إذا ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك قبح الزنا والإباحية الجنسية وضررهما البالغ على الفرد والمجتمع وجب إتخاذ التدابير اللازمة لمكافحتهما ..
وأول هذه التدابير :
منع الأسباب المؤدية للوقوع في الفاحشة أو الحافزة إليها ..
مثل الكتابات الإباحية أو المثيرة للشهوات ..
وكذلك الصور العارية أو المحركة للشهوة ..
إلى آخر عوامل التهييج الجنسي ..
وثانيها :
تهذيب عقلية الأفراد بالتربية والتعليم منذ الصغر ، وتنشئتهم على قبح الفاحشة ..
بحيث يعودون ينكرونها من أنفسهم بالوازع الخلقي الداخلي ، فيمنعهم هذا الوازع من ارتكابها ..
فإنه حتى مع توافر السبب أو الحافز أو الداعي للفاحشة يكون الضمير الداخلي كابحًا لجماح الشهوة ..
وثالثها :
تحريض الرأي العام والعقل الجمعي ضد هذه الفاحشة ..
بحيث يصير عامة الناس يعتبرنها عارًا ومخزاةً ..
وفائدة الرأي العام أنه يردع من نقصت تربيته أو ضعف فيه الوازع الداخلي فيزعه المجتمع ..
فهو خط وقائي ثانٍ يلي تنمية الوازع الداخلي ..
ورابعها :
فرض العقوبة الرادعة لمن يرتكب الفاحشة أو يقع فيها ..
والغرض الردعي من فرض العقوبة واضحٌ لا مراء فيه ..
فهناك من الناس من لا تزعهم ضمائرهم ولا مجتمعاتهم ، فتردعهم العقوبة المقررة ..
وخامسها :
إقامة الموانع والعقبات في سبيل هذه الفاحشة ..
فيتم تقييد العلاقات الجنسية بما يقوم في وجهها كالسد المانع ..
كمنع اختلاط الجنسين في الحياة العامة وفرض الحجاب الشرعي على المرأة ..
فمن لا يردعه ضميره الداخلي ، ولا يردعه إنكار المجتمع ، ولا حتى يأبه للعقوبة المقررة ، فهذا تعوقه وتمنعه هذه التدابير ..
فيكون الوقوع في الفاحشة عسيرًا حتى على المقبل عليها بلا اكتراث لأي وازع أو رادع ..
وفي نفس الوقت تتم إزالة الموانع والعقبات من سبيل النكاح بحيث يتم تيسيره على مستوى النظام المدني والأعراف المجتمعية ..
هذه التدابير الوقائية هي مما يشهد بضرورته العقل وتقتضيه الفطرة ..
ومما تعمل به المجتمعات فعلاً ، فلا توجد دولة متحضرة إلا وتستخدم هذه التدابير ضد ما تعتبره جريمة ..
فإذا كان من الثابت أن الفاحشة مهلكة للنسل وقاطعة لدابر المجتمع ، فلا مناص من التسليم بضرورة هذه التدابير ..
بالضبط كما تقام التدابير الوقائية ضد جرائم السرقة والسطو والقتل وقطع الطريق ..
ومن الناس من يقر ويسلم بقبح الزنا والإباحية الجنسية ، لكنهم يرون أن المكافحة ينبغي أن تقتصر على الإصلاح الفردي الباطني ..
فيكون لكل امرءٍ من نفسه الوازع الكافي والضمير الرقابي والالتزام الخلقي بما يمتنع به عن ارتكاب الفاحشة ..
أما اللجوء إلى قانون العقوبات وتدابير فصل الجنسين إلى آخرها ففيه حط من قيمة الفرد بمعاملته كالطفل الصغير ..
بل المفترض أن يتم تهذيب الأفراد وتربيتهم بما يجعلهم يحترمون قوانين المجتمع دون رقابة أو وصاية أو عقاب ..
فنرد على هؤلاء بسؤال صغير :
هل بلغت الإنسانية هذا المستوى الراقي من التهذيب والتربية بحيث يمكن الاعتماد عليها دون قوانين أو عقوبات ..؟
وهل بلغ أي مجتمع في الشرق أو الغرب هذا المستوى الرفيع الذي يعتمد على ضمائر الناس فقط لا غير ..؟
ألا تتأملون حال أرقى الدول في هذا العالم والتي تتباهى بأن جميع أفرادها متعلمون مثقفون فتخبروني :
هل منع التهذيب والتربية والتعليم ارتكاب الجرائم ونقض القوانين ..؟
ألا تحدث في هذه البلاد جرائم وحوادث السرقة والقتل ..؟
ألا يرتكب الناس في هذه البلاد الغش والخديعة والظلم والإفساد في الأرض ..؟
هل استغنت هذه الدول عن الشرطة والمحاكم والسجون والمؤسسات الرقابية المالية والإدارية ..؟
هل هذا كله في الدول الراقية والمتقدمة يعني أن حكوماتها تعامل شعوبها كالأطفال الصغار أو أنها تحط من قيمة أفرادها ..؟
فما بالكم تعترضون على قانون العقوبات في هذه المسألة وحدها دون غيرها ..؟
أليس من غير المقبول التفرقة بين المتماثلين وقد ثبت ضرر فاحشة الزنا على الرقي والحضارة والمجتمع والنسل بما يفوق جرائم السرقة والقتل ..؟!
ثم قد تجد من يعترض قائلاً إن ما تعدونه محركات للشهوة وتردون إقصاءه وإزالته هو قوام الفن وروح الأدب ..
فالصد عنه هو حربٌ على الفن والأدب في الكثير من صوره وأشكاله ..
ونحن لا نختلف مع المعترض في أهمية الفن والأدب وقيمتهما الغالية التي تتقدم بها الأمم وترتقي ..
لكن حياة المجتمع وصلاحه وفلاحه أهم منهما ..
وقد جرت سنن البشر على إقصاء عناصر الفن والأدب التي فيها ما يضر بالفرد أو المجتمع ..
انظر مثلاً إلى فن النشل وما فيه من خفة يد ولطف وبراعة ..
هل يمكن لأي مجتمع صالح أن يروج له وينشره بين الأفراد ..؟
ألا يتم إقصاء هذا الفن لأجل المصلحة العليا للمجتمع ..
وماذا عن فن التزوير من تزوير النقد إلى تزوير الوثائق والمستندات إلى تزوير التوقيعات إلى تزوير الأختام الحكومية ..إلخ ..؟
ألا يتطلب براعةً بديعةً وتفننًا عالي المستوى ..؟
فهل يستجيز عاقلٌ تنمية هذا الفن والترقي به بين أفراد المجتمع ..؟
ألا يدل هذا على أن مصلحة المجتمع تعلو فوق أي قيمة جمالية فنية كانت أو أدبية ..؟
فلو ثبت لدينا أن شيئًا من الأشياء مضرٌ بحياة المجتمع وفلاحه وصلاحه ، فلا جرم أن نقيد الفن والأدب بما يصرف هذاالضرر عن المجتمع ..
وهذه سنة البشر من قديم ..
ومن الاعتراضات أيضًا زعمهم أن إقامة الحواجز وضرب الحجب بين الجنسين لمنع العلاقات الجنسية المطلقة ووضع السدود دون الاختلاط هو اتهامٌ لأخلاق الناس ..
بافتراض في كل واحد منهم داعرٍ فاجرٍ ..
وفيه كذلك أن واضعي هذه القيود لا يثقون برجالهم ولا بنسائهم ..
ففيه اتهامٌ قبيحٌ لأخلاق الأفراد وإهانةٌ لكرامتهم بإساءة الظن فيهم ..
فنقول للمعترض : اعتراضك قويٌ ولا شك ..!
لكن ما كان لك أن تقصره على تدابير مكافحة الزنا والإباحية ..
بل كان الأولى لك أن تتوسع فتقول إن كل قفل على باب وكل رقم سري لخرانة وكل كلمة سر لجهاز كمبيوتر هو كذلك اتهامٌ وإهانةٌ لأخلاق الناس ..
وأنه دليلٌ على أن واضع القفل أو الرقم السري أو كلمة السر لا يثق في من حوله من الناس ..
وأنه يفترض في كل واحد منهم لصًا سارقًا ..
ولك أن تقول كذلك إن كل شرطي في البلاد يعني أن الدولة تعتبر مواطنيها أشرارًا خبثاءً لا ثقة فيهم ..
وأن كل مراقب مالي أو إداري يعني أن كل موظف مختلسٌ أو مهملٌ لا أمانة فيه ..
فما رأيك بهذا النمط في التفكير ..؟
ألا يجعلك التفكير بهذه الطريقة سارقًا قاتلاً مجرمًا متهمًا ..؟!
فهل ترى في هذا إهانة لكرامتك كما تراه في تدابير مكافحة الزنا ..؟
وخلاصة القول في المسألة أن كثيرًا من الناس ينكرون الزنا والفاحشة والإباحية الجنسية ..
لكن هذا الإنكار لا يبلغ منهم مبلغًا يشعرهم بضرورة إتخاذ التدابير الوقائية لسد الباب أمامهم بالمرة ..
لهذا تختلف وجهة نظرهم في أمر هذه التدابير عن وجهة نظرنا ..
ولا ريب عندي أنهم إن بينت لهم حقائق الفطرة وانكشفت لهم الأمور على وجهها الصحيح لاتفقوا معنا ..
فالإنسان ما دام فيه عنصر الحيوانية والشهوانية ، فلا يمكن لأي نظام مدني يبغي صلاح المجتمع وفلاحه أن يغفل هذا الجانب في تركيبه ..
لهذا لا ينبغي على المجتمع إهمال هذه التدابير أو التقصير في أمرها ..
والله أعلم وأحكم .