بارك الله فيك أخي الكريم ، موضوع رائع !
نرجوا الاستمرار
عرض للطباعة
بارك الله فيك أخي الكريم ، موضوع رائع !
نرجوا الاستمرار
للرفع فى انتظار استكمال الموضوع رجاءا
الوجه الثّالث لإعجاز القرآن الكريم : الإعجاز المعرفي
يعتبر الإعجاز المعرفي من أهمّ الأوجه التي يمكن استخدامها لإثبات أنّ القرآن الكريم كلام الله . فعندما ننظر إلى الوجه الأوّل من أوجه الإعجاز في القرآن الكريم و هو الإعجاز اللغوي . سنجد أنّ هذا الوجه يعاني من مشاكل جوهريّة واضحة و أهمّها :
1- لا يمكن إثبات الإعجاز اللغوي للقرآن لغير العرب ، و إذا قمنا بتفسير القرآن باللغات الأخرى فإنّنا سنفقد القرآن إعجازه اللغوي . فالترجمة أو التفسير لن يحوي الإعجاز الذي يحويه النص الأصلي العربي. و بالتالي لم يعد من المتاح لغير العرب معرفة إعجاز القرآن من الناحية اللغوية.
2- لا يمكن إدراك الإعجاز اللغوي لمعظم العرب المعاصرين ، و ذلك لأنّ معرفتنا باللغة قاصرة . فقليلٌ من العرب من يستطيع أن يتذوّق اللغة بحيث يفرّق بين الشعر الجاهلي و النص القرآني ، و مدى البلاغة القرآنية التي تفتقر لها النصوص الأدبيّة العربيّة.
و بالمثل ، عندما ننظر إلى الوجه الثاني من أوجه الإعجاز في القرآن الكريم و هو الإعجاز المنطقي . سنجد أنّ هذا الوجه يعاني من مشاكل جوهريّة واضحة و أهمّها :
1- عدم معرفة كثيرٌ من النّاس للمنطق . و عدم التفريق بين الأمرين المتناقضين و الأمرين المتضادين و الأمرين المتضايفين و الأمرين بين الملكة و انعدامها. فكثرٌ من الناس يعتقد بأنّ جميع هذه الأنواع الأربعة هي أمور متناقضة . في حين أنّ التناقض يختلف تماما عن أنواع التقابل الثلاثة الأخرى ، و هذا يحتاج إلى دراسة متخصّصة للمنطق . و هذا ما يفسّر اعتقاد البعض بوجود تناقض في القرآن في حين أنّه ليس هناك تناقض !
2- اعتراف بعض المسلمين بوجود تناقضات في القرآن ، و تبرير ذلك بأنّ الآية الثانية قد نسخت الآية الأولى و بالتالي يزول التناقض ! فيظنّ المسلم أنّ هذا يخدم كتابه في حين أنّه أقرّ ضمنا بوجود تناقض في كتابه ، مما يجعل الادعاء بعدم وجود التناقض هو ادعاء باطل . فأصبح هذا عائقا عن استخدام هذه الحجّة عند البعض.
و حيث أنّه من الممكن أن تواجه المسلم أحد هذه المشكلات حين استخدام وجهي الإعجاز الأساسيّة للقرآن الكريم ، و هما الإعجاز اللغوي و الإعجاز المنطقي . من هنا تأتي أهميّة الوجه الثالث لإعجاز القرآن الكريم وهو الإعجاز المعرفي.
تقوم فكرة إثبات الإعجاز المعرفي على فكرة جوهريّة و هي : أن يتمّ التعريف بمعرفة لا يملك الرسول وسيلة للوصول إليها ، بحيث تدلّ صحة تلك المعرفة على أنّه حصل عليها من مصدر خارجي غير بشري.
و يتميّز الإعجاز المعرفي عن أوجه الإعجاز الأخرى للقرآن الكريم بالآتي :
الميزة الأولى : يمكن أن يكتشف الإعجاز المعرفي الإنسان العربي الذي يقرأ القرآن العربي ، و يستطيع أن يكتشف الإعجاز المعرفي الإنسان غير العربي الذي يقرأ ترجمة القرآن باللغات الأخرى . فالإعجاز المعرفي لا يعتمد على اللغة بل يعتمد على مضمون الكلام و معناه. و بالتالي فهذا الإعجاز له أن يدركه جميع الشعوب بجميع اللغات.
الميزة الثانية : لا يقتصر هذا الإعجاز على زمن دون غيره ، بل هو صالح لجميع العصور و الأزمنة. فإذا قدّم القرآن معرفة معيّنة ، و تأكّد النّاس من صحّتها في زمن ما ، فيكون هذا الأمر دليلا إعجازيا لهم في ذلك الزمن و للأزمنة اللاحقة .
الميزة الثالثة : ليس من الضروري قراءة القرآن الكريم كاملا للوصول إلى الإعجاز المعرفي في القرآن الكريم . فقد يقرأ الإنسان آية قرآنية واحدة تحوي على معرفة معيّنة ، ثمّ يقوم الإنسان بالتحقق من مدى صحّة ذلك الإخبار . فإذا ثبت بشكل قطعي صحة تلك المعرفة ، دلّ بالضرورة أنّ القرآن كتاب من الله ، باعتبار أنّ الرسول لم يكن يملك الوسائل الموصلة لتلك المعرفة. فيصبح هذا الدليل كافيا لإثبات أنّ القرآن الكريم كلام الله ، دون الحاجة إلى قراءة الكتاب كاملا.
و بعد أن اتّضحت لنا أهميّة الإعجاز المعرفي ، نأتي لنبيّن أنواع الإعجاز المعرفي في القرآن الكريم :
النّوع الأوّل : معرفة الغيب . و هو أن يتمّ الإخبار عن شيء ليس من شأن الإنسان أن يعرفه .
النّوع الثّاني : معرفة المستقبل . و هو أن يتمّ الإخبار عن أمر مستقبلي لا يستطيع الإنسان الجزم به أو معرفته بالشكل التفصيلي الدقيق.
النّوع الثّالث : معرفة أسرار الكون . و هو أن يتمّ الإخبار عن أمر لا يعرفه النّاس عن الكون و لا يملكون الوسائل المعرفيّة المؤديّة إلى معرفته و ذلك في زمن الإخبار.
النّوع الرابع : معرفة الماضي . و هو أن يتمّ الإخبار عن أمر قد وقع في الماضي في مكان ليس بينه و بين مكان الإخبار اتصال معرفي ، بحيث يكون المخبر قد تلقّى تلك المعرفة من أشخاص عاشوا في مكان وقوع الخبر .
بالنسبة للنّوع الأوّل : فهناك آيات كثيرة تتحدّث عمّا سيحدث للإنسان بعد موته ، و ما في الجنّة و النّار بتفاصيل كثيرة . و لكن لا يمكن معرفة صحّة هذه الأخبار إلا بعد أن نموت . لذا لا يمكن استخدام هذا النّوع لإثبات إعجاز القرآن الكريم و كونه من الله . لكن يظلّ هذا النّوع هو أوّل نوع يكتشفه الإنسان بعد موته ، حينما ينكشف له بعض الغيب الذي كان غيبا عليه أثناء حياته.
فمثلا قوله تعالى في وصف النّار : " لها سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزء مقسوم " الحجر: 44 . فهنا إخبار دقيق بعدد أبواب النّار ، و لكنّه إخبار عن أمر غيبي لا يملك الإنسان التحقّق من صحّة الإخبار إلا بعد أن يموت و تظهر له تلك الحقائق . لذا هذا النّوع لا يمكن استخدامه في الدنيا إلّا في حالات نادرة .
بالنسبة للنّوع الثّاني : فهناك آيات كثيرة تتحدّث عن المستقبل . و على رأس هذه الآيات ، الآيات التي تتحدّث عن نهاية العالم . حيث يقول تعالى : " إذا الشمس كوّرت . و إذا النجوم انكدرت . و إذا الجبال سيّرت " التكوير :1-4 . و قال تعالى : " يوم تبدّل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهّار " إبراهيم:48 . و ممّا لا يخفى على أحد أنّه في زمن صدور هذه الآيات ، كان هناك احتمالان متساويان : الاحتمال الأوّل : نهاية العالم. الاحتمال الثاني : بقاء العالم كما هو إلى الأبد. و لم تكن هناك علوم تؤدّي إلى الجزم بأنّ العالم سينتهي ، بل على العكس كانت هناك اطروحات كثيرة تعتقد بقدم العالم و أزليّته ، و أنّ التغيّر حاصل في الكائنات الحيّة تموت و تحيا . بينما القرآن جزم منذ ذلك الوقت بأنّ العالم سينتهي و بأنّ النجوم ستنفجر و الكواكب ستبعثر و الجبال ستسيّر . و هذه المعرفة قد تكون خاطئة لعدم وجود آليّات التّحقق منها في ذلك الوقت . لكنّنا في العلم المعاصر توصّل العلم بما ليس فيه مجال للشكّ أنّ العالم سينتهي تحت عناوين كثيرة ، منها الموت الحراري و نظريّة الانكماش العظيم. فتأكدنا في عصرنا الحالي بأنّ العالم سينتهي ، و بقي معرفة ما سيحدث أثناء نهاية العالم ، هل بالتفاصيل الدقيقة التي ذكرها القرآن أم بطريقة أخرى. فأصبح القرآن معجزا حتى الآن من ناحية جزمه بنهاية العالم في وقت ليس هناك ما يؤكّد علميّا بضرورة نهاية العالم . و يبقى المستقبل هو المنتظر لإثبات صحّة الإخبار القرآني بخصوص تفاصيل النهاية.
و من ضمن الأخبار المستقبليّة في القرآن الكريم ، حديثه عن أمور ستحدث و سيعاصرها النّاس . كحديثه عمّا سيحدث للروم ، في قوله تعالى : " غلبت الرّوم . في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين " الروم:2-4 ، و قد يقول قائل بأنّ هذا التنبؤ المستقبلي قابل للتخمين ، فكلّ مغلوب فهو قد يغلب في يوم ما ! لكنّنا نجد أنّ القرآن حدّد المدّة الزمنيّة لتلك الغلبة و حصرها في بضع سنين . و بالتالي لو تمّ النّصر بعد عشرين سنة تكون النبوءة كاذبة . ثمّ التنبؤ بنبوءة تتحقّق في بضع سنين ، فيه خطر كبير على القرآن في حال لم تصدق . و بالتالي فالآية تؤكد ثقة المتكلّم بتحقّق ما يخبر به في المستقبل . و قد شهد التاريخ بتحقّق هذه النبوءة في المدّة القرآنيّة المذكورة .
بالنسبة للنّوع الثّالث : فهناك آيات كثيرة تتحدّث عن أسرار الكون ، و أصبح هذا النّوع يُعرف بـ " الإعجاز العلمي في القرآن الكريم " . فمثلا نجد قوله تعالى : " ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ .ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ . " المؤمنون:14 ، و ممّا لا شكّ فيه هو أنّ الرسول لم يكن طبيبا ، بل إنّ جميع أطبّاء عصره لم يكن لديهم علم بمراحل تكوّن الجنين ، فلم تكن لديهم الأجهزة التي تساعدهم للكشف و معرفة ذلك . و بالتالي فلا شكّ أنّ الرسول تمّ إخباره من قبل خالق الجنين بتلك المراحل ، خاصة بعد أن ثبت علميّا صحّة تلك المراحل بتفاصيلها الدقيقة . و كذلك نجد قوله تعالى : " وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا". الفرقان:53.و لم يكن هناك غوص في أعماق البحار لمعرفة ما بين البحر العذب و البحر المالح ، فصحّة هذه المعرفة كفيلة للجزم بأنّ الخالق هو من أخبر رسوله بهذه المعلومة. و كذلك نجد قوله تعالى : " و السماء بنيناها بأيدٍ و إنّا لموسعون " الذاريات:47 . و لم يكن من المعلوم ولا حتّى المتوقّع أن كون هناك توسّع للسّماء . و قد ثبت علميّا بأنّ الكون يتوسّع ، و هذا كفيل لإثبات الإعجاز المعرفي للقرآن الكريم . و الأمثلة كثيرة و لكن هذه بعض أمثلتها.
بالنسبة للنوع الرابع : فهناك آيات كثيرة تتحدّث عن قصص ، دون أن تكون هذه القصص قد وقعت في شبه الجزيرة العربيّة بحيث يكون أهل قريش توارثوها أبا عن جد . و لا هي قصص في كتب اليهود و النصارى بحيث نقول بأنّ الرسول علمها منهم . و لا هي قصص وقعت في أمكنة زارها النبي بحيث يكون قد صادف فيها أناسا و أخبروه بتلك القصص. و من ضمن هذه القصص ، قوله تعالى : " و يسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا " الكهف:83 و الرسول لم يكن باحثا تاريخيا لعرفة هذه الشخصيات بتفاصيل القصة ، كما أنّها ليست من القصص الواردة في الكتب المقدّسة عند اليهود و النصارى بهذا التفصيل القرآني . و بالتالي ففي حال أكّد الباحثون التاريخيّون وجود شخصيّة تاريخيّة بنفس مواصفات ذي القرنين ، فإنّ هذا كفيل لإثبات أنّ الرسول علم هذه الشخصية من إخبار الله العالم بالتاريخ. و بالمثل في باقي القصص المماثلة.
و عليه ، فالخلاصة تكمن في أنّ القرآن الكريم احتوى على أخبار عن الغيب و عن المستقبل و عن أسرار الكون و عن الماضي ، بحيث لم يكن للرسول مصادر المعرفة التي تؤهّله لمعرفة تلك المعارف ، كما أنّ المحيطين بالرسول لم تكن لديهم أدوات معرفة تلك المعارف . مما تدلّ تلك المعارف على استحالة الوصول إليها بالحدس و التخمين . مما يؤكّد أنّ هذه المعارف جاءت بإخبار إلهي من الله العليم بالغيب و بالمستقبل و بأسرار الكون و بماضي البشريّة.
و سيحاول غير المسلمين إنكار الإعجاز المعرفي من خلال المبرّرات الآتية :
التبرير الأوّل : إنكار صحّة الأخبار التي تتحدّث عن أسرار الكون أو الماضي . كالقول بأنّ مراحل الجنين في القرآن تخالف مراحل الجنين في العلم ! أو القول بأنّ شخصيّة ذي القرنين تختلف عن شخصيّة الاسكندر العظيم التاريخيّة ! و بالتالي بطلان الخبر و بالتالي عدم وجود إعجاز معرفي !
التبرير الثاني : الزعم بأنّ الأخبار المستقبليّة جاءت من قبيل التخمين و الصدفة . كاعتبار أنّ معرفة انتصار الروم على الفرس يمكن بالتخمين ، و معرفة نهاية العالم يمكن بالتخمين ، إلى غير ذلك من المبرّرات.
التبرير الثالث : الزعم بأنّ المعارف الصحيحة في القرآن هي المعارف التي كانت سائدة في ذلك الوقت ، و علمها الرسول من معاصريه أو قرأها في كتب الآخرين !
و من الواضح جدا أنّ كلّ هذه التبريرات هي تبريرات واهية لا يقول بها إلاّ من لا يريد الإيمان بالقرآن الكريم. إذ هي مبرّرات قائمة على رغبة في الإنكار فحسب.
و الردّ على هذه التبريرات سهل يسير على النحو الآتي :
الردّ على التبرير الأوّل : أثبتوا بطلان الأخبار القرآنيّة و معارضتها للعلم القطعي المثبت. و لن نجد من المخالفين إلاّ ادعاءات فقط دون حجّة دامغة !
الردّ على التبريرالثّاني : و لماذا لم يخطئ الرسول في أيّ تخمين من تخميناته في القرآن الكريم ؟ و كيف تبثون من خلال علم الاحتمالات في الرياضيّات احتماليّة إصابة خمسة تخمينات مختلفة بحيث يكون لكلّ تخمين خمسمة احتمالات مختلفة ؟
الردّ على التبرير الثّالث : أثبتوا من خلال الأدب الجاهلي أو الفارسي أو غيرها من الأدب المعاصر لنزول القرآن ، أنّ أدبيّاتهم احتوت على المعارف القرآنية الصحيحة بحيث تكون تلك المعارف سائدة في ذلك الوقت !
و لن نجد من أهل الكفر و الإنكار ردا على هذه المطالب ، بل سنجد منهم الصدّ و الكفر و الإصرار . و برغم أنّ أيّ وجه من أوجه الإعجاز الثلاثة كفيل لإثبات أنّ القرآن الكريم كلام الله . فالإعجاز اللغوي لوحده كاف ، و الإعجاز المنطقي لوحده كاف ، و الإعجاز المعرفي لوحده كاف ، فضلا على اجتماع الإعجازات الثلاثة و ثبوتها معا ...
و مع ذلك سوف نستمرّ في بيان أوجه إعجاز القرآن الكريم ، و سأنتقل إلى الوجه الرابع من أوجه الاعجاز القرآني و هو إعجاز التّحدّي.
و سأتحدّث عن كيفيّة إثبات هذا الإعجاز في مقالة أخرى بإذن الله تعالى ...
)( ... أبو عمر النفيس ... )(