((لماذا خلق الله الدنيا)) للدكتور مصطفى محمود
من الميلاد إلى الموت و الإنسان في صراع .
مادته و ترابه يشدانه إلى تحت ، و روحه تشده إلى فوق .
صراع بين عدم .. و وجود ..
و العدم ليس مجرد خواء .. أو لا شيء ، و إنما العدم قوة سالبة بمثل ما أن الوجود قوة موجبة .
المرض و الشيب و الشيخوخة و الذبول و الهزال قوى عدمية سالبة ، غلبت على الجسم فجعلته مريضاً ذابلاً هزيلاً .
فإذا غلبت هذه القوى العدمية على النفس ، جعلت المزاج النفسي متشائماً يائساً قلقاً سوداوياً كئيباً .
فإذا غلبت على القلب نزلت به إلى درك الحقد و الأنانية و الكبر و الغرور و النفاق و الشهوة .
فإذا غلبت على العقل أظلمته بغواشي الجهالة و الغباء و البلادة .
فإذا أغشت البصيرة ألقت بها في مهاوي الكفر و الشرك و الظلم .
و للعدم جيوش و فرسان .. و له جنود مجندة .
السوس الذي ينخر .. و البكتيريا التي تحلل و تهدم .. و الفيروسات التي تنشر الفوضى و التلف .. مروجوا المخدرات ، و ناشروا الفتن ، و تجار الشهوات .
التتار ، الهكسوس ، و الوندال ، الذين هدموا الحضارات .
كل هؤلاء جنود العدم و فرسانه !
و من وراء الغيب .. إبليس و ذريته ، أكبر قوة سالبة عدمية .. شعاره و رايته التي يلوح بها .. أنا .. أنا .. أنا خير منه.
و هو يجري فينا مجرى الدم ، بمقدار ما يقول الواحد فينا .. أنا .. أنا .. أنا خير منه .
و لكن الله لم يتركنا نهباً للقوى العدمية السالبة و إنما أعطانا أعلى شحنة موجبة حين نفخ فينا من روحه .
( إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )
و الله هو الفاعل الإيجابي الخالص نفخته روح ، و كلمته روح ، و حينما تلابس روحه المادة ، تخلع عليها الصورة و النظام و الحياة و الحركة و الشباب و الصحة و العقل و الوعي و القيم و السجايا و الفضائل .
و الحياة بالروح ، هي الحياة الحقة بلا مرض و بلا موت و بلا شيخوخة .
و غلبة الروح على النفس ، تنزع بها إلى الكمال و النقاء و الطهر .
و غلبة الروح على العقل تنزع به إلى الإدراك و العلم و المعرفة .
و غلبة الروح على الجسد تداوي أسقامه و تشفي أمراضه .
و لعالم الروح جنوده المجندة من الملائكة مثلما لعالم الظلمة شياطينه .
و قد أطلق الله القوى السالبية العدمية ، تنازع القوى الموجبة الوجودية بمشيئته و خطته .. و انفرد بالهيمنة لا ينازعه أحد في ملكه .
و خلق النفس الإنسانية قابلة للإنفعال بالقوتين السالبة و الموجبة ، قابلة للإنحدار الإبليسي أو التحليق الملائكي .. و جعلها مجال صراع و حلبة و قتال .
( لقد خلقنا الإنسان في كبد )
أي في مكابدة .
و من خلال هذا القتال ينكشف محتوى النفس و ينجلي سرها و تقرر منزلتها و يظهر مرادها و يتأكد انتماؤها .
و هذه هي الدنيا و حكمتها .
( الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) .
الدنيا هي المناسبة .. هي المناسبة للتعرف .
هي سائل التحميض الذي يظهر الظل و النور في الصور الفوتوغرافية .
و هكذا تفعل بنا الدنيا ، تظهرنا على حقائقنا و تظهر ما فينا من ظلمة و نور ، فنرى بعضنا البعض في عيون بعضنا البعض .. و نتعرف على أنفسنا من خلال أفعالنا و يفضي كل واحد منا بما يكتم في قلبه في لحظة أو أخرى .
و هكذا تتفاضل النفوس و تتقرر مراتبها و درجاتها .
هي مناسبة للتعرف ، خلقها الله ليعطينا من فضله و عدله ، بحسب استحقاقات يعلمها منذ الأزل ، و لا نعلمها نحن .
و الدنيا هي حادثة إعلامنا و تعريفنا بأنفسنا . و إعلام و تعريف كافة شهود الحدث من إنس و جن و ملائكة و شياطين .فلا تصح القضايا إلا إذا تم إعلام جميع الأطراف .
و علم الله لا يقوم حجة على خلقه إذا كان هؤلاء الخلق جاهلين .
فكان لابد من إعلام شامل كامل .
و الدنيا هي ذلك الإعلام الشامل الكامل .
و هي ملف الأحوال و الأعمال و النوايا و الخفايا لكل نفس .
ثم بعد ذلك يأتي النشر و الحشر و الجمع و الفصل .
و قد رتب الله كل هذا من أجل أن يعطي و يهب و يمنح .. فما خلقنا إلا ليعطينا .
لم يخلقنا لعذاب .
و ما أنزل علينا الشرائع و التكاليف إلا ليسعدنا
( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) .
و في سنته أن يعطي كل مخلوق ما يحب .
الذي يحب الدنيا .. يعطيه الدنيا ، و الذي يحب الآخرة يعطيه من الآخرة .. و الذي يعشق النور ، يأخذ بيده إلى النور .
و الذي يعشق الظلمة ، يتركه للظلمة .
و من النفوس ما لا تلذ لها إلا حياة الاشتعال و الاحتراق و الشهوات .. تلك النفوس كانت بضعة من النار فانتهت إلى النار بحكم المشاكلة و المجانسة و لم يصح لها مقام إلا فيها و لم يكن لها حظ من جنة لأنها أصلا لا تحب الجنة .. إنما يعطي الله كل نفس ما تحب .
( و آتاكم من كل ما سألتموه ) .
( كلاً نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا ) ..
فقد جعل الله من نفسه وكيلاً لنا ينفذ لنا رغباتنا .. ثم تكون كل نفس بعد ذلك بما كسبت رهينة .
و إذا كان الله يقول :
( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ) .
فليس ذلك عن احتياج منه لعبادتنا ، و إنما لاحتياجنا نحن لعبادته .. و لأن العبادة هي الحبل السري الذي يربطنا به و الذي عن طريقه يأتي المدد و العطاء مثلما يأتي الغذاء للجنين من الأم عن طريق الحبل السري ، فإذا انقطع هذا الحبل انقطع عن الجنين غذاؤه .. و بالمثل إذا قطعت هذا الحبل بينك و بين الله ، فقد حرمت نفسك من شريان المدد و العطاء و لم يحرمك ربك بل أنت الذي حرمت نفسك و قطعت رحمك .
و إنما الله رحمة خالصة ، و عطاء خالص ، و قرب خالص .
و إنما الجفوة و البعد و القطيعة منا .
و ما الدنيا بكل ما فيها إلا عطاء عاجل مؤقت يعقبه في الآخرة عطاء آجل دائم فما خلقنا الله إلا ليعطينا في العاجل و في الآجل .
ألم ينفخ فينا روحه و يخلع علينا أسماءه و يسجد لنا ملائكته و يسخر لنا سماواته و يفتح لنا كنوز أرزاقه و يطعمنا كفاراً و مؤمنين ثم بعد ذلك يعدنا بميراث الخلود ، فماذا بعد ذلك .
و هل في الإمكان عطاء أكثر ؟
لو كان هناك أكثر فإنه هو أيضاً الوحيد القادر على إعطائه .
فهو وحده معطي الكثير و الأكثر و الكوثر .
فهو يقول لعبده :
( إنا أعطيناك الكوثر ) .
و من أجل ذلك خلقه .
فما خلق إلا ليعطي و ما خلق إلا ليرحم .
ذلكم الله ربكم لا يكافئه ثناء و لا يتناهى إلى قدره حمد .
لا إله إلا هو له الحمد في الأولى و الآخرة .
د. مصطفى محمود