تفنيد تفصيلي لشبهة مصحف ابن مسعود و عدم قرآنية المعوذتين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه خليله ، صلى الله عليه وعلى آله وصـحبـه وسلم تسليماً كثيـراً إلى يوم الدين .
أما بعد : فقد سألني بعض الأخوان أن اكتب له ردًا على شبهة مصحف ابن مسعود رضي الله عنه و عدم قرآنية المعوذتين ، و التميز في ذلك بين الحق و الأباطيل ، و التنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل .. لذا شرعت في كتابة هذا البحث ، مراعيًا فيه حال السائل و جسامة الشبهة ، و عالمًا بأني أحقر من أن أنال شرف الكتابة في العلم الشرعي ، و أنه ليس لي إلا القص و اللصق من كلام أهل العلم .
فصل في أن العلم الصحيح هو إما نقل مصدق عن معصوم و إما قول عليه دليل معلوم
فصل في أن العلم الصحيح هو إما نقل مصدق عن معصوم و إما قول عليه دليل معلوم
كل شبهة تنسب لهذا الدين سببها واحدة من اثنتين : إما زلة عالم و إما قول جاهل ، و أفرح الناس لزلة العالم هو ذلك الجاهل ، حتى إذا قيل له : قولك خطأ ، قال : قال به فلان من العلماء ، و يجعل هذا العالم المخطئ درعًا يحتمي ورائه .. فإذا تبنى قولاً لرجل جليل فاضل لا نشك في علمه و قدره ، و قيل له : أخطأ الشافعي – مثلاً – قال : هذا من جهلكم بقدور العلماء و مكانتهم ، و نسب مخالفيه إلى الجهل ، و ربما إلى بغض العلماء !
ثم ها هي مواقع الإنترنت و الفضائيات يتكلم فيها كل واحد و أي واحد عن الدين بجهل ، و ينسب إليه ما يمليه عليه هواه .
لكن قبل أن نتطرق للمسألة التي نحن بصددها لا بد أن نتفق على أصول يتأسس عليها الرد على الشبهة ، و سنضع ثلاثة أصول ، و ينبغي أن توضع هذه الأصول الثلاثة قبل أي حوار في مسائل الدين ؛ لأنه يستحيل إذا اتبع المرء الأصول الصحيحة أن يقع في أي شبهة إن شاء الله .
الأصل الأول : هو أن المعصوم الوحيد الذي لا يرد كلامه و لا يجوز معه الاعتراض هو رسول الله صلى الله عليه و سلم .. و يدل على ذلك أن الله أوجب على المسلمين اتباع الرسول فيما يأمر و ينهى فقال : { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ( الحشر : 7 ) ، و قرن طاعة الرسول بطاعته في آيات كثيرة من القرآن فقال : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ( آل عمران : 132 ) ، و حث على الاستجابة لما يدعو ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ( الأنفال : 24 ) ، و اعتبر طاعته طاعة لله و اتباعه حبًا لله : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ( النساء : 80 ) ، و قال أيضًا : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ( آل عمران : 31 ) . و حذر أيضًا من مخالفة أمره : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ( النور : 63 ) . بل أشار أن مخالفته كفر : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } ( آل عمران : 32 ) . و لم يبح للمؤمنين مطلقًا أن يخالفوا حكمه أو أوامره { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } ( الأحزاب : 36 ) . و اعتبر من علامات النفاق الإعراض عن تحكيم الرسول في مواطن الخلاف : { وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) } ( النور : 47-51 ) . بل جعل من لوازم الإيمان ألا يذهبوا حين يكونون مع رسول الله دون أن يستأذنوا منه : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( النور : 62 ) .. قال ابن القيم رحمه الله : (( فإذا جعل الله من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبًا إذا كانوا معه إلا باستئذانه ، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول و لا مذهب علمي إلا بعد استئذانه ، و إذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه )) ابن قيم الجوزية ، إعلام الموقعين ج1 ص58 .
الأصل الثاني : هو أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه و سلم ، و أن غيره من العلماء يخطئ و يصيب ، و ليس في دين المسلمين أن نقبل كل أقوال أي عالم مهما بلغ قدره و علمه ؛ بل نحفظ له مكانته و لا نتبعه في زلته .. فنحن إذ نرد على أي عالم ، لا نزال نحفظ له مكانته و نحترمه و نبجله و نعظمه و نطيعه ما أطاع الله و رسوله . و مع ذلك ، لا نتبعه في زلته و لا نطيعه فيما أخطأ فيه . و كان الإمام مالك رضي الله عنه إذا استنبط حكمًا قال : (( انظروا فيه فإنه دين ، و ما من أحد إلا مأخوذ من كلامه و مردود عليه إلا صاحب هذه الروضة )) و أشار بإصبعه إلى قبر الرسول صلى الله عليه و سلم .. و معروف لدى الكافة أن العلماء يختلفون في المسألة الواحدة و يرد بعضهم على بعض ، و الحق واحد لا ريب و ليس متعددًا بعدد العلماء . فإن قال عالم قولاً عليه دليل معلوم اتبعناه ، و إن رددنا على عالم كبير جليل قوله فليس معنى هذا أننا ننتقصه .. و هاهم النصارى إذا واجهناهم بكلام أحد علمائهم أو أكابر ملتهم قالوا : (( كان رجلاً واحدًا و سها )) انظر المناظرة التقريرية بين الشيخ رحمت الله الهندي و القسيس بفندر ص9 .
الأصل الثالث : أنه ليس كل كلام موجود في الكتب يكون حقًا ؛ فقد وجد كلام باطل بل هو من أبطل الباطل قال به ناس و وضعه أهل العلم في الكتب على سبيل إيراد مختلف الآراء و الأقوال . فهاهو الإمام القرطبي يذكر عن البعض في تفسيره لسورة القلم أن (ن) هو (( الحوت الذي تحت الأرض السابعة )) و (( إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون )) و يكتب في تفسيره : ((و قال الكلبي و مقاتل : اسمه البهموت . قال الراجز :
مالي أراكم كلكم سكوتا ::: والله ربي خلق البهموتا
و قال أبو اليقظان و الواقدي : ليوثا . و قال كعب : لوثوثا . و قال : بلهموثا . و قال كعب : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه ، و قال : أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها ، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع ؛ فهم ليوثا أن يفعل ذلك ، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه ، فضج الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت . قال كعب : فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت )) تفسير القرطبي ج29 ص442 . و لا يخفى ما في هذا الكلام من السخافة و الهذيان .
و هاهو المشعوذ الحلاج يمدح إبليس فيقول : (( و ما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس )) الحلاج ، الطواسين ص42 . ثم يدافع عن فرعون بإصرار و يتخذه و إبليس أستاذين له قائلاً : (( فصاحبي و أستاذي إبليس و فرعون ، و إبليس هدد بالنار و ما رجع عن دعواه ، و فرعون أغرق في اليم و ما رجع عن دعواه ، و لم يقر بالواسطة البتة . و إن قتلت أو صلبت أو قطعت يداي و رجلاي ما رجعت عن دعواي )) المصدر السابق ص51-51 .. فهذا كلام لا يقبله عاقل ، و رغم هذا موجود في الكتب و قال به ناس . لهذا لا نقبل أي قول في الكتب أو غيرها إلا إذا كان عليه دليل معلوم ، فإن افتقر الكلام إلى الدليل لم يكن له وزن و لا اعتبار . و إن كان دليله ضعيفًا أو باطلاً أو مرجوحًا كان اعتباره بقدر دليله .
فصل في أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجب الجزم بصدقه والجزم ببطلان ما عارضه
فصل في أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجب الجزم بصدقه والجزم ببطلان ما عارضه
و هذه قاعدة شريفة جليلة مفطور عليها عقل ابن آدم ؛ فهو إن ثبت لديه أمر ما بالأدلة و البراهين علم قطعًا أن عكس هذا الأمر باطل لا يجوز ، حتى إن وردت عليه شبهة بخصوص هذا الأمر لم تخرج عن كونها شبهة بالنسبة له يعلم فسادها يقينًا و إن لم يكن يعلم كيفية الرد عليها . و هذا أمر نراه كثيرًا في المسلمين الذين ترد عليهم الشبهات بخصوص أمور معلومة من الدين بالضرورة و لا يشكون في بطلان هذه الشبهات و يعلمون في قرار أنفسهم أنها شبهات فاسدة و أن الحق بخلافها لكنهم يعجزون عن الرد عليها ردًا علميًا أصيلاً فيسعون لمن لديه الرد على هذه الشبهات يسألون و يستفسرون .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسيره لقوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين } : (( وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها ، فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل ، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة ، سواء قدر العبد على حلها أم لا فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه ، لأن ما خالف الحق فهو باطل ، قال تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال وبهذه القاعدة الشرعية تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون ، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه ، و إلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه )) .
و كلام العلامة السعدي – رحمه الله – حق لا نزاع فيه ؛ فليس لازمًا على كل مسلم معرفة الردود على الشبهات و الأباطيل لأن معرفة الحق و أدلته تغني عن الرد على الأباطيل التي تعارضه ، فالحق واحد و الأباطيل عديدة . و سواء قدر المرء على تفنيد الشبهات و الافتراءات أم لا ، فهذا لا يطعن أبدًا في الحق المقطوع به الذي يؤيده الدليل القطعي ؛ لأن كل ما يخالف هذا الحق فهو باطل بالضرورة حتى دون البحث في أدلته و تفنيدها .
يتبع إن شاء الله . . .
باب في الأدلة على كون المعوذتين من سور القرآن الكريم
باب في الأدلة على كون المعوذتين من سور القرآن الكريم
قبل أن نذكر الشبهات حول قرآنية المعوذتين نود أن نستعرض الأدلة الصحيحة القطعية على كونهما من القرآن العظيم ، و نبدؤها بوقوع التواتر القطعي لهما ضمن باقي السور ، و معه تواتر المعوذتين عن ابن مسعود نفسه رضي الله عنه .
و لا أجد في هذا المقام أنسب مما كتبه فضيلة المستشار سالم عبد الهادي في مناقشته للمستشرق الدكتور موراني حول دعوى (تحقيق القرآن) ، فأنقله هنا للفائدة .
سَـمَــاعِــيٌّ مِن البدايةِ إلى النهايةِ
سَـمَــاعِــيٌّ
مِن البدايةِ إلى النهايةِ
روى الإمام البخاري رحمه في ((صحيحه)) (4679) حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ؛ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ؛ وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ـ وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لَا يَتَكَلَّمُ ـ : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إِلَى آخِرِهِمَا، وَكَانَتْ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. انتهى.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الحديث: ((إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ؛ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ)).
وفي هذا فوائد ثلاثة:
الأولى: إقرار أبي بكرٍ وزيد رضي الله عنهما لقول عمر المذكور، فهذا إجماعٌ من إجماعات الشيخين أبي بكرٍ وعمر، ثم موافقة باقي الصحابة لهما على فعلهما، وعدم إنكاره؛ تدل على إجماع الصحابة الكرام رضي الله عنهم على هذا الأمر.
الثانية: خشية عمر رضي الله عنه من كثرة قتل القُرَّاء والتي سينتج عنه لو حصل: (أن يذهب كثيرٌ من القرآن)؛ تعني بكل إيجاز أن لم يذهب حرفٌ من القرآن حتى هذه اللحظة التي كان الثلاثة (أبو بكر، وعمر، وزيد رضي الله عنهم يتباحثون في جمع القرآن)، فحتى هذه اللحظة لم يذهب حرف من القرآن، لكن عمر رضي الله عنه يخشى أن يضيع كثيرٌ من القرآن إذا استحرَّ القتل، أو كَثُر القتل في صفوف القُرَّاء في كل معركة من معارك المسلمين، فيرى عمر رضي الله عنه ضرورة جمع القرآن الآن والقرآء متوافرون متواجدون قبلهم أن يُقْتلوا في معارك المسلمين، وبهذا يضيع كثيرٌ من القرآن بمقتل من يحفظه، فلابد إِذن من البدء على الفور في جمع القرآن..
وإذا لم يكن قد ذهب حرفٌ من القرآن حتى اللحظة المذكورة بإجماعهم؛ ثم بَدَءَ الجمعُ مباشرة ولله الحمد، فهذا بإيجاز يعني أَنَّه لم يذهب حرفٌ واحدٌ من القرآن الكريم أبدًا ولله الحمد..
الثالثة: لكن رويدًا يا أمير المؤمنين أبا حفصٍ العظيم رضي الله عنك وعن أولادك وذريتك وأحبابك، وحشرنا الله معك في جنات النعيم في صحبة نبينا صلى الله عليه وسلم..
رويدًا أبا حفصٍ، ودعني أسألك لأتعلَّمَ منك يا مَنْ أنعم الله عليَّ بحبِّكَ: لماذا تخشى ضياع القرآن بموت القراء؟
هل لأن الجزيرة العربية أو المدينة قد خلتْ ممن يُحْسِن القراءة إلا هؤلاء القراء؟ فتخشى إن قُتِلوا أن لا تجد قارئًا أو كاتبًا يجيد القراءة والكتابة؟
أرجوك أبا حفصٍ سامحني على غبائي في سؤالي..
أرجوك أبا حفصٍ أن تسامحني، وليشفع لي عندك حُبّي للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وسائر الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
أنا ما سألتُك أبا حفصٍ لأعترضَ؛ كلا..
وما سألتُك أبا حفصٍ لجهلي بالإجابة؛ كلا..
وكيف أجهلها وأنا ابنُ الإسلام؟! وتلميذكم؟
إنما سألتُكم ليعلم السامع جواب ما أريد..
يلزم من ضياع القرآن بمقتل القرآء: أن يكون القراء هم المصدر الأساسي في نقل القرآن لا غير، وقد وافق أبو بكرٍ وعمر وجميع الصحابة على هذا الذي قاله أبو حفص عمر رضي الله عنه.
فالقراء هم مصدر التلقّي الوحيد للقرآن، لا غير، ولو كان مصدر التلقِّي هو الصُّحُف أو الكتابة: لما هَمَّ ذلك عمر، ولا غيره من الصحابة.
أعلمتَ أبا حفصٍ رضي الله عنك أنني أفهم قصدك وما ترمي إليه..
نعم أبا حفصٍ: أَعْلَمُ أنك ترسل رسالة لمثلي؛ كأنك تقول فيها: المصدر الوحيد في نقل القرآن هو السماع لا الكتابة، ولذلك فأنتَ تخشى من موت الحفظة الذين يحفظونه كما أُنْزِل، فلابد من جمع القرآن من هؤلاء الحفظة بنفس الطريقة التي حفظوه بها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو كان الاعتماد في نقل القرآن على الصحف لم يكن ثمة ما يدعو للانزعاج من مقتل القرآء والحفظة.
وما يضرهم أن يُقتل القرآء جميعًا إِنْ كان القرآن محفوظًا لديهم في صحفٍ خاصةٍ به؟!
فدل هذا على أن نقل القرآن وروايته على القراء (السماع) لا على الكتابة (الصُّحُف).
ـ وفي ((صحيح مسلم)) (2865) من حديثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ.. فذكر حديثًا طويلاً، وفيه يقول سبحانه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ))
يقول الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)): ((أَمَّا قَوْله تَعَالَى [يعني في الحديث القدسي]: (لَا يَغْسِلهُ الْمَاء) فَمَعْنَاهُ : مَحْفُوظ فِي الصُّدُور, لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ الذَّهَاب, بَلْ يَبْقَى عَلَى مَرّ الْأَزْمَان. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: (تَقْرَأهُ نَائِمًا وَيَقْظَان) فَقَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ يَكُون مَحْفُوظًا لَك فِي حَالَتَيْ النَّوْم وَالْيَقَظَة, وَقِيلَ : تَقْرَأهُ فِي يُسْر وَسُهُولَة)).