وهل لي اختيار أن أخالف حكمه فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي ، فأجاب شيخ الإسلام الشيخ ابن تيمية مرتجلا الحمد الله رب العالمين سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش بارى البرية ، فهذا سؤال خاصم الملأ العلا قديما به إبليس أصل البلية .
النوع الثاني: من الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره على المعصية ، هو الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ، وتاب منها العبد ، وندم علي فعلها ، وهذا جائز مشروع ، فعند البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: احتجَ آدمُ وموسى ، فقال له موسى: يا آدمُ أنتَ أبونا ، خيَّبتنا وأخرجتَنا من الجنَّة ، قال له آدم: يا موسى اصطفاكَ اللّهُ بكلامه وخطَّ لكَ بيده ، أتلومني على أمر قدَّرَهُ اللّه عليَّ قبل أن يخلُقَني بأربعين سنة ؟ فحجَّ آدمُ موسى ، فحجَّ آدمُ موسى ، ثلاثاً .
احتج علي موسي بالقدر وصح احتجاجه لأنه يجوز الاحتجاج بمشيئة الله وقضائه وقدره علي المعصية التي وقعت ، وتاب منها العبد ، وندم علي فعلها ، كالعاصي بعد توبته عندما يتذكر العصيان ، فيحمد الله على نعمة الإسلام ، ويقول قدر الله وما شاء فعل .
هذا بالنسبة لرد الأمر وفعل العبد إلى مشيئة الله فيما مضي من أفعال وأحداث أما رد الأمر إلي المشيئة في الحاضر فهو كقول الله تعالي: (وَلوْلا إِذْ دَخَلتَ جَنَّتَكَ قُلتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَل مِنْكَ مَالاً وَوَلداً) (الكهف:39) وهنا ينسب الموحد النعمة إلي المنعم ويرد الأمر فيها إلى مشيئة الله ، فالعبد الصادق الموحد مؤمن بأن الله قائم بالقسط والتدبير ، ومنفرد بالمشيئة والتقدير ، يتولى تدبير شئون العالمين ، وهو أحكم الحاكمين ، وخير الرازقين ، لا يطمع في سواه ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ، ولا يرى في المنع إلا حكمته ، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته ، فعند ذلك يقول عندما يرى نعم الله ، ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وقال شعيب: (قَال يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالفَكُمْ إِلى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ أُنِيبُ) (هود:88) .
روى النسائي 3773 وصححه الشيخ الألباني أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وشئت وَتَقُولُونَ وَالكَعْبَةِ ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلفُوا أَنْ يَقُولُوا وَرَبِّ الكَعْبَةِ وَيَقُولُونَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شئت ، وعند أحمد في المسند 2557 من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا قَال يَا رَسُول اللهِ مَا شَاءَ اللهُ وشئت فَقَال جَعَلتَنِي للهِ عَدْلا بَل مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ .
روى الإمام مسلم (5816) وفي إثبات المشيئة المطلقة لرب العزة والجلال من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللّهِ قال: (قَال اللّهُ عَزَّ وَجَل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ، يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَلاَ يَقُولنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلبُ ليْلهُ وَنَهَارَهُ ، فَإِذَا شئتُ قَبَضْتُهُمَا) .
وقوله: فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أي صاحبه ومقلبه بدليل قوله بعدها: أُقَلبُ ليْلهُ وَنَهَارَهُ ، لأن بعض من لا تحقيق له في العلم زعم أن الدهر من أسماء الله ، وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا ، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا ، ولا يخفي أن من سب الصنعة فقد سب صانعها ، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى ، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث ، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس ، يقول بعضهم لعنة الله على الأيام أو غير ذلك ، فالدهر أو الليل والنهار لا فعل لهم ولا تأثير ، بل كل شيء بمشيئة الله ومراده الكوني .
ويذكر الإمام الشافعي أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسببه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك ، فيقولون إنما يهلكنا الدهر ، وهو تعاقب الليل والنهار ، ويقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء ، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم ، والذي يفعل بكم هذه الأشياء ، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى ، فإنه فاعل هذه الأشياء .
أما رد الأمر إلي المشيئة في المستقبل: فهو كقول الله تعالى: (وَلا تَقُولنَّ لشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا ً) (الكهف:24) ، روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمانُ بن داودَ عليهما السلام: لأطُوفنَّ الليلةَ بمائةِ امرأةٍ ، تَلدُ كلُّ امرأةٍ غلاماً يُقاتلُ في سبيل الله ، فقال له المَلكُ: قُل إن شاء الله ، فلم يقُل وَنَسيَ ، فأطافَ بِهِنَّ ، ولم تَلدْ منهُن إلا امرأةٌ نِصفَ إنسان ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لو قال إن شاء اللهُ لم يَحنَثْ ، وكان أرجَى لحاجَتِهِ ، وفي رواية أخرى: (فلم تَحمل منهنَّ إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءت بشقِّ رجل ، وأيمُ الذي نفسُ محمدٍ بيده ، لو قال إن شاء اللّه لجاهَدوا في سبيل اللّه فرساناً أجمعون) .
وروى البخاري (5528) من حديث ابن عبّاس رضيَ الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابيّ يَعودُه ، يقول ابن عباس: وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يَعوده قال له: لا بأس ، طَهورٌ إن شاء الله ، فقال الأعرابي للنبي: قلتَ طهور ؟ كلا ، بل هي حُمى تَفور ، أو هي حُمى تثور على شيخ كبير ، تُزيره القبور ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فَنَعم إِذاً .
فالرسول يقول للأعرابي: لا بأس طهور إن شاء الله ، أي أن المرض يكفر الخطايا وهو طهور لك من ذنوبك إن شاء الله ، فإن حصلت العافية وتحقق الشفاء فقد حصلت الفائدتان ، وإلا حصل ربح التكفير ، فرد الأعرابي على النبي منكرا وقائلا أي طهور بل هي حمى تفور أي حرارة الجسم تغلي وتثور ، على شيخ كبير تزيره القبور ، وكان الواجب على الأعرابي أن لا يرد دعاء النبي ويسأل الله العافية ، فقال له رسول الله: (فنعم إذا) إذا أبيت طلب الشفاء فنعم يأتيك الموت والبلاء ، فيحتمل أن يكون قوله (فنعم إذا) دعاء عليه ، ويحتمل أن يكون خبرا عما يؤول مصيره إليه ، وهناك من قال احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه سيموت في هذا المرض فدعا له بأن تكون الحمى مطهرةً لذنوبه وخطاياه ، وهناك من قال احتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الأعرابي بأنه سيموت أجابه وردا على أجابته ، ولذلك ورد أن الأعرابي أصبح ميتا ، فينبغي على المسلم حتى ولو كان مريضا أن يتلقى الموعظة بالقبول ، ويحسن الجواب فيما يقول ، طمعا في عفو الله وعافيته .
روى الإمام أحمد في مسنده (6398) من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ حَلف فاسْتَثْنَى ، فَإن شاء مَضَى ، وإِن شَاءَ رَجَع غَيْرَ حَنِثٍ) .
أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلا بها فقال لأفعلن كذا أو لا أفعله إن شاء الله ، أجمعوا أنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه ، لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله ، فإذا علق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة ولا تجب عليه الكفارة ، أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى فقال: أنت طالق إن شاء الله تعالى ، أو أنت حر إن شاء الله تعالى ، أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله تعالى ، أو لزيد في ذمتي ألف درهم إن شاء الله ، أو إن شفي مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله ، أو ما أشبه ذلك ، فالمسألة فيها خلاف: مذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور وغيرهم صحة الاستثناء في جميع الأشياء كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى ، فلا يحنث في طلاق ولا عتق ، ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قوله إن شاء الله ، وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك إلا اليمين بالله تعالى ، وقو الشافعي هو الأقرب إذا تحقق في الاستثناء شرطان:
أحدهما: أن يقوله متصلاً باليمين ، والثاني: أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول إن شاء الله تعالى .
أما اللو المستقبلية التي تكون في القتال وإعداد الخطط أو عدم الاعتراض على القدر فلا تدخل تحت النهي في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه الذي رواه مسلم (6725) (فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ) لأن النهي مقرون بوقوع الفعل وعدم تغيير شيء من القدر والرسول صلى الله عليه وسلم يقول قبلها: (وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُل: لوْ أَنِّي فَعَلتُ كذا وكذا ، لم يُصبني كذا ، وَلكِنْ قُل: قَدَرُ اللّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل) .
أما ما كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الغار كما روى البخاري من حديث أنس أن أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنه قال: (قلت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار ِ: لو أنَّ أحدَهم نظرَ تحت قَدَمَيهِ لأبصَرَنا . فقال: ما ظنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنينِ اللهُ ثالثُهما) لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا ، وكذلك ما ورد عند البخاري من حديث عائشةَ رضيَ الله عنهم زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألم تَرَيْ أنَّ قومَكِ لما بَنُوا الكعبة اقتصَروا عن قواعِدِ إِبراهيمَ . فقلتُ: يا رسول الله ألا تَرُدُّها على قواعدِ إبراهيم ؟ فقال: لولا حِدْثانُ قومِكِ بالكفر)
وعند البخاري عن أنَسٍ رضيَ الله عنه قال: (مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ مَسْقوطةٍ فقال: لولا أن تكونَ صَدَقةً لأكَلتُها) وعنده أيضا قال أبو هريرةَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أَشُقَّ على أُمَّتي لأمرتُهمْ بالسِّواكِ عندَ كل وُضوء) ، وما شابه ذلك ، فكله يدخل تحت لو المستقبلية ولا اعتراض فيه على قدر فلا كراهة فيه ، لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته ، فأما ما ذهب فليس في قدرته ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لو تفتح عمل الشيطان) أي يلقى في القلب معارضة القدر ويوسوس به الشيطان ، فالذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله ، والرضي بما قدر ، والإعراض عما فات ، أو عدم الالتفات لما فات ، فإنه إذا ذكر فيما فاته من ذلك فقال لو أني فعلت كذا لكان كذا ، جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران ، فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير ، وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه بقوله: (فلا تقل لو فإن لو تفتح عمل الشيطان) .
وإخبار الله عن مطلق المشيئة يتنوع في القرآن ، فتارة يخبرنا أن كل ما في الكون إنما هو بمشيئته ؟ (قُل اللهُمَّ مَالكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولجُ الليْل فِي النَّهَارِ وَتُولجُ النَّهَارَ فِي الليْل وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:27) (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (البقرة:105) ، (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلبَابِ) (البقرة:269) ، (يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور:45) (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص:68) ، (اللهُ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَل مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَل مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَليمُ القَدِيرُ) (الروم:54) (لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (الشورى:12) .
في كل هذه الآيات يخبرنا الله أن كل ما في الكون إنما هو بمشيئته ؟ وتارة يخبرنا أن ما لم يشأ لم يكن ، وأنه لو شاء لخلق الخلق على خلاف الواقع المشهود وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الموجود ، وأنه لو شاء ما عصاه أحد من خلقه ، وأنه لو شاء لجمعهم على ذكره ، وجعلهم أمة واحدة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلى ذَلكَ قَدِيراً) (النساء:133) (وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام:133) (أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ) (ابراهيم:19) (رَبُّكُمْ أَعْلمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلنَاكَ عَليْهِمْ وَكِيلاً) (الإسراء:54) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلبِكَ وَيَمْحُ اللهُ البَاطِل وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلمَاتِهِ إِنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الشورى:24) (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْللنَ رَوَاكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لكُل صَبَّارٍ شَكُورٍ) (الشورى:33) (وَلئِنْ شِئْنَا لنَذْهَبَنَّ بِالذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لكَ بِهِ عَليْنَا وَكِيلاً) (الإسراء:86) (وَلوْ شِئْنَا لبَعَثْنَا فِي كُل قَرْيَةٍ نَذِيراً) (الفرقان:51) (وَلوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُل نَفْسٍ هُدَاهَا وَلكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (السجدة:13) (نَحْنُ خَلقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلنَا أَمْثَالهُمْ تَبْدِيلاً) (الإنسان:28) (وَكَذَلكَ جَعَلنَا لكُل نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112) (وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99) (وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لجَعَل النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلذَلكَ خَلقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود:119) .
ما هي مراتب القضاء ؟ وما الفرق بين القضاء والقدر ؟ مراتب القضاء العلم والكتابة والمشيئة ومراتب القدر العلم والكتابة والمشيئة والخلق . (ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (مريم:35) ، نلتقي معكم في المحاضرة القادمة للحديث عن المرتبة الرابعة من مراتب القدر ، (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليماً) (الأحزاب:56) فصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
مراتب القدر - المحاضرة الرابعة
المرتبة الرابعة الخلق
(الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُون) ، لا يحصى عدد نعمه العادون ، ولا يؤدى حق شكره الحامدون ، ولا يبلغ مدى عظمته الواصفون ، بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره ، وأستعينه وأستغفره أوحده سبحانه عند الشدة والرخاء ، وأتوكل عليه فيما حكم به من أنواع القضاء ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، شهادة من يعتقد أنه لا رب سواه ، شهادة من لا يرتاب في شهادته ، واعتقاد من لا يستنكف عن عبادته ، وأشهد أن محمدا عبده الأمين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين ، أرسله ربنا إلى الخلق أجمعين ، بلسان عربي مبين ، فبلغ الرسالة وأظهر المقالة ، ونصح الأمة ، وكشف الغمة ، وجاهد في سبيل الله حتى أظهر به الدين ، وأظهره على الكافرين والمشركين ، وعبد ربه حتى أتاه اليقين ، فصلى الله على محمد سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، ونسائه أمهات المؤمنين ، وسائر أصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد . .
مراتب القدر هي انتقال المخلوقات من كونها معلومة في علم الله في الأزل إلى الواقع المشهود ، وقد تحدثنا فيما سبق عن المرتبة الأولى من مراتب القدر ، وهى علم الله السابق ، علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، وتحدثنا أيضا عن المرتبة الثانية من مراتب القدر ، وهى مرتبة الكتابة ، كتابة المعلومات ، وتدوينها بالقلم في كلمات ، وبينا أن كل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه ، كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، ثم تحدثنا عن المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة المشيئة ، فليس في الكون مشيئة عليا إلا مشيئة الله ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا أساس التوحيد الذي لا يقوم بنيانه إلا به ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على ذلك ، واليوم نتحدث عن المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهى مرتبة خلق الأشياء وتكوينها ، وتصنيعا وتنفيذها ، على وفق ما قدر لها بمشيئة الله في اللوح المحفوظ .
فالله عز وجل هو خالق كل شيء ، والخالق عند أهل التوحيد واحد ، وما سواه مخلوق ، هذا الأمر متفق عليه بين الرسل ، اتفقت عليه الكتب الإلهية ، والفطرة البشرية ، وجميع الأدلة العقلية ، ولم يخالف في ذلك إلا مجوس الأمة من القدرية ، حيث زعموا أن العبد يخلق فعله من دون الله وقدرته ، فأخرجوا أفعال العباد عن تقدير الله وربوبيته ، ولم يوحدوا الله في مشيئته ، فجعلوا العباد هم الخالقون لأفعالهم ، فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالا ، ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلما ، ولا الكافر كافرا ، ولا المصلي مصليا ، وإنما ذلك يعود إلي قدرة العبد ومشيئته ، وفي المقابل لضلالهم وبدعتهم ، ظهرت طائفة ترد على بدعتهم ببدعة تقابلها ، وقابلوا باطلهم وبدعتهم ببدعة تماثلها ، فقالوا بل العبد في أفعاله مسير مجبور ، ولا تأثير له فيها وإنما هو ملزم مقهور ، وغلا بعضهم فقال أفعال العبد هي عين أفعال الرب ، (إِنَّ اللهَ لا يَظْلمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلمُونَ) (يونس:44) ، ولا ينسب الفعل إلى العبد إلا على سبيل المجاز ، وزعم هؤلاء الجاهلون أن الله سبحانه يلوم العبد ويعاقبه ، ويخلده في النار ويعذبه ، على أمور لم يكتسبها العباد ، فالعباد مسيرون لا مخيرون ، فوصفوا الله بأنه يظلم الكافرين ، وأنه لا يحق له أن يعذب المشركين ، تعالى الله عن قول الظالمين علوا كبيرا ، هذا قول الجبرية في مقابل قول القدرية ، وكلاهما باطل وشر معلوم ، وفيهما من الباطل بدلالة اللزوم ، ما أنكره أهل السنة والجماعة ، فمذهب أهل السنة والجماعة مذهب الحق لأن اعتقادهم وسط وهذا هو شأنهم ، فالوسطية وصفهم كما قال تعالى في مدحهم: (وَكَذَلكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَليْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) فأهل السنة لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، لا ينظرون بعين واحدة ، كالأعور الذي يرى من وجهة واحدة ، وإنما ينظرون بعينين سليمتين يرون الأمور فيها باعتدال ، ولا يردون شيئا مما قاله رب العزة والجلال ، كما أنهم يقدمون سنة نبيهم على عقولهم وآرائهم ، فأهل السنة يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات ، ويؤمنون بخلقه وتكوينة لجميع الكائنات ، وينزهون الله عز وجل أن يكون في ملكه شيء لا يقدر عليه ، أو أن مشيئته أو إرادته الكونية لا تقع عليه ، ويثبتون العلم والتقدير السابق على الخلق ، وأن العباد يعملون على ما وفق ما قدره الحق ، وأن ما جف به القلم في اللوح عند الله ، واقع محتوم بالمشيئة وقدرة الله ، وأنهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله ، ولا يفعلون إلا من بعد علمه وكتابته ومشيئته وتنفيذ صنعته ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وهذا عام لكل ما خلق وما يخلق وما سيخلق ، (أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك:14) .
فالقدر عند السلف مبنى على أمرين اثنين: التقدير والقدرة ، فبدايته في التقدير ، وهو العلم السابق علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعه وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، فهذا العلم هو التقدير الجامع التام ، وهو حساب النظام العام ، الذي يسير عليه الكون بمنتهى الإتقان من بدايته إلى نهايته ، كما قال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59) .
فبداية القدر في التقدير ونهايته في القدرة وتحقيق المقدر ، قدرة الله تعالى على تحقيق ما علمه ، وما كتبه ، وما شاء خلقه وتكوينه ، فلا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بعلمه ، وبعد كتابته ومشيئته وقدرته ، فبداية القدر العلم والتقدير ، والنهاية في القدرة ، ولذلك يقول تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (الأحزاب:38) .
ويذكر العلامة ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين أن القضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته ، ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان ، وقال: إنه شفي بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر ، ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين ، فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته ، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة ، وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها ، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وأنكرت الأخرى كمال علمه ، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم ، وأنكرت الحكمة والرحمة ، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر ، والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته ، ولهذا يقرن تعالى بين الإسمين من هذه الثلاثة كثيرا - العليم والعزيز والحكيم - كقوله: (وَإِنَّكَ لتُلقَّى القُرْآنَ مِنْ لدُنْ حَكِيمٍ عَليمٍ) (النمل:6) وقال: (تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) (الزمر:1) وقال في سورة فصلت (ذَلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَليمِ) بعد ذكر تخليق العالم وترتيبه لمعاني الحكمة ، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده .
والله عز وجل خلق الدنيا بأسباب تؤدي إلى نتائج ، وعلل تؤدي إلى معلولات ، السبب والنتيجة ، أو العلة والمعلول مخلوقان بمراتب القدر سواء ارتبط المعلول بعلته أو انفصل عن علته ، أو ارتبط السبب بنتيجته أو انفصل عن نتيجته ، فالعلل والأسباب سواء ترابطت أو انفصلت فلا يؤثر ذلك في تعلقها بمراتب القدرة ، ولكن العلل والأسباب ترابطها أو انفصالها ظاهر عن كمال الحكمة ، وبيان ذلك أن الله بنى الحياة على ترابط الأسباب بحيث لا يخلق النتيجة إلا إذا خلق السبب فيها ، ولا يخلق المعلول إلا إذا خلق علته ، فلا يخلق النبتة إلا إذا خلق البذرة أو الحبة ، ولا يخلق الثمرة إلا إذا خلق النبتة ، لا يخلق الإبن إلا إذا أوجد الأب والأم ، ومن هنا ظهرت الأسباب للعقلاء كابتلاء يصح من خلاله العمل بأحكام البديهيات ، وحكم التجارب والأوليات ، فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب ويعلمون أن الله خلقها بمراتب القدر ، فيجدون أن الله عز وجل تارة ينسب الفعل إليه لأنه الخالق بتقدير وقدرة ، وتارة ينسب الفعل إليهم عند دعوتهم إلي العمل بمقتضى الشريعة والعقل والحكمة ، فمرة يقول في بيان التقدير والقدرة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:64) وقال أيضا: (فَليَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) ، فنفي عن الناس أفعالهم ، وتأثير الأسباب في رزقهم ، وأثبت لنفسه الأفعال وتصريف الأسباب ، لأنه الخالق في الحقيقة ، الذي علم وكتب وشاء وخلق ، قدر كل شيء بعلمه ، وكتبه في أم الكتاب بقلمه ، وأمضاه بمشيئته ، وخلقه بقدرته ، ثم أثبت أمر الناس أن يخذوا بالأسباب التي خلقها ، وأحكم لهم تدبيرها ، عملا بشرع الله كما قال جل في علاه: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ إِلا قَليلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف:47) ويقول أيضا: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ) (الفتح:29) فسماهم زراعا وقال تزعون ، وسماهم كفارا لأنهم يضعون البذرة يغيبون البذرة في الأرض ويغطونها ، وذلك لأننا في دار ابتلاء وامتحان ، والأخذ بالأسباب حتم على بني الإنسان ، فهم مستخلفون في ملكه ، مخولون في أرضه ، فطالبنا بالعمل والإنفاق ، ليصل كل منا إلي ما قدره من الأرزاق: (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِير ٌ) (الحديد:7) فالدنيا دار ابتلاء وامتحان ، ولا بد أن يجتازها الإنسان ، وهو في هذه الدار بالخيار ، حر بين جنة أو نار ، كل ذلك ليؤول الناس إلى مصيرهم بعد الحساب ، ويتم ما قدره الله في أم الكتاب: (فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى:7) فكل ميسر لما خلق له ، وكل سينال ما قدر له . فاللّه عز وجل قد أظهر الدنيا أسبابا ونسب الفعل إلي أهلها لإظهار حكمته ، ونسب الفعل وأثبته لنفسه في موضع آخر لإظهار قدرته ، فلا يتغافل العبد عن قدرته بدعوى الانشغال في النظر إلى حكمته ، وأن الأسباب حاكمة على مشيئة الله وقدرته ، صارمة لا يمكن أن يتخلف المعلول فيها عن علته ، فالله عز وجل يخلق بأسباب وبغير أسباب إن خلق بأسباب فهي العادات ، وإن خلق بغير أسباب فهي خوارق العادات أو الكرامات والمعجزات .
الثمرة يخلقها الله بعد خلق النبتة ويربط خلق الثمرة بوجود النبتة ، ويمكن أن يخلق الثمرة من غير نبتة ودون وجودها ، فهذه مريم (كُلمَا دَخَل عَليْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَال يَا مَرْيَمُ أَنَّى لكِ هَذَا قَالتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) يقول المفسرون: كانت ترزق بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، وهى قد علمت أن الذي يخلقها بأسباب يخلق بغير أسباب ، ويرزق بحساب من العبد أو بغير حساب ، ولذلك كان من قوة يقينها أن الله اختارها لأعظم ابتلاء ، ستحمل على غير عادة النساء ، ويخرج منها عيسى كمعلول بغير علة ونتيجة بلا سبب (وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلنَا إِليْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّل لهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا قَال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ) ما المقصود بقوله هين ؟ هل هناك شيء يعز خلقه على الخالق أبدا ، ولكن الأسباب يخلقها الله بمراتب القدر ، ومراتب القدر في الخلق بأسباب ومن خلال العادات أكثر من مراتب القدر في الخلق بغير أسباب ومن خلال خوارق العادات ، الولد في الأسباب يوجد من أب وأم ، فالأب له أربع مراتب والأم كذلك والولد كذلك فجموع المراتب اثنتا عشرة مرتبة ، أما الولد في حالة عيسى فقد وجد من أم بلا أب ، فجموع المراتب ثمان مراتب ، فأيهما أهون العادات أو خوارق العادات ؟ وأهون من ذلك خلق آدم من غير أب ولا أم ، ولذلك قال تعالي في إجمال الخلق: (وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليْهِ وَلهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (الروم:27) (أَوَليْسَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاقُ العَليمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُول لهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلكُوتُ كُل شَيْءٍ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ) (يّس:83) .
فقد يخلق العلة ولا يخلق معلولها ، كما فعل بإبراهيم عليه السلام: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلينَ قُلنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69) (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:24) أضرموا نارا لا يقوى الطير على المرور من فوقها ، توفرت لهم العلة ولكن الله لم يخلق معلولها .
البخاري عن أنَسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه: (أنَّ يَهودِيَّةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ مَسمومَةٍ فأكَل منها فجيء بها ، فقيل: ألا نقتُلُها ؟ ، وفي رواية مسلم فَجِيءَ بِهَا إِلى رَسُول اللّهِ . فَسَأَلهَا عَنْ ذلكَ ؟ فَقَالتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلكَ . قَال: مَا كَانَ اللّهُ ليُسَلطَكِ عَلى ذَاكِ ، ق أَوْ قَال : عَليَّ قَال قَالُوا: أَلاَ نَقْتُلها ؟ قَال لاَ .
وعند البخاري من حديث عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَال سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقُولُ َلمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ قَال ليْتَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِي صَالحًا يَحْرُسُنِي الليْلةَ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاحٍ فَقَال مَنْ هَذَا فَقَال أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ جِئْتُ لأَحْرُسَكَ وَنَامَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ .
أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَأَدْرَكَتْهُمْ القَائِلةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي العِضَاهِ - شجرة ذات شوك- يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَل النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلقَ بِهَا سَيْفَهُ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لا يَشْعُرُ بِهِ ، فَقَال النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي فَقَال مَنْ يَمْنَعُكَ قُلتُ اللهُ فَشَامَ السَّيْفَ ، قيل فنزلت (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلغْ مَا أُنْزِل إِليْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لمْ تَفْعَل فَمَا بَلغْتَ رِسَالتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ) (المائدة:67) وقد يخلق المعلول بلا علة ، كما فعل بناقة صالح: (وَإِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالحاً قَال يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُل فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) (لأعراف:73) (هود:64) (قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لهَا شِرْبٌ وَلكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (الشعراء:155) (فَقَال لهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا) (فَعَقَرُوهَا فَقَال تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (هود:65) (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) (الشعراء:157) (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَليْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) (الشمس:14) .
وعند البخاري من حديث عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ: «أنَّ أصحابِ الصُّفَّةِ كانوا أُناساً فُقراءَ ، وأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَن كان عندَهُ طعامُ اثنينِ فليَذْهَبْ بثالثٍ ، وإِنْ أَربعٌ فخامسٌ أو سادس» . وإنَّ أَبا بكرٍ جاءَ بثلاثةٍ فانطلقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعشَرةٍ . قال: فهوَ أَنا وَأَبي وَأُمي ـ فلا أدري قال: وامرأتي ـ وخادِمٌ بينَنا وبينَ بَيتِ أبي بكر . وإِنَّ أَبا بكرٍ تَعشَّى عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم لبِثَ حيثُ صُليَتِ العِشاءُ ، ثم رجعَ فلبِثَ حتّى تعَشَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فجاءَ بعدَ ما مضى مِنَ الليل ما شاءَ اللهُ . قالت له امرأَتهُ: وما حبَسكَ عن أضيافِكَ ـ أو قالت ضيفِكَ ـ ؟ قال: أَوَ ما عَشيِتيهم ؟ قالت: أَبَوا حتّى تَجيء ، قد عُرِضوا فأَبَوا . قال: فذهبتُ أَنا فاختبأْتُ . فقال: يا غُنثَرُ ـ الثقيل الوخيم طويل البال ، فجدَّعَ وسَبَّ ، دعا عليه بقطع الأنف وغيره من الأعضاء والسب الشتم ـ وقال: كُلوا لا هَنِيّاً . فقال: وَاللهِ لا أَطعَمُه أبداً . وأَيمُ اللهِ ، ما كنا نأْخُذُ من لُقمةٍ إلاّ رَبا من أَسْفلها أكثرُ منها . قال: يعني حتى شَبِعُوا ، وصارتْ أَكثَرَ مِما كانت قبل ذلك . فنظرَ إِليها أبو بكرٍ فإِذا هيَ كما هيَ أو أكثرُ . فقال لامرأتِه: يا أُختَ بني فِراسٍ ما هذا ؟ قالت: لا وقُرَّةِ عيني ، لهيَ الآنَ أَكثرُ منها قبل ذلكَ بثلاثِ مرّاتٍ . فأَكل منها أبو بكرٍ وقال: إِنما كان ذلكَ منَ الشيطانِ ـ يعني يَمينَهُ ـ ثمَّ أَكل منها لُقمةً ، ثمَّ حَملها إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأصبحتْ عندَه . وكان بينَنا وبينَ قومٍ عَقدٌ ، فمضى الأجلُ ففرَّقَنا اثْنَيْ عشرَ رجُلاً معَ كل رجلٍ منهم أُناسٌ اللهُ أعلم كم مَع كل رجُلٍ ، فأكلوا منها أجمعون ، أَو كما قال .
وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال أُتِيَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَجَعَل المَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ القَوْمُ قَال قَتَادَةُ قُلتُ لأَنَسٍ كَمْ كُنْتُمْ قَال ثَلاثَ مِائَةٍ أو قريبا من ذلك .
علمنا أن مراتب القدر أربع مراتب علم وكتابة ومشيئة وخلق ، ما الفرق بين القضاء والقدر ؟ قد يأتي القضاء بمعنى القدر لاشتراكهما في ثلاث مراتب أما من جهة الفرق بينهما فيمكن حصر ذلك في أربعة أمور:
1- القضاء ثلاث مراتب والقدر أربع: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة:117) (قَالتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لي وَلدٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَال كَذَلكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:47) (هُوَ الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) (غافر:68) ، القضاء يستصدر منه الأحكام والقدر تنفيذه لأنه من القدرة كما في السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ، (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُل سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَليمِ) (فصلت:12) .
2- القضاء غيب ويكون مشهودا بالقدرة ، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل) ، يقول الغزنوى: (اعلم بأن القدر سر والقضاء ظهور السر على اللوح) .
3- القضاء يسبق القدر ، أو يسبق القدر من جانب القدرة ، ويشترك معه من جانب التقدير ، انظر إلى الفرق بين القضاء والقدر عند الهدهد الموحد: (أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (النمل:26) .
4- القضاء أعم من حيث التعلق والقدر أخص ، والقدر أعم من حيث المراتب والقدر أخص ، القضاء يتعلق بما كان وما هو كائن وما سيكون ، أما القدر من جانب القدرة والخلق والتكوين فيتعلق بما كان وما هو كائن ، أما من جهة المراتب فالقدر أعم لأنه أربع مراتب والقضاء أخص لأنه ثلاث .
هذه مراتب القدر قد بيناها ووضحناها فيجب على الموحدين الإيمان بها والعمل بالأسباب من خلالها ، معتقدين أن ما قدره الله سوف يكون وأن حكمته في خلقه أبلغ ما يكون ، يسوق أولى التعذيب بالسبب الذي يقدره نحو العذاب بعزة - ويهدي أولى التنعيم نحو نعيمهم بأعمال صدق في رجاء وخشية - وأمر إله الخلق بين ما به يسوق أولى التنعيم نحو السعادة - فمن كان من أهل السعادة أثرت أوامره فيه بتيسير صنعة - ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل بأمر ولا نهى بتقدير شقوة - ولا مخرج للعبد عما به قضى ولكنه مختار حسن وسوأة - فليس بمجبور عديم الإرادة ولكنه شاء بخلق الإرادة - ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة بها صار مختار الهدى بالضلالة - ولله رب الخلق أكمل مدحة وصلى إله الخلق جل جلاله على المصطفي المختار خير البرية .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
أرجو إضافة التعليقات لمن يرغب في المتابعة فالفائدة ستكون عظيمة
الموضوعات التالية :
الحديث عن أنواع التقدير وما يقبل المحو والإثبات والتغيير
أنواع التدبير والفرق بين المشيئة والإرادة
اصبر يا أبا عمير وستجد ما يسرك
الموضوع مرتب بدقة في الحلقات القادمة وما تسأل عنه ستجد جوابه في المحاضرات القادمة وأسئلتك ستجيب عنها بنفسك بعد استكمال الموضوع ، وسأضع الحلقة القادمة حالا
أنواع التقدير وما يقبل المحو والإثبات والتغيير
أنواع التقدير – المحاضرة الأولى
التقدير الأزلي
الحمد لله الذي خلق الإنس والجن لعبادته ، فكلفهم أن يوحدوه ويعبدوه ، ويقدسوه ويحمدوه ، ويشكروه ولا يكفروه ، ويطيعوه ولا يعصوه ، فالعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله ، إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، الذي لا فوز إلا في طاعته ، ولا عز إلا في عبوديته ، ولا غنى إلا بالافتقار إلى رحمته ، ولا هدى إلا في التمسك بهدايته ، ولا حياة إلا في حبه وطاعته ، ولا نعيم إلا في قربه وجنته ولا صلاح للقلب إلا بإخلاص نيته ، إله عظيم كريم عزيز رحيم ، إذا أطعته أثاب وشكر ، وإذا عصيته تاب وغفر .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، كلمة قامت بها السماوات والأرض ، ومن أجلها أوجد الحق سبحانه جميع الخلق ، وبها أرسل الله تعالى رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وشرع لهم شرائعه ، ولأجلها نصبت الموازين ، ووضعت الدواوين ، وبقيت الجنة والنار أبد الآبدين ، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار ، والأبرار والفجار ، فهي منشأ الخلق والأمر ، والثواب والعقاب ، وهي الحق الذي من أجله كان العرض والحساب ، وعليها نصبت القبلة ، وعليها أسست الملة ، ولأجلها جردت سيوف الجهاد ، وهي حق الله على جميع العباد ، فهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام ، يسأل الله عنها الأولين والآخرين ، ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله إلي الناس كافة ليوقروه ويطيعوه ، وينصروه ويتبعوه ، فأمرهم على لسانه بكل بر وإحسان ، وزجرهم على لسانه عن كل إثم وعدوان ، أمرهم بالمعاونة على البر والتقوى ، ونهاهم عن المعاونة على الإثم والطغيان ، وحثهم على الاقتداء والاتباع ، وحذرهم من الاختلاف والابتداع ، أمر العباد بكل خير واجب محبوب ، وبكل مستحب أو مندوب ، سبحانه وتعالى غنى عن طاعتهم ، غير مفتقر إلى عبادتهم ، لكنه رتب مصالح الدارين على طاعته ، وجعل سعادة العباد في ترك معصيته ، فأنزل الكتب بالأمر والزجر والوعد والوعيد ، ولو شاء الله بدون ذلك لفعله بقدرته ، ولكنه يفعل ما يشاء بحكمته ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وما ربك بظلام للعبيد ، فصلى الله علي سيدنا محمد ، وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد . .
حديثنا اليوم عن معتقد السلف الصالح في أنواع التقدير التي نظم الله عز وجل الكون من خلالها ، وكيف رتبها من تقدير عام يشمل المخلوقات بأسرها ، إلى تقدير خاص يتعلق بآحاد المخلوقات وأفرادها ، فأنواع التقدير عند السلف خمسة أنواع: تقدير أزلي وتقدير ميثاقي ، وتقدير عمري ، وتقدير حولي أو سنوي ، وتقدير يومي ، والمقصود بأنواع التقدير تنظيم أمور الكون من خلال مجموعة من التقديرات تتعلق بجميع المخلوقات أو بعضها ، عمومها وخصوصها ، فهناك تقدير أزلي عام مدون في اللوح المحفوظ ، وشامل لكل أمر سيحدث لجميع المخلوقات بلا استثناء ، وقد قضاه الله وقدره في أم الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، ومن أنواع التقدير أيضا التقدير الميثاقي وهو تقدير خاص بالإنسانية جمعاء ، قدر الله فيه أهل النعيم والشقاء ، وكان ذلك وقت أخذ الميثاق على آدم وذريته ، وإشهادهم وهم في عالم الذر أن يوحدوا الله في ربوبيته ، فعندها حدد الفريقين وميز النوعين وخلق بعضهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، وخلق بعضهم للنار وبعمل أهل النار يعملون ، وهذا التقدير أخص من الأول وداخل فيه ، وهذان التقديران أعنى الأزلي والميثاقي ، لا يقبلان المحو والتبديل ، ولا يخضعان للإضافة والتغيير ، ولا يطلع عليهما ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولا يُعلم عنهما شيئا إلا بعد حدوثهما ، ووقوع ما قدره الله فيهما .
أما التقدير الثالث فهو أخص من التقدير الثاني ، ويسمى بالتقدير العمري ، ويشمل مجموعة الأوامر التي يُكَلف بكتابتها الملك الموكل بالنطفة في الرحم ، مما يخص عمر كل إنسان ، ورزقه وشقي هو أم سعيد ، والتقدير الرابع يسمى بالتقدير السنوي ، وهو أخص من الثالث ، ويشمل مجموعة الأوامر السنوية التي تصدر من الله لملائكته في ليلة القدر مما يخص حياة الناس وموتهم ، وتصنيف أرزاقهم على قدر أعمالهم ، كل ذلك علي مدار عام كامل ، وهناك نوع خامس من أنواع التقدير يسمى بالتقدير اليومي ، وهو أخص من الرابع ويشمل مجموعة الأوامر اليومية التي تصدر في شأن الناس وحياتهم لحظة بلحظة .
وهذه التقديرات الثلاثة أعنى التقدير العمري والسنوي واليومي ، تقبل المحو والإثبات والتغيير ، وتتولاها الملائكة المكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولكنهم لا يعلمون إن كان ما صدر لهم من أوامر وأحكام يتطابق مع ما كتب في اللوح من تقدير أزلي أو يتطابق مع ما صدر من أحكام في التقدير الميثاقي أم لا ، فهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يطلعون علي ما دونه الله في أم الكتاب .
هذه أنواع التقدير عند السلف سوف نتناول شرحها بالتفصيل ، وبيان الاعتقاد فيها بالدليل ، ونبدأ اليوم بإذن الله تعالى بشرع النوع الأول من التقدير وهو التقدير الأزلي ، وقبل أن نبدأ هناك سؤال ، لماذا هذا التنوع في أنواع التقدير لماذا جعل الله عز وجل تقديرا أزليا وتقدير ميثاقيا ، وتقدير عمريا ، وتقدير حوليا أو سنويا ، وتقدير يوميا ؟ ألا يكفي التقدير المدون في اللوح المحفوظ ؟
والجواب أن الله عز وجل حكيم في صنعه ، والحكمة صفته ، ومقتضي الحكمة أن تقع الصنعة على وجه الكمال والإتقان ، والإبداع التام الذي يبهر العقلاء ويحير الأذهان ، كما نبه سبحانه على ذلك في القرآن فقال تعالى: (صُنْعَ اللهِ الذِي أَتْقَنَ كُل شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل:88) ، فالصناعة تتطلب الخبرة والحكمة ، لا سيما المشروعات العملاقة الضخمة ، ولله المثل الأعلى ، بناء أي مشروع يتطلب تقديرا عاما شاملا كاملا ، لا يدع صغيرة أو كبيرة إلا بين فيها الأمر بيانا مفصلا ، ثم بعد ذلك وعند التنفيذ والتكوين ، يقسم التقدير المكتوب في العموم والجملة والمجموع ، إلى تقديرات في الخصوص تتعلق بكل جزء من أجزاء المشروع ، وكل جزء من أجزاء المشروعات العملاقة يقسم أيضا إلى أجزاء أخص وأخص ، وكل جزء له من التقدير ما يخصه حسب الزمان والمكان الذي يتم فيه الإنشاء والبنيان ، فقد تتغير أحكام الزمان والمكان بتغير أحوالها ، فمكان يقتضي أن يكون العمل فيه بالنهار لأن الطقس مثلا مشمس حار ، ومكان يتطلب التأخير بعض الشيء لهطول الأمطار ، وهكذا تتفاعل منظومة العمل في إتمام المشروع ثم إعداد تقرير عن كل موضوع بحيث إذا رفع كل تقرير إلى الإدارة العليا يتوافق مع التقدير العام بمنتهى الإتقان والتوافق التام ، لا خلل في الأمور صغيرها وكبيرها ، علامة الجودة خاتم موضوع على المصنوعات وأجزائها ، هكذا يكون الكمال في الصنعة ، وهكذا تكون الأعمال عن الحكمة والخبرة ، ولا أحد ينكر ذلك بين العقلاء ، فالله عز وجل له المثل الأعلى في السماء: (وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليْهِ وَلهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (الروم:27) فالعزيز هو الذي تعزز بقدرته وغناه فلا يفتقر إلى أحد سواه والحكيم هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده بكمال القدرة ، وبالغ الخبرة ، ومنتهى الحكمة ، فإذا كان هذا شأن المشروعات العملاقة الضخمة ، فهل بعد مشروع الكون مشروع ، وهل بعد بناء الخلق لتوحيد الحق موضوع ؟
من أجل ذلك كان التنوع في أنواع التقدير فجعل الله عز وجل تقديرا أزليا عاما شاملا وتقدير ميثاقيا يتناول الإنسانية تناولا كاملا ، وتقدير عمريا يخص حياة كل إنسان علي حدة ، وتقدير حوليا يخص سنة واحدة ، وتقديرا يوميا لمتابعة التنفيذ في مشرع الخلق لحظة بلحظة ، وكلمة كلمة ، إلى أن ينتهي العالم كما كتبه الله في اللوح المحفوظ ولذلك تنوعت الأقلام ، وتعدد تدوين الأحكام ، فمن ذلك القلم الأول الذي جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ، روى الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن سُرَاقَة بْنَ مَالكٍ قَال: يَا رَسُول اللهِ بَيِّنْ لنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلقْنَا الآنَ فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ قَال لا بَل فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ قَال فَفِيمَ العَمَلُ ؟ قَال: (فَقَال اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لعَمَلهِ) .
روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث 2516 ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: (كُنْتُ خَلفَ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَوْمًا فَقَال يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَاعْلمْ أَنَّ الأُمَّةَ لوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لكَ وَلوِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَليْكَ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) .
وقد جاءت الأقلام في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة فدل ذلك على أن للمقادير أقلاما غير القلم الأول الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ ، يقول ابن أبي العز الحنفي في شرحه عقيدة الطحاوي:
(والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة: القلم الأول العام الشامل لجميع المخلوقات وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح ، والقلم الثاني: خبر خلق آدم وهو قلم عام أيضا لكن لبني آدم ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم عقيب خلق أبيهم - وهو يشير إلي التقدير الميثاقي الذي سنتحدث عنه بإذن الله في محاضرة مستقلة - ، والقلم الثالث حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة ، والقلم الرابع الموضوع على العبد عند بلوغه الذي بأيدي الكرام الكاتبين الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم كما ورد ذلك في الكتاب والسنة) كما قال نبينا المصطفي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ: (رُفِعَ القَلمُ عَنْ ثَلاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حتى يَشِبَّ وَعَنِ المَعْتُوهِ حتى يَعْقِل ، وفي رواية رُفِعَ القَلمُ عَنْ الغُلامِ حتى يَحْتَلمَ) ، وهو حديث صحيح رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني .
فأول أنواع التقدير التقدير الأزلي وهو ما أشار إليه الإمام الطحاوي بقوله: (ونؤمن باللوح والقلم ، وبجميع ما فيه قد رقم) ، روى أبو داود في سننه وصححه الشيخ الألباني من حديث (4692) عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ أنه قال لابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإيْمَانِ حَتَّى تَعْلمَ أنَّ مَا أصَابَكَ لمْ يَكُنْ ليُخْطِئَك َ ، وَما أخْطَأَكَ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ ، سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّ أوَّل مَا خَلقَ الله تَعَالى القَلمَ فقال له: اْكْتُبْ ، فقَال: رَبِّ وَمَاذَا أكْتُب ؟ قال: اْكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيْء حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، يَا بُنَيَّ إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ مَاتَ عَلى غَيْرِ هذَا فَليْسَ مِنِّي) .
والسؤال لما ذا كتب الله التقدير الأزلي ؟ والإجابة على ذلك أن الكتابة من لوازم كمال الحكمة ، ومن الأمور الضرورية لقيام الحجة ، وإذا كان الصانع الحكيم ، لا يصنع إلا ومخطط الصناعة بين يديه ، والمهندسون ينفذون ويشرفون عليه ، ثم بعد ذلك يطابقون المصنوع علي دليل التصنيع وقياس الرسومات ، ومراقبة الجودة تدقق في المواصفات وتطبيق القياسات ، ولا يمكن أبدا الاستغناء عن الكتابة في مثل هذه الضروريات ، أليست للخالق من باب أولي ، فكتابة مقادير المخلوقات من لوازم الحكمة والكمال ، ولا يحتاج إليها رب العزة والجلال ، كما أنه لا يحتاج إلي خلقه ولا يفتقر إليهم بأي حال ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي عن رب العزة: (يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَليَحْمَدِ اللّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذ?لكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ) .
كما أن كتابة الأعمال والمقادير فيها قيام الحجة على الخلق ، فالعبد يكون بين يدي الحق ويكذب ربه ويقسم علي أنه يقول الصدق: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلفُونَ لهُ كَمَا يَحْلفُونَ لكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ) (المجادلة:18) (ثُمَّ لمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَل عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:24) (وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلتَنَا مَال هَذَا الكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49) .
روى البخاري من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أنه قال: قلتُ: يا رسول الله ، إني رجلٌ شابٌّ ، وأنا أخافُ على نفسي العَنَتَ ولا أجد ما أتزوجُ به النساء ، فسكَتَ عني ، ثم قلتُ مثل ذلك ، فسكت عني ، ثم قلتُ مثل ذلك ، فسكت عني ، ثم قلتُ مثل ذلك ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرةَ جفَّ القلم بما أنتَ لاقٍ ، فاختصِ على ذلكَ أو ذَر ، وعلى ما يبدو أن النبي أذن فيه ثم حرمه تكرر طلبه من الكثيرين ، وهذا الحديث أورده البخاري في باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّبَتُّل وَالخِصَاء ، والمراد بالتبتل هنا الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة ، ووصفت مريم بالبتول لانقطاعها عن التزويج إلى العبادة ، والخصاء هو الشق على الأنثيين أو الخصيتين وانتزاعهما ، ومن حديث قَيْسٍ ابن أبي حازم قَال قَال عَبْدُ اللهِ ابن مسعود كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ وَليْسَ لنَا شَيْءٌ فَقُلنَا أَلا نَسْتَخْصِي فَنَهَانَا عَنْ ذَلكَ)
قوله (ألا نستخصي) أي ألا نستدعي من يفعل لنا الخصاء أو نعالج ذلك أنفسنا ، وقوله (فنهانا عن ذلك) هو نهى تحريم بلا خلاف في بني آدم لما فيه من المفاسد وتعذيب النفس والتشويه مع إدخال الضرر الذي قد يفضي إلى الهلاك ، وفيه إبطال معنى الرجولية وتغيير خلق الله وكفر النعمة ، لأن خلق الشخص رجلا من النعم العظيمة فإذا أزال ذلك فقد تشبه بالمرأة واختار النقص على الكمال ، قال القرطبي: الخصاء في غير بني آدم ممنوع في الحيوان إلا لمنفعة حاصلة في ذلك كتطييب اللحم أو قطع ضرر عنه ، وقال النووي: يحرم خصاء الحيوان غير المأكول مطلقا ، وأما المأكول فيجوز في صغيره دون كبيره .
وقوله (فاختص على ذلك أو ذر) في رواية أخري عند الطبري (فاقتصر على ذلك أو ذر) ومعناه اقتصر على الذي أمرتك به أو اتركه وافعل ما ذكرت من الخصاء ، وأما اللفظ الذي وقع في الأصل فمعناه فافعل ما ذكرت أو اتركه واتبع ما أمرتك به ، وعلى الروايتين فليس الأمر فيه لطلب الفعل بل هو للتهديد ، وهو كقوله تعالى (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) والمعنى إن فعلت أو لم تفعل فلا بد من نفوذ القدر ، وليس فيه تعرض لحكم الخصاء ، ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل ، فالخصاء وتركه سواء ، فإن الذي قدر لا بد أن يقع ، وليس هذا إذنا في الخصاء ، بل فيه إشارة إلى النهى عن ذلك ، كأنه قال إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله فلا فائدة في الاختصاء ، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون لما استأذنه في ذلك ، وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: (شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال ألا أختصي قال: ليس منا من خصى أو اختصى فقال ألا أختصي قال: ليس منا من خصى أو اختصى) .
وشاهدنا من الحديث قوله (جف القلم بما أنت لاق) أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به .
وقد كان توقيت كتابة المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، لما ثبت في صحيح مسلم من عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أنه قَال: (سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ) وفي رواية الترمذي 2156 (قَدَّرَ اللهُ المَقَادِيرَ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) .
وما دون في أم الكتاب لا يقبل المحو والتبديل ، أو التعديل والتغيير ، فكل ما كتب فيه واقع لا محالة ، كما قال تعالى: (قُل لنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلى اللهِ فَليَتَوَكَّل المُؤْمِنُون َ) (التوبة:51) ، يقول ابن عباس إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون ثم قال لعلمه كن كتابا فكان كتابا ثم أنزل تصديق ذلك في قوله: (أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) ، وقال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22) وقال: (وَلقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالحُونَ) (الأنبياء:105) ، وقال: (لكُل أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ) (الرعد:39) . لكن ما هو السر في عدم التغيير والتبديل ؟ السر في عدم التغيير والتبديل ، أن الخلق والتصنيع والتكوين قائم علي ما دون فيه ، فالمخلوقات وسائر المصنوعات إلى قيام الساعة ، أحكم الله غاياتها وقضى في اللوح أسبابها ومعلولاتها ، فلا يتغير بنيان الخلق الذي حكم به الحق إلا بعد استكماله وتمامه ، ولا يتبدل سابق الحكم في سائر الملك إلا بقيامه وكماله ، وهذه مشيئة الله في خلقه ، وما قضاه وقدره في ملكه ، فالله عز وجل على عرشه في السماء يفعل ما يشاء ، وبيده أحكام التدبير والقضاء ، حكم بعدله أن يقوم الخلق على الابتلاء ، ثم يتحول العالم إلى دار الجزاء ، فالله عز وجل يخلق ما يشاء ، ولكن حكمة سبقت فيما تم به القضاء ، ولذلك ينبهنا الله في بعض المواطن إلى هذه الحقيقة ، وأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يفعل ما يشاء ، لولا ما دون في الكتاب من أحكام القضاء: (لوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) (لأنفال:68) (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلفُوا وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلفُونَ) (يونس:19) (وَلقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلفَ فِيهِ وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (هود:110) (وَلوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لكَانَ لزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً) (طه:129) .
والعقلاء يعلمون أن العلماء من البشر ، لو اجتمعوا على وضع خطة محكمة لبناء مشروع عملاق أو أي مشروع من المشروعات ، درسوا فيها جميع الجوانب بمختلف المقاييس والدراسات ، وراعوا في خطتهم الموازنة بين السلبيات والإيجابيات ، ثم وضعوا تخطيطا محكما لا مجال فيه للإضافات ، ثم انتهوا إلى تقرير شامل دونوه في كتاب كامل أو مجموعة من الملفات ، ثم قدموا هذا المكتوب لإدرارة التنفيذ والمشروعات ، هل يصح بعد ذلك لعامل جاهل ينقصه العلم والفهم أن يعترض أو يغير أو يبدل في هذا المشروع الضخم ؟ هل يصح أن يعبث فيه حسب هواه ، أو يغير في تخطيطه على وفق ما يراه ؟ فالله وله المثل الأعلى كتب مقادير كل شيء ورفعت الأقلام وجفت الصحف حتى يتم الخلق على ما قضى به الحق ، فالمخلوقات ولله المثل الأعلى كمشروع عملاق كامل ، موضوع على تخطيط محكم شامل ، لا يصح العبث فيه من قبل أحمق جاهل .
يقول ابن القيم: "إنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً ، ولا لغير معنىً ومصلحة ، وحكمته هي الغاية المقصودة بالفعل ، بل أفعاله سبحانه صادرةٌ عن حكمة بالغة لأجلها فعل) .
واللوح فوق العرش عند رب العرش لما ثبت عند البخاري 7554 من حديث أبى هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْهم أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قال: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقَ الخَلقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ) ، فكل كتابة كونية لا تتغير ولا تتبدل ، أو ذكر فيها اللوح فهي شاهد للتقدير الأزلي الجامع المانع .
فأنواع التقدير عند السلف خمسة أنواع: تقدير أزلي وتقدير ميثاقي ، وتقدير عمري ، وتقدير حولي أو سنوي ، وتقدير يومي ، والمقصود بأنواع التقدير كما تقدم تنظيم أمور الكون من خلال مجموعة من التقديرات تتعلق بجميع المخلوقات أو بعضها ، عمومها وخصوصها ، فهناك تقدير أزلي عام مدون في اللوح المحفوظ ، وشامل لكل أمر سيحدث لجميع المخلوقات بلا استثناء ، وقد قضاه الله وقدره في أم الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، ومن أنواع التقدير أيضا التقدير الميثاقي وهو تقدير خاص بالإنسانية جمعاء ، قدر الله فيه أهل النعيم والشقاء ، وكان ذلك وقت أخذ الميثاق على آدم وذريته ، وإشهادهم وهم في عالم الذر أن يوحدوا الله في ربوبيته ، فعندها حدد الفريقين وميز النوعين وخلق بعضهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، وخلق بعضهم للنار وبعمل أهل النار يعملون ، وهذا التقدير أخص من الأول وداخل فيه ، وهذان التقديران أعنى الأزلي والميثاقي ، لا يقبلان المحو والتبديل ، ولا يخضعان للإضافة والتغيير ، ولا يطلع عليهما ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولا يُعلم عنهما شيئا إلا بعد حدوثهما ، ووقوع ما قدره الله فيهما .
أما التقدير الثالث فهو أخص من التقدير الثاني ، ويسمى بالتقدير العمري ، ويشمل مجموعة الأوامر التي يُكَلف بكتابتها الملك الموكل بالنطفة في الرحم ، مما يخص عمر كل إنسان ، ورزقه وشقي هو أم سعيد ، والتقدير الرابع يسمى بالتقدير السنوي ، وهو أخص من الثالث ، ويشمل مجموعة الأوامر السنوية التي تصدر من الله لملائكته في ليلة القدر مما يخص حياة الناس وموتهم ، وتصنيف أرزاقهم على قدر أعمالهم ، كل ذلك علي مدار عام كامل ، وهناك نوع خامس من أنواع التقدير يسمى بالتقدير اليومي ، وهو أخص من الرابع ويشمل مجموعة الأوامر اليومية التي تصدر في شأن الناس وحياتهم لحظة بلحظة .
أنواع التقدير - المحاضرة الثانية
التقدير الميثاقي
(الحَمْدُ للهِ الذِي أَنْزَل عَلى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلمْ يَجْعَل لهُ عِوَجَا قَيِّماً ليُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحَاتِ أَنَّ لهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلدا مَا لهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً) ، (وَقُل الحَمْدُ للهِ الذِي لمْ يَتَّخِذْ وَلداً وَلمْ يَكُنْ لهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلمْ يَكُنْ لهُ وَليٌّ مِنَ الذُّل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرا ً) ، (هُوَ الحَيُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ) (غافر:65) (قُل الحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفي آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يؤمن بأنه لا معين له ولا ظهير ، ولا وزير له ولا مشير .
سبحانه منفرد بالخلق والتدبير ، سبحانه منفرد والأمر والتقدير ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، المبعوث إلى كافة الخلق من غني وفقير ، ومأمور وأمير ، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، صلاة تنجى قائلها من هول المطلع في يوم عسير ، ومن حساب يحصى الصغير والكبير ، صلاة تباعد بيننا وبين عذاب السعير ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون) (آل عمران:102) أما بعد . .
تحدثنا في المحاضرة الماضية عن النوع الأول من أنواع التقدير وهو التقدير الأزلي وعلمنا أن التقدير الأزلي هو التقدير العام المدون في اللوح المحفوظ ، وهو تقدير شامل لكل ما سيحدث في جميع المخلوقات بلا استثناء ، وقد قضاه الله وقدره في أم الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وقد علمنا أيضا أن تقدير الله لأمور الإنسان ، وكذلك سائر الأشياء والأوامر والأحكام التي صدرت بالمشيئة الإلهية في قضائه الكوني والتي ستقع لا محالة رتبها الله عز وجل على عدة أنواع ، من نوع عام يتعلق بجميع الخلق إلي نوع خاص يتعلق بالإنسانية إلي أخص يتعلق بكل إنسان علي حده ، وأخص من ذلك مما يتعلق بكل عام وبكل يوم ، فأنواع التقدير عند السلف خمسة أنواع ، تقدير أزلي ، وتقدير ميثاقي ، وتقدير عمري ، وتقدير سنوي ، وتقدير يومي ، واليوم بإذن الله تعالى نتحدث عن النوع الثاني من أنواع التقدير وهو التقدير الميثاقي ، هذا التقدير كان عند أخذ الميثاق على بنى آدم في عالم الذر ، ويشمل أحكام التدبير التي حدد الله من خلالها أهل الجنة والنار ، يوم مسح على ظهر آدم واستخرج ذريته وخلق بعضهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، وخلق بعضهم للنار وبعمل أهل النار يعملون ، وهذا التقدير أخص من التقدير الأزلي .
ورد في القرآن والسنة ما يبين أن الله عز وجل أخذ عهدا وميثاق علي الإنسانية جمعاء ، يقول تعالي: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلكُنَا بِمَا فَعَل المُبْطِلُونَ) (لأعراف:173) وهذا التقدير الميثاقي قدر الله فيه سعادة العباد وشقاوتهم وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم ، وهو تقدير ثان بعد التقدير الأول ، فمن حديث عَبْدِ الرَّحْمنِ عَنْ عَليَ رضي الله عنه قَال: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلهُ ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ ، فَنَكَّسَ فَجَعَل يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَال َ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ ، إِلاَّ وَقَدْ كَتَبَ اللّهُ مَكَانَهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَإِلاَّ وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً ، قَال: فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللّهِ أَفَلاَ نَمْكُثُ عَلى كِتَابِنَا ، وَنَدَعُ العَمَل ؟ فَقَال: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل السَّعَادَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل الشَّقَاوَة ، ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِل وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى ) .
ومن حديث عمر رضي الله عنه أن النبي سُئِل عَنْ قوله تعالي: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ، فَقَال: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل خَلقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَال: خَلقْتُ هَؤُلاءِ للجَنَّةِ وَبِعَمَل أَهْل الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَال: خَلقْتُ هَؤُلاءِ للنَّارِ وَبِعَمَل أَهْل النَّارِ يَعْمَلُونَ ، فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللهِ ، فَفِيمَ العَمَلُ ؟ فَقَال رَسُولُ اللهِ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل إِذَا خَلقَ العَبْدَ للجَنَّةِ اسْتَعْمَلهُ بِعَمَل أَهْل الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال أَهْل الجَنَّةِ فَيُدْخِلهُ بِهِ الجَنَّةَ ، وَإِذَا خَلقَ العَبْدَ للنَّارِ اسْتَعْمَلهُ بِعَمَل أَهْل النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال أَهْل النَّارِ ، فَيُدْخِلهُ بِهِ النَّارَ) وهذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب السنة وقال عنه الشيخ الألباني هو صحيح إلا لفظ مسح الظهر .
وروى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي الأَسْوَدِ الدِّئَليِّ أنه قَال: قَال لي عِمْرَانُ بْنُ الحُصَيْنِ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ اليَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَليْهِمْ وَمَضَى? عَليْهِمْ مِنْ قَدَرِ مَا سَبَقَ ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الحُجَّةُ عَليْهِمْ ؟ فَقُلتُ: بَل شَيْءٌ قُضِيَ عليْهِمْ ، وَمَضَى? عَليْهِمْ . قَال: فَقَال: أَفَلاَ يَكُونُ ظُلماً ؟ قَال: فَفَزِعْتُ مِنْ ذ?لكَ فَزَعاً شَدِيداً . وَقُلتُ: كُلُّ شَيْءٍ خَلقُ اللّهِ وَمِلكُ يَدِهِ . فَلاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . فَقَال لي: يَرْحَمُكَ اللّهُ إِنِّي لمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلتُكَ إِلاَّ لأَحْزِرَ عَقْلكَ . إِنَّ رَجُليْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُول اللّهِ . فَقَالاَ: يَا رَسُول اللّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ اليَوْمَ ، وَيَكْدَحُونَ فِيهِ ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَليْهِمْ وَمَضَى? فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ ، وَثَبَتَتِ الحُجَّةُ عَليْهِمْ ؟ فَقَال: لاَ . بَل شَيْءٌ قُضِيَ عَليْهِمْ وَمَضَى? فِيهِمْ . وَتَصْدِيقُ ذ?لكَ فِي كِتَابِ اللّهِ عَزَّ وَجَل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) .
وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث شُفَيِّ بنِ مَاتعٍ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قَال: (خَرَجَ عَليْنَا رَسُولُ الله وفي يَدِهِ كِتَابَانِ ، فَقَال: أَتَدْرُونَ ما هَذَانِ الكِتَابَانِ ؟ فَقُلنَا: لا يا رسول الله إِلاَّ أَنْ تُخْبِرَنَا ، فقال للّذِي في يَدِهِ اليُمْنَى: هذا كِتَاب مِنْ رَبِّ العَالمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْل الجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبائهِمْ وَقَبَائِلهِمْ ، ثم أُجْمِل عَلى آخِرِهِمْ فَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَداً . ثم قال للّذِي في شِمَالهِ هذا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْل النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبائهِمْ وَقَبَائِلهِمْ ثم أُجْمِل عَلى آخِرِهِمْ فَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَداً . فقال أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ العَمَلُ يا رسول الله إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ؟ فقال: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لهُ بِعَمَل أَهْل الجنَّة وَإِنْ عَمِل أي عَمَلٍ وإنَّ صاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لهُ بِعَمَل أهْل النَّارِ وإنْ عَمِل . أَيَّ عَمَلٍ . ثم قال رسولُ الله بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُما ثم قال: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ ، فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِير) .
أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، والحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وصححه الذهبي ، أن أبي بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قال فِي معنى قوله تعالي: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلكُنَا بِمَا فَعَل المُبْطِلُونَ) (لأعراف:173) يقول أبي: (جَمَعَهُمْ فَجَعَلهُمْ أَرْوَاحًا ، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فَاسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلمُوا ، ثُمَّ أَخَذَ عَليْهِمُ العَهدَ وَالمِيثَاقَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قَال: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَليْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ ، وَالأرَضِينَ السَّبْعَ ، وَأُشْهِدُ عَليْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ عَليْهِ السَّلام ، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ ، لمْ نَعْلمْ بِهَذَا ، اعْلمُوا أَنهُ لا إِلهَ غَيرِي ، وَلا رَبَّ غَيْرِي ، فَلا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا ، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِليْكُمْ رُسُلي يُذَكِّرُونَكُمْ عَهدِي وَمِيثَاقِي ، وَأُنْزِلُ عَليْكُمْ كُتُبِي ، قَالُوا: شَهدْنَا بِأَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلهُنَا ، لا رَبَّ لنَا غَيْرُكَ ، فَأَقَرُّوا بِذَلكَ) .
نحن لا ندري كيف تم ذلك ؟ أو كيف أوقفهم الله بين يديه كالذر ؟ لكنا نؤمن بذلك لأن الله أخبرنا به ، سؤال: لماذا أخذ الله الميثاق علي آدم وذريته ؟ ولو حاولنا التماس العلة التي من أجلها أخذ الميثاق علي الذرية ، لوجدنا من خلال الآية وما ورد في السنة وأقوال السلف أن ذلك كان لتعريف الحقوق بين الخالق والمخلوق ، وبيان دورهم ووظيفتهم التي من أجلها كرمهم الله ورفع درجتهم وميزهم عن غيرهم ، وأنهم مستخلفون في أرضه ، أمناء في ملكه ليبلوهم أيهم أحسن عملا .
فعرفهم جميعا حق الله عليهم وحقهم عليه ، فحق الله عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحقهم عليه ألا يعذبهم إذا فعلوا ذلك ، أشهدهم على أنفسهم وسألهم جميعا ألست بربكم ؟ قالوا: بلى ، إقرارا منهم لما انفرد به من معاني العبودية ، وأنه منفرد بالخلق والأمر وتوحيد الربوبية ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه ، وهو وحده مالك الملك لأنه وحده خالق الكل ، منفرد بإنشاء العالم وتنظيمه على هذه الهيئة البديعة ، فالله عز وجل لن يقبل منهم أن يتخذوا شريكا له في ملكه ، أو منازعا له في تدبير خلقه ، ولن يقبل المساس بتوحيده أبدا ، كما قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء:48) وقال تعالي أيضا: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَل ضَلالاً بَعِيداً) (النساء:116) وقال عن عيسى عليه السلام (يَا بَنِي إِسْرائيل اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَليْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا للظَّالمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (المائدة:72) فالشرك لكونه ظلما عظيما أخذ الله العهد والميثاق على الإنسانية قبل نزولهم إلى الأرض ، فإن ادعى أحد بعد ذلك أن الله له شريك في الملك أو له معين في تدبيره السماوات والأرض ، فقد وقع في الظلم العظيم وعطل دوره ولم يوفق في الابتلاء والامتحان ، ولن يفلح وقتها احتجاج بالنسيان ، أو ادعاء التبعية للآباء في سالف الزمان ، فوجب على الإنسان أن يراعى في قوله وعمله الخوف من الله وحده ، لأن صاحب الأمانة وخالقها ، وولى النعمة ومالكها ، وما سواه لا يملك شيئا ، بل هو مجرد أمين مستخلف في الحياة ، يقول تعالى: (قُل ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلكُونَ مِثْقَال ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (سبأ:22) ، فالله عز وجل أخذ عليهم الميثاق ليعلمهم جميعا بأنه منفرد بالملك والربوبية وله العلو في الشأن والقهر والفوقية ، لا يقبل شريكا معه في العبودية ، ولا يقبل أن يتشبه به أحد في معنى من معاني الربوبية ، فقد ظلم نفسه وتعدى وصفه من قال بعد ذلك بقول فرعون: (وَقَال فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلمْتُ لكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لي يَا هَامَانُ عَلى الطِّينِ فَاجْعَل لي صَرْحاً لعَلي أَطَّلعُ إِلى إِلهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِليْنَا لا يُرْجَعُونَ) (العنكبوت:39) .
وقد ظلم نفسه من تناسى فضل ربه ، وتكبر على إخوانه وقومه ، وتناسي حقيقة الأمانة والابتلاء ، وأن نسبة الملك إليه نسبة استخلاف واسترعاء ، وأن شرف العبد يكمن في التواضع والعبودية ، يقول الله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَليْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولي القُوَّةِ إِذْ قَال لهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلمٍ عِنْدِي أَوَلمْ يَعْلمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلكَ مِنْ قَبْلهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ) (القصص:78) ، ومن أعظم الظلم أن الإنسان الذي كرمه الله في ملكه ، واستخلفه في أرضه ووكل ملائكته بحفظه والقيام على تدبير أمره ، من أعظم الظلم أن يسوى بين الله الذي ليس كمثله شيء والمخلوق العاجز الفقير الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، يسوى بينه وبين الله في المحبة والخوف والرجاء .
فلما أشهدهم الله على أنفسهم بالتوحيد ونبذ الشرك ، وأقروا أمام ربهم بأنه المنفرد بالملك ، وأنه خالقهم المتفرد بتدبير شئونهم ، وأنه لا حول ولا قوة لهم إلا بمعونة الله وهدايته ، وأنهم لا ينسبون شيئا من ملكه لهم أو لغيرهم إلا على سبيل الأمانة والابتلاء ، فالأمر لله في كونه على سبيل الربوبية وتصريف خلقه ، والأمر لله في شرعه على سبيل العبودية وتنفيذ حكمه ، وأن الفضل كله يرجع إليه وأنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه ، وهم على هذا العهد قائمون ، يوحدون ولا يشركون ، ويشكرون ولا يكفرون ، صابرون مؤمنون إلى أن يعيدهم يوم القيامة إليه ، ويكرمهم بجنته يوم العرض عليه ، وعدا عليه بعدله ، وإكراما لهم بفضله كما بين ذلك في سائر كتبه ، فقال سبحانه وتعالي: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَليْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفي بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالحَافِظُونَ لحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) (التوبة:112) .
لماذا أنسانا الله الميثاق ؟ حدثت وقت أخذ العهد والميثاق على الذرية أمور تتعلق بأنواع التقدير ، وما رتبه الله في خلقه من أمور الصنعة ولوازمها من علوم التدبير ، ولو أن الله أبقي في ذاكرة الإنسان أحداث الميثاق بالتفصيل ، لبطلت حكمة الله في خلقه ، وتعطل سر إخفائه لقضائه وقدره ، فالقدر سر الله في خلقه لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولمزيد من البيان فإن تقدير الله لأمور الإنسان ، وكذلك سائر الأشياء والأوامر والأحكام التي صدرت بالمشيئة الإلهية في قضائه الكوني والتي ستقع لا محالة رتبها الله عز وجل على عدة أنواع ، من نوع عام يتعلق بجميع الخلق إلي نوع خاص يتعلق بالإنسانية إلي أخص يتعلق بكل إنسان علي حده ، وأخص من ذلك مما يتعلق بكل عام ويوم ، فأنواع التقدير عند السلف خمسة أنواع:
النوع الأول: تقدير أزلي عام مدون في اللوح المحفوظ ، وشامل لكل ما سيحدث لجميع المخلوقات بلا استثناء ، وقد قضاه الله وقدره في أم الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
النوع الثاني: وهو المعني بموضوعنا ويسمي بالتقدير الميثاقي ، وذلك التقدير كان عند أخذ الميثاق على بنى آدم في عالم الذر ، ويشمل أحكام التدبير التي حدد الله من خلالها أهل الجنة والنار ، يوم مسح على ظهر آدم واستخرج ذريته وخلق بعضهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، وخلق بعضهم للنار وبعمل أهل النار يعملون ، وهذا التقدير أخص من الأول وداخل فيه .
النوع الثالث: وهو أخص من الثاني ، ويسمى بالتقدير العمري ويشمل مجموعة الأوامر التي يُكَلف بكتابتها الملك الموكل بالنطفة في الرحم مما يخص عمر كل إنسان ورزقه ، وشقي هو أم سعيد ؟ .
النوع الرابع: ويسمى بالتقدير السنوي ، وهو أخص من الثالث ، ويشمل مجموعة الأوامر السنوية التي تصدر من الله لملائكته في ليلة القدر ، هذه الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم مما يخص حياة الناس وموتهم ، وتقسيم أرزاقهم على قدر أعمالهم .
النوع الخامس: ويسمى بالتقدير اليومي وهو أخص من الرابع ويشمل مجموعة الأوامر اليومية التي تصدر في شأن الناس وحياتهم لحظة بلحظة ، فالله عز وجل كل يوم هو في شأن .
وهناك نوعان من هذه الخمسة لا يقبلان المحو والإثبات والتغيير ، ولا يطلع عليهما ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولا يعلم عنهما أحد إلا الله ، هذان النوعان هما الأول والثاني أو التقدير الأزلي والميثاقي ، أما بقية الأنواع - أعني التقدير العمري والسنوي واليومي - فهذه تتولاها الملائكة بأمر الله ، ينفذون أحكامها كما أمرهم ربهم ، وكما ذكر الله في شأنهم: (لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: من الآية6) .
ولكن الملائكة لا يعلمون إن كان ما صدر لهم من أوامر وأحكام تتعلق بعمر الإنسان وحياته أو تدبير شئونه يطابق ما كتبه الله في اللوح من تقدير أزلي أو يخالف ، ولا يعلمون أيضا ما الذي صدر من أحكام إلهية عند التقدير الميثاقي وأخذ العهد علي الذرية ، لكن ما يعنينا الآن من هذه الأنواع ، أنه عند أخذ الميثاق على بني آدم في عالم الذر حدث نوع من أنواع التقدير حدد الله فيه المصير الذي يؤول إليه أهل الجنة والنار ، وهذا التقدير الميثاقي مع التقدير الأزلي كما تقدم لا يقبلان المحو والإثبات والتغيير ، ولا يطلع عليهما ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا يُعلمان إلا بعد وقوعهما .
ولو أن إنسانا علم ما حدث في التقدير الميثاقي عند أخذ العهد علي الذرية ، وبقيت أحداثه في ذاكرته حاضرة غير منسية لتعطلت معاني الحكمة الإلهية في خلق الإنسان ، كيف يكلفنا الله بالشرائع والأحكام وكل منا يعلم مصيره إن كان من أهل الجنة أو النار ؟ ومن هنا ظهرت حكمة الله في إخفاء تفاصيل الأحداث التي وقعت يوم أخذ الميثاق ، فالعلة إذا في عدم تذكر الميثاق إخفاء المقدر وذلك حتى تظهر معاني الحكمة الإلهية ، وقد يسأل سائل عن الحكمة والعلة من إخبار الرسل عن وقوعه ؟
والجواب والله أعلم أن ذلك أيضا لإظهار الحكمة في نشأة الكون وبداية وانسجام الفطرة مع الشريعة وتعريف الحقوق بإقام الحجة علي العباد ، والله عز وجل لأنه أنسانا الميثاق ببالغ كرمه وحكمته ، فإنه لن يعذب أحدا إلا بعد إرسال الرسل ، وتذكيرهم بأحكام الله في خلقه وما شرعه لهم في ملكه .
وهنا سؤال هل يكفي الميثاق لإقامة الحجة ؟
علي الرغم من حدوث الميثاق وفطرة الخلق على التوحيد ، وما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مَولودٍ إلاَّ يولدُ على الفِطرةِ ، فأَبَواهُ يُهوِّدانه أو يُنَصِّرانهِ أو يُمجِّسانهِ ، كما تُنْتَجُ البَهيمةُ بَهيمةً جَمْعاءَ ، هل تُحِسُّونَ فيها مِن جَدْعاءَ ؟) ، وعلي الرغم مما ثبت في السنة من مقت الله للمشركين الذين ماتوا في الجاهلية إلا أن الله قد أخبر أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا ، قال تعالى: (وَلوْ أَنَّا أَهْلكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلهِ لقَالُوا رَبَّنَا لوْلا أَرْسَلتَ إِليْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْل أَنْ نَذِل وَنَخْزَى) (طـه:134) (وَلوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لوْلا أَرْسَلتَ إِليْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) (القصص:47) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية معقبا علي هذه الآيات: " فهذا يبين أنه لم يكن ليعذب الكفار حتى يبعث إليهم رسولا ، وبين أنهم قبل الرسول كانوا قد اكتسبوا الأعمال التي توجب المقت والذم وهي سبب للعذاب لكن شرط العذاب قيام الحجة عليهم بالرسالة " .
فمن فضل الله عز وجل على عباده أنه لا يكلفهم أمرا ولا يكتب عليهم وزرا إلا إذا بلغ العبد سن الاحتلام ، واستوعب المعني الذي ورد في الكلام ، وأدرك شيئا من رسالة الإسلام ، وقد ثبت مرفوعا أنه قد رُفِعَ القَلمُ عَنْ الغُلامِ حتى يَحْتَلمَ ، وعن النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ المَعْتُوهِ حتى يَعْقِل ، وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) .
فالإنسان مسئول عن السبب في جهله ، فإن كان الجهل من كسبه وفعله وإعراضه وكبره ، فهو محاسب على كل معصية وقع فيها بجهله ، سواء كانت المخالفة مخالفة عظيمة تؤدي إلي الخلود في النار ، أو كانت المخالفة كبيرة تحت مشيئة الله ، إن شاء غفرها لعبده وإن شاء عذبه بذنبه ، أما إذا انقطعت به الأسباب وانسدت في وجهه الأبواب ، ولم يتمكن من معرفة ما نزل في الكتاب بعد الطلب والبحث والسؤال ولم يعص الله فيما قال: (فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ) (الأنبياء:7) ، فهو باتفاق معذور بجهله لا يؤاخذ على ذنبه لأن الجهل ليس من كسبه ، بل هو من تقدير الله وفعله فالحق سبحانه وتعالي لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة ، وإعراضه عن الهداية إلي الضلالة ، لئلا يكون له حجة على الله في نفي العدالة ، ومعلوم من السنة أنه لا أحد أحب إليه العذر من الله .
والميثاق وإن كانت الحجة لا تقوم به بمفرده ، ولكن الله من حكمته أنه يذكر المشركين به يوم القيامة فيذكرونه ، فمن حديث أَنَسَ بْنَ مَالكٍ رَضِي الله عَنْه أَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: (يَقُولُ اللهُ تَعَالى لأَهْوَنِ أَهْل النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ لوْ أَنَّ لكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ ، فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلبِ آدَمَ ، أَنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلا أَنْ تُشْرِكَ بِي) أخرجه البخاري .
أنواع التقدير - المحاضرة الثالثة
التقدير العمري
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا ، وصرفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزة واقتدارا ، وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذارا منه وإنذارا ، فأتم بهم على من أتبع سبيلهم نعمته السابغة ، وأقام بهم على من خالف منهجهم حجته البالغة ، فنصب الدليل وأنار السبيل ، وأزاح العلل وقطع المعاذير ، وأقام الحجة وأوضح المحجة ، وقال: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلهِ ذَلكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام: 153) فعمهم بالدعوة على ألسنة رسله حجة منه وعدلا ، وخص بالهداية من شاء منهم نعمة منه وفضلا ، فقبل نعمة الهداية من سبقت له سابقة السعادة ، (وَقَال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ عَليَّ وَعَلى وَالدَيَّ وَأَنْ أَعْمَل صَالحا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالحِينَ) (النمل: من الآية19) وردها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسا بين العالمين ، فهذا فضله وعطاؤه ، وما كان عطاء ربك محظورا ، وما كان فضله بمنون ، وهذا عدله وقضاؤه فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فسبحان من أفاض على عباده النعمة ، وكتب على نفسه الرحمة أحمده والتوفيق للحمد من نعمه ، وأشكره والشكر كفيل بالمزيد من فضله ، وأستغفره وأتوب إليه من الذنوب التي توجب زوال نعمه وحلول نقمه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة قامت بها الأرض والسماوات وفطر الله عليها جميع المخلوقات ، وعليها أسست الملة ونصبت القبلة ، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد ، وهي النجاة يوم يقوم الأشهاد ، هي كلمة الإسلام ، ومفتاح دار السلام ، وأساس الفرض والسنة ، من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه ، وحجته على عباده ، وأمينه على وحيه أرسله رحمة للعالمين ، وقدوة للناس أجمعين ، ومحجة للسالكين وحجة على المعاندين ، وحسرة على الكافرين ، أرسله بالهدى ودين الحق ، بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فصلي الله عليه ما دار في السماء فلك ، وما سبح في الملكوت ملك ، وعلى آله الطاهرين وسائر أصحابة أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .
فقد علمنا أن تقدير الله لمخلوقاته أنواع ، النوع الأول هو التقدير الأزلي وهو التقدير العام المدون في اللوح المحفوظ ، التقدير الشامل الذي يتعلق بكل ما سيحدث في جميع المخلوقات ، قدره في أم الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وهناك نوع آخر من التقدير يتعلق بالإنسانية وتقرير المصير ، فقدر منهم فريقا في الجنة وفريقا في السعير ، وهذا التقدير أخص من الأول ، فأنواع التقدير عند السلف خمسة أنواع ، تقدير أزلي ، وتقدير ميثاقي ، وتقدير عمري ، وتقدير سنوي ، وتقدير يومي ، واليوم بإذن الله تعالى نتحدث عن النوع الثالث من أنواع التقدير وهو التقدير العمري ، الذي يتعلق بكل إنسان على حدة ، وقت نفخ الروح وهو في بطن أمه ، هذا التقدير يكتب فيه أربعة أمور: أولا رزقه ، وثانيا: أجله ، وثالثا: عمله ، ورابعا: أهو شقي أو سعيد ؟ فالتقدير العمري تقدير شقاوة العبد وسعادته ، ورزقه ومنيته ، وعمله في دنيته ، وسائر ما يلقاه في هذه الحياة .
الدليل على التقدير العمري: البخاري ومسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلكَ عَلقَةً مِثْل ذَلكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلكَ مُضْغَةً مِثْل ذَلكَ ثُمَّ يُرْسَلُ المَلكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلهِ وَعَمَلهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَو َالذِي لاَ إِلهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بِعَمَل أَهْل الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَها إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَل أَهْل النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ ليَعْمَلُ بِعَمَل أَهْل النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَليْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَل أَهْل الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ) .
وعند مسلم عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ المَكِّيِّ ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ وَاثِلةَ ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ ، يَقُولُ الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ ، فَأَتَى رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لهُ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ الغِفَارِيُّ فَحَدَّثَهُ بِذَلكَ مِنْ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَال: وَكَيْفَ يَشْقَى رَجُلٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ ؟ فَقَال لهُ الرَّجُلُ:أَتَعْجَبُ مِنْ ذَلكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ ليْلةً بَعَثَ اللهُ إِليْهَا مَلكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلدَهَا وَلحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ ، قَال يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ المَلكُ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ أَجَلُهُ ، فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ المَلكُ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ: فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ المَلكُ ثُمَّ يَخْرُجُ المَلكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلاَ يَزِيدُ عَلى مَا أُمِرَ وَلاَ يَنْقُصُ " .
وعند مسلم من حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الغِفَارِيِّ ، فَقَال: سَمِعْتُ رَسُول اللّهِ بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ ، يَقُولُ: إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ ليْلةً . ثُمَّ يَتَصَوَّرُ عَليْهَا المَلكُ ، قَال زُهَيْرٌ: حَسِبْتُهُ قَال: الذِي يَخْلُقُهَا: «فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى? ؟ فَيَجْعَلُهُ اللّهُ ذَكَرا أَوْ أُنْثَى? . ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَسَوِيٌّ أَوْ غَيْرُ سَوِيَ ؟ فَيَجْعَلُهُ اللّهُ سَوِيًّا أَوْ غَيْرَ سَوِيَ . ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ مَا رِزْقُهُ ؟ مَا أَجَلُهُ ؟ مَا خُلُقُهُ ؟ ثُمَّ يَجْعَلُهُ اللّهُ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدا» .
وعند البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضيَ اللّه عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «وَكل اللّه بالرحمِ مَلكا فيقول: أي ربِّ نُطفةٌ أي رب علقة ، أي رب مضغة . فإِذا أراد اللّه أن يَقضيَ خَلقَها قال: أي ربِّ ذكرٌ أم أُنثى ، أشَقيٌّ أم سعيد ؟ فما الرزق ، فما الأجَل ؟ فيُكتَب كذلك في بطنِ أمِّه» .
دلت هذه الأحاديث مجتمعة على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته وهو في بطن أمه ، واختلفت في وقت هذا التقدير ، وهذا هو التقدير العمري الذي يأتي بعد التقدير الأول السابق على خلق السماوات والأرض وبعد التقدير الذي وقع يوم استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم ، في حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم ، وحديث أنس غير مؤقت ، وأما حديث حذيفة بن أسيد فقد وقت فيه التقدير بأربعين يوما ، وفي لفظ آخر بأربعين ليلة وفي لفظ ثنتين وأربعين ليلة وفي لفظ بثلاث وأربعين ليلة ، وكثير من الناس يظن التعارض بين الروايات ولا تعارض بينهما بحمد الله ، فالملائكة تتابع تخليق الإنسان ، عبر مراحل تكوينه داخل الرحم ، فالملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى حتى يأخذ في الطور الثاني وهو العلقة ، وأما الملك الذي ينفخ فيه ، فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة ، فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته وهذا عمل آخر غير الذي كتبه الملك الموكل بالنطفة ، ولهذا قال في حديث ابن مسعود ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات ، وأما الملك الموكل بالنطفة فذلك قائم معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال ، فيقدر الله سبحانه شأن النطفة حتى تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق ، ويقدر شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما ، فهو تقدير بعد تقدير ، فاتفقت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وصدق بعضها بعضا ، ودلت كلها على إثبات التقدير العمري .
ويقول تعالى عن خلق الإنسان في بطن أمه: (مَا لكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَارا وَقَدْ خَلقَكُمْ أَطْوَاراً) (نوح:14) (وَلقَدْ خَلقْنَا الإنسان مِنْ سُلالةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلقْنَا النُّطْفَةَ عَلقَةً فَخَلقْنَا العَلقَةَ مُضْغَةً فَخَلقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالقِينَ) (المؤمنون:14) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلقَةٍ لنُبَيِّنَ لكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفي وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَل العُمُرِ لكَيْلا يَعْلمَ مَنْ بَعْدِ عِلمٍ شَيْئاً) (الحج:5) (وَاللهُ خَلقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ) (فاطر:11) .
الأطوار التي يمر بها الجنين: المرحلة الأولي:
1- مرحلة النطفة: خلال عملية الإخصاب يرحل ماء الرجل ليقابل البويضة في ماء المرأة في قناة البويضات (قناة فالوب) ولا يصل من ماء الرجل إلا القليل ، ويخترق حيوان منوي واحد البويضة ، ويحدث عقب ذلك مباشرة تغير سريع في غشائها ، يمنع دخول بقية الحيوانات المنوية ، وبدخول الحيوان المنوي في البويضة تتكون النطفة الأمشاج أي البويضة الملقحة (الزيجوت) ، وبهذا تبدأ مرحلة النطفة ، والنطفة معناها اللغوي القطرة ، وهو الشكل الذي تتخذه البويضة الملقحة ، إذن بداية هذا الطور مكونة من نطفة مختلطة من سائلين وتتحرك في وسط سائل ، وتستغرق فترة زمنية هي الأيام الستة الأولى من الحمل ، ويبدأ بعد ذلك التحول إلى طور العلقة في اليوم الرابع عشر .
وفي اليوم السادس تقريبا تشق النطفة طريقها إلى تحت سطح بطانة الرحم ، مواصلة انقساماتها الخلوية وتطورها ثم يتم انغراسها فيه ، وتكتمل بذلك مرحلة النطفة في اليوم الرابع عشر من التلقيح تقريبا ، وبذلك تأخذ حصتها من الأربعين يوما .
2- طور العلقة: تستمر الخلايا في الانقسام والتكاثر بعد مرحلة النطفة ويتصلب الجنين بذلك ، ثم يتثلم عند تكون الطبقة العصبية ويأخذ الجنين في اليوم الحادي والعشرين شكلا يشبه العلقة ، كما تعطي الدماء المحبوسة في الأوعية الدموية للجنين لون قطعة من الدم الجامد وبهذا تتكامل المعاني التي يدل عليها لفظ علقة المطلق على دودة تعيش في البرك وعلى شيء معلق وعلى قطعة من الدم الجامد ، إلى حوالي اليوم الواحد والعشرين ، وبهذا تأخذ العلقة حصتها من الأربعين يوما وإلى هذا تشير الآية الكريمة (ثُمَّ خَلقْنَا النُّطْفَةَ عَلقَةً) (المؤمنون: 14) .
3- طور المضغة: يبدأ هذا الطور بظهور الكتل البدنية في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين في أعلى اللوح الجنيني ، ثم يتوالى ظهور هذه الكتل بالتدريج إلى مؤخرة الجنين .
وفي اليوم الثامن والعشرين يتكون الجنين من عدة فلقات تظهر بينها انبعاجات ، مما يجعل شكل الجنين شبيها بالعلكة الممضوغة ، ويزداد اكتساب الجنين في تطوره شكل المضغة تدريجيا من حيث الحجم بحيث يكتمل هذا الطور في بقية الأيام الأربعين الأولى من حياته ، وهذا الترتيب في خلق الأطوار الأولى يجيء فيه طور المضغة بعد طور العلقة مطابقا لما ورد في الآية الكريمة: (فَخَلقْنَا العَلقَةَ مُضْغَةً) (المؤمنون: 14) ، وينتهي هذا الطور بنهاية الأسبوع السادس .
الجسد الفاصل: وفي الأسبوع السابع تبدأ الصورة الآدمية في الوضوح نظرا لبداية انتشار الهيكل العظمي ، فيمثل هذا الأسبوع (ما بين اليوم 40 و45) الحد الفاصل ما بين المضغة والشكل الإنساني .
4- طور العظام: مع بداية الأسبوع السابع يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي في الانتشار في الجسم كله ، فيأخذ الجنين شكل الهيكل العظمي ، وتكَوُّن العظام هو أبرز تكوين في هذا الطور حيث يتم الانتقال من شكل المضغة الذي لا ترى فيه ملامح الصورة الآدمية إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة ، وهذا الهيكل العظمي هو الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي ، ومصطلح العظام الذي أطلقه القرآن الكريم على هذا الطور هو المصطلح الذي يعبر عن هذه المرحلة من حياة الحُمَيل تعبيرا دقيقا يشمل المظهر الخارجي ، وهو أهم تغيير في البناء الداخلي وما يصاحبه من علاقات جديدة بين أجزاء الجسم واستواء في مظهر الحُمَيل ويتميز بوضوح عن طور المضغة الذي قبله ، قال تعالى: (فَخَلقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا) (المؤمنون: 14) .
5- طور الكساء باللحم: يتميز هذا الطور بانتشار العضلات حول العظام وإحاطتها بها كما يحيط الثوب أو الكساء بصاحبه ولابسه ، وبتمام كساء العظام بالعضلات تبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال ، فترتبط أجزاء الجسم بعلاقات أكثر تناسقا ، وبعد تمام تكوين العضلات يمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك ، تبدأ مرحلة كساء العظام باللحم في نهاية الأسبوع السابع وتستمر إلى نهاية الأسبوع الثامن ، وتأتي عقب طور العظام كما بين ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَكَسَوْنَا العِظَامَ لحْمًا) (المؤمنون: 14) .
ويعتبر هذا الطور الذي ينتهي بنهاية الأسبوع الثامن نهاية مرحلة التخلق ، كما اصطلح علماء الأجنة على اعتبار نهاية الأسبوع الثامن نهاية لمرحلة الحُمَيل ، ثم تأتي بعدها مرحلة الجنين ، التي توافق مرحلة النشأة ، كما جاء في قوله تعالى: (فَكَسَوْنَا العِظَامَ لحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالقِينَ) (المؤمنون: 14) .
ب- المرحة الثانية: مرحلة النشأة خلقا آخر: النشأة مصدر مشتق من الفعل نشأ ، وهذا الفعل معناه الارتفاع بالشيء وزيادته ونماؤه ، يبدأ هذا الطور بعد مرحلة الكساء باللحم ، أي من الأسبوع التاسع ، ويستغرق فترة زمنية يدل عليها استعمال حرف العطف (ثم) الذي يدل على فاصل زمني بين الكساء باللحم والنشأة خلقا آخر ، قال تعالى: (فَكَسَوْنَا العِظَامَ لحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلقًا آخَرَ) (المؤمنون: 14) ، وفي خلال هذه المرحلة تتم عدة عمليات هامة في نمو الجنين تندرج بجلاء تحت الوصفين الذين جاءا في القرآن الكريم ويمكن بيانهما في ما يلي:
1- النشأة: ويتضح بجلاء في سرعة معدل النمو من الأسبوع التاسع مقارنة بما قبله من المراحل .
2- خلقا آخر: هذا الوصف يتزامن مع الأول ويدل على أن الحُمَيل قد تحول في مرحلة النشأة إلى خلق آخر .
ففي الفترة ما بين الأسبوعين التاسع والثاني عشر تبدأ أحجام كل من الرأس والجسم والأطراف في التوازن والاعتدال ، وفي الأسبوع الثاني عشر يتحدد جنس الجنين بظهور الأعضاء التناسلية الخارجية .
وفي نفس الأسبوع يتطور بناء الهيكل العظمي من العظام الغضروفية اللينة إلى العظام الكلية الصلبة ، كما تتمايز الأطراف ، ويمكن رؤية الأظافر على الأصابع ، كما يظهر الشعر على الجلد في هذا الطور ، ويزداد وزن الجنين بصورة ملحوظة ، وتتطور العضلات ، وتبدأ الحركات الإرادية في هذا الطور ، وتصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها ، وفي هذه المرحلة يتم نفخ الروح ، طبقا لما دلت عليه نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ، ويمكن التعرف على نفخ الروح بمشاهدة ظاهرة النوم واليقظة في الجنين التي تدل نصوص قرآنية ونبوية عديدة على ارتباطها بالروح ، تمتد هذه المرحلة ، مرحلة النشأة خلقا آخر من الأسبوع التاسع إلى أن يدخل الجنين مرحلة القابلية للحياة خارج الرحم .
جـ: المرحلة الثالثة: طور القابلية للحياة: تبدأ تهيئة الجنين للحياة خارج الرحم في الأسبوع الثاني والعشرين وتنتهي في الأسبوع السادس والعشرين عندما يصبح الجهاز التنفسي مؤهلا للقيام بوظائفه ويصبح الجهاز العصبي مؤهلا لضبط حرارة جسم الجنين ، وتعادل الأسابيع الستة والعشرون تقريبا ستة أشهر قمرية ، وقد قدّر القرآن الكريم أن مرحلة الحمل والحضانة تستغرق ثلاثين شهرا فقال تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) (الأحقاف: 15) وبين أيضا أن مدة الحضانة تستغرق عامين في قوله تعالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) (لقمان: 14) .
وبذلك تكون مدة الحمل اللازمة ليصبح الجنين قابلا للحياة هي ستة أشهر قمرية ، وقبل الأسبوع الثاني والعشرين الذي يبدأ منه هذا الطور يخرج سقطا في معظم الأجنة .
د- المرحلة الرابعة: طور الحضانة الرحمية: يدخل الجنين بعد الشهر السادس فترة حضانة تتم في الرحم ، فلا تنشأ أجهزة أو أعضاء جديدة فكلها قد وجدت وأصبحت مؤهلة للعمل ، ويقوم الرحم فيها بتوفير الغذاء والبيئة الملائمة لنمو الجنين وتستمر إلى طور المخاض والولادة .
هـ: المرحلة الخامسة: طور المخاض: بعد مرور تسعة أشهر قمرية يبدأ هذا الطور الذي ينتهي بالولادة ، ويمثل هذا الطور مرحلة التخلي عن الجنين من قبل الرحم ودفعه خارج الجسم ، قال تعالى: (ثُمَّ السَّبِيل يَسَّرَهُ) .
سُئِل ابن تيمية عَنْ قَوْله تَعَالى: (هُوَ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) وقَوْله تَعَالى (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إلا فِي كِتَابٍ) وقَوْله تَعَالى (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ) هَل المَحْوُ وَالإِثْبَاتُ فِي اللوْحِ المَحْفُوظِ ، وَالكِتَابِ الذِي جَاءَ فِي الصَّحِيحِ (أَنَّ اللهَ تَعَالى كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدُهُ عَلى عَرْشِهِ) الحَدِيثَ . وَقَدْ جَاءَ: (جَفَّ القَلمُ) فَمًا مَعْنَى ذَلكَ فِي المَحْوِ وَالإِثْبَاتِ ؟ . وَهَل شُرِعَ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَقُول: " اللهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبْتنِي كَذَا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي كَذَا فَإِنَّك قُلت: (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) ، وَهَل صَحَّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو بِمِثْل هَذَا ؟ وَهَل الصَّحِيحُ عِنْدَكُمْ أَنَّ العُمْرَ يَزِيدُ بِصِلةِ الرَّحِمِ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ . أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) فَالأَجَلُ الأَوَّلُ هُوَ أَجَلُ كُل عَبْدٍ ؛ الذِي يَنْقَضِي بِهِ عُمُرُهُ وَالأَجَلُ المُسَمَّى عِنْدَهُ هُوَ: أَجَلُ القِيَامَةِ العَامَّةِ . وَلهَذَا قَال: (مُسَمًّى عِنْدَهُ) فَإِنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ لا يَعْلمُهُ مَلكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ كَمَا قَال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُل إنَّمَا عِلمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَليهَا لوَقْتِهَا إلا هُوَ) . بِخِلافِ مَا إذَا قَال: (مُسَمًّى كَقَوْلهِ: (إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إذْ لمْ يُقَيِّدْ بِأَنَّهُ مُسَمًّى عِنْدَهُ فَقَدْ يَعْرِفُهُ العِبَادُ . وَأَمَّا أَجَلُ المَوْتِ فَهَذَا تَعْرِفُهُ المَلائِكَةُ الذِينَ يَكْتُبُونَ رِزْقَ العَبْدِ وَأَجَلهُ وَعَمَلهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ . كَمَا قَال فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ -: إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خُلُقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلقَةً مِثْل ذَلكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْل ذَلكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إليْهِ المَلكُ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلمَاتٍ فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلهُ وَعَمَلهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ) فَهَذَا الأَجَلُ الذِي هُوَ أَجَلُ المَوْتِ قَدْ يُعَلمُهُ اللهُ لمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ . وَأَمَّا أَجَلُ القِيَامَةِ المُسَمَّى عِنْدَهُ فَلا يَعْلمُهُ إلا هُوَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) فَقَدْ قِيل إنَّ المُرَادَ الجِنْسُ أَيْ مَا يُعَمَّرُ مِنْ عُمُرِ إنْسَانٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ إنْسَانٍ ، ثُمَّ التَّعْمِيرُ وَالتَّقْصِيرُ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا يَطُولُ عُمْرُهُ وَهَذَا يَقْصُرُ عُمُرُهُ فَيَكُونُ تَقْصِيرُهُ نَقْصًا لهُ بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ المُعَمَّرَ يَطُولُ عُمُرُهُ وَهَذَا يَقْصُرُ عُمُرُهُ فَيَكُونُ تَقْصِيرُهُ نَقْصًا لهُ بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ التَّعْمِيرَ زِيَادَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى آخَرِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ أَنَّهُ قَال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لهُ فِي أَثَرِهِ فَليَصِل رَحِمَهُ) وَقَدْ قَال بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ المُرَادَ بِهِ البَرَكَةُ فِي العُمُرِ بِأَنْ يَعْمَل فِي الزَّمَنِ القَصِيرِ مَا لا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ إلا فِي الكَثِيرِ قَالُوا: لأَنَّ الرِّزْقَ وَالأَجَل مُقَدَّرَانِ مَكْتُوبَانِ . فَيُقَالُ لهَؤُلاءِ تِلكَ البَرَكَةُ . وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي العَمَل وَالنَّفْعِ . هِيَ أَيْضًا مُقَدَّرَةٌ مَكْتُوبَةٌ وَتَتَنَاوَلُ لجَمِيعِ الأَشْيَاءِ .
وَالجَوَابُ المُحَقَّقُ: أَنَّ اللهَ يَكْتُبُ للعَبْدِ أَجَلا فِي صُحُفِ المَلائِكَةِ فَإِذَا وَصَل رَحِمَهُ زَادَ فِي ذَلكَ المَكْتُوبِ . وَإِنْ عَمِل مَا يُوجِبُ النَّقْصَ نَقَصَ مِنْ ذَلكَ المَكْتُوبِ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ (أَنَّ آدَمَ لمَّا طَلبَ مِنْ اللهِ أَنْ يُرِيَهُ صُورَةَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ، فَأَرَاهُ إيَّاهُمْ فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلا لهُ بَصِيصٌ فَقَال مَنْ هَذَا يَا رَبِّ ؟ فَقَال ابْنُك داود . قَال: فَكَمْ عُمُرُهُ ؟ قَال أَرْبَعُونَ سَنَةً . قَال: وَكَمْ عُمْرِي ؟ قَال: أَلفُ سَنَةٍ . قَال فَقَدْ وَهَبْت لهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً ، فَكَتَبَ عَليْهِ كِتَابٌ وَشَهِدَتْ عَليْهِ المَلائِكَةُ ، فَلمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ قَال: قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ سَنَةً ، قَالُوا: وَهَبْتهَا لابْنِك داود . فَأَنْكَرَ ذَلكَ فَأَخْرَجُوا الكِتَابَ . قَال النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فَنَسِيَ آدَمَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَجَحَدَ آدَمَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَمَّل لآدَمَ عُمُرَهُ ولداود عُمُرَهُ ، فَهَذَا داود كَانَ عُمُرُهُ المَكْتُوبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ جَعَلهُ سِتِّينَ وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: اللهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبَتْنِي شَقِيًّا فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا فَإِنَّك تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ ، وَاَللهُ سُبْحَانَهُ عَالمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لمْ يَكُنْ لوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ ؛ فَهُوَ يَعْلمُ مَا كَتَبَهُ لهُ وَمَا يَزِيدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلكَ وَالمَلائِكَةُ لا عِلمَ لهُمْ إلا مَا عَلمَهُمْ اللهُ وَاَللهُ يَعْلمُ الأَشْيَاءَ قَبْل كَوْنِهَا وَبَعْدَ كَوْنِهَا ؛ فَلهَذَا قَال العُلمَاءُ: إنَّ المَحْوَ وَالإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ المَلائِكَةِ وَأَمَّا عِلمُ اللهِ سُبْحَانَهُ فَلا يَخْتَلفُ وَلا يَبْدُو لهُ مَا لمْ يَكُنْ عَالمًا بِهِ فَلا مَحْوَ فِيهِ وَلا إثْبَاتَ .
هل نحن مسيرون أم مخيرون ؟
هل نحن مسيرون أم مخيرون ؟
الصديق والزنديق
سئل سهل بن عبد الله التستري عمن قال: أنا كالباب لا أتحرك إلا أن يحركوني ، فقال: لا يقول هذا إلا صديق أو زنديق ، وهو يشير إلى انضباط الإرادة أو إسقاطها ، فإن ضبطها كان صديقا ، وإن أسقطها كان زنديقا ، ومعني ذلك أنه إذا وافقت إرادته إرادة الله الشرعية وإرادة الله الكونية كان مؤمنا مستقيما ، جاهد بعزم إرادته في العمل بشريعته وانضبط عليها فوفقه الله بمشيئته وإرادته الكونية ، ومن هنا يظهر لنا معنى التوفيق ، فالتوفيق هو اتفاق الإرادات ، إرادة العبد مع إرادة الرب الشرعية وإرادته الكونية ، وهذه الحالة تكون في المؤمن دون الكافر ، وقد عبر النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك بقوله فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة: (إن اللهَ قال: من عادَى لي وَليّاً فقد آذَنْته بالحرب ، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افتَرَضْته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحبه ، فإذا أحبَبته كنت سمعه الذي يسمع به وبَصرَه الذي يبصر به ويدَه التي يبطِش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإنْ سألني لأَعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذَنه ، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترَدُّدي عن نفسِ المؤمن يكرَه الموتَ وأنا أكرَه مَساءته) .
والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها ، بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه من الوقوع فيما يكره ، من الإصغاء إلى اللهو بسمعه ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره ومن البطش فيما لا يحل له بيده ومن السعي إلى الباطل برجله .
ضمن الله سبحانه لكل من عمل صالحا أن يحييه حياة طيبة ، فهو سبحانه وتعالي صادق الوعد الذي لا يخلف وعده وأي حياة أطيب من حياة ، اجتمعت فيها هموم العبد كلها ، وصارت هما واحدا في مرضات الله ، فأقبل بقلبه على ربه واجتمعت إرادته بقوة عزمه ، فصار ذكر ربه ، ومنتهي حبه ، في الشوق إلى لقائه والأنس بقربه ، وهو المتولي عليه ، وعليه تدور همومه وإرادته ، وأفكاره ونيته ، بل خطرات قلبه تتعلق بربه ، فان سكت ، سكت بالله وإن نطق ، نطق بالله ، وإن سمع فبه يسمع ، وإن أبصر فبه يبصر ، وبه يبطش ، وبه يمشى ، وبه يتحرك ، وبه يسكن ، وبه يحيى ، وبه يموت ، وبه يبعث كما في ورد في هذا الحديث من عادَى لي وَليّاً فقد آذَنْته بالحرب ، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افتَرَضْته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحبه ، فإذا أحبَبته كنت سمعه الذي يسمع به وبَصرَه الذي يبصر به ويدَه التي يبطِش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإنْ سألني لأَعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذَنه ، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترَدُّدي عن نفسِ المؤمن يكرَه الموتَ وأنا أكرَه مَساءته .
فأسباب محبة الله محصورة في أمرين: أداء فرائضه والتقرب إليه بنوافله ، وأخبر سبحانه أن أداء فرائضه أحب مما تقرب إليه المتقربون ، ثم بعدها النوافل وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله ، فإذا صار محبوبا لله ، زاده الله بفضله محبة أخرى ، فوق المحبة الأولى ، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير الله ، وملكت عليه روحه ، ولم يبق فيه سعة لغير محبة الله أبدا ، فصار ذكر الله وطاعته مثله الأعلى وحبه الأقوى ، صار مالكا لزمام قلبه ، مستوليا على روحه ، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع ، سمع لمحبوبه وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به ، وإن مشي مشي به .
والحديث خص بالذكر السمع والبصر واليد والرجل ، لأن هذه الآلات هي آلات الفعل ومداخل الوعي ، فالسمع والبصر يحركان في القلب الإرادة أو والكره ، ويبعثان فيه الحب والبغض ، فعند ذلك تتحرك اليدان والرجلان ، فإذا كان سمع العبد بالله وبصره محفوظا بحفظ الله وتوفيقه ، كان محفوظا في حبه وبغضه ، وحفظه الله في بطشه ومشيه
وتأمل قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) تجد معية خاصة بين العبد وربه مقتضاها كمال المراقبة ، و معية خاصة بين الرب وعبده مقتضاها الحفظ والمتابعة ، معية التوفيق يمنحها لعبده من فوق عرشه ، تتوافق فيها إرادة العبد مع اختيار الرب وتدبيره الشرعي وكذلك مع تقدير الرب وتدبيره الكوني ، وهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في قوله تعالى: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَل اللهُ سَكِينَتَهُ عَليْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لمْ تَرَوْهَا وَجَعَل كَلمَةَ الذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:40) وقوله تعالى: (وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلنَا وَإِنَّ اللهَ لمَعَ المُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) وقوله: (إِنَّ اللهَ مَعَ الذِينَ اتَّقَوْا وَالذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:128) وقوله: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46) وقوله: (قَال كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:62) فمتى كان العبد قائما بالله علي حفظ التدبير الشرعي لا يخرج قيد أنملة عن قضائه الشرعي وفقه الله بتدبيره الكوني ، وعند ذلك هانت عليه المشاق ، وانقلبت المخاوف في حقه أمانا ، فبالله تهون الصعاب ، ويصبح العسير سهلا ، والبعيد قريبا ، وبالله تزول والهموم والأحزان ، ولا يبقي غم مع الإيمان ، فلا هم مع الله ولا غم مع الله ولا حزن مع الله .
ومن إكرام الله لعبده الصديق أن الله قال في شأنه: (وإنْ سألني لأَعطينه ، ولئن استعاذ بي لأعيذَنه ، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترَدُّدي عن نفسِ المؤمن يكرَه الموتَ وأنا أكرَه مَساءته) .
أكرم عبده الصديق بإجابة الدعاء ، فالمسلم الذي يوافق شرع الله أكرمه الله بإجابة الدعاء ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبادة ابن الصامت أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو صرف عنه من السوء مثلها) ، وفي زيادة عند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة: إما أن يعجلها له ، وإما أن يدخرها له) وعن الإمام أحمد أيضا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها) .
روي الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168) فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال: يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به .
وروى البخاري من حديث عن جابرِ بنِ سَمُرةَ رضي الله عنه أنه قال: شَكا أهلُ الكوفةِ سَعداً إِلى عمرَ رضي اللهُ عنه وزعموا أنه لا يُحسِنُ أن يُصلي ، فعزَلهُ - وكان عمر بن الخطاب قد أمر سعد بن أبي وقاص على قتال الفرس في سنة أربع عشرة ففتح الله العراق على يديه ، ثم دخل الكوفة سنة سبع عشرة واستمر عليها أميرا إلى سنة عشرين أو إحدى وعشرين ، فشكاه أهلُ الكوفةِ إِلى عمرَ رضي اللهُ عنه ، فعزَلهُ ، واستعمل عليهم عمار ابن ياسر ، استعمل عمارا على الصلاة وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض ، انتهى ، وكأن تخصيص عمار بالذكر لوقوع التصريح بالصلاة دون غيرها مما وقعت فيه الشكوى - فأَرسل إِليه عمر ابن الخطاب فقال له: يا أبا إسحاق إنَّ ه?ؤلاء يَزعُمونَ أَنَّكَ لا تُحسِنُ تُصلي ، قال أبو إِسحاقَ: أمّا أنا واللهِ فإني كنتُ أُصلي بهم صلاةَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ما أخرِمُ عنها ، أُصلي صلاةَ العِشاءِ فأَركُدُ في الأُوليَيْنِ وَأُخِفُّ في الأُخرَيَينِ ، قال: ذاكَ الظنُّ بكَ يا أبا إِسحاقَ ، فأَرسل معه رجُلاً أو رجالاً إِلى الكوفةِ فسأل عنه أهل الكوفة ِ ، ولم يَدَعْ مسجداً إِلاّ سأل عنه ، وَيُثنونَ مَعروفاً ، حتى دخل مسجداً لبني عبسٍ ، فقامَ رجلٌ منهم يُقالُ له أُسامةُ بنُ قَتادةَ يُكْنى? أَبا سَعدةَ قال: أمّا إِذ نَشَدْتَنا فإِنَّ سَعداً كان لا يَسيرُ بالسرِيَّةِ ، ولا يَقسِمُ بالسَّوِيَّة ، ولا يَعدِلُ في القَضيَّة ، قال سعد ٌ: أَما وَاللهِ لأدْعوَنَّ بثَلاثٍ: اللّهمَّ إِن كان عبدُكَ هذا كاذباً قامَ رِياءً وَسُمعةً فأَطِل عمرَهُ ، وَأَطِل فَقرَهُ ، وَعَرِّضْهُ بالفِتَنِ ، فاستجاب الله دعاءه وحقق نداءه ، وكان هذا الرجل في آخر حياته إِذا سُئل يقول: شَيخٌ كبيرٌ مَفتون ، أصابَتْني دَعوةُ سعد ، قال عبدُ الملك: فأنا رأيتُه بعدُ قد سَقطَ حاجِباهُ عَلى عَينيهِ منَ الكِبَرِ ، وإِنه ليَتعرَّضُ للجواري في الطُّرقِ يغمزهُنَّ .
ثم يقول في الحديث: (وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترَدُّدي عن نفسِ المؤمن يكرَه الموتَ وأنا أكرَه مَساءته) كيف ينسب التردد إلى الله ؟ والجواب عن ذلك أن التردد فعل من أفعال الله تعالى وأفعاله سبحانه فيها الكمال والجمال ، وتشهد لحكمته بالعظمة والجلال ، فالله لا يتصف إلا بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه كالحياة والعلم والقدرة ، والسمع والبصر والرحمة ، والعزة والحكمة والعظمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال في كل حال ، أما ضد ذلك من أوصاف النقص ، كالموت والعجز والظلم ، والغفلة والسنة والنوم ، فقد تنزه ربنا وتعالي عن ذلك فسبحه الموحدون ، وقال المؤمنون في وصفه كما قال المرسلون: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ على المُرْسَلينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ) أما إذا كان الوصف عند تجرده عن الإضافة في موضع احتمال ، فكان كمالا في حال ونقصا في حال ، فالمسلم العاقل يقف مدققا ، لا يثبته لله إثباتا مطلقا ، ولا ينفيه عنه نفيا مطلقا ، بل لا بد في ذلك من البيان والتفصيل ، والتقيد بما ورد ذكره في التنزيل .
فقد ورد من الألفاظ في القرآن ما ينسب مرة إلي الإنسان ، وينسب إلي الله لا على وجه النقصان ، كالمكر والخداع والنسيان ، والاستهزاء والكيد والخذلان ، وغير ذلك من الأوصاف ، وما يقال فيها سوف يقال في الاستخلاف ، فالمكر مثلا هو التدبير في الخفاء بقصد الإساءة أو الابتلاء أو المعاقبة والجزاء ، وقد يكون عيبا مذموما إذا كان بالسوء في الابتداء ، وقد يكون محمودا إذا كان لتدمير مكر الكافرين والسفهاء ، فإذا كان المكر عند الإطلاق كمالا في موضع ونقصا في آخر فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تخصيص ، كقول القائل: المكر صفة الله ، فهذا باطل ، لأن الإطلاق فيه احتمال اتصافه بالنقص أو الكمال ، لكن يصح قول القائل: مَكْرُ الله يكون للابتلاء والمعاقبة والجزاء ، فهو مكر مقيد لا يحتمل إلا الكمال ، فجاز أن يتصف به رب العزة والجلال ، كما أثبت ذلك لنفسه فقال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذِينَ كَفَرُوا ليُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ) ، وما يقال في المكر يقال أيضا في الاستهزاء ، فالاستهزاء على الإطلاق يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر ، فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تقيد كقول القائل: الله يستهزئ ، فهذا باطل ، ولكن يصح أن يقول الله يستهزئ بالمنافقين في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين ، فالاستهزاء في موضع النقص هو شأن المنافقين والاستهزاء في موضع الكمال ، ورد في قول رب العزة والجلال: (وَإِذَا لقُوا الذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلوْا إلي شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ، اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) .
وكذلك يقال في الخداع والسخرية والكيد ، فإن ذلك يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر ، فلا يتصف به إلا في موضع الكمال كما قال: (إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلي الصَّلاةِ قَامُوا كسالي يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَليلا) وفي السخرية بالمنافقين قال: (الذِينَ يَلمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنْ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ) .
وكذلك أيضا ما ورد في صفة التردد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءتَه) ، فالتردد يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر ، فلو كان التردد عن جهل وقلة علم وعدم إحكام للأمر كان التردد نقصا وعيبا ، وإن كان التردد لإظهار الفضل والمحبة في مقابل إنفاذ الأمر وتحقيقة الحكمة كان التردد كمالا ولطفا وعظمة وهو المقصود في الحديث ، فالصديق هو من وافق بإرادته إرادة الله الشرعية والكونية .
أما الزنديق فهو الذي أثبت القدر محتجا به علي الشرع محاربا له به نافيا عن العبد قدرتة التي منحه الله إياها ونفي أمره سبحانه ونهيه ، فقد نفي الحكمة عن أفعال ربه ونسب الظلم والعبث إليه ، كالجبري الذي قال: ما حيلة العبد والأقدار جارية عليه في كل حال أيها الرائي - ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك ، إياك أن تبتل بالماء ، ويقول قائلهم دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي قصتي ويقول الآخر ، وقيل لبعض هؤلاء أليس هو يقول ولا يرضى لعباده الكفر فقال دعنا من هذا رضيه وأحبه وأراده ومن أفسدنا غيره ، ومر بلص مقطوع اليد على بعض هؤلاء ، فقال: مسكين مظلوم أجبره على السرقة ثم قطع يده عليها ، وقيل لبعضهم: أترى الله كلف عباده مالا يطيقون ثم يعذبهم عليه ؟ ، قال: والله قد فعل ذلك ، ولكن لا نجسر أن نتكلم ، وأراد رجل من هؤلاء السفر فودع أهله وبكى ، فقيل: استودعهم الله واستحفظهم إياه ، فقال: ما أخاف عليهم غيره ، يقول ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبت بعض شيوخ هؤلاء ، فقال لي: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب ، والكون كله مراد له ، فأي شيء أبغض منه ، قال: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون وعاداهم ولعنهم فأحببتهم أنت وواليتهم ، أكنت وليا للمحبوب أو عدوا له ؟ قال: فكأنما ألقم حجرا .
وهم إنما يحتجون بالنصوص التي تدل علي التدبير الكوني دون الشرعي كقوله تعالي (وَمَا رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ ولكِنَ اللّهَ رَمَى) (الأنفال:17) (فَليَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ) (فَلمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّه قَتَلهُمْ) (الأنفال:71) ، فهؤلاء الزنادقة الذين يستبيحون ما حرم الله بحجة أنهم مسيرون مقهورون على أفعالهم أهل جهالة بالله وبكتابة ، فنظروا للكتاب والسنة بعين عوراء ، لأن الله عز وجل تارة ينسب الفعل إلي نفسه دون عبده عند دعوته إلي توحيد الربوبية ، وتارة ينسب الفعل إليه عند دعوته إلي توحيد العبودية ، فالأسباب مرة يثبت الله أحكامها ويكلفنا أن نأخذ بها ، ومرة ينفي تأثيرها لنعتقد في قدرته دون قدرتها ، وننسب الفعل إليه دون فاعليتها ، فترى القرآن مرة يقول في نفيها: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:64) ، فنفي عن الناس أفعالهم وتأثير الأسباب في رزقهم ، وأثبت لنفسه الأفعال وتصريف الأسباب ، لأنه الخالق حقيقة الذي قدر كل شيء في أم الكتاب ، ثم أثبت الأسباب للناس في موضع آخر فقال: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلهِ إِلا قَليلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (يوسف:47) ويقول أيضا: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ) (الفتح:29) فسماهم زراعا وقال تزعون ، لأننا في دار ابتلاء وامتحان واستخلاف واستئمان ، فنسب الفعل إلينا على أننا مستخلفون في ملكه مخولون في أرضه ، فطالبنا بالعمل والإنفاق ليصل كل منا إلي ما قدره من الأرزاق: (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِير ٌ) (الحديد:7) فالدنيا دار ابتلاء وامتحان ، ولا بد أن يجتازها الإنسان (الذِي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ) (الملك:2) وهو في هذه الدار بالخيار ، أيرغب في الجنة أم يرغب في النار ، كل ذلك ليؤول الناس إلى مصيرهم بعد الحساب ، ويتم ما قدره الله في أم الكتاب: (فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى:7) فكل ميسر لما خلق له ، وكل سيرزق بما قدرله . فاللّه عز وجل قد أظهر الدنيا أسبابا ونسب الفعل إلي أهلها لإظهار حكمته عند دعوتهم لتوحيد الله بالعبودية ، وينسب الفعل ويثبته لنفسه في موضع آخر لإظهار قدرته عند دعوتهم لتوحيد الله بالربوبية ، فقال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) (البقرة:190) (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيل اللهِ وَاعْلمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ) (البقرة:244) كلفهم بالقتال وجعله للمؤمنين اختبار ، اختبارا لهم بتوحيد العبودية لله ، وأن يطيعوا الله ويجاهدوا في سبيل الله ، إظهارا للشرائع والأحكام ، وتحقيقا لمعاني التوحيد والإسلام ، ثم قال في توحيد الربوبية ونسبة الفضل إليه في انتصارهم علي أعدائهم: (فَلمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللّه قَتَلهُمْ) (الأنفال:71) حتى لا ينسبوا الفضل إلى أنفسهم ولا يدخل العجب بالنفس إلى عقيدتهم فيقولون انتصرنا وعبرنا بقوتنا وقدرتنا وقتالنا وخبرتنا وحنكة قائدنا لولاه لهزمنا وغير ذلك مما تدندن عليه النفس الأمارة .
هل نحن مسيرون أم مخيرون ؟
متي نحتج بالقدر ؟
القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب ، اعتقاد أهل الإيمان وأهل البصيرة في نصوص القرآن أن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب ، فأهل الإيمان يثبتون القضاء والقدر ، ويسندون جميع الكائنات إلى مشيئة ربها ، وإلى قدرة خالقها ، وأن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأن من لم يؤمن بالقدر ، فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك ، ولم يؤمن بالله عز وجل ، ولم يعرفه حق المعرفة ، فالله عز وجل جعل للعبد إرادة واختيارا ، وفعلا وقدرة واستطاعة ، وابتلاه في الدنيا بين طريقين وهداه إلى النجدين ، إما إلى نجد الكفر والعصيان وإما إلى نجد الطاعة والإيمان ، وموقف العبد من قدر الرب ، أو العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب ، تأتي في كتاب الله وفي سنة رسوله صلي الله عليه وسلم على أربعة أنواع:
أولا: الطاعة ، والطاعة تتم بإرادة الله الكونية ، وموافقة العبد للإرادة الله الشرعية ، فتتوافق الإرادات ، ويظهر توفيق الرب للعبد ، والفعل هنا ينسب إلى الله ، فعل الطاعة ينسب الفضل فيها إلى الله ، فهو الذي وفق العبد إلى طاعته ، وحقق له مراده بفضله ومنته ، فالفضل لله ، وإن كان فعل الطاعة بإرادة العبد وكسبه ، وسيجازي عند ربه على فعله ، لكن الفضل في الطاعة ينبغي أن ينسب إلى الله ، فالذين قالوا أسلمنا منة على نبيهم ، رد الله الفضل في إسلامهم إلى منته ، يقول تعالي: (يَمُنُّونَ عَليْكَ أَنْ أَسْلمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَليَّ إِسْلامَكُمْ بَل اللهُ يَمُنُّ عَليْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17) ويقول تعالي: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النساء:79) سواء كان حسنة بالإرادة الكونية أو الإرادة الشرعية ، فالفضل لله في طاعة عبده ، ويجب على العبد أن ينسب الفضل إلى ربه ، فهو الذي حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه ، (وَاعْلمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُول اللهِ لوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِليْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِليْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات:7) ، وقال أهل الجنة: (وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنَهْتَدِيَ لوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (لأعراف:43) الباء سببية وليست للعوض والمقابلة ، روي البخاري من حديث أبي سلمةَ بن عبد الرحمن عن عائشة أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (سَدِّدوا وقاربوا وأبشروا ، فإنه لا يدخل أحداً الجنةَ عملُه ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا ، إلا أن يتغمدَني الله بمغفرة ورحمة) ، وعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (قَارِبُوا وَسَدِّدُوا ، وَاعْلمُوا أَنَّهُ لنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلهِ ، قَالُوا: يَا رَسُول اللهِ وَلاَ أَنْتَ ؟ قَال: وَلاَ أَنَا . إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) .
فدخول الجنة بسبب العمل لكن العمل لا يقابل في المعادلة الجزاء ، فالجنة منحة من الله لأهل التقوى منحهم أياها بفضله ، كما أنه أيضا وفقهم في الدنيا إلي الإيمان والتقوى بفضله ، فهم يعلمون أنه لا حول ولا قوة لهم إلا بمعونة ربهم ، فالعبد لا ينتقل ولا يحول من حال إلى حال إلا بالله ، ولا قوة للإنسان على فعل شيء من الطاعة إلا بالله ، فلا حول ولا قوة إلا بالله كلمة عظيمة ، وكنز من كنوز الجنة ، كما ثبت عند الإمام البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: (كنّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفَر ، فكنا إذا عَلونا كبَّرنا ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيها الناس ، اربَعوا على أنفُسِكم ، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً ، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً ، يقول أبو موسى رضي الله عنه: ثمَّ أتى عليَّ وأنا أقولُ في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال: يا عبد الله بن قيْس ، قل لا حول ولا قوةَ إلا بالله ، فإنها كنزٌ مِنْ كنوز الجنة ، أو قال: ألا أدلك على كلمةٍ هي كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلاّ بالله) .
فالطاعة ينسب الله فيها الفضل إلى نفسه ، ويمنح الأجر فيها لعبده ، حتى لا يتعالى بقوته دون ربه: (فَلمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى وَليُبْليَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ) (لأنفال:17) (لقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَليْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَليْتُمْ مُدْبِرِينَ ، ثُمَّ أَنْزَل اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولهِ وَعَلى المُؤْمِنِينَ وَأَنْزَل جُنُوداً لمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الذِينَ كَفَرُوا وَذَلكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ) (التوبة:26) (وَلقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لعَلكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123) (وَمَا جَعَلهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لكُمْ وَلتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) (آل عمران:126) .
(وتَرَى الظَّالمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ) (الشورى:22) (سَابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ للذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلهِ ذَلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (الحديد:21) (لئَلا يَعْلمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْل اللهِ وَأَنَّ الفَضْل بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (الحديد:29) (فَانْقَلبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:174) وهذا منطق الموحدين ينسبون الفضل إلى رب العالمين: (قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40) .
ثانيا: النوع الثاني من موقف العبد تجاه قدر الرب وفعله ، أو النوع الثاني من العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب ، المعصية :
والمعصية ينسب فيها الفعل إلى كسب العبد ، وإن تم الفعل بقدرة الرب ومشيئته ، قال عن الطاعة: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) وقال عن المعصية: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء:79) فالمعصية لا يصح أن ينسبها العبد إلى الرب ، فهذا فعل المشركين الذين قال الله فيهم: (سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) (وَقَال الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ فَعَل الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَهَل عَلى الرُّسُل إِلا البَلاغُ المُبِينُ) (النحل:35) ، وقال تعالى: (وَإِذَا قِيل لهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَال الذِينَ كَفَرُوا للذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (يّـس:47) (وَقَالُوا لوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لهُمْ بِذَلكَ مِنْ عِلمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) (الزخرف:20) فهؤلاء المحتجون بالقدر على سقوط الأمر والنهي من جنس المشركين المكذبين للرسل ، وهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ، فنسب المعصية إليهم فقال: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً) (النساء:62) (فَمَا لكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَل اللهُ وَمَنْ يُضْلل اللهُ فَلنْ تَجِدَ لهُ سَبِيلاً) (النساء:88) (إِنَّا أَنْزَلنَا إِليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً) (النساء:105) (وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَليْهِ وَلعَنَهُ وَأَعَدَّ لهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) وقد قال في الطاعة: (فَلمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى وَليُبْليَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ) (لأنفال:17) ، فنسب القتل إليه عند الطاعة ، ونسبه إليهم عند المعصية ، قال تعالي: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنَا غُلفٌ بَل طَبَعَ اللهُ عَليْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَليلاً) (النساء:155) (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لعَنَّاهُمْ وَجَعَلنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (المائدة:13) (قُل إِنْ ضَللتُ فَإِنَّمَا أَضِل عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِليَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ:50) (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) . وهنا يأتي معنى الإضلال لأن الإضلال من الشرود وعدم الاتفاق ، إرادة العبد خالفت إرادة الله الشرعية ووافقت الإرادة الكونية ، فباعتبار مخالفته الشرعية نقول ضل ، وننسب المعصية إليه ، وباعتبار وقوع الإرادة الكونية الحتمية نقول أضله الله: (فَإِنْ لمْ يَسْتَجِيبُوا لكَ فَاعْلمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ) (القصص:50) (بَل اتَّبَعَ الذِينَ ظَلمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَل اللهُ وَمَا لهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الروم:29) (قُل إِنْ ضَللتُ فَإِنَّمَا أَضِل عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِليَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ:50) (وَلقَدْ أَضَل مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يّس:62) والمعصية وإن كانت بقدر الله إلا أنه لا يجوز أن يحتج فيها بالقدر ، وأنه مسير في ذلك مجبور ، فإن من فعل ذلك كان من أهل الزندقة ، كما علمنا من المحاضرات السابقة ، كالذي رأي لصا مر عليه وهو مقطوع اليد مقام عليه الحد ، فقال: مسكين مظلوم أجبره الله على السرقة ثم قطع يده عليها ، فصاحب هذا الاعتقاد الفاسد لا يكون إلا ظالما متناقضا ، إذا آذاه غيره أو ظلمه طلب معاقبته والمبالغة في جزائه والانتقام منه ، ولم يعذره بالقدر وبحجة أنه مسير مجبور ، وإذا كان هو الظالم لغيره احتج هو لنفسه بالقدر ، وادعي أنه مسير مجبور وقال: ما حيلة العبد والأقدار جارية عليه في كل حال أيها الرائي - ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء .
فلا يحتج أحد بالقدر علي معصيته إلا لإتباع الهوى ، وحجته باطلة داحضة فاسدة ، لا حق معه ولا دليل ، ولذلك لما احتج المشركون بالقدر على شركهم ، بين الله كذبهم وقال لهم: (قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا) (سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) ولهذا كان هؤلاء المشركون المحتجون بالقدر إذا عاداهم أحد قابلوه وقاتلوه وعاقبوه وانتقموا منه ولم يقبلوا حجته ، إذا قال لهم لو شاء الله ما عاديتكم بل هم دائما يعيبون من ظلمهم واعتدى عليهم ولا يقبلون احتجاجه بالقدر أبدا ، فلما جاءهم الحق من ربهم أخذوا يدافعون ذلك بالقدر ، ويقولون نحن مسيرون في شركنا وذنوبنا وقد رضي الله الشرك لنا ، فصاروا يحتجون على ترك الشرع ، بما لا يقبلونه على أنفسهم .
وهؤلاء يعلمون أنهم لو اعتدوا على محارم أمير أو وزير ، لأصابهم عقابه الشديد ، فامتثلوا خوفا على أنفسهم من الوعيد ، الذي يتوعدهم به مخلوق ، ولم يمتثلوا خوفا من ملك الملوك ، فانتهكوا محارم الله وتركوا ما فرضه عليهم في هذه الحياة ، فبئست العقيدة التي يكون فيها أمر المخلوق أعظم عندهم من أمر الله ، ونهي المخلوق أعظم عندهم من نهي الله ، وحق المخلوق أعظم عندهم من حق الله .
ثالثا: النوع الثالث في موقف العبد تجاه قدر الرب ، أو النوع الثالث من العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب ، المصيبة :
قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُل مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَال هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (النساء:78) ، قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلبَهُ وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (التغابن:11) قال ابن مسعود رضي الله عنه هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ، فالسعيد يستغفر من المعائب ويصبر على المصائب كما قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60) (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالأِبْكَارِ) (غافر:55) والشقي يجزع عند المصائب ، رجل ما ولده دون البنات ، وصدمت سيارته دون السيارات ، والشقي يحتج بالقدر على المعائب ، طالما أصابني ذلك فلن أصلي .
(كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِليْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35) (وَكَذَلكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَليْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَليْسَ اللهُ بِأَعْلمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام:53) فالله عز وجل خلق الدنيا للامتحان والابتلاء ، ولا بد لكي يقوم الابتلاء على قاعدة وأساس أن تحدث الفوارق بين الناس ، ليبلو بعضهم ببعض كما قال تعالى: (وَهُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (قَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلكَ وَبَلوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لعَلهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف:168) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ) (الحج:11) (فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلمٍ بَل هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ) (الزمر:49) .
رابعا: المعصية التي تاب العبد منها :
كما حدث في احتجاج آدم وموسى روي البخاري من حديث أبى هريرةَ أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (احتجَ آدمُ وموسى ، فقال له موسى: يا آدمُ أنتَ أبونا ، خيَّبتنا وأخرجتَنا من الجنَّة قال له آدمُ: يا موسى اصطفاكَ اللّهُ بكلامه وخطَّ لكَ بيده ، أتلومني على أمر قدَّرَهُ اللّه عليَّ قبل أن يخلُقَني بأربعين سنة ؟ فحجَّ آدمُ موسى ، فحجَّ آدمُ موسى ، ثلاثاً) ، وفي لفظ آخر احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم هل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى .
وربما يقول قائل آدم احتج بالقدر على معصيته ، وموسى لامه بعد توبته ، وجواب ذلك أن موسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه ، كما أن الله بعد توبته اجتباه وهداه واصطفاه ، كما أن آدم عليه السلام أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته ، بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء ، والمحنة بسبب خطيئة أبيهم ، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة ، المحنة التي نالت الذرية ، ولهذا قال له أخرجتنا ونفسك من الجنة ، وفي لفظ خيبتنا ، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة ، وقال إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب أي أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة .
ومثال ذلك من عصى ربه وتاب ثم يتذكر معصيته مع بعض أصحابه فيقول قدر الله وما شاء فعل ، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُل مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَال هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلنَاكَ للنَّاسِ رَسُولاً وَكَفي بِاللهِ شَهِيداً) (النساء:79)
(قُل لوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لبَرَزَ الذِينَ كُتِبَ عَليْهِمُ القَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَليَبْتَليَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَليُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:154) .
هل نحن مسيرون أم مخيرون ؟
أفرارا من قدر الله ؟
القضاء والقدر أمر حتمي ، وتدبير كوني ، ومشيئة واقعة لا محالة ، سواء أخذ المرء بالأسباب أو ترك الأخذ بها ، فالمقضي واقع لا محالة ، وإنما الأخذ بالأسباب لإظهار الحكمة في توجيه الخطاب ، وإيضاح الأحكام من واجب واستحباب ، وحرام ومكروه ومتروك لذوي الألباب ، فعلى الأحكام يترتب الثواب والعقاب ، والعرض والحساب والنعيم والعذاب ، فالأسباب قدرها الله عز وجل بحيث يدفع بعضها بعضا ، ويتوالى بعضها إثر بعض ، وكلها بخلق الله وقدرته ، وعلمه ومشيئته ، وهذا اعتقاد السلف الصالح في علاقة القدر بالأسباب ، يأخذون بها ويؤمنون بما دون في أم الكتاب ، روى الإمام البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ ، وهو موضع بالشام ، لقيه أمراء الأجناد ، أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه مع أصحابه ، وأخبروه أن الوباء وقع في أرض الشام ، وقع الطاعون بعمواس ، فاختلفوا فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه ، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء .
فقال عمر: ارتفعوا عني ، قال ابن عباس: فقال لي عمر ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم ، فاستشارهم فاختلفوا ، فقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء ، وقال بعضهم خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه ، فقال ارتفعوا عني فارتفعوا ، ثم قال ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني فارتفعوا .
ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش ومن مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ، فنادي عمر في الناس إني مصبح على ظهر ، فأصبحوا عليه .
فقال أبو عبيدة ، أفرارا من قدر الله يا عمر ؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ، وفي مسند أبي يعلي: (فقال أبو عبيدة أفرارا من قدر الله قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم فرارا من قدر الله إلى قدر الله ، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديا ذا عدوتين إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إذا رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ ، فجاء عبد الرحمن وكان متغيبا في بعض حاجته فقال إن عندي من هذا علما ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ، فحمد الله عمر ثم انصرف ورجع إلى المدينة .
ومن عجائب ما ورد في القرآن قصة قوم خرجوا من بلدهم حذر الموت من الطاعون: (أَلمْ تَرَ إِلى الذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَال لهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لذُو فَضْلٍ عَلى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُون َ) (البقرة:243) أصح الأقوال وأبينها وأشهرها عن السلف كما ذكر المفسرون أنهم خرجوا فرارا من الوباء لما وقع الطاعون في قريتهم ، قال ابن عباس: خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا ، فدعا اللهَ نبيُ من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه فأحياهم الله ، وقال الحسن: خرجوا حذرا من الطاعون فأماتهم الله ودوابهم في ساعة واحدة وهم أربعون ألفا .
إبراهيم عليه السلام قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَال أَوَلمْ تُؤْمِنْ قَال بَلي وَلكِنْ ليَطْمَئِنَّ قَلبِي قَال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِليْكَ ثُمَّ اجْعَل على كُل جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/260) .
قال المفسرون: أمره أن يأخذ غرابا وحمامة وديكا ويمامة ، ثم قال له: أوثقهن واذبحهن وقطعهن ، فقطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ثم جزأهن وجعل على كل جبل منهن جزءا ، وأخذ رؤوسهن بيده ، ثم أمره الله تعالى أن يدعوهن فدعاهن ، فجعل ينظر إلي الريش يطير إلي الريش ، والدم يجتمع على الدم والعظم يلتحم بالعظم ، واللحم يلتصق باللحم ، كل طائر أجزاؤه تلتئم وتنضم ، حتى اكتمل البدن وتم ، وقام كل طائر يسعى بين يديه بغير رأسه ، ويرغب في التحامها بجسمه ، إذا قدم له غير رأسه يأباه ، فسبحان من خلقها وسواها ، كل ذلك وإبراهيم عليه السلام ينظر إلي فعل الله وقدرته ، ويتعجب من حكمته وقوته .
فلامحيص للإنسان عما قدر الله له وعليه ، لكن أمرنا الله تعالى بالحذر من المخاوف والمهلكات ، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات ، قال ابن جرير الطبري: (ولا نعلم خلافا أن الكفار أو قطاع الطرق ، إذا قصدوا بلدة ، وكان لا طاقة لأهلها بهم ، فلهم أن يتنحوا من بين أيديهم فرارا ، وإن كانت الآجال المقدرة لا تزيد ولا تنقص) .
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم به بأرض فلا تَقدموا عليه ، وإذا وَقع بأرض وأنتم بها فلا تخرُجوا فِراراً منه)
يعني أنه إذا كان الوباء بأرض فلا يقدم عليه أحد أخذا بالحزم والحذر والتحرز من مواضع الضرر ، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان ، وفي الدخول عليه الهلاك ، وذلك لا يجوز في حكم الله تعالى ، فإن صيانة النفس عن المكروه واجبة ، وكذلك الخوف من سوء الاعتقاد: بأن يقول القائل لولا دخولي في هذا المكان لما نزل بي مكروه .
أما النهي عن الفرار منه فقيل: إنما نهي عن الفرار منه لأن الكائن بالموضع الذي فيه الوباء ، لعله قد أخذ بحظ منه لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام ، فلا فائدة لفراره بل يضيف إلى ما أصابه من مباديء الوباء مشقات السفر ، فتتضاعف الآلام ويكثر الضرر ، فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق .
وقد قال ابن مسعود الطاعون فتنة على المقيم والفار ، فأما الفار فيقول: فبفراري نجوت ، وأما المقيم فيقول أقمت فمت ، وعند البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين ، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد .
فالإسلام جاء بحسن الاعتقاد في الله ، والإيمان قضائه وقدره ، وجاء أيضا بمقضي العقل والأخذ بالأسباب ، فعند البخاري من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدْوَى ولا طيرَةَ ، ولا هامَةَ ولاَ صفَرَ ، وفِرَّ من المَجْذُومِ كما تفرُّ الأسد)
فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) نفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من الاعتقادات الباطلة التي تؤثر في القلب ، وتضعف حسن الظن بالله ، بل قد تزيله ، وقد يكون معها نسبة الله جل وعلا إلى النقص ، إما بنفي القدرة ، وإما بالشرك ، فقد يجعل شريكا آخر معه في العبادة أو في التأثير ، ومن هنا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) فقوله: (لا عدوى) يعني لا عدوى مؤثرة بطبعها لأن أهل الجاهلية ، كانوا يعتقدون أن العدوى تؤثر بنفسها تأثيرا لا مرد له ، وتأثيرا لا صارف له .
وقوله صلي الله عليه وسلم: (لا عدوى) لا ينفي أصل وجود العدوى ، وهي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بسبب المخالطة بينهما ، فإن الانتقال بسبب المخالطة حاصل ملاحظ مشهود ، لكنه صلي الله عليه وسلم بقوله: (لا عدوى) لا ينفي أصل وجودها ، وإنما ينفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية في العدوى ، فالمرض لا ينتقل من المريض إلى الصحيح عند مخالطة الصحيح للمريض بنفسه ، وإنما انتقاله وإصابة الصحيح بالمرض عند المخالطة إنما هو بقضاء الله وبقدره ، وقد يكون الانتقال وقد لا يكون ، فليس كل مرض معد يجب أن ينتقل من المريض إلى الصحيح ، بل إذا أذن الله بذلك انتقل ، وإذا لم يأذن لم ينتقل ، فهو واقع بقضاء الله وقدره ، فالعدوى أو انتقال المرض ، من المريض للصحيح سبب من الأسباب التي يحصل بها قضاء الله وقدره ، لكنها ليست لازما حتميا كما كان يعتقد أهل الجاهلية ، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأخذ بالأسباب: (لا يورد ممرض على مصح ، ولا يُورد ممرض على مصح) .
فروي مسلم من حديث ابن شهاب أن أَبَا سَلمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَ?نِ بْنِ عَوْفٍ ، حَدَّثهُ أَنَّ رَسُول اللّهِ قَال: لاَ عَدْوَى ? ثُمَّ حَدَّثَ أَنَّهُ قَال: لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلى مُصِحَ . قَال أَبُو سَلمَةَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُهُمَا كِلتَيْهِمَا عَنْ رَسُول اللّهِ ، ثُمَّ صَمَتَ أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ ذَلكَ عَنْ قَوْلهِ : لاَ عَدْوَى ، وَأَقَامَ عَلى أَنْ لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلى مُصِحَ ، قَال أبو سلمة بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَ?نِ بْنِ عَوْفٍ ، فَقَال الحَارِثُ بْنُ أَبِي ذبَابٍ (وَهُوَ ابْنُ عَمِّ أَبِي هُرَيْرَةَ): قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُكَ ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ تُحَدِّثُنَا مَعَ هَ?ذَا الحَدِيثِ حَدِيثاً آخَرَ . قَدْ سَكَتَّ عَنْهُ . كُنْتَ تَقُولُ: قَال رَسُولُ اللّهِ : لاَ عَدْوَى ، فَأَبَى ، أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ يَعْرِفَ ذَلكَ ، وَقَال: «لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلى مُصِحَ فَمَا رَآهُ الحَارِثُ فِي ذَلكَ حَتَّى غَضِبَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَرَطَنَ بِالحَبَشِيَّةِ . فَقَال للحَارِثِ: أَتَدْرِي مَاذَا قُلتُ ؟ قَال: لاَ . قَال أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلتُ: أَبَيْتُ . قَال أَبُو سَلمَةَ: وَلعمْرِي لقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُنَا أَنَّ رَسُول اللّهِ قَال: لاَ عَدْوَى ، فَلاَ أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَوْ نَسَخَ أَحَدُ القَوْليْنِ الآخَرَ ؟ .
ومعني لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلى مُصِح ، أن الإبل المريضة لا تورد على الإبل الصحيحة ، لأن الخلطة سبب لانتقال المرض من الإبل المريضة إلى الصحيحة ، وهذا فيه إثبات لوجود العدوى ، ولكنه إثبات لسبب ، والسبب يتقى ، لأنه قد يحصل منه المكروه ، كما أنه إذا باشر المرء أسباب الهلاك حصل له الهلاك بقدر الله ، كما أنه إذا أكل حصل له الشبع ، وإذا شرب حصل له الري ، فذلك كله لأنها أسباب .
وقال صلى الله عليه وسلم: (فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد) لأن المخالطة سبب لانتقال المرض من المجذوم إلى الصحيح ، وأكل مرة مع الجذوم وأدخل يده معه في الطعام ، لبين أن العدوى لا تنتقل بنفسها ، وأن المرء أيضا يجب عليه ألا يباشر أسباب الهلاك ، ويجب عليه أيضا أن يتوكل على الله حق التوكل ، وأن يعلم أن ما قدر الله لا بد وأنه كائنٌ لا محالة .
فانتقال المرض ليس بأمر حتمي وإنما هو سبب ، والذين يمضي العلل بمعلولاتها والمسببات بأسبابها هو الله جل وعلا ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد قوله: (لا عدوى) قال: (ولا طيرة) لأن الطيرة التشاؤم (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَال طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَل أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (النمل:47) والطيرة أمرٌ كان يعتقده أهل الجاهلية ، بل ربما لم تسلم منه نفسٌ ، وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن عبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الطِّيَرَةُ مِنَ الشِّرْك ِ ، وَمَا مِنَّا إلاّ ولكنَّ الله يُذْهِبُهُ بالتَّوَكُّل) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منا إلا) يعني ما منا إلا تخالط الطيرة قلبه ، ولهذا نجد أن أكثر الناس ربما وقع في أنفسهم بعض ظن السوء وبعض التشاؤم إما بريح مقبلة وإما بسواه .
وإذا أراد بعضهم السفر ورأى شيئا يكرهه ظن أنه سيصيبه هلاك لأنه أصابه نوع تطير ، والمؤمن يجب عليه أن يتوكل على الله حق التوكل كما صلى الله عليه وسلم: (ولكن الله يذهبُه بالتوكل) ، فالطيرة باطلة ولا أثر للأسباب إلا بقضاء وقدر .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا هامة) وذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الذي قتل يظل طائر على قبره يصيح بالأخذ بثأره ، وبعضهم يعتقد أن الهامة طائر تدخل فيه روح الميت فتنتقل بعد ذلك إلى حي آخر ، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، لمنافاته توحيد الله بأفعاله ، وهي اعتقادات جاهلي لا أصل لها .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا صفر) أكثر أهل العلم إلى أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا صفر) يعني لا تشاءموا بشهر صفر وهو الشهر المعروف بعد شهر الله المحرم ، فقد كانوا في الجاهلية يتشاءمون بصفر ويعتقدون أنه شهر فيه حلول المكاره والمصائب ، فلا يتزوج من أراد الزواج في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يوفق ، ومن أراد تجارة فإنه لا يمضي صفقته في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يربح ، ومن أراد التحرك والمضيّ في شئونه البعيدة عن بلده فإنه لا يذهب في ذلك الشهر لاعتقاده أنه شهر تحصل فيه المكاره والموبقات ، ولهذا أبطل صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد الزائف فشهر صفر شهر من أشهر الله ، وزمان من أزمنة الله ، لا يحصل الأمر فيه إلا بقضاء الله وقدره ، ولم يختص الله هذا الشهر بوقوع مكاره ولا بوقوع مصائب ، بل حصلت في هذا الشهر أمور تاريخية عظمي وانتصارات عظيمة للمسلمين .
وفي الحديث: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) زيادات أخري كقوله ولا نوء ولا غول ، فالحاصل من الروايات ستة أشياء: العدوى والطيرة والهامة والصفر والغول والنوء ، والأربعة الأول قد أفرد البخاري لكل واحد منها ترجمة مستقلة ، وأما الغول فقال الجمهور: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات تتراءى للناس وتتغول لهم تغولا أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم ، فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك ، وأما النوء فقد كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا ، فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك بأن المطر إنما يقع بإذن الله لا بفعل الكواكب ، وإن كانت العادة جرت بوقوع المطر في ذلك الوقت ، لكن بإرادة الله تعالى وتقديره ، لا صنع للكواكب في ذلك .
قال ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث: (قالوا حديثان متناقضان رويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا عدوى ولا طيرة ، وقيل له إن النقبة تقع بمشفر البعير ، فيجرب لذلك الإبل ، قال فما أعدى الأول ثم رويتم لا يورد ذو عاهة على مصح وفر من المجذوم فرارك من الأسد ، وأتاه رجل مجذوم ليبايعه على الإسلام ، فأرسل إليه البيعة وأمره بالانصراف ولم يأذن له ، وقال: الشؤم في المرأة والدار والدابة ، قالوا: وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضا)
فهم يشيرون إلى حديث البخاري عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا عدْوَى ولا صَفَرَ ولا هامة ، فقال أعرابيٌّ: يا رسول الله ، فما بالُ الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البَعيرُ الأجربُ فيُجْرِبها ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمنْ أعدَى الأوَّل ؟ وحديث مسلم بسنده عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ ، قَال: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ . فَأَرْسَل إِليْهِ رَسُولُ اللّهِ: (إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ) .
البخاري عن ابن عمرَ قال: (ذكروا الشؤمَ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إن كان الشؤم في شيء ففي الدارِ والمرأة والفرَس) . أخرجه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم (من سعادة ابن آدم ثلاثة: المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح ، والمركب الصالح ، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: المرأة السوء ، والمسكن السوء ، والمركب السوء) وفي رواية لابن حبان (المركب الهني ، والمسكن الواسع) وفي رواية للحاكم (وثلاثة من الشقاء: المرأة تراها فتسوؤك وتحمل لسانها عليك ، والدابة تكون قطوفا فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحق أصحابك ، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق) .
وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة أنه ليس في هذا اختلاف ، ولكل معنى منها وقت وموضع ، فإذا وضع موضعه زال الاختلاف ، فعدوى الجذام ، فإن المجذوم يشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم ، فتضاجعه في شعار واحد فيوصل إليها الأذى ، وربما جذمت ، والأطباء تأمر أن لا يجالس المسلول ولا المجذوم)
وكذلك النقبة أو القرحة تكون بالبعير وهو جرب رطب فإذا خالط الإبل أو حاكها وأوى في مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه وبالنطف نحو ما به فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لا يورد ذو عاهة على مصح .
وسئل ابن تيمية عن رجل مبتلى سكن في دار بين قوم أصحاء فقال بعضهم لا يمكننا مجاورتك ولا ينبغي أن تجاور الأصحاء فهل يجوز إخراجه فأجاب نعم لهم أن يمنعوه من السكن بين الأصحاء فإن النبي قال لا يورد ممرض على مصح فنهى صاحب الإبل المريضة أن يوردها على صاحب الإبل الصحاح مع قوله لا عدوى ولا طيرة وكذلك روى أنه لما قدم مجذوم ليبايعه أرسل إليه بالبيعة ولم يأذن له في دخول المدينة .
كما أن الأمر بالفرار من المجذوم كالفرار من الأسد ليس للوجوب ، بل للشفقة ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه كان ، ويدلهم على كل ما فيه خير ، أما الطاعون ينزل ببلد فيخرج منه خوف العدوى وقد قال صلى الله عليه وسلم إذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا منه وإذا كان ببلد فلا تدخلوه يريد بقوله لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله ينجيكم من الله ويريد بقوله وإذا كان ببلد فلا تدخلوه أن مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه اسكن لقلوبكم وأطيب لعيشكم ، ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار فينال الرجل مكروه أو جائحة فيقول أعدتني بشؤمها .
وفي وصية الخطاب بن المعلى لولده قال: يا بني إن زوجة الرجل سكن له ، ولا عيش له مع منازعتها ، فإذا هممت بنكاح امرأة فسل عن أهلها ، فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الطيبة ، واعلم أن النساء أشد اختلافا من أصابع الكف ، فمنهن المعجبة بنفسها ، ومنهن المزرية ببعلها ، إن أكرمتها نسبت الفضل لنفسها ، لا تشكر على جميل ، ولا ترضي منه بقليل ، لسانها عليه سيف صقيل ، قد كشفت ستر الحياء عن وجهها ، فلا تستحي من عيوبها ، وجه زوجها مكلوم ، وعِرضُه مشتوم ، يصبح كئيبا ويمسي كئيبا ، شرابه مر وطعامه مر ، نهاره ليل ، وليله ويل ، تلدغه مثلُ الحية العقارة ، وتلسعه مثلُ العقرب الجرارة ، إن قال زوجها لا قالت نعم ، وإن قال نعم قالت لا ، كأنها مولدة لمخازيه ، محتقرة لما هو فيه ، ومنهن الورهاء الحمقاء ، الماضغة للسانها ، الآخذة في غير شأنها ، قد قنعت بحبه ورضيت بكسبه ، تأكل كالحمار الراتع ، تنتشر الشمس ولما يسمع لها صوت ، ولم يكنس لها بيت ، طعامها بائت وعجينها حامض وماؤها فاتر ، ومتاعها مزروع وماعونها ممنوع وخادمها مضروب وجارها مغلوب ، ومنهن العطوف الودود المباركة الولود ، المحبوبة في جيرانها ، المحمودة في سرها وإعلانها ، كريمة التبعل كثيرة التفضل ، خافضة صوتها ، نظيفة في بيتها ، خيرها دائم وزوجها ناعم ، محبوبة مألوفه ، وبالعفاف موصوفة ، جوهرة مثمرة ، وذكرها مفخرة ، حريصة على عرضها ، أمينة على بيتها ، تحفظ زوجها في غيبته ويأنس بها في حضرته ، فلتكن زوجتك من هذا الصنف تسعد بها في دنياك وأخراك .
يقول تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّه إلاّ وَهُمْ مُشركُون) (يوسف:106) ، فلا بد من الإقرار بأن الله هو المقدر المدبر ، وأن الأسباب التي يقلبها ربنا ، مثلها كمثل الآلة بيد الصانع ، ألا ترى أنه لا يقال: السيف ضرب العنق ولا السوط ضرب العبد وإنما يقال: السياف ضرب العنق ، وفلان ضرب فلانا بالسوط ، وإن كانت هذه الأشياء أسبابا مباشرة للأفعال إلا أنها آلةٌ بيد صانعها ، وكذلك الخليقة يباشرون الأسباب في ظاهر النظر عند البشر ، واللّه من ورائهم محيط ومتوحد في الربوبية ، هو القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة .
وإنما ذكر اللّه تعالى الأسباب لأن الشرائع تتعلق بها والأحكام عائدة عليها بالثواب والعقاب ، فالعبد لا بد أن يعتقد أنه لا خالق إلا الله ولا مدبر للكون سواه ، وأن الرب الذي يرزق ويشفي ويحي ويميت بأسباب قادر على أن يرزق ويشفي ويحي ويميت من غير أسباب ، فالأخذ بالأسباب ركن من أركان التوكل على الله فلا يضر التصرف في أسباب العيش والتكسب في أسباب الرزق والأخذ بأسباب الشفاء والنجاة من الهلاك لمن صحّ توكله ولا يقدح في مقامه ولا ينقص ذلك من حاله ، وفي صحيح ابن حبان أن رَجُلا قال للنبيِّ: أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ ؟ قال َ: اعْقِلها وَتَوَكَّل ، فالموحد يعلم أن اللّه تعالى قد جعل في الأسباب منافع خلقه ومفاتح رزقه وخزائن حكمته ، وعلم أنه مقتد في ذلك بنبيه متبعٌ لسنته .
نسأل الله أن نكون من الموحدين الصادقين وصلي الله على سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .